البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

"سلافوي جيجيك" المهاجر إلى صحراء الإيديولوجيا

الباحث :  أحمد عبد الحليم عطية
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  3003
تحميل  ( 416.189 KB )
تتناول هذه المقالة واحدة من أبرز الأطروحات حول الإيديولوجيا والتطورات المفهومية والنقدية التي طرأت عليها، وذلك من خلال مقاربة أفكار الفيلسوف السلوفاكي المعاصر "سلافوي جيجيك".

ميزة أفكار هذا الفيلسوف انه قدم ولا يزال يقدّم رؤى مفارقة حول الإيديولوجيا ومنزلتها في عالم القيم، ودورها الذي لا ينضب في إعادة صوغ هذا العالم على نحو ينطوي على قدر وازن من الغرابة...

هنا رؤية إجمالية في سيرته الذاتية وأبرز أفكاره.

المحرر


يمثل الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك (Slawoy Zizek 1949) ظاهرة فلسفية فريدة في القرن الحادي والعشرين، تركيبة معقدة من عناصر متعددة من الجدل الهيجلي والتحليل النفسي اللاكاني والماركسية وما بعد الحداثة. شغل القراء في لغات متعددة ومتصفحي الإنترنت وبدأ يغزو الأسواق الثقافية العربية منذ سنوات. ترجمت بعض كتبه والعديد من مقالاته وحواراته وما كتب عنه إلى لغتنا، ومع هذا لا تزال معرفتنا به محدودة.

يعدُّ "سلافوي جيجيك"، المثال الأساسي من أوروبا الشرقية لفيلسوف ما بعد حداثي. هو شخصيته مفارقة ومركبة بين المرشد الروحي والشخص المزعج، ورجل الاستعراض. وبأسلوب ما بعد حداثي نموذجي، يقفز عمله بجرأة فوق الحواجز بين الثقافتين العالية والشعبية.

ومع أن كتبه ما بعد حداثية في المنهج، إلا أنها واضحة الأسلوب. جيجيك لا يعتبر ما بعد حداثي على الإطلاق. في الحقيقة، هو شديد القسوة في نقد تيارات ما بعد الحداثة، كما يظهر ذلك في كتابه الأخير[2].
يطلق عليه بعضهم ـ وبسبب من شهرته الواسعة التي تعود إلى كتاباته المتعددة وظهوره في الكثير من البرامج التليفزيونية وحضوره عبر مواقع التواصل الاجتماعي ـ «ألفيس الفلسفة» أو«نجم الروك الأكاديمي». يوصف بأنه «الفيلسوف المتعولم» و«الفيلسوف الأكثر خطورة في الغرب». لا تتسم احاديثه ونقاشاته بالجدية الفكرية التقليدية، ولكنها ساخرة ونادراً ما تتضمن التزمت الشديد في الفكر. نشر كتابه الأول في بداية الثمانينيات الذي يركز في تفسير الفلسفة الهيغلية والماركسية من منظور نظرية (لاكان) للتحليل النفسي، تحت عنوان «موضوع الإيديولوجيا المتسامية»[3]. جيجيك،على عكس الكثيرين من مفكري القرن العشرين، يتميز بأسلوبه غير التقليدي للمفكر أو الفيلسوف، لا يعتمد الكتابة على الورق وحسب، بل على تقنيات التواصل الحديثة أيضاً لنشر أفكاره الفلسفية. يرى أهمية خاصة في العودة إلى التحليل الديكارتي، والإيديولوجيا الالمانية (شيلنج، وكانط، وهيغل)، والروح الثورية لدى ماركس ولينين، والتحليل النفسي اللاكاني، في تحليل الاوضاع السياسية والاجتماعية الآنية. وخاصة العودة إلى الفلسفة الكلاسيكية، ولا سيما لهيغل، التي يعتبرها حاجة ملحة بالنسبة إليه، حيث تقوم أعماله الاساسية على هذه العودة والمراجعة.

يعود بنا جيجيك إلى موضوعات طرحت في منتصف القرن العشرين، وأهمها موضوع الإيديولوجيا وفق التفسير الالتوسيري واللاكاني، بدءاً من نقده لعرض ماركس الشاب للإيديولوجيا بوصفها وعياً زائفاً، ويعلل نقده بأن الإيديولوجيا يحكمها اللاشَّعور واللاوَّعي[4].

وظيفة الفلسفة، بالنسبة إلى جيجيك، ليست في تقديم الأجوبة، بل في طرح الاسئلة الصحيحة، كما يظهر في مناظرته الشهيرة مع الفيلسوف الفرنسي المعاصر "آلان باديو" في كتابهما «الفلسفة والحاضر». يقول في هذا الصدد: «في القرن العشرين ربما حاولنا ان نغير العالم بسرعة شديدة، وقد حان الوقت لتفسيره».

جيجيك هو أكثر الفلاسفة غزارة ومقروئية في عصرنا؛ كما يذكر جميل خضر، عميد البحث العلمي في جامعة بيت لحم، في حوار معه عن مجموعته الأخيرة «جيجيك الآن: منظورات معاصرة في دراسات جيجيك»، التي شاركته في تحريره د. مولّي روثنبرج، ونشرته دار نشر بوليتي (2013). يرى خضر أن أهم ما يميز جيجيك هو منهجه الفريد الذي يجمع النقد الإيديولوجي الماركسي للرأسمالية العالمية بالتحليل النفسي المتعلق بالرغبة والفانتازيا عن طريق المقاربة المادية الديالكتيكية الهيغيلية. كتب بكثافة (وبعدة لغات) عن سلسلة مذهلة من الموضوعات التي تضمنت الرأسمالية العالمية، التحليل النفسي، الأوبرا، الشمولية، العلوم المعرفية، العنصرية، حقوق الإنسان، الدين، السياسة. ظهر في المشهد الثقافي عام 1989 مع نشر كتابه الأول بالإنجليزية «أغراض الإيديولوجية المتسامية»، في سلسلة كان يحررها الفيلسوف الأرجنتيني إرنستو لاكلاو وشانتال موف.

كتب، وتُرجِمَت كتبه إلى أكثر من عشرين لغة. لا يمكننا ان نتجاهل نقده للدراسات ما بعد الكولونياليةـ دراسات الأدب التي كتبها كُتّاب من البلاد المُستَعمَرة سابقاً، ولا نقده لليبرالية الجديدة وارتباطها بالرأسمالية العالمية. وما يجعله على هذا الجانب من الشهرة والانتشار هو معرفته الموسوعية بالثقافة الجماهيرية التي يستخدمها لشرح مفاهيمه الفلسفية الصعبة. وأما أسلوبه المعادي للنخبوية يجعله محبباً للعديد من القراء، فقد ترجم ثلاثة من كتبه إلى العربية: (سنة الأحلام الخطيرة) الذي ترجمه أمير زكي ونشرته (دار التنوير) عام 2013، و(مرحباً في صحراء الواقع) الذي ترجمه أحمد حسان وصدر عن دار العين عام 2011. وأما الثالث فقد ترجم مرتين هو «تراجيدية في البداية، هزلية في النهاية» ترجمة غادة الإمام.

ويشير المتابعون إلى آراء جيجك في القضايا العربية ولا سيما لجهة اهتمامه بالواقع السياسي في العالم العربي، والسياق الجيوسياسي الذي يتكشف فيه بالعلاقة بين هذا الواقع وبين النظام الرأسمالي العالمي. رافضاً النظريات الليبرالية السهلة عن «صراع الحضارات» (هنتنغتون) و«نهاية التاريخ» (فوكوياما). وكل التفكير الاستشراقي المتعلق بالعرب والإسلام، وبدلاً من ذلك يفضل ربط الأحداث المضطربة في العالم العربي والإسلامي والإفراطات الاجتماعية ـ السياسية بالإمبريالية الأوروـ أميركية وبالديناميات المتضمنة في الرأسمالية العالمية[5].

يتناول جيجيك العنف الذي زلزل كيان العالم العربي، ويبحث بعمق عن أسبابه التي يربطها دائماً بالنظام الرأسمالي العالمي، لإظهار كيفية تمويهها لحقيقة الصراع الرئيس ضمن الرأسمالية العالمية. وفي الوقت الذي يلوم فيه تبديات معاداة السامية في العالم العربي، إلا أنه يدين أيضا الأبعاد المعادية للسامية في الصهيونية والصهيونية المسيحية. يقرأ الأصولية الدينية، سواء كانت مسيحية أو إسلامية أو يهودية، ليس كعَرَض للثقافة أو العقل المرضي الموروث، بل كنتاج مصاحب للرأسمالية العالمية. بالتالي فهو يدين بن لادن وبرايفيك الارهابي الدنماركي في الوقت نفسه. ومن الموضوعات الأخرى التي يناقشها في عمله ما يتعلق بأفول اليسار العربي. ويقرر أن السياسات الغربية في الحرب الباردة شجعت النظم الشمولية ودمرت الحركات اليسارية[6].

