البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

صانعُ الساعات الأعمى: التطوُّر وإلغاء الله؟ الفصل الرابع من كتاب «إله دوكينز: مِن «الجِين الأنانيّ» إلى «وهم الإله»»

الباحث :  أليستر ماكغراث (Alister McGrath)
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  33
السنة :  شتاء 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 16 / 2024
عدد زيارات البحث :  268
تحميل  ( 677.791 KB )
الملخص
رغم أنّ دوكينز قد لخّصَ آرائه المتعلّقة بتداعيات الرؤية الكونية الداروينية على الدِّين في مؤلّفاتٍ سابقة، إلا أنّ مُعالجته المنهجية الأولى لهذه القضية تردُ في كتابه المهم «صانع الساعات الأعمى» (1986). يؤكِّد العنوان الثانوي على أحد المواضيع المحورية في الكتاب: «لماذا يكشفُ دليل التطوُّر عن كَونٍ خالٍ من التصميم؟» يُعدُّ كتاب «صانع الساعات الأعمى» أحد أهمّ مؤلّفات دوكينز، ويكشف عن مهاراته في نقل المعلومات والتزامه بالنظرة الكونية الداروينية. صرّحَ دوكينز أنّ هدفه من تأليف الكتاب ليس إقناع قرّائه بأنّه «يُصادف أنّ النظرة الكونية الداروينية هي صحيحة» فحسب، بل إقناعهم أيضًا أنّ هذه هي «النظرية الوحيدة المعروفة التي يُمكن أن تَحلّ -من حيث المبدأ- لُغزَ وجودنا»[2]. يقترحُ دوكينز أنّ الداروينية صحيحة، ليس على هذا الكوكب فقط، بل في أنحاء الكون وفي كلّ مكانٍ قد توجد في الحياة.

معالم النظرة الكونية الداروينية
يُمثِّل العنوان «صانع الساعات الأعمى» نقدًا لصورة الله كـ«صانع ساعات»، وهو وصفٌ استُخدِم لأول مرة في أواخر القرن السابع عشر ولعبَ دورًا بارزًا في كتاب ويليام پايلي البارز «اللاهوت الطبيعي» (1802). احتجّ پايلي على ضرورة مُقارنة التعقيدات في العالَم البيولوجي بآلية الساعة، ممّا يدفع أيَّ مُراقبٍ ذكيٍ إلى الاستنتاج بأنّ العالَم البيولوجي قد صُمِّم من قِبل الله وصُنع على يده.

يُعدُّ قرارُ دوكينز بمواجهة پايلي مُناسبًا تمامًا، نظرًا إلى أنّ تشارلز داروين نفسه كان مُقتنعًا بادئ الأمر باحتجاجات پايلي، وذلك قبل أن يبدأ بإدراك قصورها في بعض المواضع. بالفعل، إدراكُ داروين المتنامي بأنّ نظريته حول التطوُّر قد فسّرت مُشاهداته التفصيلية أكثر ممّا فعلته نظرية پايلي لم يكن له أثرٌ صغيرٌ فقط في إقناعه بضرورة نشر نتائجه وشرح جاذبية مُقاربته الجديدة[3]. بالفعل، انطلقَ دوكينز لتقديم نسخةٍ مُطوَّرة عن مواجهة داروين لپايلي، مُوسِّعًا نقدَ داروين لفكر پايلي لكي يشمل مُفسّري آرائه وأتباعه في العصر الحديث.

يُهيمنُ موضوعان على كتاب «صانع الساعات الأعمى»؛ أولًا: يجب النظر إلى تعقيدات العالَم البيولوجي التي يبدو أنّها تُشيرُ إلى مُصمِّمٍ إلهيٍّ على أنّها مجرّد «مظاهر تصميم»، وأنّها في الواقع نتيجة لعملية تطوُّرٍ عمياء. تتطّور الكائنات الحيّة عبر عملية الانتقاء الطبيعي التي «لا تنظرُ إلى الأمام، ولا تُخطِّط للنتائج، وليس لديها غاية في مرمى البصر»[4]. ثانيًا: عمليًا، تُلغي الرؤية الكونية الداروينية اللهَ باعتباره أمرًا زائدًا عن الحاجة، وتُقدِّم تفسيرًا أرفع وأبسط لما نُشاهده في العالَم من حولنا.

تأخذنا هذه النقطة الثانية إلى بُعدٍ مهمٍ في فَهم دوكينز للعلم الطبيعي، خصوصًا لأنّه يرتبطُ بالدِّين. عرضَ ريتشارد دوكينز في مقالته البارزة «داريون مُنتصرًا: الداريونية كحقيقةٍ عالمية» قناعتَه بأنّ نظرية داروين حول التطوُّر هي أكثر من مُجرّد نظريةٍ علمية، وتقعُ على المستوى الإبستمولوجي نفسه مثل النظريات الأخرى المؤقّتة من هذا القبيل. وفقًا لهذا الرأي، ينبغي النظر إلى الداروينية كرؤيةٍ كونية، وتفسيرٍ تام للواقع، ومبدأ «عالمي وغير متأثِّر بمرور الزمن»، وأنّها قابلة للانطباق في أرجاء الكون. بالمقارنة، ينبغي اعتبارُ الرؤى الكونية المنافِسة كالماركسية «ضيّقةً وسريعةَ الزوال»[5]، ومُفتقدة للتأسُّس في الفَهم العلميّ للواقع الذي تتّسمُ به بشدّةٍ نظريةُ داريون حول الانتقاء الطبيعي، ومُفتقدة للإدراكات حول العالَم والطبيعة البشرية التي تنبثقُ منه. لا يتمُّ تقديم الداروينية كعنصرٍ تمثيلي للمشروع العلميّ ذي مكانٍ مشروع على الطاولة الدائرية للجدال الأخلاقي والاجتماعي، بل تُفهَم بنحوٍ واضحٍ على أنّها التفسير التعريفيّ للواقع.

بينما قد يتّفقُ أغلب علماء البيولوجيا المناصرين للتطوُّر على أنّ الداروينية تُقدِّمُ وصفًا للواقع، إلا أنّ دوكيز وبعض الآخرين يذهبون أبعدَ من ذلك ويؤكّدون أنّه ينبغي اعتبار الداروينية تفسيرًا للأشياء. الداروينية هي رؤيةٌ كونية، سردية كبيرة[6] - أي بكلمةٍ أخرى، إطارٌ مجموعيّ يتمّ من خلاله تقويم الأسئلة العظمى حول الحياة وتقديم الإجابات عليها. أثارَ دفاعُ دوكينز عن الداروينية كـ«رؤيةٍ كونية» انتقاداتٍ من مؤلّفي حقبة ما بعد الحداثة الذين يعتبرون أنّه ينبغي مُقاومة أيّ سرديةٍ كبيرة -سواء أكانت ماركسية أو فرويدية أو داروينية- من حيث المبدأ[7]. رغم أنّه كثيرًا ما يُصوَّر هذا النقد الموجَّه ضدّ دوكينز على أنّه نقدُ ما بعد الحداثة للعلم الطبيعي، إلا أنّه من الواضح نقدٌ لرؤيةٍ كونية يُزعَم أنّها مبنيّة على العلم الطبيعي.

إحدى اهتمامات دوكينز الأساسية في كتاب «صانع الساعات الأعمى» هي توجيه التحدّي نحو «ظهور التصميم» في العالم الطبيعي، خصوصًا على المستوى البيولوجي. ولكن أليسَ من القطعيّ أنّ البنية المعقَّدة في هيئة العالم الطبيعي -كالعين البشريّة- تُشيرُ إلى شيءٍ لا يُمكن تفسيره من خلال القوى الطبيعية العشوائية، وتُرغمنا أن نلجأ إلى الإله الخالق لكي نُفسِّرها؟ كيف يُمكن إذًا أن نُفسِّر البُنى الضخمة والمعقّدة التي نُلاحظها في الطبيعة؟[8]

يُعرَضُ جوابُ دوكينز بشكلٍ أساسيٍ في كتاب «صانع الساعات الأعمى»، وقد أُضيفتْ توسعةٌ مهمة لبعض النقاط في كتابه اللاحق «تسلُّق جبل اللااحتمال». تتمثّلُ الحجّة الرئيسية المشتَرَكة في الكتابين في أنّ الأشياء المعقّدة تتطوّر من بداياتٍ بسيطة عل امتداد فتراتٍ زمنية طويلة:

«الكائناتُ الحيّة غير مُحتملة للغاية و«مُصمَّمة» بشكلٍ فائق الجمال ممّا يستبعدُ حدوثها صُدفةً. كيف وُجِدت إذًا؟ الجوابُ -جوابُ داروين- هو من خلال تحوّلات تدريجية، خطوةً بعد خطوة، من بداياتٍ بسيطة، من كائناتٍ بِدائية بسيطة بما فيه الكفاية لكي تتحقّق عبر الصدفة. كلُّ تغيُّر ناجح في عملية التطوُّر التدريجية كان بسيطًا بما فيه الكفاية، نسبةً إلى سابقه، كي يكون قد نشأ بالصدفة. ولكنّ السلسلة الكاملة من الخطوات التراكمية تُشكِّل أيّ شيءٍ عدا عملية تصادفية»[9].

ولكن ما قد يبدو أنّه نموٌ مُستبعد للغاية ينبغي أن يُقابَل مع خلفيةٍ من الأزمان الهائلة التي تتخيّلها عملية التطوُّر. استكشفَ دوكينز هذه النقطة مُستخدِمًا صورةَ «جبل اللااحتمال» المجازي. حينما يُنظَر إلى الجبل من إحدى الزوايا، تبدو «منحدراته الشاهقة العمودية» مُستحيلة التسلُّق. ولكن حينما يُنظَر إليه من زاويةٍ أخرى، يتّضحُ أنّ الجبل يملكُ «مروجًا خضراء مائلةً برفق، تتدرّجُ بثباتٍ ويُسرٍ نحو المرتفعات البعيدة»[10].

يحتجُّ دوكينز أنّ «وهم التصميم» ينشأ لأنّنا نعتبرُ حدسيًا أنّ البُنى مُعقَّدة للغاية ممّا يحول دون حدوثها صدفة. ثمّة مثالٌ ممتاز وهو العين البشرية، حيث يذكر بعضُ أنصار التصميم الإلهي والخلق المباشر المميّز للعالَم أنّها تأكيدٌ على وجود الله. يُجري دوكينز في أحد الفصول الأكثر تفصيلًا وجدالًا من كتاب «تسلُّق جبل المستحيل» اختبارًا ذهنيًا لكي يُظهِر كيف أنّه، مع الوقت الكافي، يُمكن حتّى لهذا العضو المعقَّد أن يتطوّر من شيءٍ أبسط بكثير[11].

هذا هو فِكر دوكينز المعتاد. الجديد في الأمر هو الوضوح في العرض، والتصوير التفصيلي لهذه الأفكار، والدفاع عنها من خلال دراسة الحالات المنتقاة بتعقُّل والمقارنات المصاغة بعناية. بما أنّ دوكينز يعتبرُ أنّ الداروينية هي رؤيةٌ كونية وليس نظريةً بيولوجية، فإنّه لا يتردّد في أخذ احتجاجاته إلى أبعد بكثير من حدود ما هو بيولوجيٌ محض. لا تترك عملية التطوُّر مكانًا مفهوميًا لله. وعليه، ما كان يُفسّره جيلٌ سابقٌ من خلال اللجوء إلى الإله الخالق يُمكن أن يُستوعَب ضمن إطارٍ دارويني. بالتالي، لا حاجة للإيمان بالله بعد داروين.

قد يستنتجُ بعضٌ أنّ الداروينية تُشجّع فقط على اللاأدرية. ولكنّ هذا بعيد لأنّ دوكينز يرى أنّ داروين يدفعنا نحو الإلحاد. لا ينخر التطوُّر القوّةَ التفسيرية لله فقط، بل يُلغي الله كليًا. يحتجّ دوكينز في مقالةٍ مهمة صدرت في العام 1996 أنّه يوجد حاليًا ثلاث طُرقٍ ممكنة فقط للنظر إلى العالَم: الداروينية، اللاماركية، أو الله[12]. يفشل آخرُ اثنين في تفسير العالَم، فتبقى الداروينية هي الخيار الوحيد: «أنا دارويني لأنّني أعتقدُ أنّ البدائل الوحيدة هي اللاماركية أو الله، ولا يؤدّي أيٌ منهما وظيفة المبدأ المفسِّر. الحياة في الكون هي إما داروينية أو شيئًا آخر لم يُفكَّر به لغاية الآن»[13]. يقتضي الأسلوب الخطابي في حجّة دوكينز أنّ الداروينية واللاماركية والإيمان بالله تُشكِّلُ ثلاث رؤى غير مُتقاطعة، وبالتالي فإنّ الالتزام بأحدها يستلزمُ بالضرورة رفض الأخريَيْن. ولكن مع ذلك، من المعروف أنّ العديد من أنصار الداروينية يعتقدون بوجود نقطة التقاءٍ بين الداروينية والإيمان بالله. بالطبع، مقدارُ هذا التداخل قابلٌ للنقاش وما زال البتّ فيه أمرًا بعيدًا. ولكن يعتمدُ استنتاجُ دوكينز على اقتراح تفرّعٍ ثنائي مُطلق -إمّا الداروينية أو الله- بينما لا تتطلّب النظريتان هذه الأساليب الإطلاقية في التفكير (رغم أنّهما تسمحان بها حتمًا)[14]. لا يترتّب هذا الإطلاق (ولا يُمكن أن يترتّب) على التطبيق المشروع لمناهج العلوم الطبيعية، بل ينشأ عن التزامٍ فكريٍ مُسبَق يتغلغل في طريقة تفكيره ويتحكّم بها عند هذه النقطة.

يفترضُ دوكينز مُسبقًا أيضًا التناقض التام بين الداروينية واللاماركية كتفسيرَين إجماليّين للتطوُّر. لعلّه كان يُنظَر إلى الأمور على هذا النحو خلال الثمانينات، ولكن لا يُنظَر إليها الآن على هذا النحو قطعًا. على سبيل المثال، لا يتلاءمُ بسهولةٍ فهمُنا الآخذ بالتعمُّق حول التطوُّر البشري ضمن نموذجٍ دارويني محض، وهذا قد أدّى إلى أن يُشير بعضٌ إلى وجود عناصر لاماركية في التطوُّر البشري، أو أن يُشيروا إلى أنّه على الأقلّ بعض أبعاد التطوُّر البشري تُفسَّر بأفضل طريقةٍ من خلال نموذجٍ لاماركي[15]. قد يحتجُّ بعض الآن أنّ البشر قادرون على إسقاط عملية التطوُّر البيولوجية بسبب قدرتهم الفريدة على الإدراك المعرفيّ والتكيُّف الثقافي. لقد أدّت الأهمية المتنامية للأنثروبولوجيا وعلم الأعصاب كحقلين مُرتبطَين بالتطوُّر إلى شروطٍ تتعلّق ببياناتٍ بيولوجية محضة للتطوُّر[16].

ولكنّ اهتمامنا هنا يتعلّق بفهم دوكينز لتداعيات التطوُّر على الإيمان بالله. قد نتّفق أنّ دوكينز قد أظهر بشكلٍ قطعيٍ أنّه يُمكن تقديم وصف طبيعي محض لما يُعرَف حاليًا عن التاريخ والحالة الراهنة للكائنات الحيّة. ولكن لماذا يؤدّي هذا إلى الاستنتاج الأكثر راديكاليةً المتمثِّل بعدم وجود الله؟ تؤدّي احتجاجاتُ دوكينز إلى الاستنتاج بأنّه لا ينبغي اللجوء إلى الله كفاعلٍ موضِّحٍ مباشر في عملية التطوُّر. هذا يتناغمُ مع الإدراكات المتنوّعة الإلحادية واللاأدرية والمسيحية عن العالَم، ولكنّه لا يستلزم أيًّا منها.

هل الداروينية تفسيرٌ كامل؟

أحد المواضيع المتصدِّرة في «صانع الساعات الأعمى» هو أنّ الداروينية تُقدِّمُ تفسيرًا نهائيًا لأصول البشر، وأنّ هذا هو التفسير الوحيد الذي يتمتّع بالمعنى ويتصدّى للحكم البرهاني النقدي. ولكن قد يُجيب الناقد بشكلٍ منطقيٍ من خلال الإشارة إلى أنّ الداروينية لا تُقدِّم -وبالفعل لا يُمكن أن تُقدِّم- تفسيرًا كاملًا لأصول الحياة، لأصول الأنواع عمومًا أو البشر خصوصًا. في أفضل الأحوال، تُقدِّم الداروينية تفسيرًا جزئيًا –تفسيرًا يعتمدُ على تفسيراتٍ مُكمِّلة أخرى، وكلّ واحدٍ منها يملكُ على الأقلّ ادّعاءً مُحدَّدًا لكي يُنظَر إليه على أنّه التفسير «السائد».

لنعرض المسائل. أوّلًا، نحتاجُ إلى أن نُلاحظ أهمية «الأفق الدارويني» –وهي النقطة التي يصلُ فيها نموّ الحياة إلى مرحلةٍ من التعقيد الكافي تُتيحُ تنشُّط العمليات الداروينية. كما يُشيرُ دوكينز نفسه بشكلٍ صائب، فإنّ الحمض النووي هو مُكوّن ضروري في النموذج الدارويني، ويُوفِّر الوسيلة التي يُمكن من خلالها نقل المعلومات الوراثية بوفاءٍ مُذهل. ولكن ثمّة إجماعٌ واسعٌ الآن أنّ كُلًا من الحمض النووي نفسه وآليات استنساخ الحمض النووي المرتبطة به قد ظهرا في مرحلةٍ متأخِّرة نِسبيًا في تاريخ الحياة المبكِّرة[17]. لم يبدأ عمل الآليات الداروينية إلا في مرحلةٍ متأخِّرة نِسبيًا من تاريخ كوكب الأرض. أدّت عملياتٌ أخرى إلى النقطة حيث أصبحَ من الممكن أن تبدأ هذه الآلية التطوُّرية.

