الباحث : د. خنجر حميّة
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 34
السنة : ربيع 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث : June / 26 / 2024
عدد زيارات البحث : 313
الملخص
يهتم ّ دوركين في «أخذ الحقوق على محمل الجد»[3] قبل كل شيء بالإجراءات القانونية الواجبة، سواء أكان في القانون أم السياسة. وفي هذا الصدد، فإن نظريته في القانون ونقده للوضعية القانونية تحدد الإطار العام لنظريته في السياسة. إنه يتصور القانون والسياسة من خلال مصطلح «الحق في المساواة»، والهدف هو إظهار الاهتمام والاحترام المتساوي للأفراد. ومع ذلك، فبينما يعتبر الإجراءات القانونية مسألة مبدأ، موجهة نحو النظر إلى علاقاتنا مع الآخرين من منظور العدالة، فإنه يتعامل مع العملية السياسية باعتبارها تنشغل فقط بالسياسة وتركّز على تعزيز الصالح العام. والنتيجة التي ينتهي إليها هي وصف للقانون والسياسة أصيل ولكنه مميز. وعلى الرغم من أن دوركين يرى أن المراجعة القضائية القائمة على الحقوق تتفوّق بشكل مشروع على القرارات الديمقراطية النفعية، فإن تفسيره للمداولات القانونية هو في حدّ ذاته ديمقراطي، كما يتضح من رؤيته للعصيان المدني، ويمكن أن ينطبق على الهيئات التشريعية بقدر ما ينطبق على المحاكم - إن لم يكن أكثر.[4]
وبالتالي فإن أحد أهداف كتاب دوركين كذلك هو تقديم نظرية للحقوق الطبيعية. ونظريته في الواقع جديدة ومثيرة للاهتمام من ناحيتين. فمن ناحية أولى، هو يجادل بأن الاعتقاد الشائع بأن الحرية والمساواة يتعارضان بشكل أساسي مع بعضهما البعض هو اعتقاد خاطئ. لأن حقوق الحريات المختلفة مستمدة في حد ذاتها من شكل من أشكال الحق في المساواة - وهو ما يسميه دوركين الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين. ومن ناحية أخرى، هو يعتقد أن فكرة الحق العام في الحرية، والتي يمكن أن تتعارض مع دعاوى المساواة، هي فكرة غير متماسكة.[5]
الكلمات المفتاحية: الحقوق، النفعية، المساواة، الوضعية القانونية، الديمقراطية، المراجعة القضائية، العصيان المدني، حق الاحترام، الرعاية، الحرية. نموذج القواعد، نموذج القوانين.
تمهيد
«أخذ الحقوق على محمل الجد» هو عبارة عن مجموعة من المقالات كانت ظهرت على مدى العقد الماضي، ويعود تاريخ أقربها ــ «نموذج القواعد» ــ إلى عام 1967.
من الصعب اليوم تصور سياق أكاديمي لا تأخذ فيه الفلسفة القانونية والسياسية، أو المؤسسات التي تسعى إلى تفسيرها وتبريرها، الحقوق على محمل الجد. وخلال الفترة التي تفصلنا عن هذا التاريخ، أصبحت الحقوق هي الخطاب السائد في نظرية القانون والسياسة وممارساتهما؛ ولقد لعب كتاب «أخذ القانون على محمل الجد» دورًا مهمًا في هذا التحول. ومع ذلك، تختلف حجج دوركين في جوانب أساسية عن حجج العديد من منظري الحقوق المعاصرين، مما يعكس تميّز السياقات الفكرية والتخصصية والسياسية التي طوّرها.
أحد هذه الجوانب، أنه أطَّر نظريته في الحقوق كنقد للوضعية القانونية والنفعية، وهما المكونان لما أسماه «النظرية الحكمية للقانون» (الفصل السابع). اكتسبت هذه النظريات صعودها من خلال تقديم انتقادات جذرية لنظريات الحقوق الطبيعية وبديل لها، وليس أقلّها اتهامها التعسّفي المزعوم بالدفاع عن امتيازات القلّة الميسورة ضد مصالح الكثيرين المحرومين (الفصلان التاسع والعاشر). يسعى تفسير دوركين إلى الهروب من هذه الانتقادات من خلال إظهار أن الحقوق قد تكون مبنية على أساس مناسب، وتستخدم من قبل الأقلّيات التي يحتمل أن تتعرّض للاضطهاد، مع ترك المجال أمام اتخاذ الأغلبية للقرار لتعزيز المصلحة العامة (الفصل الخامس عشر).
ثاني هذه الجوانب، وهي الأهم من نواحي كثيرة، أن نظرية دوركين هي نظرية عامة للقانون (الفصلان السابع والثامن). ويسعى تفسيره للحقوق إلى التغلب على الثغرات المفترضة في الوضعية القانونية مع تقديم تفسير أكثر تحديدًا للاستدلال القضائي. لقد نالت آراء دوركين حول الموضوعات الجوهرية الكثير من الإعجاب من فلاسفة سياسيين وأخلاقيين، مع القليل من الاهتمام بفلسفته القانونية في حد ذاتها. وكان هؤلاء الفلاسفة يميلون إلى افتراض أن تفسيره للقانون لا يضع سوى قيود قليلة جدًّا على نظريته الأخلاقية والسياسية، وأنه لا يعتبر القانون والنظرية القانونية أكثر من مجرد فرع من الأخلاق التطبيقية. وهذا خطأ. كما سيتضح لنا من «أخذ القانون على محمل الجد»، أنه سيكون من الأصح القول إن الأخلاق والسياسة تشكل بالنسبة لدوركين فرعًا من «النظرية القانونية التطبيقية».
والجانب الأخير، هو أن دوركين ليبرالي، تطورت نظريته على خلفية حركة الحقوق المدنية في وطنه والاحتجاجات ضد حرب فيتنام. وهو رأى الليبرالية محاصرةً، ويهاجمها اليسار واليمين بسبب فردّيتها ونزعتها العقلانية (الفصل السابع). وهي اتهامات تمّ توجيهها أيضًا ضد الوضعية القانونية والنفعية (الفصل العاشر). ومع ذلك، لم تكن هذه هي الأسباب التي دفعت دوركين إلى معارضة نظرية الحكم ruling theory. على العكس من ذلك، فقد سعى للدفاع عن «نظرية القانون الليبرالية» الفردية والعقلانية بشكل صريح (الفصل السابع)، ورأى أن مثل هذا الدفاع يرتكز بشكل أكثر تماسكًا على نظرية الحقوق ذاتها التي رفضتها هذه المذاهب (الفصل التاسع). سيكون من الاختزال أن نقول إنه قام فقط بترشيد الأحكام الليبرالية لمحكمة وارن[6]؛ فمن ناحية، أثبتت وجهات نظره في كثير من الأحيان أنها أكثر ليبرالية وتطرفًا من آراء المحكمة. وهو حاول من ناحية أخرى، تقديم أساس منطقي أفضل للادعاءات المقدمة إلى المحكمة مما قدمه أصحاب الدعاوى أنفسهم في كثير من الأحيان، وللرد الذي يعتقد أنه ينبغي للقضاة، ويمكنهم، و - سواء أدركوا ذلك أم لا - أن يقدموه جزئيًا عند تقويم ادّعاءاتهم.
