البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

قراءة في كتاب جوهر الغرب دراسات نقديّة في المباني التأسيسيّة لحضارة الحداثة

الباحث :  قراءة: مدير التحرير
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  29
السنة :  شتاء 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 16 / 2023
عدد زيارات البحث :  379
تحميل  ( 344.105 KB )
صدر حديثًا عن المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيّة كتاب جماعي تحت عنوان: «جوهر الغرب «دراسات نقديّة في المباني التأسيسيّة لحضارة الحداثة». حرَّر هذا الكتاب وقدَّم له د. محمود حيدر، وشارك فيه جمعٌ مِن الباحثين والأكاديميين مِن اختصاصات علميّة مختلفة، وخصوصًا في حقل الفلسفة.

لا بدّ مِن الإلفات بداية إلى أنَّ هذا الكتاب يندرج في إطار مشروع فكري انتقادي يُتاخم البناء الحضاري للغرب بالاستقراء والتحليل والنقد. الغاية منه، كما نقرأ في التقديم، السعي إلى إنجاز منهج معرفي يتناول بالمراجعة والنقد للمبادئ المؤسِّسة للنظام الأنطولوجي والثقافي للتجربة التاريخيّة الغربيّة الحديثة. وانطلاقًا مِن هذه الغاية، فإنَّ مجمل المباني التي تعتبر أصولًا جوهريّة لحضارة الغرب الحديث، هي على اتصال وثيق بالميراث اليوناني والروماني والمسيحي الذي سبق ظهور الحداثة. فلو استقرأنا سيرورة هذا الاتصال، سيظهر لنا مدى تأثيرها وسطوتها على حضارة الحداثة بأطوارها الثلاثة الكبرى: النهضة – التنوير – والعصر التكنولوجي. ولسوف يتبيّن لنا مِن وجهٍ آخر، أنَّ جلَّ فلاسفة ومفكِّري الحداثة استلهموا كليّاتهم المفاهيميّة ممّا أسَّسه الأسلاف في علم الوجود، وهو التأسيس الذي قام في الأصل على مبدأ الفصل التام بين الموجودات وأصل صدورها.
الدراسات الواردة في هذا الكتاب تلتقي على الجملة حول نقطة محوريّة، مفادها أنَّ الجوهر الذي قامت عليه الحداثة، وحكم على تاريخها، ينطوي على اختلالات أصليّة في مبانيه ومناهجه وآليّات نظرته إلى العالم، وإذا كانت هذه الاختلالات قد بدأت مع التأسيسات الأولى لحضارة الغرب، أي مع الحقبة الإغريقيّة، فقد ظهرت على وضوحها مع ما سمّي بعصر التنوير في القرن الثامن عشر. وتبعًا لهذه الفرضيّة، نجد أنَّه منذ الإرهاصات الأولى للوعي الغربي، كان ثمَّة استشعارٌ بخطرٍ داهمٍ يُحدِقُ بالمباني المؤسِّسة لحضارته الحديثة. ومِن الجدير بالذكر في هذه المنزلة، أنَّ رائد فلسفة الحداثة رينيه ديكارت لم يغاير القاعدة حين اتّخذ ميراث الأسلاف منهجًا لتوليف الكليّات الكبرى لمنظومته الفلسفيّة. ولأنّه توقف صاغرًا حيال تناقضات المفاهيم الموروثة، فقد آثر الرجوع إلى ذاته، لعلّه يُؤتَى بيقين ينجيه مِن حَيْرته الأنطولوجيّة. ثمّ إنّه لم يكن ليهتدي إلى «الكوجيتو» لولا أنْ غَلَبته شَقْوَةُ فَقْدِ الوجود، ثمّ سعى ليعثر عليه عن طريق «الأنا» المكتفية بذاتها. الخَيارُ سيكون بالنسبة إليه شاقًا، بل ويحتاج مِن المكابدة أقصاها. لقد وَقَعَ الرجلُ في معثرةِ الجمعِ المستحيلِ بين نقيضين غير قابلين للتواؤم: الإيقان بالألوهيّة الذي لزومُهُ التّسليم والإيمان، والبرهان بالفكر الذي مقتضاه الشكّ المنهجي مِن خلال السؤال، والسّببيّة، والعلَّة المفضية إلى ظهور المعلول والتعرُّف عليه. لم يجد ديكارت ما ينفذُ به إلى مجاوزةِ هذه المَعْثَرة الممتدّةِ جذورُها إلى الميراث اليوناني إلّا أنْ يلوذَ بـ «الأنا» لكي ينجز مبتغاه. وهكذا قرّر الرّجوع إلى نقطة البداية؛ ليكشف لنا أنّ الشّيء الوحيد الذي كان واثقًا منه، أنّه هو نفسه كائن يشكُّ، وجوهرٌ يفكّر. وها هنا يمكث الظنُّ الذي سيحمله على الاعتقاد بأنّ الإنسان ذهنٌ محضٌ، وأنّ معرفتَه بنفسه وبغيره منحصرةٌ بهذا الكائن العجيب الذي يسأل عن كلّ شيء، ويشكِّك بكلّ شيء.