فضلًا على ذلك، الداروينية لا تُفسِّر أصلَ الحياة[18]. كان داروين نفسه حذرًا كي لا يُناقش السؤال عن كيفية بداية الحياة في كتاب «أصل الأنواع»، مع أنّ الافتراض الذي يُفيدُ أنّ العمليات الطبيعية المحضة قد تُفسِّر أصلَ الحياة يبدو كامنًا في العديد من كتاباته[19]. رغم انّ بعض الباحثين قد اعتقدَ بأنّ فشل داروين في تفسير أصل الحياة كان فشلًا كبيرًا من جانبه، إلا أنّ داروين كان واضحًا تمامًا في أنّ نظرياته تُفسِّر التحوّلات في الأنواع وليس أصل الحياة. قدّمت نظريةُ داروين شرحًا لكيفية نموّ الحياة، ولم تُقدِّم شرحًا لكيفية حدوث الحياة وهو أمرٌ اعتبره داروين خارج نطاق نظريته.

ولكن ينبغي أن نعود إلى الدور الحاسم الذي أدّاه الحمض النووي في التطوُّر البيولوجي لكي نؤكِّد على نقطةٍ أخيرة. تعتمدُ قدرة الحمض النووي على تشفير المعلومات الوراثية على كيمياء الكربون بشكلٍ حاسمٍ – فوق كلّ شيء، قدرة الكربون على تكوين سلسلاتٍ طويلة. هل تُوجد قاعدةٌ عالمية كيميائية للتطوُّر في أرجاء الكون؟[20] إن صحَّ ذلك، ليس من الصعب أن نُلاحظ لماذا قد تكون الحياة مبنيّةً على الكربون. ولكنّ أغلب علماء البيولوجيا يحتجّون أنّ عملية التطوُّر تعتمدُ على ما هو مُتاح، وهذا يجعلُ التالي مشكوكًا فيه: إذا كان التطوُر البيولوجي عالميًا في أرجاء الكون (كما يعتقدُ دوكينز بوضوحٍ أنّ الحال هو كذلك)، فهو يستخدمُ بالضرورة الآليات الكيميائية والعناصر نفسها في كلّ ظرف. يُوظِّف التطوُّر على الأرض الفوسفات بكثافة[21]، ولكن التطوُّر في أماكن أخرى قد لا يفعل ذلك.

في النهاية، يستحيلُ ببساطةٍ أن نُناقش التطوُّر من دون التفكير في العمليات التي أدّت إلى تركيب المكوِّنات الكيميائية الثلاثة الأساسية لآليات عملية التطوُّر على الأرض –الكربون، النيتروجن، والأوكسيجن. الاعترافُ باعتماد التطوُّر البيولوجي على الكيمياء ليس أمرًا جديدًا. احتجّ عالِمُ الكيمياء من هارفارد جوزيا پارسونز كوك (Josiah Parsons Cooke) (1827-1894) أنّ الكيمياء في الكون تتمتّع بأهميةٍ حيوية في تشكيل نموّه. لقد حدّدت الخصائص الأساسية للعناصر الكيميائية كُلًا من القيود والإمكانات البيولوجية:

«قبل أن تتمكّن الخليّة الأولى العضوية من الوجود، وقبل أن يتمكّن مبدأ الانتقاء الطبيعي التابع للسيّد داروين من أن يبدأ عملَ العصور غير المعدودة الذي تقرّر أن ينتهي في تطوير إنسانٍ كامل، بل حتّى قبل أن تتمكّن الكرة الأرضية الصلبة من التكثُّف من سديم لاپلاس، لا بدّ أنّ العناصر الكيميائية قد خُلِقت ومُنحت تلك الخصائص التي من خلالها فقط يُجعَل وجودُ تلك الخليّة ممكنًا»[22].

مع ذلك، فإنّ العناصر الحاسمة من الناحية البيولوجية-الكيميائية كالكربون والنيتروجن والأوكسيجن لم تتشكّل في التاريخ المبكِّر للكَون بل لم يكن من الممكن أن تتشكّل حينها. وجودُ هذه العناصر الحاسمة هو نتيجة لـ«تراصّ» المادّة أو «تراكمها» في النجوم، مع الابتداء اللاحق للتفاعلات الانصهارية النووية[23]. نسبةُ القوّة الملزِمة الانجذابية إلى طاقة كتلة السكون (التي تُعتبر على نحوٍ واسعٍ مثالًا كلاسيكيًا على «الضبط الدقيق») هي على نحوٍ حيث سمحت بـ«التراص» التدريجي للمادة في أجسامٍ أكبر: النجوم. تتشكّلُ النجومُ كنتيجةٍ للاضطراب في الغيوم الضخمة للمادّة داخل الوسط الهشّ الواقع بين النجوم[24]. لولا تشكُّل النجوم، لكان الكون مُنحصرًا في الهيدروجين والهيليوم، مع وجود نسبةٍ ضيئلة فقط من العناصر الأخرى كالليثيوم والبريليوم.

إذًا أين تتركنا هذه التأمُّلات؟ تُقدِّمُ القضايا التي أثرناها السياقَ العميقَ للتطوُّر البيولوجي، وتُوضِّحُ أنّ هذه العملية هي فقط جزءٌ من الجواب على السؤال عن الأصول البشرية. تُثيرُ التأمُّلات أيضًا بعضَ القضايا حول ما إذا كان يُمكن النظر إلى الداروينية كعمليةٍ شاملة على ضوء آلياتها، نظرًا إلى أهميّة العوامل الموضعية في تحديد الموارد الكيميائية المتاحة للآليات والعناصر التطوُّرية. التطوُّر هو جزء من الجواب على السؤال كيف وصلنا إلى هنا؟ مع ذلك، فإنّ تلك العملية تعتمدُ في النهاية على عملياتٍ أخرى تقعُ بعيدةً عن منالها.

لنمضِ قُدُمًا وننظر إلى أحد الأبعاد الأخرى للجدال حول التداعيات اللاهوتية للداروينية.

الله كفرضيةٍ مُوضِّحة؟

هل نحن بحاجةٍ إلى الله لكي نشرح كلّ شيء؟ احتجّ ويليام پايلي أنّ الله هو مُفسِّر «الإبداعات» التي نُلاحظها في الطبيعة، أي بكلمةٍ أخرى البُنى الطبيعية التي أظهرتْ الدليل على التصميم والتنفيذ. وفقًا لدوكينز، يرمزُ داروين إلى افتراق طُرُق. يحتجُّ دوكينز أنّه قبل داروين، كان من الممكن النظر إلى العالَم كشيءٍ مُصمَّم من قِبل الله، ولكن بعد داروين لا يُمكن إلا أن نتحدّث عن «وهم التصميم». العالَم الدارويني خالٍ من الهدف، ونحن نخدعُ أنفسَنا إن ظنّنا خلاف ذلك. «يملكُ الكَون الذي نُراقبه الخصائصَ بالدقّة التي نتوقّعها إذا لم يكن هناك جوهريًا تصميم، ولا غاية، ولا شرّ، ولا خير، لا شيء غير اللامبالاة العمياء العديمة الشفقة»[25].

وعليه، يحتجُّ دوكينز أنّ الله زائدٌ عن الحاجة كفرضيةٍ تفسيرية. لا يملك الله أيّ «وظيفة نافعة» قابلة للتمييز في التفسير العلميّ. دعمًا لهذه الفكرة، يُقدِّمُ دوكينز عددًا من الاحتجاجات، وأكثرها إثارةً للاهتمام هو «برنامج البيومورف (البنية الشبيهة بالأحياء)» الخاص به[26]. الهدف من هذا التشبيه هو مُساعدتنا في أن نُقدِّر أنّ ظهور التصميم يُمكن أن ينشأ من تطوّراتٍ عشوائية. يقترحُ دوكينز التالي: تخيّل أنّ قِردًا (أو شيئًا مماثلًا) يجلسُ مع آلة كتابة تضمّ 26 حرفًا كبيرًا وزرّ مسافة. اختار دوكينز العبارة التالية من مسرحية «هاملت» من تأليف شكسبير المؤلّفة من 28 مُكوّنًا: «أخالُه يُشبه نمسًا». هذه هي «الجملة المستهدَفة». يُنتِج الحاسوب الآن عشوائيًا عبارةً من 28 مُكوّنًا –ما يُوازي أن يُحاول القرد في المثل أن يطبع مؤلفات شكسبير. لا حاجة للقول إنّ الجملة المنتَجَة لن تملكُ أيَّ صلة بالجملة المستهدَفة.

ولكن يحصلُ شيءٌ ما الآن. يُطلَب من الحاسوب أن يُدقّق في العبارة ويختار الجملة التي «تُشبه بأكبر نحوٍ -مهما كان ضئيلًا- الجملة المستهدَفة»[27]. تتواصلُ العملية الآن. بعد 30 تكرارًا فقط، يتمّ تطوير جملةٍ تُشبه الجملة المستهدَفة بشكلٍ قابلٍ للتمييز: «أماله يُشبه نمسًا». بعد 12 تكرارًا آخر أو ما يُقاربه، يتمُّ التوصُّل إلى الجملة المستهدَفة. يستنتجُ دوكينز أنّ عملية التطوُّر قادرة على إحداث مظهر النظام بشكلٍ أسرع وأشدّ فاعلية من المتوقَّع.

ولكنّ هذا التشبيه خاطئ، فهو يتجاهلُ بعضَ القضايا الأساسية وكأنّها ليست إشكالية. بالفعل، يُشكِّل هذا التشبيه مثالًا ممتازًا عمّا أسماه فريدريك وايسمان (Friedrich Waismann) «طرد المشاكل الفلسفية» عبر تشبيهاتٍ مُسيطَر عليها ومُنتقاة بحذر[28]. أوضحُ مشكلة هي أنّ التشبيه يفترضُ مُسبقًا غائيةً يعتقدُ دوكينز أنّها مفقودة في الطبيعة. لا تُوجد «جملةٌ مُستهدَفة» يُمكن أن تسيرَ نحوها عمليةُ التطوُّر. يُقرّ دوكينز بهذا الأمر في الكتاب نفسه، ولكنّه لا يعتبره أمرًا ذا أهميةٍ حيوية بالنسبة إلى تشبيهه[29]. ولكنّ هذا خطأ واضح.

ثمّة مشكلة أخرى لا يتطرّق إليها دوكينز كما ينبغي. لقد تمّ إلغاء فكرة التصميم أو الانتقاء الهادف على المستوى اللفظي فقط. بينما يسمحُ لنا التشبيه بتفادي مُفردات «التصميم»، إلا أنّ مفهوم التصميم موجودٌ ضمنيًا في برنامج الحاسوب الذي أُنشئ للتحكُّم بالتحوُّل بطريقةٍ مُحدّدة. هناك أنسنة غير مُعترَف بها كامنة في التشبيه، تمنحه المعقولية أمام جمهور القرّاء. إذا نزعتَ برنامج الحاسوب (المصمَّم) فإنّ التشبيه سوف يخسرُ كثيرًا من معقوليته. من الأفضل النظر إليه ببساطةٍ وبشكلٍ حصريٍ كإشارةٍ إلى كيف يُمكن أن تتراكم الطفرات الصغيرة العشوائية لتُنتج تغييراتٍ كبيرة شرطَ أن يتمّ اختيارها بطريقةٍ غير عشوائية[30].

إذا وضعنا معقولية التشبيه جانبًا، لنركِّز على النقطة التي يُريد دوكينز أن يُعبِّر عنها: يُمكن لـ«نظريةٍ حول الطفرة العشوائية زائد الانتقاء التراكمي غير العشوائي» أن تُفسِّر ظهورَ التصميم في العالَم. ليس هناك حاجة لافتراض الله كآليةٍ تفسيرية. افترِض أنّنا أقرّينا بهذه النقطة، فما هي التداعيات؟ يستنتجُ دوكينز أنّه بما أنّه يُمكن تجاهل الله باعتباره شيئًا لا علاقة له بالموضوع ومُستبعد، فإنّ الموقف الوحيد الذي يملكُ المعنى هو الإلحاد. رغم ذلك، لا يتّخذ دوكينز بالفعل الخطوات المنطقية المطلوبة للتوصُّل إلى هذه النتيجة، ويبدو أنّه يفترض أنّها واضحة ذاتيًا إلى حدٍ كبيرٍ بحيث لا تقتضي الإثبات. ولكنّ الأمر ليس كذلك. من أجل توضيح هذه النقطة، يُمكن أن نستكشف الرؤية حول العالَم التي قدّمها عالِمُ اللاهوت المسيحي المتصدِّر ثوماس أكويناس (1225-1274) في القرن الثالث عشر.

أنشأ أكويناس إطارًا لفهم علاقة الله بالعالَم. ينسجُ هذا الإطار المواضيع الجوهرية في العقائد المسيحية مع بعضها[31]. يُمكن عرض الأفكار الأساسية التي طوّرها أكويناس ببساطةٍ كبيرة كما يلي. الله هو سببُ كلّ الأشياء، ولكنّ سببية الله تعملُ عبر عدّة طرق. رغم أنّه يجب أن نعتقد أنّ الله قادرٌ على فعل أمورٍ مُحدّدة على نحوٍ مباشر، إلا أنّه يُفوِّض الفاعلية السببية إلى النظام المخلوق. وفقًا لأكويناس، ينبغي أن يُعتبَر مفهوم السببية الثانوية امتدادًا -وليس بديلًا عن- السببية الرئيسية لله نفسه. يُمكن أن تتحقّق الأحداث في النظام المخلوق ضمن علاقاتٍ سببية مُعقّدة، من دون أن نُنكر بأيّ نحوٍ من الأنحاء اعتمادها النهائي على الله كسببٍ أول.

النقطة الحاسمة التي ينبغي تقديرها هي أنّ النظام المخلوق بالتالي يُبيِّن العلاقات السببية التي يُمكن للعلوم الطبيعية أن تتحرّاها[32]. يُمكن التحقيق في تلك العلاقات السببية وربطها ببعضها -مثلًا، على هيئة «قوانين الطبيعة»- من دون الإشارة بأيّ نحوٍ من الأنحاء إلى رؤيةٍ كونية إلحادية، فضلًا عن عدم اقتضائها. لكي نُعبّر عن هذا الأمر بأبسط طريقةٍ ممكنة نقول: يخلقُ الله العالم بنظامه وعملياته الخاصّة.

تملكُ هذه المقاربة الكلاسيكية نقاطَ ضعفٍ وقوّة. أوضحُ نقاط قوّتها هي أنّها قد وضعتْ الأسس المفهومية لتطوُّر العلوم الطبيعية في العصور الوسطى المتأخِّرة، وذلك من خلال التشجيع على التحقيق في العمليات والأحداث الطبيعية. بالمناسبة، من المهم أن نذكر أنّ هذه الرؤية المسيحية تجاه العالَم قد عُرِضت قبل داروين بوقتٍ طويل. بالتالي، لا يُمكن أبدًا وصفُ مُقاربة أكويناس بأنّها مُحاولة لاحِقة للدفاع عن المسيحية ردًّا على تهديدٍ مُتصوَّر من العلم الطبيعي الجديد المتمثِّل ببيولوجيا التطوُّر.

إلغاء الهدفية: آراء دوكينز حول السببية في الطبيعة

لنذكر الآن إحدى عبارات دوكينز الجديرة بالاقتباس التي ذكرناها آنفًا: «يملكُ الكَون الذي نُراقبه الخصائصَ بالدقّة التي نتوقّعها إذا لم يكن هناك جوهريًا لا تصميم، ولا غاية، ولا شرّ، ولا خير، لا شيء غير اللامبالاة العمياء العديمة الشفقة»[33]. وفقًا لدوكينز، تُلغي الداروينية أيَّ مفهومٍ يتعلّقُ بوجود الهدفية في العالَم الطبيعي. قد تُوجد مظاهر للتصميم، أو مظاهر للهدفية، ولكنّها ليستْ إلا ذاك. تدمّرت فكرةُ السببية من خلال أفكار داروين. يبدو أنّ دوكينز يعثرُ هنا على الدعم من ثوماس هاكسلي الذي علّق أنّ أشدّ ما صدَمَه عندما قرأ كتاب داروين «أصل الأنواع» للمرّة الأولى هو أنّ «تلك السببية، كما تُفهَم عمومًا، قد تلقّت ضربة موتها على يديّ السيّد داروين»[34].

ولكن ينبغي التعبير عن نقطتين هنا. أولًا، كان هاكسلي واضحًا في أنّ داروين قد فنّد نموذجًا واحدًا فقط -الشكل «المفهوم عمومًا»- من السببية، وليس غيره من النماذج. ثانيًا، برزت فكرة السببية مجددًا على أنّها نافعة ومُناسبة في جوانب مُحدّدة من بيولوجيا التطوُّر منذ العام 2000 تقريبًا. لنتناول هاتين النقطتين بإيجاز.

أوّلًا: انتقدَ هاكسلي من يقترح أنّ نظرية الانتقاء الطبيعي التابعة لداروين تميلُ نحو «إلغاء السببية، واجتثاث [العناصر الجوهرية] للدليل المبنيّ على التصميم»[35]. رغم أنّ هاكسلي قد أكّد بشكلٍ صائب أنّ مُقاربة داروين قد دمّرت الفهم الشهير للسببيّة الذي وضعه ويليام پايلي، إلا أنّه كان واضحًا في أنّ نظرية داروين حول التطوُّر هي شاهدة على «سببيةٍ أوسع»، مُتجذِّرة في البنية الأعمق للكون. من المهم أيضًا أن نذكر تعليقَ آيسا غراي (Asa Gray) في مقالةٍ لها وردت في دورية «الطبيعة»: «لنعترف بالخدمة الكبيرة التي أسداها داروين إلى العلم الطبيعي من خلال إعادته إلى السببية؛ وعليه، بدلًا من المورفولوجيا في مقابل السبيية، سوف نحظى بالمورفولوجيا المتزوّجة من السببية»[36].

ثانيًا، أصرَّ عالِمُ البيولوجيا فراسيسكو أيالا وآخرون على شرعية توظيف اللغة السببية في التفسير البيولوجي وأهميته[37]. يُمكن أن نعتبر أنّ تكيُّفات الكائنات الحيّة تكونُ مُفسَّرة سببيًا حينما يُمكن أن يُعلَّل وجودها على ضوء مُساهمتها في اللياقة التناسلية للجماعة. لقد لوحِظ أنّ هذه التكيُّفات -كالأعضاء، أو الآليات الاستتبابية، أو الأنماط السلوكية- كان لها أثرٌ مُفيد على بقاء الكائنات الحيّة أو على قدراتها التناسلية، التي يُمكن أن تُعتبر «الهدف» الفينومينولوجي الذي تميل نحوه.