ولا بد من تقديم ثلاث ملاحظات تمهيدية أخرى في هذا التمهيد، الأولى هي أن «أخذ القانون على محمل الجد» هو كتاب مقالات، كتب على مدى عقد من الزمن، وعالج موضوعات مختلفة جدًا، وركزت بعض مقالاته على الفقه العام المتعلق بطبيعة القانون، وبعض آخر على تطبيقات الفقه الخاص للديمقراطيات الليبرالية على موضوعات مثل العصيان المدني والعمل الإيجابي، وبعض ثالث على طابع الليبرالية نفسها. ولا يعرض الكتاب بطريقة منهجية نظرية دوركين للقانون والحقوق. وبدلًا من ذلك، فهو يجسدهما من خلال استكشاف موضوعات مختلفة ومتباينة: من مثل مفهوم هارت للقانون[7]، أو القضايا الصعبة، أو حجة راولز[8] حول الموقف الأصلي في نظرية العدالة.
ومع ذلك، أوضح دوركين[9] لاحقًا أنه يعتقد أن وجهات نظره حول موضوعات معينة تشكل جزءًا من كل متماسك. وعلى الرغم من أن رؤيته الشاملة لم يتم وضعها في «أخذ القانون على محمل الجد» بأية طريقة منهجية، إلا أنه يحتوي على المبادئ التوجيهية المتعلقة بالاستقلال والوحدة والطابع التفسيري للقيم الأخلاقية التي ستكشف عنها وجهة نظره الناضجة. علاوة على ذلك، فإن أصول هذا النهج في القراءة الأخلاقية لنظرية وممارسة القانون الدستوري التي تمتد بعد ذلك إلى جميع المجالات الأخرى للمسعى الإنساني ملحوظة في «أخذ القانون على محمل الجد» بشكل خاص.
الملاحظة الثانية، هي أن المنظرين السياسيين الأكثر دراية بكتابات دوركين اللاحقة حول العدالة الاجتماعية سيلاحظون غيابها الواضح في «أخذ القانون على محمل الجد». حتى المقال الشهير عن راولز يهتم بالمنهج، ويدافع عن منهج دوركين البنائي على النقيض من استخدام راولز للموقف الأصلي. ومع ذلك، فإن دمج الافتراضات الفردية المتمثّلة في الاختيار والمسؤولية في الحجج المؤيدة لإعادة التوزيع المتساوي التي من شأنها أن تحفّز المساواة الاجتماعية المميزة، مع تركيزها على المساواة في الموارد، يمكن العثور عليها في طموحه الأكثر عمومية في «أخذ القانون على محمل الجد» لتحقيق التوازن بين المنظور الجماعاتي الذي تقدّمه النفعية وبين فردية الحقوق ضمن الإطار الشامل للمساواة الذي يركز على المساواة في الاهتمام والاحترام (الفصل الخامس عشر).
الملاحظة الثالثة، على أن هذه المقاربة انبثقت أيضًا من نقطة انطلاقه القانونية، مما يعكس انشغاله بالإجراءات القانونية الواجبة. لقد شعر العديد من المعلقين بالحيرة إزاء ادعاء دوركين بأن الحقوق تنبع من «الحق في المساواة» الأساسي الذي يعكس «الأخلاق السياسية» الأساسية للديمقراطيات الليبرالية. ومع ذلك، يمكن إرجاع هذه الأطروحة إلى الإيمان بالمساواة أمام القانون باعتبارها الالتزام المركزي للنظام القانوني والسياسي المبرَّر. ويتم تحقيق هذه المساواة، من وجهة نظر دوركين، من خلال الإجراءات القانونية الواجبة التي تتيح إمكانية إجراء محاكمة عادلة، وتوفّر للمرء قدرة عرض قضيته بطريقة عادلة ومنصفة. وستثبت هذه المقاربة العملية، في الواقع، أنها محورية في نظريته القانونية والسياسية. وقبل أن نبدأ في عرض نظرية دوركين في القانون، يجب علينا أن نستوعب رؤيته للحقوق الطبيعية، وأن نفهم ما يعنيه بمصطلحي «طبيعي» و«حق».
أولًا: الحقوق الطبيعية من وجهة نظر دوركين
إن «طبيعي» يعني إلى حد كبير: «إنها ليست نتاج أي تشريع، أو اتفاقية، أو اتفاقية افتراضية[10]»؛ ويحلّل دوركين مفهوم الحق من حيث تناقضه مع الأهداف أو الغايات الجماعية، فيقول إن الحق هو هدف فردي، والهدف الجماعي هو هدف غير فردي. والتمييز ذو الصلة هنا هو أنه في الهدف الجماعي، فإن المبادئ التي تحدّد تخصيص بعض الخير أو الموارد أو الحرية لأفراد محدّدين «تخضع لمفهوم ما للصالح الجماعي الإجمالي، بحيث يكون تقديم فائدة أقل لرجل واحد يمكن تبريره ببساطة من خلال إظهار أن هذا سيؤدي إلى فائدة أكبر بشكل عام»[11]. ومع ذلك، عندما نتحدث عن الحقوق، فإن الخير الإجمالي لا يهم؛ فإذا كان للإنسان حق في شيء ما، فهو له حتى لو كان يُبطل أو يعمل ضد هدف جماعي غير فردي. ووفقًا لهذا التصور، يصف دوركين الحقوق الطبيعية بأنها حقوق فردية، وينفي إمكانية وجود «حق للأغلبية أو المجتمع يتجاوز الحقوق الفردية»؛ لأن حق الأغلبية أو حق المجتمع لا يمكن أن يكون إلا حقًا للفرد، وهو حق له بغض النظر عن عدد الأشخاص الذين لديهم هذا الحق أيضًا في أية مجموعة بشرية[12].
وإذا كان يمكن للحقوق أن تهزم الأهداف الجماعية غير الفردية أو تعمل ضدها، فإن الحقوق موجودة بالمعنى «القوي» المناهض للنفعية، ويعني دوركين بذلك أنه من الخطأ التدخل القسري[13] في ممارسة هذا الحق، حتى لو كانت ممارسة الحق ضارّة بالمصلحة العامة أو كانت ممارسة لا ينبغي الإقدام عليها. تتعلق نظرية دوركين، في الواقع، بمجموعة فرعية من الحقوق الفردية فقط - يسميها دوركين الحقوق السياسية[14]. لكن دوركين لم يحدد أبدًا ما هي هذه الحقوق، لكن يبدو أنها تشمل جميع الحقوق التي يتمتع بها الفرد في مواجهة الدولة، فضلًا عن تلك الحقوق التي يتمتّع بها المواطنون ضد بعضهم، والتي تتطلّب قرارًا سياسيًا من نوع أو آخر.[15] ومع هذا فنحن لا نعثر على ما يدل على أن دوركين يعتقد أن نظريته قادرة على استخلاص تلك الحقوق التي قد لا تكون لها علاقة بالقرارات السياسية.
إن الحق السياسي الأساسي في الاهتمام والاحترام المتساويين هو حق «مجرّد»[16] (أي أنه لا يحتوي على تحديد لكيفية «وزن الحق أو التنازل عنه في ظروف معينة[17] فضلًا عن كونه «بديهيًا، إن معاملة الناس «باهتمام» تعني معاملتهم على أنهم «قادرون على المعاناة والإحباط»، في حين أن معاملتهم «باحترام» تعني معاملتهم «كقادرين على تكوين مفاهيم ذكية حول الكيفية التي ينبغي أن يعيشوا بها حياتهم وأن يتصرّفوا بناءً عليها»[18].
لقد جعل دوركين هذا الحق الغامض أكثر تحديدًا، بحيث يمكن أن يشير الحق المجرد في الاهتمام والاحترام المتساويين إما إلى الحق في المعاملة على قدم المساواة أو إلى الحق في المعاملة المتساوية. والأوّل هو «الحقّ في الاهتمام والاحترام المتساويين في القرار السياسي حول كيفية توزيع السلع والفرص [وكذلك الحريات]»[19]، والثاني هو الحق في توزيع السلع والفرص أو الحرّيات كأي شيء آخر.