يشير معدَّ الكتاب في مقدّمته إلى أنَّ مِن أبرز مفارقات الفكر الديكارتي كفكر مؤسّس لجوهر الغرب الحديث، أنّه كان ناطقًا باسم الجديد ومتمثِّلًا للقديم في الآن عينه. ولمّا رغب أنْ يبدأ مِن جديد، ويشيّد الفلسفة على أساسٍ متينٍ، كانت جذوره عميقةً وراسخةً في التّقليد الفلسفي للَّاهوت المسيحي. وحقيقة الأمر، أنّ ديكارت لم يكن لينأى قيد أنملةٍ عن شريعة الإغريق وهو يستغرق هموم «الكوجيتو». ونميل إلى القول إنّه لم يقطع مع أرسطو، بل جاءت نظريّته في المعرفة امتدادًا جوهريًّا لمنطِقِه؛ حيث خضعت لوثنيّة الأنا المفكِّرة. وسيجوز لنا أنْ نلاحظ، أنّ الكوجيتو الديكارتي إنْ هو إلّا استئناف مستحدث لـ «دنيويّة المقولات العشر الأرسطيّة». وبسببٍ مِن سطوة النّزعة الدنيويّة هذه على مجمل حداثة الغرب، لم يخرج سوى «الندرة» مِن المفكّرين الذين تنبهّوا إلى معاثر الكوجيتو وأثره الكبير على تشكّلات وعي الغرب لذاته وللوجود. وعليه، فقد جاء نقدهم للديكارتيّة ليشكّل ترجمةً مستحدثةً للميراث الأرسطي بمجمله.

