البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإسلام في مواجهة النسويّة

الباحث :  محمد لنغهاوزن
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  16
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 30 / 2019
عدد زيارات البحث :  2501
تحميل  ( 410.912 KB )
تهدف هذه المقالة للمفكِّر والباحث الأميركي محمد لغنهاوزن إلى تظهير رؤيةٍ فلسفيةٍ كلاميةٍ تشكّل مدخلاً لمقاربة موضوع النسويّة من وجهة نظرٍ إسلاميةٍ. وفي هذا السياق تمضي المقالة في نقاشٍ معمَّقٍ حول التصوّرات الكلية للفلسفة النسوية الغربية بالمقارنة مع الفلسفة الإسلامية لتثبت التقابل بين النظريتين وعدم إمكان التوفيق بينهما. ومن ثم يتطرق الباحث إلى النهضة النسائية الإسلامية.

المحرر

------------------------------------------
 أدّت النسوية في النصف الثاني من القرن العشرين إلى تغيّراتٍ أساسيّةٍ في الفكر الغربي، أثّرت أكثر من غيرها من الحركات الاجتماعية على الآداب والعادات والتقاليد الاجتماعية. في هذه النهضة (النسوية) ننظر إلى الثورة الجنسية والحرية بوصفها ثورةً على قيود الفضيلة. وقد أدت هذه النهضة إلى تشجيع المطالبة بحرية المثليّة الجنسية وقوننة أوضاعهم المدنية والاجتماعية. وكان من نتيجة ذلك التخفيف من القيود الرقابية على المطبوعات وزيادة نشر ما كان يعد نشره مستهجناً قبل ذلك.
وفي الحديث عن الآثار المترتبة على هذه الحركة يمكن الإشارة إلى تفكّك الأسرة بمعناها التقليدي، وزيادة معدلات الطلاق، وارتفاع نسبة المواليد غير الشرعيين بحيث وصلت في البلاد الأسكندنافية إلى نصف عدد الولادات وفي أميركا إلى الثلث.
تم كسر الكثير من القيود والقواعد التي كانت تتحكم بالسلوك الجنسي بصورةٍ متسارعةٍ ومدهشةٍ، ولم تقتصر «الثورة الجنسية» على إلغاء الرقابة، بحيث أوصي أصحاب الفنادق بعدم التدخل في «الأمور الشخصية» للنزلاء بعد أن كانوا ممنوعين من استضافة غير الأزواج في غرفةٍ واحدةٍ. وواجهت المحاكم مسائل وقضايا ترتبط بالزواج أو شبه الزواج حول قواعد الملكية لهذا النوع من الأشخاص المرتبطين ببعضهم. وقد نتج عن كل ذلك آثارٌ سيئةٌ على طبيعة ومفهوم الأسرة[2].
وفي ظلّ هذه الأجواء ازداد حضور النساء في أماكن العمل وميادين السياسة والجامعات، ما جعل النسويين يجدون بسهولةٍ من يستمع إلى خطابهم الصريح. ولم تكن التحولات المذكورة أعلاه صنيعة الحركة النسوية والنسويين وحدهم، بل كان للشباب الناقم على المؤسسات الاجتماعية القديمة وتأييد الفكر اليساري أثرٌ عظيمٌ في إيجاد هذه التحولات. وبتقديري أنّ النسوية تهدف في ما تهدف إليه من خلال رفض ربط الدور الاجتماعي بالذكورة والأنوثة، إلى تدمير كيان الأسرة وإشاعة المثلية وغيرها من العلاقات الجنسية غير المشروعة.
ولم تنج اللغة وطرائق التعبير الأدبي من سطوة النسوية، حيث نجح التيار النسوي في إنشاء لغة لا تمييز فيها على أساس الجنس، أي لغةٍ غيرِ جنسيةٍ (Non Sexist Language ) ونتيجة ذلك كانت زيادة استخدام ضمير المؤنث بشكل ملفت، في المسرحيات والإعلان التجاري وغير التجاري كإعلانات التوظيف في المؤسسات الحكومية وغيرها، وكان ذلك من أبرز الأبواب التي نفدت منها النسوية إلى الأذهان.
عملت النسوية على الترويج لمبادئها خارج العالم الغربي مستفيدةً من القدرات المتاحة لها، وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف عملت على تضعيف الثقافات المحلية للبلدان المستهدفة بدعايتها. ولم يكن الأمر بهذه السهولة، بل قاومت هذه الثقافات وما زالت تقاوم ومن بينها الثقافة الإسلامية. ولذلك كان لزاماً علينا في هذه المقالة الإشارة -رغبةً منا في الوضوح ورفع الإبهام- إلى الحركة النسوية وانقسامها وتاريخها وأهدافها وماهيتها. وقبل ذلك لا بدّ من الحديث عن التصور الإسلامي لدور المرأة لنخلص من ذلك بمقارنةٍ بين الإسلام والنسوية نثبت فيها عدم التلاقي بين الفكرين.

النسوية، لمحةٌ تاريخيةٌ موجزةٌ:
التمايز بين النسوية وغيرها من الحركات النسائية.
منذ أن ارتكب الإنسان الخطيئة الأولى والمرأة واقعةٌ تحت ضغط أمواجٍ من الظلم وهي ما زالت تجاهد للإفلات من نيره. ويمكن تسمية كلّ تحركٍ يهدف إلى رفع الظلم والحيف اللاحق بالمرأة عبر التاريخ بـ «نهضة النساء». وبهذا المعنى يمكن عدّ الإسلام واحدةً من المحاولات الهادفة إلى تحقيق ذلك الأمر المهم من خلال الأوامر والنواهي التي أقرتها الشريعة الإسلامية لرفع الظلم عن المرأة. ولا يخفى أن المرأة الغربية لا تنظر إلى الإسلام بهذه النظرة وتقصر النظرة الغربية وصف «نهضة المرأة» على المحاولات الغربية الهادفة إلى تطوير وضع المرأة في المجتمع الغربي.
إن الثورة الصناعية التي شهدها الغرب في القرن التاسع عشر وارتفاع معدلات الهجرة من الريف باتجاه المدن حوّل المرأة إلى قوةٍ عاملةٍ خارج إطار الأسرة، بينما كانت في الريف تعمل داخلها وتشارك سائر أعضاء الأسرة في الكسب وتحصيل لقمة العيش. في ذلك العهد كانت المرأة محرومةً من أيّ نشاطٍ سياسيٍّ، وما تجدر الإشارة إليه أن حقوق الإنسان التي دعت إليها الثورة الفرنسية هي حقوق الرجل وحده، والتحول الأساس الذي حصل إثر ذلك في عصر الأنوار هو توق المرأة إلى الخلاص من استعباد الرجل والاستقلال عنه وأخذ فرصٍ مساويةٍ لفرص الرجل في السياسة والعمل والاقتصاد والتعليم.
تعرف النسوية غالباً بأنها حركةٌ تهدف إلى إعطاء المرأة حقوقاً مساويةً لحقوق الرجل. والأمر الأكثر لفتاً للانتباه في النسوية هو تجاوز هذه الحركة مسألة المساواة وسعيها إلى ما هو أكثر من المساواة أمام القانون، أي إلى إعدام كلّ الفوارق بين الجنسين على مستوى الأدوار الاجتماعية المبنية على الاختلاف في الجنس بينهما. وهذا ما يميز النسوية عن غيرها من التيارات والحركات النسائية[3]. ومع ذلك، فإن الحركة النسوية تشمل في من تشمل عدداً كبيراً من الكتاب والناشطين المختلفين في كثير من المسائل الفلسفية والسياسية والأخلاقية، ولا يجمعهم سوى شعار إزالة الفروقات المبنية على الجنس. وبناءً عليه فربما يمكن اعتبار النسوية فرعاً من الحركة المطالبة بحقوق المرأة، على الرغم من وجود شيءٍ من الغموض عند بعض الكُتّاب في استخدامهم لمصطلح النسوية (Feminism).
وسوف نركّز في ما يأتي من هذه المقالة على النسوية في بُعديها السياسي والكلامي (الإلهيات) على الرغم من وجود أبعادٍ أخرى تستحق الاهتمام مثل: البعد النفسي، والقانوني، والنقدي والأدبي.