تحدث عن أحلام وإخفاقات الربيع العربي في كتابه «سنة الأحلام الخطيرة»، في سياق الحركات الراديكالية. ومثل هذه الحركات الأخرى، فشل الربيع العربي لعدم وجود رؤية راديكالية أو ثورية تستهدف تغيير طبيعة العلاقات الاجتماعية تحت سيطرة الرأسمالية العالمية. وبشكل مثير للاهتمام، أصرّ جيجيك على أن هناك قيمة راديكالية حقيقية للإسلام لم تستخدم بشكل ملائم في الربيع العربي. ولكنه يوضح دوماً أن الإسلام السياسي لا يعني الفاشية الإسلامية التي لا يتعاطف معها[7].

جل وظّف جيجيك جانباً مهماً من أعماله لنقد إيديولوجيا الإبادة الصهيونية وتبدياتها في السياسة والثقافة الإسرائيلية. فكتب بشكل مكثف عن التطهير العرقي الصهيوني وإرهاب المستوطنين، وكيف يسيطر هذا على التمثيلات الإسرائيلية للاحتلال الاستعماري (همتساف). وكتب عن الروابط الصهيونية بألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، ما عرَّضه لاتهامات بأنه «معادٍ السامية». ولكن جيجيك لم يقع بسهولة فريسة أمام التكتيكات الصهيونية التي تستخدم التهديد والابتزاز. وهو يحاول إظهار أن سياسات الفصل العنصري الإسرائيلية تشوِّه واقع الرأسمالية العالمية باسم الدين أو المواطنة أو الهوية العرقية[8].

يراهن "سلافوي جيجيك" على التغيير الراديكالي، ويعتبر نفسه شريكاً للفيلسوف الفرنسي "آلان باديو" في تحرير النظريات الفلسفية من الأقبية الأكاديمية، لكي تساهم في قراءة معضلات حياتنا اليومية. ولعل ما يساعده على إتقان هذه المهمة هو تناغمُ قدرته الفطرية الفائقة مع مهاراته في توظيف الفلسفة وعلم النفس لبناء تصور مغاير للأشياء وصدم كل ما هو مألوف في الثقافة السائدة.

أكثر ما يزعج مثقفي الغرب هو الاعتراف بأن وراء الشعوب العربية ثورة عربية أصيلة لأنهم يعتبرون أي تغيير تطالب به المجتمعات الدولية يجب ألا يخرج من نطاق الديمقراطية الغربية الرأسمالية، أما سوى ذلك لا يسمونه تغييراً، وإنما مجرد تعصب قومي أو تطرف ديني.

وهو يرى، كما سنرى، ان الخطر الأكبر يكمن في تصديق وهم الديمقراطية الغربية وتحديد مبادئها الرأسمالية كصيغة نهائية لكل حركة تغيير تطالب بها الشعوب، وكل ذلك بهدف إجهاض أي محاولة لتغيير أسسها بشكل جذري[9].

جيجيك بين الوهم والواقع

يرى إيغلتون أنه إذا كان بوسع الفلاسفة والأكاديميين أن يكونوا مُبهمين، فإن مروِّجي الأفكار Popularizers يرمون للإيضاح التام. وبإصراره على تعرية المتناقضات، فلدى جيجيك كلا الأسلوبين معاً. ولئن كان يصعب هضم بعض أفكاره؛ فإن أسلوبه في إيصالها لا يخلو من الوضوح. كتابه "الارتداد المطلق" Absolute Recoil، مليء بالأمور العصيّة على الفهم، بيد أن كتابه الآخر علةٌ في الفردوس Trouble in Paradise، ينبئ بالوضع السياسي في مصر والصين وكوريا وأوكرانيا.

يرى جيجيك العالم مُقتسَماً بين الرأسمالية الليبرالية والأصولية، بكلماتٍ أخرى، بين أولئك الذين يؤمنون قليلاً وأولئك الذين يؤمنون كثيراً. وعوض الانحياز لأحد المعسكرين، نراه يلقي الضوء على التواطؤ الخفي بينهما. فالأصولية هي المعتنق القبيح لأولئك الذين يشعرون بالفشل والإذلال من قبل الغرب الذي لطالما بدَّد أحلامهم. والدرس الوحيد من الثورة المصرية، الذي يشدد عليه في كتابه "علة في الفردوس"، هو استمرار تجاهل الليبراليين المعتدلين لليسار الراديكالي «فإنما هم بذلك يولّدون موجة أصولية تكتسح كل شيء».

إن هذين المؤلَّفين الأخيرين، مثل بقية أعماله، يناوئان قيم ما بعد الحداثة في حين تتسم أفكار في آخر أعماله بالخلط بين الواقع والوهم. وأسوة بمعلمه جاك لاكان يظهر جيجيك نفسه كخليط مثير بين الوهم والواقع[10].

يكتب جيجيك حول العديد من المواضيع مثل: الرأسمالية، الإيديولوجيا، الأصولية، العنصرية، التسامح، التعددية الثقافية، حقوق الإنسان، البيئة، العولمة، حرب العراق، الثورة والثورات العربية، الطوباوية، الشمولية، ما بعد الحداثة، ثقافة البوب والأوبرا والسينما، اللاهوت السياسي والدين. جيجيك الذي ربما لم يكن معروفاً في الثقافة العربية قبل 2011، إلا في دوائر ضيقة، غير أن اهتمامه بثورات «الربيع العربي» وكتابته لمقالات عدة في صحف عالمية حول الثورة التونسية والمصرية والسورية، إضافة إلى كتاباته القديمة حول العراق، كل ذلك جعل القرّاء والكتّاب العرب يلتفتون إلى هذا الفيلسوف المثير للجدل، ويترجمون بعض كتبه ومقالاته في بعض الدوريات والمواقع الالكترونية.

في كتابه «تراجيدية في البداية» ينطلق من الأزمة الحالية كبداية، ثم ينتقل بالتدرّج إلى «مسائل متعلقة» عن طريق كشف ظروفها وعلاقاتها. يقدم الفصل الأول تحليلاً لمأزقنا، بتلخيص الجوهر اليوتوبي للإيديولوجيا الرأسمالية التي حددت كلاً من الأزمة وتصوراتنا لردود الأفعال عليها. يسعى الفصل الثاني لتحديد سمات حالتنا التي تفتح الفضاء على صيغ جديدة من التطبيقات العملية. ينقد جيجيك الإيديولوجيا الليبرالية، التي تعمل على تعطيل الإمكانيات الثورية في العالم الذي نعيش. هو يعتبر أن المستقبل سيكون هيغلياً، وأكثر راديكالية مما يظن فوكوياما، ثم يقدم مجموعة من الأسئلة ذات المغزى: لكن ما حظوظ الهيجلية اليسارية اليوم؟ وهل يمكننا أن نعتمد على انفجارات طوباوية لحظية مثل كومونة باريس؟ هل الشيوعية إذاً مدانة بإبقاء الفكر الطوباوي لعالم ممكن آخر، الفكرة التي تدرك نهايتها بالضرورة في فشل أو إرهاب ذاتي التدمير؟ هل علينا أن نبقى مؤمنين بالمشروع البنياميني (نسبة إلى فالتربنيامين) عن الثورة النهائية التي سوف تعود من خلال تكرار هزائم الماضي؟ أسئلة كثيرة في كتاب زاخر بالمعلومات والأفكار المدهشة، ولعل أبرز فكرة تعكس واقعنا هي تلك المقولة التي ينقلها جيجيك عن فالتر بنيامين: «كل صعود للفاشية يشهد على ثورة فاشلة».