الانحدار إلى الوضعانيّة
المعضلة الكبرى التي يمكن ملاحظتها فيما ذهبت إليه الدراسات والأبحاث، هي المسار الانحداري الذي سلكه العقل الغربي حين انتقلت مشاغله مِن الميتافيزيقا لتحطّ في حقل العلوم الإنسانيّة. ومِن هذا النحو يتبيّن لنا أنَّ الخصّيصة الأهمّ لماهية العقل الغربي، تكمن في وضعانيّته وفلسفته ورؤاه الوجوديّة التي أخلدت نفسها إلى فيزياء التاريخ. لم يكن إيمانويل كانط ومَنْ تلاه مِن فلاسفة ومفكّري الحداثة سوى امتداد لتلك الخصّيصة الجوهريّة. الوجهة الأصليّة في فكر كانط كمؤسس ثانٍ للحداثة، وجدت تمثُّلاتها في الاهتمام بالكمال الَّلامتناهي الذي يكون الله بمقتضاه تمامًا فوق العالم الذي خلقَه. لقد حصر وجهته الأساسيّة في الموارد الباطنيّة للذات الفرديّة للإنسان، والتي مِن خلالها تستطيع تجاوز الوقائعيّة المجرّدة للتجربة، وتحوّلها إلى كونٍ منظّم وأخلاقي. وعلى الرغم مِن أنّ هذه النظرة تفتحُ المجال لإثبات وجود الله، لكنّها في ذاتها ظلّت تميلُ نحو اعتبار هذا الإثبات مصدرًا مُحتملًا للوهم والعزلة. وسنلاحظ كيف كشف كانط عنَ موارد الوهم والعزلة عبر ثلاثة مبادئ: 1) تقديم الإلهيّات الطبيعيّة على المعرفة النظريّة بالله؛ 2) تقديم الذات الإنسانيّة بما هي الأساس، والمبدأ المحفّز للأخلاق؛ و3) نقد الاعتقادات والممارسات التقليديّة للدين.
من البيِّن كما تشير مجمل دراسات الكتاب موضوع البحث، أنَّ مجمل الأركان المؤسِّسة لجوهر الغرب جرت تحت ظلال مقولة العقلنة، ومدَّعى «إزالة السحر عن العالم» (désenchantement). وعليه، لم يكن ظهور العقلانيّة سوى حصيلة منطقيّة للتأسيسات التي مرَّ ذكرها. وسيتبوَّأ هذا المكوِّن الجوهري المرتبة الحاكمة على مجمل المكوِّنات المؤلفة لجوهر الغرب. فالمفكّر العقلاني يزعم بأنَّ المعقول هو الطبيعي، ولا وجود لشيء خارق للطبيعة، وأقصى ما يعرف به هو المجهول الذي قد يصبح يومًا ما معلومًا. وبناء على هذا الزعم، لا مكان لـقـوى خـارقـة في المخطّط الفكري للعقلاني، وبالتالي لا محلّ في عقله للاستسلام الغيبي لعقيدة ما، وإذا كانت معرفة ما يبغضـه فكر معيّن أشدّ البغض تفيدنا في تحديد معالم هذا الفكر، فإنَّ أبغض شيء إلى العقلاني، هو ذلك المزاج الفكري الذي تعبِّر عنه عـبـارة «أؤمـن بـه لأنـَّه مستحيل» Credo QuiaImpossible .

على هذا المبدأ مضت العقلانيّة إلى إسقاط كلّ ما هو خارق للطبيعة أو غيبي مِن الكون، وأبقت فقط على الطبيعي، الذي يؤمن الفكـر الـعـقـلانـي أنـّه قـابـل للفهم في النهاية، وأنَّ سبيلنا إلى فهمه فـي الـغـالـب الأعـمّ، الـوسـائـل الـتـي يعرفها أكثرنا باسم مناهج البحث العلمي. ويبدو واضحًا مِن الناحية التاريخيّة أنَّ نموّ المعارف العلميّة والقدرة المزايدة على استـخـدام المـنـاهـج الـعـلـمـيّـة، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنموّ الاتجاه في النظر إلى الكون والكوزمولوجيـا العقلانيّة. والحقيقة، أنَّ أغلب المفكّرين العقلانيين كان لهم نظرة كاملة إلى العالم، وأسلوب حياة مرتبط بإيمانهم بالعقل. العلماء الممارسون كانوا عقلانيين، وكلّ مَنْ يذهب مِن العلماء إلى أنَّ المعارف الصحيحة هي فقط تـلـك الـتـي نصل إليها عن طريق المنهج العلمي، إمّا أنْ يكون بالضرورة عقلانيًّا وإمّا مشكّكًا، ولكنْ مِن المهم جدًا أنْ نتذكّر أنَّ العلم والعقلانيّة، وإنْ كانا قد تداخلا وارتبطا فيما بينهما على مرَّ التاريخ، ليسا شيئًا واحدًا على الإطلاق.

