البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأبعاد القيميّة للمركزيّة الغربيّة حيال الشعوب الأخرى

الباحث :  بهاء درويش
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  29
السنة :  شتاء 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 16 / 2023
عدد زيارات البحث :  3437
تحميل  ( 421.318 KB )
تهدف هذه الورقة إلى بيان مفهوم المركزيّة الأوروبيّة مِن خلال عرض نقدي للتأويلات المختلفة لتاريخيّة وجغرافيّة هذا المفهوم. تركّز الورقة على مبرّرات ظهور هذا المفهوم، وكيفيّة هذا الظهور، وأهمّ أعلام الغرب الذين ساهموا عبر تاريخ الفكر البشري في محاولات ترسيخه. تزعم الورقة أنَّ هذا المفهوم استند إلى أبعاد قيميّة، مثل “الاستمراريّة التاريخيّة” أو “امتداديّة الغرب” و“السموّ الأوروبي” تأسّس عليها، سنحاول بيانها وعرضها، ثمّ تنتقل الورقة في النهاية إلى بيان تهافت وعدم صحّة هذه الأبعاد القيميّة، وهو ما يدحض، بالتالي، صحّة أو خيريّة مفهوم المركزيّة، ناهيك عن بيان استهجانه أخلاقيًّا لما ترتّب عليه مِن محاولات إقصاء وتشويه واستغلال للآخر، بالإضافة إلى بيان تناقضه مع مبادئ العدالة والمساواة وحقوق الإنسان التي طالما نادى بها الغرب نفسه.

كلمات مفتاحيّة: المركزة الغربيّة – السموّ الأوروبي – القيم – الخصائص البيولوجيّة- الاستمراريّة التاريخيّة – العرقيّة – حضارة الاستعمار.

تمهيد
لتبرير سموّ الحضارة الغربيّة وسموّ أصحابها، ولتبرير ضرورة الأخذ بها واتّباعها، ولإعماء الجميع عن كل أخطائها وعيوبها -نشأة ومسلكًا-، عمد بعض مفكّري الغرب -وسار على نهجهم بعض مفكّري الشرق، وخاصّة في عالمنا العربي- لنشر دعوى أُطلق عليها “المركزيّة الغربيّة”. أسس أصحاب هذه الدعوى المركزيّة المزعومة على مجموعة مِن القيم، أهمّها الاستمراريّة التاريخيّة عبر العصور؛ أي إنَّ الحضارة الغربيّة لم تبدأ مع عصر النهضة، أي بعد انتهاء ما يعرف بالعصور الوسطى، ولكنَّ منشأها هو الحضارة اليونانيّة. يأتي “السموّ الأوروبي” القيمة الثانية المبرّرة في الوقت نفسه للقيمة السابقة. فحوى هذه القيمة هو الزعم بأنَّ لبني الغرب خصائص وراثيّة ثابتة تخصّهم وحدهم، وهي ما أدّت لتأسيسهم هذه الحضارة، وأنّه لولاها لما حقّق الغرب ما حقّق مِن التطوّر العلمي والاقتصادي والفلسفي. يتفرّد بنو الغرب بهذه الخصائص، ومِن ثم ما كان مِن الممكن لأيّ شعب مِن شعوب الأرض أنْ يحقّق ما حقّق الغرب لسبب بسيط، وهو افتقارهم لهذه الخصائص البيولوجيّة. فلمّا كان لبني الغرب هذه الخصائص البيولوجيّة، كانت الحضارة الغربيّة حضارة صنعها الغرب منذ أيام اليونان؛ لأنَّ خصائصهم وطباعهم موجودة لديهم منذ الأزل.

تحاول هذه الورقة بيان أنَّ هذه الدعاوى محض أكاذيب جغرافيّة تاريخيّة، وأنَّ نظريّة الطبائع الثابتة للشعوب نظريّة غير علميّة. لذا، فإنَّ منهجنا أنْ نعرض لهذه القيم التي أسس عليها دعاة المركزيّة دعاواهم، ثمّ نقوم بتفنيدها وإثبات تهافتها عن طريق إثبات خطئها. تنتقل الورقة بعد إثبات كذب هذه الدعوى إلى بيان أيضًا لاأخلاقيّتها؛ ذلك أنَّه في القول بالسموّ والتفوّق، دعوة صريحة للتمييز بين بني البشر، ناهيك عن أنّها تمثّل محاولة لإقصاء وتشويه واستغلال للآخر. أخيرًا، تفضح الورقة تناقض الغرب مع أنفسهم؛ ذلك أنَّ فكرة المركزيّة الغربيّة تقف ضد مبادئ العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، التي طالما نادى بها الغرب وملأ الدنيا ضجيجًا بها، وكأنّها اكتشاف خاصّ بهم. وفي النهاية نتساءل: هل تحتاج أيّ حضارة- إذا كانت بالفعل حضارة تميّز وعلوّ وسموّ ومنفعة للبشريّة- إلى تبرير لتميّزها، أم مِن المفترض أنْ تترك أسسها الأخلاقيّة ونتاجها الفكري قبل المادّي يتحدّثان عن نفسها؟

مفهوم المركزيّة الغربيّة
تعدّدت التعريفات التي وضعها الكُتّاب لشرح الظاهرة التي لا تخطئها العين، والمعروفة بـ“المركزيّة الغربيّة”. يمكن ببساطة القول بأنّ هذه الفكرة هي فكرة أراد بها بعض مفكّري الغرب والشرق تبرير سموّ الحضارة الغربيّة وسموّ أصحابها، وتبرير ضرورة أخذ كلّ الشعوب بها، واتّباعهم لها إعماء للجميع عن كلّ أخطاء هذه الحضارة وعيوبها، وكأنّها أفضل العوالم الممكنة.

إلّا أنَّ مفهوم المركزيّة الغربيّة أسّس على أكاذيب تاريخيّة وجغرافيّة ونظريّة غير علميّة، فكما يقول المفكّر العراقي عبد الله إبراهيم: لقد تقصّد هذا المفهوم أنْ يركّب لأوروبا وجهة نظر مِن خلال إعادة إنتاج مكوّنات تاريخيّة توافق رؤيته، معتبرًا إيّاها جذورًا خاصّة به، ومستحوذًا في الوقت نفسه على كلّ الإشعاعات الحضاريّة القديمة، قاطعًا أواصر الصلة بينها وبين المحاضن التي احتضنت نشأتها. فالمفهوم قصد إقصاء كلّ ما هو ليس غربيًّا[2]”. يظهر مِن استخدام عبد الله إبراهيم لمفردات “يُركّب”، “إعادة إنتاج”، “مستحوذًا”، (“إقصاء” الآخر) اتفاقه معنا في أنَّ دعوى المركزيّة الغربيّة دعوى مختلقة ومبنيّة على أكاذيب، وليس على وقائع مثبتة.