في كتاب «سنة الأحلام الخطيرة» نقرأ توصيفه لعام 2011، حيث يعاين الثورات التي اندلعت في بقاع متعددة من العالم، وبشكل رئيس «الربيع العربي» و»وول ستريت»، لكن قبل الوصول إلى تلك الحركات التي يقاربها، فإنه أولاً سيمضي في معاينة المتغير والمتبدل في الرأسمالية المعاصرة، مستعيناً بالعديد من الوسائل لشرح وتحليل المشكلات المطروحة في كتابه، إذ اعتمد على النظريات الفلسفية والسياسية والاقتصادية إلى جانب تجليات الثقافة الشعبية كأفلام هوليوود والمسلسلات الأميركية، بجانب الأدب والشعر العالمي. وفي سياق درسه للتحولات التي طرأت على الماركسية، لا يخلو جهده من مناقشة لآراء هيغل وماركس وكانط ودريدا وجيل دولوز وكافكا، وإحالات إلى الموسيقى والأوبرا.

جيجيك اليوم، مشغول بأمرين أساسيين يمكن لكل الكتاب أن يُبنى عليهما ألا وهما الكيفية التي ستترجم فيها اللحظة التحررية إلى نظام اجتماعي جديد. وبالانتقال إلى «الربيع العربي» فهو سيبدأ من طبق خزفي في متحف الفن الإسلامي في الدوحة، وصولاً إلى استعراضه للراديكالية الثورية التي يحتكم إليها الإسلام، مستعرضاً تاريخ القرامطة وثورة الزنج، ويرى أن «الانتفاضات الشعبية في الدول العربية، وكما هو واضح. تنتهي دائماً بانتصار الإسلام المسلّح». أما سوريا فيصف وضعها بالغموض قائلاً: «على الرغم من أن النظام الحاكم لا يستحق التعاطف، فإن أوراق الاعتماد السياسية ـ الإيديولوجية لمعارضيه بعيدة الوضوح»[11].

صحراء الإيديولوجيا

وسوف نعرض مفهوم الإيديولوجيا عند جيجيك، رغم صعوبة ذلك، لأن تعرية الإيديولوجيا السائدة وكشف الغطاء عنها وفضحها من أهم القضايا التي انشغل بها الفيلسوف على امتداد كتاباته وعبر عنها بوسائل متعددة. ويمكن القول دون مبالغة إنها اللحن الأساسي الذي يسري في عمله.

يقتبس طارق الخواجي تلك العبارات الصادمة لبيان موقف جيجيك من الإيديولوجيا كما عبر عنها سينمائياً فيما كتبه تحت عنوان «الدليل إلى الإيديولوجيا : اخلع نظارتك أو ألبسها لتبصر ـ الفيلسوف "سلافوي جيجيك" متحدثاً في الفيلم». يقول روديبايبر في دور نادا: “إما أن تضع تلك النظارات وإمّا أن أطعمك صندوق القمامة»، فيرد عليه جيجيك: «لكني معتاد بالفعل على الأكل من صندوق القمامة، هذا الصندوق يدعى إيديولوجية». هكذا نشهد افتتاح فيلم صوفي فينيس الثاني “The Pervert’s Guide to Ideology”، بعد فيلمها الأول على المنوال نفسه تقريباً «دليل المنحرف إلى السينما. The Pervert’s Guide to Cinema” في رحلة طويلة إلى حد ما، تبلغ حوالى الساعتين وربع تقريباً، تأخذنا صوفي فينيس من خلال فن السينما وبصحبة الفيلسوف الفذ "سلافوي جيجيك"، نحو نقاط بالغة العمق والحيوية في استيعابالإيديولوجيا الكامنة في العديد من التحف السينمائية المهملة وأفلام شباك التذاكر، مع العديد من النماذج المعاصرة لمنتجات استهلاكية أو فنون أخرى مصاحبة[12].

وجيجك من بين المفكرين القلائل الذين ما زالوا يؤمنون بدور الفكر الماركسي في اقتراح بديل راديكالي للإيديولوجيا الليبرالية وللنظام الرأسمالي نفسه؛ هنا يؤكد جيجيك على ضرورة العودة إلى التفكير في عالمنا المعاصر وتفسيره، فالمهمة الآن هي مساءلة النظم الإيديولوجية المسيطرة. ذلك أن إخفاق الحركات المعادية والمناهضة للنظام الرأسمالي وهيمنته الاقتصادية والمالية، قد كشف عن قصور في فهم آليات اشتغال هذا النظام وسر قوته واستمراره، وعن ضعف في تطبيق الإيديولوجيات “الثورية» في الواقع العملي. يشدد جيجيك على فعالية الإيديولوجية الليبرالية وتجددها. حيث الإنسان يخدع ذاته واعيا، كما لو كان قد ارتضى بما يحصل عليه ويعلن عنه رضاه، من دون النظر إلى شكله ومضمونه.

وليست الإيديولوجية زائفة لأنها لا تطابق الواقع المادي فهي تقوم بذلك خير قيام. فالمشكلة ماثلة في الواقع المادي نفسه، الذي أخذ الشكل الغريب لوهم متموضع، وفي مضاعفة هذا الوهم داخل عقولنا. أي إن الإيديولوجية ليست شيئا يؤثر في أفكارنا وحدها، بل هي شيء يحدث لجملة وجودنا بما فيه الممارسة المادية. ولا ينبغي تصورها باعتبارها إساءة إحاطة بالواقع، بل باعتبارها تشويهاً في الشكل الذي اتخذه الواقع نفسه، وكما يقول جيجيك في الموضوع الجليل للإيديولوجيا (1989): «ليست الإيديولوجية ببساطة «وعياً زائفاً»، تمثيلاً وهمياً للواقع بل إن ذلك الواقع نفسه هو الذي يتعين تعقله باعتباره متخذا «طابعا إيديولوجيا»، فالطابع الإيديولوجي هو واقع اجتماعي يتضمن وجوده نفسه عدم معرفة المشاركين فيه ما يتعلق بجوهره. فالطابع الإيديولوجي ليس الوعي الزائف بوجود اجتماعي بل ذلك الوجود بمقدار ما يدعمه الوعي الزائف» (هوكس: الإيديولوجية 2000 ص 216).

يحدد لنا جيبجك كيفية عمل الإيديولوجيا الليبرالية لمواجهة منتقديها وخصومها، وهو يرى أن الإيديولوجيا الليبرالية تشتغل على ثلاث جبهات أساسية، هي الأكثر خطورة:

أولاً: جبهة حق النقد الحر دون المساس بالإجماع : يُؤسَّس حق النقد على حرية القول والكتابة، بشرط أن تفعل ما تفعله من دون أن تنقض بشكل فعال أو تعيق الإجماع السياسي المهيمن. لكن هذه الحرية المشروطة، لا ترتكز على قوانين أو محظورات، بل هي مجموعة من التحذيرات منتقاة بعناية من التاريخ الرسمي، جرى صقلها وتشذيبها في المؤسسات الإيديولوجية والثقافية الليبرالية حتى أصبحت «حقائق مطلقة»، مدعومة بإجماع سياسي وإعلامي. هكذا يدرك البشر تمام الإدراك أنه توجد إيديولوجيا كونية غالبة تخدعهم، تستغلهم، لكنهم لا يتخلون عنها.

ثانياً: جبهة البحث الأكاديمي ومنع التفكير: وفيها يؤكد جيجيك أن المحافظة على الهيمنة الديمقراطية ـ الليبرالية، اليوم تجري بواسطة هذه القاعدة غير المكتوبة، قاعدة «عدم التفكير».

ثالثاً: جبهة احتواء اليسار: إن هذه الجبهة الثالثة، هي نموذج انتصار النظام الرأسمالي وإيديولوجيته الليبرالية، ذلك أن الصراع التاريخي بين المنظومتين الإيديولوجيتين اللتين طبعتا الحرب الباردة قد أفضتا إلى إعلان المنتصر. فمنذ بداية التسعينيات من القرن العشرين، أخذ اليسار يتراجع عن مواقع احتلها إيديولوجياً وسياسياً منذ نجاح «ثورة أكتوبر”، بل أصبح يتخذ المواقع الفارغة.

يراهن جيجيك على المستبعدين، وعلى التضامن الكوني الذي يمكن أن تبديه فصائل اجتماعية معادية للرأسمالية، من نسويي وبيئيي ومزارعي العالم الثالث. فهذا «التضامن الأصيل” حيوي في ما يسمى بـ «عصر ما بعد السياسة» حيث يجرى خفض السياسة إلى مجرد تنازلات تفاوضية ومعاملات إدارية. ما تتقاسمه هذه الفصائل الاجتماعية هو وعيها بالدمار المحتمل، الذي يمكن أن يتضمن الإبادة الذاتية للبشرية نفسها، وشعورها بالإختزال إلى مواضيع مجردة تخلومن كل محتوى جوهري، ومطرودة من جوهرها الرمزي، ومزروعة في بيئة غير صالحة للحياة، فنحن جميعاً مستبعدون من الطبيعة كما من جوهرنا الرمزي[13].