من المهم أن نذكر أنّ مفهوم «السببية» مفتوحٌ أمام تفسيراتٍ مُتعدِّدة، بعضها إيمانيّ وبعضها الآخر ليس كذلك[38]. ذكرَ فيلسوف البيولوجيا إرنست ماير (Ernst Mayr) بشكلٍ صائب أنّ العديد من علماء البيولوجيا يُقاومون التصريحات أو التفسيرات السببية، ويعودُ ذلك جزئيًا إلى أنّهم يشتبهون بأنّها تدسُّ العقائدَ اللاهوتية أو الميتافيزيقية غير القابلة للإثبات في ما يُفترض أنّه بيانات علمية موضوعية عن الواقع[39]. يسألُ ماير: ولكن ماذا لو تمّ تمييز نوعٍ مُحدّد من السببية داخل العملية البيولوجية وليس فرضه عليها؟ «توظيفُ ما يُسمّى باللغة «السببية» من قِبل علماء البيولوجيا هو أمرٌ مشروع؛ هو لا يُشيرُ إلى رفض التفسير الفيزيائي-الكيميائي ولا يُشير إلى التفسير غير السببيّ»[40]. دعمًا لاقتراحه، لاحظ ماير أنّ الأمثلة على السلوك الموجَّه نحو الهدف هي واسعة الانتشار في العالم الطبيعي. بالفعل، إنّ «وقوع العمليات الموجَّهة نحو الهدف هو ربما أكثر خاصية مُميِّزة لعالَم المنظومات الحيّة»[41].

ينبغي أن ننتقل الآن لكي نتناول الكاتب والصورةالطبيعي. بالفعل، ف، حيث يلعبان دورًا مركزيًا في كتاب دوكينز «صانع الساعات الأعمى». وسوف نتطرّقُ في القسم الرئيسي الذي يلي إلى صورة الله كصانع ساعاتٍ إلهيّ وتطبيقها على العالَم الحيّ من قِبل عالِم اللاهوت ويليام پايلي الذي عاشَ في مطلع القرن التاسع عشر.

إلهُ صانع الساعات: خطأ پايلي الكبير (القابل للتصحيح)

طُوِّر مفهومُ الله كـ«صانعِ ساعات» -وهو مفهومٌ يقضي دوكينز وقتًا طويلًا جدًّا في مُحاولة هدمه- على يد روبرت بويل (1627-1691) خلال أواخر القرن السابع عشر. قارنَ بويل بين انتظامات العالَم وتعقيداته وبين الساعة الكبيرة الموجودة في ستراسبورغ. كان ذلك بمثابة ردٍّ عجول نوعًا ما على التحدّي الفكريّ لما يُعرَف عادةً بـ«الفلسفة الميكانيكية»[42]. طُبّق تشبيه «صانع الساعات» في الأصل على العالم الماديّ، ومن ثمّ نُقِل إلى الميدان البيولوجي في أواخر القرن الثامن عشر، مع نتائج وجدها البعض مُطمئنة بينما وجدها آخرون غير مُرضية بنحوٍ عميق.

يُمثِّلُ كتاب «صانع الساعات الأعمى» هجومًا مهمًّا وناجحًا جدًّا على هذا المفهوم الذي طُرِح في القرن الثامن عشر والذي يُشبّه الله بصانع ساعات. ولكن ما هي تداعيات ذلك؟ ما يُظهره دوكينز بالفعل هو أنّ الفهم المحدَّد للغاية حول عقيدة الخَلق، وهو فَهمٌ نشأ كردٍّ على الظروف التاريخية في إنكلترا خلال القرن الثامن عشر، قد قُوِّضَ كليًا من قِبل البيان الدارويني للتطوُّر. سبقَ وأن رُفِضت هذه النظرية المرتبِطة بويليام پايلي باعتبارها غير مُلائمة من قِبل العديد من عُلماء اللاهوت المتصدِّرين آنذاك -مثل جون هنري نيومان (1801-1890)- قبل أن يُقوِّضها داروين بشكلٍ أكبر. نظرًا إلى أهمية هذه النقطة، سوف نفحصُ نظرية پايلي ببعض التفصيل.

خلفيةُ تأكيد ويليام پايلي على «الإبداع» الظاهر في العالَم البيولوجي هي بشكلٍ مُميِّز مسألةً إنكليزية، نشأتْ عبر التفاعل المعقَّد للسياسة والدِّين في إنكلترا في مطلع القرن الثامن عشر. هذا التطوُّر مُذهلٌ تاريخيًا، وإضافة إلى ذلك له أهمية ليستْ بالضئيلة فيما يتعلّق بنظرية دوكينز حول «صانع الساعات الأعمى»[43].

في أواخر القرن السابع عشر، دفعتْ سلسلةٌ من الأحداث التي وقعتْ في كُلٍّ من الدولة والمجتمع البريطاني بوجهٍ عام كنيسةَ إنكلترا نحو اتّخاذ موقف الدفاع[44]. يملكُ أحد هذه الأحداث صلةً مُحدّدة بأهدافنا: ظهورُ مذهب الربوبية، وهي رؤية تتعلّق بالله تعترفُ بالخالقية الإلهية ولكنّها ترفضُ أيّ تدخُّل إلهي مُتواصل في العالَم. تسبّب تصاعدُ مذهب الربوبية ببعض المشاكل في مؤسّسة الكنيسة، خصوصًا فيما يتعلّق بالكيفية التي ينبغي من خلالها تفسير الكتاب المقدّس والتراث العقائدي للكنيسة. بعد أن أُعجِبوا بإثبات إسحق نيوتن للانتظام الميكانيكي في العالَم، شرع كثيرٌ من الأشخاص في الكنيسة باستكشاف الفكرة التي تُفيدُ أنّ اللجوء إلى العالم الطبيعي قد يكون قاعدة الدفاع الجديد عن الأفكار المسيحية[45].

لطالما كان الاهتمام بالعالم الطبيعي جزءًا من التراث الفكري المسيحي. ولكن في الماضي، اتّخذ هذا الأمر عمومًا هيئة تفسير العالم من منظورٍ مسيحي، مع اللجوء إلى الأعجوبة والجمال في العالم الطبيعي كطريقةٍ لتقدير جمال الله[46]. من المعروف جيّدًا أنّ أحد أهمّ القوى الدافعة المؤدّية إلى تطوُّر العلوم الطبيعية في القرنين السادس عشر والسابع عشر كان الاعتقاد بأنّ دراسة الطبيعة من مسافةٍ قريبة يؤدّي إلى تثمينٍ أعمق لحكمة الله[47]. كما عبّر عالمِ الطبيعة الكبير جون راي (1628-1705) -مؤلِّف الكتاب المحتفى به «حكمة الله المتجلّية في مصنوعات الخلق» (1691)- في العام 1660م: «ليس للإنسان الحرّ عمل أكثر جدارةً وبهجةً من تأمُّل مصنوعات الطبيعة البهيّة وتمجيد حكمة الله وخيره اللامتناهيَّين[48].

ولكنّ كلّ هذا قد تغيّر في مطلع القرن الثامن عشر. تطوّرت مقاربةٌ جديدة في تطبيق اللاهوت، وقد عُرفت لاحقًا بنحوٍ مُتنوِّع بـ«اللاهوت الطبيعي» أو «اللاهوت الفيزيائي» (المستخرج من الكلمة اليونانية «فيزيس» التي تعني «الطبيعة»). احتُجَّ على إمكانية استنتاج وجود الله وخصائصه من الطبيعة نفسها. مع تنامي سيطرة المذهب العقليَ على الحياة الفكرية الإنكليزية، ردَّت مؤسّسة الكنيسة من خلال نقل التأكيد من المصادر التقليدية للحجّية (كالكتاب المقدّس) إلى العالَم الطبيعي. وعليه، أصبح مُمكنًا إثباتُ وجود الله وحكمته أمام عالَمٍ يتزايدُ تشكيكه، وذلك من خلال اللجوء إلى وجود النظام في الطبيعة.

بادئ الأمر، لجأ هذا «اللاهوت الطبيعي» إلى نظام العالم الفيزيائي –وفوق كلّ شيءٍ إلى انتظام «الميكانيكا السماوية» التي أثبتها إسحق نيوتن (1642-1727). فجأة، أصبحَ يُنظَر إلى نيوتن على أنّه قد أعدَّ مقاربةً جديدة للدفاع عن المسيحية وتطبيق اللاهوت. أضحى «اللاهوت الفيزيائي» رائجًا في مطلع القرن السابع عشر، ولكن لم يمضِ وقتٌ طويلٌ قبل أن يؤدّي ما بدا أنّه تحالفٌ واعدٌ بين العلم والدِّين إلى قطيعةٍ مُتزايدة وغير قابلة للنقض احتمالًا[49]. المقاربة التي دافع عنها العلماء المتصدِّرون يومًا ما قد انتقلتْ إلى الأيدي الأقلّ كفاءة قطعًا للأساقفة ورؤساء الشمامسة، الذين ردّدوا كثيرًا وبنحوٍ منقول أفكارًا لم يكونوا قد فهموها بشكلٍ جيد، وكانوا يميلون إلى تضخيم دلالاتها. بدا وكأنّ منظومة نيوتن تُشيرُ إلى أنّ العالَم يُشكّلُ آليةً مُقيمة لذاتها ليست بحاجةٍ إلى الإدارة أو المدد الإلهيَّين في عملها اليوميّ[50]. بالتالي، بعيدًا عن التشجيع على الإيمان بالله، فإنّها تكونُ قد أعلنتْ أنّه غير ضروري تمامًا.

مع حلول نهاية القرن الثامن عشر، استنتجَ كثيرٌ من أفراد النخبة الثقافية البريطانية أنّه من المرجَّح أكثر أن تقودَ منظومة نيوتن إلى الإلحاد أو اللاأدرية وليس إلى الإيمان. تركيبةُ العلوم الفيزيائية والدِّين التابعة لنيوتن كانت قد فشلت. حينما علّق پيرسی بيش شيلي (1792-1822) أنّ «النيوتني الثابت هو مُلحدٌ بالضرورة»[51]، فإنّه كان يُعبِّر عن الإجماع المنبثِق في ذاك العصر الذي أفادَ أنّه لا يُكتسب إلا النزر اليسير من خلال الدفاع عن المسيحية عبر اللجوء إلى الفيزياء.

وعليه، إذا كان الفيزياء طريقًا مسدودًا، فماذا عن البيولوجيا؟ هل يُمكن إقامة الاحتجاجات على وجود الله استنادًا إلى اللجوء إلى العالم الحيّ للطبيعة بدلًا من المدارات الدورية للكواكب؟ رأى پايلي طريقةً لحقن الحياة الجديدة في المقاربة. سوف تعيشُ لتقاتل في يومٍ آخر. للمصادفة، حقّقت مُقاربة پايلي نجاحًا رائجًا أكثر ممّا كان يُمكن أن يتخيّله هو. ولكنّ مع ذلك فإنّها قد أثارتْ الانطباعَ الخاطئ تمامًا بأنّ المصداقية الفكرية للمسيحية تعتمدُ بنحوٍ ما على المقاربة التي تبنّاها. المقاربة؟ الله كصانع ساعات.

كان لكتاب پايلي تحت عنوان «اللاهوت الطبيعي» أو «الأدلّة على وجود الإله وصفاته المجموعة من مظاهر الطبيعة» (1802) تأثير عميق على الفكر الدينيّ الإنكليزي الرائج خلال النِّصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد عُرِفَ أنّ تشارلز داروين الشاب قد قرأه بامتنان. كان پايلي مُعجبًا بعمقٍ باكتشاف نيوتن للانتظام في الطبيعة، خصوصًا فيما يتعلّق بالمجال المعروف عادةً بـ«الميكانيكا السماوية». كان واضحًا أنّه يُمكن أن يُنظَر إلى الكون بأكمله كآليةٍ مُعقّدة تعملُ وفقًا لمبادئ مُنتظَمة ومفهومة.

استنادًا إلى پايلي، توجّبَ نقلُ تشبيه الله بصانع الساعات من الميدان الفيزيائي إلى الميدان البيولوجي. يتحتّمَ النظر إلى الطبيعة على أنّها «إبداع». تُشيرُ هذه الكلمة المهمة إلى فكرتيّ التصميم والبناء، وقد اعتقد پايلي أنّ كليهما واضحان في العالم البيولوجي. يحتجُّ پايلي على أنّ الشخص المجنون هو فقط من يقترح أنّ التكنولوجيا الميكانيكية المعقّدة قد حدثت عبر صدفةٍ غير هادفة. تفترضُ الآلية الإبداعَ مُسبقًا – أي بتعبيرٍ آخر، كُلًا من حسّ الهدفية والقدرة على التصميم والصناعة. يُمكن أن ننظر إلى كُلٍ من الجسم البشري خصوصًا والعالم عمومًا على أنّهما آليتَان صُمِّمتا وبُنيتا وتكيّفتا بشكلٍ ممتاز مع حاجاتهما وأوضاعهما الخاصّة.

تَعرضُ الفقرات الافتتاحية في كتاب پايلي تحت عنوان «اللاهوت الطبيعي» التشبيهَ الذي اشتهرَ به پايلي وأصبحَ مادةً لكثيرٍ من الإشارات الممتنّة -ولكن النقدية في النهاية- في كتاب دوكينز «صانع الساعات الأعمى»:

«حينما أعبرُ مَرجًا، افترِض أنّني ركلتُ حجرًا برجلي وسُألت كيف وصلَ الحجر إلى هناك. قد أُجيب أنّه، على حدّ علمي، كان مُلقىً هناك منذ الأزل؛ وربما لن يكون سهلًا للغاية إظهارُ سخافة هذا الجواب. ولكن افترض أنّي وجدتُ ساعةً على الأرض، وتمّ الاستفسار كيف صادفَ وجود الساعة في ذلك المكان. بالكاد سوف أُفكِّر بالجواب الذي قدّمته سابقًا، أي على حدّ علمي إمكانية أن تكون الساعة موجودة هناك منذ الأزل. ولكن لماذا لا يخدم هذا الجواب الساعة كما الحجر؛ لماذا ليس مسموحًا به في الحالة الثانية كما في الحالة الأولى؟»[52]

بعدها، يُقدِّمُ پايلي وصفًا تفصيليًا للساعة، ويذكرُ على وجه الخصوص وعاءها، وزنبركها الأسطواني المفتول، وعجلاتها الكثيرة المتداخلة، ووجهها الزجاجي. بعد أن ينقل پايلي قرّاءه مع هذا التحليل الدقيق، يتوجّه لرسم استنتاجه المهم بنحوٍ حاسم:

«عند مُلاحظة هذه الآلية -إنّها تتطلّب بالفعل فحصًا للآلة، وربما بعض المعرفة المسبقة بالموضوع، لكي نُدركها ونفهمها؛ ولكن، كما قلنا، عند مُلاحظتها وفهمها فإنّ الاستدلال الذي نظنّه حتميًا، أي أنّ الساعة لا بدّ أن يكون لها صانع- أنّه لا بدّ أن يكون قد وُجد في وقتٍ ما وفي مكانٍ ما أو غيره صانعٌ أو صُنّاعٌ شكّلوها لغايةٍ نجدُ أنّها بالفعل تُجيب عنها، قد فهموا بناءها وصمّموا استخدامها»[53].

التشبيه، كأغلب ما يردُ في مؤلفات پايلي، هو مُستعار، والبحث العلميّ هو من الدرجة الثانية قطعًا. كان پايلي قد انتحل كتابات جون راي من دون شفقة في سعيه نحو اللاهوت الطبيعي الجديد. رُغم أنّ پايلي كان مُفكِّرًا اشتقاقيًا وذا أفكارٍ قديمة، إلا أنّه كان ناقلًا ممتازًا للأفكار. ولكن ما نقله پايلي بفاعليةٍ عالية كان نمطًا باليًا من التفكير. أنماطُ التفكير التي يعودُ تاريخها إلى أواخر القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر سبقَ وأن كانت تُعتبر قديمة وعديمة الفائدة من قِبل أغلب الأكاديميّين المسيحيّين، إلا أنّ هذه الأفكار قد مُنحت حيويةً جديدةً من خلال كتابات پايلي الرائجة[54].

احتجّ پايلي على أنّ الطبيعة تُظهِرُ علامات «الإبداع»، أي التصميم والصناعة الهادفَين. تشهدُ الطبيعة سلسلةً من البُنى البيولوجية «المبتكرة»، أي التي أُنشأتْ مع غايةٍ واضحةٍ في الذهن. «كلُّ دلالةٍ على الابتكار وكلُّ تجلٍّ للتصميمٍ في الساعة قد تحقّق في المصنوعات [في] الطبيعة». بالفعل، يحتجُّ پايلي على أنّ الطبيعة تُظهِرُ درجة ابتكار أكبر مما هو موجودٌ في الساعة. پايلي هو في أفضل أحواله حينما يتعاملُ مع البنى المعقّدة بشكلٍ هائل، وهي المتمثِّلة بالعين والقلب البشريَّين اللَّذين يُمكن وصف كُلٍّ منهما بتعابير آلية. يُشيرُ پايلي إلى أنّ أيَّ شخصٍ يستخدمُ مِنظارًا يُمكن أن يرى أنّ هذه الأداة المعقّدة قد صُمِّمتْ وصُنعتْ على يد أحدٍ ما. يتساءل هذا الشخص: من ينظرُ إلى العين البشرية ويفشل في أن يرى أنّ لها مُصمِّمًا أيضًا؟

تتمثّلُ حجّة پايلي في أنّ الخلق ساكن. بعد أن خلقَ الله الأشياء، فإنّها لا تتطوّر، لقد صُبَّت الأشياء في قالبها النهائي ولم تحتج للتطوّر. وفقًا لپايلي، يُشيرُ مفهوم التطوُّر إلى نقصٍ في القالب الأصليّ، فكيف يُمكن لإلهٍ كاملٍ أن يخلق مخلوقًا غير كامل؟ بما أنّه لا يوجد معنىً للتطوُّر في بيان پايلي حول الخَلق، فإنّ مجرد إثبات وجود التطوُّر في الطبيعة هو كافٍ لتقويض كامل أطروحته.

