الباحث : حسين إبراهيم شمس الدين
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 34
السنة : ربيع 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث : June / 26 / 2024
عدد زيارات البحث : 309
فلسفة أي علم من العلوم تنشأ في لحظة تاريخية يبرز فيها السؤال عن الجدوى والأسس التي يبتنى عليها هذا العلم، سواء أكان من العلوم الطبيعية أم الإنسانية، فتوجد جملة من الأسئلة التي لا يمكن أن تجيب عنها العلوم نفسها، وإنما هي أسئلة تجعل العلم ككلٍّ تحت مجهر المساءلة والاستفسار، ولا نقصد من ذلك أنّ الأسئلة نقدية أو تهديميّة لأصل العلم بالضرورة، بل إن كل علم يُبنى على جملة من المسلّمات التي قد لا يكون أصحاب العلم نفسه يشكون فيها أو يتساءلون حول صوابيّتها، بل قد يكونون غافلين عنها، فيأتي شخص أو حدث تاريخي ليحرّك مياه القاع، فعندما يتصدى أشخاص للإجابة عن هذه الأسئلة أو تعميقها أو إعادة طرحها وتجذيرها، يشرع البحث المسمى " بفلسفة هذا العلم".
مثلًا، في القانون وهو عنوان ملفّنا في هذا العدد، نجد أن هناك أسئلة نشأ بعضها بفعل أحداث تاريخية كالحرب العالمية الثانية التي حرّكت البحث عن " حقوق الإنسان"، ونشأ آخر بفعل فلسفات معيّنة مثل الكانطية التي طرحت التفريق بين الشيء في ذاته والشيء كما يظهر لنا؛ مما ألقى بظلاله على فهم " الواقعية الأخلاقية "، وبالتالي أثّر على القوانين والتشريعات، هذه الأسئلة ليست أسئلة قانونية تبحث عن العقوبة والمجازاة وحدود تدخّل الدولة ومسألة الحقوق المدنية وغيرها، بل هي أسئلة تضع القانون بوجه عام وككل، دون نظر إلى تفاصيله، تحت المساءلة، وبتعبيرنا السابق، تحرّك مياه القاع القانونية.
هذه الأسئلة هي من قبيل:
ما العلاقة بين القانون والأخلاق؟
هل لا أخلاقية القانون تجعله ساقطًا عن كونه قانونًا؟
أم يكفي في صحة التشريع الموافقة الاجتماعية وكونه حائزًا على تأثيرٍ في المجتمع ولا داعي للفحص الأخلاقي عن المضمون؟
ما هي القاعدة التي تشكّل مشروعية الإلزام القانوني؟ أي ما الفرق بين قول جابي الضرائب " عليك أن تدفع مالًا وإلا سنأخذك للسجن ونعاقبك" وبين قول السارق " عليك أن تدفع لي مالًا وإلا سأعاقبك"، هل الفرق في مشروعية "عنف الدولة"؟ ومن أين تكتسب الدولة هذه المشروعية؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير كانت داعيًا أساسيًا لفتح بحث " فلسفة القانون"، ولكن اللافت أن هذا الفرع المعرفي لم يستقرّ حاله على أي رأي بين المشتغلين فيه، حتى إن بعض التيّارات أسمت نفسها بتيار "النظرية العامة للقانون" لأنها باتباعها منهجًا إمبريقيًا تجريبيًا رفضت اسم " الفلسفة"؛ لأنه يوحي بالإغراق في التجريد، وهو ما لا يتوافق مع قناعاتها الابستمولوجية، ولكن في الحقيقة كان هذا التيار كتيارات "فلسفة القانون" مندمجًا في الإجابة التي لها طابع فلسفي في الأصل ولا يمكن التهرّب من التفلسف في الإجابة عنها؛ ولذا اقترح بعض الكتّاب في فلسفة القانون التعامل مع هذين المصطلحين – أعني فلسفة القانون والنظرية العامة للقانون - تعامل الترادف.