النسوية والاشتراكية:
ربما يكون الفرنسي تشارلز فوريي(1837-1772 Charles Fourier) هو أول من استخدم مصطلح "النسوية" (Feminisme).
وتبنى أتباع هنري دو سان سيمون (Henri de Saint-Simon) فكرة أصالة الخنثى (Androgyny principle) وبناءً على الأصل آمنوا بأن الوجود الإنساني انطلق من موجودٍ يحمل خصائص الأنوثة والذكورة. ورفض النسوييون الاشتراكيون تقسيم العمل على أساس الجنس ودعوا إلى تقاسم مراكز العمل مناصفة بين الرجال والنساء.
وبعد تغلب الماركسية على غيرها من الاشتراكيات ألقت هذه الكلية بطلابها على النسوية، وقد طرح أنغلز تصوراته حول الموضوع في كتابه «أصل العائلة» عام 1844م. وقد دعا أنغلز في كتابه هذا إلى نبذ فكرة العائلة وإلى شيوعية الجنس والأطفال لكي لا يبقي سلطةً لفردٍ آخرَ.
وعلى الرغم من فقدان الاشتراكية لكثير من بريقها في الآونة الأخيرة، إلا أن الفكر الاشتراكي ما زال له من يؤيده ويدعو إليه في الجامعات حتى الأميركية منها. ويلاحظ المتتبع للفكر اليساري ميلاً منه نحو النسوية وتأييداً لها كما يلاحظ وجود آثارٍ ماركسيةٍ في معظم الكتابات النسوية.
وربما يكون الدرس الأكثر أهميةً الذي استفاده النسويون من الماركسية هو استخدام أسلوبها في الجدل، وقد نفذت النسوية إلى عقول الكثيرين وتحولت إلى ما يشبه الإيديولوجيا، حيث إنك تجد في بعض المراجع المحترمة من الناحية العلمية أنها لا تقتصر في حديثها عن النسوية على التوصيف، بل تدعو إلى رفض كلّ تمييزٍ جنسيٍّ بين الرجل والمرأة. وعلى أيّ حالٍ تبدو هذه النزعة الإيديولوجية بوضوحٍ في كثيرٍ من الكتابات النسوية، ومن ذلك أنهم يبرّرون أفكارهم بواسطة مفاهيم ماركسية كصراع الطبقات وغيرها من المفاهيم المشابهة.

ج- الفلسفة النسوية:
ربما يمكن القول من دون أي تردد: إن أشهر الفلاسفة النسويين على الإطلاق هي سيمون دو بوفوار (Simon de Beauvoir 1908 -1986). فقد نشرت عام 1949 كتاب «الجنس الثاني» وحللت فيه العلاقة بين المرأة والرجل على أسسٍ وجوديةٍ ـ ماركسيةٍ. وبما أن الوجودية تؤكد على قضية حريّة اختيار الإنسان لماهيته، تدّعي دو بوفوار أن الإنسان يختار جنسه بإرادته أيضًا، ويؤمن بأن علم الحياة يستخف بنا معشر البشر، حيث إنّه حرّر الإنسان الذكر من قيود توليد المثل بينما يعطي هذه الحرية للمرأة، ولذلك فإنه يعتقد بأن الأنوثة تمثل سدّاً في وجه التحول إلى إنسانٍ حقيقيٍّ.
وقد انتقد النسويون المتأخرون دو بوفوار لتحقيرها لجسد المرأة ورأوا أنها تريد «ترجيلها»، على الرغم من اعترافهم بأن ما طرحته دو بوفوار من أفكار كان لـه أثره المهم على الكتابات النسوية اللاحقة، مثل: تمييزه بين الجنس والجنوسة (Sex - Gender). وقد استفاد النسويون المتأخرون من أفكار ميشيل فوكو وجاك دريدا لتحليل موضوعاتٍ كثيرةٍ ترتبط بالمرأة كعلم نفس المرأة والظلم السياسي اللاحق بها وما شابه ذلك، ومن أبرز ما استخدموه من طرائقَ هذان العلمان الجينالوجيا (Genalogy) من فوكو والتفكيك (Deconstruction) من دريدا. بينما نجد أن سيمون دو بوفوار انطلقت من فلسفة سارتر الوجودية.
وعلى أيِّ حالٍ لم يقتصر تعاطي النسويين مع الفلسفة على الاستفادة منها فحسب، بل كان لهم مواقفُ وآراءٌ في كثيرٍ من القضايا الفلسفية ولذلك نجد كثيراً من القراءات النسوية لموضوعاتٍ عدةٍ من قبيل: القراءة النسوية لتاريخ الفلسفة، فلسفة العلم النسوية، نظرية المعرفة النسوية، الفلسفة السياسية النسوية، الأخلاق النسوية، وحتى الأنطولوجيا النسوية. ويشار في هذا المجال إلى تأسيس الرابطة الفلسفية النسائية عام 1972 ونشرها لمجلة «هيباتنا» تيمناً بإحدى الفيلسوفات اليونانيات.
وقد وضع النسويون نصب أعينهم هدفين من دراستهم لتاريخ الفلسفة: الأول منهما هو السعي لكشف التوجه الذكوري أو المعاداة في تاريخ الفلسفة بدءاً من أفلاطون وأرسطو وصولاً إلى جون راولز. وكان لديكارت السهم الأوفى من النقد في هذا المجال[4].
والهدف الثاني هو تظهير دور المرأة في العمل الفلسفي، وكان من نتائج السعي لهذا الهدف نشر كتاب في ثلاثة مجلدات بعنوان: «تاريخ النساء» لـ «ماري إلن وايث»[5].
وأما الاتجاه النسوي في فلسفة العلم وعلم المعرفة فقد كان يهدف إلى إبطال دعوى حيادية العلم تجاه الجنوسية وإبراز الخلفية الجنوسية في كثير من مؤلفات العلماء وآثارهم. وقد حاول أصحاب هذا الاتجاه إثبات أن النظرة إلى العالم بنظرةٍ أنثويةٍ من شأنه أن يعطينا نتائجَ علميةً مختلفةً عن النظرة الذكورية.
وفي فلسفة الأخلاق يهتم النسويون بالبعد السياسي للمسألة، وبعبارةٍ أخرى ينظرون إلى السلطة أكثر من نظرتهم إلى الحُسن والقُبح الأخلاقيين، وغالباً ما يُوجّهون نقدهم للأخلاق التقليدية؛ لأنهم يرون أنها أنتجت أو برّرت سلطة الرجل على المرأة. ومن ذلك دعوة آليسون جاغر (Alison Jagger) إلى ضرورة أن تقترح فلسفة الأخلاق برنامجاً لتخليص المرأة من سيطرة الرجل[6] .
ولقد طرحت السحاقيات النسويات فلسفة الأخلاق النسوية على ضوء هذه القضية وهي: أن المرأة لا يمكن أن تؤسِّس لعلاقةٍ مع الرجل دون أن تقع تحت سلطته وفي قبضته، ولذلك فإن الهدف الأساس والأسمى هو بناء فلسفة الأخلاق على أساس البحث عن الحرية ومعرفة الهوية الذاتية للإنسان، لا على أساس الفضيلة وأيضًا على قاعدة الاختيار لا على قاعدة الواجب والتكليف[7].
وعلى الرغم من أن ليس كل النسويين مثليين إلا أن المثلية كانت بمثابة مؤشّرٍ بارزٍ على رفض الدور التقليدي لكلٍّ من المرأة والرجل.
ووجّه النسويون انتقاداتهم لكلّ من يؤمن بوجود أخلاقٍ خاصةٍ بالرجال وأخرى للنساء. وقد نالت سهام النقد عالمة نفس الأخلاق المعروفة كارول جيلغان (Carol Gilligan) التي رأت أن طريقة الاعتناء والمتابعة أكثر انسجاماً مع التنمية الأخلاقية للبنات، في مقابل أستاذها لورانس كولبرغ
(Lawrence Kohlberg) الذي اعتمد هذه الطريقة لشرح وتوضيح كيفية التطوّر الأخلاقي للبنين[8].
ورأى النسويون أن التمسك بهذه الطريقة تكرس النظرية التقليدية القائلة بوجود فرق بين الرجل والمرأة. ومن هنا فضّت النسوية أيّ تصورٍ يميز بين الرجل والمرأة في فلسفة الأخلاق؛ لأن دعوة المرأة إلى وضع الأمومة في أولوياتها سوف يجهض كلّ محاولةٍ للتخلص من عقلية المجتمع البطريركي الذكورية. ومن هنا يمكن القول إنّ الرسالة الأخلاقية للنسوية تختصر في إعادة النظر في التاريخ الفكري للإنسانية لنقد ومحاربة كلّ توجّهٍ ذكوريٍّ فيه أو كل توجّهٍ يُعطي للمرأة خصوصياتٍ تختلف عن خصوصيات الرجل.