كذلك يرى عبد الله إبراهيم أنّه “لمّا كانت ولادة العصر الحديث قد اقترنت بالكشوف الغربيّة والممارسة الغربيّة في ميادين المعرفة ومؤسّسة الدولة بركائزها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، فقد اقترنت صفة الحديث بأفق تصوّرات الثقافة الغربيّة حول الإنسان والعالم، وأصبح الغرب هو المرجعيّة الأساسيّة لتحديد أهمّية كلّ شيء، وإحالة الآخر إلى مكوّن هامشي لا ينطوي على قيمة بذاته”[3].

يتّفق سمير أمين مع عبد الله إبراهيم على أنَّ المركزيّة الغربيّة أسّست على أكاذيب، فيرى أنَّ مضمون المركزيّة الغربيّة يقوم على أساس خرافة، مفادها الادّعاء بالاستمراريّة في تاريخ القارّة الأوروبيّة، (أساسها) إبداع جذور قديمة وهميّة للتضادّ بين هذا التاريخ المزعوم وتاريخ المنطقة التي تقع على الشواطئ الجنوبيّة للبحر الأبيض المتوسّط[4].

أسّست أكذوبة الاستمراريّة التاريخيّة على أكذوبة أخرى، مفادها خصوصيّة تاريخ الغرب الذي أنضجته عوامل خاصّة أدّت إلى حضارة غنيّة. هذه الأكذوبة الأخيرة زعم لتبرير دعوة المجتمعات الأخرى للأخذ بالحضارة والثقافة الغربيّة، فعلى المجتمعات التي تريد أنْ تنهض، أنْ تحذو حذو الغرب في الأخذ بالأسباب ذاتها التي أخذ بها الغرب. وهو ما يعني أنّه على كلّ مجتمع أنْ يتخلّص مِن خصوصيّته الثقافيّة، ويتماهى مع الخصوصيّة الثقافيّة للغرب.
المركزيّة الغربيّة- إذًا- هي هيمنة الغرب على كلّ مناحي الحياة، وخاصّة قيم ورؤى الغرب، وذلك استنادًا إلى قوّة ماديّة مرحليّة يحياها الغرب منذ القرن الخامس عشر، ونهضة حقّقها قد تغري الآخر للانضمام إليها والتماهي معها، وبالتالي، نسيان خصوصيّاتهم الثقافيّة ظنًا بأنَّ هذه النهضة ستدوم للأبد. إلّا أنَّ هذا المفهوم (المركزيّة الغربيّة)، والظنّ بأنّه سيدوم، أسّس على أكاذيب تاريخيّة وجغرافيّة، ونظريّة غير علميّة ثبت خطؤها مِن أجل تحقيق أغراض لاأخلاقيّة (ابتلاع خصوصيّات الثقافات الأخرى، إقصاء الآخر وتهميشه، تمييز واضح بين أبناء بشر أسوياء مِن الأصل). هذا ما سنحاول بيانه الآن.

أسس المركزيّة الغربيّة
أ) الطبيعة الثابتة لشعوب البشر
لترسيخ وتبرير مفهوم المركزيّة الغربيّة، ظهرت في منتصف القرن الثامن عشر ما عرف بنظريّة الطبائع الخاصّة؛ أي تلك التي تحاول التدليل على أنَّ للشعوب إمكانيّات ومهارات ثابتة تختلف وفقًا لألوانهم وتكوينهم الفسيولوجي. سنعرض لهذه النظريّة الآن، ثمّ نبيّن تهافتها فيما بعد.

ظهرت أولى محاولات تصنيف البشر بصدور كتاب “نظام الطبيعة” لعالم النبات والطبيعيّات “كارل فون لينه”، الذي قسّم البشر إلى أربعة أجناس بحسب ألوانهم، فهناك الأبيض الأوروبي والأحمر الأميركي والأصفر الآسيوي والأسود الأفريقي، ولمّا كان لشعوب البشر ألوان مختلفة، فقد راح المستعمرون والمبشّرون وعلماء الطبيعة يطلقون على البشر صفات تبعًا لألوانهم: فالزنجي الأسود كسول وخامل وماكر بطبيعته، وليس كردّ فعل لاستعباده واستغلاله، ولكنّها طبيعة ثابتة فيه. كذلك حاول بعض العلماء، مثل الهولندي كامبر والإنكليزي وايت إيجاد أساس تشريحي للمفاضلة بين البشر، ورأوا أنَّ جمجمة الأبيض الدائريّة تشير إلى ذكائه وجماله، في حين أنّ جمجمة الأسود المتطاولة ونتوء فكّيه، تجعلانه أقرب إلى القردة منه إلى البشر.

ومنذ القرن الثامن عشر أيضًا، كان البحث في الفيلولوجيا قد أشاع تمايزًا في الكفاءة الأدائيّة بين اللغات الآريّة واللغات الساميّة، ورتَّب عليه تفاوتًا بين عقليّتين، وهذا ما دعم دعمًا مباشرًا صياغة النظريّة العنصريّة واكتمالها في القرن التاسع عشر على يد غوبينو وفولتمان وغومبلوفكس وسواهم ممَّن وجدوا مثل هذا الدعم أيضًا مِن البحوث العلميّة حول الداروِينيّة وأصل الأنواع. ولقد حوَّل غوبينو العنصريّة إلى ضَرْب مِن الشعر، وذلك في كتابه تفاوت الأجناس البشريّة الصادر في العام 1853، حيث أعلى مِن شأن العرق الأبيض إلى درجة بلغت حدَّ التغنِّي والتمجيد: فهو القيِّم على أعظم وأنبل وأخصب ما في الأرض، وهو المعني، دون سواه، بإنتاج العلم والفن والحضارة. أمّا الشرقيّون، فهم العروق الدنيا، ودونيَّتهم العرقيّة موافِقة لنظام الطبيعة الذي يقرُّ مبدأ التفاوت بين الأجناس. وعليه، فلا يرجى مِن هؤلاء الشرقيين أيُّ شيء؛ إذ إنّ حوامِلهم السُّلاليّة عقيمة. فتبعًا للنظام التراتبي العنصري، ثمّة حدٌّ فاصل بين نمطين مِن البشر، أوّلهما دونيٌّ ومنحطٌّ ووضيع لا معنى لحياته، لأنّ تلك الحياة فعل غير تاريخي؛ وثانيهما متفوِّق وذكي ورفيع وسامٍ، يعود إليه الفضل في ولادة التاريخ وقيام الحضارة. وطبيعي، في مثل هذه الحال، أنْ يحقَّ لهذا النمط الأخير أنْ يُعامِل النمط الأوّل كما يشتهي.