انقسم فلاسفة القانون بشكل أساسي إلى فئتين:
1. فلاسفة القانون الطبيعيين
2. فلاسفة القانون الوضعيين
الفئة الأولى لها جذور ممتدة إلى الفلاسفة اليونانيين الأوائل، أرسطو وافلاطون، حيث كان طرحهم الأساسي يركّز على أن القانون لا بد أن يُبنى على أسس ترجع إلى التكوين والطبيعة الأساسية للإنسان، وبعبارة أخرى إن الحقوق والواجبات هي عبارة أخرى عمّا " ينبغي أن يكون" بحسب الحاجات والغايات الأصلية في الوجود الإنساني والوجود ككل، وأدخلوا المفاهيم الأخلاقية في البنية القانونية، ولكن تعرّضت هذه الفئة من الفلاسفة في الغرب إلى انتقادات ترجع أسسها إلى تراجع " الإدراكية الأخلاقية" أي الادعاء بأن ثمّة نظامًا قيميًّا وأخلاقيًّا واحدًا غير نسبي تُبنى عليه القوانين، مضافًا إلى اعتبار أن عنصر القيم والأخلاق لا يكون أساسًا لبناء القانون؛ لأن طبيعة القانون لا بد أن تكون إلزامية، وبالتالي تبتني على نظام العقوبة والتجريم، وهو ما لا نجده في النظام الأخلاقي، وبالتالي لجأ هؤلاء "الوضعيون" إلى الإعراض عن القانون الطبيعي واختيار فلسفة القانون الوضعية، بمعنى أن عنصر التأثير الاجتماعي والإلزام وغيرها هي أساس تشكّل القانون، ولكن هذا الصعود الكبير للفلسفة القانونية الوضعية واجه عقبات كثيرة، منها:
- إن الالتزام بفلسفة القانون الوضعي والتخلّي عن الوحدة القيمية للطبيعة الإنسانية، والانتقال إلى قضية النسبية في الإدراكية الأخلاقية يساوي فراغ قضية "حقوق الإنسان" من معناها، فلن يكون للإنسان "حقوق" إلا في حالة كنّا ننظر إليه من منظار متجاوز للنسبية، وإلّا إذا كنا نقرّ بوجود نظام قيمي ثابت.
- توجد الكثير من الأمور القانونية التي تمثّل لا أخلاقية صارخة، بحيث لا يمكن القبول بها، وإن كان القانون يوافق عليها، مثل قضية التعسّف في استخدام الحق، حيث إنه يمكن لشخص في عين ممارسته لحقه أن لا يكون أخلاقيًا، فهو من الجهة القانونية غير مخالف.
ولذا وجدنا في تاريخ فلسفة القانون صعودًا جديدًا لفلسفة القانون الطبيعي، أو اختيار مسلك ثالث كما هو الأمر عند رونالد دوركين الذي أسس ما أٌطلق عليه في بعض الكتابات "النظرية الثالثة للقانون" وذلك في كتابه "أخذ الحقوق على محمل الجد"، حيث رفض العزل المتطرّف للأخلاق والقيم في القانون الوضعي، ولكنه لم يسلك المسلك الفلسفي ذاته لفلاسفة القانون الطبيعي.
هذا السرد العام الذي قدّمناه، سيتضح بشكل تفصيلي في الكتابات التي أفادها الكتّاب الأعزاء في هذا العدد، كما أننا سنجد أن فلسفة القانون في الغرب هي " فلسفات قانون" تصل إلى حد التناقض الواضح، وأن الأسئلة البنيوية حول مشروعية التقنين والتشريع مازالت أسئلة مفتوحة ليس لها أجوبة شافية حتى عند المفكّرين القانونيين أنفسهم.
فنحن أمام "حيرة بنيوية" لأمر يشكّل أحد أسس المدنية الغربية أي "التشريع والتقنين" وأمام سؤال حول مشروعية العنف المقنّن الذي تمارسه الدولة .