د- النظرية السياسية للنسوية:
بدا أن النظرية السياسية للنسوية مع الماركسية، حيث يرى ماركس وأنغلز أن النظام الطبقي هو أصل كلّ المظالم الاجتماعية. والنظام العائلي هو انعكاسٌ لهذا النظام الرأسمالي وتقويضٌ للنظام العائلي المتفرِّع منه.
ونجد أن بعض النسويين تبنّوا الموقف الماركسي من العائلة بحرفيته، بينما نجد آخرين رأوا أن النظام العائلي هو الأساس والمنطلق للنظام الرأسمالي وليس نتيجة لـه، ولذلك نجد أن كيت ميليت (Kate Millit)، وهي من الأعضاء الناشطين في حركة تحرير المرأة، تصرِّح بأن بناء الظلم الاجتماعي في المجتمع الإنساني يتأسّس على سلطة الرجل لا على الرأسمالية.

وفي التأريخ لتطور الحركة النسوية، يتبنى بعض الباحثين أن هذه الحركة مرت بمراحلَ ثلاثةٍ هي:
المرحلة الأولى: الحركات الاشتراكية وحركة تحرير العبيد في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومن الآثار الفكرية التي تعود إلى هذه المرحلة يشار إلى كتاب أنغلز «أصل العائلة»، وكتاب جون ستيوارت مل «خضوع المرأة» وكتابات ومحاضرات إيما غولدمن الأميركية من أصل روسي. وربما يُدخل بعضهم في نطاق هذه المرحلة كتابات دو بوفوار أيضًا. ومن هنا فإن النسوية في هذه المرحلة ليست سوى حركةٍ سياسيةٍ اجتماعيةٍ.
المرحلة الثانية هي للنسوية التي طُرحت في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين، والسمة البارزة في هذه المرحلة هي التطرف، فبينما كان يسعى نَسوِيُّو المرحلة الأولى إلى رفع حالات التمييز القانوني بين الرجل والمرأة نجد أن أهل المرحلة الثانية يرون الحديث عن دورٍ اجتماعيٍّ للرجل وآخر للمرأة من مخلّفات المجتمع البطريركي ولذلك لا بد من التخلص منه ومن كل المفاهيم المشابهة لـه.
المرحلة الثالثة من مراحل النسوية تعود في تاريخها إلى العقد الثامن والتاسع من القرن العشرين وتميزت هذه المرحلة عن سابقاتها في أنّ النسويين المتقدمين كانوا يتحدثون عن حقوق المرأة وتحريرها بشكلٍ كليٍّ وعامٍّ، بينما في المرحلة الثالثة نجد كثرة الحديث عن أنواعٍ مختلفةٍ من التأنيث يختلف باختلاف الملل والأعراق والطبقات، وينظرون إلى هذا الأمر بوصفه لازماً طبيعياً لرفض التصورات التقليدية حول المرأة. ومن هنا يعتقد مؤسّسو هذه المرحلة ضرورة إبدال الشعار الواحد حول تحرير المرأة بشعاراتٍ عدةٍ، فالحرية عندهم بمثابة تنوعٍ للفرص الموجودة لتحقيق علاقاتٍ جنسيةٍ مختلفةٍ وأدوارٍ مرتبطةٍ بالجنس كذلك.
ويمكن تقسيم الحركة النسوية على أساسٍ آخرَ، فتكون الأقسام على النحو الآتي: النسوية الليبرالية، النسوية المتطرفة، النسوية الاشتراكية، نسويّة ما بعد الحداثة. وترتد الأولى في جذورها إلى مؤلفات ماري والستون كرافت (Mary Wollstone Craft) (1757- 1797) وجان ستيوارت مل (John Stuart Mill 1806 -1837) اللذين يطالبان بالمساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة. في العقد السادس من القرن العشرين وضع النسويون الليبراليون في أميركا نصب أعينهم مجموعة من المطالب وسعوا للحصول عليها، وهذه المطالب هي:
حق الإجهاض، الدفاع عن حقوق الأم الموظفة، تيسير سبل الحصول على دور الحضانة للأطفال، الحصول على تمثيلٍ نسائيٍّ أكبرَ في الدولة والسوق والجامعة. وقد أفضت هذه المطالبات إلى سنّ مجموعةٍ من القوانين في مجال التوظيف تعتبر الأنوثة والانتماء إلى أقليةٍ مرجِّحاً من المرجحات الوظيفية، والهدف من هذه القوانين هو الحدّ من سوء توزيع الوظائف. والخلفية التي انطلقت منها النسوية الليبرالية هي المشاركة في الإنسانية بين الرجل والمرأة، بينما تنطلق النسوية الراديكالية من خلفيةٍ مختلفةٍ تماماً تُمجّد وتُبرز الاختلاف الموجود بين تجارب كلّ من الرجل والمرأة، ولذلك يرى هؤلاء أنّ ضرب تجارب المرأة أدى إلى تلوّن كلّ شيءٍ ثقافيٍّ وأدبيٍّ إلى العلم والقانون والسياسة بلونٍ ذكوريٍّ مدافعٍ عن حقوق الرجل وحاكٍ عن عواطفه ومشاعره. وبالنسبة إلى النسوية الاشتراكية فقد تكلمنا عنها في ما مضى من هذه المقالة فلا نعيد. وأما نسوية ما بعد الحداثة فيبدو أنها تسمية أخرى للمرحلة الثالثة من مراحل النسوية المشار إليها سابقاً.