وهنا حديث مغاير حول الإيديولوجيا أيضاً يظهر لنا في كتاب كريستوفر كول عن جيجيك الذي يعد مدخلاً مهماً لفهم أفكار هذا الفيلسوف المثير للجدل قبل قراءة أعماله.

ويبين كول الكتاب، اتفاق جيجيك مع"آلان باديو" في اعتقاده أن المواقف المسيطرة حالياً حول البيئة هي مواقف محافظة جداً، تستخدم الفكرة الساذجة الأقرب للروحانية حول الطبيعة بشكل مضلل. يحوّر جيجيك فكرة ماركس الشهيرة معلناً: «أن البيئة هي أفيون الشعوب الجديد بدلاً من الدين».

يرى جيجيك أن الإيديولوجيات المسيحية والرومانسية لا تزال تحكم الكثير من الأفكار حول الطبيعة، خصوصاً بين الفئات الليبرالية التي تهتم بالبيئة. يتدخل المؤلف هنا ليوضح أنه في تلك الإيديولوجيات ينظر للطبيعة باعتبارها منسجمة وخيِّرة، وتظهر الأرض باعتبارها «الطبيعة الأم» التي ترعانا وتغذينا وتعاملنا بلطف. أما حالياً، فيبدوأن «التوازن الطبيعي» للوجود الحيوي للأرض قد تضرر بشدّة، بالقمامة السامة وارتفاع الحرارة في العالم، وحسب جيجيك ان: «رد الفعل الليبرالي التقليدي حول هذا الإضرار بالبيئة يتمثل: بسوء استخدامنا للمصادر الطبيعية فإننا نستدين من المستقبل ولذلك علينا أن نتعامل مع كرتنا الأرضية باحترام، باعتبارها شيئاً مقدساً دائماً، يجب أن لا يجري الكشف عنه، بل يبقى سراً للأبد». ثم يعود ليفند هذه المقاربة فيقول إنها تشبه الطريقة ذاتها التي تضع فيها الديانات نفسها كسلطة غير قابلة للنقاش من خلال فرض حدود لما يمكن أن نفهمه عن أنفسنا[14].

تركز دورين خوري في دراستها تحت عنوان «سلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة» تركز دورين خوري في نـظريتين لهما دلالة مميزة هذه الأيام: كيف تشتغل الإيديولوجيات واعادة صياغة نظرية الثورة. ترى خوري أن جيجيك يقدم في كتاباته عن الإيديولوجيا، مراجعة اساسية للتعريف الكلاسيكي للإيديولوجيا، يتضح ذلك في العبارة التي يقول فيها «انهم يجهلون عواقب اعمالهم ومع ذلك فهم يمارسونها. بمعنى ان البشر ينساقون بسذاجة مع مسار الرأسمالية غافلين عن كونهم مستغَلّين. يعتقد جيجيك ان هذا التعريف الماركسي التقليدي للإيديولوجيا يعبّر عن آليات تشغيل المجتمع، الا أنه لا يساعدنا كثيراً على فهم سلوك الافراد. ذلك ان الإيديولوجيا تشتغل على مسارات الافراد الغرائزية والنفسانية فمن الأهمية بمكان ان نتوصل إلى صياغة نظرية لتلك المسارات[15].

ينطلق جيجيك من ان تعريف المفكر بيتر سلوترجيك للإيديولوجيا «انهم يعرفون تماماً ما هم فاعلون ومع ذلك فإنهم يفعلونه». هذا التعريف يقلب التعريف الماركسي التقليدي رأساً على عقب لأنه يؤكد ان الشكل الغالب للايديولوجيا ليس هو الوعي الزائف وإنما هو التشكيكية او«مفارقة وجود وعي زائف لكنه متنوّر». يدرك البشر تمام الإدراك انه توجد ايديولوجيا كونية غالبة تخدعهم، وتستغلهم، وما شابه، لكنهم لا يتخلّون عنها. فلسان حال الكائن المتشكك انه ما دام الاثراء غير المشروع يجري تحت حماية القانون فلا جدوى إذاً من معاكسة السلطة.

غير ان العقل التشكيكي لا يأخذ في الاعتبار أهمية «التخييل الإيديولوجي»، اي المستوى حيث الإيديولوجيا تتولى فيه تنظيم الواقع الاجتماعي ذاته، ويؤكد جيجيك ان الوهم الإيديولوجي لا يكون على المستوى الفكري أو المعرفي بقدر ما يجري على مستوى الفعل. والسؤال، هو : اذا كان البشر يدركون انه لا يوجد شيء سحري بشأن المال وانهم على الارجح يتعرضون للاستغلال خلال عملية التبادل بين السلع والمال، فلماذا يستمرون في ممارسة هذا النشاط المجتمعي (اي في «الفعل»؟. ويضيف جيجيك «إن الذي يجهله الناس هو ان واقعهم المجتمعي ذاته، ونشاطهم، يسوقه وهمٌ». اي ان الناس غافلون عن الوهم الناظم لنشاطهم المجتمعي الحقيقي.

«هذه هي الإيديولوجيا في أيامنا. لسنا نؤمن بالديمقراطية اليوم، نسخر منها، ولكننا بطريقة ما نتصرّف وكأنها تؤدي غرضها»، ولكننا اذا استقينا المفهوم الكلاسيكي للايديولوجيا، حيث الوهم يقع في ميدان المعرفة، سوف يبدو مجتمعنا المعاصر على انه مجتمع ما بعد إيديولوجي لأن ما من أحد يأخذ الإيديولوجيا على محمل الجد. غير ان البعد التشكيكي هو في نهاية المطاف الطريقة التي بها نعمي أنفسنا عن «الطاقة التنظيمية للمخيّلة الإيديولوجية»، ولكن حتى لو أبقينا المسافة الساخرة التشكيكية بيننا وبين الأشياء، فإننا ما زلنا «نفعلها”[16].

يتناول جيجيك في كتابه "تراجيدية في البداية، هزلية في النهاية" الأزمة المستمرة التي يحياها العالم الآن بوصفها نقطة بداية، للتوجه بشكل مُتدرّج إلى الموضوعات المتعلقة بها»، وذلك عن طريق كشف وتعرية أسبابها وما يترتب عليها وما يلزم عنها. وهو يشير في الفصل الأول إنها إيديولوجيا...أيها الأحمق. إلى تشخيص وتحليل مأزقنا، واستخلاص الأساس والجوهر اليوتوبيي للإيديولوجيا الرأسمالية، التي تحدد كل من الأزمة وأسلوب إدراكاتنا وتصوراتنا واستجاباتنا لها، أما الفصل الثاني فيحاول أن يموضع أوجه موقفنا الذي يفتح ويفسح مكانا للأشكال الجديدة للعمل الشيوعي. (ص 12) يستشهد "سلافوي جيجيك" بـجاي سورمان Guy Sorman الذي يعده نموذج للإيديولوجي الرأسمالي المعاصر الذي يتفق معه في أنه (ص 23):

وتحت عنوان الأزمة بوصفها علاجاً بالصدمة يتساءل هل ستكون الأزمة المالية العالمية لحظة وعي، ويقظة من حلم؟ ويرى أن الأمر يتوقف على ما ترمز إليه هذه الأزمة، وعلى التفسير الإيديولوجي أو على القصة التي تفرض نفسها وتحديد الإدراك العام بالأزمة. فعندما يتعطل المسار المألوف للأشياء ويتوقف، فإن المجال ينفتح للمنافسة الإيديولوجية (ص 26). بينما الأزمات تحدث زعزعة وخللاً للناس بحيث تنأى بهم عن استقرارهم ورضاهم، وتجبرهم على التساؤل عن أسس حيواتهم؛ فإن الاستجابة الأولى الأكثر تلقائية تكون مفزعة، حيث تقودهم وتوجههم إلى «العودة إلى الأسس»، فالمقدمات والفروض الرئيسية للإيديولوجيا المهيمنة، بمنأى عن وضعها موضع الشك، تكون أكثر ثباتا وتأكيدا بقوة من جديد. فالخطر، إذن، هو أن الانهيار المستمر سوف يستخدم بأسلوب مماثل لما يطلق عليه اسم «عقيدة الصدمة». لقد كتب تاريخ السوق الحرة المعاصر في الصدمات.