ويفترض دوركين أن الجميع سيسلّمون بأن الحق الأول هو الأساسي، وهو يشير إلى إشارات عرضية. وفي السياق يقدم دوركين ثلاثة أمثلة لما يفترض أنها حالات غير إشكالية لا يستلزم فيها الحقُّ في المعاملة على قدم المساواة الحقَّ في المعاملة المتساوية. الأول يتعلق بطفلين. أحدهما يحتضر من مرض، في الوقت الذي يجعل هذا المرض الطفل الآخر غير مرتاح. لا يُظهر المرء نفس القدر من الاهتمام إذا قام برمي عملة معدنية ليقرّر من الذي يجب أن يحصل على الجرعة المتبقية من الدواء؛ مع أن الحق في العلاج مطلب متساوٍ تعطيه كذلك للطفل المحتضر[20]. أما الحالة الثانية فتتعلّق بسياسة اقتصادية معينة (على سبيل المثال، مكافحة التضخّم) والتي قد تلحِق الضرر بطبقة معينة من المواطنين، مثل حاملي السندات طويلة الأجل. والذين تعني معاملتهم على قدم المساواة أخذ خسارتهم المحتملة في الاعتبار عند تحديد ما إذا كانت السياسة جيدة أو لا؛ وهذا لا يعني أن نصيبهم من عبء مكافحة التضخّم يجب أن يكون مطابقًا لنصيب أي شخص آخر[21]. والمثال الثالث هو قدر معين من الإغاثة الطارئة المتاحة لمنطقتين متساويتين في الكثافة السكانية تضررتا من الفيضانات.حيث يعني الحق في المعاملة على قدم المساواة أنه يجب تقديم المزيد من الإغاثة للمنطقة الأكثر تضرّرًا من الفيضانات[22] . ويمكن أن نلاحظ أنه في جميع الحالات الثلاث المذكورة يكون الحق ذا طابع توزيعي فقط. وفي كل حالة، يكون لدى الشخص أو المؤسسة قرار معين سيتخذه فيما يتعلق بتوزيع سلعة معينة، والسؤال الوحيد الذي يبقى محتاجًا إلى إجابة هو كيف ينبغي القيام بذلك. إن الأسئلة المتعلقة بكيفية حصول الشخص على السلعة لأول مرة أو الكيفية التي يكون فيها في وضع يسمح له باتخاذ القرار، يتم وضعها في الخلفية.
إن الطريقة التي يتم من خلالها استخلاص حقوق فردية معينة من الحق الأساسي البديهي وصفها دوركين على النحو الآتي: إن الحق الأساسي في الاحترام والاهتمام المتساوي يُستخدم أولًا لتبرير مؤسسات معينة، وعلى وجه التحديد الديمقراطية، وشكل ما من أشكال السوق. لكن هذه المؤسسات ليست مثالية، ومن الناحية العملية سوف تحتوي على عمليات داخلية تحرم المواطنين من حقهم الأساسي. ولتصحيح ذلك، تمت إضافة مخطط «لأدوات تصحيحية تتخذ شكل حقوق فردية»،[23] إلى كل من الديمقراطية السياسية والسوق الاقتصادية. وسيعتمد تحديد أنواع الحقوق المحددة التي تتم إضافتها، ومحتوى هذه الحقوق، على تبرير الفرد للحق الأساسي وعلى وجهة نظره تجاه المؤسسات التي من المفترض أن تصحِّحها هذه الحقوق الفردية المحددة. وسيعتمد تبرير المرء للحق الأساسي بدوره على ما يعتبره المرء الحق في الاحترام والاهتمام المتساويين. ولذلك يعتقد دوركين أن معظم الخلافات المتعلّقة بالحقوق تنبع من تفسيرات مختلفة للحق الأساسي، على عكس الطريقة التي يستمدّ بها المرء الحقوق. على سبيل المثال، يفسّر دوركين الليبراليات المعاصرة على أنها تؤمن بأنه إذا عاملت الدولة الناس على قدم المساواة، فيجب أن تكون قراراتها محايدة قدر الإمكان فيما يتعلّق بمسألة «أي تصوّر خاص للحياة الجيدة أو ما يعطي قيمة للحياة، في حين يعتقد المحافظون المعاصرون أن معاملة الشخص على قدم المساواة تعني معاملته بالطريقة الصالحة، أو كما يودُّ الرجل العاقل حقًا أن يُعامل»[24]. ولكي نتمكن من فهم آراء دوركين فيما يتعلق بالإجراء التبريري لحقوق فردية معينة، من الضروري تقديم مخطط موجز لإعادة بناء الليبرالية والنزعة المحافظة.
يتم تبرير الديمقراطية من خلال الليبرالية لأنها تعامل الناس على قدم المساواة من خلال عدم إعطاء صوت أي شخص وزنًا أكبر أو أقل لأنه يستحق الاحترام أو الاهتمام بشكل أو بآخر. ولكن هذا التقويم المحايد لرغبات كل مواطن يتعطّل بسبب الوزن الحتمي الذي تجريه العملية السياسية الديمقراطية لتفضيلات الناس الخارجية؛ أي أن تفضيلات الناس لكيفية تمتّع الآخرين بالسلع أو الفرص وما إلى ذلك لا لتمتّعهم الشخصي بها تجعل من الصعب على الحكومة الديمقراطية أن تكون محايدة بشأن مسألة الحياة الجيدة. وكلّما كان هناك احتمال سابق بأن تقرر الحكومة أن أسلوب حياة معين يستحقّ الاحترام أو الاهتمام بشكل أو بآخر بسبب هذا الإدراج غير المحايد للتفضيلات الخارجية، فإن الليبرالي سوف يبرر حقوقًا فردية معينة لمنع الحكومة من التصرف بطريقة معينة. ويعتقد دوركين أن الليبراليين سوف يبرّرون، على سبيل المثال، الحق في حرية التعبير وحرية الاختيار في المسائل الجنسية على أساس أن أي قرار لتقييد حرية الاختيار في هذه الحالات من المحتمل أن يكون بسبب الوزن غير المحايد للتفضيلات الخارجية تجاه بعض أنماط الحياة[25]. بالنسبة للمحافظين، من ناحية أخرى، سيكون من غير المرجح، وفقًا لدوركين، رؤية الحاجة إلى الحقوق الفردية في هذه المجالات. وإذا كانت هيئة تشريعية ديمقراطية في مجتمع فاضل، على سبيل المثال، تجرّم المواد الإباحية، فإنها تعكس تفضيلات المواطنين الفاضلين والتي تتمثّل، على وجه التحديد، في احترام الحق في أن يعاملوا كما يريد الشخص الصالح أن يُعامل. بالنسبة للمحافظين، يوجد الخلل في الديمقراطية ذات نفسها، وبالتالي هناك حاجة إلى حقوق فردية محددة، في المجال الاقتصادي، حيث تميل الهيئات التشريعية الديمقراطية إلى مصادرة أملاك أولئك الذين يثبتون نجاحهم في السوق عبر فرض المزيد من الضائب. ويعتقد المحافظ أن السوق هو نموذج «العدالة في التوزيع»[26]، لأنه يخصّص المكافآت لأولئك الأكثر اجتهادًا ونجاحًا في خدمة رغبات المواطنين الفاضلين. وبناءً على ذلك، هناك حاجة إلى مجموعة محددة من حقوق الملكية لمنع الإجراءات الديمقراطية من التعارض مع الحق الأساسي في أن يتم معاملتك كما يرغب الشخص الفاضل في أن يُعامل. ولن يكون لدى الليبرالي نفس وجهة النظر تجاه السوق، لأنه بالنسبة له فإن السوق سوف يعامل الناس على قدم المساواة إذا، وفقط إذا، كان يزن بشكل محايد تفضيلات الناس حول الحياة الجيدة. ويمكن لنظام الأسعار أن يفعل ذلك من حيث المبدأ إذا كان لدى الجميع المواهب نفسها، وبدأ الجميع حياتهم على قدم المساواة؛ ولكن بما أن هذه الشروط لم يتم استيفاؤها، فإن الليبرالي سيريد من الحكومة أن تتدخل في السوق لتصحيح تلك التفاوتات التي لا تجسّد الحق في المعاملة على قدم المساواة (تلك الناجمة عن المواهب المتفوقة، والميراث، وما إلى ذلك) مع الاحتفاظ بأوجه عدم المساواة التي تجسّد الحق الأساسي (تلك الناشئة عن وجهات نظر مختلفة عن الحياة الطيبة). وبناءً على ذلك، فإن الليبرالية، كما أعاد دوركين صياغتها، سوف تضع ضغطًا أقل على حق الملكية وستركز على حقوق إعادة التوزيع (حقوق الرعاية)[27]. ويمكن تلخيص بنية نظريته حول الحقوق الطبيعية أو الفردية على النحو التالي: للناس حق أساسي في أن تعاملهم المؤسسات التي تتخذ القرارات السياسية على قدم المساواة، أي بطريقة عادلة. ويكون للمؤسسات ما يبررها إذا كانت تجسد الحق الأساسي؛ ولكن بما أن هذه المؤسسات قد لا تكون ذاتية التصحيح، فإن حقوقًا فردية محددة تدخل في الصورة لتصحيح أي اتجاهات قوية للمؤسسات لتوزيع السلع والحريات والفرص وما إلى ذلك بطريقة تنتهك هذا الحق الأساسي.