هكذا قامت المركزيّة الأوروبيّة على إنكار وحدة الجنس البشري إنكارًا يزعم وجود اختلاف جوهري بين بني البشر مِن حيث البيولوجيا والتشريح أو مِن حيث الطبائع الأساسيّة، قد يكون ناجمًا عن مؤثّرات جغرافيّة كالحرارة والبرودة وطبيعة الأرض والمياه، أو مِن حيث الثقافة قد يكون ناجمًا عن وجود قوانين اجتماعيّة موضوعيّة متباينة جوهريًّا.
هذه العنصريّة الثقافيّة لم تقتصر على أوروبا والعرق الأبيض الأوروبي، بل شاعت لدى بقيّة الأعراق بدعوى “الخصوصيّة” و“الأصوليّة”، سواء لدى السود الأفارقة أو الآسيويين في العالم الثالث؛ وذلك، في جانب منه، كنوع مِن ردَّة الفعل المَرَضيّة على التمركز الأوروبي[5].

لم يتوقّف هذا السموّ الأوروبي عند تبرير القول بالاستمراريّة التاريخيّة، ولكنْ نادى به- لذاته- وآمن به فلاسفة ذوو قدر عال، مثل ديكارت وهيغل. رأى ديكارت أنَّ البناء العلمي الذي تشيّده أوروبا هو مِن أجل العالم كافّة، ومنفعة التفلسف لها أهمّية كبيرة؛ لأنَّها وحدها تميّز الأوروبيين عن الأقوام المتوحشين والهمجيين. وهكذا، صار مفهوم الأوروبي عن نفسه أنَّه مركز المدنيّة، وأنَّ غيره همجي ومتوحش[6]. أمّا هيغل، فسنفرد له مساحة تتّسق وحجم قناعته بهذا التمييز.

ب) الاستمراريّة التاريخيّة
يمثّل الزعم بالاستمراريّة التاريخيّة للحضارة الأوروبيّة، تلك التي تمتدّ مِن اليونان القديم ثمّ روما إلى القرون الوسطى، الإقطاعيّة ثمّ الرأسماليّة المعاصرة، إحدى ركائز المركزيّة الغربيّة. يربط دعاة المركزيّة الغربيّة بين الادّعاء بأنَّ الإغريق هم أسلاف الغرب الحالي، وبين القول بالطبائع الثابتة للشعوب أو الحضارات. فالغرب منذ الأسلاف الإغريق هم حملة العقلانيّة. هذه الوراثة اليونانيّة المزعومة هي ما مهّد السبيل إلى غلبة العقلانيّة. والفلسفة اليونانيّة- في هذا الإطار- هي المصدر الوحيد للعقلانيّة، أمّا الفلسفات الشرقيّة الأخرى فلم تتجاوز حدود الميتافيزيقا كشفًا عن طبيعة التفكير لدى شعوبها. أنمى الفكر الأوروبي هذه الوراثة اليونانيّة بدءًا بعصر النهضة إلى أنْ ازدهرت روح العقلانيّة في المراحل اللاحقة لتطوّر العلم المعاصر. أمّا آلاف السنين التي تفصل اليونان القديم عن النهضة الأوروبيّة، فقد عدّت مرحلة انتقاليّة محفوفة بضباب التعمية التي حالت دون تجاوز الفكر القديم. كذلك عدّت المسيحيّة مجرّد مجموعة مِن المبادئ الأخلاقيّة الفقيرة مِن حيث المضمون الفلسفي، كما أنَّ النزاعات التي ملأت تاريخ الكنيسة، عدّت نزاعات لاهوتيّة غير قائمة على العقل. هذا إلى أنْ أعيد اكتشاف المنهج الأرسطي في أواخر القرون الوسطى، فأدمج هذا الأخير في البناء الميتافيزيقي للمدرسيّة، وإلى أنْ قام كلّ مِن النهضة والإصلاح البروتستانتي بتحرير الفلسفة مِن المدرسيّة بملازمة تحرير المجتمع المدني مِن احتكار الفكر الديني. وفي هذا السياق، عُدّت الفلسفة العربيّة الإسلاميّة مجرّد ناقل للفلسفة اليونانيّة، ولم تأت بجديد[7].

كذلك أيّد هيغل، بل وكان مِن أقوى أشياع المركزيّة الغربيّة، ولكنْ انطلاقًا مِن تفسير خاصّ للتاريخ عضد به أيضًا فكرة السموّ الأوروبي.