ويتسأل جيجيك، "هل يستخدم الانهيار الاقتصادي بوصفه «صدمة» لإبداع الشروط الإيديولوجية لأقصى علاج ليبرالي لهذه الأزمة؟" يضيف: أن الاجتياح لمثل هذا العلاج بالصدمة ينبثق من خلال الجوهر اليوتوبي لعلم الاقتصاد الليبرالي الجديد الحر. إن المهمة المحورية للإيديولوجيا المهيمنة في الأزمة الراهنة هي أن تفرض رواية تلقي اللوم في الإنهيار، ليس على النظام الرأسمالي العالمي، وإنما على الانحرافات الثانوية، والعارضة أو الطارئة[17].

لا نندهش من المباحثة والجدال حول حدود الإيديولوجيا الليبرالية التي تنمو وتزدهر في فرنسا، ولا يعود السبب في ذلك إلى التقليد الدولاني states tradition الذي ارتاب في الليبرالية؛ وإنما يكمن في التوجه الفرنسي نحو الاتجاه الأنجلوسكسوني السائد الذي لا يمكنه من اتخاذ موقف حاسم؛ وإنما يجعله قادراً على الإدراك الأوضح للبنية الإيديولوجية الرئيسية لليبرالية. فإذا بحث المرء عن النسخة الخالصة المكررة ـ المختبرة إكلينيكيا للإيديولوجيا الرأسمالية المعاصرة، فإنه سيحتاج العودة إلى سورمان Guy Sorman.

يشير جيجيك إلى أن سورمان يحقق المطلب الرئيس للإيديولوجيا الليبرالية، التي يجب عليها أن تقنع بما يتعلق بالأزمة المالية العالمية وتتكيف معها، أن تعيد الموقف لوضعه الطبيعي: فقد تبدو الأشياء فظة، ولكن الأزمة ستكون قصيرة الأجل؛ إذا أنها مجرد جزء من دورة عادية للتدمير الإبداعي الذي من خلاله تتقدم الرأسمالية وتتطور.

يرى جيجيك أن الرأسمالية قدمت في حدود تكنيكية، ليس بوصفها علماً؛ وإنما بوصفها شيئا ًما يعمل، إنها لا تحتاج إلى تبرير وتسويغ إيديولوجي، لأن نجاحها في حد ذاته هو تسويغ وتبرير كافٍ لها.هذا الوصف المضاد للإيديولوجية هو خطأ جسيم؛ فمفهوم الرأسمالية الحقيقي والجوهري بوصفها آلية اجتماعية محايدة هو في صميمه إيديولوجيا.

إن النسخة الإيديولوجية للرأسمالية التي تبزغ كشيء مهيمن بمنأى عن الأزمات الراهنة هي تلك الرأسمالية الاقتصادية «المسؤولة اجتماعياً». بينما كان إفساح مكان، في الماضي وفي الحاضر، لنظام السوق الحرة قد كشف مراراً عن نتائج مفزعة.

إن النزعة الإيديولوجية الرئيسية للرأسمالية يمكن أن نطلق عليها اسم «العقل الأداتي»، أو «الاكتشاف التكنولوجي»، أو «الطمع الفردي»، وتكون منفصلة عن الأسباب والمحددات الاقتصادية ـ الاجتماعية العينية وإدراكها بوصفها حياة مستقلة أو بوصفها توجهاً «وجودياً»، ينبغي (ويمكن) التغلب عليه عن طريق مظهر جديد أكثر «روحانية»، تاركاً تلك العلاقات الرأسمالية الحقيقية أو الجوهرية مصونة. ومع ذلك، أفلا تكون الأزمة المادية العالمية التي حدثت في عام 2008 نوعاً من التعليق الساخر على الطبيعة الإيديولوجية لهذا الحلم بالرأسمالية الاقتصادية المسؤولة اجتماعياً وروحانياً[18]؟.

إن الحقبة المعاصرة تعلن عن نفسها دائماً بوصفها فيما بعد ـ الإيديولوجية، هذا الإنكار للإيديولوجيا يعد في حد ذاته برهانا رئيسيا على ارتباطنا بشكل أكثر رسوخاً بالإيديولوجيا أكثر من أي وقت مضى. فالإيدييولوجيا من بين سائر الأشياء الأخرى تعد دوما مجالا للصراع من أجل امتلاك التقاليد القديمة. إن واحدة من أوضح الإشارات على مأزقنا هي ادعاء الامتلاك الليبرالي لمارتن لوثر كينغ، الذي يعد في حد ذاته عملية إيديولوجية مثالية ونموذجية.

وعند إحصاء ضلالات الإيديولوجيا وانحرافاتها، تظهر على خلاف ما تبدو عليه، بوصفها ما يقابلها، أي بوصفها لا-إيديولوجيا، بوصفها قلب هويتنا الإنسانية تحت العلامات الإيديولوجية كلها. وهذا يبين لِمَ يعد كتاب جوناثان ليتل المعنون باسم الرفقاء [صادماً] للغاية، وبوجه خاص بالنسبة للأمان.

ونتيجة ذلك، فإن أحد الأساليب التي تمارس نقد الإيديولوجيا هي أن نبتكر خططا للكشف عن الرياء والمداهنة «للحياة الباطنية» ولانفعالاتها «الصادقة». إن الخبرة التي نملكها عن حياتنا من الداخل أو باطنها، القصة التي نرويها لأنفسنا عن أنفسنا لوصف وتفسير ما نفعله أو نقوم به، تكون كذبة، فالحقيقة تكمن في الخارج، فيما نفعله.

والخطة «لإضفاء النزعة الإنسانية» الإيديولوجية، بمعنى الحكمة المأثورة «الخطأ من طبيعة البشر» هي مفتاح جوهري مكون للحضور الذاتي الإيديولوجي لقوى الدفاع الإسرائيلي. فوسائل الإعلام الإسرائيلية تحب أن تسهب في الحديث عن النقائص والجروح النفسية للجنود الإسرائيليين، فلا يقدمونهم بوصفهم آليات عسكرية كاملة ولا بوصفهم أبطالاً يتفوقون على البشر، وإنما بوصفهم بشراً عاديين ممن أحدثوا الجرح في التاريخ والحرب، وفي بعض الأحيان يخطئون ويفقدون طريقهم ويضلونه. فعلى سبيل المثال، عندما دمرت قوى الدفاع الإسرائيلي في يناير 2003 الاستقرار الأسري لعائلة «إرهابي» مشتبه فيه، فإنهم قاموا ـ حقاً ـ بهذا الأمر بعطف، حتى يتيحوا للأسرة الفرصة أن تخرج أثاثها قبل تدمير البيت بالبلدوزر.

وهكذا كان ينبغي أن يكون الرد الوحيد المناسب للأم: «إذا كنت فعلاً موجوداً إنسانياً مثلي، فلماذا تقوم بما تقوم به حالياً؟» ومن الممكن أن يتحجج الجندي بواجبه فيقول: «أنا لا أحب القيام بهذا الفعل، ولكنه واجبي» وهكذا ينحي الافتراض الذاتي من واجبه جانباً. فإن المغزى في مثل هذه النزعة الإنسانية هي أنها تؤكد الفجوة بين الواقع المعقد للشخص والدور الذي يجب أن يلعبه في مقابل طبيعته الحقيقية[19].

في كتاب بولتانسكي Boltanski وشيابلوChiapello الروح الجديدة للرأسمالية The new Spirit of capitalism. تتحول الرأسمالية وتصير شرعية لكونها مشروعاً مساوياً (يقوم على تكافؤ الفرص). فإنها عن طريق تأكيد التفاعل الشعري الذاتي، والتنظيم الذاتي التلقائي، اغتصبت السلطة من بلاغة الحزب اليساري البعيدة للإدارة الذاتية للعمال، محولة إياها من شعار عدائي ضد الرأسمالي، إلى شعار للرأسمالي.

وما دامت هذه الروح للرأسمالية صارت فيما بعد 1968 تشكل وحدة ثقافية واجتماعية واقتصادية محددة، أي إنَّها تشكل وحدة حقيقية وجوهرية تحقق اسم «ما بعد الحداثة» وتثبتها. فهذا يبين لماذا، إذن، برغم العديد من الانتقادات المبررة التي جعلت من ما بعد الحداثة شكلا جديدا من الإيديولوجيا .أما على مستوى الاستهلاك، فهذه الروح الجديدة هي ما يطلق عليه اسم «الرأسمالية الثقافية»[20].