هـ- اللاهوت النسوي (الأنثوي)
بدأت موجة اللاهوت النسوي مع بداية العقد السابع من القرن الماضي من خلال مجلة كونسيليوم (Concilium). وانعقدت المؤتمرات الأولى للبحث في هذا الشعار في أميركا. وبعد ذلك دعا المجتمع العالمي للكنائس إلى مؤتمرٍ في برلين حول «الجنسانية» (Sexing) أي التمييز على أساس الجنس، وبعدها طبعت ماري دالي (Mary Daly) كتابها «أبعد من الله الأب» (Beyond God the Father)[9].
وترتبط فكرة لاهوت النسوية بلاهوت التحرير بروابطَ وثيقةٍ على مستوى التاريخ والتنظير، وكلا المفهومين متأثِّر بالماركسية على الرغم من تصديهما لنقدها. وهذان المفهومان ينظران إلى الدين بوصفه وسيلةً من وسائل تحرير الإلهيات النسوية تنقسم إلى شعبتين معتدلةٍ ومتطرفةٍ في الأولى يسعى أصحابها إلى مقاربة الأديان بشكلٍ مختلفٍ لتزال عناصر ترجيح كفة الرجل على المرأة، بينما تتجاوز الثانية ذلك لتتوصل إلى رفض محورية الرجل في الأديان وتُبدّل عبادة الإله والإيمان به بعبادة الآلهة (المؤنثة) بل حتى السحر.
ومن المجالات التي أخذت قسطاً من الاهتمام العلمي للنسوية المعتدلة تاريخ الكنيسة، لذلك تدّعي إليزابيت شوسلر فيورنزا (Elisabeth Schuss Fioranza) أن المسيحيين الأوائل كانوا يعتقدون بالمساواة بين الرجل والمرأة، ولكن عندما بدأت تشكيلات الكنيسة تأخذ طابعها الرسمي بدأ التمييز لمصلحة الرجل ثم سرى ذلك إلى أبحاث اللاهوت[10].
إن المنهج الذي اعتمد عند سوشلر فيونزا هو منهجٌ اجتماعيٌّ بشكل عام، ويعتمد على لاهوت التحرير. ويمكننا عد النتائج التي انتهت إليها هذه الأفكار النقدية معتدلةً نسبيّةً، ومن بين هذه الأفكار يُشار إلى ضرورة انتهاء النقد النسوي إلى إجراء عملية إصلاحٍ في الكنيسة[11] والنسويون الذين اعتمدوا طرائق التحليل النفسي كانوا عادةً أكثر تطرّفاً. ومن بين هؤلاء تجدر الإشارة إلى كريستا مولك (Christa Molack) التي تعدّ من أتباع مدرسة سي. جي. يونغ (C.G. Young) وتعتقد بأن الدين الذي يعطي للرجل سلطةً لا بدّ أن يضمحل فيه البعد الأنثوي.
وعلى ضوء هذا التصور اعتبر أنبياء بني إسرائيل عصاة وثواراً في وجه الإلهة العظمى (The Great Goddess). وقد تبنى النسويون الذين أخذوا بالتحليل النفسي رفض نظرية "المساواة النسوية" (Equality Feminism) وروجوا في مقابلها لمركزية المرأة (Feminism Gynocentric)، وهؤلاء وصلوا في تطرفهم إلى نبذ المسيحية ورفضها بدل إصلاحها. وعلى الرغم من كون هؤلاء أقليةً في مقابل الآخرين إلا أنّهم كانوا ذوي تأثيرٍ كبيرٍ في الحركة النسوية العالمية.
ومن أشهر النسويات في مجال اللاهوت الراهبة السابقة في الكنيسة الكاثوليكية ماري دالي التي تُدعى أحياناً أم اللاهوت النسوي. وهي المرأة الأميركية الأولى التي حصلت على درجة الدكتوراه في اللاهوت من جامعة فرايبورغ، وكتابها الأول هو: «الكنيسة والجنس الثاني» الذي يعكس بوضوح الكثير من أفكار ونظريات سيمون دو بوفوار وهي في هذا الكتاب تصنف بين المعتدلين، حيث تدعو إلى إصلاح الفكر المسيحي لينسجم مع نظرية المساواة. إلا أنها تجاوزت تيار الاعتدال في أشهر كتبها المعنون: بـ (Beyond Good The Father)، حيث تُثبت في هذا الكتاب أنّ اللاهوت المسيحي مؤسسٌ على توجهٍ ذكوريٍّ، وبالتالي فهو لا يقبل الإصلاح. وفي هذا الكتاب تطرح شعارها المشهور: «إذا كان الله مذكِّراً فالذكر هو الله»[12] وهي تعتقد بأن سلطة الذكر وتفوقه لازمٌ من لوازم عقيدة التثليث المسيحية، حيث إن الشخص الثالث في الثالوث المقدس هو الابن والأول هو الأب، ومن هنا فإنها تدعو إلى اعتبار الله كائناً غير شخصيٍّ يمثل مركز الوجود والناظم لأجزائه. وهذا يذكرنا بتصوّر بول تيليخ عن الله.
وتقطع دالي في كتابها (Gyn Ecolage: The Meta ethics of Radical Feminism) كلّ صلةٍ لها بالمسيحيّة وتحل محلّ الإله الإلهة وتعمل على تمجيدها ومدح الاعتقاد بالسحر الذي كان سائداً في العصر الأمومي، وفي هذا الكتاب تدعو بصراحة إلى العلاقة بين المرأة والمرأة، وترفض بشكلٍ قاطعٍ فكرة كون الرجل مُكمّلاً للمرأة وبالعكس. وتتجاوز كل هذه الأفكار في كتابها "الشهوة المحض" (The Pure Lust) وتتبنى كون الشهوة فضيلةً تمكِّن الإنسان من الوصول إلى السلطة الكاملة.
وعلى الجانب الفرنسي يُشار إلى لوس إيريغراي ومؤلفاتها في اللاهوت النسوي، وهي تُبشر في كتاباتها بالمجتمع الذي تولد فيه نسويّةٌ جديدةٌ وامرأةٌ متحرّرةٌ بالكامل من سلطة الرجل وليس مجتمعها المثالي هو مجتمع المساواة فحسب. وهي أيضًا مثل دالي تختلف مع المسيحية لأجل فهمها لفكرة الثالوث وللطابع الذكوري الكامل فيه. وعلى الرغم من إيمانها بحاجة المرأة إلى الإله إلا أنها ترفض مفهوم الإله المقبول في الأديان الإبراهيمية
وبحسب لوسي إيريغاري يبقى احترام الإله قائماً ما دام المرء غافلاً عن كون الله قناعاً يستر سيطرة الذكر على العائلة وأما بعد الالتفات إلى هذه المسألة فإنه سوف ينكشف للمرء أن الذكر استفاد من فكرة الإله لبسط سلطته على المرأة وممارسة الظلم عليها، وعندها لا بد من الشك في الله بدل اعتباره غير مذكرٍ ولا مؤنثٍ كما يصوره لنا الليبراليون.[13] ولذلك تعتقد بأن الإله المؤنث هو وحده الذي يمكِّنه تحرير المرأة وإسعادها مع سائر أفراد المجتمع.[14] ولا أدعي أنّ كلّ النسويين متطرفون إلى هذا الحد، ولكن على أيّ حالٍ فإنّ غير هؤلاء يمكن اعتبارهم من المعتدلين بالقياس إلى هؤلاء فحسب. وفي الحقيقة، إنّ معتدلي اللاهوت النسوي يقبلون التوجهات الكلية العامة النسوية ومن ذلك: رفض فكرة التكامل بين الرجل والمرأة، قبول فكرة العائلة غير التقليدية (المثلية) مع أولاد أو من دون أولاد، الأم العازبة، وأيضًا قبول الهرمنوطيقا الهادفة إلى كشف مكامن التمييز على أساس الجنس في النصوص الدينية. وبناءً على الأمر الأخير فهم يدعون إلى إعادة كتابة النصوص الدينية بهدف إبدال التعبير عن الله من صيغة المذكر بصيغةٍ مشتركةٍ أو صيغةٍ ذكوريةٍ أنثويةٍ من قبيل الموارد التي يُشار فيها إلى الله بوصفه «أبونا» فيقترحون استبداله «أمنا وأبونا»...

التعارض بين الإسلام والنسوية:
وفي تقييم العلاقة بين النسوية والإسلام لا يَسَعُني رفضَ أيّ أرضيّةٍ مشتركةٍ بين الاثنين، ولكن الاختلاف واقعٌ في كثيرٍ من الأصول والقيم. ومن المشتركات يمكن أن يُشار إلى الاشتراك في نبذ أيّ ظلمٍ أو حيفٍ يُمارَس على المرأة فهي صاحبة السلطة على نفسها وأموالها ولها حق التصرف في ما كسبت، وكذلك يُشار إلى الرفض المشترك لمقولة «الله الأب». ومن موارد الاختلاف والتضاد هو أن الإسلام ينظر إلى المرأة بعد العبودية لله أمَّا وزوجةً وكذلك يختلفان في مقولة الله الأم فالله ليس ذكراً ولا أنثى[15].

الشعارات المتضادة بين الإسلام والنسوية
ترفض النسوية كما تقدم فكرة التكامل بين الرجل والمرأة وأما الإسلام فيؤكد هذا المفهوم على أساس الدور الاجتماعي الذي يلعبه الطرفان. والنسوية ترى في الزواج وسيلةً لتسلّط الرجل على المرأة، بينما نرى أن الإسلام يدعو الرجل والمرأة إلى إقامة مؤسسة العائلة على أساس الزواج ويشرِّع من القوانين ما يحفط لكلٍّ من الطرفين حقوقه ويحدّد لـه واجباته، وتعطي القوانين الإسلامية سلطةً للرجل في إدارة العائلة الأمر الذي لا تقبل به النسوية بأيِّ حالٍ.
تعتقد إليزابيت مولتمن وندل بأنّ جوهر اللاهوت البطريركي هو سلطةٌ تدل على الارتباط بين العقل والجسم: «سلطة الإدارة اللاشعور، سلطة التاريخ على الطبيعة وتفوق الرجل على المرأة»[16].
والإسلام يرى ضرورة التسليم والانقياد الكامل وفق مشيئة الله ولكن لا يقع على الإنسان في هذا التسليم وأثره أيّ ظلمٍ بل هو يتكامل من خلاله، بينما يعتقد النسوييون بأن المرأة تتكامل من خلال تحرّرها وعدم خضوعها ولذلك فهم يرون أن الفضيلة هي: حريّة التعبير وإرضاء الميول والرغبات. وأما الفضيلة في الإسلام فهي الفناء في الله والوصول إلى مقام لقائه وكبح الميول غير المشروعة.