ج) هيغل والمركزيّة الغربيّة
يُعدّ الفيلسوف الألماني جورج هيغل (1770-1831) مِن أبرز الفلاسفة الذين أيّدوا المركزيّة الأوروبيّة والاستعمار مِن خلال تفسيره لحركة تطوّر التاريخ. في كتابه الشهير “محاضرات في فلسفة تاريخ العالم” الذي هو في أساسه مجموعة محاضرات ألقاها على طلابه وتمّ جمعها بعد وفاته، يضع هيغل تصوّرًا خاصًّا لحركة التاريخ، يرى مِن خلاله أنَّ العقل يسكن التاريخ، وأنَّ التاريخ يتقدّم مع تقدّم وعي الإنسان بنفسه. هنا يميّز هيغل بين ثلاثة معان أو مناهج للتاريخ: التاريخ الأصلي، التاريخ الانعكاسي، التاريخ الفلسفي. الأوّل هو ذلك التاريخ الذي يعيش أحداثه المؤرّخ أو ينقلها عمّن سمعها فيكتبه كما هو. أمّا التاريخ الانعكاسي -يترجمه إمام عبد الفتاح “التاريخ النظري”- فينقسم لأربعة أنواع، الأوّل هو ذلك الذي يأمل المؤرّخ مِن سرده الخروج برؤية لتاريخ العالم أو الدولة ككل[8]. الثاني يسمّى التاريخ البراغماتي، وهو ذلك الذي نستخلص منه العبر والعظات[9]. النوع الثالث هو التاريخ النقدي أو تاريخ التاريخ[10]. أمّا النوع الرابع، فهو التاريخ الذي يجزئ نفسه إلى تاريخ الدين، تاريخ الفنّ، تاريخ القانون، فهو المرحلة الانتقاليّة الموصلة للتاريخ الفلسفي للعالم[11]. المعنى أو المنهج الثالث هو التاريخ الفلسفي. هنا تتأمّل الفلسفة التاريخ، فتخرج بفكرة العقل Reason، العقل الذي يسود العالم، والذي يجعل مِن التاريخ عمليّة عقليّة[12]. ولمّا كان التاريخ لا يظهر إلّا مع ظهور الوعي، عدَّ هيغل مسار تاريخ العالم مسارًا تكافح فيه الروح لكي تصل فيه إلى الوعي بذاتها؛ أي تعي حريّتها. قسّم هيغل حضارات العالم إلى حضارات، كلّ مجموعة منها تمثّل درجة مِن درجات الوعي بالحريّة. أولى هذه الحضارات هي الحضارات الشرقيّة الهنديّة والفارسيّة والصينيّة والفرعونيّة القديمة، حيث تميّزت هذه الحضارات بأنَّ المواطنين كانوا عبيدًا للحكّام. فالحاكم وحده كان حرًا. أمّا المرحلة الثانية، فتمثّلها الحضارتان اليونانيّة والرومانيّة، حيث اتّسع نطاق الحريّة قليلًا بمعرفة الحضارتين أنَّ البعض أحرار. هؤلاء البعض هم مَنْ يتمتّعون بالمواطنة (اليونانيّة أو الرومانيّة)، أمّا أبناء الشعوب الأخرى، فكان ينظر إليهم على أنَّهم برابرة وهمج. يجد هيغل في هذه الواقعة تبريرًا لقبول فلاسفة أمثال أفلاطون وأرسطو لنظام الرقّ، ذلك أنّهم لم يكونوا يعرفون أنَّ الإنسان خلق حرًّا بطبيعته. أمّا الشعوب الجرمانيّة، فقد كانت أولى الأمم التي تصل إلى الوعي بأنَّ الإنسان بما هو إنسان حرّ، وأنَّ الحريّة تؤلّف ماهية الروح. لهذا احتاج إدخال مبدأ “أنَّ الإنسان بما هو إنسان حرّ” في مختلف العلاقات الاجتماعيّة إلى وقت طويل وإلى عمليّة تربوية وثقافيّة. ودليل هيغل على ذلك، أنَّ الرقّ لم ينته فورًا مع ظهور المسيحيّة، وكذلك لم تنتشر فكرة الحريّة إلّا بعد أمد طويل[13]. هذا الوعي الكامل بأنَّ الإنسان حرّ، لم يحدث- وفقًا لهيغل- سوى في التربة الأوروبيّة، حيث الانتقال مِن “البعض حرّ” إلى “الجميع حرّ”. أمّا أبناء الحضارات الشرقيّة، فلمّا لم يكن لأيّ منهم وعي بالحريّة، وكان التاريخ هو الوعي بالحريّة، فهي أمم -وفقًا لهيغل- لا تاريخ لها، ومع هذا يدرجهم هيغل في تاريخ العالم؛ لأنَّ لديهم حدًّا أدنى مِن الوعي بالحريّة، وهو معرفة أنَّ الحاكم الذي ينتمون إليه حاكم حرّ[14].

يخلص الكثير مِن نقّاد هيغل مِن فكرته عن تطوّر الوعي في التاريخ إلى أنَّ هيغل مِن دعاة المركزيّة الأوروبيّة والاستعمار. هيغل مِن دعاة المركزيّة الأوروبيّة؛ لأنّه يرى أنَّ 1) التطوّر التاريخي حدث في خطّ واحد فقط مِن اليونان إلى الرومان ثمّ العصور الوسطى فأوروبا الحديثة، حيث أوروبا الحديثة تعني الشعوب ذات الثقافة الأوروبيّة في الولايات المتّحدة وأستراليا وسائر الغرب. 2) التطوّر الذي حدث في أوروبا تطوّر داخلي نحو ظهور قيم الحريّة والمساواة والقيم الليبراليّة الأخرى. 3) وإذا كانت بعض المناطق في أوروبا لم تظهر فيها الحريّة أو مازالت لم تظهر، فإنَّ هذا نتيجة أنَّ مبادئ الحريّة والمساواة الحاكمة لم تمارس في هذه المناطق. 4) لم يحدث تقدّم نحو الحريّة والمساواة مكافئ لما حدث في أوروبا في أيّ مكان آخر في العالم[15].

هذه النزعة المركزيّة الأوروبيّة وقسمته للشعوب إلى أوروبا حرّة وشعوب غير أوروبيّة غير حرّة، هي ما أدّت إلى موقفه مِن الاستعمار.
الاستعمار هو ما نشر مبدأ وروح الحريّة. وفقًا لهيغل- كما أسلفنا- لم يع ويمارس الحريّة سوى الغرب الأوروبي، وبالتالي، لن تستطيع بقيّة الشعوب اكتساب الحريّة إلّا إذا فرض الأوربيّون حضارتهم عليها. هذا الفرض للحضارة -وإن كان استعمارًا- إلّا أنَّه مبرّر؛ لأنّه السبيل لحصول بقيّة الشعوب المستعمرة على حريّتها على المدى الطويل[16].
العبوديّة أيضًا -وفقًا لهيغل- لا يجب إلغاؤها فجأة، ولكنْ يجب أنْ يتمّ إلغاؤها بالتدريج حتّى يعي العبد الحريّة أنّه في الأساس حرّ. قبل العبوديّة لم يع الأفارقة الحريّة، فكان كلّ منهم يستعبد الآخر، وتعاملوا مع بعضهم البعض على أنّهم أشياء، أو كائنات لا تختلف عن موجودات الطبيعة. مِن هنا لم يكن مِن الصواب إلغاؤها إلّا بعد أنْ يعي العبد مِن خلالها الحريّة، وهو الوعي الذي ما كان مِن الممكن أنْ يتحقّق إلّا مِن خلال استعباد الغرب للأفارقة وغيرهم مِن الشعوب غير الحرّة في الأساس[17]. على هذا النحو يبرّر هيغل عبوديّة الغرب للشعوب الأخرى انطلاقًا مِن رؤيته للمركزيّة الغربيّة.