فُسّرت نظرية داروين بشكلٍ طبيعي وأنيقٍ أكثر بكثير خاصيتَين في العالم البيولوجي، لم تستطع أن تستوعبهما عقيدة پايلي حول «الخلق المميّز» إلا بطريقةٍ مُتكلّفة ومرتبكة نوعًا ما. أولًا: خلال أسفاره على سفينة «بيغل»، كان داروين مُعجبًا بالقطعان الحيوانية ذات الطبيعة الفردية جدًا على الجزر كأرخبيل غالاپاغوس. كان يُمكن تفسيرُ هذه القطعان بسهولةٍ على ضوء التطوُّر داخل بيئةٍ محليّة. جهدتْ نظريةُ پايلي في فهم معنى هذا الأمر. ثانيًا: أدركَ داروين أنّ نظريته يُمكن أن تُفسِّر سببَ وجود الأعضاء اللاوظيفية التي لا تملكُ غايةً ظاهرية. واجه پايلي مشاكل في تفسير لماذا مَنحَ الله البشر الزائدة الدودية بينما لا تؤدّي وظيفةً مُفيدة، ولكن في نظر داروين، شكّلت هذه الأعضاء بقايا ماضٍ تطوري. اعتقدَ داروين أنّ نظريته حول الانتقاء الطبيعي تملكُ قوةً تفسيرية أكبر من عقيدة پايلي حول الأفعال المستقلّة من الخلق المميّز. «لقد أُلقي الضوء على عدّة حقائق هي بناءً على الاعتقاد بأفعال الخَلق المستقلّة غامضة تمامًا»[55].

كما داروين من قبله، كان دوكينز بليغًا وسخيًا في بيانه لإنجاز پايلي، وقد ثمّنَ «أوصافه الجميلة والموقَّرة لآلية الحياة المشرّحة»[56]. لم يزدرِ دوكينز بأيّ نحوٍ أعجوبة «الساعات» الميكانيكية التي أبهرت پايلي وأعجبته للغاية، ولكنّه احتجّ على أنّ دفاعه عن وجود الله -رغم «إخلاصه الشغوف» و«استمداده للمعلومات من أفضل البحث العلمي البيولوجي في يومه»- هو «خطأ باهر وتام». «صانع الساعات الوحيد في الطبيعة هو قوى الفيزياء العمياء».

دوكينز صائبٌ في انتقاد پايلي. أغلبُ الأكادميّين المسيحيّين -سواء كانوا علماء طبيعة أم علماء لاهوت- من العصر الفيكتوري المبكِّر قد فعلوا الأمر نفسه، واعتبروا أنّ پايلي قد مثّلَ أسلوبًا باليًا من النظر إلى الأمور، وقد فشلَ في إنصاف التطوُّرات العلمية في ذلك العصر أو المواضيع الأساسية في اللاهوت المسيحي المطلّع. أعلنَ عالم اللاهوت الفيكتوري البارز جون هنري نيومان أنّ مُقاربة پايلي يُحتمل منها بالدرجة نفسها أن تقودَ إلى الإلحاد كما إلى الإيمان بالله. رفضَ نيومان حجّة پايلي المبنيّة على التصميم، مُقترحًا في واقع الأمر مقاربةً استقرائية إلى تفسير العالم الطبيعي: «أنا أؤمن بالتصميم لأنّني أؤمن بالله؛ لا أنّي [أؤمن] بالله لأنّني أرى التصميم»[57].

دُعي نيومان في العام 1852 لإلقاء سلسلةٍ من المحاضرات في مدينة دبلن حول «فكرة الجامعة». أتاحَ له هذا الأمر أن يستكشفَ العلاقة بين المسيحية والعلوم، خصوصًا «اللاهوت الفيزيائي» التابع لپايلي. انتقدَ نيومان مُقاربة پايلي بشدّة، جالدًا إيّاها بأنّها «إنجيل زائف». بدلًا من تقدُّمها تجاه المقاربات الأكثر تواضعًا التي تبنّتها الكنيسة القديمة، مثّلت هذه المقاربة تقهقهرًا عن تلك الأفكار.

يُمكن تلخيص لُبّ النقد الذي وجّهه نيومان لمقاربة پايلي في جملةٍ واحدة: «لقد أُخِذت خارج مكانها، ووُضِعتْ إلى الأمام بشكلٍ بارزٍ للغاية، وبالتالي استُخدِمت على وجه التقريب كأداةٍ ضدّ المسيحية»[58]. شكّل «اللاهوت الفيزيائي» التابع لپايلي مَغرمًا، واعتقدَ نيومان بضرورة التخلّي عنه قبل أن يُفنِّد المسيحية:

«لا يُمكن للاهوت الفيزيائي، من طبيعة القضية، أن يُخبرنا كلمةً واحدةً عن المسيحية نفسها؛ لا يُمكن أن يكون مسيحيًا، بأيّ معنى حقيقي على الإطلاق... لا بل أكثر من هذا، لا أتردّد في أن أقول إنّه عند أخذ البشر على ما هم عليه، فإنّ هذا المسمّى بالعلم الطبيعي يميلُ -إذا شغلَ الذهن- أن يُوجِّهه ضدّ المسيحية»[59].

قبلَ سبع سنوات من أن يُفسد داروين مُقاربة پايلي على أُسُسٍ علمية، كان نيومان –الذي كان يُعدّ بشكلٍ واسعٍ أهمّ عالم لاهوت إنكليزي في القرن التاسع عشر- قد رفض رأيَ پايلي باعتباره مغرمًا لاهوتيًا باليًا.

الأمر المثير للاهتمام هو أنّه لم يكن هناك أيّ إدراك من جانب نيومان لأزمة الإيمان الجديدة التي كان كتاب داروين على وشك أن يُسرِّعها. استندتْ حجّة نيومان -التي سبقت زمنيًا كتاب «أصل الأنواع» من تأليف داروين- فقط إلى اعتقاده بأنّ مُقاربة پايلي تفشلُ فيما سعت إلى نقله وتضعُ اللاهوت المسيحي في شراك الدفاعيات التي قد تُخطئ بشكلٍ كارثي. لم تكن تلك المرة الأولى التي تأخذُ الدفاعيات المسيحية انعطافةً خاطئة كارثية. وفقًا لنيومان، تأخّر التصحيح الفوريّ كثيرًا.

اعتقدَ بعضُ المؤلّفين اللاحقين في العصر الفيكتوري أنّ نظرية داروين حول التطوُّر قد سمحتْ لفكر پايلي بأن ينمو في جهاتٍ أكثر نفعًا. كما أظهرَ جيمز مور (James Moore) في بيانه الضخم والفاصل حول الردود المسيحية على داروين، اعتقد كثيرون أنّ نقاط القصور الواضحة في بيان پايلي حول الحياة البيولوجية -ومن أبرزها مفهوم «التكيُّف الممتاز»- قد صُحّحت من خلال مفهوم الانتقاء الطبيعي التابع لداروين[60].

الأهمّ من ذلك هو أنّ سلسلةً من المؤلّفين قد نبذوا اهتمامَ پايلي بتكيّفاتٍ مُحدّدة (استخدامًا لمصطلحٍ دارويني لم يكن يعرفه)، وفضّلوا التركيز على الحقيقة التي تُفيدُ أنّ التطوُّر يبدو محكومًا ببعض القوانين المحدّدة تمامًا –وهو تطبيقٌ واضح لبيولوجيا المقاربة العامة التي طوّرها أكويناس في العصور الوسطى والتي انعكست في كتاب بايدن پاول (Baden Powell) النافذ تحت عنوان «مقالات حول روح الفلسفة الاستقرائية» (1855)[61].

النقطة الجوهرية هنا هي أنّ پايلي يرمزُ إلى الازدهار المتأخِّر والأخير لحركةٍ انبثقت في أعقاب الثورة النيوتنية الكبيرة في أواخر القرن السابع عشر، والتي ضلّتْ طريقَها كليًا مع حلول مُنتصف القرن الثامن عشر. أعادَ پايلي صياغة أفكارٍ قديمة، غير مُدركٍ أنّ صلاحية مِصداقيتها الضعيفة كانتْ على وشك الانتهاء. ينبغي اعتبارُ كتاب داروين «أصل الأنواع» ومؤلّفاته اللاحقة تفنيدًا يعودُ تاريخه إلى أواخر القرن التاسع عشر لفكرةٍ تعودُ إلى مطلع القرن الثامن عشر قد نظرَ إليها بريبةٍ المؤلِّفون المسيحيون المتصدِّرون في مطلع القرن التاسع عشر.

إذًا، لماذا تعاملَ پايلي مع فكرة النظام الطبيعي الجامد الذي أسّسه الله مرةً واحدةً وللأبد عبر فعلٍ أصليٍ من الخَلق؟ من خلال حبس نفسه في هذه الرؤية الجامدة للأشياء، أدخلَ پايلي نفسَه في مُعضلة. لم يتمكّن هو أو أتباعه اللاحقون من التصدّي للأدلة الجيولوجية التي أفادتْ أنّ العالَم أقدم ممّا قد تمّ تخيّله إلى الآن[62]، أو للإدراك المتنامي بحصول تغيُّراتٍ في دائرة السكّان البيولوجية مع مرور الوقت. ولكن كانت هذه افتراضات أواخر القرن السابع عشر الذي كان محبوسًا في نمط التفكير الجامد الذي كان سِمةً للعلم الطبيعي في ذلك العصر الأقدم. تشكّل لاهوتُ پايلي من خلال الرؤية الكونية العلمية في العصر الحديث المبكِّر التي دفعتْ به إلى أن يُفكِّر بالخَلق على نحوٍ جامد[63].

المسيحية ليست كيانًا جامدًا، بل تُشبه نبتةً نامية[64]. رغم أنّه مُتجذّر في الكتاب المقدّس إلا أنّ التراث اللاهوتي المسيحي كان مُلتفتًا دائمًا إلى الحاجة لتفسير نصّه التأسيسي بأكثر طريقةٍ أصيلةٍ ممكنة. أدّى هذا إلى جدالات داخل الكنيسة حول أفضل كيفيةٍ لتفسير نصوصٍ مُحدّدة. خلال السنوات الـ500 الأولى من تاريخ المسيحية، انبثقَ عددٌ من المبادئ الأساسية. كان أحد هذه المبادئ تفسير الكتاب المقدّس على نحوٍ يُتيحُ تفاعلًا إبداعيًا مع أفضل علمٍ طبيعي في ذلك الزمن.

كان أحد أكثر علماء اللاهوت تأثيرًا في ذلك العصر هو أوغسطين من هيپو (354-430)، الذي احتلّ فكره أهميةً خاصةً في عملية استكشاف العلاقة بين تفسير الكتاب المقدّس وبين العلوم. أكّد أوغسطين على أهمية احترام استنتاجات العلوم فيما يتعلّق بتفسير الكتاب المقدّس. كما لاحظ أوغسطين في تفسيره لسِفر التكوين، فإنّ بعض المقاطع كانت قابلة فعلًا لتفسيراتٍ مُتنوّعة. وعليه، كان من المهم السماح بمزيدٍ من البحث العلميّ للمساعدة في تحديد أكثر نمط تفسير مُناسب يتّصل بمقطعٍ مُحدّد:

«فيما يتعلّق بالشؤون التي تكون غامضةً جدًا وبعيدةً للغاية عن رؤيتنا، نجدُ في الكتاب المقدّس نصوصًا يُمكنُ تفسيرها بوسائل مُختلفة للغاية من دون الانحياز إلى الإيمان الذي تلقّيناه. لا ينبغي في هذه الحالات أن نهرع ونتّخذ موقفنا بحزمٍ كبيرٍ إلى جانبٍ واحد، بحيث إنّه إذا قوّضَ التقدُّم الإضافي في البحث عن الحقيقة موقفَنا بعدل، نسقطُ نحن أيضًا معه. لا ينبغي أن نُحارب لصالح تفسيرنا الخاص بل لصالح تعاليم الكتاب المقدّس. لا ينبغي أن نتمنّى توفيق معنى الكتاب المقدّس مع تفسيرنا، بل [توفيق] تفسيرنا مع معنى الكتاب المقدّس»[65].

وعليه، حثّ أوغسطين على أنّه ينبغي لتفسير الكتاب المقدّس أن يأخذ بعين الاعتبار بنحوٍ وافٍ ما يُمكن أن يُعتبر بشكلٍ معقول حقيقةً مُثبَتة. كانت تهدفُ هذه المقاربة تجاه تفسير الكتاب المقدّس إلى أن تضمن أن لا يقع اللاهوت المسيحيّ أبدًا في شراك رؤيةٍ كونية ما قبل-علمية. كان هذا دائمًا هو الموضوع السائد في التفسير الغربيّ للكتاب المقدّس، ولكنّه لم يمنع الجدالات حول ما هي المقاربة الفضلى. كثيرًا ما ضمّت هذه الجدالات التجربة والخطأ، حيث حدّدت الطريقة الفضلى لتفسير نصٍ من الكتاب المقدّس من خلال فترةٍ زمنية مُمتدّة من النقاش والاستكشاف.

كان ويليام پايلي سبب أحد تلك الاستكشافات. لا يهمّ أنّ التاريخ يعتبر استكشافَه أحد قطع المغامراتية اللاهوتية الأقلّ نجاحًا. لا يُمكن أن نتبنّى «رؤيةً يمينية إلى التاريخ»، تُثني على الاستكشافات التي نجحت وتنتقد بشدّة تلك التي فشلت. لكي نستخدم عبارة أرنولد توينبي (Arnold Toynbee) الشهيرة، فإنّ كامل مشروع اللاهوت المسيحي، كالحضارة البشرية نفسها، هو «حركة وليس ظرفًا، رحلةً وليس ميناء»[66]. الأمر نفسه بالضبط ينطبق على المنهج العلميّ. الاستكشافُ أمرٌ جوهري.

كما سبقَ وأن أكّدنا، جرى تقويم مُقاربة پايلي تجاه الدفاعيات المسيحية منذ العام 1800، وقد اكتملَ مع حلول العام 1850 قبل نشر نظرية داروين. الحكم؟ كان اختبارًا فاشلًا. حانَ الوقتُ لإعادة استكشاف مُقارباتٍ أقدم حول الدفاعيات، وتطوير مُقارباتٍ جديدة لم تُلطِّخها إخفاقاتُ پايلي. ولكن كان تأثير پايلي على نحوٍ بقيت آراؤه داخل الثقافة الفيكتورية، وبقي معها فهمٌ جامدٌ جوهريًا للعالم البيولوجي اعتُبِر بشكلٍ خاطئ أنّه يُشكِّلُ الرؤية المسيحية للأمور. لا عجبَ أنّ العديد من علماء اللاهوت أرادوا أن يعودوا إلى الوسيلة الأقدم والأكثر أصالة في تطبيق اللاهوت، وتنحية مغامرة پايلي جانبًا.

تقويمُ دوكينز للتداعيات اللاهوتية للداروينية يعتمدُ بشكلٍ مُفرط على الافتراض الذي يُفيدُ أنّ مقاربات پايلي (أو الپايلية) تجاه المحيط الحيوي هي مألوفة ومعيارية في المسيحية. يبدو أنّ دوكينز يفترضُ أيضًا أنّ الدفاع الفكريّ عن المسيحية يستندُ إلى حدٍ كبيرٍ -إن لم يكن كليًا- إلى «الحجّة المبنيّة على التصميم» التي تُشبه الحجّة التي طرحها پايلي. ولكنّ اللاهوت المسيحي لا يؤكِّد أنّ الإيمان المسيحي هو غير منطقي أو أنّه يفتقدُ للمكانة المعرفيّة الإيجابية إذا لم يلجأ إلى نوع الاحتجاجات التي يُطوِّرها پايلي. يُقدِّم دوكينز دفاعًا ممتازًا للتخلّي عن فِكر پايلي، ولكن يبدو أنّه يظنّ أنّ هذا يستلزمُ أيضًا التخلّي عن الله.

ماذا إذًا لو نسينا پايلي، وعُدنا إلى تفسير الكتاب المقدّس والمناهج اللاهوتية للكنيسة القديمة؟ للأسف! هذا اختبارٌ تاريخي لا يُمكن ببساطة الاضطلاع فيه. التاريخ، كما عملية التطوُّر التي يصفها داروين ودوكينز، غير قابل للانعكاس وعرضة للاحتمالات التي تقعُ خارج السيطرة التجريبية. الحدث العرضي هو على نفس الدرجة من الأهمية في التطوُّر الثقافي كما في التطوُّر البيولوجي. ولكن ما يُمكن قوله وما ينبغي قوله هو التالي: لو كان الجدال الدارويني قد وقع في الكنسية الناطِقة باللغة اليونانية في القرن الرابع، لجرت الأمور بشكلٍ مُختلف للغاية[67]. يعتمدُ تقويم دوكينز السلبيّ بشدّة للتداعيات الدينية للداروينية على تصوير العارض التاريخي الموضعي كضرورةٍ لاهوتية شاملة. حتّى مع أخذ الأهمية الثقافية لبريطانيا في القرن التاسع عشر بعين الاعتبار، لا يُمكن معالجة الظروف المحلية والمحدّدة لإنكلترا في العصر الفيكتوري وكأنّها تُحدِّد الإيمان المسيحيّ على مرّ العصور.

ينبغي أن نُدرك أنّ المؤلفين المسيحيين في عهدٍ أقدم كانوا قد طوّروا مفاهيم ديناميكية حول الخَلق -على خلاف مفهوم پايلي الراكد والجامد- قابلة جدًّا للتنقيح لكي تُناسب رؤية التطوُّر. سوف نتناول فيما يلي أحد أكثر الأمثلة شهرةً.

