البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

إلتباسات نظريّة ما بعد الاستعمار

الباحث :  هادي قبيسي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  29
السنة :  شتاء 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 16 / 2023
عدد زيارات البحث :  5609
تحميل  ( 512.623 KB )
يتناول البحث الآتي نظريّة ما بعد الاستعمار مِن وجهة نقديّة تحليليّة للنظريّة نفسها. والسؤال الذي انطلقنا منه يدور حول ما إذا كنّا فارقنا الحقبة الاستعماريّة بشطريها القديم والجديد حتّى يكون الكلام مشروعًا عن حقبة تالية أطلق عليها ما بعد الاستعمار. قد يبدو السؤال غير عادي وسط زحمة الجدل عن هذه النظريّة، التي تداخلت فيها أفكار التحرّر الوطني مع المناهج الذي أنتجها الغرب الاستعماري نفسه، سواء مِن خلال الحركة الاستشراقيّة المضادّة، التي نهض بها عرب ومسلمون يعيشون في الغرب، أو مِن خلال الفوضى الثقافيّة الناتجة مِن ردّات الفعل، التي قام بها هؤلاء حيال السلوك الاستعماري لجهة تحوير وتشويه ثقافات البلدان الواقعة خارج إطار المركزيّة الغربيّة. والإشكاليّة الرئيسة الماثلة هي تحديد مدى تأثّر المشتغلين على تفكيك الخطاب الكولونيالي الغربي بالمناهج التي تمّ اعتمادها في ذلك الحوار السياسي الثقافي، وكيف يشكّل المنظار الإسلامي بديلًا منهجيًّا وفكريًّا يرأب صدوع تلك التجربة.

كلمات مفتاحيّة: ما بعد الاستعمار، فوضى النظريّة، إدوارد سعيد، وائل حلّاق، غياتاري سبيفاك، هومي بابا، المعايير القرآنيّة.

تمهيد:
هل أمكن التحرّر مِن تأثيرات الاستعمار الغربي بحيث يمكن الحديث عن مرحلة ما بعد الاستعمار أم أنَّ المسألة أكثر تعقيدًا؟ ونحن هنا نتحدّث عمّا بعد الاستعمار التقليدي، وحلول الاستعمار الحديث مكانه، استعمار غير قائم على أساس احتلال الأرض والسيطرة العسكريّة، بل الهيمنة على مجالات الحياة المختلفة بطرق كثيرة وأساليب متغيّرة وقابلة للتطوير والابتكار، بحيث تداخل الفعل المهيمن مع تفاصيل الحياة، وتسرّب إلى العقول والأفكار، وشكّل البنى التحتيّة الماديّة والمعنويّة للحياة المعاصرة. بذا، يصبح السؤال عن إمكانيّة التحرّر مِن تأثيرات ذلك المهيمن مفصليًّا وشديد التعقيد إلى حدّ أنَّ المثقّف العامل لأجل تحقيق الحريّة السياسيّة والاقتصاديّة لشعبه، مضطر لاستخدام أدوات منهجيّة ومعرفيّة مِن إنتاج المهيمن نفسه. وهذا ما يحيلنا إلى موضوع ذي طبيعة ثقافيّة، إذ إنّنا هنا لا نتحدّث عن حركة تحرّر سياسي تقوم بتغيير الوقائع على الأرض، بل عن حركة فكريّة وأدبيّة نشأت في حضن الأكاديميّة الغربيّة، وعملت على استهداف الهيمنة الثقافيّة والمعرفيّة، كأنَّها عمليّة اقتصاص انطلقت مِن عقر دار الجاني. غير أنَّ هذا التموضع داخل المؤسّسة يطرح مجموعة تحدّيات أساسيّة تتعلّق بالمنهج والتموضع السياسي والهويّاتي لهذه المجموعة النقديّة، وكيفيّة إدارتها للصراع الداخلي الذاتي لدى أفرادها بين الهويّة الأصليّة والالتزام الأكاديمي والانتماء لمجتمع المهجر. هذا المركّب الهجين هو محلّ تركيزنا مع استطلاع تأثيراته الفكريّة والسياسيّة، وهو يشكّل جزءًا مِن نقاش أوسع يتعلّق بكلّ مثقّف يعاني مِن أزمة الازدواج الثقافي والتهجين على امتداد الحالات الثقافيّة التحرريّة في عالم ما بعد الاستعمار التقليدي.
يتمحور السؤال المركزي هنا حول الأساس الذي نرتكز إليه عندما نريد خوض السجال الفكري مع الآخر المستعمر، هل نخاطبه بلغته وقواعد تفكيره، فنعترف به وننخرط في نظام لغته وتفكيره ونظرته إلى الأشياء ومواقعها وقيمها؟ وهل أنَّ المشكلة معه تتعلّق بالخطاب والسلوك أم أنّها تتعدّاهما إلى المنهج؟ وهل أنَّ استخدام منهج ينتمي إلى المنظومة ذاتها التي أنتجت الخطاب والسلوك الاستعماري، وما تزال، هو طريق يؤدّي إلى إحراز موقع مؤثّر في تركيبة الهيمنة وامتدادها وسيطرتها على الأفكار؟ وما هو البديل؟ هل يمكن أنْ نواجه المهيمن بخطاب منفصل كليًّا عن لغته وفكره؟ هل نتجاهل أنَّ منتج الغرب الفكري أصبح مهيمنًا، وبالتالي، لا بدّ مِن استخدامه كوسيلة اتصال ضروريّة حتّى في التخاطب مع ضحيّة المستعمر؟ هل يمكن الانفصال كليًّا عن منظومة الهيمنة إذا أردنا مواجهتها بالحجّة والأفكار؟ وإلى أين يمكن اللجوء إذا أردنا الوصول إلى منطقة وسطى أو رسم مسار تدريجي في المواجهة؟

مشروع «ما بعد الاستعمار» فوضوي غير منظّم، فهو نقدي وغير بنائي ولا يمتلك بشارة واضحة، وهو ليس بمدرسة متداخلة المساعي ومتواشجة الهموم، ومِن غير الواضح ما هي المقاصد التي يريد تحقيقها ويراها ممكنة وواقعيّة، لكنّه بلا شكّ استطاع أنْ يثبت حضوره في الميدان الثقافي الغربي ضمن الساحة التي يتاح فيها النقاش النقدي، وهي ساحة تتّسع باستمرار، لكنْ ببطء شديد، وتحت حصار التيّار الرئيس الغربي العنصري.
سنتعرّض لهذا التيّار عبر ثلّة مِن رموز الأساسيين، وهو تيّار متشعّب وغير منضبط بشكل كبير إلى حدّ اعتبر بعض الباحثين أنّه تيّار غير قابل للتعريف. فنظرًا لولادته دون حاضنة مؤسّساتيّة، ومن خلال مفكّرين متناثرين مكانيًّا، ومتعدّدين قوميًّا، ومختلفين فكريًّا، ومفترقين زمنيًّا، عملوا بشكل منفرد، فقد اتّسم هذا المجال بالفوضويّة. بناءً على ذلك، سنكتفي باستعراض نماذج متعلّقة حصرًا بإشكاليّة بحثنا مِن تجربة كلّ مِن الباحثَين الفلسطينيَين إدوارد سعيد ووائل حلّاق، والهندييَن غياتاري سبيفاك وهومي بابا.

تجربة إدوارد سعيد في نقد الاستشراق
عاش الفلسطيني إدوارد سعيد أغلب سنواته في الولايات المتّحدة معلّمًا في جامعة كولومبيا في الآداب الإنجليزيّة، وخرج بتراث ثري ومعمّق حول الناتج الغربي الأدبي الذي يتناول الشعوب التي تعرّضت للاستعمار. سنعرض لبعض طروحات سعيد الواردة في كتابيه (الثقافة والإمبرياليّة، العالم النصّ الناقد) وسنتجاوز كتاب الاستشراق اكتفاءً بما قدّمه وائل حلّاق مِن نقد له، وتظهر الطروحات التي اخترناها مدى عمق الأزمة التي يعاني منها تيّار ما بعد الاستعمار.

الثقافة والإمبرياليّة
يقرّ سعيد بأنَّ مسرح الحوار الفكري مرتبط بالصراع بشكل وثيق، وهو غير مفتوح لإعمال العقل الحرّ في الأزمنة الحديثة، فإنَّ التفكير بالتبادل الثقافي يتضمّن التفكير بالسيطرة والمصادرة القسريّة: «يخسر البعض، ويربح البعض»[2]. وفي كتابه الثقافة والإمبرياليّة يشير إلى عمق أزمة الموقع الزماني للثقافة وتأثيره على صياغة الموقف، فمَنْ تعرّض لآثار زمن الاستعمار، وتحرّك باتجاه مقاومته وتحرير الفكر مِن تبعاته، يعيش ثنائيّة لا فكاك منها، ثنائيّة أنتجتها الإمبرياليّة وحافظت عليها على امتداد مراحلها وتطوّرها، «وكما أنَّ الإمبرياليّة في مرحلتها المنتصرة لم تنجز إلّا إنشاءً ثقافيًّا مصوغًا مِن داخلها، فإنَّ ما بعد الإمبرياليّة اليوم لا تسمح بشكل رئيس إلّا لإنشاء ثقافي مِن الريبة والشكّ مِن طرف البشر الذين كانوا مستعمَرين سابقًا، ومِن التحاشي النظري في الأغلب مِن طرف المثقّفين الحواضريين. وإنّني لأجد نفسي عالقًا بين الاثنين، كما هي حال عدد منا، نحن الذين ترعرعنا إبّان الفترة التي تمّ فيها تفكيك الإمبراطوريّات الاستعماريّة التقليديّة، فنحن ننتمي إلى مرحلة كلا الاستعمار والمقاومة ضدّه»[3]. لا بدّ مِن الوقوف عند هذا الوضوح تجاه الذات والوعي العميق، وهو ما يجعل سعيد مساهمًا في الحركة النقديّة، التي ستطال مساهماته الثريّة، فقد فتحت بعض استدراكاته المجال للبحث عميقًا في هذه الصدوع واستكشاف أعماقها.