وهكذا اعتُبرت النزعة العقلانيّة بالصورة التي نمت بها خلال الـقـرنـين الـسـادس عـشـر والـسـابـع عشر في الغرب نسقًا ميتافيزيقيًّا كاملًا، بل وأكثر مِن هذا، أنّها كانت وما زالت بالنسبة لقليل مِن الناس بمثابـة الـبـديـل لـلـديـن. ونـظـرًا لأنَّ الـنـزعـة العقليّة أخذت بوضعها هذا صورة مذهب شبه ديني، فقد كان مِن الأفضل وصفها بأسماء محدَّدة مثل الماديّة والوضعيّة وما شابه ذلك مِن تسمـيات تشير بدقّة أكثر إلى مركب كامل مِن المعتقدات والعادات والتنظيم المتّصلة بذلك.

النزعة الاستعلاعيّة وفلسفة الاستعمار
مِن أهمّ ما يلاحظه القارئ في مجمل الدراسات والأبحاث الواردة في الكتاب، هو التركيز على الاستعلاء العنصري كعامل مكوِّن لجوهر الغرب. بل يمكن القول إنَّ أبرز فلاسفة الحداثة، وخصوصًا كانط وهيغل وماركس، ذهبوا بعيدًا في تصنيف الحضارات البشريّة على أساس عرقي، وهو الأمر الذي أفصحت عنه تنظيراتهم التي ستبرّر فلسفيًّا لاستعمار الشعوب. ولقد كان للتنظير الفلسفي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مفعول حاسم في ترسيخ ثقافة الإقصاء وعدم الاعتراف بما قدّمته الحضارات غير الغربيّة مِن معارف. وعلى سبيل التبيين، ثمّة مِن المؤرّخين مَنْ يعزو اختفاء أثر فلسفة آسيا وأفريقيا مِن صرح الفلسفة الغربيّة إلى تضافر عاملين:

الأوّل: الذهنيّة الحصريّة لبعض مدوِّني الفلسفة لمَّا عمدوا إلى تظهير الفلسفة كخطٍّ ينتهي امتداده عند نقد المثاليّة الكانطيّة للميتافيزيقا.
العامل الثاني: التفكير الاستعلائي لدى مفكّري وفلاسفة أوروبا الذين حصروا الفلسفة بالعرق الأبيض. وممّا ينبغي أنْ يذكر في هذا المنفسح، ما انبرى إليه إيمانويل كانط حين قارَبَ مسألة الأعراق بتراتبيّةٍ هي أشبه بالطريقة التي قوربت فيها كائنات الطبيعة. فلقد صنّف كانط المجموعات البشريّة وفق مراتبَ وصفاتٍ يمكن إجمالها كالآتي:

ـ في المرتبة الأولى: يتّصف العرق الأبيض حسب كانط بجميع المواهب والإمكانيّات.
ـ في المرتبة الثانية: يتّصف الهنود بدرجةٍ عاليةٍ مِن الطمأنينة والقدرة على التفلسف، وهم مفعمون بمشاعر الحب والكراهية، ولديهم قابليّةٌ عاليةٌ للتعلم. وأمّا طريقة تفكير الهندي والصيني، فإنّها تتّسم بحسب كانط بالجمود على الموروث، وتفتقد القدرة على التجديد والتطوير.
ـ في المرتبة الثالثة: يتّصف الزنوج بالحيويّة والقوّة والشغف للحياة والتفاخر، إلّا أنّهم عاجزون عن التعلّم رغم كونهم يحوزون على قابليّة التدريب والتلقين.
ـ في المرتبة الرابعة: يأتي سكّان أميركا الأصليّون (الهنود الحمر)، وهؤلاء غير قادرين على التعلّم، ولا يتّسمون بالشغف، وهم ضعفاء حتّى في البيان والكلام.

هذا هو رأي كانط الذي يُعتبر بداهةً مِن بين أشهر أربعة أو خمسة فلاسفة في تاريخ الغرب الحديث. سوى أنّ الأمر لم يقتصر عليه أو على مَنْ وافقوه على مذهبه الفلسفي مِن بعد، بل ثمّة مَنْ يؤيّد هذا الرأي مِن المعاصرين الذين يجهرون بعدم وجود فلسفةٍ غير غربيّةٍ، وأنّ الموروث الفكري لتلك الشعوب، إنّما هو محض صدفةٍ تاريخيّة.