في مقابل هذا كله، نجد أن البحث المستقل لفلسفة القانون في العالم الإسلامي ما زال غير ظاهر على نحو واضح، وإن كنا نجد في العلوم الإسلامية المختلفة معالجات لقضايا تقع في عمق فلسفة القانون، فمثلًا نجد في علم أصول الفقه معالجات تحليلية ونقدية لحقيقة الحق والملك والفرق بينهما، بل يمكن الادعاء أن النضوج على المستوى التحليلي الموجود في مثل هذه الأبحاث في أصول الفقه غير موجود في كتب فلسفة القانون الحالية في العالم الغربي[2] .
ونجد في مباحث الفلسفة أيضًا، وبشكل خاص الفلسفة المتعلقة بالحكمة العملية، مباحث مرتبطة بأصل القانون وفلسفته وفلسفة التشريع والعقوبة وغائية القانون وغيرها من المباحث، فابن سينا مثلًا في كتاب إلهيات الشفاء عقد أبحاثًا مفصلة في المقالة الأخيرة يتحدث فيها عن عقد المدينة والبيت وغير ذلك، وينطلق في كل ذلك من تأسيس أصل العدالة في الحاجة إلى القانون، قال " إنه من المعلوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد وحده شخصًا واحدًا يتولّى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على ضروريات حاجاته، وأنه لا بد من أن يكون الإنسان مكفيًّا بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر مكفيًّا به وبنظيره أيضًا، فيكون مثلًا هذا يُبْقِلُ لذلك، وذاك يخبز لهذا، وهذا يخيط لآخر، والآخر يتّخذ الإبرة لهذا، حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيًّا. ولهذا ما اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات (...) فإذا كان هذا ظاهرًا فلا بدّ في وجود الإنسان وبقائه من مشاركته، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولا بدّ في المعاملة من سنّة وعدل، ولا بدّ للسنة والعدل من سانٍّ ومعدّل، ولا بد من أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنّة. ولا بد من أن يكون هذا إنسانًا، ولا يجوز أن يُترك الناس وآراءهم في ذلك، فيختلفون ويرى كلٌّ منهم ما له عدلًا، وما عليه ظلمًا، فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الإنسان ويتحصّل وجوده أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين[3]".
ونجد في بعض التفاسير القرآنية أيضًا تعرّضًا للآيات التي لها جنبة متعلّقة بالقانون، حيث ذُكر هناك كلام حول فلسفة القانون والعقوبات وسر الطاعة للقانون ومناشئه، والعلاقة بين الأخلاق والتوحيد من جهة والقانون من جهة أخرى، ومثاله ما ذكره العلامة الطباطبائي في تفسيره "شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين، واضعًا ذلك على أساس التوحيد، والاعتقاد والأخلاق والأفعال، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، وأنهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بُني على العلم فقط دون غيره" [4].
وكذا في مباحث علم الكلام بسط بعض المتكلّمين البحث حول قضايا قانونية شديدة العلقة بما يتعلق بالأسئلة الحديثة لفلسفة القانون.
نظرة حول العدد
يشتمل العدد على أبحاث نقدية توزّعت على مختلف التيارات الأساسية لفلسفة القانون، وبعض البحوث البين مناهجية أيضًا التي تطرّقت إلى مفردة العدالة كموضوع برزخي بين القانون وفلسفة الأخلاق والسياسة، كما نقدّم للقارئ العزيز في هذا العدد ندوة مهمة جدًا في فلسفة القانون المنشورة باللغة العربية، وأخيرًا وضعنا خطًّا زمانيًا لأهم المدارس والشخصيات في فلسفة القانون الطبيعي والوضعي، ومراجعات لكتب في ميدان فلسفة القانون بعضها ينتمي لفلسفة القانون الطبيعي وأخرى لفلسفة القانون الوضعي.
-----------------------------------
[1] - راجع في هذا الأمر: السيد كاظم الحائري، فقه العقود، مجمع الفكر الإسلامي، قم - إيران، 1421هـ.
[2] - ابن سينا، إلهيات الشفاء، مكتبة المرعشي النجفي، قم – إيران،1404 هـ، 441.
[3] - طباطبائى، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، 20 جلد، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - لبنان - بيروت، طبعة: 2، 1390 هـ.ق. 2: ص 120.