في موضع آخر يعبّر إدوارد في هفوة عن هذه الثنائيّة التي يعيشها، والتي سيعرضها هومي بابا للتشريح الدقيق، كراهية الظالم المستعمر والإعجاب به في آن، «إنَّ الغربيين لم يدركوا إلّا حديثًا أنَّ ما يقولونه عن تاريخ الشعوب (الخاضعة المنضوية) وثقافاتها قابل للتحدّي مِن قبل هذه الشعوب نفسها، التي كانت إلى ما قبل بضع سنوات فقط تخضع ببساطة للتدميج والاشتمال – ثقافةً، وتاريخًا، وأرضًا وكلّ شيء آخر – ضمن الإمبراطوريّات الغربيّة العظيمة وإنشاءات حقولها المعرفيّة»[4]. إنَّ التصديق على عظمة الإمبراطوريّات الغربيّة رغم خوائها الأخلاقي وجدبها الإنساني يعبّر عن عمق هذه الثنائيّة، والتي ستتمظهر في نقاط أكثر محوريّة في فكر سعيد ومنهجه.

يَعتبِر سعيد، بشكل غير صريح، أنَّ الاستعمار لم يتم قلعه مِن جذوره رغم محاولات التحرّر العديدة، «حدثت عبر العالم غير الأوروبي كلّه انتفاضات استعماريّة مِن قبل.. كما حدثت غارات انتقاميّة وتغييراتٌ لأنظمة الحكم، وقضايا شهيرة، ومناظرات، وإصلاحات، وإعادة تقييمات، بيد أنَّ الإمبراطوريّات، خلال ذلك كلّه، ازدادت حجمًا وأرباحًا»[5]. وسنرى أنَّها استمرّت في زرع أفكارها في عقول التحرّريين، ومنهم سعيد نفسه.
في مكان آخر ينتقد استخدام الثقافة الغربيّة في بعض مفرداتها لمواجهة الاستعمار «هو شي منه في فيتنام، مثلًا اعتقدوا في الأصل أنَّ بعض جوانب الثقافة الغربيّة يمكن أنْ تساعد على إنهاء الاستعمار، بيد أنَّ جهودهم وأفكارهم لم تقابل إلّا بأقلّ القليل مِن الاستجابة في الحواضر، ومع الوقت حصل تحوّل في طبيعة مقاومتهم»[6]. وهو للمفارقة، أي سعيد، استخدم المقولات الليبراليّة لنقض الاستعمار عبر أدواته.

نتيجة التداخل الحضاري والتكنولوجي مع المستعمر، أصبح التخلّص مِن الهيمنة عمليّة انتقائيّة وغير تامّة، فيعمد التحرّري إلى تحديد القضايا الوجوديّة والعناصر المصيريّة والحيويّة، التي لا بدّ له مِن فصلها عن تأثير المهيمن، فيعطيها الأولويّة، ويحاول الاستفادة مِن التداخل الحضاري لتطوير قدرته على التحرّر في الجوانب ذات الأولويّة، لكنْ إذا كان التداخل والتبادل في المستوى الفكري، فإنَّ الآثار ستكون مقلقة، والتدقيق الذي يحتاجه التحرّر يصبح أكثر صرامة.
وفي مكان آخر أكثر وضوحًا، يتحدّث سعيد عن العاقبة الوخيمة لاستخدام الأفكار الغربيّة لتجريم الحضارة الغربيّة، «إنَّ مثل هذا الشخص السيّئ الحظ لا يتعرّض فقط للمخاطبة مِن قبل أصلانيين، فيما جيشه منخرط في الحرب ضدّهم، كما لم يتعرّض أحد مِن أسلافه، بل إنَّه ليقرأ أيضًا نصّ بوسويه وشاتوبريان، ويستخدم مفاهيم لهيغل وماركس وفرويد مِن أجل تجريم عين الحضارة التي أنتجتهم جميعًا»[7]. وهنا يطرأ السؤال الذي يتناول مختلف محاولات تيّار ما بعد الاستعمار، الذي لم يبن لنفسه منهجيّة وفلسفة نقديّة خاصّة ليقوم على أساسها بنقد المنتج الغربي وتجريمه، بل استند إلى بعض منتجاتها لنقض البعض الآخر.

رأى سعيد أنَّ المهيمن قام بالتركيز على اختلاف الشعوب المستضعفة مِن ناحية جوهريّة عن الرجل الأبيض، وعدم قدرتها على صياغة رؤية وبناء حضارة ومستقبل بشكل مستقلّ. بالمقابل الرجل الأبيض هو المتّصف بالأهليّة لمساعدة الآخرين. وهذا الاختلاف العرفي، كما يقدّمه الغرب، جوهري قائم ولا يتغيّر. وبالتالي، فإنَّ جزءًا مِن المواجهة مع المهيمن يقضي بفرض التماهي والتساوي وفرض إسقاط الاختلاف الجوهري مِن السرديّة الغربيّة. وبالتالي، لا بدّ مِن المصالحة بشكل أو بآخر مع ذلك المستعمر، وهنا حصل الاختراق.
بالمقابل، استخدم الغرب حججًا متعدّدة لمواجهة اللوم الآتي مِن الشعوب المظلومة والمقهورة، أوّلًا حاول إرجاع أزماتها وضعفها إلى الأسباب المحليّة وتبرئة الاستعمار الجديد مِن المسؤوليّة مستفيدًا مِن انتهاء حقبة الاستعمار المباشر، الذي لا يمكن التبرؤ منه. وثانيًا حاول استرجاع ارتكابات الشعوب عبر التاريخ في محاولة للقول إنَّ الاستعمار حالة طبيعيّة، وليست حالة غريبة. وثالثًا قدّم الاستعمار القديم والحديث على أنَّه إنقاذ للشعوب مِن التخلّف، بذلك تغدو عمليّة التصالح الجزئي مع هذا المستعمر مخاطرة قد تؤدّي لتثبيت دفاعاته ومقولاته. وهذا هو الإشكال الدقيق الذي وقع فيه هذا التيّار.

يُغفِل الغرب العلماني الإنسانوي القيم الأخلاقيّة عندما يتعامل مع الشعوب الشرقيّة الجنوبيّة، فليس هناك ما يضطره لذلك، كما هو الحال في سياسات دوله الداخليّة المرغمة على مراعاة الفئات الداخليّة منعًا لتقويض سلطتها. ولذلك، فإنَّ المراجعة الأكاديميّة يفترض أنْ تقوم على أساس القواعد التي يرضى بها الإطار الأكاديمي الغربي، والمنظار الدولي القومي الجغرافي في إطار دراسة السلوك المقارن بين الفاعل المستعمر والشعوب المستضعفة هو الذي يحضر بشكل حاسم في السردية الغربيّة. بينما السلوك الغربي بحدّ ذاته، يتمّ الدفاع عنه مِن خلال نقد تجارب الفئات والجهات المتضرّرة مِن الاستعمار ونقلها مِن خطاب الهجوم إلى خطاب الدفاع، فتضطر للإقرار بتفوّقه حتّى في حالة المواجهة معه.
الذات المغتربة جغرافيًّا لا تختلف كثيرًا عن الذات المغتربة ثقافيًّا، فكلاهما تعيشان التحدّيات نفسها، وتواجهان متطلّبات إثبات الذات أمام التفوّق الغربي بين النخب الشرقيّة المتغرّبة، ولا يختلف عن الإثبات أمام النخب الغربيّة. ولذلك، فإنَّ التحدّي الذي خاضه تيّار ما بعد الاستعمار، هو الاختبار نفسه الذي يتعرّض له مَنْ يحمل دوافع المواجهة مع الغرب، مختلطة بحالة الإعجاب بالمستعلي الناهب.

العالم النصّ الناقد
مِن المفروض أنّنا عندما نواجه الغرب أخلاقيًّا، لا نواجهه كهويّة بما هو هويّة، لكنْ بما توافق الغربيّون على تشريعه مِن قبل نخبهم، أو سكوت جمهورهم العام عليه مِن الظلم والعدوان تجاه الآخرين ضمن تأطير قومي وعرقي حادّ. وهنا نكون في مواجهة مع حالة غرائزيّة لا تتعلّق بحضارة معيّنة ولا بزمن ولا بجغرافيا خاصّة، بل هي مواجهة مع قابليّة الانحراف الإنساني الموجودة في كلّ التاريخ، وإنّما التركيز هنا على المأسسة الغربيّة لهذا الانحراف الغرائزي والوحشية المفرطة وتحويلها إلى قضيّة مشروعة تحت عنوان التحديث.

يتجاوز هذا المنطلق الأخلاقي الصدام الهويّاتي، وإنْ كانت الهويّة تتداخل مع الموقف الثقافي، لكنْ بإمكاننا تحليل السلوك الغربي مِن منظار أخلاقي بعيدًا عن النقاش التاريخي في الحرب بين الهويّة الغازية والقاطنين في الأرض المستهدفة بالغزو، وما يجمعهم مِن هويّة توحّدهم وتعطيهم الدفع لمواجهة العدوان الأخلاقي. إنَّ استفادة الشعوب المضطهدة مِن عناصر تشكيل الهويّة الجماعيّة لا يجعل الصراع بالضرورة ذا منحىً هويّاتي مثلما تتصارع القوى المتنافسة على النفوذ وتمتلك موارد متقاربة. فهنا في المشهد الإمبريالي، يمكن أنْ تكون المشكلة أخلاقيّة في منظور المضطهدين، وعرقيّة هوياتيّة مِن جهة المستعمر.