المفاهيم الديناميكية حول الخَلق: أوغسطين من هيپو

في مطلع القرن الخامس، نشرَ أوغسطين من هيپو -الذي يُعتبر على نحوٍ واسعٍ أحد أكثر علماء اللاهوت تبصُّرًا وتأثيرًا في المسيحية- تأمّلاته حول الفصول الثلاثة الأولى من سِفر التكوين. ألّف أوغسطين كتابه تحت عنوان «حول المعنى الحرفيّ للتكوين» بين سنوات 401 و415[68]. إحدى أهمّ الأفكار التي طوّرها أوغسطين في هذه التعليقة هي أنّ فِعل الخلق الإلهي لم يكن مُقتصرًا على فِعل الإنشاء بل امتدّ ليضمّ التفتُّح اللاحق والتحوُّل في الخلق الأصليّ. خُلق العالم مع قابلية التحوُّل الإضافي، تحت توجيه العناية الإلهية. بينما كان يُفكّر بعض بالخلق على ضوء إدخال الله لأنواعٍ جديدةٍ من النباتات والحيوانات الجاهزة الصنع -إن صحَّ التعبير- في عالمٍ سبق وأن وُجِد، إلا أنّ أوغسطين قد رفضَ هذا الأمر باعتباره غيرَ مُنسجمٍ مع الشهادة الإجمالية للكتاب المقدَّس. بالأحرى، ينبغي أن نعتبر أنّ الله قد خلق في تلك اللحظة الأولى بالضبط الفاعليات (يستخدم أوغسطين مشهد «البذرة») لجميع أنواع الكائنات الحيّة التي سوف تأتي لاحقًا، ومن بينها البشرية.

وعليه، احتجّ أوغسطين أنّ الله قد خلق العالم مُترافقًا مع قُدرة التحوُّل من «مبادئ شبيهة بالبذور» قد وُجِدت منذ البداية، ويحوي كلٌّ منها القابلية للتحوُّل اللاحق إلى نوعٍ حيٍ مُحدّد[69]. يقترحُ أوغسطين أنّ الأرضَ قد تلقّت من الله القوّة أو القابلية لإنتاج الأشياء بنفسها[70]. تُفهَم فكرة «البذرة» بأفضل نحوٍ على أنّها توجيهية، حيث تُقدِّم وسيلة غير دقيقة ولكن مفيدة لتصوير المفهوم الصعب لاهوتيًا ولكن المهم المتمثِّل في أنّ الله يستمرّ في التصرُّف في الطبيعة لتحقيق القوى الكامنة المغروسة في النظام المخلوق لحظة خلقه[71]. تُشيرُ صورة البذرة إلى أنّ الخلق الأصليّ قد ضمّ في داخله القوى الكامنة لجميع الأنواع الحيّة التي سوف تظهر لاحقًا.

وعليه، درّس أوغسطين وجودَ «لحظتين» في الخلق، تُطابِق فعل الإنشاء الابتدائي والعملية المستمرّة المتمثِّلة بالهداية الإلهية[72]. مع الإقرار بوجود ميلٍ طبيعيٍ إلى التفكير بالخلق كحدثٍ ماض، يُصرّ أوغسطين أنّه ينبغي الاعتراف بأنّ الله يعملُ الآن، في الحاضر، حافظًا ومُوجِّهًا تفتُّح «الأجيال التي خزّنها في الخلق حينما أُنشِأ لأول مرة»[73].

يُصرّ أوغسطين أنّ هذا لا يعني أنّ الله قد خلق العالم غيرَ تامٍ أو غيرَ كامل، وذلك لأنّ «ما أنشأه الله في الأصل في الأسباب، فإنّه قد أتمّه لاحقًا في النتائج»[74]. خُلِق العالم مع قوةٍ كامنة داخلية كي يتحوّل إلى ما أراده الله منه أن يُصبح مع مرور الوقت، وقد مُنحت هذه القوة الكامنة في فعل الإنشاء الأساسي[75]. يُصرِّحُ أوغسطين أنّ عملية التحوُّل هذه محكومة بقوانين أساسية تعكسُ إرادةَ خالقها: «أنشأ الله قوانين ثابتة تحكمُ إنتاجَ أنواع الكائنات وخصائصها، وتُخرجها من الخفاء إلى مجال الرؤية الكاملة حتّى تُهيمن إرادة الله على كلّ شيء»[76].

نُلاحظُ هنا تأكيدًا صريحًا على دور التدبير الإلهي في هداية ظهور العالم الطبيعي من خلال «قوانين ثابتة» (certas leges). لعِبَ هذا المفهوم دورًا مهمًا في إرشاد التفكير اللاحق حول «قوانين الطبيعة» أو «القوانين العلمية»[77]. يستخدمُ أوغسطين فكرةَ وجود عملية نشوءٍ موجَّهة من العناية الإلهية للتعبير عن مفهوم ثنائيٍ حول الخلق: كحدثٍ أصليٍ مع إمكاناتٍ مُنغرسة وكتحقُّق لاحقٍ لتلك الإمكانات مع مرور الوقت.

حتّى هذا البيان الموجز للغاية عن لاهوت الخلق وفقًا لأوغسطين يُوضِّحُ أنّه يُقدِّمُ إطارًا مُفيدًا لكي يوضَع فيه البيان المسيحي عن التطوُّر البيولوجي. يردُ ضمنًا في بيان أوغسطين حول الخَلق المفهوم الذي يُفيدُ أنّ الخلق يستلزمُ إنشاء واقعٍ ذي مستوياتٍ مُتعدّدة احتمالًا، تنبثقُ خصائصه تحت ظروفٍ مُحدّدة إمّا لم توجد أو أنّها لم تُعتبر مُناسبة للتحوُّل عند نشوء الكون. يحتجُّ أوغسطين على أنّ الكون قد خرج إلى عالم الوجود مع قابلياتٍ داخلية تُتيحُ له التحوُّل إلى شكله الكامل، خاضعًا لهداية الله. يتناقضُ هذا الأمر بشكلٍ حاد مع آراء پايلي الذي اعتقدَ أنّ أيَّ فكرةٍ تُفيدُ أنّ الطبيعة تملكُ طاقاتٍ حيوية أو قوى داخلية كافية لخلق نظامها الخاص تُوازي الإلحاد[78].

ينبغي أن نضع مُقاربة أوغسطين إلى جانب عبارة تشارلز كينغسلي (1819-1875) المحتفى بها الناشئة عن تأمُّلاته في كتاب داروين «أصل الأنواع»: «كُنّا نعلم قديمًا أنّ الله حكيمٌ للغاية بحيث إنّه يستطيعُ أن يصنعَ جميعَ الأشياء؛ ولكن انظر، إنّه أكثر حكمةً بكثير حتّى من ذلك، إذ بمقدوره أن يجعلَ جميعَ الأشياءَ تصنعُ نفسَها»[79]. يُمكن أن نسأل بشكلٍ منطقيٍ: لماذا لم يُطوِّر كينغسلي هذه الفكرة من قراءته لأوغسطين بدلًا من داروين؟ لماذا لم يستطع أن يُطبِّق هذا الإطار اللاهوتيّ على قراءته لداروين، ويُدرك صداه المحتمل مع ما وجده في «أصل الأنواع»؟ في الواقع، كان عالِم البيولوجيا الإنكليزي الكاثوليكي سِنت جورج ميفارت (St. George Mivart) (1827-1900) عالمًا بمقاربة أوغسطين، وقد ثمّن أهميةَ الإطار الذي قدّمته لاستيعاب وجهات النظر التطوُّرية. «يُصرّ القدّيس أوغسطين بطريقةٍ لافتةٍ للغاية على المعنى الاشتقاقي المحض الذي ينبغي فهمُ خلق الله للأشكال العضوية على ضوئه؛ أي أنّ الله قد خلقها من خلال منح العالَم الماديّ القوّة على تطويرها في ظروفٍ مُناسبة»[80]. أمّا فريدريك تمپل (Frederick Temple) (1821-1902)، الذي أصبحَ لاحقًا رئيس أساقفة كانتربري، فإنّه قد اعتبرَ هذه المقاربة الطريقة الواضحة في الأمام للاهوت المسيحيّ. أشارَ تمپل في بعض المحاضرات المؤثِّرة في العام 1884 أنّ الله قد وهبَ الخَلق «قوى متأصِّلة بحيث تطوّرت الكائنات الحيّة، كتلك الموجودة في الوقت الحاضر، في المسار العاديّ للوقت... لم يصنع الله الأشياء، يُمكن أن نقول ذلك؛ كلا، بل جعلها تصنعُ نفسَها»[81].

مُقاربة پايلي والمقاربات الأخرى الشبيهة بها هي عارضٌ من التاريخ، نتيجة للإجماع العلميّ السائد في مطلع القرن الثامن عشر (الذي افترضَ بعض بشكلٍ غير حكيم أنّه صحيحٌ دائمًا) ومؤسّسة كنسية أرادتْ أن تؤكِّد أهمية الاستقرار والنظام والانتظام، قد سُعدت تمامًا بالتماشي مع مُقاربة پايلي وسوابقها كوسيلةٍ لتلك الغاية –وليس لأنّ أفرادها قد علموا (أو حتّى اعتقدوا) أنّها خطأ، بل ببساطةٍ لأنّهم على ما يبدو قد افتقدوا المعرفة بالبدائل الأصيلة والقابلة للتطبيق التي تعودُ إلى المرحلة المهمة الأولى من التأمُّل اللاهوتي المسيحيّ.

إذا أمكنَ أن يُقال إنّ پايلي وزملاءه قد اتّخذوا انعطافةً خاطئة، يجب أن نشكر دوكينز لأنّه لفتَ إلى هذا الأمر –ولكن ينبغي أن نذكر أنّ العديد من الأفراد في العصر الفيكتوري كانوا قد توصّلوا إلى الاستنتاج نفسه. لم يُفنّد دوكينز المسيحية بحدّ ذاتها، ولكنّه فنّد ما يمثّل قطعًا طرازًا لاهوتيًا إنكليزيًا من القرن الثامن عشر، قد هجره الأكاديميون المسيحيون منذ أمدٍ بعيد. أصاب فيلسوف الدِّين الكاثوليكي كريستوفر مارتن حينما علّق أنّ: «الموجود الذي يُكشَف لنا عن وجوده من خلال الحجّة المبنيّة على التصميم ليس الله بل المهندس العظيم الذي [يعتقدُ به] الربوبيّون والماسونيون، مُنتحل مُتنكّر بصفة الله، رجل إنكليزي عجوز مُحترم حازم ولطيف وذكي للغاية، مُزوّد بمئزرٍ ومجرفةٍ ومُربّع وبوصلات»[82]. مع ذلك، ما زال تشبيهُ پايلي الحيوي مُستقرًا في البيانات الشهيرة حول الإيمان، خصوصًا في البروتستانتية في شمال أمريكا. لعلّ هذا كان الهدف الحقيقي لنقد دوكينز.

الانتقاء الطبيعي والمعتقدات الدينية: آراء داروين

ماذا إذًا عن إيمان داروين الدينيّ؟ هل حوّلته نظريته عن التطوُّر إلى مُحاربٍ مُلحد في وجه الاعتقاد الديني كما يُشيرُ بعض الباحثين على ما يبدو؟ للأسف! يتمُّ دائما الاستشهاد بحجّية داروين ومثاله لتبرير الادّعاءات الميتافيزيقة واللاهوتية التي تتجاوزُ بشكلٍ كبيرٍ أيَّ شيءٍ قد عبّرَ عنه داروين شخصيًا في بيولوجيا التطوُّر الخاصّة به أو ربَطَه بها. لحسن الحظ، يسهلُ نِسبيًا تقديم الإجابة على السؤال التاريخيّ أساسًا حول آراء داروين الدينية، وذلك بفضل الدراسة البحثية المكثّفة المتمحورة حول داروين وبيئته الفيكتورية خلال العقود القليلة الماضية[83]. يضمُّ المشروع الممتاز على الشبكة العنكبوتية تحت عنوان Darwin Project قِسمًا يجمعُ أهمَّ الأدلّة التاريخية على نحوٍ موضوعيٍ وموثوق معًا من الناحية التاريخية[84].

ثمّة سؤالان مُرتبطان ينبغي التطرُّق إليهما. أولًا، ما هي آراء داروين الدينية؟ يبدو أنّ داروين قد تخلّى عمّا يُمكن أن نُسمّيه «المعتقدات المسيحية التقليدية»، وذلك في مرحلةٍ ما من أعوام الـ1840 رغم أنّ التاريخ المحدّد قد يبقى غامضًا. مع ذلك، ثمّة فجوة نظرية كبيرة بين «التخلّي عن الإيمان المسيحي المألوف» و«التحوُّل إلى مُلحد». تتضمّنُ المسيحية مفهومًا مُحدّدًا للغاية حول الله. يُمكن تمامًا الإيمان بإلهٍ غير إله المسيحية، أو الإيمان بالله ورفض أبعادٍ مُحدّدة أخرى في الدِّين المسيحيّ. بالفعل، يُمكنُ فَهمُ «أزمة الإيمان في العصر الفيكتوري» –التي يُعتبَر فيها داروين بشكلٍ واسعٍ مُشاهِدًا ومُشارِكًا في الوقت نفسه- كتحوّلٍ بعيدًا عن تفصيلات المسيحية نحو مفهومٍ أكثر عمومًا عن الله، يُحدَّد بشكلٍ كبيرٍ من خلال القيم الأخلاقية في ذلك العصر[85]. يبدو أنّ داروين -كالعديد من الآخرين- قد تحرّك نحو ما يُمكن أن يوصَف بشكلٍ معقولٍ بأنّه مفهومٌ ربوبيٌ عن الله وليس الألوهية الأخص الموجودة في الدِّين المسيحي[86]. ليس من الصعب تمييزُ مسارٍ مُتواصلٍ تقريبًا يبدأ من الانتماء إلى الدّين التقليدي خلال سنوات دراسته في كامبردج، إلى تبنّيه لمذهب الربوبية غير المرتبِط بالكتاب المقدّس في زمن نشر كتاب «أصل الأنواع»، وصولًا إلى تبنّي موقفٍ لاأدري أكثر في أواخر حياته (رغم أنّ داروين لم يكن ثابتًا تمامًا في ميوله في هذا الوقت)[87].

رغم أنّ مُعتقدات داروين الدينية قد ابتعدتْ من دون شك عما يُمكن أن نُسمّيه بنحوٍ مُتساهل «المسيحية التقليدية»، إلا أنّها لم تُستبدَل بأيّ شيءٍ يُشبه -ولو من بعيد- الشكل العنيف والساخر من الإلحاد الذي نجده للأسف من جانب بعض الذين قدّموا أنفسَهم على أنّهم مُناصروه في الأزمنة الأحدث. لا يُوجد الكثير في كتابات داروين ممّا يُشيرُ إلى أيِّ استنتاجٍ من هذا القبيل. علّق داروين على حيرته الدينية الشخصية في العام 1879 أثناء تأليف سيرته الذاتية: «كثيرًا ما يتذبذبُ حُكمي... أثناء أشدّ تذبذباتي تطرُّفًا، لم أكن مُلحداَ قطّ بمعنى إنكار الله. أعتقدُ أنّه عمومًا (وأكثر وأكثر مع تقدُّمي في السنّ)، ولكن ليسَ دائمًا، أنّ [صفة] اللاأدري هي الوصف الأصحّ لوضعي الذهني»[88].

من المعلوم أنّ عاملَين قد أثارا قلق داروين على وجه الخصوص، وكان لهما تداعياتٌ سلبية على موقفه تجاه المسيحية التقليدية. أولًا، اعتبر داروين أنّ وجودَ الألم والمعاناة في العالَم يُشكِّل عبئًا فكريًا وأخلاقيًا لا يُحتمل. ثمّة إجماعٌ واسعٌ يُفيدُ أنّ ما أسماه سي.إس.لويس بـ«مشكلة الألم» هو أحد أهمّ العوائق أمامَ الإيمان المسيحي، ومن المفهوم تمامًا لماذا قد يَستشعرُ شخصٌ حسّاسٌ مثل داروين بثقل هذه القضية، خصوصًا على ضوء مرضه الطويل (الذي لم يُفسَّر لغاية الآن)[89]. لا شكّ أنّ وفاة ابنته آني في مُقتبل عمرها وهي في سنّ العاشرة قد عمّقَ شعوره بالغضب الأخلاقي حول هذه القضية[90].

طرحَ دونالد فليمنغ (Donald Fleming) في العام 1961 الأطروحة المهمة التي تُفيدُ أنّ تجربة داروين مع المعاناة شكّلت عنصرًا أساسيًا في فُقدانه للإيمان. أكّد فليمنع أنّ داروين أصبحَ يعتقدُ أنّ «الإنسان الحديث يُفضِّل أن يُواجه المعاناة الخالية من المعنى بدلًا من المعاناة المكفولة بأن تكون واضحة لأنّها تُرادُ من الأعلى»[91]. وعليه، توجّب أن يتمّ القبول بالألم والمعاناة باعتبارهما النتيجة الخالية من المعنى لعملية التطوُّر. مهما كان هذا الطرح بغيضًا إلا أنّه بدا مُفضَّلًا على البديل –أي أن يكون الله إمّا قد أنزلَ المعاناة بنفسه أو سمحَ بنزولها على يد آخرين.

الفكرة التي تُفيدُ أنّ التطوُّر قد وقعَ وفقًا لمبادئ أو قوانين عامة مُحدّدة، مع بقاء التفاصيل الدقيقة متروكةً للصدفة، لم تُرضِ داروين بشكلٍ كاملٍ قط، وقد بدا أنّها خلّفت العديد من الخيوط الفكرية المفكوكة وافتتحت قضايا أخلاقية صعبة –لا أقلّها الهدر الهائل في الحياة الذي يُلازِم عملية الانتقاء الطبيعي. ولكن بدا لداروين أنّها أقلّ إزعاجًا من البديل الذي يُفيدُ أنّ «الله المحسن والقدير قد خلقَ النمسيات [فصيلة من الحشرات] عن تصميمٍ مع هدفٍ محدّد مُتمثِّل بتناولها الطعام داخل الأجسام الحيّة لليرقات»[92]. يُمكن على الأقلّ نسبُة هذا الأمر إلى صدفةٍ في الطبيعة وليس إل التصميم الإلهي الهادف.