ثانيًا: بين الوضعية القانونية والقانون الطبيعي: نظرية القانون عند دوركين[28]
يبدأ «أخذ القانون على محمل الجد» بإرهاصات أوّلية لمناظرة هارت -دوركين (الفصول من الأول إلى الرابع، وعلى وجه الخصوص الفصلان الثاني والثالث). لقد هيمن هذا النقاش، الذي انخرط فيه آخرون إلى حد كبير، على الفلسفة القانونية الأنجلو أمريكية حتى (وما بعد) ملحق هارت لمفهوم القانون الذي صدر بعد وفاته[29]. في هذه الفصول سيقدّم دوركين وصفًا جيدًا، وإن كان متحيّزًا، للوضعية القانونية بشكل عام، ونسخة هارت منها بشكل خاص، بوصفها «نموذجًا لنسق القواعد» model of and for a system of rules[30]، وهو قدّم ثلاثة ادّعاءات رئيسية حول هذا النموذج[31]. الأول: أنه حدد القوانين على أنها قوانين المجتمع من خلال «نسبها pedigree أو من خلال الطريقة التي تمّ بها اعتمادها أو تطويرها».الثاني: أن القوانين التي يمكن تحديدها بهذه الطريقة تستنفد القانون، بحيث إذا واجه القاضي أو المسؤول قضية لا تغطيها، بشكل لا لبس فيه، قاعدة قائمة، فلا يمكنه «تطبيق القانون»، بل يمكنه فقط ممارسة صلاحياته التقديرية. وأخيرًا، فإن الالتزام القانوني يتكوّن من الالتزام بالواجبات التي يفرضها قانون ساري المفعول للقيام بأشياء معينة أو عدم القيام بها. من هذا المنطلق، امتلكت الوضعية القانونية مبرّرًا بنثاميًا على نطاق واسع لإزالة الافتقار إلى الوضوح والتعسّف بشأن القانون اللذين يعتقد بنثام أنهما متأصّلان في الاحتكام إلى قانون طبيعي غامض، حتى في شكله «الحديث» كما هو الحال في مبادئ حقوق الإنسان. هناك اثنان من الآثار المترتّبة على الموقف البنثامي هذا يتمتّعان بأهمية خاصة بالنسبة لدوركين. الأول، هو أن بنثام اعتقد أن المرء قادر على التمييز بين الفقه «التفسيري expository» و«الرقابي censorial»، بين ما هو القانون وما ينبغي أن يكون عليه القانون. وقد اعتبر في بعض الأحيان أن هذه الحجة تنطوي على فصل حاد بين القانون والأخلاق، ويميل «أخذ القانون على محمل الجد» إلى تبنّي هذا الرأي. ومع ذلك، يمكن القول إن الوضعية القانونية تتضمّن فقط الموقف الأكثر تواضعًا المتمثّل في إمكانية تحديد ماهية القانون دون مفاهيم أخلاقية أو تقويمية حول ما يجب أن يكون عليه القانون في ظروف معينة. لكن ذلك لا يعني أن القانون لا يمكن أن يحتوي على أية مبادئ أخلاقية. أمّا الأثر الثاني، فهو أن بنثام كان معاديًا لمذاهب الحقوق الطبيعية، معتبرًا إياها «مجرد كلام فارغ»، مع «حقوق طبيعية غير قابلة للتقادم، هراء بلاغيًا - هراء قائمًا على ركائز متينة -»، لكنه يفتقر إلى أي أساس أنطولوجي. وهي مذاهب عكست ببساطة الرغبات الشخصية لأولئك الذين يطالبون بها، مما أعطى طبعة من الشرعية للمشاعر الأنانية في كثير من الأحيان. لم ينكر بنثام أن الادّعاءات الأخلاقية الصحيحة يمكن أن يكون لها سمات الحق. لكنه أصر فقط على أنها يجب أن تتم على قاعدة المنفعة، بوصفها «ضمانات ضد خطأ القاعدة misrule».
في انتقاده لنموذج القوانين، سيقترح دوركين أن القراءة الأخلاقية للقانون ليست ممكنة فحسب، بل لا مفر منها أيضًا، نظرًا لأن القانون معياري تمامًا. وبالتالي، فإن الفقه «التفسيري» هو بالضرورة «رقابي» بطبيعته. وهو سيجادل بأن هذا لا يعني العودة إلى القانون الطبيعي، وأنه يمكن القيام به بطريقة تحترم اليقين القانوني، وما أسماه لاحقًا سلامة القانون law’s integrity. ولذلك، فإن النظرة الأخلاقية للقانون يمكن أن تكون أكثر من مجرد تحديد تعسفي للقانون من خلال موقف الفرد الشخصي (والأناني). علاوة على ذلك، ستتضمّن هذه القراءة الأخلاقية في جوهرها مفهوم الحقوق الفردية.
لقد سعى دوركين إلى تجنّب تهمة «الهراء» من خلال إنكار أن الحقوق «هي أنواع من الأشياء المخيفة التي يمتلكها الرجال والنساء بنفس الطريقة التي يمتلكون بها أشياء غير مخيفة مثل اللوزتين». وادّعى أن نظريته «لم تقدم افتراضات وجودية من هذا النوع»[32]. بل إن الحقوق هي «نوع خاص، بمعنى مقيد، من الحكم حول ما هو صواب وما هو خطأ، مما يجب على الحكومات أن تفعله»[33]. وهو بذلك أراد تجنّب تحديد الحقوق بوصفها مصالح أساسية أو سلعًا للبشر. وأراد أيضًا أن ينكر أن الحقوق مرتبطة ببساطة بالواجبات القانونية. فهي ليست «أشياء» مستقلة ولا هي مجرد حقوق قانونية تم تشريعها صوريًا، بل هي نوع من الحكم الأخلاقي، كما يقترح، متأصل في طبيعة القانون، على الأقل داخل المجتمعات الليبرالية[34].