اتّجه إدوارد سعيد لمعالجة إشكاليّة الرفض الكلياني للهويّة الغربيّة مِن خلال التفكيك والتجزئة، لكنّه دخل مِن طريق شديد التطرّف والانحياز، «إنَّ مأساة هذا الشيء البسيط مِن التواضع أمر ملفت للنظر؛ وذلك لأنَّ (إريخ) أورباخ يتحدّث، أوّلًا، بلهجة هادئة تخفي الكثير مِن آلامه في منفاه. فلقد كان لاجئًا يهوديًّا هاربًا مِن أوروبا النازيّة، وكان باحثًا أوروبيًّا في ذلك التراث العريق»[8]. يستعير سعيد هنا حالة أورباخ بما يشبه حالة الإسقاط على الذات، كاتب مطرود مِن وطنه يكتب في المنفى، وبالتحديد كاتب يهودي يتعاطف سعيد مع آلامه التي سبّبتها النازيّة، في سعي واضح لتحصيل المقبوليّة الغربيّة، محاولة اختراق للجدار العنصري الصلب الذي فرضه اليهود هناك. هذا اليهودي يكتب في المنفى، ولذلك هو الأكثر قدرة على التحرّر والكتابة دون مسبقات ودون خضوع للنظم. وهذا، بحسب سعيد، هو سبب إبداع أورباخ الذي يقول «إنَّ موطننا الفيلولوجي هو المعمورة، إذ لم يعد بوسعه البقاء ضمن إطار الأمّة.. إنَّ أثمن قسط مِن إرث الفيلولوجي، والقسط الذي لا غنى عنه، لا يزال يكمن في إرث ثقافته وأمّته ذاتها. وإنَّ عمله لن يكون مجديًا قولًا وفعلًا إلّا حين ينفصل أوّلًا عن هذا الإرث ثمّ يتخطّاه»[9]. يوافق سعيد على هذا المنحى، ويعلّق بالقول «إنَّ جدليّة تحصين الذات وتوكيد الذات التي تحقّق مِن خلالها الثقافة هيمنتها على المجتمع والدولة، لهي جدليّة معتمدة عن تلك الممارسة الدائمة التي تمارسها الثقافة لعزل ذاتها عن كلّ ما تتصوّره لا يمتّ بصلة إلى ذاتها هي. وأمّا الأسلوب الذي يتمّ به هذا العزل، فهو على الدوام وضع الثقافة المدعومة فوق الآخر»[10]. إنَّ هذا الوضع المتفوّق الذي يستند إليه سعيد في تبرير التحرّر والتفكيك، إنَّما ينبت في المشروع الاستعماري الاستعلائي، أمّا الثقافة في بلاد المستضعفين، أو بين فئاتهم أينما كانوا، فهي تحارب للبقاء ليس إلّا. وللمفارقة، فإنَّ سعيدًا يورد أمثلة على هذا الوضع نفسه مِن التجربة الإنجليزيّة في الهند.

المشكلة في الثقافة حينما تكون عملًا استعماريًّا، أمّا إذا كانت تحافظ على ذاتها، فهذا مِن طبيعة وجودها. المشكلة الأساسيّة ليست في القوّة كما يحيلنا سعيد إلى نقاشات فوكو، بل تكمن المشكلة في الظلم تحديدًا، وفي حالة دعاية الهولوكوست المفتعلة، تمّ استخدام سرديّة الظلم لتبرير إبادة الشعب الفلسطيني. في سياق آخر، استخدم الغرب نفسه مدرسة التفكيك والتحرّر مِن الهويّات لخلق ثغرات في أطر النخبة في الدول المعارضة للهيمنة، ولاجتذابها ومِن ثَمَّ توظيفها، وهذا أحد آثار السكون إلى فلسفة المهيمن عند العمل على نقض الهيمنة.
قامت الحداثة بالأساس كمشروع ضدّ الدين[11] بعد أنْ كانت مشروعًا ضدّ المسيحيّة في أوروبا، ومِن ثَمَّ جرى استخدامها لنقض البنى الفكريّة للحضارات الدينيّة الأخرى في سياق عمليّات الإخضاع الاستعماري. والآن تستخدم القراءات الظاهراتيّة الإسقاطيّة على المجتمعات المتديّنة لخلق تناقضات هدّامة داخلها، خصوصًا وأنَّ الكتلة الأكثر تصلّبًا في العالم الإسلامي تجاه الهيمنة الغربيّة، تستند في تلك الصلابة إلى بنية فكريّة دينيّة راسخة. فعندما يتّجه سعيد إلى نقد الحياة الشرقيّة بعنوانها الرئيس، الدين، نجد ملاحظة سطحيّة لم تتعمّق في السؤال والمقارنة، وإنَّما لجأ إلى التعميم بحيث أسقط المكوّن الثقافي الرئيس في الشرق، يقول سعيد: «الدين يزوّدنا، كالثقافة، بنظم للسلطة وبمعايير للطقوس الدينيّة مِن تلك التي تخلص بشكل منتظم إلى فرض الخنوع أو إلى اكتساب الأشياع. وهذا الأمر بدوره يفضي إلى عواطف جماعيّة منظّمة مِن ذوات النتائج المشؤومة فكريًّا واجتماعيًّا في أغلب الأحيان»[12]. وهذا مشابه للتعميمات الغربيّة الاستشراقيّة التي حاربها سعيد، بل ربَّما أشدّ عنفًا منها، في حين نلاحظ أنَّ ميشال فوكو حينما زار إيران الثورة قبيل انتصارها، استطاع أنْ يرى نموذجًا مختلفًا، يصلح ربّما كنموذج إصلاحي للشرق بدلًا مِن الإسقاطات الغربيّة. سعيد شاهد النموذج نفسه وعايشه، لكنّه لم يدخله في بنيته الفكريّة.

يقول فوكو في مقابلة أجريت معه في أيار 1979، «المذهب الشيعي على وجه التحديد شكل مِن الإسلام يميّز، بتعليمه ومضمونه الباطني، بين ما هو مجرّد طاعة خارجيّة للتوجيهات، وما هو الحياة الروحيّة العميقة. عندما أقول إنّهم كانوا يتطلّعون إلى الإسلام مِن أجل «تغيير ذاتيّتهم»، هذا متوافق تمامًا مع حقيقة أنَّ الممارسة الإسلاميّة التقليديّة كانت موجودة بالفعل وأعطتهم هويّتهم بالفعل. وبهذه الطريقة عاشوا الدين الإسلامي كقوّة ثوريّة، كان هناك شيء آخر غير الرغبة في إطاعة الناموس. بأمانة أكبر: كانت هناك بالتحديد الرغبة في تجديد وجودهم بالكامل مِن خلال العودة إلى تجربة روحيّة اعتقدوا أنَّهم يمكن أنْ يجدوها داخل الإسلام الشيعي نفسه»[13]. لقد كان مِن الطبيعي أنْ يلجأ إدوارد سعيد إلى قراءة هذه التجربة النقيضة للهيمنة في سياق مشروعه، لكنّه تجاوزها بكل وضوح كما يفعل أغلب رموز هذا التيّار.
لقد نظر سعيد إلى الشرق في سياق حديثه عن الدين والشرق مصدر الأديان ومحلّ الانتماء المعاصر إليها كما نظر المستشرقون. نظم ثقافيّة استبداديّة لا ينتج عنها إلّا الإثم. يتمّ إعادة الأزمات والمشكلات، في خطاب سعيد، إلى المظاهر العامّة الموضوعيّة: الدين، الثقافة، الاستشراق، القوّة .. وهي عناوين مجرّدة ذات مصاديق متكثّرة لا يصحّ أنْ تكون معيارًا لتقييم التاريخ البشري وتجاربه. وإذا ذهبنا إلى المنهج الأخلاقي الذي يرمي إلى تحديد المشكلات الباطنيّة النفسانيّة والروحانيّة والمشكلات الظاهريّة السلوكيّة بما يرتبط بالفرد بشكل مباشر وبسنخيّته وسلوكه، نخرج مِن هذه الإشكاليّة المعقّدة.

إنَّ إحالة الأزمات إلى أسباب عموميّة والابتعاد عن المعايير الأخلاقيّة مفهوم في سياق الأدب النقدي، لكنَّ الحقيقة لا يمكن تجزئتها في هذا الطريق، ولا يمكن تقييم تعامل الإنسان البريء، الذي كان يسكن في أميركا قبل وصول الغزو، بالمعايير نفسها التي نقيّم بها الغازي الأوروبي لتلك البلاد، الذي ذبح عشرات الملايين مِن نفس سنخيّة هذا البريء. بالتأكيد إنَّ تكوين هذا الغازي نفسيًّا وروحيًّا وعصبيًّا وذهنيًّا مختلف كليّة عن أصحاب الأرض الفعليين، اختلافًا يمكّنه مِن ارتكاب كلّ هذه الجرائم، ومِن ثَمَّ تقديم نفسه معلّمًا أخلاقيًّا للعالم. وقد أشار سعيد إلى هذه الخاصيّة الفرديّة الأخلاقيّة في سياق حديث جرى بينه وبين صديقه عن موظّف دبلوماسي أمريكي يعطي أوامر بقصف المدنيين في فيتنام: «يا صاحبي، قال صديقي، «إنَّ الوزير كائن بشري عديد المكوّنات: فهو لا ينطبق على الصورة التي ربّما حملتها في ذهنك عن السفّاح الإمبريالي المتوحش. إذ في المرّة الأخيرة التي كنت فيها بمكتبه، شاهدت على طاولته رواية (الربّاعة الإسكندرانيّة) لدوريل»، ومِن ثَمَّ توقّف عن الحديث بكل مكر، وكأنّه كان يريد أنْ يترك لوجود تلك الرواية على الطاولة أنْ يعود وحده عليّ بتأثيره البغيض. ولكنَّ المغزى الأدهى لحكاية صديقي، كان مفاده أنّه ما مِن إنسان قرأ رواية ما واستعذبها على أرجح الظن، كان بوسعه أنْ يكون ذلك السفّاح المتوحش الذي قد يتصوّره المرء. وبعد مضي عدّة سنوات، تخطر على بالي هذه النادرة التي تتقاذفها كلّها الشكوك.. وتقع عليّ وقع الصاعقة؛ كونها الشيء النموذجي عمّا يحدث بالفعل على أرض الواقع. فالكتّاب الإنسانيّون والمفكّرون يقبلون الفكرة التي مفادها أنَّ بمقدورك أنْ تقرأ أحسن القصص، وأنْ تقتل وتشوّه البشر في آن واحد معًا؛ لأنَّ باب العالم الثقافي مفتوح على مصراعيه أمام ذلك النوع الخاصّ مِن التعمية، ولأنَّ الأنواع الثقافيّة ليس مِن المفروض أنْ تتدخّل في تلك الأمور التي لا تصادق المنظومة الاجتماعيّة على تدخّلها بها. وإنَّ الشيء الذي ينجلي مِن تلك النادرة، هو الفصل المستحبّ بين البيروقراطي الرفيع المقام وبين قارئ الروايات ذوات القيمة المشكوك بها والمكانة المحدّدة»[14]. لكنَّه لم يعتمد هذا المنهج في العمليّة النقديّة، ولم يصل إلى التوازن المنظّم بين البعد الموضوعي والبعد الذاتي، فاضطر إلى التعامل مع الكليّات المنتزعة كملجأ طبيعي لمَن لا يريد الدخول في مواقف «غير علميّة»، وهو مغترب يطلب القبول على منصّة يريد أنْ يهاجم منها الكيان الغاصب لبلاده تحديدًا.