في الاحتفاظ بالروح الجديدة للرأسمالية، فإن رواية تاريخية ـ إيديولوجية كلية مؤسسة تظهر فيها الاشتراكية بوصفها محافظة، وكهنوتية، وإدارية حكومية، وحسبما يوضح جيجيك أن الدرس المستفاد من عام 1968 هو التالي «وداعاً مستر اشتراكية»، والثورة الحقيقية هي ثورة الرأسمالية الرقمية، التي تعد في ذاتها نتيجة منطقية، وهي «حقيقة» ثورة 1968. إن أحداثها مدونة في موضوع عصري، وعلى نحو أكثر أصالة، ألا وهو «تبديل وتحويل النموذج». إن التوازي والتناظر بين نموذج العقل في السلوكية والنماذج الإيديولوجية السائدة في المجتمع؛ يكون هنا مبيناً. أي إنّ هناك أصداء واضحة بين النزعة الإدراكية في الوقت الراهن ورأسمالية «ما بعد الحداثة».

وعن هذه النقطة الحاسمة (أي منتصف السبعينيات) فإن الاختيار الوحيد المتروك كان هو اختيار مباشر وفظ إلى الفعل، الاندفاع تجاه الواقعي، الذي افترض أشكال ثلاثة رئيسية هي: البحث عن الأشكال القصوى للمتعة الجنسية، والإرهاب السياسي اليساري، وفي نهاية الأمر، التوجه نحو واقع الخبرة الباطنية (المذهب الصوفي الشرقي). فما تتشارك فيه الأشكال الثلاثة معا كان هو الانسحاب من الانخراط السياسي ـ الاجتماعي العيني إلى الاتصال المباشر بالواقع.

كيف يكون هذا المظهر للإيديولوجيا بوصفها ما يقابلها، بوصفها اللا ـ إيديولوجيا، ممكنا؟ إنه يتوقف على تغيير الأسلوب السائد للإيديولوجيا وتحويله: يفترض في عصرنا «ما بعد ـ الإيديولوجية»، أن تعمل الإيديولوجيا بوصفها مقابلة للأسلوب الإشاري أو العلامي التقليدي. ففي الأسلوب الأخير، إن الزيف والكذبالإيديولوجي الذي يؤسس إدراكنا للواقع يهدده إشارات وعلامات «الارتدادات إلى حالة الكبت» ـ إذ يحدث قطعا في نسيج الزيف والكذبالإيديولوجي ـ بينما الأسلوب الفتشي يكون على نحو فعال ومؤثر نوعا من الضد أو الوجه المقابل للإشارة أو العلامة.

يشرح هذا الأسلوب ويفسر المشكل عن طريق تقابل الغموض الإيديولوجي الذي ينطوي على الغموض الفاشستي ـ الشعبي.

وفيما يتعلق بالصراع الإيديولوجي، فهذا يعني أنه ينبغي للمرء أن ينظر بريبة عميقة لأولئك اليساريين، الذين يبرهنون أن الحركات الشعبية للمسلم المتعصب، بوصفها تحررية ومضادة للإمبريالية، ترتكز أساسا «علينا»، وحقيقة أنهم صاغوا برامجهم على في حدود ضد التنوير وضد العالمية، وفي بعض الأحيان يقتربون بوضوح من الاتجاه المضاد للسامية، فإن هذا الصراع الإيديولوجي لا يعد أكثر من كونه نتاجا محيرا من وجودهم الذي لحق ببداهة الصراع. فعندما يقولون إنهم ضد اليهود، فما يقصدونه فعلاً هو أنهم فحسب ضد الاستعمار الصهيوني. وإنما ما يهمنا هو توجههم الإيديولوجي العملي تجاه المشروع التحرري العالمي المرتكز على مبدأ المساواة.(ص 79-80).

في الرأسمالية العالمية المعاصرة، بلغ التطبيع الإيديولوجي مستوى جديداً لم نجد له مثيلاً من قبل، فقلة قليلة من البشر هم أولئك الذين يجرؤون على أن يحلموا بالأحلام اليوتوبية عن التحولات والتغيرات الممكنة. قليل من الأنظمة تعيد ابتكار ذاتها من جديد بوصفها الحامي والمدافع، على نحو أكثر دينامية وفاعلية وتأثيراً عن «رأسمالي جديدة بقيم أسيوية». بمنأى عن إثبات أن عصر اليوتوبيا الإيديولوجي يتوارى خلفنا، فهذه الهيمنة المسلم بها للرأسمالية يساندها، بشكل ملائم، الجوهر اليوتوبيي للإيديولوجيا الرأسمالية. يوتوبيا العوالم المتناوبة المتغيرة قد طهرتها اليوتوبيا المهيمنة، وتنكرت بذاتها بوصفها واقعية برجماتية.(ص 87).

و"من تراجيدية في البداية" هزلية في النهاية ننتقل إلى سنة الأحلام الخطيرة، التي تتناول أحداث 2011.

في 2011 شهدنا (وشاركنا في) سلسلة من الأحداث الصاخبة، من الربيع العربي إلى حركة وول ستريت، ومن اضطرابات المملكة المتحدة إلى جنون برايفيك الإيديولوجي[21]. لقد كانت سنة الأحلام الخطيرة في اتجاهين: أحلام متحررة تحرك المتظاهرين في نيويورك وميدان التحرير، في لندن وأثينا؛ وأحلام هدامة غامضة تدفع برايفيك والشعبويين العنصريين تجاه أوروبا من هولندا حتى المجر. المهمة الأولى للإيديولوجيا المهيمنة كانت تحييد البعد الحقيقي لهذه الأحداث. من المهم أن نصحح الأمور، ونضع أحداث 2011 في السياق الشامل للموقف العالمي؛ لنظهر كيف ترتبط بالعداء المركزي للرأسمالية المعاصرة (ص 7).

فلسفة الربيع العربي

ولكي نتابع تحليلات جيجيك في سنة الأحلام الخطيرة نتوقف عند كتاب :باديو" حول الثورات العربية أو ما أطلق عليه «التاريخ يولد من جديد»؛ والذي صدر عام 2011 بالفرنسية ثم ترجم إلى الإنجليزية وفيه، وضع الفيلسوف رؤيته للربيع العربي. فلقد جعل من الأحداث التي تمثل ظاهرة اجتماعية وسياسية، وحوَّلها مفتاحاً لقراءة تاريخية مركبة أو متعددة المستويات وزوايا النظر.ظاهرة الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي اجتاحت عدداً من الدول العربية وعرفت بـ «الربيع العربي»، يوسّع "باديو" إطارها لتشمل اضطرابات أخرى منها ما شهدته أوروبا وأميركا على مدى العقدين الأخيرين، في باريس أو في لندن أو بعض المدن الأميركية وغير ذلك من المدن الغربية. يرى أن كل تلك الظواهر تحيل إلى متغير كبير يلمس فيه ما يسميه «ولادة التاريخ من جدي». والولادة من جديد مفهوم يحيل مباشرة على ما طرحه فوكوياما حول «نهاية التاريخ». يتحدث "باديو" عن الطريق المسدود الذي وصلت إليه الرأسمالية التي تهيمن على العالم اليوم التي بمقتضى ذلك تكون قد وصلت إلى نهاية تاريخ.

الاضطرابات التي تتحول إلى تاريخية هي التي تحمل أهدافاً لكنها لم تحقق أهدافها بعد.هذه يسميها "باديو" الاضطرابات السياسية، أي التي تحولت إلى فعل سياسي. يقول "باديو" عن اضطرابات تونس ومصر: إضافةً إلى أنها علمتنا أو ذكرتنا بقوانين الانتقال من الاضطراب المباشر إلى الاضطراب التاريخي، فإنها كانت وبسرعة منتصرة إلى حد لا بأس به.

لقد استطاعت ثورات العالم العربي أن تحرك وتغير احتمالات تاريخية، إلى حد أن المعنى الذي ستكتسبه انتصاراتها الأولية بأثر رجعي سيحدد إلى حد بعيد معنى مستقبلنا. فللربيع العربي، في تصور باديو، مستقبله الخاص الذي لم يتضح بعد، وحسب رؤيته، لو كان الغرب الديمقراطي نموذجاً يحتذيه العرب لما قامات التظاهرات في الغرب نفسه.