ثانيًا: شارك داروين الغضب الأخلاقي الذي برز في منتصف العصر الفيكتوري حول بعض الأبعاد المتعلّقة بالعقيدة المسيحية، خصوصًا تلك المرتبطة بالحركة الإنجيلية ذات التأثير المتزايد. كما جورج إليوت (1819-1880) والعديد من الآخرين آنذاك[93]، ردَّ داروين باشمئزاز على أفكارٍ من قبيل لعنة الجحيم الخالد بحقّ من لا يؤمنون بصراحة بالإنجيل المسيحي[94]. استشعرَ داروين هذا الغضب بقوةٍ خاصة، بسبب مُعتقدات والده الدينية غير المألوفة نوعًا ما. كما كتبَ داروين في سيرته الذاتية: «حقًا، بالكاد يُمكنني أن أفهم كيف قد يتمنّى أيُّ شخص أن تكون المسيحية صادِقة؛ لأنّه لو كان الأمر كذلك يبدو أنّ لغة النصّ البسيطة تُظهِر أنّ الرجال الذين لا يؤمنون -وهذا يضمُّ أبي، وأخي، وجميع أصدقائي تقريبًا- سوف يُعاقبون للأبد، وهذه عقيدة لعينة»[95]. في تشرين الأول 1882، ستّة أشهر بعد وفاة داروين، طلبت أرملته أن لا يُنشَر هذا المقطع بالذات. كتبت أرملته العبارة التالية على حواشي مخطوطة زوجها عند هذه النقطة: «لا أحبّذ أن يُنشَر المقطع بين هلالَين. يبدو لي فجًّا. لا يمكن أن يُقال [أنّ عبارة هي] شديدٌ للغاية بحقّ عقيدة العقاب الأبدّي للكفر – ولكن قلّةٌ قليلة جدًا الآن تُطلِق على ذلك «المسيحية»»[96]. يُمكن أن نُلاحظ هنا بعضًا من روح هذا العصر اللافت في التاريخ الثقافي الإنكليزي، حيث أُخضِعت بعض أبعاد الإنجيلية المسيحية إلى مستوى غير مسبوق من الانتقاد يعكسُ اعتقادًا مُتناميًا بأنّ هذه البيانات حول الطبيعة وأهداف الله هي قاصرة وغير مقبولة في ثقافةٍ مُتقدِّمة بشكلٍ مُتزايد[97]. يتحدّثُ داروين هنا بصوت عصره، ولا يُضيفُ أيَّ شيءٍ ذي طابعٍ تطوّري على وجهٍ خاص.

ولكنّ السؤال الثاني هو أكثر أهميةً لأهدافنا في هذا القسم. ما هي العلاقة التي اعتقدَ داروين بوجودها بين نظريته حول الانتقاء الطبيعي والمسيحية، بغضِّ النظر عمّا إذا كان ينبغي أن نعتبر داروين نفسه مؤمنًا مسيحيًّا تقليديًّا أو عُرفيًّا؟ بتعبيرٍ آخر، إذا وضعنا آراء داروين الدينية الشخصية جانبًا، هل كان يعتقدُ أنّه يُمكن للمسيحيين أن يقبلوا مقاربته تجاه التطوُّر كما عُرِضت في الطبعات المتتالية من «أصل الأنواع»؟ مرةً أخرى، ناقشَ داروين هذه المسألة بشكلٍ صريحٍ في مؤلّفاته وأوضحَ أنّه يعتبرُ أنّ مُقاربته تجاه التطوُّر لا تُسبِّبُ أيَّ إزعاجٍ ذهنيٍ للإيمان المسيحيّ التقليدي. لعلّ هذا هو أكثر اختلافٍ بارزٍ بين داروين ودوكينز، ولكنّه لم يلقَ الاهتمام الذي يستحقّه.

لقد مدحَ كثيرون بُعدَ النظر والحياد الهادئ في كتاب «أصل الأنواع» حيث لاحظوا انسلاخه الاجتماعي والسياسي الكبير وحياده الدينيّ الدقيق. ينبغي أن نتحوّل إلى رسائل داروين لكي نُوضِّح كُلًّا من التذبذبات في مُعتقداته الدينية مع مرور الوقت بالإضافة إلى تردّده في التعليق على القضايا الدينية، ومن بينها مُعتقداته الشخصية. مع ذلك، حينما اقتضى السياق الأمر، يبدو أنّ داروين لم يكن مُستعدًا فقط لأن يتبنّى بشكلٍ علني تطابقَ الإيمان الدينيّ مع نظرية الانتقاء الطبيعي، بل التأكيد عليها أيضًا.

ثمّة مثالٌ نموذجي في إشارته إلى «القوانين التي غرسها الخالق في المادة»، وقد مُنِحَ في طبعة الكتاب الثانية اهتمامًا أكثر من الطبعة الأولى[98]. تأكيدُ داروين على دور القوانين الطبيعية في إدارة عمليات التطوُّر قد دفعَ بعضَ الباحثين إلى أن يُشيروا إلى أنّ داروين قد حقّق للبيولوجيا ما حقّقه نيوتن للفيزياء. على سبيل المثال، وصفَ إرنست هاكل (Ernst Haeckel) داروين بـ«نيوتن الجديد» الذي كشف القوانين الطبيعية الحاكِمة على المجال البيولوجي[99]. كانت نظرية الانتقاء الطبيعي التابعة لداروين قابلة للمقارنة مع قانون الجاذبية التابعة لنيوتن. حينما أُخِذت النظريتان معًا، فإنّهما قد قدّمتا رؤيةً وحدوية عن العالم الطبيعي[100]. وعليه، فإنّ فيزياء نيوتن قد أدّت إلى ظهور طرازٍ جديد من اللاهوت الطبيعي، أفلا يُمكن أن تؤدّي بيولوجيا داروين إلى نتيجةٍ مُشابِهة؟ بالتالي، كما كشفَ نيوتن عن قوانين الفيزياء، يكون داروين قد كشفَ عن قوانين البيولوجيا.

قد تؤدّي مسارات التأمُّل هذه في النهاية إلى مفهومٍ ربوبيّ حول الله، وليس إلى الإله الثالوثيّ. ولكن لا يُوجد هنا حتّى أيّ أثرٍ ضئيلٍ للإلحاد الشخصيّ. قد يحتجّ بعضٌ على أنّ داروين قد جعل تحوُّل الفرد إلى مُلحدٍ راضٍ فكريًّا أمرًا ممكنًا، إلا أنّ داروين نفسه لم يتوصّل إلى هذا الاستنتاج. يصعبُ أن نعتقد أنّ إشاراته إلى الخالق في كتاب «أصل الأنواع» قد ابتُكرت ببساطة لتهدئة جمهوره، وأنّها قد شكّلت خداعاتٍ غليظة تهدفُ إلى التستُّر على إلحادٍ خفيٍ كان يخشى داروين أن يعيب نظريته في عين الجمهور المتديِّن. كما علّق داروين نفسه أمام آيسا غراي (1810-1888) في أيار 1860 بخصوص كتاب «أصل الأنواع»، فإنّه لم يملك أيّ نيّة للكتابة «بنحوٍ إلحادي»، ولم يكن يعتقد أنّ آراءه حول الانتقاء الطبيعي تقتضي الإلحاد: «لا أرى سببًا لعدم إمكانية أن يكون قد أُنتِج إنسانٌ أو حيوانٌ آخر بشكلٍ أصليٍ عبر قوانين أخرى، وأن تكون جميع هذه القوانين قد صُمِّمت خصّيصًا على يد خالقٍ عليم تنبّأ بكلّ حدثٍ ونتيجة مُستقبليَّين»[101]. رغم أنّ داروين قد اعتبرَ أنّ عقيدته حول الانتقاء الطبيعي تتطابقُ مع الإيمان بالإله الخالق، إلا أنّه لم يعتبر أنّ هذا يستلزمُ وجودَ الإله الخالق، وكثيرًا ما عبّر عن تردّده الشخصي حول هذه المسألة. ولكن القضية هي كالتالي: مهما كانت طبيعة آراء داروين الدينية، إلا أنّه قد أوضحَ أمرين: أنّ المؤمنين بالإله الخالق لا ينبغي أن يُواجهوا صعوبةً فكريةً مع نظريته، وأنّ نظريته بحدّ ذاتها لا تُشكِّلُ تحديًا لمعتقداتهم. لا يبرع دوكينز في معالجة التاريخ، ويصعبُ فهم فشله في التعامل بشكلٍ مناسب مع آراء داروين عند هذه النقطة الحاسمة –خصوصًا حينما يُناقِضُ داروين دوكينز بشكلٍ واضحٍ للغاية هنا.

لم يكن الله، ولا حتّى كنيسة إنكلترا، عدوًّا لداروين، ولكن كان عدوّه نظرةً مُحدّدة عن الله تحصرُ فِعلَ الخلق في سلسلةٍ من الأفعال الإلهية الماضية المحدّدة ممّا يؤدّي إلى عالَمٍ بيولوجي ثابت وجامد. ولكن ليس من الضروري أن نُحدِّد آراء داروين الدينية الشخصية لكي نُقيِّم أثرها على اللاهوت الطبيعي في العصر الفيكتوري. كان ثوماس هاكسلي -الذي كان ميّالًا نوعًا ما إلى تأكيد الأبعاد المعادية للدّين في فِكر داروين- واضحًا تمامًا في أنّ «عقيدة التطوُّر ليست مُعادية للإيمان وليست إيمانية»[102]. أنكرتْ نظريةُ داروين الخلقَ الإلهيّ المباشر للكائنات الحيّة البيولوجية. السؤال الذي بقي مفتوحًا هو: هل أنكرت نظريته أيضًا التدخُّل غير المباشر كالأفعال عن طريق الأسباب الثانوية؟

لقد عبّرتُ في هذا القسم عن قلقي من عدم تفاعل دوكينز بشكلٍ مُناسبٍ مع آراء داروين حول انسجام الانتقاء الطبيعي مع الإيمان بالله. ينبغي أن نتحوّل الآن إلى سؤالٍ تاريخيٍ آخر يُثيرُ المزيدَ من الشكوك حول ما إذا برّر دوكينز بشكلٍ كافٍ قراءتَه الإلحادية للداروينية. سوف نتطرّق فيما يلي إلى آراء علماء البيولوجيا وعلماء اللاهوت المسيحيّين المتصدِّرين القريبين من عصر داروين حول النظرية الجديدة المتمثِّلة بالانتقاء الطبيعي.

ردّة الفعل المسيحية على داروين

في غضون ثلاثين عامًا من نشر كتاب «أصل الأنواع»، كان قد انضوى كثيرون من مؤسّسة كنيسة إنكلترا وراء الأفكار الجديدة وصرّحوا بأنّها تتناغمُ تمامًا مع اللاهوت المسيحي. لاحظَ أغلبُ الناس هذا الموقف الإيجابي الجديد داخل مؤسّسة الكنيسة، ومن بينهم هاكسلي. كتب هاكسلي في تشرين الثاني 1887 مقالةً في دورية «القرن التاسع عشر»، مُلخِّصًا ومُقيِّمًا ثلاث مُحاضراتٍ قريبة العهد كان قد ألقاها ثلاثة أساقفة رفعاء من كنيسة إنكلترا. أُلقيت هذه المحاضرات في كاتدرائية مانشستر يوم الأحد 4 أيلول 1887 خلال اجتماعٍ للجمعية البريطانية للتنمية العلمية، وذلك من قِبل أساقفة كارلايل وبيدفورد ومانشستر[103]. كتبَ هاكسلي بحماسٍ واضح: «هذه الخطب الممتازة تُشيرُ إلى تحوّلٍ جديدٍ في المسار الذي يتبنّاه اللاهوت تجاه العلم، وتدلّ على إمكانية إحداث طريقة عمل مُشرِّفة بين الاثنين». رحّب هاكسلي بهذه المحاولة الأصيلة لتحقيق التقارب –لا بل أكثر من ذلك الالتقاء الأصيل- بين العلوم الطبيعية واللاهوت. لعلّ أكبر حماسه قد حُفِظَ لصالح الرفض الراسخ لأيّ مفهومٍ يتعلّقُ بالمطالبة بمقصوراتٍ فكريةٍ معزولة في العقل البشري بهدف التعامل معهما. أفردَ هاكسلي تعليقًا واحدًا أصدره أسقف بيدفورد، مانحًا إيّاه مديحًا خاصًا، حيث نفى الأسقف أيَّ فكرةٍ تُفيدُ أنّ العلم والدِّين:

«يحتلّان مجالَين مُختلِفَين تمامًا وليسا بحاجة، بأيِّ نحوٍ من الأنحاء، إلى أن يتدّخلا ببعضهما بعضًا. يدورُ الاثنان، إن صحَّ التعبير، في صعيدين مُختلفين، وبالتالي فإنّهما لا يلتقيان قط. وعليه، يُمكن أن نُتابع الدراسات العلمية بأعلى قدرٍ من الحرية، وفي الوقت نفسه يُمكن أن نُوجِّه أكبر اعتبارٍ تبجيليٍ إلى اللاهوت، من دون أن نملك مخاوف الاصطدام، بسبب عدم السماح بأيِّ نقاط اتّصال»[104].

لماذا نُتعب أنفسَنا بهذه التفاصيل التاريخية؟ لأنّها تُوضِّحُ أنّه من الإشكالي للغاية أن يُقال إنّ داروين يستوجبُ الإلحاد. في واقع الأمر من الناحية التاريخية، لم يُرَ من قبل أعلم أصحاب الرأي حينذاك أنّ الداروينية تستلزمُ الإلحاد. تمثّلَ رأيُ هاكسلي الشخصيّ في أنّ الداروينية تؤدّي إلى اللاأدرية. ولكن تُشيرُ تعليقات هاكسلي على هذه المحاضرات إلى أنّه لم يكن يعتبر هذه المسألة مُغلقةً بشكلٍ كامل. رغم وجود المعارضة على أفكار داروين، خصوصًا من بعض الواعظين الشهيرين، إلا أنّ المسعى المعرفيّ الواسع لفهم كُلٍّ من ردّة الفعل الشعبية والأكاديمية عليها قد أظهرَ مستوىً أعلى بكثير من الدعم الديني لداروين ممّا كان يُفترض سابقًا[105].

لم يقتصر هذا الدعم الموجَّه لداروين على كنيسة إنكلترا. ظهرَ في هذا الوقت اهتمامٌ مُتزايدٌ بفِكر داروين في شمال أمريكا، حتّى في أوساط الفئات الدينية الأكثر تحفُّظًا التي كان يُحتمل أن يُتوقّع منها المعارضة. يُمكن أن نجد مثالًا ممتازًا على هذا التويم الإيجابي لفكر داروين في آراء بنجامين وارفيلد (1851-1921) الذي يُعتبَر بنحوٍ واسعٍ أهمَّ عالِم لاهوت أمريكي في أواخر القرن التاسع عشر. رغم أنّه امتلك منظورًا دينيًا بروتستانتيًا مُحافِظًا، إلا أنّ وارفيلد قد أوضحَ دعمَه لمفهوم التطوُّر البيولوجي[106]. بينما اعتبرَ داروين أنّ عملية التطوُّر تعتمدُ على تغيُّرات الصدفة التي تُحدِّد مبادئ عامَة مصيرَها اللاحق، احتجَّ وارفيلد أنّه من المناسب تمامًا النظر إلى عملية التطوُّر على أنّها مُنقادة للتدبير الإلهي.

في الواقع، قُبِلت النظرية على نحوٍ واسعٍ مُفاجئ في مذهب الأصولية المبكِّر في شمال أمريكا. استمدَّتْ هذه الحركة اسمَها من سلسلةٍ من المنشورات القصيرة تحت عنوان «الأصول» التي صدرت في الفترة الممتدّة بين 1912 إلى 1917 [107]. ألّف جايمز أور أحد تلك المقالات الأصولية. احتجَّ أور على أنّ التطوُّر «أصبح يُعرَف بلا شيء غير اسمٍ جديدٍ لـ’الخلق‘، إلا أنّ القوّة الإبداعية تعملُ الآن من الداخل عوضًا عمّا كانت عليه في المفهوم القديم، على نحوٍ خارجيٍ قابلٍ للقولبة»[108]. رغم أنّه كان مُعاديًا لمفهوم داروين حول التغيّرات العشوائية، كان أور واضحًا في أنّه يسهلُ النظر إلى عملية الانتقاء الطبيعي من نَواحٍ مُتناغمة مع الإيمان المسيحي.

يُمكن أيضًا أن نقف هنا لكي نتناول آراء رونالد فيشر، أحد أهمّ علماء بيولوجيا التطوُّر في القرن العشرين[109]. كثيرًا ما يُطلَق على فيشر، الذي لاحظَ دوكينز إنجازاته النظرية الكثيرة، لقب أب التركيب الدراويني الجديد. رغم أنّه كان شخصًا مُنعزلًا نوعًا ما، إلا أنّ فيشر كان مُستعدًا تمامًا للتدخُّل في الجدال حينما يعتقدُ أنّ الحقيقة العلمية تتعرّض للخطر. يتّضحُ تمامًا من مُحاضرةٍ ألقاها في كنيسة كلية غونفيل وَكِيس في كامبريدج في العام 1947 أنّه لم يكن يعتقد أنّ الداروينية الجديدة تقتضي الإلحاد (أو حتّى اللاأدرية):

«في نظر الإنسان المتديِّن بشكلٍ تقليدي، الشيء الجديد الجوهريّ الذي قدّمته نظرية تطوُّر الحياة العضوية هو أنّ الخلقَ لم ينتهِ كليًا منذ زمنٍ بعيدٍ في الماضي، ولكنّه ما زال مُستمرًا في ثنايا أجَلِه المدهش. وفقًا للغة سِفر التكوين، ما زلنا نعيش في اليوم السادس، ربما في وقتٍ مُبكّرٍ بعض الشيء في الصباح، ولم يتنحَّ الفنّانُ الإلهيّ عن عمله بَعد ويُعلن أنّه ’جيد للغاية‘. ربما يحصلُ ذلك فقط حينما تُصبح الصورة الناقصة جدًّا [التي صنعها] الله أكثر أهليةً على إدارة شؤون الكوكب الذي يتحكّم به [الله]»[110].

أشارَ ستيفن جاي غولد بشكلٍ صائب إلى أنّ العديد من أنصار الداروينية المتصدّرين يُعرّفون أنفسَهم بأنّهم مُتديِّنين، ولم يجدوا مُشكلةً في ذلك[111]. كما لاحظَ غولد، فإنّ أيَّ إشارةٍ إلى أنّ نظرية التطوُّر الداروينية هي إلحادية بالضرورة تنأى بعيدًا عن أهلية العلوم الطبيعية وتضلّ طريقها إلى مجالٍ لا يُمكن فيه تطبيق المنهج العلميّ. وإن تمّ تطبيقُ المنهج، فيُساء تطبيقه. وعليه، يحتجُّ غولد أنّ تشارلز داروين كان لاأدريًا (حيث خسِرَ مُعتقداته الدينية بعد الرحيل المأساوي لابنته المفضَّلة)، بينما عالِمة النباتات الأمريكية البارزة آيسا غراي التي دافعتْ عن الانتقاء الطبيعي وألّفت كتابًا عنوانه «داروينيانا» كانت مسيحيةً مُتديِّنة.