استخدام الأدوات التي نحاكم بها التجربة الاستعماريّة لمحاكمة التجارب المستضعفة حتّى لا نقع في تهمة الكيل بمكيالين أمر فائق الخطورة؛ ذلك أنّ الحالتين تختلفان في واقعهما، وهنا نقع في مشكلة الإسقاط والتعميم، وهذا ما يشكّل مدخلًا للمستعمر نفسه للعودة إلى الساحات التي تحرّرت، فيهدم بنيتها على أساس منظومة نقديّة تتناسب والسنخيّة المنحرفة والمريضة للمستعمر، يعينه في ذلك استناد أعلام تيّار (ما بعد الاستعمار) إلى تلك المنظومة مع ما احتلّوه مِن موقعيّة لدى نخب الشعوب المستضعفة. مِن ناحية أخرى، فإنَّ إثبات الحضور تجاه منظومة ثقافيّة ضخمة وجامحة ومعتدّة بنفسها أيّما اعتداد رغم خوائها الأخلاقي والإنساني يحتاج إلى أدوات تفهمها تلك المنظومة وتتقبّلها. ويبقى السؤال، مَن الذي اخترق الآخر وقام بتطويعه وتوظيفه؟ الأكاديميّة الغربيّة أم تيّار ما بعد الاستعمار؟ وهل كانت مخاطبة المنظومة تستحقّ تبنّي مفرداتها؟

بلا شكّ إنَّ زرع الأفكار «الليبراليّة» التي تخرج المفكّر والنخبوي مِن بيئته وتتركه فريسة للمنظّمات المدنيّة والمبادرات الخيريّة الاستعماريّة التي تخضعه نفسيًّا وذهنيًّا قبل أنْ توظّفه سياسيًّا، لم يكن هذا الزرع مستندًا إلى مجموعة تيّار ما بعد الاستعمار، بل إنَّ انخراطهم في هذا المسار الفكري وتبنّيهم له، شكّل دافعًا ومؤيّدًا لاستمرار تدفّق هذه الأفكار محمّلة بمشروعيّة ومقبوليّة مكافحين معادين للاستعمار.

وائل حلّاق والردّ على «قصور الاستشراق»
يتجاوز الفلسطيني وائل حلّاق، الأستاذ في جامعة كولومبيا، التي كان إدوارد سعيد أستاذًا فيها كذلك، إشكاليّة التموضع في النسق الفكري الغربي، وذلك في نصّ مباشر بعنوان (قصور الاستشراق)، يكشف فيه نقاط ضعف أطروحة إدوارد سعيد، دون أنْ يكون هذا التجاوز بالضرورة شاملًا لكلّ مقارباته، إلّا أنَّه قدّم مطالعة وافية عن إشكاليّة التحيّز والتموضع التي وقع فيها سعيد، «إنَّ أيّ نقد سياسي صحيح للاستشراق، لا بدّ أنْ يبدأ بالأسس التي خلقت تصوّرًا معيّنًا للطبيعة والليبراليّة والعلمانيّة والإنسانويّة العلمانيّة والتمركزيّة الإنسانيّة والرأسماليّة والدولة الحديثة، ولأمور أخرى كثيرة طوّرتها الحداثة كمفاهيم مركزيّة في مشروعها. لقد ظلّ نقد سعيد سياسيًّا بالمعنى التقليدي والسطحي الذي لم يسائل أيًّا مِن أنماط الفكر والحركة الأساسيّة والمؤسّسة التي خلقت مشكلة الاستشراق»[15]. لقد بدا حلّاق أكثر جذريّة في مواجهة منظومة الاستشراق الغربي؛ ذلك أنّه قطع بشكل شبه تام مع المركزيّة الغربيّة وأدبيّاتها وفلسفتها الإنسانويّة، «قناعتي الراسخة هي أنَّ الإنسانويّة العلمانيّة كالليبراليّة، ليست متمركزة إنسانيًّا فحسب، بل تتشابك كذلك بنيويًّا مع العنف، وتعجز عن التعاطف مع الآخر غير العلماني. كما أنَّ الإنسانويّة العلمانيّة مثبتة بإحكام حتمي في بناء فكري تحدّده بالكامل أشكال مِن السيطرة السياديّة. فالإنسانويّة العلمانيّة ليست اسمًا لنوع معيّن مِن الخطاب أو (تحليل) العالم فحسب، بل هي أساسًا تبرير وترسيخ لصناعة فرد معيّن، يفهم العالم كليًّا مِن خلال قوالب حديثة متحرّرة مِن مفهوم اندماج الإنسان مع الطبيعة، وعاجزة عجزًا أصيلًا عن فهم الظواهر غير الإنسانويّة العلمانيّة فكريًا، فضلًا عن التعاطف الروحي معها»[16]. يقدّم حلّاق هنا مقاربة عميقة ودقيقة لإشكاليّة الهيمنة، ويبيّن جذورها الكامنة في أصل عصر الأنوار، وهو بذلك يتقدّم على الطبقة الأولى في تيّار ما بعد الاستعمار لناحية المقاربة الجذريّة في المواجهة، ويخطو خطوة نحو تعديل المنهج، لكنّه لا يبني منهجًا يمكن اعتماده كبنية تحتيّة لمشروع ما بعد الاستعمار، بل يكتفي باستكمال الصورة العامّة للهيمنة في منشئها وتجلّياتها.

يعاني منهج سعيد ونظرائه، بنظر حلّاق، مِن حصر حركته في المجال الأدبي، وهو مجال رئيس في المواجهة، لكنَّ النقد حين يأخذ السياق بعين الاعتبار، يمكن له أنْ يقاطع بين الأقوال الكولونياليّة والأفعال العدوانيّة، ويستكمل صورة إنتاج النصّ الاستعماري بشكل كامل، «بدأت المشكلة جزئيًّا في الأسلوب الأدبي الذي تبنّاه سعيد، والذي أدّى إلى أنْ تظلّ إشكاليّات الحداثة المركزيّة بمنأى عن التمحيص، والذي خلّف لنا تفسيرًا بسيطًا أو حتّى سطحيًّا لتلك الإشكاليّات. لقد أدرك فوكو مِن قبل أنَّ أشكال معارضة الحداثة المتأخّرة ومقاومتها تمهّد لما أسماه (الصراعات الآنيّة)؛ أي تلك الصراعات التي لا تبحث عن (العدو الرئيس)، بل عن (العدو الآني)»[17]. العقل المتفرّج على تفاعل النصّ الكولونيالي مع الوقائع مختلف تمامًا عن العقل التحرّري الفعّال في الساحة التاريخيّة، والعامل للتخلّص مِن الهيمنة، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ النصّ الكولونيالي هو نصّ مدلس وغير صريح، ويعمل (المابعد استعماري) على تشريحه لاستخراج النوايا الاستعماريّة مِن طويّته، وهو عمل مهمّ نظرًا لكون اللغة والسرد أدوات يستخدمها المستعمر في محاولة التأبيد اللانهائي للهيمنة مِن خلال السيطرة على الأفكار والعقول، لكنَّ هذا الاكتفاء بالآداب يحمل مخاطر التحوّل إلى عقل متفرّج، عقل غير فاعل، يعتبر أنَّ معرفة وتبيين حركة الاستعمار عمليّة كافية، والأخطر مِن ذلك، تحويل هذا المنهج إلى «التيّار» الفكري الرئيس الذي ينتج سرديّات جذّابة، ويتمّ ترويجها بشكل واسع.
يرتكز الاستعمار الحديث أو الهيمنة القائمة في مرحلة ما بعد الاستعمار العسكري التقليدي على أساس ثقافي وسياسي واقتصادي. ولذلك، فإنَّ الخطاب المعرفي التحرّري أساسي في هذا المجال، وهو يتحرّى التسلّل الهادئ لاستهداف جذور الهيمنة حتّى يكون مقبولًا مِن الشخصيّات الهجينة، ومحفّزًا لها على استكمال مسار التحرّر، لكنَّه لا يمكن أنْ يحقّق التغيير إنْ لم يترافق مع مسار تاريخي تحرّري يسير نحو تحقيق نموذج بديل، وهي النقطة التي لم يهتم بها حلاق في كتابه، واكتفى بنقد الوقائع القائمة، الموضوع الذي عالجه في كتاب آخر هو (الدولة المستحيلة).

غياتاري سبيفاك وفكرة «التابع لا يتكلم»
الباحثة الهنديّة الأميركية، والأستاذة أيضًا في جامعة كولومبيا، رأت بأنَّ النظريّة التي تقول بوجود تأثيرات مصدرها الذات، تقوم بتغييب السياقات العديدة المؤثّرة في وعي وظروف تلك الذات والمشكّلة لسلوكها، فهل الذات هنا غير واعية أو غير مختارة؟ الذات تتميّز بطريقة استجابتها للعوامل تبعًا لوجود نظام أخلاقي وشرعي قانوني يوجّهها لكيفيّة الانتخاب مِن بين التأثيرات والخيارات. تقول سبيفاك «بعض الانتقادات الأكثر راديكاليّة الصادرة مِن الغرب اليوم، هي نتيجة رغبة واهتمام بالحفاظ على موضوع الغرب، أو الغرب كذات. تعطي نظريّة «تأثيرات الذات» التعدديّة وهمًا بتقويض السيادة الذاتيّة، في حين أنَّها تقوم بتوفير غطاء لهذا الموضوع المعرفي. على الرغم مِن أنَّ تاريخ أوروبا كذات يرويها القانون والاقتصاد السياسي والأيديولوجيّة الغربيّة، فإنَّ هذا الموضوع المخفي يتظاهر بأنّه ليس لديه محدّدات جغرافيّة سياسيّة. وبالتالي، فإنَّ النقد الذي حظي بتغطية إعلاميّة واسعة النطاق للذات السياديّة، يفتح فعليًّا موضوعًا خاصًّا»[18]. يُفهم مِن هذا الكلام بأنّه تعريض مِن سبيفاك بعمليّة توحيد ضحايا الاستعمار؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى تصليب الموقف الاستعماري ودفعه للتطرّف، على اعتبار أنَّ الغرب يقدّم نفسه الآن كذات تعدّدية لا كهويّة موحّدة.