لقد شكّلت الذهنيّة الإقصائيّة إحدى أبرز الظواهر التي أنتجها جوهر الغرب الحديث، أمّا أحد أكثر التصنيفات حدةً للمجتمعات غير الغربيّة، فهي تلك التي تزامنت مع نموّ الإمبرياليّات العابرة للحدود وتمدُّدها نحو الشرق، وتحديدًا باتجاه الجغرافيّات العربيّة والإسلاميّة. مِن تمظهرات هذا التمدّد على وجه الخصوص، ملحمة الاستشراق التي سرت كترجمةٍ صارخةٍ لغيريّةٍ إنكاريّة لم تشأ أنْ ترى إلى كلّ آخرَ حضاريٍّ إلّا بوصفه كائنًا مشوبًا بالنقص. لهذا ليس غريبًا أنْ تتحوّل هذه الغيريّة الإنكاريّة إلى عقدة «نفسٍ حضاريّةٍ»، صار شفاؤها أدنى إلى مستحيل. وما جعل الحال على هذه الدرجة مِن الاستعصاء، أنّ العقل الذي أنتج معارف الغرب ومفاهيمه، كان يعمل في أكثر وقته على خطٍّ موازٍ مع السلطة الكولونياليّة، ليعيدا معًا إنتاج إيديولوجيا كونيّة تنفي الآخر وتستعلي عليه.

فلقد تكوَّنت رؤية الغرب للغير –كما تبيِّن مقدّمة الكتاب-على النظر إلى كلّ تنوعٍ حضاريٍّ باعتباره اختلافًا جوهريًّا مع ذاته الحضاريّة. ولم تكن التجربة الاستعماريّة المديدة في الجغرافيا العربيّة والإسلاميّة سوى حاصل رؤيةٍ فلسفيّةٍ تمجّد ذاتها وتُدنئ مِن ذات الغير. مِن أجل ذلك سنلاحظ كيف أنشأ فلاسفة الحداثة وعلماؤها أساسًا علميًّا معرفيًّا لشرعنة الهيمنة على الغير بذريعة تمدينه وتحديثه. من هذا المحل بالذات، ستساهم غيريّة الحداثة في توطيد الأساس المعرفي والثقافي لفلسفة الإنكار التي توغّلت عميقًا في الحقلين الأنطولوجي والتاريخي لثقافة الحداثة، الأمر الذي أفضى إلى تحويل الغرب الحديث إلى حضارةٍ إمبرياليّةٍ شديدة الوطأة على العالم كلّه. فلقد عُدَّتِ الحداثة الغربيّة في المخطّط الأساسي للتاريخ، وفي الإيديولوجيّات الحديثة، وحتّى في معظم فلسفاتِ التاريخ، بوصفها الحضارة الأخيرة والمطلقة؛ أي تلك التي يجب أنْ تعمّ العالم كلّه، وأنْ يدخلَ فيها البشر جميعًا.

في فلسفة القرن التاسع عشر يوجد مِن الشواهد ما يعرب عن الكثير مِن الشكّ بحقّانيّة الحداثة ومشروعيّتها الحضاريّة، لكنّ هذه الشواهد ظلّت غير مرئيّةٍ بسبب مِن حجبها أو احتجابها في أقلّ تقديرٍ، ولذلك فهي لم تترك أثرًا في عجلة التاريخ الأوروبي، فلقد بدا مِن صريح الصورة، أنّ التساؤلات النقديّة التي أُنجزت في النصف الأول مِن القرن العشرين، وعلى الرغم مِن أنّها شكّكت في مطلقيّة الحضارة الغربيّة وديمومتها، إلّا أنّها خلت على الإجمال مِن أيّ إشارةٍ إلى الحضارات الأخرى المنافسة للحضارة الغربيّة، حتّى إنّ توينبي وشبنغلر حين أعلنا عن اقتراب أجلِ التاريخ الغربيّ وموته، لم يتكلّما على حضارةٍ أو حضاراتٍ في مواجهة الحداثة الغربيّة، ولم يكن بإمكانهما بحث موضوع الموجود الحضاري الآخر، ففي نظرهما لا وجود إلّا لحضارةٍ واحدةٍ حيّةٍ ناشطةٍ، هي حضارة الغرب، وأمّا الحضارات الأخرى، فهي ميتةٌ وخامدةٌ وساكنة.