نقد الأبعاد القيميّة للمركزيّة الغربيّة
أسّست المركزيّة الأوروبيّة- إذًا- على مجموعة مِن الأسس أو الأبعاد القيميّة. تبقّى أنْ نبيّن كيف أنَّها تشكّل جميعها خرافة، أو أنَّها محض أكاذيب.

أ) الطبيعة الثابتة لشعوب البشر
رأينا أنَّ دعاة المركزيّة الغربيّة في محاولتهم تبرير حضارتهم وسموّ الغرب، حاولوا الاعتماد على نظريّة ترى أنَّ لشعوب كلّ حضارة صفات ثابتة تميّزهم، وأنَّ هذه الصفات ثابتة.
من الثابت أنَّ هذه النظريّة ليست نظريّة علميّة، فقد تغيّرت الآراء التي أطلقت عن صفات البشر مِن قرن لآخر. فعلى سبيل المثال، كان الفكر السائد في القرن التاسع عشر يقول إنَّ الشرقيين يفيضون بالشهوة الجنسيّة، وأنَّ هذه الصفة هي سبب كسلهم وتخلّفهم. أصبحت هذه الصفة بعد ذلك تنسب للأفارقة السود. انقلب بعد ذلك الحكم رأسًا على عقب عندما اكتشف علم تحليل النفس عقدة الكبت الجنسي. الآن يقال إنَّ هذا الكبت -وهو عكس المبالغة في الشهوة الجنسيّة- هو المسؤول عن عيوب الشرقيين، ومنها الكسل[18]. هذا التغيّر في الأحكام يبرهن على أنَّ هذه الأحكام التي أطلقت أحكام مسبقة وتعسفيّة، تغيّرت مع تغيّر الآراء حول عادات مختلف الشعوب.

أضف إلى هذا، أنَّ الصفات التي نسبها دعاة هذه النظريّة للشعوب تبعًا لألوانهم، كالقول إنَّ الزنجي الأسود كسول وخامل وماكر بطبيعته، لم يثبت أنَّها صفات كامنة فيه، ولكنّها جاءت كردّ فعل لاستعباده واستغلاله. لا يقف دليل على ذلك مثل الزنوج المتميّزين في الألعاب الرياضيّة المختلفة والنشاطات العلميّة، وفي الإعلام، والموجودين في كلّ بلاد العالم.
هذا التنظير العلمي، الذي يهدف لبيان أنَّ للشعوب طبائع ثابتة، لم يُقصَد لذاته، وإنَّما كانت له وظيفته المتمثّلة في التأكيد “العلمي” على تبايُن البشر لتسويغ معاملتهم بكيفيّات متباينة وتبرير اللامساواة، التي لا تعود نتاجًا اجتماعيًّا وتاريخيًّا، بل نتاج طبيعي لا مردَّ له.

ب) نقد الاستمراريّة التاريخيّة
الزعم بالاستمراريّة في تاريخ القارة الأوروبيّة زعم خاطئ لا ينبني على وقائع جغرافيّة أو تاريخيّة، فمن ناحية لم يكن للصفة “أوروبي” التي استخدمت كمكوّن للهويّة وجود جغرافي؛ ذلك أنّ أوروبا كانت مقسومة إلى عالمين “عالم روماني” و“بلاد بربريّة”، ولم يكن طموح الرومان الالتفات للغرب، ولكنْ كان طموحهم تشكيل قارّة رومانيّة. فالتركيب الجغرافي للإمبراطوريّة الرومانيّة، كان بمعنى مِن المعاني خرقًا وتمزيقًا لمفهوم أوروبا الجغرافي، وظلّ الحال على ما هو عليه إبّان القرون الوسطى إلى أنْ استجدّت تحدّيات خارجيّة ساهمت في رتق حالة التمزّق، فحصل تقارب بين أوروبا الرومانيّة وأوروبا البربريّة. كان في مقدّمة هذه التحدّيات ظهور الدولة العربيّة الإسلاميّة، التي ورثت معظم التركة الرومانيّة التي انتقلت إلى الإمبراطوريّة البيزنطيّة. وجدير بالذكر أنَّ الانتماء الديني طوال العصر الوسيط، خلق نوعًا مِن الوحدة الشعوريّة، قامت بدور مهمّ في تكوين الإمبراطوريّات الدينيّة المتصارعة[19].

كانت أوروبا تغادر العصور الوسطى ولم تفلح بعد في إضفاء صفة واحدة تندرج شعوبها تحتها، فلم يدمج الأعراق التي تستوطن البلاد في هويّة محدّدة سوى الشعور الديني، الذي شكّل بطانة داخليّة للتواصل الروحي.
لم تظهر أوروبا الموحّدة إلّا مع نهاية القرن الخامس عشر، وذلك مِن خلال ظاهرتين: الكشوفات الجغرافيّة، ثمّ الثورة الفكريّة العلميّة. تكشف هذه الأولى عن بداية إستراتيجيّة التمركز التي أعلنت صلتها بالآخر. لم تكد أوروبا تكتشف أميركا، وهو ما أسمته “العالم الجديد”، حتّى نسبتها لنفسها، وتمّت إبادة السكّان الأصليين، وألغت وجودها وتاريخها الذاتي، وامتدّ نفوذ أوروبا إلى أعماق البلاد الجديدة.

أمّا الثورة الفكريّة العلميّة، فقد بدأت بها أوروبا رؤى وتصوّرات جديدة تختلف تمامًا عن رؤاها المرتبطة بسلطة الكنيسة، كما تفجّرت الثورة العلميّة التي أحلّت معتقدات جديدة وذهنيّة جديدة عن تلك التي قيّدتها العصور الوسطى. وبدأت أوروبا تشيع أفكار الكونيّة وعولمة القيم، ولكنْ انطلاقًا مِن المفهوم الأوروبي. يظهر هذا جليًّا مِن مقولة ديكارت -التي ذكرناها آنفًا- أنَّ البناء العلمي الذي تشيّده أوروبا مِن أجل العالم كافّة، ومنفعة التفلسف لها أهمّية كبيرة، لأنَّها وحدها “تميّزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين”. وهكذا صار مفهوم الأوروبي عن نفسه أنَّه مركز المدنيّة، وغيره همجي ومتوحش[20].