إنَّ اعتبار الغرب كتلة واحدة، هو موقف غير موضوعي بالتأكيد، لكنْ ما لا ينبغي إغفاله هو أنَّ الغرب فيه اتجاه رئيس رأسمالي واتجاهات نقديّة واجتماعيّة جزئيّة وهامشيّة، في حين أنَّ تقديم هوية موحّدة لضحايا الاستعمار، فإنّه لا يؤدّي إلى تصلّب الهويّة الغربيّة؛ لأنَّ تلك الهويّة المتضخّمة عملت على اقتحام عشرات الهويّات دون أنْ تتأثّر لشدّة صلابتها، وهي تعمل مِن منظور عرقي متفوّق يحافظ على تماسكه في مواجهة تعدديّة الحضارات المنهوبة، كما أنَّ الغرب استفاد ويستفيد مِن تعدديّته الداخليّة السطحيّة لمنع الآخرين مِن التصلّب في مواجهته، رغم أنَّ ما يخرج منه نحو الحضارات الأخرى ينبع حصرًا مِن التيّار الرأسمالي الأصلي المشكّل لحركته وفعاليّته. بالمقابل، فإنّ تفكيك هويّة الضحايا هو الطريق الأكثر سهولة للمستعمر، الذي يبني هيمنته على فوارق وثغرات البيئات المستهدفة.

في مقالة محوريّة لسبيفاك تقول «هل يمكن أنْ يتكلّم التابع؟ ما الذي يجب أنْ تفعله النخبة للحذر مِن استمرار بناء التابع؟ تبدو مسألة المرأة أكثر إشكاليّة في هذا السياق. مِن الواضح، إذا كنت فقيرة، سوداء وأنثى، فإنّك تحصلين عليها بثلاث طرق. ومع ذلك، إذا تمّ نقل هذه الصيغة مِن سياق العالم الأوّل إلى سياق ما بعد الاستعمار (الذي لا يتطابق مع سياق العالم الثالث)، فإنَّ الوصف «الأسود» أو «اللون» يفقد أهمّية مقنعة. إنَّ التقسيم الطبقي الضروري لدستور الذات الاستعماري في المرحلة الأولى مِن الإمبرياليّة الرأسماليّة، يجعل المشاركة عديمة الجدوى كمؤشّر تحرّري»[19]. تذهب الكاتبة هنا إلى البحث عن صوت التحرّري، عن قدرة الضحايا على التعبير عن ذواتهم الخاصّة دون تدخّل المستعمر في تشخيصهم وتوصيفهم بالنسبة له وحتّى بالنسبة لهم، فتكلّم التابع هو تظهير لاقتداره وتحكّمه بمصيره، وانتفاء لصفة التابع مِن أساسها، فالتابع لا يتكلّم إلّا بتدخّل المهيمن رغم المشاركة السطحيّة والشكليّة التي يسمح له بها. لكنْ بالنسبة لها، يفترض أنْ يتكلّم بدون ارتكاز إلى هويّة صلبة، بل بهويّة مرنة لا تسمح للغرب بالتوحّد، بحيث يمكن الخروج مِن التبعيّة دون الدخول في الشموليّة، وهنا حصل الاختراق.

ترتكز سبيفاك في نقد الذات إلى مشهد هندوسي قاس وحادّ جدًّا، «تصعد الأرملة الهندوسيّة إلى محرقة الزوج المتوفّى وترمي نفسها عليه. هذه هي تضحية الأرملة. لم يكن هذا الطقس يمارس عالميًّا، ولم يكن محصورًا بطبقة أو فئة محدّدة. تمّ فهم إلغاء هذه الطقوس مِن قبل البريطانيين على أنَّها حالة كان فيها (الرجل الأبيض ينقذ المرأة السمراء مِن الرجال السمر).. مقابل هذا الفهم، قامت حجّة الهنود الأصليين، محاكاة ساخرة للحنين إلى الأصول المفقودة: (أرادت النساء بالفعل أنْ تموت). الجملتان تقطعان شوطًا طويلًا في إضفاء الشرعيّة على بعضهما البعض. لا يصادف المرء أبدًا شهادة وعي صوت المرأة. مثل هذه الشهادة لن تكون الإيديولوجيا المتعالية أو الذاتيّة بالكامل بالطبع، لكنّها كانت ستشكّل المكونّات لإنتاج عبارة مضادّة وبديلة. وإذا ذهب المرء إلى أسماء هؤلاء النساء التي تمّت ترجمتها بشكل خاطئ، تلك الأرامل المضحّى بهنّ، في محاضر الشرطة المدرجة في سجلّات شركة الهند الشرقيّة، لا يمكن للمرء أنْ يجمع صوتًا»[20]. تستعرض سبيفاك هذه التراجيديا الهنديّة المرعبة، وتوضح مِن خلالها موقف النقد الذاتي الضروري للخلاص مِن التدخّل الغربي الخارجي، وتتقاطع مع فكرة تقديم الضحايا لأنفسهم كهويّة محايدة منعًا لتشكيل موقف غربي متصلّب تجاههم، وكأنَّ العدوانيّة الغربيّة نشأت بفعل حوار حضاري سلبي. وقائع التاريخ تشير إلى أنَّ العدوان الغربي على الهند مثلًا، لم يسبقه اعتداء هندي على الغرب، ولا استعراض للهويّة الهنديّة المقتدرة مقابله.

في محاضرة قدّمتها في الأردن قالت سبيفاك «لقد جئت مِن بلد به نظام طبقي. هناك مرّة أخرى، فإنَّ تغيير القانون (التقاليد) أمرًا جيّدًا للغاية، لكنْ حاول العمل في القرى، لأنّه على الأرض، حتّى طلابي والمدرّسون الذين أعمل معهم، يعتقدون أنَّ لديّ نوعًا مِن الارتباط الخاصّ بالألوهيّة لأنني مِن «الطبقة العليا». لقد أضررنا بشعبنا أكثر مِن الاستعمار. هذا التواطؤ أمر يجب التفكير فيه في إفريقيا والهند. ليس لديّ أيّ شيء ضدّ النسويّة الغربيّة. بعد 54 عامًا في الولايات المتّحدة، أشارك في النسويّة المهيمنة، الحركة النسويّة للمجتمع المدني الدولي»[21]. المطالعة التي تقدّمها حول التجربة الهنديّة تنطوي على نقد ذاتي صارم، وعلى ما يوحي بأنّه تسامح مع المستعمر وتفضيل لنموذجه على الثقافة المحليّة، ومِن ثَمَّ تصريح بالاندماج في المشروع النسوي الغربي. المقارنة بين أخطاء الضحايا وسلوك المستعمر المعتدي، هو استكمال متطوّر لفكرة التقدّم إلى الغرب بهويّة مفكّكة لا موحّدة. على ما يبدو إنّه محاولة لنيل قبول الغرب لا منعه مِن التصلّب، والنتيجة هي التآلف معه في مساحة رماديّة (المشروع النسوي، أو ما نظن بأنّه مساحة رماديّة)، إلى حدّ التحوّل إلى أولويّة التحرّر مِن الذات لا مِن المستعمر، على أنَّ هاتين الأولويّتين متناقضتان لا يمكن أنْ تجتمعا، وينبغي أنْ تعقد المقارنة بين خطايا الداخل وارتكابات المستعمر لتنفي إحداهن الأخرى.

تكمل سبيفاك خطابها أمام النساء الأردنيّات، «كنسويّة، أنا لا أتجاهل إمكانيّة المودّة بين الرجال والنساء. لكنَّ هذه العاطفة، وهي نتيجة غير مقصودة للروابط الاجتماعيّة، تتحوّل إلى القانون الحديدي للشرعيّة، وتصبح فرضًا قاسيًا على حرّية روح المرأة»[22]. النسويّة هنا اعتراض على نظام ثقافي وهويّة، هي جزء مِن مشروع تفكيك خطاب الضحيّة إلى حدّ التشكيك بالإمكانيّات العاطفيّة التلقائيّة التي كان يحفظها ذلك النظام الثقافي. إنّه خطاب التمزّق الاجتماعي والنفسي والعاطفي، استنادًا إلى تجربة تراجيديّة شديدة القسوة، فبالتأكيد إنَّ مقولات النسويّة الغربيّة ستبدو أفضل مِن إحراق الأرملة حيّة على نعش زوجها المتوفّى. نحن هنا أمام مشروع نقدي مرتكز إلى هذه التجربة الهندوسيّة، يحاول التملّص مِن هويّة التابع، فيلجأ إلى المستتبع بمناهجه ومشاريعه الثقافيّة السياسيّة.
ليس هناك معرفة نهائيّة بالتاريخ الجاري أو الماضي للمجتمع، هناك معرفة غير تامّة ومحكومة للمحدوديّات، وهنا تقع مشكلة الفكر الذي تخلّى عن البديهيّات اليقينيّة، إنّه لم يعد يعثر على أرض صلبة للمعرفة بأشكالها المتفاوتة، فبالاستناد إلى التجربة الجارية يمكن تنظيم مبان ثقافيّة وعقلانيّة للهوية، لكنّها لن تكون كافية كمرتكز للمواجهة مع الثقافة المقتحِمة، وعندما تستخدم هذا الفكر الذي يلبس رداء التفكيك لمواجهة الاستشراق، فإنّنا نستخدم أداة غير ملائمة لحلّ المشكلة، فأزمة الخطاب الكولونيالي لا تكمن في ادّعاء المعرفة التامّة، بل في الانحياز والتخريب الممنهج، الذي يغطّي عمليّات الاستيلاء المباشر على الموارد والحقوق والأموال.
التفكيك الذي يرمي إلى قراءة الذوات والمقاصد والوقائع، إنّما يغفل كليًّا عن المعرفة القابلة للتوافق الجماعي اليقيني المرتكز إلى البديهيّات، وإنّما هو يقصر المعرفة على إمكانيّة وصف التفاعل المعرفي لتلك العناصر الثلاثة، ويختزل الإدراك البشري في منهج حسير، وهذا ما أمكن مِن توظيفه للتخريب في المنهج الواقعي البدهي البسيط، الذي ترتكز إليه شريحة صلبة تواجه الهيمنة في المجال السياسي العمومي، في غرب آسيا تحديدًا، في الوقت نفسه الذي تمّ استخدامه لتشريع نقد المهيمن الغرب في عقر داره.