بانوراما المقاربات النقديّة
تشكّل دراسات الكتاب الذي بين أيدينا وحدة معرفيّة تستهدف تظهير ما هو عليه الغرب الحديث والمعاصر مِن خلل بنيوي على المستويين الثقافي والحضاري. فما أنجز في هذا العمل، هو مقاربات تحليليّة نقديّة لطائفة مِن المباني التي تؤلّف بنية الغرب. وقد تضمّن هذا الجزء مجموعة مِن الدراسات والأبحاث، شارك فيها عدد مِن الباحثين والمفكِّرين المتخصِّصين، وقد جاءت على الترتيب الآتي:

- الباحث الإسلامي السيّد هاشم الميلاني يكتب حول مبنى الديمقراطيّة مؤسِّسًا رؤيته على تحليل نقدي للمفهوم ومذاهبه واختباراته التاريخيّة. وعلى ما ذهب إليه الباحث، فإنَّ مقاربته لهذا المبنى لم يقتصر على عرض المفهوم وشرحه، بل هو ركّز بصورة أساسيّة على نقد الديمقراطيّة باعتبارها المفهوم الأكثر حضورًا في تاريخ الفكر السياسيّ منذ اليونان إلى أزمنة الحداثة وما بعدها. وما مِن ريب أنّ هذا المفهوم هو كذلك وأساسًا، الأكثر حيويّة في ميادين التطبيق في المجتمعات العالميّة عمومًا، وفي المجتمع الغربيّ على وجه الخصوص. في هذه الدراسة مقاربة تحليليّة نقديّة معمَّقة لنشأة المفهوم مِن جذوره الإغريقيّة، إلى التجديدات التي طرأت عليه في بدايات عصر النهضة في أوروبا بدءًا مِن القرن الثاني عشر وصولًا إلى عصر التنوير ودخوله في تنظيرات الفلسفة السياسيّة حتّى غدا جوهرًا مكوِّنًا للفكر الغربيّ الحديث.

- الدكتور خنجر حمية قدَّم دراسة عن العلمويّة، وتناولها بالتحليل التاريخي مبيِّنًا معاثرها البنيويّة في المنشأ والتوظيف والمآلات. وحسب الكاتب أنَّ النزعة العلميّة أو ما عُرِّف بـ «العلمويّة» (Scientism) تتّخذ مكانة محوريّة في النظام الفكريّ للحداثة الغربيّة. بل يمكن القول إنّ العلمويّة تحوَّلت إلى نزعة حاكمة على العقل الغربيّ وناظمة لكلّ حقل مِن حقول نظريّة المعرفة التي يعتمدها. وهناك فرضيّتان تفصحان عن هذه الوضعيّة: الفرضيّة الأولى مبنيّة على الاعتقاد بأنّ العلم والتفكير العلميّ قادران وحدهما أن يحدّدا ما هو حقيقيّ وما هو غير حقيقيّ، وأنّ كلّ شيء يجب أنْ يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والتجربة الواقعيّة. أمّا الفرضيّة الثانية، فترى أنّ الهدف مِن تحصيل العلم هو التحكُّم بالطبيعة والعالم الخارجيّ.
- الباحث المغربي حميد لشهب كتب حول مبنى التقنيّة في مفهومها الاصطلاحي والمعرفي، وبيَّن آثارها وتداعياتها على جوهر الحضارة الغربيّة المعاصرة، فقد تحوّلت التقنيّة إلى أطروحة فكريّة وطريقة عيش باتت تفرض نفسها على طريق التفكير وأنماط الحياة الإنسانيّة المعاصرة. ومِن البيِّن، كما يؤكّد جمعٌ وازن مِن المفكّرين وعلماء الاجتماع، أنّ دخول العالم في عصر التقنيّة ولَّد اختلالات هائلة في أنظمة القيم على الصُعَد الأخلاقيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والنفسيّة، كما وضع الحضارة الغربيّة بأجمعها أمام مأزق وجوديّ وأسئلة مصيريّة لا إجابات واضحة عليها.