إن رفض دوركين للوضعية ومفهومه للحقوق يشكّلان في الواقع وجهين لعملة واحدة: هي التفسير الأخلاقي للقانون. لقد وافق دوركين على أن البشر يصنعون القانون في وقت ومكان معينين. ومع ذلك، فقد اعترض على الجوانب الثلاثة لما يسمى «نسق القواعد» المذكور أعلاه: النسب، والثغرات، والالتزامات. مفترضًا أن القانون المستقرّ لا يجّسد القواعد فحسب، بل المبادئ أيضًا. وعلى النقيض من القواعد، فإن المبادئ - مثل «لا يجوز لأحد أن يستفيد من ظلمه» - لا تطبق أو نمتنع عن تطبيقها هكذا ببساطة. بل إنها تعمل كأسباب يمكن منحها درجات مختلفة من «الوزن» وفقًا للحالة المطروحة والتفاعل مع المبادئ الأخرى.
إن وجهة نظر دوركين حول أن المبادئ متأصّلة في أي نظام من القوانين تقوده إلى إنكار فكرة أن تحديد القانون أو مفهوم الشرعية بحد ذاته يعتمد على «النسب» pedigree الذي تنشأ بموجبه القوانين المكتوبة. وبدلًا من ذلك، سيفترض أن الشرعية تنبع من أحكام المشرّعين والمحامين والمواطنين، وقبل كل شيء من القضاة فيما يتعلق بفهم القانون في أي حالة محددة، الذي يتوافق بشكل أفضل مع مبادئه الأساسية. وهو يؤكد أن المسؤولين العموميين، مثل القضاة، ولكن أيضًا الأفراد العاديين بصفتهم العامة كمواطنين، عليهم واجب دمج المبادئ القانونية الموجودة في القانون في كل متماسك، يعرض نسق القوانين بأكمله في أفضل وضوح أخلاقي ممكن. ومع ذلك، فإن هذه العملية التأليفية هي مسألة «بناءconstruction»[35]. وعليه فإن دوركين لا يتجنّب نموذج القواعد فحسب، بل يتجنّب أيضًا ما يسمّيه «النموذج الطبيعي»، حيث يكون الهدف من الترتيب المتماسك للمبادئ هو أن يقدم صورة عن نسق أخلاقي موضوعي. والنموذج البنائي عند دروكين لا يقدّم مثل هذا الافتراض. وعلى هذا النحو، فهو لا يفترض أن كل حدسنا الأخلاقي يجب أن يصبح متماسكًا في النهاية؛ بل هو يسمح لنا برفض بعض المبادئ؛ لأنها تبدو متعارضة مع أفضل ترتيب للمبادئ التي يمكننا بناؤها. يدعي دوركين أنّ عملية البناء هذه، بحسب دروكين، هي مشروع جماعي وعام. وعلى الرغم من أنه يوسع نموذج البناء ليشمل التفكير الأخلاقي بشكل عام، إلّا أنه يعتبره متجسّدًا على وجه الدقّة في التفكير القضائي. إن النموذج الطبيعي يرى أن كلّ واحد من القضاة يقدم وجهة نظره حول ماهية النظام الأخلاقي الموضوعي، مما يجعل من الضروري العثور على نقطة أرخميدية للفصل بين طرائق فهمهم المختلفة. ودون مثل هذا الفصل، يمكن أن يعتبر الخلاف دليلًا على تفضيلات شخصية أو استنتاجات وملاحظات غير دقيقة. وعلى النقيض من ذلك، يرى دوركين أن جهود القضاة لاستيعاب السوابق القانونية ضمن مجموعة من المبادئ المتأصّلة في القانون التي قد تبرّرها، هي ممارسة تعاونية بالضرورة، وهي ممارسة تسعى إلى اكتشاف الأخلاق المشتركة وراء الأحكام المختلفة التي أصدرها مختلف القضاة. ومع ذلك، فإن القضاة، بفعلهم هذا، لا يتبنّون ببساطة الأخلاق التقليدية كما هي موجودة في القواعد الاجتماعية المقبولة على نطاق واسع. بل إنهم يصدرون أحكامًا أخلاقية موضوعية ويسعون إلى تطوير أفضل تفسير وتبرير أخلاقي للقانون في الصورة التي تطور عليها.
وهذا ينقلنا إلى انتقاد دوركين للخاصية الثانية التي ربطها بالوضعية، وهي الرأي القائل بأنه في حالة عدم وجود قاعدة، يجب على القضاة سدّ الفجوة الناتجة في القانون باستخدام سلطتهم التقديرية «لاختراع» الحقوق التي تبدو لهم مناسبة في قضية معينة. وفي أفضل الأحوال، فإن ضغوط الأقران والضغوط الاجتماعية فقط هي التي تجعلهم تحت السيطرة. وفي مقابل هذا الموقف، يرى دوركين أن هناك دائمًا «إجابة صحيحة» لما يتطلّبه القانون في حالة معينة، بما في ذلك تلك الحالات التي لا يغطّيها أي تشريع قائم. وحتى عندما لا تكون هناك قاعدة ثابتة تغطي قضية معينة، يظلّ «واجب القاضي... اكتشاف حقوق الأطراف، وليس اختراع حقوق جديدة بأثر رجعي»[36]. إن القاضي الذي يتبنّى نموذج البناء ينخرط في عملية «اكتشاف» لما يتطلّبه التقويم المناسب للمبادئ التي يقوم عليها كامل القانون المستقرّ في أيّ قضية معطاة. ويعترف دوركين بأن هذه ليست مهمة سهلة – وقد اتضح، في الواقع، أنها مهمّة ذات أبعاد هائلة، وتتطلّب «محاميًا يتمتّع بمهارة خارقة، وتعليم، وصبر، وفطنة، سيسميه دوركين هرقل»[37]. ومع ذلك، حتى لو كان هرقل الافتراضي هذا هو الوحيد القادر على التوصل إلى إجابة صحيحة نهائية بناءً على القراءة «الأفضل» أخلاقيًا لما تتطلّبه المبادئ الكامنة وراء القانون المستقر في أيّ قضية معينة، فهو يؤكد أن جميع القضاة ملزمون بالمحاولة. ونظرًا لأننا لسنا هرقل، فقد نتوصّل إلى وجهات نظر مختلفة[38] - وحدود تفكيرنا العملي، في الواقع، ستجعل الخلاف أمرًا لا مفر منه تقريبًا. وهذا لا يبطل عملية البناء.