ثم إنَّ العالم الأوروبي الجديد تكوّن مِن خلال تبلور عناصر الرأسماليّة فيه مِن جانب، والتوسّع الأوروبي مِن خلال غزو العالم مِن جانب آخر. فالعنصر الجديد الذي يميّز التاريخ اللاحق، هو إدراك الأوروبيين أنّهم أصبحوا قادرين على فتح العالم كلّه. أدرك الأوروبيّون منذ ذلك الوقت مدى تفوّقهم المطلق على غيرهم. هذا التفوّق قد جعل فتح العالم بالنسبة لهم لا يعدو مسألة وقت[21].
يُعدّ روجيه جارودي مِن المفكّرين الأجانب الذين رفضوا المركزيّة الغربيّة انطلاقًا مِن رفض الاستمراريّة التاريخيّة. ركّز جارودي على أنَّ أصول هذه الحضارة أصول شرقيّة. حضارة الغرب حادثة، وليست حضارة ممتدّة. يذكر جارودي أنَّ كليمنت السكندري سخر مِن خرافة المعجزة الإغريقيّة عندما ذكر في كتابه «سترومات» أنَّ المصادر الأولى لكتب أفلاطون وفيثاغورس، هم أنبياء مصر والسحرة في فارس والصوفيّون في الهند[22]، ولم تتشكّل أسطورة الإغريق إلّا مِن خلال التجاهل المتعمّد لأصولها. كذلك لم تأت اليهوديّة أو المسيحيّة مِن أوروبا، فأوروبا هي القارّة الوحيدة التي لم يولد فيها دين عظيم. فالمسيحيّة تدين لليهوديّة وللمنابع الشرقيّة للثقافة الإغريقيّة. وتعجّب جارودي ممّن ينسبون العظمة لأنفسهم مِن خلال إنكار النسب، فيتساءل: هل مِن الضروري للعظمة أنْ يكون المرء ابنًا لأب مجهول؟ لماذا إزالة آثار ما غذّى حضارتنا[23]؟

يرفض سمير أمين أيضًا خرافة الاستمراريّة التاريخيّة اعتمادًا على أنَّ تحقّقها يتطلّب توفّر الشروط الآتية: أوّلًا: قطع العلاقة بين اليونان القديم والبيئة التي نما فيها، والتي هي في الحقيقة بيئة شرقيّة، وإلحاق الهيلّينيّة إلحاقًا تعسفيًّا بالغرب الأوروبي. ثانيًا: تكبير دور المسيحيّة وإلحاقها هي الأخرى- بأسلوب تعسّفي- بالاستمراريّة الأوروبيّة المزعومة، وجعل هذا العنصر أحد العناصر المفسّرة للوحدة الثقافيّة الأوروبيّة[24].
بالنسبة لـ«أوّلًا»، يؤكّد سمير أمين الواقعة التي ذكرها جارودي، وهي أنَّ قدماء الإغريق كانوا يعدّون أنفسهم تلاميذ الشرق الذي تعلّموا منه مبادئ الحضارة والفكر، فلقد أكّد قدماء الإغريق أكثر مِن مرّة أنّهم تتلمذوا عند قدماء المصريين والفينيقيين، ولم يروا أنفسهم رمز التعارض للشرق، بل على العكس مِن ذلك كانوا ينسبون لأنفسهم أسلافًا مصريين. هذه النسبة، وإنْ كانت وهميّة، فإنّها تقوم دليلًا على احترامهم الجليل للشرق وتوقيرهم لقدماء المصريين، وإنْ كان سمير أمين لا يقلّل مِن عبقريّة اليونان الذين شقّوا الطريق إلى فلسفة الطبيعة[25].

أمّا ثانيًا، والتي تتعلّق بمحاولة جعل المسيحيّة قاعدة ثابتة ودائمة للذاتيّة الأوروبيّة حتّى إنّه يقال إنَّ الحضارة الغربيّة والمسيحيّة تقوم أيضًا على أساس خرافي، يفترض وفقًا له أنَّ لكلّ دين خصوصيّة معيّنة وسمات جوهريّة تحدّد تباين المسيرات التاريخيّة لمختلف الشعوب. يدحض هذا الزعم الواقعة التاريخيّة بأنَّ المسيحيّة نشأت في الشرق ولم تنشأ في الغرب، مثلها في ذلك مثل الهلّينيّة والإسلام. ثمّ إنّه تكميلًا لذلك، قام الفكر الغربي باصطناع شرق وهمي يناسب تصوّر التمركز الأوروبي. هذا هو الدور الذي قام به المستشرقون حين قدّموا صورة غير صحيحة عن شرق يتّسم بصفات تختلف جذريًّا عن صفات الغرب، بحيث تؤدّي هذه الصورة دورًا في تأكيد التفوّق الغربي.

التهافت يبرهن على عدم صحّة هذا المفهوم
لمّا كانت هذه الأبعاد القيميّة للمركزيّة الغربيّة -الاستمراريّة التاريخيّة والسموّ- أبعادأ ثبت تهافتها، فهي أبعاد ليست صحيحة. وبالتالي، لا يمكن إرجاع حضارة الغرب لأيّ استمراريّة تاريخيّة أو سموّ يتّصف به الغرب بطبيعته. بانهيار الأساسين اللذين حاول دعاة المركزيّة بيان سموّ وتميّز الغرب بهما، تنهار الفكرة مِن أساسها.

لا خيريّة لهذا المفهوم؛ لأنَّ فيه تشويهًا وإقصاءً واستغلالًا للآخر
هذه المحاولات لإعلاء شأن الغرب- مِن خلال إنكار الأصول الشرقيّة لحضارتهم، ومن خلال الادّعاء بالسموّ الذاتي الذي يرجع لصفات ثابتة، هي ما أدّت إلى حضارتهم، وهو ما ثبت خطؤه علميًّا - محاولة لتزييف حقيقة الذات بنسب ما ليس له، كما أنَّه تشويه وإقصاء للآخر، وهو ما يعني تزييفًا للتاريخ -تاريخ الذات وتاريخ الآخر- ونسب تميّز في غير محلّه، محاولة لجذب الآخر لهم وحثّه على إنكار هويّته، بل والتنازل عنها مِن أجل استمراريّة حضاريّة يخشون ضياعها، فيبحثون عن وسائل إخضاع الآخر لهم. غني عن البيان أنَّ الحضارة الغربيّة قد اعتمدت في نشر حضارتها على الإخضاع والإبادة، وهو ما فعلته مع السكّان الأصليين للقارّة الأميركيّة. مِن المخجل أنْ يبني أدعياء حضارة ما حضارتهم على أكاذيب وقيم تقف ضدّهم وليس معهم.