- الباحث سامر توفيق عجمي كتب عن مبنى الوضعيّة، وقد درس مفهومها ومنزلتها في علم المعرفة المعاصر. يتناول هذا البحث أحد أبرز المذاهب الفكريّة والفلسفيّة في بنية الحداثة الغربيّة، ويمكن القول إنّ الوضعيّة كمذهب للتفكير في العالم تفكيرًا أنطولوجيًّا وكمنهج في فهم ظواهره، إنّما تدخل دخولًا عميقًا في التكوين الأصليّ لجوهر الغرب. وعليه، فإنّ أيّ متاخمة علميّة للمنظومة الفكريّة التي تقوم عليها الحضارة الغربيّة الحديثة، تبقى ناقصة ومثلومة إنْ لم تكن الوضعيّة في مقدّمة المفاهيم والمذاهب التي ينبغي درسها وتفكيك عناصرها المؤسِّسة.

- عن مبنى النسبيّة يكتب الأكاديمي المصري غيضان السيّد علي دراسة تحليليّة نقديّة لنسبيَّات المعرفة والأخلاق في الغرب الحديث. في دراسته هذه يسعى الباحث إلى الإحاطة التحليليّة النقديّة بمفهوم النسبيّة كجوهر حاكم على البنية العامّة لفكر الحداثة ومعارفها في الحقول الأنطولوجيّة والإبستمولوجيّة المختلفة. ولتناول هذا المبنى في تاريخ الحضارة الغربيّة تناولًا نقديًّا، حاولت الدراسة أنْ تجيب عن سؤالين محوريّين يمثّلان العمود الفقريّ لها، وهما: إلى أيّ مدى سيطرت النسبيّة المعرفيّة والأخلاقيّة على الفكر الغربيّ منذ تاريخه وحتّى عصرنا الراهن؟ وإلى أيّ مدى أثّرت هذه النسبيّة فيما يعانيه المجتمع الغربيّ الراهن مِن أزمات حول المعنى والقيم؟
- الباحث اللبناني هادي قبيسي قدّم دراسة حول مبنى الإنسانويّة، وضعها تحت عنوان: حكم القيمة ينقضُه حكم التجربة الواقعيّة. تهتمّ هذه الدراسة بالإنسانويّة (Humanism) كنظريّة وحدث معرفيّ شلّت واحدة مِن أبرز المباني التي يتألّف منها الجوهر الحضاريّ للغرب الحديث. والأهمّ في الأطروحة، هو أنّها تأتي في سياق عصر التنوير الأوروبيّ الذي انقلب على قيم الكنيسة، وأنكر كلّ ما تختزنه المنظومة اللَّاهوتيّة المسيحيّة حيال ظاهرة الإنسان.
- دراسة حول مبنى الليبراليّة قدَّمها المفكِّر الإيراني شهريار زرشناس، نقد المفهوم والتجربة التاريخيّة في الغرب الحديث. وهذه الدراسة تلقي الضوء على منشأ الليبراليّة كمفهوم، كما تتناول بالتحليل والنقد مساراتها التاريخيّة والنتائج المترتّبة عليها في المجالات الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة.
- حول مبنى العقلانيّة يكتب الباحث التونسي نور الدين السافي دراسة نقديّة لمفهومها ومبانيها المعرفيّة. وفيها أنَّ لمفهوم العقلانيّة مكانة استثنائيّة في التراث الفكريّ والفلسفيّ الغربيّ. وإذا كان مِن أهمّيّة تأسيسيّة لهذا المفهوم، فهي تكمن في مرجعيّته الإغريقيّة أوّلًا، ثمّ استعادته مِن جانب الحداثة ليصير بالنسبة لفلاسفتها ومفكّريها معيارًا للحكم على صواب الأفكار وبطلانها. وهذه الدراسة سوف تتناول العقلانيّة بالتحليل والنقد بوصفها أحد الأركان المكوِّنة لجوهر الغرب.
- أمّا حول مبنى المواطنة، فنقرأ دراسة للباحث الجزائري شريف الدين بن دوبة تحت عنوان: استقراء المفهوم ونقده مِن خلال تجارب الغرب الحديث. تتناول الدراسة مفهوم المواطنة بما هو أحد الأركان التأسيسيّة لجوهر الغرب الحديث. وقد سعى الكاتب عبر استقراء تحليليّ نقديّ إلى بيان الأُسس والجذور التاريخيّة لهذا المفهوم، فضلًا عن فلسفته السياسيّة التي تبلورت مع قيام الدولة المركزيّة في أوروبا، وبدأت إرهاصاتها التنظيريّة مع بدء عصر النهضة في القرن الرابع عشر. ثمّ انتقلت الدراسة إلى نقد المفهوم مِن خلال تطبيقاته والنظرِّيات التي رافقته على مدى خمسة قرون متواصلة مِن عصور الحداثة في الغرب.