ليست الإشكاليّة في الاستخدام نفسه، وإنّما في اعتماد التفكيك كمنهج أحادي، وفي التموضع النقدي الثقافي الذي اتخذه مفكّرو هذا التيّار، وإنّما مجرّد نقد الحركة الحاصلة بين الذوات الاستعماريّة والوقائع الجارية في المناطق المستهدفة بالهيمنة والمقاصد، التي تحملها أفكار وكلمات وسرديّات تلك الذوات فيما يحصل في تلك المناطق، هذا المنهج بحدّ ذاته أثبت فائدته كونه يتلاءم مع مشكلات التحيّز التخريبي الغربي، فهو يتعامل مع حركة معرفيّة وظيفيّة تعمل على تصوير سكّان المناطق المستهدفة وتصنيفهم تبعًا لمعيار استعماري يهدف، نفسيًّا وتقنيًّا، لتسهيل تطويعهم والاعتداء على حقوقهم. فهذا الإنتاج المعرفي ليس معرفة بالمعنى البسيط، بل هو معرفة مركّبة بشكل مختزل، وموجّه لاستخدامات عدوانيّة محدّدة.
عندما نسقط منهج التفكيك في الاشتغال على الهويّة الوطنيّة، فإنَّ النتائج تكون متفاوتة؛ ذلك أنَّ الموقف والخطاب والأداء الاستعماري الغربي يتحرّك مِن موقع التفوّق والجهوزيّة الماديّة والعدوان مِن الخارج، فيما أنَّ الصراعات الداخليّة حول السلطة والمعايير الثقافيّة والشرعيّة القانونيّة، تتحرّك في إطار ثقافي وقع محلّ التوافق بين المواطنين، مهما انحسرت دائرة تأثيره والثقة به، فهنا التفكيك يعمل على تشتيت الهويّة الوطنيّة، فيما أنَّ تفكيك خطاب المتدخّل الخارجي يعمل على كشف عمليّة التسلّل إلى الوعي ومنعه مِن الاختراق، وهي مفردة مِن مفردات المواجهة الثقافيّة.

استطاع الغرب التسلّل عبر منهج التفكيك لمنع قيام وتماسك النظم الثقافيّة التي تنظّم المجتمعات المستهدفة بالاستيلاء الغربي، بحجّة أنَّها تعاني مِن اختلال قيمي ينبغي إصلاحه، وإعادة تصميم بنيتها الثقافيّة برمّتها مِن خلال منظور مقارن يضعها في موقع المحاكمة أمام البنية الغربيّة كنموذج مثالي، ويسقطها مستغلًّا شعور الدونيّة الثقافيّة لدى الضحايا، حتّى يعمل المثقّف الناقد على المقارنة ليصل في النهاية إلى أنَّ خيارات الخضوع للاستعمار أكثر جدوى مِن خيارات الثقافة والتجربة المحليّة. يساهم في ذلك وجود فجوات أخلاقيّة أو قانونيّة أو سياسيّة عميقة في بنية المجتمع المستهدف، إلّا أنَّ الإشكال الرئيس هو تحويل تلك الفجوات إلى سؤال، ومِن البحث كذلك عن الإجابة في الثقافة الغربيّة الاستعماريّة حصرًا، في حين أنَّ مصادر الثراء الحضاري ومساحات الإبداع متاحة ومفتوحة على امتداد الزمان والمكان.

هذا الخضوع المبرّر بوجود فجوات محليّة، هو ارتكاس لعمليّة النقد وارتداد واقع في سياق فكر منغلق على المركزيّة الغربيّة. تطوير المجتمع الوطني مِن خلال إسقاط النموذج الغربي هو مقدّمة للتبعيّة والإخضاع، ناهيك عن أنَّ برامج الإفقار والهيمنة الغربيّة تمنع مِن وصول الشعوب المصنّفة على أنّها درجة ثانية أو ثالثة مِن الوصول إلى ثمار النموذج الغربي السياسيّة والاقتصاديّة، وإنَّما تسمح بنماء جزئي يتيح للضحايا استهلاك الناتج الغربي التكنولوجي والثقافي مع حدود حاسمة تجاه الانتقال إلى الإنتاج والتصنيع، يستثنى مِن ذلك نسبيًّا الدول النفطيّة التابعة والدول التي يريدها الغرب قويّة في مقابل خصومه.
بالمقابل، فإنَّ المواجهة المتماسكة أمام الهويّة المقتحِمة تحتاج إلى ترميم الثغرات والفجوات الوطنيّة أو الأمميّة، لكنَّ هذا الترميم يفترض أنْ يكون معزولًا عن برنامج الاقتحام الغربي، وإلّا كان العلاج هنا والهروب مِن الهشاشة المحليّة إلى ما كنّا نحاول تفاديه: الهيمنة الغربيّة. كما أنَّ الثغرات الوطنيّة هي بالذات، في كثير مِن الأحيان، محلّ اشتغال المقتحِم لتثبيتها وتعميقها ومنع الشعوب مِن معالجتها. ولذا، فإنَّ المواجهة الخارجيّة ضرورة لازمة للمعالجة الداخليّة.

هومي بابا وجدليّة المستعمِر والمستعمَر
الهندي البريطاني والأستاذ في جامعة هارفرد، عمل على الحفر في أزمة الانجذاب للغرب والفكر الغربي. في كتابه الثري (موقع الثقافة) دقّق هومي بابا في النظرة المتبادلة بين الاستعمار والشعوب المستهدفة به، فرأى أنَّ نظرة كلا الطرفين تشوبها الازدواجيّة، فالمحتلّ المستعمر ينظر إلى المستعمَرين على أنّهم أدنى منه، لكنّهم مختلفين بشكل غرائبي وساحر. فيما ينظر المستعمَرون إلى المستعمِر على أنّه متفوّق ومحسود، لكنّه فاسد[23]. ثمّة زاوية مهمّة هنا، وهي كيف ينظر ضحايا الاستعمار إلى أنفسهم، وخصوصًا مجموعة «ما بعد الاستعمار»، التي نهتمّ بها هنا، فهل ينظر هؤلاء الضحايا إلى أنفسهم دون ازدواجيّة؟ أم أسقط عليهم المستعمر صبغة خاصّة؟ أم أنَّهم بفعل نظرتهم إلى تفوّقه قد أقرّوا بأنّ المشكلة في المضطهدين لا في المستعمر؟ الانقسام الحاصل في هويّة الضحايا، والذي يسمح بتهجين تلك الشخصيّة بحيث تدمج بين عناصر هويّتها الأصليّة وعناصر مِن هويّة المستعمر، هو مدخل لتقبّل مقولات وبنى فكريّة تتحكّم بتشكيل الموقف وتعيد هيمنة الاستعمار على الحركة الفكريّة الـ»ما بعد استعماريّة»، وتثبت أنَّ المستعمر متفوّق، وأنَّ الأزمة في المناطق المستعمرة نابعة مِن الضحايا وتخلّفهم. فهل يستطيع الاستعمار أنْ يعود مِن بوابة الموضوعيّة والمقبوليّة والمنهجيّة؟

تشبه الإشكاليّات التي عالجها هومي بابا النقطة المركزيّة التي تدور حولها هذه الورقة، رغم أنَّ سعيد وسبيفاك خاضا في التحدّي نفسه، وحاولا الوصول إلى معالجة إشكاليّة تشظّي هويّة الضحايا بفعل مركزيّة واستعلاء الخطاب الغربي، إلّا أنّهما لم يكونا بالجذريّة المطلوبة لمواجهة موجات وموجّهات الفكر الغربي المتنوّعة، فيما لم يقترب وائل حلّاق مِن هذا الميدان في معالجاته. يقول بابا حول وضعيّة الضحايا، «ما يتشاركونه جميعًا هو عمليّة خطابيّة لا يؤدّي فيها الإفراط أو الانزلاق الناجم عن ازدواجيّة المحاكاة (المتماثل تقريبًا، ولكنْ ليس تمامًا) إلى تمزيق الخطاب فحسب، بل يتحوّل إلى حالة مِن عدم اليقين التي تموضع المستعمَرين كوجود جزئي»[24]. برع هومي بابا في التحليل النفسي والخطابي للحالة الاستعماريّة بطرفيها، المرتكب والضحايا، وشكّل مقدّمة لتطوير عمليّة النقد الدفاعي الذي يقوم به تيّار ما بعد الاستعمار، إلّا أنّه، ونظرًا لاعتماده على منهج التفكيك، لم يطرح كذلك بنية كاملة يعتمد عليها، رغم أنَّه اشتغل على مفاهيم مركزيّة (التجاذب، الازدواجيّة، التهجين)، يمكن التأسيس عليها في هذا السبيل.