يقودنا هذا إلى ما هو في كثير من النواحي الجانب الأكثر تطرفًا، وإن كان أيضًا الجانب الأكثر إهمالًا، في حجة دوركين، وهو نقده للتفسير الوضعي للالتزام القانوني. لقد كان يعتقد أن ليس القضاة وحدهم، بل المواطنين أيضًا، يمكنهم ويجب عليهم المشاركة في النموذج البنائي للقانون. ومع ذلك، فإن القيام بذلك يتحدى وجهة النظر القائلة بأننا ملزمون قانونيًا بالضرورة بإطاعة القانون الموضوع بشكل صحيح. ولقد أشرت سابقًا إلى أن الحركات الاحتجاجية في الستينات قد شكّلت إطارًا لتطور نظرية دوركين. حيث وجد النشطاء أن أشكالًا مختلفة من العصيان المدني شكّلت أدوات مهمة في الحركات في ذلك الوقت، بدءًا من «ركّاب الحرية» الذين ركبوا الحافلات بين الولايات للاحتجاج على الفصل العنصري، إلى مقاومي التجنيد المعترضين على حرب فيتنام. كانت وجهة النظر السائدة، كما لاحظ دوركين، - حتى بين هؤلاء النشطاء - هي أنهم بوصفهم عصاة مدنيين وليسوا ثوريين، فإنهم ملزمون بالمعاناة من العواقب القانونية لعصيان حتى تلك القوانين التي يعتبرونها غير عادلة[39]. إن دوركين لا يوافق على ذلك. ويفترض هذا الموقف شكلًا من أشكال حساب «النَّسب» للصلاحية القانونية. ومن الناحية البنائية، قد يكون القانون غير العادل باطلًا؛ لأنه لا يعكس أفضل قراءة للمبادئ التي يرتكز عليها القانون. وقد يكون هذا الكلام صحيحًا حتى لو أكّدت المحكمة ذلك القانون. ففي نهاية المطاف، غالبًا ما تنقسم المحاكم متعدّدة الأعضاء، في حين تقوم المحاكم الدستورية في كثير من الأحيان بإعادة النظر في القرارات السابقة وإبطالها[40]. لذا فإن النظام القضائي نفسه يعترف بأنه يمكن أن يرتكب أخطاء. ولذلك «لا يوجد قرار قضائي هو بالضرورة القرار الصحيح»[41]. ونتيجة لذلك، فإن العصيان المدني لا يحتاج إلى اعتبار نفسه بالضرورة مخالفًا للقانون، بقدر ما يوحي بأن المحكمة والحكومة ربما ارتكبتا خطأ أخلاقيًا وقانونيًا فيما يتعلق بماهية القانون. وهو يوافق على أنه عندما يختلف الأفراد أخلاقيًا حول حالة القانون، فقد يكون من الضروري لبعض الوكلاء المعتمدين أن «يكون لهم القول الفصل في القانون الذي سيتمّ تطبيقه» لتجنّب الفوضى[42]. وعندها سيكون الأمر مسألة حكمة فردية سواء أذعن أولئك الذين استمروا في الاختلاف أم لا. ومع ذلك، إذا استمروا في الاختلاف، فإنهم لا يخطئون بالضرورة. بل على العكس من ذلك، قد يستفيد المجتمع والقانون من قيامهم بذلك؛ لأن أفعالهم تشكل جزءًا من الجهد التعاوني، جنبًا إلى جنب مع المحاكم والحكومة لتصحيح القانون من خلال تشجيعهم على بذل قصارى جهدهم للقيام بذلك[43].
لقد أثار النقّاد مجموعة من المشاكل فيما يتعلّق بتفسير دوركين للقانون. منها أن الوضعيين لم يصرّوا قط على الفصل الصارم والسهل بين القانون والأخلاق. فقد اعترف هارت دائمًا، على سبيل المثال، أنه في الأنظمة القانونية مثل الولايات المتحدة، فإن «المعايير النهائية للصحة القانونية تتضمّن بوضوح مبادئ العدالة أو القيم الأخلاقية الموضوعية». وبالمثل، فإن القوانين «قد تكون مجرد غلاف قانوني وتتطلّب شروطها الصريحة أن يتمّ ملؤها بمساعدة المبادئ الأخلاقية»[44]. في هذه الأثناء، طوّر الوضعيون القانونيون هذه الحجة بشكل أكبر وجادلوا بأن الوضعية القانونية يمكن أن تسمح باختبارات أخلاقية للشرعية دون الحاجة إلى أن يكون لديها نسب معطى[45]. ومثل «قاعدة الاعتراف» التي وضعها هارت، فإن مثل هذه الاختبارات الأخلاقية قد تنشأ كقاعدة اجتماعية، أو اتفاقية بين القضاة والمواطنين، حيث تكون بعض القواعد الأخلاقية ملزمة قانونًا. ولا ينبغي للخلافات حول مدى تأثير هذه القاعدة أن تؤدي إلى تقويض وجود مثل هذه الاتفاقية؛ فهي تعكس خلافات حول تطبيقها على حالات معينة وليس حول محتواها. ولقد أيّد هارت نفسه، في الواقع، هذه القراءة في رده المنشور بعد وفاته على نقد دوركين[46].
ومع ذلك، يؤكّد الوضعيون أنه في بعض الأحيان من الممكن أن نقول: «هذا قانون ولكنّه من الظلم أن نطيعه أو نطبّقه»[47]. وقد تساءل الكثيرون عما إذا كان دوركين ينكر ذلك. إذا لم يكن ينكر ذلك، فإن تفسيره للبناء القانوني لن يؤدي إلا إلى رؤية أخلاقية مناسبة للقانون في الحالات التي يتضمّن فيها القانون المستقر مبادئ أخلاقية ليبرالية. أما في الأنظمة غير الليبرالية، فيظلّ من غير الواضح كيف يمكن لهرقل أن يتوصّل إلى استنتاجات ليبرالية دون اللجوء إلى القانون الطبيعي[48]. على أقل تقدير، يبدو أنه في مثل هذه الحالات، يجب على دوركين أن يقبل التمييز بين الفقه «التفسيري» و«الرقابي»[49]. لقد سلّطت هذه الانتقادات الضوء على جانبين مهمّين من نظرية دوركين القانونية. الأول هو أنه على الرغم من أنه يلجأ إلى مبادئ القانون المستقر، إلا أنه لا يعطي أهمية كبيرة للاستقرارsettlement في حد ذاته. ويمكن الطعن في القوانين التي قد تبدو مستقرّة، بل وحتى عدم تطبيقها بشكل فعال، من خلال اللجوء إلى قراءة بنّاءة تظهر أنها غير متوافقة مع المبادئ الأساسية للقانون. في الوقت الذي يظل فيه فهم هذه المبادئ نفسها أيضًا وعلاقتها بالقضايا الماضية والمستقبلية خاضعًا للمناقشة والمراجعة. وعلى الرغم من فرضية «الإجابة الصحيحة» الموضوعية، فإن الإجابات الصحيحة في حد ذاتها لا تفعل الكثير من العمل في حجة دروكين، وهو يسخر من فكرة أن «هناك دائمًا» إجابة صحيحة «لمشكلة قانونية يمكن العثور عليها ... تحتويها «بعض الصناديق القوية الترنسندنتالية»[50]. وكما لاحظ والدرون[51]، فإن نظرية دوركين تدور حول العملية أكثر من النتيجة. إنها نظرية لممارسة الجدل القانوني، وهي ممارسة يسعى، كما رأينا، إلى جعلها مفتوحة قدر الإمكان. وتكمن أهمية القانون في الطريقة التي يشكل بها النقاش من خلال تشجيع جميع المعنيين على تنظيم علاقاتهم القانونية المتبادلة بطريقة متماسكة ومبدئية، بما يتوافق مع القيم الأخلاقية والسياسية للمجتمع ككل.