بعد تقديم وصف مختصر للملامح الرئيسية للرأسمالية اليوم، ينبري جيجيك إلى تحديد شكل الإيديولوجيا المهيمنة، مركزا في الظواهر المقابلة التي ظهرت كرد فعل على التناحرات الاجتماعية. النصف الثاني من الكتاب يناقش الحركتين التحرريتين العظيمتين في 2011، الربيع العربي، واحتلوا وول ستريت (ص 15).

وبالنسبة للانتفاضة في مصر، يفترض جيجيك أنها فعلاً بدأت كثورة للبرجوازية المستأجرة (الشباب والمتعلمون يظاهرون ضد غياب التوجهات)، ولكن سريعاً أصبحت جزءاً من تظاهر أوسع ضد النظام القمعي. ولكن إلى أي مدى حرك التظاهر العمال والفلاحين الفقراء؟ ألا يشير الانتصار الانتخابي للإسلاميين إلى القاعدة الاجتماعية الضيقة للتظاهر العلماني الأصلي؟ (ص 25).

عند جيجيك لا يوجد رابط بين الموقف الاقتصادي ـ الاجتماعي المعطى والإيديولوجيا المرتبطة به، بالتالي يصبح الحديث عن «الخداع» و»الوعي الزائف» بلا معنى، وكأن هناك مستوى من الوعي الإيديولوجي «الملائم» لينغرس في الموقف الاجتماعي ـ الاقتصادي «الموضوعي» ذاته؛ ويمكن القول إنّ كل بناء إيديولوجي هو ناتج من صراع مهيمن يؤسس أو يفرض سلسلة من المكافآت، صراع تكون نتيجته إمكانية تامة، غير مضمونة عن طريق أي مرجعية خارجية كـ«الموقف الاقتصادي ـ الاجتماعي» الموضوعي (ص57).

نتوقف في البداية عند «برايفيك». الشيء الأول الذي يبرز هو كيف يشكل برايفيك عدوه؛ من الخلط بين ثلاثة عناصر (الماركسية، التعددية الثقافية، الإسلامية) كل منها ينتمي إلى فضاء سياسي مختلف: اليسار الماركسي الراديكالي، الليبرالي متعدد الثقافات، الأصولية الدينية الإسلامية. من الموحي بشكل أكبر الطريقة التي يخلط بها تصور برايفيك الذاتي أوراق الإيديولوجيا اليمينية الراديكالية. هو يدافع عن المسيحية ولكنه يظل لا أدريّا علمانيّا، المسيحية بالنسبة له هي مجرد بنية ثقافية تواجه الإسلام.

برايفيك ليس عنصرياً بقدر ما هو معاد للمسلمين: كل كراهيته مركزة في تهديد المسلمين. وهو معاد للسامية لكنه مؤيد لإسرائيل، ما دامت هي خط الدفاع الأول في مواجهة توسع المسلمين (ص 68).

لم يهاجم برايفيك الأجانب أنفسهم، ولكنه هاجم من يفرط في التسامح تجاههم من داخل مجتمعه. المشكلة ليست في الأجانب ولكن في هويّتنا (الأوروبية) الخاصة. على الرغم من أن الأزمة القائمة للاتحاد الأوروبي تبدو كأزمة في الاقتصاد والنظام المالي، فهي في بعدها الأساسي أزمة إيديولوجية سياسية. حتى المظاهرات الأخيرة فالإيدييولوجيا الوحيدة التي كانت قادرة على إثارة الجماهير كانت معتمدة على الحاجة إلى «الدفاع عن أوروبا» ضد الهجرة.( ص70-80)

يبين جيجيك في الفصل الرابع من كتابه «مرحبا في صحراء ما بعد الإيديولوجيا »، أن أحداث 1989-91، أشارت إلى نهاية الإيديولوجيا . وأن عصر المشاريع الإيديولوجية الكبرى انتهى حتمياً، وأن الكارثة الشمولية انتهت وأننا ندخل إلى عصر جديد من السياسة البرجماتية العقلانية. على أي حال فإذا كان الكلام الشائع بأننا نعيش في عصر ما بعد إيديولوجي له أي معنى، فإن هذا المعنى في هذه الاضطرابات العنيفة القائمة، أصبحت ملحوظة.

وواحدة من المخاطر الرئيسية في الرأسمالية، هي أن الرأسمالية عالمية، وتحيط العالم كله، فهي تحافظ على المعنى الدقيق للوضع الإيديولوجي «اللا عالمي»، مجردة الغالبية العظمى من الناس من أي توجه معرفي ذي معنى. الزائف في هذه الرؤية، كما يرى جيجيك، ليس فقط أنها تتجاهل الموقف الاجتماعي اليائس الذي دفع الشباب لمثل هذه الاضطرابات العنيفة، ولكن طريقة رجع صدى هذه الاضطرابات في مقابل فرضيات الإيديولوجيا المحافظة المختبئة ذاتها (ص 100-101).

يعود بنا جيجيك إلى ثورة هاييتي ويرى أن واحدا من منظمي هذه الثورة كان عبداً أسود ومبشراً معروفاً بجون بوكمان Bookman (رجل الكتاب)، ويشير إلى أن هذا الاسم الذي يومئ إلى أنه متعلم، وللمفاجأة الكبرى، فلفظ «الكتاب» لا يشير هنا إلى الكتاب المقدس بل إلى القرآن الكريم(ص 119). ما يجعلنا نسترجع إلى الذهن التقليد العظيم للثورات في الإسلام، خاصة «دولة القرامطة»، وثورة الزنج. وبرغم أن الإسلام يواجه مؤخراً إعلاماً مسيئاً في الغرب، إلا أننا يمكن أن نرى وجود مضمون مختلف تماماً يختبئ تحت سطحه البطريركي.

ما دنا نميل لنجعل الشرق في مواجهة الغرب بمصطلحات القدر والحرية، فالإسلام ـ كما يقول جيجيك ـ يقف في موضع ثالث يتضمن مواجهة مزدوجة، لا الخضوع للقدر الأعمى ولا الحرية لفعل ما يريده المرء، كل منهما يفترض سلفاً مواجهة خارجية مجردة بين المصطلحين، ولكن حرية أعمق لتقرير «اختيار» قدرنا. أحداث 2011 في الشرق الأوسط تظهر بشكل كبير أن هذا الميراث حيٌّ ويقظ، لنجد الإسلام الخيّر فنحن لسنا بحاجة لنعود إلى القرن العاشر، نحن نجده هنا، متكشفاً أمام أعيننا» (ص 121).

نحن لا نحتاج إلى حوار بين الأديان (أو الحضارات)، نحتاج إلى التماسك بين هؤلاء الذين يناضلون من أجل العدالة في الدول الإسلامية، وهؤلاء الذين يشاركونهم النضال نفسه في أي مكان آخر. بكلمات أخرى، فنحن بحاجة إلى تسييس يدعم النضال هنا وهناك وفي أي مكان آخر (ص 124).

وختاماً يخبرنا جيجيك قرب نهاية كتابه، أن أحداث مثل مظاهرات «احتلوا وول ستريت»، الربيع العربي، المظاهرات في اليونان وإسبانيا، وغيرها، لذا يجب أن تقرأ الإشارات القادمة من المستقبل. بكلمات أخرى، علينا أن نلتف حول المنظور التاريخي التقليدي لفهم الحدث من خلال سياقه وأصله. علينا أن نستحضر منظور المستقبل، وأن نتعامل معها كأجزاء محدودة من مستقبل يوتوبي يقبع خامداً في الحاضر كجوهره المختبئ...

---------------------------------------

أحمد عبد الحليم عطية : مفكر وأكاديمي ـ أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة ـ جمهورية مصر العربية.

[2]- يصنف كثير من الكتاب جيجيك وكتاباته على أنها تنمتي إلى ما بعد الحداثة. انظر في ذلك ديفيد هوكس: الإيديولوجية، ترجمة إبراهيم فتحي، المجلس القومي للترجمة، القاهرة 2000 ص215-216

[3]-THESUBLIMEOBJECT OFIDEOLOGY. SLAVOJZrZEK.VERSOLondon NewYork، This editionpublishedbyVerso 2008.

[4]- حوار جميل خضر مع لولوا أبورمضان، جيجيك للعرب، تاريخ النشر 22 فبراير 2016

[5]- جيجيك: سنة الأحلام الخطيرة، ترجمة أمير إسكندر، دار التنوير، بيروت 2013.

[6]- حوار جميل خضر مع لولوا أبورمضان.

[7]- المصدر السابق.