أضف إلى هذا أنَّه حتّى على افتراض صحّة ما يزعمون، فإنَّه زعم أو دعوة لتهميش وإقصاء الآخر وذوبانه في حضارتهم. هذه الدعاوى تقف ضدّ دعاوى العدالة والمساواة التي يفخرون -ومرّة أخرى اعتمادًا على تزييف التاريخ- بأنَّهم أوّل مَنْ طبّقها. تكاد سائر المواثيق الأخلاقيّة الآن تركّز على أنَّ للإنسان كرامة لا يختلف فيها فرد عن آخر، وتؤكّد أنَّ الفلسفات والأديان أقرّت بضرورة تحقيق المساواة والعدالة بين بني البشر في الحقوق والواجبات. هذه المبادئ تتعارض بالضرورة مع محاولات تبرير المركزيّة الأوروبيّة بالسموّ الأوروبي الطبيعي، وبالاستمراريّة التاريخيّة التي تنكر الأصول الشرقيّة للحضارة الأوروبيّة، وتدعو بوضوح للتمييز بين بني البشر.

لا خيريّة لهذا المفهوم؛ لتعارضه مع مفاهيم حقوق الإنسان التي طالما نادى بها الغرب
رغم أنَّ مبادئ حقوق الإنسان- على اختلاف مفاهيمها في الثقافات المختلفة- مبادئ متغلغلة في كثير مِن الثقافات القديمة، وخاصّة الأديان السماويّة، فلم يستطع العالم أنْ يتّحد على وثيقة واحدة يجعل حقوق الإنسان مِن خلالها معيارًا دوليًّا إلّا عام 1948 في الأمم المتّحدة. جاءت فكرتها نتيجة الممارسات غير الأخلاقيّة التي شهدتها الحرب العالميّة الثانية. تقدّم بعض زعماء العالم بأوّل مسوّدة لهذه الوثيقة عام 1946 ليعتمدها العالم عام 1948 وتترجم إلى أكثر مِن خمسمائة لغة، وتمثّل منذ ذلك اليوم أساس القانون الدولي. أسّس هذا الإعلان على أنَّ للبشر جميعًا كرامة يجب صونها، وهي أساس الحريّة والعدل والمساواة بين البشر، وأنَّ لجميع البشر، بغضّ النظر عن الجنس أو النوع أو الديانة أو اللون أو الرأي السياسي أو المولد، الحقّ في هذه الحريّات والحقوق. هذه الحقوق تتمثّل في الحقّ في الحياة والحريّة والأمان والتمتّع بحماية القانون دون تمييز، وحريّة التنقّل والزواج، وحريّة الفكر والوجدان والدين وتغيير الديانة، وحريّة الرأي والتعبير، والحقّ في العمل والتعليم.

يثور السؤال في أدبيّات الفكر السياسي عمّا إذا كانت “حقوق الإنسان” إسهامًا غربيًّا أم غير ذلك. مِن الثابت -كما قلنا- أنَّ مبادئ حقوق الإنسان قد نادت بها منذ قديم الزمان الأديان السماويّة والثقافات المختلفة، كما أنَّ مفاهيمها تختلف حتّى عبر الثقافات والدول التي تحيا في عصر واحد. سوف نحاول أنْ نقدّم شواهد على هذه الواقعة، ننطلق منها لبيان تناقض الغرب؛ ذلك أنّه كيف يساهم دول الغرب في إضفاء الطابع المؤسّسي على حقوق الإنسان، ويتبنّى في الوقت نفسه المركزيّة الغربيّة التي تتضمّن إقصاء الآخر وتهميشه؟

أثناء الجلسة الأولى للجمعيّة العامة للأمم المتّحدة عام 1946، تقدّمت مصر بقرار ضدّ الاضطهاد الديني والطائفي، أيّدته دول أميركا اللاتينيّة وأفريقيا وآسيا. كذلك أثارت كوبا والهند وبنما مسألة الإبادة الجماعيّة. دافع مندوبو الهند وهاييتي عن كرامة كلّ إنسان، كما شنّت الهند عدّة هجمات ضدّ التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، وهو ما واجهته جنوب أفريقيا بالتأكيد على سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها، ودافعت عن ذلك إنجلترا والولايات المتّحدة وكندا وأستراليا. تقدّمت بنما بمسوّدة «إعلان حقوق الإنسان والحرّيات الأساسيّة» أيّدته شيلي وكوبا ومصر والأكوادور وفرنسا وليبريا. هذا الإعلان أدّى إلى تأسيس لجنة وضع مسوّدة الإعلان العالمي لحقوق الانسان مِن إلينور روزفلت مِن الولايات المتّحدة، وتشارلز مالك مِن لبنان، ورينيه كازن مِن فرنسا، وبنج شون شان مِن الصين، وهرنان سانتا كروز مِن شيلي، وجون بيتر همفري مِن كندا. وكما هو متوقّع، صادف وضع المسوّدة اختلافات كثيرة بين الدول مِن النواحي الدينيّة والسياسيّة والثقافيّة والإيديولوجيّة، انتهت إلى إعلان يعكس هذه التعدديّة، إعلان به مِن الاتفاق عليه مثلما به مِن الغموض، وانتهى الأمر بموافقة 48 دولة على هذا الإعلان مِن أصل 58 دولة، ولم تصوّت أيّة دولة ضدّه. كانت 33 دولة مِن هذه الدول غير غربيّة[26].
هذه الوثيقة التي شاركت فيها 15 دولة غربيّة تنادي بحقوق الإنسان، ثمّ الوثائق الكثيرة التي تلتها مِن دول أوروبيّة كثيرة ومن الاتحاد الأوروبي عن ضرورة تحقيق العدالة والمساواة وعدم التمييز بين البشر على أيّ أساس، تبيّن تناقض الزعم بالسموّ الأوروبي مع هذه المبادئ الإنسانيّة السامية. أضف إلى هذا، أنَّ خلوّ وثيقة 1948 مِن ضرورة احترام التعدديّة والاختلافات الثقافيّة، يبيّن محاولة فرض رؤية غربيّة على العالم مِن خلال هذه الوثيقة، وهو ما حاولت منظّمة التعاون الاسلامي في إعلان القاهرة 1990، وحركة عدم الانحياز في جاكرتا 1992، والمنظّمات غير الحكوميّة الآسيوية في بانكوك 1993 التأكيد عليه، بالإضافة للمطالبة برؤية متوازنة بين الحقوق الفرديّة والحقوق المجتمعيّة.
أمّا عن عدم تطبيق الغرب لهذه المبادئ، مثل تسييسهم لحقوق الإنسان أثناء الحرب الباردة، وفشل القانون الدولي، الذي أصبح يتأسّس على وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في أنْ يأتي لأصحاب الحقوق مثل فلسطين وكشمير بحقوقهم، بالإضافة إلى الدعمين الأميركي والسوفياتي لأنظمة سلطويّة وتدخّلات في الدول غالبًا ما كانت تجري باسم “حقوق الإنسان”[27]، ثمّ تاريخهم الطويل في استعمار دول كثيرة في أفريقيا وآسيا والأميركيتين ونهب ثرواتها، فالمداد الذي سال يُسوِّد عشرات ومئات الصفحات، يكفي لبيان تناقض أصحاب هذه الحضارة ولاأخلاقيّة ممارساتهم.