يُواصِل غولد أنّه في وقتٍ أقرب عهدًا، كان تشارلز والكوت (1850-1927) مُكتشف أحافير طفل برجيس مُقتنعًا بالداروينية، وبالدرجة نفسها كان مسيحيًا صلبًا يعتقدُ أنّ الله قدَّرَ الانتقاء الطبيعي لبناء تاريخ الحياة وفقًا لخططه وغاياته. وفي وقتٍ أحدث من ذلك، أظهرَ «أعظم مُناصري التطوُّر في جيلنا» موقفَين مُختلفَين جذريًا حول وجود الله: كان جورج غايلورد سيمپسون (1902-1984) لاأدريًا إنسانيًا، بينما كان ثيودوسيوس دوبزانسكي أرثودوكسيًا روسيًا مؤمنًا. كما يستنتجُ غولد: «إمّا أنّ نصف زملائي هم حمقى بشكلٍ هائل، أو أنّ علم الداروينية مُتناغمٌ تمامًا مع المعتقدات الدينية التقليدية –ومتناغم بشكلٍ مُساوٍ مع الإلحاد». ويبدو أنّ هذا، باختصار، هو المكان الذي انتهى فيه الجدال. يُمكن أن تُعتبَر الداروينية مُتناغِمة مع المعتقدات الدينية التقليدية، اللاأدرية، والإلحاد. كلُّ شيءٍ يعتمدُ على كيفية تعريف هذه المصطلحات. الجدال نفسه أخّاذ، ويفتحُ كثيرًا من الأسئلة المهمة حول حدود المنهج العلميّ، وتفسير الكتاب المقدّس، والقاعدة البرهانية للإيمان، والانتقال من النظريات العلمية إلى الرؤى الكونية، وتاريخ البيولوجيا. يستحيلُ أن ندرس أو أن نتدّخل في هذه الجدالات من دون أن يُوجَّه إلينا التحدّي ونُستحثّ للتفكير ببعض قضايا الحياة العظيمة.

ولكن رغم أنّ الجدال جديرٌ بالاهتمام للغاية وأخّاذ فكريًّا، إلا أنّه غير حاسم دينيًا. يُقدِّمُ دوكينز الداروينية كطريقٍ فكريٍ سريعٍ نحو الإلحاد، ولكن في الواقع، يبدو أنّ المسار الفكري الذي وضعه دوكينز يعلق عند اللاأدرية. وبعد تعطُّله، يبقى هناك. ثمّة ثغرة منطقية كبيرة بين الداروينية والإلحاد، ويبدو أنّ دوكينز يُفضِّل أن يسدّ الفجوة من خلال فنّ الخطابة وليس البرهان. إذا أردنا الوصول إلى استنتاجاتٍ ثابِتة، ينبغي أن نصلَ إليها على أُسُسٍ أخرى. مَن يقولُ لنا بشكلٍ جدّيٍ عكسَ ذلك عليه أن يشرحَ الكثير.

قائمة المصادر والمراجع

1. “Creation, Evolution, and Thomas Aquinas”. Revue des questions scientifiques 171 (2000).

2. “Darwin Triumphant: Darwinism as Universal Truth”. A Devil’s Chaplain.

3. “Teleological Explanations vs. Teleology”. History and Philosophy of the Life Sciences 20 (1998).

4. Aidan Nichols, From Newman to Congar. Edinburgh: Clark, 1990.

5. Alister E. McGrath, “Evangelicalism and Science”. The Oxford Handbook of Evangelical Theology, 434–48. Oxford University Press, 2010.

6. Alister E. McGrath, A Fine-Tuned Universe: The Quest for God in Science and Theology. Louisville, KY: Westminster John Knox Press, 2009.

7. Alister E. McGrath, Darwinism and the Divine: Evolutionary Thought and Natural Theology. Oxford: Wiley-Blackwell, 2011.

8. Arnold J. Toynbee, Civilization on Trial. London: Oxford University Press, 1948.

9. Asa Gray, “Scientific Worthies: Charles Robert Darwin”. Nature 10, no. 240 (1874).

10. Augustine, De Genesi ad litteram, V.iv.11.

11. Bernard Kleeberg, “God-Nature Progressing: Natural Theology in German Monism”. Science in Context 20 (2007).

12. Brian Martin, “Social Construction of an ‘Attack on Science’”. Social Studies of Science 26 (1996).

13. Charles Darwin, Origin of the Species. London: John Murray, 1872.

14. Charles Kingsley, “The Natural Theology of the Future.” Westminster Sermons. London: Macmillan, 1874.

15. Charles Raven, John Ray, Naturalist. Cambridge: Cambridge University Press, 1950.

16. Christopher F. J. Martin, Thomas Aquinas: God and Explanations. Edinburgh University Press, 1997.

17. Climbing Mount Improbable.

18. David N. Livingstone and Mark A. Noll, “B. B. Warfield (1851–1921): A Biblical Inerrantist as Evolutionist.” Isis 91 (2000).

19. David N. Livingstone, “B. B. Warfield, the Theory of Evolution and Early Fundamentalism”. Evangelical Quarterly 58 (1986).

20. David N. Livingstone, Darwin’s Forgotten Defenders: The Encounter between Evangelical Theology and Evolutionary Thought. Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1987.

21. David T. Morgan, “Benjamin Franklin: Champion of Generic Religion.” Historian 62 (2000).

22. Dawkins, “A Survival Machine”.

23. Dena Pedynowski, “Science(s): Which, When and Whose? Probing the Metanarrative of Scientific Knowledge in the Social Construction of Nature.” Progress in Human Geography 27 (2003).

24. Don O’Leary, Roman Catholicism and Modern Science: A History. New York: Continuum, 2006.

25. Donald D. Clayton, Principles of Stellar Evolution and Nucleosynthesis. New York: McGraw-Hill, 1968.

26. Donald Fleming, “Charles Darwin, the Anaesthetic Man”. Victorian Studies 4 (1961).

27. Ernst Mayr, “The Multiple Meanings of ‘Teleological’.” History and Philosophy of the Life Sciences 20 (1998).

28. Ernst Mayr, Toward a New Philosophy of Biology: Observations of an Evolutionist. Cambridge, MA: Harvard University Press, 1988.

29. Etienne Gilson, The Christian Philosophy of St. Thomas Aquinas. Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 1994.

30. Eugene V. Koonin and Yuri I. Wolf, “Is Evolution Darwinian or/and Lamarckian?” Biology Direct (November 11, 2009).

31. Fergal McGrath, The Consecration of Learning; Lectures on Newman’s Idea of a University. Dublin: Gill, 1962.

32. Frances M. Young, “Adam and Anthropos: A Study of the Interaction of Science and the Bible in Two Anthropological Treatises of the Fourth Century”. Vigiliae Christianae 37 (1983).

33. Francis Darwin, ed., The Life and Letters of Charles Darwin. London: John Murray, 1887, vol. 2, 201.

34. Francisco J. Ayala, “Teleological Explanations in Evolutionary Biology.” Philosophy of Science 37 (1970).

35. Frank Burch Brown, “The Evolution of Darwin’s Theism”. Journal of the History of Biology 19 (1986).

36. Frank Burch Brown, The Evolution of Darwin’s Religious Views. Macon, GA: Mercer University Press, 1986.

37. Frank H. Westheimer, “Why Nature Chose Phosphates”. Science 235 (1987).

38. Frederick Temple, The Relations between Religion and Science. London: Macmillan, 1885.

39. Friedrich Waismann, The Principles of Linguistic Philosophy. London: Macmillan, 1965.

40. Geoffrey Rowell, Hell and the Victorians: A Study of the Nineteenth-Century Theological Controversies Concerning Eternal Punishment and the Future Life. Oxford: Clarendon Press, 1974.

41. George Marsden, Fundamentalism and American Culture: The Shaping of Twentieth Century Evangelicalism 1870–1925. Oxford University Press, 1980.

42. Guy Barry, “Lamarckian Evolution Explains Human Brain Evolution and Psychiatric Disorders”. Frontiers in Neuroscience (November 26, 2013).

43. H. H. Odom, “The Estrangement of Celestial Mechanics and Religion.” Journal of the History of Ideas 27 (1966).

44. Howard R. Murphy, “The Ethical Revolt against Christian Orthodoxy in Early Victorian England.” American Historical Review 60 (1955).

45. Huxley, “An Episcopal Trilogy”.

46. James E. Force, “The Breakdown of the Newtonian Synthesis of Science and Religion: Hume, Newton and the Royal Society”. Essays on the Context, Nature and Influence of Isaac Newton’s Theology, 143–63. Dordrecht: Kluwer, 1990.

47. James Orr, “Science and Christian Faith.” The Fundamentals. Los Angeles: Bible Institute of Los Angeles, 1917, vol. 1.

48. James R. Jacob and Margaret C. Jacob, “The Anglican Origins of Modern Science: The Metaphysical Foundations of the Whig Constitution.” Isis 71 (1980).

49. James R. Moore, The Post-Darwinian Controversies: A Study of the Protestant Struggle to Come to Terms with Darwin in Great Britain and America, 1870–1900. Cambridge: Cambridge University Press, 1979.

50. Jane E. Ruby, “The Origins of Scientific ‘Law’.” Journal of the History of Ideas 47 (1986).

51. Joan Fisher Box, R. A. Fisher: The Life of a Scientist. New York: Wiley, 1978.

52. John F. Cornell, “Newton of the Grassblade? Darwin and the Problem of Organic Teleology”. Isis 77 (1986).

53. John Gascoigne, “From Bentley to the Victorians: The Rise and Fall of British Newtonian Natural Theology.” Science in Context 2 (1988).

54. John Hedley Brooke and Ian McLean, eds., Heterodoxy in Early Modern Science and Religion. Oxford University Press, 2006.

55. John Hedley Brooke, “‘Laws Impressed on Matter by the Creator’? The Origins and the Question of Religion.” The Cambridge Companion to the “Origin of Species,” 256–74. Cambridge University Press, 2009.

56. John Hedley Brooke, “Darwin and Victorian Christianity.” The Cambridge Companion to Darwin, 192–213. Cambridge University Press, 2003.

57. John Hedley Brooke, “The Relations between Darwin’s Science and His Religion.” Darwinism and Divinity. Oxford: Blackwell, 1985.

58. John Hedley Brooke, Science and Religion: Some Historical Perspectives. Cambridge: Cambridge University Press, 1991.

59. John Henry Newman, The Idea of a University. London: Longmans, Green & Co, 1907.

60. Josiah Parsons Cooke, Religion and Chemistry. New York: Scribner’s Sons, 1880, 265.

61. Juli Peretó, Jeffrey L. Bada, and Antonio Lazcano, “Charles Darwin and the Origin of Life.” Origins of Life and Evolution of the Biosphere 39, no. 5 (2009).

62. Kevin Mongrain, “The Eyes of Faith: Newman’s Critique of Arguments from Design.” Newman Studies Journal 6 (2009): 68–86.

63. Liane M. Gabora, “Self–Other Organization: Why Early Life Did Not Evolve through Natural Selection.” Journal of Theoretical Biology 241 (2006).

64. Life and Letters of Darwin, vol.

65. Lisa M. Zeitz, “Natural Theology, Rhetoric, and Revolution: John Ray’s Wisdom of God, 1691–1704.” Eighteenth Century Life 18 (1994): 120–33;

66. Luke Davidson, “Fragilities of Scientism: Richard Dawkins and the Paranoid Idealization of Science.” Science as Culture 9 (2000).

67. Margaret J. Osler, Divine Will and the Mechanical Philosophy: Gassendi and Descartes on Contingency and Necessity in the Created World. Cambridge: Cambridge University Press, 1994.

68. Martin Mahner and Mario Bunge, Foundations of Biophilosophy. Berlin: Springer, 1997.

69. Matthew D. Eddy, “The Rhetoric and Science of William Paley’s Natural Theology.” Theology and Literature 18 (2004).

70. Mayr, Toward a New Philosophy of Biology.

71. McGrath, Darwinism and the Divine.

72. Michael D. Smith, The Origin of Stars. London: Imperial College Press, 2004, especially.

73. Michael J. McKeough, The Meaning of the Rationes Seminales in St Augustine. Washington: Catholic University of America Press, 1926.

74. Michael Ruse, “Darwinism and Atheism: A Marriage Made in Heaven?” Think 2, no. 6 (2004).

75. Michael Ruse, Darwin and Design: Does Evolution Have a Purpose? Cambridge, MA: Harvard University Press, 2003.

76. Moshe Szyf, “Lamarck Revisited: Epigenetic Inheritance of Ancestral Odor Fear Conditioning.” Nature Neuroscience 17 (2014).

77. Newman, Idea of a University.

78. Noel K. Roberts, “Newman on the Argument from Design.” New Blackfriars 88 (2007).

79. Patrick Forterre, Jonathan Filée, and Hannu Myllykallio, “Origin and Evolution of DNA and DNA Replication Machineries.” The Genetic Code and the Origin of Life, 145–68. New York: Kluwer Academic, 2004.

80. Patrick Sherry, Spirit and Beauty: An Introduction to Theological Aesthetics. Oxford: Clarendon Press, 1992.

81. Pietro Corsi, Science and Religion: Baden-Powell and the Anglican Debate. Cambridge: Cambridge University Press, 1988.

82. R. A. Fisher, “The Renaissance of Darwinism.” The Listener 37 (1947): 1001.

83. R. S. S. Baden Powell, Essays on the Spirit of the Inductive Philosophy. London: Longman, Brown, Green and Longmans, 1855.

84. Ralph E. Colp, To Be an Invalid: The Illness of Charles Darwin. Chicago: University of Chicago Press, 1977.

85. Randal Keynes, Annie’s Box: Charles Darwin, His Daughter and Human Evolution. London: Fourth Estate, 2001.

86. Richard Dawkins, “A Survival Machine.” The Third Culture, 75–95. New York: Simon & Schuster, 1996.

87. River out of Eden, 133.

88. Scott Mandelbrote, “The Uses of Natural Theology in Seventeenth-Century England.” Science in Context 20 (2007).

89. St. George Mivart, On the Genesis of Species. New York: Appleton & Co., 1871.

90. Stephen Baxter, Ages in Chaos: James Hutton and the Discovery of Deep Time. New York: Forge, 2004.

91. Stephen Jay Gould, “Impeaching a Self-Appointed Judge”. Scientific American 267 (1992).

92. Steven A. Benner, Alonso Ricardo, and Matthew A. Carrigan, “Is There a Common Chemical Model for Life in the Universe?” Current Opinion in Chemical Biology 8 (2004).

93. Tarsicius van Bavel, “The Creator and the Integrity of Creation in the Fathers of the Church”. Augustinian Studies 21 (1990).

94. The Autobiography of Charles Darwin 1809–1882. London: Collins, 1958.

95. The Letters and Diaries of John Henry Newman, vol. 25.

96. Thomas H. Huxley, “An Episcopal Trilogy”. Science and Christian Tradition: Essays, 126–59. London: Macmillan, 1894.

97. Thomas H. Huxley, “On the Reception of the Origin of Species.” Life and Letters of Darwin, vol. 2.

98. Thomas H. Huxley, Lay Sermons, Addresses, and Reviews. London: Macmillan, 1870.

99. Timothy Larsen, Crisis of Doubt: Honest Faith in Nineteenth-Century England. Oxford: Oxford University Press, 2006.

100. U. C. Knoepflmacher, Religious Humanism and the Victorian Novel: George Eliot, Walter Pater, and Samuel Butler. Princeton, NJ: Princeton University Press, 1970.

101. Umberto Eco, The Aesthetics of Thomas Aquinas. London: Radius, 1988.

102. What Makes Biology Unique? Considerations on the Autonomy of a Scientific Discipline. Cambridge University Press, 2004.

103. William E. Carroll, “Aquinas on Creation and the Metaphysical Foundations of Science”. Sapientia 54 (1999).

104. William Paley, Natural Theology: or, Evidences of the Existence and Attributes of the Deity. London: Faulder, 1809.

105. William Paley, Works. London: Wm. Orr & Co., 1849.

106. William Sweet, “Paley, Whately, and ‘Enlightenment Evidentialism’”. International Journal for Philosophy of Religion 45 (1999).

107. www.darwinproject.ac.uk.



[1](*)- مؤرخ ومثقف لاهوتي من أيرلندا الشمالية، ، حاصل حاليا على أستاذية أندرياس إدريوس في العلم والدين في كلية اللاهوت والدين في جامعة أكسفورد.

ـ المصدر:

McGrath, Alister E., "The Blind Watchmaker: Evolution and the Elimination of God?", Dawkins' God: From The Selfish Gene to The God Delusion, Wiley & Sons Ltd, 2015, 86 -119.

- ترجمة: هبة ناصر.


[2]- The Blind Watchmaker, ix–x.


[3]- راجع:

William Sweet, «Paley, Whately, and «Enlightenment Evidentialism»». International Journal for Philosophy of Religion 45 (1999): 143–66;

Matthew D. Eddy, «The Rhetoric and Science of William Paley’s Natural Theology». Theology and Literature 18 (2004): 1–22.

[4]- The Blind Watchmaker, 21.


[5]- «Darwin Triumphant: Darwinism as Universal Truth». A Devil’s Chaplain, 78–90.


[6]- للاطّلاع على شرعيّة توظيف هذا المصطلح في هذا السياق، راجع:

Dena Pedynowski, «Science(s): Which, When and Whose? Probing the Metanarrative of Scientific Knowledge in the Social Construction of Nature». Progress in Human Geography 27 (2003): 735–52.


[7]- للاطّلاع على مثالٍ توضيحي، راجع:

Luke Davidson, «Fragilities of Scientism: Richard Dawkins and the Paranoid Idealization of Science».Science as Culture 9 (2000): 167–99.