[8]- المصدر السابق.

[9]- "سلافوي جيجيك": بعد الثورات العربية صار التغيير الجذري في العالم ممكنا، موقع: رابطة الكتاب السوريين24 ديسمبر،2013

[10]- تيري إيجلتون: سلافوي جيجك، قراءة العالم بعيون يسارية. فرح عصام موقع: إضاءات18/01/2016 -

[11]- "سلافوي جيجيك"... النيوماركسي «الأكثر خطراً في الغرب» / محمد حجيري، الأحد 3 أيار (مايو) 2015 موقع الأوان.

[12]- طارق الخواجي: الدليل إلى الإيديولوجيا : اخلع نظارتك أو البسها لتبصر!الفيلسوف "سلافوي جيجيك" متحدثاً في الفيلم.

[13]- "سلافوي جيجيك" والميثاق الليبرالي ـ ادريس شرود ـ الإثنين، 25 نيسان / أبريل 2016.

[14]- كريستوفر كول: «مدخل إلى "سلافوي جيجيك"»، صدر الكتاب عن منشورات المتوسط. ترجمة: حسام الدين محمد. وانظر أيضا، أسامة فاروق - See more at: http://www.almodon.com/culture

[15]-دورين خوري،"سلافوي جيجيك": في الإيديولوجيا والثورة، مجلة «بدايات» الثقافية، العدد الثاني ٢٠١٢

[16]- المرجع السابق، نقلا عن:

Zizek، Mapping Ideology، London، Verso، 1994. p. 312.... London Review of Books، August 2012

[17]-جيجيك تراجيدية في البداية هزلية في النهاية، ترجمة غادة الإمام، المجلس القومي للترجمة، القاهرة 2015.

[18]- المرجع السابق، ص 45.

[19]- المرجع السابق، ص 51.

[20]- المرجع السابق، ص 62-63.

[21]- أندرس برايفيك(1979- ) نرويجي معاد للإسلام، وراء تفجيرات أو سلووإطلاق النيران على جزيرة «أوتويا» في 22 يوليو2011، مما نتج عنه قتل 77 شخصا. ويعد الإرهابي المسيحي الأكثر دموية في تاريخ الشعوب.



------------------------------------------------
من سيرته الذاتية
ولد "سلافوي جيجيك" في العاصمة السلوفينية ليوبليانا، حيث درس الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعتها، ونال درجة الدكتوراه في الفلسفة فيها، ثم سافر إلى فرنسا في الثمانينيات حيث نال دكتوراه ثانية في التحليل النفسي من جامعة باريس الثامنة. عين عضواً في الحزب الشيوعي السلوفيني حتى تقديم استقالته في 1988، لينخرط بعد ذلك في عدد من تجمعات وحركات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، ورشح نفسه في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1990 في أول انتخابات ديمقراطية تشهدها سلوفينيا بعد تفكك يوغوسلافيا، عن الحزب الديمقراطي الليبرالي. وعلى الرغم من تعاونه مع الليبراليين بقي جيجيك ملتزماً بالأفكار اليسارية الراديكالية.
بدأ جيجيك اشتغاله الفلسفي خلال الثمانينيات حينما قام بتحرير وترجمة أعمال لفرويد، ألتوسير، وجاك لاكان. ثم ركز اهتمامه في لاكان بشكل خاص، حيث استخدم منهجه في التحليل النفسي في تأويل (ونقد) الفلسفتين الهيجلية والماركسية، هو الشارح الأبرز للفكر اللاكاني. وقد شهدت السنوات القليلة التي برز فيها اسم جيجيك "تقلبات" فكرية في أعماله من شارح لأعمال جاك لاكان، إلى ما بعد الماركسي، وصولا إلى 2001، حينما بدأ ينظر لعودة الشيوعية ويدعو لديكتاتورية البروليتاريا، وقام بالقطع مع رفاقه المثقفين ما بعد الماركسيين ولا سيما إيتيان باليبار، إرنستولاكلاو، وجوديث بتلر، حيث ألف مع لاكلا وكتاباً مهماً هو "الاحتمالية، الهيمنة، الكونية" (2000). وبذلك أصبح هو المثقف اليساري الوحيد الذي يعمل في التنظير لهذه الأفكار الراديكالية، إذا ما استثنينا آلان باديو.
صادق مع نفسه، مخلص لرغباته، كما كتب تيري إيجلتون T. Eaglton تحت عنوان "هل ثمة موضوعٌ على الأرض لم يكن قمحاً لمطحنة جيجيك الثقافية؟" يقول إيجلتون: "سلافوي جيجيك" ظاهرة أكثر من كونه فيلسوفا. والممثِّل لعالِم التحليل النفسي الفرنسي الراحل جاك لاكان. ونجم فيلمين (جيجيك!، ودليل المنحرف إلى السينما)، ويظهر على أحد أغلفة كتبه وهو مستلقٍ على كنبة فرويد تحت صورة فَرْجِ أنثى. مؤلفاته الموضوع السامي للإيديولوجيا، الذات المرهفة، استمتع بأعراضك! وكل ما أردتَ دوماً معرفته عن لاكان (ولكن كنتَ خائفاً من سؤال هتشكوك)، كولاجاتٌ فوضويةٌ من الأفكار، تتراوح من كانط إلى علوم الكومبيوتر، ومن سان أو غسطين إلى أغاثا كريستي. يبدو كأن لا شيء في السماء أو الأرض لم يكن قمحاً لمطحنته الثقافية.
كتبه:
(1)- سنة الأحلام الخطيرة، ترجمة أمير إسكندر، دار التنوير، بيروت 2013.
(2)- مرحباً في صحراء الواقع، ترجمة أحمد حسان، دار العين، القاهرة 2011
(3)- "تراجيدية في البداية هزلية في النهاية"، ترجمة غادة الإمام، المجلس القومي للترجمة، القاهرة 2015
مقالاته:
(1)- عن العنف والديمقراطية، ترجمة كريم محمد. المصدر: مجلة جاكوبن
(2)- مرحبا في صحراء الواقع، جريدة الأيام، العدد 9366 الأحد 30 نوفمبر 2016
(3)- حوار مع جيجيك: الجانب الآخر للعولمة هو انبثاق غير مرئية جديدة، إيرونيوز الإخبارية الدولية.
(4)- عن مجزرة شارلي إيبدو، ترجمة عزة حسون، عن مجلة نيوستاتمنت 1/1/2015 o2publishing.com
(5)- عن الأصولية الدينية والديمقراطية الليبرالية، أحمد الشافعي. عن نيوستاتمنت، موقع 24
(6)- خروج بريطانيا وفرص اليسار الضائعة، ترجمة أمير زكي، عن نيوزويك. المنصة.
(7)- خطاب الفيلسوف الاشتراكي في وول ستريت، ترجمة الأخضر القرمطي، 9/10/2011، مصر المدنية.
(8)- خيار لينين، ترجمة هشام روحانا، الحوار المتمدن 29/12/2013
(9)- كيف فتحت ويكيلكس أعيننا على وهم الحرية، 16 يونيو2014.
www.theguardian.com/commentisfree/2014/jun/19/hypocrisy-freedom-julian-assange-wikileaks
دارسات عنه:
(1) كريستوفر كول مع بيرو: "سلافوي جيجيك"، ترجمة حسام الدين محمد، منشورات المتوسط 2016.
(2)- صبحي حديدي: مأساة ترامب وملهاة جيجيك، القدس العربي، 7 نوفمبر 2016.
(3)- تيري إيجلتون: هل ثمة موضوع على الأرض لم يكن قمحا لمطحنة جيجيك الثقافية، في [المصدر]
(4)- سعد البازعي: حوار الفلاسفة، خلخلة المفاهيم www.alriyadh.com
(5)- ديفيد هوكس: الإيديولوجية، ترجمة إبراهيم فتحي، المجلس القومي للترجمة، القاهرة 2000
(6)- نايف الهنداس: العنف والتسامح في فكر "سلافوي جيجيك"، حريات، 6 يناير 2015
(7)- إدريس شرود: "سلافوي جيجيك" والميثاق الليبرالي، أنفاس نت، anfasse.org
(8)- الدليل إلى الإيديولوجيا : اخلع نظارتك أو البسها لتبصر! الفيلسوف "سلافوي جيجيك" متحدثا في الفيلم. طارق الخواجي.
(9)- العنف والتسامح في فكر "سلافوي جيجيك"، نايف الهنداس، 26 يناير 2015