الخاتمة
البادي لنا ممّا تقدَّم، هو التهافت المريع للقيم التي نشأت عليها مركزيّة الغرب، فهي إلى كونها مؤسّسة على عناوين كبرى تزعم فرادتها الحضاريّة، فإنّها في علمانيّتها الحادّة قوَّضت البديهيّات المعتبرة لمجمل القيم التي تقوم عليها الحقوق الطبيعيّة للإنسان. وليس القول بحتميّة انتصار الفكر الليبرالي وإعلان نهاية التاريخ سوى التعبير الأكثر جلاء عن هذه المزاعم؛ فقد أكدّت معطيات العقود الأخيرة على الفشل الذريع للنمط الليبرالي للحياة الغربيّة، سواء في الميدان الاقتصادي مع إطلاق العنان للرأسمالية المتوحشة، أو لجهة الانهيارات المتلاحقة لقيم حقوق الإنسان وحقّ الشعوب في الاستقلال وتقرير المصير.
ومِن البيِّن أنَّ النتائج التي أسفرت عنها سلوكيّات التمركز الغربي، تبرهن على نحو لا يدنو منه الشكّ في عدم صوابيّة مفهوم قام أساسًا على التمييز العنصري والاستعلاء على أمم العالم الأخرى.


لائحة المصادر والمراجع
توران كيا أوغلو، إعلان منظّمة التعاون الإسلامي لحقوق الإنسان: وعود ومخاطر، موجز السياسة، مركز بروكنجز الدوحة، سبتمبر 2020.
ثائر ديب، العنصريّة مِن البيولوجيا إلى الثقافة - راجع الموقع الخاصّ للباحث
www.aranthrpos.com
روجيه جارودي، كيف صنعنا القرن العشرين، ترجمة: ليلى حافظ، دار الشروق، الطبعة الثانية 2001.
سمير أمين، نحو نظريّة للثقافة: نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس، معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، 1989.
عبد الله إبراهيم، المركزيّة الغربيّة، الرباط، دار الأمان، الطبعة الأولى 2010 .
وعود الإسلام، ترجمة ذوقان قرقوط، مكتبة مدبولي، الطبعة الثانية 1985.
Hegel, G. (1894). Lectures on the Philosophy of History. Translated from the third German Editionby J. Sibree. London, George Bell and Sons, York St.
Hegel, G. (1894). Lectures on the Philosophy of History. Translated from the third German Editionby J. Sibree. London,George Bell and Sons, York St.
Stone, A. 2017. Hegel and Colonialism. In Hegel Bulletin. The Hegel Society for Great Britain. Doi: 10.1017/ hgl.2017.
Mende, J. 2019. Are Human rights Western- And Why Does it Matter? A Perspective from International Political Theory. In Journal of International Political Theory.
www.journals.sagepub.com/doi/10.1177/1755088219832992

----------------------------------------
[1]*ـ أكاديمي وباحث في الفلسفة التطبيقيّة – جمهوريّة مصر العربيّة.
[2]- عبد الله إبراهيم، المركزيّة الغربيّة، الرباط، دار الأمان، الطبعة الأولى 2010 ، ص11.
[3]- المرجع السابق، ص12.
[4]- سمير أمين، نحو نظريّة للثقافة: نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس، معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، 1989، ص76 .
[5]- www.aranthrpos- ثائر ديب، العنصريّة مِن البيولوجيا إلى الثقافة- راجع الموقع الخاصّ للباحث.
[6]- عبد الله إبراهيم، ص17.
[7]- سمير أمين، نحو نظريّة للثقافة، ص90-91.
[8]- Hegel, G. (1894). Lectures on the Philosophy of History. Translated from the third German Editionby J. Sibree. London, George Bell and Sons, York St., p.4.
[9]- Ibid., p.6.
[10]- Ibid., p.7.
[11]- Ibid., p.8.
[12]- Ibid., p.9.
[13]- Ibid, Hegel, G. (1894). Lectures on the Philosophy of History, p. 18- 19.
[14]- Stone, A. 2017. Hegel and Colonialism. In Hegel Bulletin. The Hegel Society for Great Britain. Doi: 10.1017/ hgl.2017.17. p.5.
[15]- Ibid, p. 3.
[16]- Ibid., Stone, A. 2017. Hegel and Colonialism. In Hegel Bulletin, p.1.
[17]- Ibid., p.9.
[18]- سمير أمين، نحو نظريّة للثقافة، ص94-95.
[19]- عبد الله إبراهيم، ص13.
[20]- عبد الله إبراهيم، المرجع السابق، ص17.
[21]- سمير أمين، نحو نظريّة للثقافة، مرجع سابق ص76.
[22]- روجيه جارودي، كيف صنعنا القرن العشرين، ترجمة: ليلى حافظ، دار الشروق، الطبعة الثانية 2001. ص37؛ وعود الإسلام، ترجمة: ذوقان قرقوط، مكتبة مدبولي، الطبعة الثانية 1985، ص15 .
[23]- روجيه جارودي، وعود الإسلام، ص16.
[24]- سمير أمين، نحو نظريّة للثقافة، مرجع سابق، ص90.
[25]- المرجع السابق، ص91-92.
[26]- Mende, J. 2019. Are Human rights Western- And Why Does it Matter? A Perspective from International Political Theory. In Journal of International Political Theory. https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/1755088219832992.
[27]- توران كيا أوغلو، إعلان منظّمة التعاون الإسلامي لحقوق الإنسان: وعود ومخاطر. موجز السياسة، مركز بروكنجز الدوحة، سبتمبر 2020، ص 2