في الكتاب نفسه يقول بابا «إنَّ ازدواجيّة المحاكاة -تقريبًا ولكنْ ليس تمامًا- تشير إلى أنَّ الثقافة الاستعماريّة المولودة هي بشكل احتمالي وإستراتيجي تمرّد مضادّ. ما أسميته «ملامح الهويّة» دائمًا ما يكون منقسمًا بشكل حاسم تحت غطاء التمويه، فإنَّ التقليد، مثل الوثن، هو كائن جزئي يعيد بشكل جذري تقييم المعارف المعياريّة لأولويّة العرق والكتابة والتاريخ»[25]. يرى هومي بابا هنا أنَّ الشخصيّة الهجينة ذات خصوصيّة دفاعيّة متقدّمة إلى أنْ يكون تفضيلًا لها على الشخصيّة المنسحقة تمامًا والمتحوّلة إلى هويّة بديلة بالكليّة، والتي تصبح غربيّة بالمعنى القانوني للكلمة، ويتمّ توظيفها في مؤسّسة الاستشراق الحديث ومراكز التخطيط للهيمنة، ولا يوكل إليها مهمّة تنفيذ برامج الهيمنة الميدانيّة كسائر الوكلاء التقليديين، الذي يمتلكون تموضعًا محليًّا سياسيًّا يخدم المهيمن، ولذلك لا يحتاج الغرب إلى تحوّلهم التغرّبي النهائي. وفي العموم، أي بالنسبة للجمهور العام، فإنَّ الغرب لا يريد تحويل الشعوب إلى شعوب «غربيّة» تفكّر في الوصول إلى نفس مستوى الاستقلال والسيادة الذي تتمتّع به دول الغرب بشكل أو بآخر مع تفاوت زمني وجغرافي فيما بينها، لكنّه يريد لها أنْ تظلّ ناظرةً إلى الغرب كحالة متميّزة ومختلفة تستحقّ الخضوع والاتّباع.

حاول هومي بابا القول بأنَّ الغرب ليس واحدًا، وهي إشكاليّة أساسيّة في هذا النزال، «فقط مِن خلال فهم تناقض وتضارب رغبة الآخر، يمكننا تجنّب التبنّي السهل بشكل متزايد لمفهوم الآخر المتجانس لسياسة احتفاليّة معارضة للهوامش أو الأقليّات»[26]. لكنَّ المنتج الغربي الفكري الصادر إلى الشرق، والذي يمثّل الاتجاه الأساسي للقوّة الرأسماليّة الغربيّة، يمثّل سياسات فرض القوّة وعمليّات الاختراق وزرع الأفكار التي تحرّض الضحايا على رفض هويّتهم والقبول بالمقترح الغربي والخضوع لعمليّة التهجين الثقافي. ما أسماه دريدا «الميثولوجيا البيضاء»[27] التي تخلق غربًا موحّدًا، رغم تنوّعه، يناسب هذا التحليل، والذي يتلاءم مع السياسات الخارجيّة لدول الاستعمار، والتي تعمل وفق رؤية شاملة لكلّ مناحي الحياة وفق مفاهيم الأمن القومي الحديثة، والتي تجاوزت القوّة العسكريّة والإخضاع السياسي لتطال كلّ مقوّمات الدولة المستهدفة. إنَّها حاكميّة شاملة مِن الخارج، ففي المستوى المؤسّساتي توازي كلّ سفارة أمريكيّة في الخارج مؤسّسة أخرى في واشنطن اسمها «إدارة البلد»، وهي مكتب إدارة الدولة، ويقوم بالوصل بين السفارة الأميركية وجميع مؤسّسات الحكومة الأميركيّة ووزاراتها، وبتعبير وائل حلّاق، سيادة نابعة مِن الفكرة الإنسانويّة التي تدفع بالإنسان إلى درجة الألوهيّة ليصبح سيّد العالم، أي سيّد الشعوب غير البيضاء.
في كتابه ذي العنوان اللافت (الترجمة والإمبراطوريّة) يقول دوغلاس روبنسون متبنّيًا أفكار هومي بابا «كيف يمكن للمرء أنْ يعيد التعبير عن نصّ إنجليزي أميركي بإسبانيّة مكسيكيّة، ويقدّم بذلك لشخص مِن بلد فقير مِن العالم الثالث أيّ شيء يشبه المعنى الذي لدى شخص مِن أغنى بلاد العالم؟ هل يمكن للترجمة أنْ تتخطّى تباين القوّة هذا؟»[28]. هل ينطبق هذا على المنهج كما ينطبق على اللغة؟ إنَّ المنهج يتعامل مع الأفكار، وهو، أي المنهج، يقدّم مِن خلال بناء لغوي ومجموعة مفاهيم وتعبيرات، لكنَّ إخراج المنهج مِن سياقه الغربي الداخلي وإسقاطه على بيئة مغايرة، سيؤدّي إلى عدم التلاؤم والدخول في حالة الاحتياج إلى تطوير وتهذيب المنهج وتحديد مجالات استخدامه المناسبة، لأنّه بالأصل، وإذا تحدّثنا عن التفكيك هنا، منهج ولد بفعل مخاض غربي، وهو نشأ كنتيجة لجدالات محدّدة، وتحويله إلى منهج عالمي يحتاج إلى قراءة جديدة. فإذا كان التفكيك ردًّا على مركزيّة وهيمنة الأفكار السائدة في الغرب وطريقة تشريع الأفكار ونشرها وتعميمها، فإنَّ استخدام المنهج نفسه للتعامل مع مشكلات مِن سنخيّة أخرى غير مبرّر بالحدّ الأدنى.

إذا كان المعنى متغيّرًا لهذه الدرجة بين الأشخاص والأفراد تبعًا لتموضعهم، فكيف يمكن أنْ نتعامل معهم وفق معايير وإسقاطات واحدة؟ وهل يمكننا اللجوء إلى توحيد الأدوات المعرفيّة لأجل إمكانيّة المقارنة وتسهيل التفكّر والتقييم بين الحالات المختلفة؟ في حين أنَّها مختلفة في سنخيّتها وفي سلوكيّاتها وغاياتها، بل تستخدم حتّى المفردات بمعان مختلفة؟ المعيار الأخلاقي يستطيع أنْ يصمد في هذا الميدان؛ لأنَّ الظلم يبقى ظلمًا في كلّ الأحوال، والتعدّي على ممتلكات الآخرين وتخريب أمنهم الحياتي والاجتماعي يبقى تعدّيًا، ولا يمكن إعطاؤه معنىً آخر، لكنْ تحويل منهج الاعتراض على الأفكار والسرديّات غير الواقعيّة، والتي يصنعها المستعمر للمحافظة على استعماره، إلى منهج عام، فيحتاج إلى تدقيق.
الازدواج الوجداني الذي تحدّث عنه هومي بابا يتمفصل على فجوة تكنولوجيّة علميّة قائمة بين المستعمر والضحايا، فجوة سمحت له بأنْ يكون مستعمرًا ومحافظًا على وتيرة النهب التي توفّر التفوّق. هذا التفاعل مع صانع التكنولوجيا يبقى ماثلًا كقضيّة حياتيّة وثقافيّة تفرض نفسها في ظلّ حاجة ذلك الصانع إلى استهلاك الضحايا لجزء مِن التكنولوجيا، في حين يحتفظ هو بنقاط التفوّق، ويحتكر المعرفة التي تخوّله الصناعة والتطوير.
هنا يطرح السؤال التقليدي حول مجالات المشاركة والتثاقف، خصوصًا وأنَّ التكنولوجيا الرقميّة المعاصرة أصبحت مندكّة عميقًا في تشكيل الحياة العقليّة والنفسيّة. فهنا نحتاج إلى انتقائيّة دقيقة وضبط منظّم لعمليّة الاستهلاك، وحراسة النظام الاجتماعي والأخلاقي، وصيانة مناهج المعرفة مِن الاختراق الإنسانوي.
في المقلب الآخر، يمكن للنقد الذاتي أنْ يساعد الضحايا في طيّ مراحل التحرّر مِن المستعمر، بشرط أنْ لا ينطلق مِن منظوماته الفكريّة، ولا يعتمده كنموذج بديل. فيمكن للنقد أنْ يطال التجربة التاريخيّة ومنظور التحرّر، لكنَّ اقترابه مِن أصول الهويّة ورموزها والتراث القدسي الوحياني يؤدّي إلى خدمة المهيمن، الذي يريد تهجين الهويّة الثقافيّة للضحايا تبعًا لتهجين العدّة الحياتيّة التكنولوجيّة.

هذا التهجين الثقافي إذا كان مستندًا إلى وعي دقيق قادر على استشراف مسارات الاختراق الفكري وكيفيّة تنقية عمليّات توظيف النواتج الفكريّة الغربيّة مِن انحرافات الإنسانويّة، يمكن أنْ يشكّل قيمة إيجابيّة في مسار التحرّر، لكنّه طريق دقيق ويحتاج إلى أدوات للتصنيف والفرز، كما يحتاج إلى حراسة يقظة للحالة المعنويّة والتوازن حتّى لا يقع في الدونيّة الثقافيّة.

المنظور الإسلامي
بناءً على ما تقدّم، يمكن القول إنّه لا يمكن التعامل مع الغرب الاستعماري برؤية مجتزأة، ولا يعني ذلك رفض منتجاته الفكريّة بالكليّة، لكنْ لا بدّ مِن وجود قاعدة أو نظام فكري يحدّد كيفيّة التعامل مع منتجاته الفكريّة على اختلافها وتنوّعها وشتاتها. وهذا النظام، إذا أريد له الصمود والنجاح، يفترض أنْ يتولّد في بنية هوياتيّة واضحة ومتماسكة لا تعاني مِن اختلالات في نموذجها الفكري، وإنْ كان يمكن النقاش في تجربتها الواقعيّة، خصوصًا عندما تكون تلك البنية في طور التحرّر، تخوض مسارها الطويل نحو تحقيق النموذج، وفي مواجهة مقولة ضرورة تفادي العودة إلى مرحلة ما قبل الاستعمار بتخلّفها التكنولوجي، تقوم مقولة ضرورة العودة إلى هويّة تمتلك الأصالة والقدرة على رفض الخضوع، وتمتلك الأدوات الكافية لمواجهة الخطاب الاستعماري بدلًا مِن الاعتماد على العدّة الغربيّة نفسها.