للاطّلاع على ردٍّ أعمّ لما بعد الحداثة على الانتقاد العلميّ للتفسيرات الثقافية للعلم الطبيعي، راجع:

Brian Martin, «Social Construction of an «Attack on Scienc»». Social Studies of Science 26 (1996): 161–73.


[8]- يُمكن العثور على دراسةٍ ممتازة حول هذه القضية في الكتاب التالي:

Michael Ruse, Darwin and Design: Does Evolution Have a Purpose? Cambridge, MA: Harvard University Press, 2003.


[9]- The Blind Watchmaker, 43.


[10]- Climbing Mount Improbable, 64.


[11]- م.ن، ص126-179.


[12]- Richard Dawkins, «A Survival Machine». The Third Culture, 75–95. New York: Simon & Schuster, 1996.


[13]- Dawkins, «A Survival Machine», 85–6.


[14]- Michael Ruse, «Darwinism and Atheism: A Marriage Made in Heaven?» Think 2, no. 6 (2004): 51–62.


[15]- راجع على سبيل المثال:

Eugene V. Koonin and Yuri I. Wolf, «Is Evolution Darwinian or/and Lamarckian?» Biology Direct (November 11, 2009): 4:42;

Guy Barry, «Lamarckian Evolution Explains Human Brain Evolution and Psychiatric Disorders».Frontiers in Neuroscience (November 26, 2013).

[16]- نموّ الحساسية تجاه الروائح هو مثالٌ جيد على ظاهرةٍ يُمكن تفسيرها بشكلٍ معقولٍ ضمن نموذجٍ لاماركي:

Moshe Szyf, «Lamarck Revisited: Epigenetic Inheritance of Ancestral Odor Fear Conditioning». Nature Neuroscience 17 (2014): 2–4.


[17]- راجع على سبيل المثال:

Patrick Forterre, Jonathan Filée, and Hannu Myllykallio, «Origin and Evolution of DNA and DNA Replication Machineries». The Genetic Code and the Origin of Life, 145–68. New York: Kluwer Academic, 2004.


[18]- Liane M. Gabora, «Self–Other Organization: Why Early Life Did Not Evolve through Natural Selection». Journal of Theoretical Biology 241 (2006): 443–50.


[19]- Juli Peretó, Jeffrey L. Bada, and Antonio Lazcano, «Charles Darwin and the Origin of Life». Origins of Life and Evolution of the Biosphere 39, no. 5 (2009): 395–406.


[20]- Steven A. Benner, Alonso Ricardo, and Matthew A. Carrigan, «Is There a Common Chemical Model for Life in the Universe?» Current Opinion in Chemical Biology 8 (2004): 672–89.


[21]- راجع الدراسة الكلاسيكية التالية:

Frank H. Westheimer, «Why Nature Chose Phosphates». Science 235 (1987): 1173–8.


[22]- Josiah Parsons Cooke, Religion and Chemistry. New York: Scribner’s Sons, 1880, 265.


[23]- Donald D. Clayton, Principles of Stellar Evolution and Nucleosynthesis. New York: McGraw-Hill, 1968, 70–2.

للاطّلاع على مُعالجةٍ تفصيلية حول مسألة «الضبط الدقيق»، راجع:

Alister E. McGrath, A Fine-Tuned Universe: The Quest for God in Science and Theology. Louisville, KY: Westminster John Knox Press, 2009.


[24]- للاطّلاع على تلخيصٍ ممتاز للنظريات الحالية حول التشكُّل النَجميّ، راجع:

Michael D. Smith, The Origin of Stars. London: Imperial College Press, 2004, especially 31–136.


[25]- River out of Eden, 133.


[26]- The Blind Watchmaker, 46–51.


[27]- م.ن.، ص47.


[28]- Friedrich Waismann, The Principles of Linguistic Philosophy. London: Macmillan, 1965, 60.


[29]- The Blind Watchmaker, 50.


[30]- Climbing Mount Improbable, 75.


[31]- للاطّلاع على ما سوف يأتي، راجع:

Etienne Gilson, The Christian Philosophy of St. Thomas Aquinas. Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 1994.


[32]- راجع الدراسات المهمة التالية:

William E. Carroll, «Aquinas on Creation and the Metaphysical Foundations of Science». Sapientia 54 (1999): 69–91;

«Creation, Evolution, and Thomas Aquinas». Revue des questions scientifiques 171 (2000): 319–47.

[33]- River out of Eden, 133.


[34]- Thomas H. Huxley, Lay Sermons, Addresses, and Reviews. London: Macmillan, 1870, 301.


[35]- راجع:

Francis Darwin, ed., The Life and Letters of Charles Darwin. London: John Murray, 1887, vol. 2, 201.


[36]- Asa Gray, «Scientific Worthies: Charles Robert Darwin». Nature 10, no. 240 (1874): 79–81.


[37]- Francisco J. Ayala, «Teleological Explanations in Evolutionary Biology». Philosophy of Science 37 (1970): 1–15;

«Teleological Explanations vs. Teleology». History and Philosophy of the Life Sciences 20 (1998): 41–50.

[38]- راجع:

Martin Mahner and Mario Bunge, Foundations of Biophilosophy. Berlin: Springer, 1997, 367–76;

Ernst Mayr, «The Multiple Meanings of ‘Teleological’». History and Philosophy of the Life Sciences 20 (1998): 35–40.

[39]- Ernst Mayr, Toward a New Philosophy of Biology: Observations of an Evolutionist. Cambridge, MA: Harvard University Press, 1988, 38–66;

What Makes Biology Unique? Considerations on the Autonomy of a Scientific Discipline. Cambridge University Press, 2004, 39–66.

[40]- Mayr, Toward a New Philosophy of Biology, 59.


[41]- م.ن، ص44-45.


[42]- للاطّلاع على الخلفية، راجع:

Margaret J. Osler, Divine Will and the Mechanical Philosophy: Gassendi and Descartes on Contingency and Necessity in the Created World. Cambridge: Cambridge University Press, 1994.


[43]- The Blind Watchmaker, 4–6.


[44]- Lisa M. Zeitz, «Natural Theology, Rhetoric, and Revolution: John Ray’s Wisdom of God, 1691–1704». Eighteenth Century Life 18 (1994): 120–33;

Scott Mandelbrote, «The Uses of Natural Theology in Seventeenth-Century England». Science in Context 20 (2007): 451–80.

[45]- James R. Jacob and Margaret C. Jacob, «The Anglican Origins of Modern Science: The Metaphysical Foundations of the Whig Constitution». Isis 71 (1980): 251–67.


[46]- راجع على سبيل المثال:

Umberto Eco, The Aesthetics of Thomas Aquinas. London: Radius, 1988;

Patrick Sherry, Spirit and Beauty: An Introduction to Theological Aesthetics. Oxford: Clarendon Press, 1992.

[47]- للاطّلاع على بعض التأمّلات، راجع:

John Hedley Brooke, Science and Religion: Some Historical Perspectives. Cambridge: Cambridge University Press, 1991.


[48]- راجع:

Charles Raven, John Ray, Naturalist. Cambridge: Cambridge University Press, 1950, 83.


[49]- راجع الدراسة الدقيقة التالية:

H. H. Odom, «The Estrangement of Celestial Mechanics and Religion». Journal of the History of Ideas 27 (1966): 533–58.


[50]- James E. Force, «The Breakdown of the Newtonian Synthesis of Science and Religion: Hume, Newton and the Royal Society». Essays on the Context, Nature and Influence of Isaac Newton’s Theology, 143–63. Dordrecht: Kluwer, 1990.


[51]- John Gascoigne, «From Bentley to the Victorians: The Rise and Fall of British Newtonian Natural Theology». Science in Context 2 (1988): 219–56.


[52]- William Paley, Works. London: Wm. Orr & Co., 1849, 25.


[53]- م.ن.


[54]- للاطّلاع على بيانٍ تفصيلي، راجع:

Alister E. McGrath, Darwinism and the Divine: Evolutionary Thought and Natural Theology. Oxford: Wiley-Blackwell, 2011, 85–142.


[55]- Charles Darwin, Origin of the Species. London: John Murray, 1872, 164.


[56]- The Blind Watchmaker, 5.


[57]- نيومان في رسالة إلى ويليام روبرت براونلو، 13 نيسان 1870، في المصدر التالي: The Letters and Diaries of John Henry Newman, vol. 25, 97. للاطّلاع على مزيدٍ من الملاحظات على نيومان والاحتجاجات المبنيّة على التصميم، راجع:

Noel K. Roberts, «Newman on the Argument from Design». New Blackfriars 88 (2007): 56–66;

Kevin Mongrain, «The Eyes of Faith: Newman’s Critique of Arguments from Design». Newman Studies Journal 6 (2009): 68–86.

[58]- John Henry Newman, The Idea of a University. London: Longmans, Green & Co, 1907, 450–1.

للاطّلاع على الخلفية، راجع:

Fergal McGrath, The Consecration of Learning; Lectures on Newman’s Idea of a University. Dublin: Gill, 1962.


[59]- Newman, Idea of a University, 454.


[60]- James R. Moore, The Post-Darwinian Controversies: A Study of the Protestant Struggle to Come to Terms with Darwin in Great Britain and America, 1870–1900. Cambridge: Cambridge University Press, 1979.


[61]- R. S. S. Baden Powell, Essays on the Spirit of the Inductive Philosophy. London: Longman, Brown, Green and Longmans, 1855.
للاطّلاع على تحليلٍ ممتاز حول هذا المفكِّر، راجع:
Pietro Corsi, Science and Religion: Baden-Powell and the Anglican Debate. Cambridge: Cambridge University Press, 1988.
[62][3]- راجع:
Stephen Baxter, Ages in Chaos: James Hutton and the Discovery of Deep Time. New York: Forge, 2004.
[63][1]- راجع:
McGrath, Darwinism and the Divine, 219–22.
[64][2]- راجع:
Aidan Nichols, From Newman to Congar. Edinburgh: Clark, 1990.
[65]- للاطّلاع على هذا، راجع:
Tarsicius van Bavel, «The Creator and the Integrity of Creation in the Fathers of the Church».Augustinian Studies 21 (1990): 1–33.
[66]- Arnold J. Toynbee, Civilization on Trial. London: Oxford University Press, 1948, 55.
[67]- راجع:
Frances M. Young, «Adam and Anthropos: A Study of the Interaction of Science and the Bible in Two Anthropological Treatises of the Fourth Century». Vigiliae Christianae 37 (1983): 110–40.
[68]- من المهم أن نميّز الكتاب الناضج الكامل «المعنى الحرفيّ للتكوين» (401-415) عن الكتاب الأقدم غير الكامل «التفسير الحرفيّ للتكوين: كتاب غير مكتمل» (393-394). جميع الإشارات في هذا الفصل هي إلى الكتاب الناضج الكامل.
[69]- راجع:
Michael J. McKeough, The Meaning of the Rationes Seminales in St Augustine. Washington: Catholic University of America Press, 1926.
[70]- Augustine, De Genesi ad litteram, V.iv.11.
[71]- Ibid, VI.vi.10–11; IV.xvi.27.
[72]- Ibid, V.iv.11.
[73]- Ibid, V.xx.41–2.
[74]- Ibid, VI.xi.19.
[75]- Ibid, VI.xi.18.
[76]- Ibid, VI.xiii.23.
[77]- للاطّلاع على الوظيف اللاحق لعباراتٍ مهمة من قبيل quasdam certas leges («قوانين محدّدة ثابة»)، راجع:
Jane E. Ruby, «The Origins of Scientific ‘Law’». Journal of the History of Ideas 47 (1986): 341–59.
[78]- William Paley, Natural Theology: or, Evidences of the Existence and Attributes of the Deity. London: Faulder, 1809, 427–34.
[79]- Charles Kingsley, «The Natural Theology of the Future». Westminster Sermons. London: Macmillan, 1874.
كما أوغسطين، اعتبر كينغسلي أنّ هذه العملية يتمّ توجيهها من قِبل العناية الإلهية.
[80]- St. George Mivart, On the Genesis of Species. New York: Appleton & Co., 1871, 281.
للاطّلاع على النقاش، راجع:
Don O’Leary, Roman Catholicism and Modern Science: A History. New York: Continuum, 2006, 78–93.
[81]- Frederick Temple, The Relations between Religion and Science. London: Macmillan, 1885, 115.
[82]- Christopher F. J. Martin, Thomas Aquinas: God and Explanations. Edinburgh University Press, 1997, 181.
[83]- راجع على سبيل المثال:
John Hedley Brooke, «The Relations between Darwin’s Science and His Religion». Darwinism and Divinity. Oxford: Blackwell, 1985, 40–75;
Frank Burch Brown, The Evolution of Darwin’s Religious Views. Macon, GA: Mercer University Press, 1986;
John Hedley Brooke, «Darwin and Victorian Christianity». The Cambridge Companion to Darwin, 192–213. Cambridge University Press, 2003.
[84][2]- راجع:
www.darwinproject.ac.uk.
[85]- ربما قد مُنحت «أزمة الإيمان» هذه كثيرًا من الأهمية. راجع:
Timothy Larsen, Crisis of Doubt: Honest Faith in Nineteenth-Century England. Oxford: Oxford University Press, 2006.
[86][4]- راجع:
Frank Burch Brown, «The Evolution of Darwin’s Theism». Journal of the History of Biology 19 (1986): 1–45.
من المثير للاهتمام مُقارنة آراء داروين مع فكرة «الألوهية العامة» الموجودة في كتابات بنجامين فرانكلين: David T. Morgan, «Benjamin Franklin: Champion of Generic Religion». Historian 62 (2000): 723–9. مع أنّ بنجامين فرانكلين قد وجد صعوباتٍ مع المفهوم المسيحي حول الله، إلا أنّه لم يكن مُلحدًا.
[87]- من المثير للاهتمام أن نذكر عدد العلماء الذين امتلكوا آراء دينية كانت ابتداعية، ولو إلى درجةٍ ما. راجع الدراسات المهمة المجموعة في الكتاب التالي:
John Hedley Brooke and Ian McLean, eds., Heterodoxy in Early Modern Science and Religion. Oxford University Press, 2006.
[88]- Life and Letters of Darwin, vol. 1, 304.
[89]- للاطّلاع على دراسةٍ حول أسباب مرض داروين الذي اتّسم بحالاتٍ مُتقطِّعة من «الإثارة والارتعاش العنيف ونوبات التقيؤ»، راجع:
Ralph E. Colp, To Be an Invalid: The Illness of Charles Darwin. Chicago: University of Chicago Press, 1977.
[90]- تمّ توثيق هذا الأمر بطريقةٍ جميلة في الكتاب التالي:
Randal Keynes, Annie’s Box: Charles Darwin, His Daughter and Human Evolution. London: Fourth Estate, 2001.
[91]- Donald Fleming, «Charles Darwin, the Anaesthetic Man». Victorian Studies 4 (1961): 219–36.
[92]- رسالة إلى آيسا غراي بتاريخ 22 أيار 1860.
Life and Letters of Darwin, vol. 2, 310–12.
[93]- U. C. Knoepflmacher, Religious Humanism and the Victorian Novel: George Eliot, Walter Pater, and Samuel Butler. Princeton, NJ: Princeton University Press, 1970.
[94]- للاطّلاع على نظرةٍ عامة ممتازة حول هذا الاشمئزاز الأخلاقي، راجع:
Geoffrey Rowell, Hell and the Victorians: A Study of the Nineteenth-Century Theological Controversies Concerning Eternal Punishment and the Future Life. Oxford: Clarendon Press, 1974.
[95]- The Autobiography of Charles Darwin 1809–1882. London: Collins, 1958, 87.
[96]- م.ن.
[97]- راجع هنا مؤلّفاتٍ كالمقالة التالية:
Howard R. Murphy, «The Ethical Revolt against Christian Orthodoxy in Early Victorian England». American Historical Review 60 (1955): 800–17.
[98]- راجع التحليل الوارد في المقالة التالية:
John Hedley Brooke, «‘Laws Impressed on Matter by the Creator’? The Origins and the Question of Religion». The Cambridge Companion to the «Origin of Species», 256–74. Cambridge University Press, 2009.
[99][2]- راجع:
John F. Cornell, «Newton of the Grassblade? Darwin and the Problem of Organic Teleology».Isis 77 (1986): 405–21.
[100]- راجع:
Bernard Kleeberg, «God-Nature Progressing: Natural Theology in German Monism». Science in Context 20 (2007): 537–69.
[101]- Life and Letters of Darwin, vol. 2, 312.
[102]- Thomas H. Huxley, «On the Reception of the Origin of Species». Life and Letters of Darwin, vol. 2, 202.
[103]- النصّ موجود في المقالة التالية:
Thomas H. Huxley, «An Episcopal Trilogy». Science and Christian Tradition: Essays, 126–59. London: Macmillan, 1894.
[104]- Huxley, «An Episcopal Trilogy», 129.
[105]- راجع على سبيل المثال:
David N. Livingstone, Darwin’s Forgotten Defenders: The Encounter between Evangelical Theology and Evolutionary Thought. Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1987.
[106]- راجع:
David N. Livingstone, «B. B. Warfield, the Theory of Evolution and Early Fundamentalism». Evangelical Quarterly 58 (1986): 69–83;
David N. Livingstone and Mark A. Noll, «B. B. Warfield (1851–1921): A Biblical Inerrantist as Evolutionist». Isis 91 (2000): 283–304;
Alister E. McGrath, «Evangelicalism and Science». The Oxford Handbook of Evangelical Theology, 434–48. Oxford University Press, 2010.
[107]- للاطّلاع على التفاصيل، راجع:
George Marsden, Fundamentalism and American Culture: The Shaping of Twentieth Century Evangelicalism 1870–1925. Oxford University Press, 1980.
[108]- James Orr, «Science and Christian Faith». The Fundamentals. Los Angeles: Bible Institute of Los Angeles, 1917, vol. 1, 334–47.
(المؤلِّف هو من وضعَ التأكيدات).
[109]- راجع كتاب السيرة الممتاز من تأليف ابنته:
Joan Fisher Box, R. A. Fisher: The Life of a Scientist. New York: Wiley, 1978.
[110]- R. A. Fisher, «The Renaissance of Darwinism». The Listener 37 (1947): 1001.
[111]- Stephen Jay Gould, «Impeaching a Self-Appointed Judge». Scientific American 267 (1992): 118–21.