- بصدد مفهوم الشكوكيّة، كتب الباحث الإيراني البروفسور عبد الحسين خسروبناه حول إمكان حصول المعرفة في الفكر الغربي تحت وطأة امتلائه بالشكوكيّة. وفيه يبيِّن مأزق الشكّ في الفكر الغربي منطلِقًا مِن واقع أنَّ أهمّ الأسئلة في علم المعرفة (الإبستمولوجيا/ نظريّة المعرفة) هو السؤال القائل: هل يمكن للإنسان التوافّر على المعرفة وكسب الاطّلاع والوعي بنفسه وبالبيئة المحيطة به أم لا؟ وهل بوسع الإنسان الوعي بواقعيّات العالم وحقائقه أم لا؟ كان هذا السؤال مطروحًا منذ القِدم، وأُجيبَ عنه بإجابات متنوّعة. وما سيشتمل عليه بحثنا تحت عنوان إمكان المعرفة البشريّة هو استعراض الآراء والمناحي والإجابات المختلفة المطروحة حول هذا السؤال ودراستها.

- الباحث والأكاديمي اللبناني أحمد ماجد، كتب حول مبنى الذاتيّة (الفردانيّة) دراسة تحليليّة نقديّة حول نشأتها وأثرها على بنية الحضارة الغربيّة الحديثة. والخلاصة التي ينتهي إليها الباحث أنَّ مفهوم الفردانيّة يشكّل عنصرًا مدخليًّا للحضارة الغربيّة الحديثة والمعاصرة، فلا يخلو نصٌ فكريٌ مِن حديث مسهب عنه حتّى يخال مَنْ يقرؤه أنّه بدهيّ، كما هو حال مفهوم الوجود في الفلسفة حيث لا يحتاج إلى تعريف؛ لأنّه لا يوجد أوضح منه. ولكنْ عند عتبة البحث، يجدّ المرء نفسه كما لو أنَّه أمام جبل جليدي ما يظهر منه هو القمّة، ولكنَّ سفحه يغوص في الماء. عند هذا الحدّ تُثار التساؤلات التي تزداد إلحاحًا عند اقترابك منه، وما كنت تلمحه كمنطقة بيضاء، تنعكس عليها أشعة الشمس وتبدو لناظريك، بينما هي ليست كذلك، حيث تحمل عناصر متعددة، فبالإضافة إلى مثولها أمامك، فإنَّها تحمل في طياتها أبعادًا لا تدركها وأنت بعيد عنها.

الكتاب: جوهر الغرب (دراسات نقديّة في المباني التأسيسيّة لحضارة الحداثة)
المؤلّف: تأليف جماعي
تحرير وتقديم: د. محمود حيدر
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيّة 2021