التكامل، العائلة، الجنوسة:
يعترض الكثير من مفكري أوروبا على الإسلام، أنّه يقبل الجنس ثم يضع لـه القيود. وفي العصر الفيكتوري كان يُنظر إلى الإسلام على أنه دينٌ شهوانيٌّ حيث يعد القرآن المؤمنين بتلبية كثير من رغباتهم في الآخرة، وانقلبت هذه النظرة في العصور اللاحقة مع فرويد وغيره وصار الإسلام بنظرهم متزمتاً في قيوده التي يفرضها على الجنس. وهاتان النظرتان إلى الإسلام نجدهما في الكتابات النسوية، ويرجع الاختلاف بين النسويين إلى اختلاف التصور الرائج في عصر كلّ كاتب. مثلاً: يرى بعض النسويين أن الدعارة عملٌ مجازٌ ولذلك هم يفضّلون تسمية العمالة الجنسية (Sexual Worke) بدل الأسماء التي تطلق على هذا الصنف من النساء، بينما يرى آخرون أن الدعارة والصناعة الجنسية (Sexual industry) هي تجسيدٌ فاقعٌ لإذلال المرأة. ومن هنا فإننا نجد بعض النسويين يطالبون بتغيير المجتمعات الإسلامية للوصول إلى تحرير المرأة جنسياً وآخرين يطالبون بتقييد حرية الرجل في هذه المجتمعات.
وأما عن موقف الإسلام من الجنس، فلا شك في أنه يعترف بهذا البعد من الشخصية الإنسانية، ولا يرى في الشهوة رذيلة كما يبدو من بعض النصوص الدينية المسيحية. ولكنه مع ذلك يشرع عدداً من القيود على تلبية هذه الغريزة والاستجابة لها. ويُميِّز بين الرجل والمرأة في هذه القيود فيعطي للرجل حق تعدّد الزوجات ويمنع المرأة من تعدّد الأزواج. ولا ننكر أن الرجل قد يسيء استخدام هذا الحق في بعض الأحيان، بحيث يكون في ممارسة هذا الحق ظلمٌ يلحق المرأة، ولذلك عندما ينظر النسويون إلى الواقع الاجتماعي للمسلمين يُحمّلون الإسلام مسؤوليّة هذه الممارسات الخاطئة. ولكن نقول في الرد على هذه الدعوى وما شابهها: إننا نلاحظ الأمر عينه يحصل في المجتمعات غير الإسلامية من شيوعيةٍ وليبراليةٍ ومسيحيةٍ وغيرها، أفهل يصح القول: إن كل هذه القوانين تبيح ظلم المرأة؟ بل حتى لو وُجد مجتمع خالٍ من أيّ قانونٍ ينظم العلاقة بين الرجل والمرأة، فسوف يظلم بعض الرجال النساء. ولذلك أعتقد أن المشكلة لا تكمن في القانون بقدر ما تكمن في أخلاقيات الرجل الذي يسيء استخدام القانون لمصلحته وتوصّلاً به إلى مقاصدَ غيرِ مشروعةٍ.
وعلى الرغم من كل التشريعات التي أعطت للمرأة الأميركية حقوقها وحريتها، لا بد من النظر بعين الريبة والشك إلى دعوى أن وضع المرأة الحالي أفضل من وضعها السابق؛ حيث تظهر الإحصاءات أن معدّل الفقر بين النساء أعلى منه بالقياس إلى ما مضى ويزيد في الفقر سهولة إجراءات الطلاق وتحميل الأم مسؤولية إعالة الأطفال. وحذراً من هذه المآزق أقرّ الشرع الإسلامي مجموعةً من التدابير أساسها قوامة الرجل على العائلة مع ضوابط تحول دون تجاوز الرجل حدوده خلال ممارسته لهذا الدور. ولكن مع ذلك حفظ الإسلام للمرأة حقها في المناورة لتحول دون سيطرة الرجل الكاملة على الطلاق. ويبدو لي أن هذه التدابير هي أفضل بدرجاتٍ من التشريعات الغربية التي، وإن أعطت للمرأة شيئاً من حقوقها ولكن نتج عنها قصر عمر العائلة بحيث صار متوسط عمر الزيجات في الغرب إلى خمس سنواتٍ تنتهي في الغالب بعلاقةٍ جديدةٍ خارج مؤسسة الزواج.

دور المرأة في الإسلام:
إن من أهم الأدوار التي أُعطيت للمرأة في المصادر الإسلامية هي دور الأمومة والزوجية، على الرغم من أننا لا نستطيع حصر دور المرأة بهذين الأمرين، بل فتح الإسلام في وجه المرأة كثيراً من أبواب المجتمع لتحقيق ذاتها من خلالها، وذلك في الاقتصاد والتجارة والعمل كما في مثال السيدة خديجة5 زوجة النبيs وفي السياسة كما في مثال السيدة فاطمة$ بنت النبيs. نعم منع الإسلام المرأة من احتلال بعض المناصب كما في إمامتها للرجال في الصلاة.
ويعتقد الغربيون أن القيود التي فرضت على العلاقة بين الرجل المرأة في الإسلام تؤدي بالضرورة إلى منع المرأة من ممارسة دورها في السياسة والاجتماع وأقدم نموذجاً يكشف خطأ هذا التصور وهي حادثة مورغان شوستر عن حوادث سنة 1911 في طهران حيث يقول:
في تلك الأيام المظلمة بدأت تروّج بعض الشائعات عن وجود ضعفٍ في المجلس النيابي الإيراني في مقابل تهديدات روسيا لإيران، يومها خرجت مجموعة من النساء الإيرانيات مدفوعاتٍ بالحماس وحب التضحية في سبيل الوطن من حصار أسوار البيوت قاصدات إلى المجلس النيابي متجلبباتٍ بالثوب الأسود والخمار الأبيض. تجمدت النسوة أمام البرلمان وطالبن بلقاء رئيس المجلس فما كان منه إلا أن استجاب لرغبتهن واجتمع بهن. في هذا الاجتماع شهرت كل واحدة منهن مسدساً كانت تخفيه تحت ثيابها وكشفن عن وجوههن وهددن المجلس ورئيسه بأنهن سوف يقتلن أبناءهن وأزواجهن ثم ينتحرن إن بدا من النواب ضعف أو خور في مواجهة العدو الخارجي.[17]
وعلى أي حال ليست هذه هي المرة الوحيدة في التاريخ الإسلامي، فقد كانت المرأة ذات فعلٍ في التاريخ الإسلامي في كثير من عصوره على الرغم من عدم تصديها للقيادة بشكل مباشر. وبالنظر إلى القرآن الكريم يتبين لنا أن المسألة ليست مسألة تاريخ فحسب، بل القرآن مليءٌ بالآيات الداعية المرأة للقيام بدورها الاجتماعي والسياسي، وضَمِن لها الأجر والثواب على ذلك وجعل المعيار والدافع إلى القيام بالعمل هو رضا الله لا المنفعة الشخصية المؤقتة. وقد مجّد الإسلام نموذجين للمرأة العاملة وقد يكون ذلك بهدف بيان القدوة الصالحة وهما: مريم$ وقضية حملها من دون زوجٍ ودعوتها إلى تحمّل اللوم والعتاب من قومها، والثانية هي زوجة فرعون التي اشترت بالروح إيمانها بموسى.
بلى لقد أولى الإسلام عنايةً خاصةً لدوريِ الزوجية والأمومة وهذا ما يثير حفيظة النسويين؛ لأن مشروعهم الأساس هو تحرير المرأة من هذين الدورين، ففي التحرر منهما يكمن تقدم المرأة باعتقادهم ولذلك على المرأة أن تحقق ذاتها في ميدان العمل والعلاقات الجنسية غير التقليدية. وفي المقابل يهتم الإسلام بالزواج ويرى فيه مصلحةً للأكثرية الساحقة من نساء العالم مع عدم رفضه أو تحقيره لممارسة الأعمال التجارية أو الاجتماعية. ولا تختلف المرأة كثيراً عن الرجل في ممارستها لدورها الاجتماعي فهما يمارسان معاً أدوارهما بشكلٍ متكاملٍ فلا زوجة دون زوج، ولا أم من دون أب...

اختلاف الإسلام والاشتراكية:
تدّعي الاشتراكية نهاية عصر التقليد وحلول نظامٍ جديدٍ للقيم المملة تتساوى فيه الحقوق والواجبات والفرص بشكلٍ كاملٍ ومتطرفٍ، الأمر الذي يرفضه الإسلام ويرى فيه افتئاتاً على حقوق عددٍ من المواطنين.
ولا يخفى ما بين الرؤيتين المادية الاشتراكية واللامادية الإسلامية من تعارضٍ. ويتجلى التعارض في أوضح صوره عندما ننظر إلى الرؤية النسوية الاشتراكية التي ترى في العائلة التقليدية رمزاً من رموز الاستغلال الطبقي، بينما يقدس الإسلام العائلة ويدعو إلى بنائها والمحافظة عليها. وتشترك التيارات النسوية ذات الميل الاشتراكي في الدعوة إلى هدم صرح العائلة التقليدي ورفض فكرة التكامل بين الرجل والمرأة، والإسلام يخالف كلّ هذه التصورات ويقف منها موقف الرفض.