أما الجانب الثاني فيتعلق بمكانة الحقوق عنده. وعلى الرغم من أن الحقوق في نظريته تتعلق بالمبادئ الأخلاقية الموجودة في القانون أكثر من ارتباطها بالحقوق القانونية الناتجة عن القواعد الموضوعة حسب الأصول، إلا أنه لا يذكر الكثير عن أساسها[52]. وهو ينكر أن تنبع الحقوق من المصالح في سلع معينة، بما في ذلك – وهو الأمر الأكثر إثارة للجدل، بالنظر إلى ليبرالييه – أي حق في الحرية، وهي فكرة يرفضها باعتبارها “سخيفة”[53]. وبدلًا من ذلك، فهو يقدّم سببين مجرّدين إلى حدّ ما لضرورة أن نأخذ الحقوق على محمل الجد – أوّلًا: «الفكرة الغامضة ولكن القوية عن الكرامة الإنسانية»، وثانيًا: «الفكرة الأكثر شيوعًا حول المساواة السياسية»[54]. والسبب الثاني هو الأكثر تحفيزًا لحجة دوركين[55].
وهو يتحدث في الواقع عن «الحق في المساواة»، حيث «يحقّ للأعضاء الأضعف في المجتمع السياسي أن يتمتّعوا بنفس الاهتمام والاحترام من الحكومة مثل الأعضاء الأكثر قوة»[56]. ومرة أخرى، يمكن فهم هذا التركيز على الكرامة والمساواة على أفضل وجه باعتباره نتيجة طبيعية لرؤيته لسيادة القانون باعتبارها عملية نقاش قانوني مبدئي «يشجع كل فرد على الافتراض أن علاقاته مع المواطنين الآخرين ومع حكومته هي مسائل تتعلّق بالعدالة» و«أن يناقش كمجتمع ما تتطلبه العدالة من تلك العلاقات» من خلال الوعد بـ «منتدى يتم فيه النظر بشكل ثابت وجدّي في ادعاءاته حول ما يحق له الحصول عليه بناءً على طلبه» [57]. إن أخذ الحقوق على محمل الجد لا يعني الحصول على الحقوق بشكل صحيح، بل إظهار أن حقوق الجميع تحظى بالاعتبار الواجب من خلال إجراء نقاش قانوني وسياسي بطريقة عادلة. وعلى حد تعبيره الشهير: «إنّ «الحق في المساواة» right to equality ليس «الحق في المعاملة المتساوية» a right to equal treatment، بل «الحق في المعاملة على قدم المساواة» right to treatment as an equal، وهو حق «ليس في التوزيع المتساوي لبعض الخير أو الفرص، ولكن... في الاهتمام والاحترام على قدم المساواة في المشاركة في القرار السياسي حول كيفية توزيع هذه السلع والفرص»[58]. إن الحقوق القانونية التي يعتقد دوركين أننا نستطيع الاحتجاج بها لحريات محددة تنبع من متطلّبات الاهتمام والاحترام المتساوي في مثل هذه العملية السياسية والقانونية.
قد يُعتقد أن وجهات نظره حول سيادة القانون والحقوق تعزّز تسييس politicization القانون. ويعتقد بعض الباحثين أن تفسير دوركين يقود الجهات الفاعلة القانونية إلى الاضطلاع بدور أكثر ملاءمة وهذا متروك للمشرعين[59]. وبطبيعة الحال، ينكر دوركين أن هذه المناقشات القانونية تستلزم التشريع، لأنها تنطوي على اكتشاف القانون، وليس اختراعه. ومع ذلك، فإن وصفه للعملية القانونية يمكن اعتباره قابلًا للتطبيق بالقدر نفسه على العملية السياسية[60]. ومع ذلك، يعتبرها دوركين في جوهرها نمطًا قانونيًا للنقاش، يتعارض مع النقاش السياسي، وهو تصحيح ضروري له، حيث يلعب كلاهما دورًا مكملًا للآخر في الديمقراطية.
ثالثًا: نظرية السياسة بين المنفعة والحقوق[61]
تسعى نظرية القانون عند دوركين إلى الجمع بين مزايا الوضعية القانونية والقانون الطبيعي، مع التغلب على عيوبهما المزعومة. وبالمثل، فإن تفسيره للسياسة والحقوق يهدف إلى توظيف وجهة النظر المبدئية الناتجة عن القانون لمواجهة عيوب النفعية التي يراها متأصلة في عملية صنع القرار الديمقراطي، مع الحفاظ على مزاياها. وهو يرى أن مفهومه التداولي لطبيعة القانون يكمل الطابع التجميعي إلى حد كبير للسياسة. فإذا كان الأول يهدف إلى تأمين قيم ومبادئ المجتمع السياسي، وفي المقام الأول حقوق الأفراد في الاهتمام والاحترام المتساويين، فمن المفترض أن يضمن الأخير أن تخدم سياسات الدولة الصالح العام. وبهذه الطريقة، يأمل في الحفاظ على النزعة التقدّمية الراديكالية للنفعية مع الحفاظ على الاهتمام الليبرالي بالحقوق الفردية.
وتعكس وجهة نظره حول هذه الحقوق هذه الأهمية للأدوار التساندية للقانون والسياسة إلى حد كبير. وعلى الرغم من أن دوركين لم يذكر سوى القليل عن أساس الحقوق، إلا أنه يصف طبيعتها والغرض منها. الحقوق هي «مفهوم مناهض للنفعية» لكونها شيئًا من الأشياء التي سيكون «من الخطأ أن تنكرها الحكومة على [شخص ما] حتى لو كان ذلك في المصلحة العامة»[62]. ومثل هذه «الحقوق الفردية هي أوراق سياسية رابحة يملكها الأفراد» (الحادي عشر). ويبدو هذا مناهضًا للجماعاتية وليبراليًا في طبيعته، وهو شيء يثير قلق البنثاميين من أن الحقوق قد تكون بمثابة مبرّرات ميتافيزيقية زائفة لوضع المصالح الفردية، التي تخدم مصالح ذاتية لأقلية مميزة، فوق المصلحة العامة للأغلبية. وسيسعى دوركين إلى تبديد مثل هذه الاعتراضات من خلال قبول شرعية العمل الحكومي القائم على إعادة التوزيع والتنظيم على أسس نفعية إلى حد كبير، مع احتفاظه بالتمسك بحقوق أولئك الذين ربما تبقى أصواتهم غير مسموعة في حسابات المنفعة هذه، وخاصة الأقليات المحرومة.
إن الديمقراطية تتكوّن، حسب دوركين، من تجميع تفضيلات المواطنين من أجل التوصّل إلى سياسات تدعم المصلحة العامة. ومن وجهة نظره، فإنّ قرارات الأغلبية التي يتم التوصل إليها من خلال تصويت عادل وحر ومتساو، توفر الطريقة العملية الأفضل لتحديد السياسات التي تعمل على تعزيز السعادة الأعظم لأكبر عدد من الناس. ومن المثير للدهشة إلى حد ما من منظور ليبرالي تقليدي قائم على الحقوق، أن دوركين يرى أن مثل هذه العملية مبررة في معظمها، لأنها تتفق مع الحاجة الأساسية للحكومات لمعاملة الناس «بالقدر نفسه من الاهتمام والاحترام»[63]. وهو يجادل بأن «مسلمة الأخلاق السياسية» هذه تتطلّب عمليات متساوية ومحايدة لتوزيع السلع، لا تفترض مسبقًا أن «تصور أحد المواطنين للحياة الجيّدة لمجموعة ما هو أنبل أو أسمى من تصوّر آخر»[64]. من خلال اعتبار الجميع واحدًا وواحدًا فقط، يؤكد دوركين أن الحسابات النفعية «لا يبدو أنها تتعارض، بل على العكس من ذلك، تجسد الحق الأساسي في الاهتمام والاحترام المتساوي». إنها تعامل «رغبات كل فرد في المجتمع على قدم المساواة مع رغبات أي فرد آخر»[65]. ومن وجهة نظر دوركين، فإن حقوق الإنسان لا تعكس المصالح الأساسية ذات الوزن الخاص الذي قد تفشل الحسابات النفعية في أخذه بعين الاعتبار. وطالما تم الاعتراف بالحق في المعاملة على قدم المساواة، فإن العديد من الحقوق التي استشهد بها الليبراليون تقليديًا باعتبارها قيودًا على الحكومات الديمقراطية قد يتم تجاوزها بشكل مبرر من أجل منفعة.