كما أنَّ وقوع الحضارات الأخرى، خلال تاريخها السابق، في ارتكابات مماثلة لما يفعله الغرب الاستعماري، لا يبرّر التخلّي عن الهويّات التي تُنْسَبْ لها تلك الارتكابات، إذ يمكن تطوير السلوك الأخلاقي دون الرجوع للنموذج الغربي، ونقل الضحايا إلى مرحلة سيادة العدالة وامتلاك الاقتدار. فالغرب ليس نموذجًا قابلًا للاستفادة على الصعيد الأخلاقي في ظلّ تبريره لارتكاباته بطرق مختلفة.
يمكن، في غياب البديل الفكري المتكامل، أنْ تنزلق حتّى النخب التحرريّة إلى الحضن الغربي اضطرارًا، ومِن ثَمَّ تتحوّل إلى جزء مِن أدواته، أو يتمّ توظيف تواطئها الجزئي لاختراق صفوف النخب التحرريّة الآمنة مِن الهيمنة الفكريّة الغربيّة، وتكمن إحدى أزمات مشروع ما بعد الاستعمار في أنّه لم يطرح بديلًا، بل اكتفى بالتفكيك، فوقع في التشتّت والفوضى وانعدام الموجّه.
تكمن الإشكاليّة الرئيسة في هذه المواجهة الفكريّة بالمعادلة الآتية: كيف نواجه تجربة سلبيّة أخلاقيًّا ونفكّك سرديّتها مِن دون الوقوع في إشكاليّة التحيّز؟ هل التحرّر مِن تحيّزات الهويّة هو الطريق الوحيد؟ يستطيع الغرب في كلّ الحالات اتّهام الخطاب الأخلاقي والشرعي التحرّري بالتحيّز السياسي، وإلباسه ثوب الحاسد الحضاري، ومقولات الإرهاب والتطرّف والأحاديّة في النظرة إلى الحضارة الغربيّة، والكثير مِن الحجج الجاهزة لهذا الصراع. انطلاقًا مِن هذا الواقع السجالي، كيف يمكن أنْ نناقش مع الغرب التجربة الهوياتيّة الأخلاقيّة الذاتيّة؟

الخاتمة
لقد تناولنا في هذا البحث نقطتين أساسيّتين غالبًا ما أثارتا جدلًا لم ينته إلى الآن حول ماهية نظريّة ما بعد الاستعمار والنتائج الثقافيّة والمعرفيّة المترتّبة عليها: النقطة الأولى تقوم على إزالة الكثير مِن الإلتباسات والأضاليل التي رافقت ظهور هذه النظريّة في مجتمعاتنا الإسلاميّة. الثانية، هي تقديم البديل الإسلامي الروحاني باتجاه بلورة نظريّة معرفيّة جديدة حول الاستعمار في أطواره المعاصرة.
بالطبع، لا يمكن خوض هذا النقاش دون توضيح البديل كنموذج فكري وكتجربة واقعيّة، والبديل يفترض أنْ يكون وافيًا وشاملًا وقادرًا على مواجهة الهيمنة فكريًّا وواقعيًّا، والبديل الأمثل هو الذي يشكّل نقيضًا للفكرة الغربيّة المركزيّة الإنسانويّة. وهنا تتجلّى أهمّية الطرح الديني؛ لأنَّ الإنسانويّة نشأت كنقيض له، وتظهر أهمّية البديل الديني الإسلامي، خصوصًا لأنَّه خاض ويخوض المواجهة الواقعيّة مع الهيمنة الغربيّة بشكل جذري بالمقارنة مع المواجهات النفعيّة البراغماتيّة الآسيويّة أو الأفريقيّة أو اللاتينيّة، لكنْ تبقى أمامنا إشكاليّة التفاوت بين النظريّة الإسلاميّة والتجربة الواقعيّة في تطبيق تلك النظريّة التي تتّسم بالتعالي والمثاليّة، ما يخوّلها تحدّي الهيمنة الزمنيّة بمفاهيمها ورؤيتها الكونيّة المافوق زمنيّة، التي تتجاوز المرجعيّات الإنسانويّة المتحرّكة وترتكز إلى الوحي، وتوفّر الصلابة اللازمة لمكافحة الإخضاع، لكنَّ هذه المثاليّة نفسها تحتاج إلى توضيح صلتها بالتجربة الآنيّة.

بالمقارنة مع الغرب، فإنَّ التجربة الغربيّة هي مصدر التشريع، ومعاييرها غير منضبطة إنسانيًّا. ولذلك، فإنَّ التجربة الغربيّة تقدّم نفسها كنهاية للتاريخ بما هي تجربة الحالة المثاليّة المتحقّقة في الواقع. بالمقابل، النموذج الإسلامي يقوم على أساس إمكانيّة التكامل في الظروف المختلفة، وهو في الزمن الحالي يتعرّض للحرب الثقافيّة والاقتصاديّة، ولا يقدّم نفسه كتجربة نهائيّة. فيتّضح هنا، أنَّ التجربة الغربيّة المقتدرة ماديًّا، هي المانع الرئيس مِن تحقّق النموذج الإسلامي. وحتّى في هذا الحال، فإنَّ المشكلات والانحرافات الموجودة في التجربة الغربيّة في عمقها ودرجتها، لا يمكن مقارنتها بالمشكلات الموجودة في المجتمع الإسلامي السائر نحو الاكتمال، في حين أنَّ النجاح مرتكز إلى فائض الثروة المتأتّية مِن النهب.
يمكن نقل هذه المواجهة إلى مستويات غير مسبوقة، تشكّل الطفرة القادمة في تيّار ما بعد الاستعمار، بالاستناد إلى الطرح القرآني لبناء هندسة معياريّة يمكن أنْ تعمل كبنية تحتيّة لمشروع نقدي متكامل تحت عنوان «المعايير القرآنيّة للعلوم الإنسانيّة»[29]، يحدّد نقاط الخلل في البنية الفكريّة الغربيّة مِن خلال الطرح الوحياني، وبذلك يقطع كليًّا مع الفكرة الإنسانويّة، رغم أنّه يعترف بها ويحدّد مجالات اختزالها للوجود الإنساني، ويرمّم هذا الاختلال ليؤسّس منهجًا متوازنًا، ينطلق مِن مقاربة مستقلّة، ويحتوي المقاربة الغربيّة في مجالات أربع: الوجود، المعرفة، الأخلاق، الغاية. يتضمّن هذا الطرح مصفوفة معياريّة قابلة للاستخدام التطبيقي، وينطوي على مقاربة نقديّة للمنظومة الغربيّة بالاستناد إلى المعايير القرآنيّة، كما ينطوي على منهج احتواء ومعالجة المقولات الغربيّة، وهو يمثّل إطارًا شموليًّا نظرًا لاستناد الطرح الإسلامي إلى منهج عميق وواقعي يطال الأبعاد الحياتيّة والمعرفيّة للإنسانيّة بالاعتماد على المصدر المعرفي الوحياني الكامل.

لائحة المصادر والمراجع
إدوارد سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، ترجمة: كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، 2014.
إدوارد سعيد، العالم النصّ الناقد، ترجمة: محمّد عصفور، دار الآداب، بيروت، 2018.
هادي قبيسي، الإنسانويّة: حكم القيمة ينقضُه حكم التجربة الواقعيّة، مِن كتاب: جوهر الغرب، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيّة، بيروت، 2022.
هادي قبيسي، المعايير القرآنيّة للعلوم الإنسانيّة، معهد المعارف الحكميّة، بيروت، 2017.
وائل حلّاق، قصور الاستشراق، منهج في نقد العلم الحداثي، ترجمة عمرو عثمان، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2019.
دوغلاس روبنسون، الترجمة والإمبراطوريّة، ترجمة: ثائر علي ديب، دار الفرقد، الإمارات، 2009.
Johann Beukes, Foucault in Iran, 1978–1979, Cape Town, 2020.
Gayatri Spivak, Can the subaltern speak?, 1988.
Gayatri Spivak, Can There be A Feminist World?, Lecture at the Columbia Uni. in Amman, Jordan, Nov 16, 2013.
Homi Bhabha, The Ambivalence of Colonial Discourse, October, spring, 1984.
Homi k. Bhabha, The Location of Culture,Routledge, 1994.
Robert J. C. Young, Deconstruction and the Postcolonial.

------------------------------------------
[1]*- أكاديمي وباحث في الفكر الإسلامي – لبنان.
[2]- إدوارد سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، ص254.
[3]- إدوارد سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، ص253.
[4]- إدوارد سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، ص254.
[5]- إدوارد سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، ص255.
[6]- إدوارد سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، ص255.
[7]- إدوارد سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، ص256.
[8]- إدوارد سعيد، العالم النصّ الناقد، ص10.
[9]- إدوارد سعيد، العالم النصّ الناقد، ص10.
[10]- إدوارد سعيد، العالم النصّ الناقد، ص17.
[11]- هادي قبيسي، الإنسانويّة، مِن كتاب: جوهر الغرب، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيّة، 2022.
[12]- إدوارد سعيد، العالم النص الناقد، ص352.
[13]- Johann Beukes, Foucault in Iran, 1978–1979, Cape Town, 2020, p 190.
[14]- إدوارد سعيد، العالم النصّ الناقد، ص7.
[15]- وائل حلّاق، قصور الاستشراق، ص30.
[16]- وائل حلّاق، قصور الاستشراق، ص31.
[17]- وائل حلّاق، قصور الاستشراق، ص30.
[18]- Gayatri Spivak, Can the subaltern speak?, 1988.
[19]- Gayatri Spivak, Can the subaltern speak?, 1988.
[20]- Gayatri Spivak, Can the subaltern speak?, 1988.
[21]- Gayatri Spivak, Can There be A Feminist World?, Lecture at the Columbia Uni. Global Center in Amman, Jordan, November 16, 2013.
[22]- Gayatri Spivak, Can There be A Feminist World?, Lecture at the Columbia Uni. Global Center in Amman, Jordan, November 16, 2013.
[23]- Homi Bhabha, The Ambivalence of Colonial Discource, October, spring, 1984.
[24]- Homi k. Bhabha, The Location of Culture, 1994, p 155.
[25]- Homi k. Bhabha, The Location of Culture, 1994, p 129.
[26]- Homi k. Bhabha, The Location of Culture, 1994, p 107.
[27]- Robert J. C. Young, Deconstruction and the Postcolonial, p 188.
[28]- دوغلاس روبنسون، الترجمة والإمبراطوريّة، ص46.
[29]- هادي قبيسي، المعايير القرآنيّة للعلوم الإنسانيّة، معهد المعارف الحكمية، بيروت.