التعارض بين الإسلام والفلسفة النسوية:
يقف الإسلام موقفاً رافضاً من كثيرٍ من القيم الأخلاقية التي تروِّج لها النسوية سواءً في ذلك نسوية المساواة بين الرجل والمرأة أم نسوية مركزية المرأة. حيث يُروج النسويون لفكرة الاختيار الحر بعيداً عن أيّ نمطٍ أو دورٍ محدّدٍ ترسمه الآداب والتقاليد والأعراف للرجل والمرأة. والعدالة في الإسلام هي عبارة عن وضع الأشياء في مواضعها ولا تعني بالضرورة المساواة. وتعيين مصداق العدالة بحسب التصور الإسلامي يحتاج إلى بصيرةٍ نافذةٍ وتأملٍ وسبرٍ لأغوار حياة النماذج المعصومة في التاريخ وهي حياة النبيs(والأئمةb.
والفكر الفلسفي الإسلامي كغيره من الأبعاد الفكرية والثقافية هو انعكاسٌ لمفهوم التوحيد، ومن هنا ينظر إلى جميع جوانب الوجود بوصفها تجلّياً للتوحيد، والعقل وظيفته الأساس فهم التوحيد والدفاع عنه. وفي المقابل فإن أصحاب الفكر الفلسفي النسوي يسيرون في الاتجاه المعاكس تماماً، فهم بدل السعي لكشف وجوه الاشتراك في الوجود يشتغل على كشف مكامن الاختلاف، وبدل العمل لتحقيق علاقةٍ عاديةٍ بين الرجل والمرأة على ضوء العقل ومقتضياته، تجدهم يعملون بوحي عواطفهم ومشاعرهم ويرون أن العقل هو وسيلةٌ من وسائل سيطرة الرجل على المرأة ويستخدمون مصطلح (Logo-Centrism) كنوعٍ من الإهانة.
يسعى الفيلسوف المسلم والفلسفة الإسلامية للتغلُّب على أهواء النفس ومشتهياتها بينما نجد أن الفلسفة النسوية تروج للمرأة المثالية التي تتأمل في تجاربها الذاتية لكشف جذور الظلم الذي يمارس عليها من خلال التمييز الجنسي، ويدعون المرأة للخلاص من نير ظلم الرجل ولو بإطلاق العنان للميول والرغبات والأهواء.
يسعى الإسلام ويضع نصب عينيه القرب من الله تعالى والتسليم لإرادته، ويحاول أن تكون هذه الروحية هي الروحية الحاكمة على العلاقات الاجتماعية هذه العلاقات المحكومة لمعيار العدالة الذي على ضوئه تتحقق مقتضيات الوجدان الأخلاقي، والعادات الاجتماعية، وأوامر الله الواضحة الصريحة. وأما النسوية فلا وجود عندها لمفهوم الأوامر الإلهية، والسعي كلّ السعي يكون لإحداث ثورة في الأخلاق والانتفاض على تقاليد المجتمع لأجل تحرير المرأة وإطلاق سراحها من سيطرة الرجل.

الإسلام والفلسفة السياسية النسوية:
في النظرية السياسية الإسلامية ينظر الإسلام إلى الظلم بوصفه معصيةً لله وخروجاً عن إرادته، والحاكم الذي يستولي على السلطة بالغصب إرضاءً لميوله وأهوائه هو عاصٍ لله بالدرجة الأولى ويتفرّع عن هذه المعصية معصية الظلم الواقع على الرعايا والمحكومين... بينما نرى أن الفلسفة النسوية في مجال السياسة تروج لكون تسليم المرأة لإرادة الرجل هي المعصية الأولى وبالتالي فإن رفع أشكال الظلم الاجتماعي مرهون لثورة المرأة على سلطة الرجل.
ولما كان هدف الإسلام الأول هو تقريب الإنسان من الله كان من البديهي اعتبار الهدف الخاص بالنظام السياسي الإسلامي تأمين الأجواء والظروف الملائمة لتحقيق الهدف الأساس وهو القرب عبر العبادة وغيرها من الطاعات، وهذا عمل يحتاج إلى توازنٍ وانسجامٍ اجتماعيٍّ تامٍّ بين الأفراد والمؤسسات بل والعادات والتقاليد الاجتماعية. ولا تهدف الفلسفة السياسية النسوية إلا إلى الحرية ونبذ كل القيود المؤسسة على التفاوت في الجنس بين الرجل والمرأة وإقامة نظامٍ اجتماعيٍّ وعائليٍّ جديدٍ لا يلحظ أيّ قوامةٍ لأحدٍ على أحد.

الإسلام واللاهوت النسوي:
لا وجود لفكرة الثالوث المقدس في الإسلام وبالتالي لا أب ولا ابن وهذا هو أحد الفروقات الأساسية بين المسيحية والإسلام وعندما يعبّر القرآن عن الله يعبّر عنه بصيغة المذكر ومع ذلك لا مجال لتوجيه الانتقادات النسوية للتصور الإسلامي عن الله.
ومن جهةٍ أخرى لا مجال لفكرة الإلهة النسوية (Goddess)، فالله في الإسلام ليس أنثى وليس لـه بنتٌ ولا ولدٌ. ولكن بعض الأبحاث الكلامية حول صفات الله تشير إلى صفاتٍ ذكوريةٍ وصفاتٍ أنثويةٍ بل ربما تتقدّم بعض هذه الأخيرة على سابقاتها[18].
ويشير ولفسون (Wolfson) في بعض أبحاثه عن الكلام الإسلامي[19] إلى أن إمكان المقارنة بين الأبحاث الكلامية الإسلامية حول صفات الله وبين بعض أبحاث التثليث، وعليه فليس فقط لا يوجد في علم الكلام الإسلامي توجيهٌ ذكوريٌّ ضدّ المرأة، بل إنّ في بعض الصفات الإلهية ما ينسجم مع احترام المرأة وتقديرها مثل: تقدم صفة الرحمة على صفة الغضب عنده سبحانه وتعالى[20].
النسوية بوصفها إمبرياليةً ثقافيةً:
لقد تحولت النسوية لمدةٍ طويلةٍ إلى أداةٍ من أدوات الحرب الاستعمارية ضد الشعوب الأخرى، حيث كان يجري العمل على استخدام الشعارات النسوية لتضعيف الثقافات المحلية وفتح أبواب البلاد في وجه الثقافات الوافدة[21].
لقد كانت المعرفة الغربية بالإسلام ضعيفةً قبل القرن العشرين، وكانت ترجع في الكثير من أسسها وأركانها إلى رواسب الحروب الصليبية. وواحدةٌ من الوسائل التي اُستخدمت في الهجوم على الإسلام مسألة موقف الإسلام من الجنس وما يتعلق به من تعدد الزوجات وحجاب المرأة. وقد ظل كثيرٌ من الأوروبيين يعتقدون حتى القرن الثامن عشر أن المرأة لا روح لها بحسب التصور الإسلامي.
وحاولت دوائر الاستعمار الغربي طوال القرن التاسع عشر وخاصةً بريطانيا الاستفادة من هذه الأفكار الخاطئة للتشويش على الثقافة الإسلامية والترويج لبرامجها الخاصة. ومن الاعتقادات التي كانت رائجةً في العصر الفيكتوري أن قمة التكامل البشري تقع في بريطانيا ولذلك من الطبيعي أن يحكم الشعب البريطاني غيره من الشعوب الأقل تطوّراً. وقد استفاد المستعمر من النهضة النسوية التي كانت في أوان تشكلّها واستخدم شعاراتها للقول بأن المسلمين يظلمون نساءهم، ولذلك لا بد من تحضيرهم واستبدال ثقافتهم بثقافةٍ جديدةٍ.
والأمر عينه استخدم في وجه الحضارات الأخرى، ومن الأفكار التي جرت محاولاتٌ لترسيخها أن التخلف الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية يعود إلى تصوراته حول المرأة والقوانين التي يطبّقها عليها، حيث نُظِر إلى الحجاب بوصفه إهانةً لها ووجِّهت لهذا الأمر أكثر سهام النقد وعليه فإن الخطوة الأولى في سلّم الترقّي الاجتماعي، باعتقادهم، تكمن في تغيير لباس المرأة واستبداله باللباس الأوروبي.
يقول قنصل بريطانيا في مصر (من عام 1882 إلى 1907) «الإسلام يذل المرأة ويحتقرها والمسيحية تعلي من شأنها» ومن المفارقات المضحكة أن هذا القنصل كان من الدعاة الأوائل والمؤسسين لجمعية رجالية تهدف إلى منع المرأة من حق الانتخاب. وعلى أي من النقاط البارزة في دعاواه حول الإسلام ووضع المرأة في مصر أن تطور المرأة المصرية مرهونٌ بخلع الحجاب للحاق بركب التمدن الغربي الذي يبشر به الاستعمار[22].
وقد ركّزت البعثات التبشيرية المسيحية على وضع المرأة لتبرير عملها في العالم الإسلامي، ومن المؤسف أن ذلك تم تحت حماية ورعاية المستعمر، وروجت النسوية الغربية أيضًا لفكرة نبذ الأحكام الإسلامية الخاصة بالمرأة.
تكتب ليلى أحمد: «مضافاً إلى بعثات التبشير المسيحي ورجال الدولة، وُجِد الكثير من المفكرين، ومنهم المقيمون في مصر، الذين روّجوا للفكرة عينها ومنهم النسويون الأوروبيون الذين حموا ودافعوا عن هدى الشعراوي دعوا الفتاة المسلمة إلى تبنّي التصوّر الغربي للحجاب واعتبروا أن الخطوة الأولى في معركة تحرير المرأة هي رفض المفهوم التقليدي للحجاب»[23]. وما زالت أصداء هذه الفكرة تتردّد حتى عصرنا هذا عند كثيرٍ من النسويين المعاصرين الذين جعلوا مسألة الحجاب أكبر همهم.
وقد تلقّف دعواتِ النسويةِ في أكثرها حدةً مجموعةٌ من الطبقة الحاكمة في المجتمعات الإسلامية وأكثر هؤلاء هم ممن تلقى تعليمه في المدارس الأوروبية ومنهم: آتاتورك ورضا شاه، اللذان تمسكا بشعارات النسوية وجعلاها في رأس أولوياتهما، ووافقا التصور الاستعماري القائل بضرورة إبدال الثقافة الوطنية بالثقافة الأوروبية الوافدة. والفرق الوحيد بينهم وبين المستعمرين أنهم كانوا يصرّون على تنفيذ هذه السياسات بشكل مباشر وبأيديهم وربما بقسوة أشد. وكانوا يعتقدون أن السبيل إلى الحضارة والرقي يمرّ بتعميم النموذج الذي تعلمته الطبقة الاجتماعية الحاكمة من الغرب ويقع اللباس الغربي في رأس قائمة السلوكيات الجديدة ولذلك منعوا اللباس التقليدي في بلدانهم.
أصدر رضا شاه عام 1936م، مرسوماً تحت عنوان «تحرير المرأة» ينص على منع الحجاب. وأعطيت المرأة عام 1963م، حق المشاركة في الانتخابات، وفي قانون «حماية العائلة» مُنع من تعدد الزوجات، وأعطيت المرأة حق حضانة الأولاد في حالة الطلاق. وقد تغيرت أغلب هذه القوانين بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران انسجاماً مع أحكام الإسلام.
والعلاقة بين النسوية والإمبريالية الثقافية تبدو واضحةً في هذا النص للسيدة ساشتيكو مراتا، حيث تقول: أعتقد أن وجهة النظر النسوية حول كثير من الأمور التي وجهت النسوية الغربية نقدها إليه من الإسلام والمجتمع الإسلامي، وجهة النظر هذه تقوم على رؤيةٍ كونيةٍ غريبةٍ عن الرؤية الكونية التي تصدر عنها الأحكام الإسلامية. وتظهر معظم الانتقادات التي وُجّهت ذاتَ طابعٍ أخلاقيٍّ إصلاحيٍّ، وبالتأمل في هذه الإصلاحات التي كانوا يسعون إليها يظهر بوضوح أثر المقاييس الغربية فيها. وهي في جوهرها تدعو إلى فكرةٍ واحدةٍ ألا وهي فرض قيم جديدة، وهي عبارة أخرى عن نقل قيم الرجل الأبيض وتحميله مسؤولية إصلاح العالم، ولم يُعد يقال لنا أن الصلاح والنجاة في اتباع الدين المسيحي بل في العلم[24]
وتتابع الكاتبة وتقول ما حاصله: إن اعتقاد النسوية أن أي طاعةٍ للرجل وانقيادٍ لـه رذيلةٌ وظلمٌ للمرأة لا بدّ من التنديد به ورفضه. هذه النقطة تستحق من المسلمين وقفة تأمل ليسألوا أنفسهم: هل يمكن القبول بهذه القيم الأخلاقية المضادة لدينهم؟ إن الإسلام لـه سلسلة من المقررات والضوابط الأخلاقية والفقهية التي شرحها عرفاء الإسلام وفقهاؤه وحكماؤه عبر القرون، ولا ننفي وجود الظلم في المجتمعات الإسلامية، بل النقطة الأساس هي: أن مشكلات المجتمع الإسلامي وهمومه لا يمكن أن ترتفع باعتماد قيم الثقافة الغربية.
إن الجنس المذكر كما الجنس المؤنث سيفٌ ذو حدين، وكلٌّ من الجنسين لـه خصوصياته وقيمه المثبتة والسالبة، ولا يمكن تلطيف التصور البطريركي إلا بالنظر إلى إيجابيات العنصر النسائي في المجتمع. ولا يتمكن المسلمون من القيام بهذا الأمر إلا إذا حاولوا ذلك بوصفهم مسلمين لا مقلدين للغرب فحسب[25].

النتيجة:
أ- نضال الإسلام في مقابل النسوية:
على الرغم من إمكان الاكتفاء بما ذكرنا سابقاً لإثبات الاختلاف الجوهري بين الإسلام والدعوة النسوية، إلا أن الاختلاف بين الاثنين لا يقتصر على تفسير الشريعة أو على طبيعة وحدود الحقوق التي ينبغي أن تعطى للمرأة، بل الاختلاف يعود إلى مجال جذورٍ أعمقَ تتعلق بالمسائل الأساس في مجال الميتافيزيقا والفلسفة الاجتماعية والأخلاق والسياسة والإلهيات.
فالمرأة المسلمة لا ترى في النسوية بدعةً غربيةً ترتبط بالمرأة الغربية المرفهة فحسب، بل تمثل النسوية لها إيديولوجيا لم تقدّم للمرأة سوى حريةٍ مزعومةٍ حولتها إلى شبه رجلٍ وأداةٍ جنسيةٍ (Sex object) له.
والمرأة المسلمة ترى الحجاب رمزاً لعفتها واحترام الإسلام لإنسانيتها بينما يرى معظم الحركات النسوية في الحجاب رمزاً لسيطرة الرجل على المرأة في المجتمعات الإسلامية.
ب- النهي عن الظلم في الإسلام:
لم ينهَ الإسلام عن شيءٍ كما نهى عن الظلم. وقد اهتم الإسلام بالموارد التي تتم ممارسة الظلم على المرأة فيها وخصها بالذكر وأبرزها. ولكنه تحدّث بشكلٍ عامٍّ أيضًا ووضع معياراً واضحاً لتمييز العدل من الظلم وهو الوجدان الأخلاقي للفرد المسلم، وإلى جانب هذا الوجدان أوضحت الشريعة معيار صحة الفعل ولم تكتف بالصحة بل ميزت بين صحة الفعل وبين كونه مطلوباً، ولذلك لا يمكن اعتبار كل فعل صحيح بنظر الشرع مطلوباً لـه ومندوباً إليه. ومثال ذلك من العبادات أن الفرد المسلم يمكنه أن يأتي بصلاةٍ جامعةٍ لشرائط الصحة ولكنها مع ذلك قد تكون مكروهة.
ج- سوء الاستفادة من الإسلام لممارسة الظلم:
لقد عرفت بعض المجتمعات الإسلامية مواردَ من ممارسة الظلم على النساء وبأشكالٍ مختلفةٍ، فحُرمت المرأة نتيجة وضعها الاجتماعي من بعض المواقع والمنافع التي ينبغي أن تُعطى لها بحسب الشريعة الإسلامية، ومثال ذلك أن بعض الناس يستغل دعوة الإسلام إلى تقنين الاختلاط بين الرجل والمرأة لمنع المرأة من التعلم كما حصل في أفغانستان. وفي بعض الأحيان يستفاد من اسم الشريعة وظاهرها لممارسة الظلم على المرأة مع أن ذلك يؤدي في كثير من الأحيان إلى تجاوز روح الشرع ومقاصده الأصلية. وهذه الموارد كثيرة بحيث لا نجد ضرورةً للإشارة إليها.
وقد استندت الدعوات النسوية إلى هذا النوع من الممارسات لتبرير الدعوة إلى حذف الشريعة نفسها من المجتمعات الإسلامية، ولكن لا بد من القول بوجود وسائل أخرى لرفع الظلم عن المرأة وأهم وسيلة من هذه الوسائل هي الرجوع إلى روح الشريعة وجوهرها الأصيل، وعدم السماح لكل مغرض باعتبار الشريعة إطاراً فارغاً تمارس من خلاله كل الأعمال السيئة والصالحة باسم الإسلام.
وعلى المسلمين أن يُنَشِّطوا في داخلهم الإحساس بضرورة إصلاح الوضع الحالي لمجتمعاتهم بقدر ما يهتمون بألفاظ الشريعة وظاهرها. ويبدو لي أنّ فقدان البصيرة موجودٌ عند الطرفين: النسويون وأولئك الذين يتمسكون بمشجب الشريعة من أجل تبرير تصوراتهم الظالمة عن المرأة. وذلك لأنّ كلاًّ من الطرفين لا يرى غيرَ ظاهرٍ من أمر الشريعة فحسب.
وهذا من الأمور التي التفت إليها الشهيد مطهري حيث يقول: "إن هذه القسوة والظلامات ما هي إلا نتيجة للتصورات التي يحملها بعض الناس ويحمّلونها للدين وهي أكثر ضرراً بالإسلام من الدعاية التي يمارسها الغرب"[26].
ولذلك فهو يدعو إلى تشكيل مؤسسة تهدف إلى تحرير المرأة المسلمة والنهوض بواقعها ولكن نهضةً إسلاميةً بيضاء، لا على غرار النهضة الغربية السوداء[27].
نهضة المرأة المسلمة:
يمكن إطلاق تسمية «نهضة المرأة المسلمة» على كل المحاولات الإسلامية الهادفة إلى رفع الظلم والحيف عن المرأة، حيث قامت محاولاتٌ عدةٌ في المجال الإسلامي لتحقيق هذا الأمر الأساسي والمهم وقد كانت بعض هذه المحاولات انعكاساً للنسوية الغربية.
ولم يكن واضحاً تمام الوضوح الأفق الذي يحكم كثيراً من هذه المحاولات هل هو الإسلام والفكر الإسلامي أو النسوية الغربية وأفكارها بغطاء إسلامي. وفي بعض الأحيان يصعب التمييز بين التيارين فبعض المهتمين بشؤون المرأة المسلمة يعتقدون بأن التفسير الصحيح للإسلام هو ذلك الذي يؤدي إلى المساواة بين الرجل والمرأة. ومن جهة أخرى هناك تيارٌ يؤمن بعدم وجود أيِّ داعٍ أو مبرّر لإصلاح الفقه الإسلامي أو تبديل بعض أحكامه. ومن هنا يمكن القول بوجود توجهاتٍ مختلفةٍ بين المهتمين بقضايا المرأة المسلمة منهم من هو مخالفٌ للنسوية الغربية ويسعى بجد للبحث عن الفهم الصحيح للإسلام وللفقه الإسلامي ولتعاليم النبي محمد(صلى الله عليه وآله)، ومنهم من يتلبس بلباس الأحكام الإسلامية من أجل إجراء وتنفيذ برامج النسوية الغربية ولو على حساب الإسلام وأحكامه ومقرراته في الفقه والأخلاق.
وقد التفت دعاة النسوية إلى أن المرأة المسلمة هي في الغالب وفيةٌ للإسلام ومتعلقةٌ بأهداب تعاليمه، ويوجه بعضهم هذا الأمر بأن المرأة المسلمة قد تكون مخدوعةً وغير عالمةٍ بأن كثيراً من أحكام الإسلام التي تحترمها هي ضدها وتؤدّي إلى خلاف مصلحتها ومن هؤلاء ليلى أحمد.[28] ولا شك في غرابة هذا التبرير، فأيُّ امرأةٍ مسلمةٍ لا تعرف بتفاوت الحصة بين الرجل والمرأة في الإرث.
وعلى أيِّ حالٍ يعترف بعض النسويين بأن بعض الوقائع الاجتماعية أو السياسية التي حصلت في بعض المجتمعات الإسلامية انتهت إلى نتائج كانت في صالح المرأة كالثورة الإسلامية في إيران فإنها نقلت المرأة الإيرانية من حالٍ إلى حالٍ[29].
ويبدو أن هالة أفشار تعتقد بأنه إذا كان الإسلام يحقق شعارات النسوية فليكن ذلك باباً من أبواب المصالحة معه ولا ضير عندها في ذلك. وتشترك مع أفشار الكاتبة الإيرانية زيبا مير حسيني حيث تقول: "... ودليلي هو أنه وبخلاف ما كان يقال سابقاً أو ما زال يقال حتى الآن، فإن الثورة الإسلامية حملت شيئاً من الحرية للمرأة بمعنى أنها مهّدت الطريق لوعي نسوي عام"[30].
ويبدو من هذا النص لزيبا مير حسيني اتفاقها مع زميلتها هالة أفشار حول عدم المنع من المصالحة مع الإسلام. ويبدو كذلك أنها تعتبر كل محاولات تحسين وضع المرأة نسوية، سواءً أحملت الإيديولوجيا النسوية أم الإسلام...
وعلى أيِّ حالٍ، في الختام يمكننا التفاؤل والاستبشار بكل محاولات رفع الظلم عن المرأة شرط أن يُتّخذ موقفٌ من كلّ هذه الموضوعات المطروحة بالبحث ولا يضعف بنية العائلة المسلمة ولا يخل بالطاعة المبنية على المحبة والعشق لله تعالى.

-------------------------------------
[1]* ـ أميركي مسلم، أستاذ في الفلسفة الغربية وعضوُ الهيئة العلمية في مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والتحقيق، قم-إيران.
[2]- W.V. Quine, Quiddities, (Cambridge: Harvard University Press, 1987), Pp.207- 208.
[3]- وقد عرّف معجم دودن (Duden) الألماني النسوية بأنها: تيار في داخل الحركة النسائية يسعى إلى تطوير فهم جديد للمرأة, وهدم الفوارق التقليدية في الدور الاجتماعي لكل من الجنسين.
[4]- See: A.NYE, Philosophy and Feminism: At the Border, (New York, 1995).
[5]- Marry Ellen Waith, A history of Women Philosophers, 3 Vols, (Dordecht, 1987- 1991).
[6]- Allison Jagger,«Feminist Ethics», in: L. Becker and C. Becher, eds, The Encyclopedia of Ethics, (New York, Garland, 1992).
[7]- Sarch Lucia Hoagland, Lesbian Ethics.
[8]- Carol Gilligan, in a different voice: Psychological the oryand woman’s development, (Cambridge: Harvard University Press, 1982).
[9]- Mary Daly, Beyond God the Father, Toward a Philosophy of women’s Liberation, (Boston, 1973).
[10]- Elisabeth Grossman, In Memory of Her: A Feminist theological Reconstruction of Christian Origins, (New York, 1983).
[11]- يشار في هذا المجال إلى شخصيات من قبيل:
Elisabeth Grossman, Rosemary Reuther, Cathrina Halkes, Elisabeth Molt Mann Wendel
[12]- Mary Daly, Beyond God the Father, Toward a Philosophy of women’s Liberation, (Boston, 1973). Pp.19
[13]- Luce Irigaray, Sexes and Genealogic, ER. Gillianc. Gill, (New York: Colombia, University Press, 1993).
[14]- Ibid. P.72.
[15]- بمعنى أن هذه الأوصاف لا تتناسب مع مقامه عز وجل.
[16]- Elisabeth Motmann Wendel,«Werkstatt ohne angest», forum Religion, 3/1987, 34, Cited in Manfred Houke, God or Goddess? Pp.95.
[17]- W. Morgan Shuster, the strangling of Persia, Pp. 197- 198.
[18]- Sackiko Murata, The tao of Islam, especially, Part 2.
[19]- H.A. Wolfson, the Philosophy of the Kalam, Cambridge Harvard, 1976.
[20]- Sakiko Murata, The tao of Islam, Pp. 55, 203- 222.
[21] لقد عالجت الباحثة ليلى أحمد هذا الموضوع بالتفصيل في كتابها Woman and Gender in Islam فمن أراد فليراجع.
[22] مصدر سابق، ص 152-153.
[23]- Leila Ahmed, op. cit, p.154.
[24]- Sachiko Murata The Tao of Islam, p.4.
[25]- Ibid, p. 323.
[26]- Ibid. p.306.
[27]- مرتضى مطهري، نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص59.
[28]- ليلى أحمد، مصدر سابق.
[29]- Haleh Afshar,«Woman and politics of fundamentalism in Iran», in: Haleh Afshar, ed. Woman and politics in the third world, Pp. 126.
[30]- Ziba Mir – Hosseini, Woman and Politics in Past – Khomeini Iran, in: Haleh Afshar, Woman and politics in the Third World, Pp. 143.