ما يمكن ملاحظته هنا هو تأكيد دوركين، على عكس العديد من الليبراليين والمحافظين ذوي العقلية التحرّرية، على أنه لا يوجد حق في الحرية في حد ذاتها، ما يوجد هو فقط الحق في الحريات ـ مثل حرية التعبير ـ الضرورية لحماية الحق في أن يتم التعامل مع الأشخاص بنفس القدر من الاهتمام والاحترام. وبالتالي، فهو ليس لديه أية اعتراضات على الدولة التدخّلية interventionist state التي تقيد الحريات الاقتصادية المختلفة، مثل حقوق الملكية أو حرية التعاقد، من أجل تعزيز الرعاية الاجتماعية بشكل عام. ويقبل، في الواقع، فكرة أن الدولة قد تحتاج إلى تنظيم الحرية الفردية بطرق متنوعة لتأمين أنواع معينة من المنافع العامة التي يرغب فيها معظم الناس أو يقدرونها بشكل أكبر. ومن أقواله الشهيرة أنه ليس هناك حق في أن تكون حرًا في القيادة في كلا الاتجاهين في شارع ليكسينغتون[66]. وإذا كان تقييد السائقين في اتجاه واحد يسهل التدفق العام لحركة المرور، فإن ذلك سيكون سببًا كافيًا للحد من حرية الفرد. وبالمثل، فهو ينظر إلى القيود التي تفرضها الدولة على ساعات العمل، مثل تلك التي تم الإعلان عنها في قضية لوشنر[67] بأنها تتعارض مع حرية إبرام عقود عمل تتضمن أكثر من عشر ساعات عمل يوميًا، أمرًا مسموحًا به لتحقيق الصالح العام[68]. وكذلك الأمر بالنسبة للضرائب لدعم المنافع العامة مثل التعليم الحكومي، والرعاية الصحية، والمعارض الفنية، والمتاحف. ويدعم دوركين هذه السياسات ليس لحظر التمييز على أساس العرق أو الجنس فقط، بل لفرض إلغاء الفصل العنصري والتمييز العكسي[69] reverse discrimination أيضًا، من خلال أنواع مختلفة من العمل الإيجابي. وهو أكّد أن كل هذه السياسات يسمح بها بقدر ما يمكن اعتبارها نتاجًا لإجراءات محايدة تقوم على المساواة لتعزيز الصالح العام. لكن أي واحد من الأمثلة المذكورة أعلاه لم يدفع دوركين إلى استدعاء مفهوم الحقوق «المناهض للنفعية». بل هو يشير، على العكس من ذلك، إلى أن «الجزء الأكبر من القوانين التي تقلّل من حريتي لها ما يبررها على أسس نفعية»[70]. لماذا إذن تعتبر «الأوراق الرابحة» المناهضة للنفعية ضرورية؟ الجواب هو أنّها تعتبر كذلك بسبب خطأ مزعوم في الطريقة التي تعمل بها الديمقراطية، حيث تثبت أن نزعتها المساواتية هي «في كثير من الأحيان مجرّد وهم»[71]. ويبدو أن هناك تمييزين مترابطين يقومان بالعمل على إنتاج هذا الحكم. الأول، هو التمييز بين التفضيلات الشخصية والخارجية[72]. التفضيلات الشخصية للفرد هي، أو المستمدّة منه، الرضى الذي يسعى الفرد شخصيًا للحصول عليه من سلع ومزايا معينة. على النقيض من ذلك، تتعلّق التفضيلات الخارجية للفرد بكيفية اعتقاده بأنه ينبغي تخصيص السلع والمزايا للآخرين. ويؤكّد دوركين أن الشكل الوحيد الذي يمكن الدفاع عنه من النفعية هو الشكل الذي يأخذ في الاعتبار التفضيلات الشخصية فقط وليس الخارجية؛ لأن حساب المنفعة الذي يتضمن التفضيلات الخارجية لن يعامل جميع المعنيين بنفس القدر من الاهتمام والاحترام في عملية صنع القرار. فالمتعصّب الأبيض يحمل تفضيلًا خارجيًا مفاده أن الشخص الأسود يجب أن يعتبر أقل منه منزلة. وبعض الأشخاص لديهم وجهات نظر دينية حول المثلية الجنسية ومنع الحمل، الأمر الذي لا يدفعهم إلى تفضيل تجنب هذه الأنشطة بأنفسهم فحسب، بل إلى تفضيلهم امتناع الآخرين عنها أيضًا. ومثل هذه التفضيلات الخارجية هي، حسب دروكين، بمثابة شكل من أشكال «الأخذ المضاعف بعين الاعتبار [73]double counting (؛ لأن التفضيل الخارجي لما يجب أن يفعله الآخرون هو في علاقة تضايف مع التفضيل الشخصي لما يجب أن يفعله المرء بنفسه. على هذا النحو، فإنه يخالف الأمر النفعي الذي يقضي بأن يعد الكل واحدًا، وواحدًا فقط.
ومع ذلك، فإن تفسير حجة دوركين ببساطة على أنها محاولة لتحسين النفعية - وهو تفسير يعترف بنفسه بأنه مشجع - ربما يكون مضللًا. ما هو أساسي هنا هو أنه يسعى إلى تجنّب وضع سياسات على نحو يسيء إلى الحياد من خلال معاملة بعض الناس على أنهم أكثر جدارة أو أقل استحقاقًا من غيرهم بسبب سمات شخصية لا يتحملون أي مسؤولية عنها. ويرى دوركين أنه من المستحيل معرفة ما إذا كانت هذه التفضيلات الخارجية قد ظهرت في عملية صنع القرار الديمقراطي أو لا، أو إلى مدى يمكن أن تكون حاسمة. وحجته هي أنه عندما يبدو من المحتمل أن تؤثر هذه الحقوق على عملية صنع القرار العام بالنظر إلى طبيعة المجتمع، كما هو الحال في القوانين التي تحكم الاختيار الحر في العلاقات الجنسية في مجتمع حيث يتبنى الكثيرون وجهات نظر تدين خيارات معينة باعتبارها غير أخلاقية، فإن الحقوق ستكون بحاجة إلى لتؤيدها المحاكم. ولا يمكن الاعتماد على العمليات الديمقراطية لتأخذ على محمل الجد تلك الحقوق اللازمة للحفاظ على الحق في المعاملة على قدم المساواة في الاهتمام والاحترام. هنا يأتي تمييز دوركين الثاني، بين السياسة والمبدأ.
تتضمن حجج السياسة إظهار أن القرار السياسي «يعزّز أو يحمي بعض الأهداف الجماعية للمجتمع ككل»، في حين أن حجج المبدأ «تبرّر القرار السياسي من خلال إظهار أنه يحترم أو يضمن بعض ... الحقوق»[74]. ويقدّم دوركين هذا التمييز كوسيلة لوصف تقسيم العمل بين السياسة الديمقراطية والقانون الليبرالي الذي يبرّر الفصل الوظيفي الواضح بين هذين الفرعين، وإمكانية قيام المحاكم بإبطال التشريعات التي تم تشريعها ديمقراطيًا على أسس مبدئية. ومع ذلك، فمن غير الواضح أنه يمكن التمييز بين الاثنين بسهولة[75]. قد يوجِّه القانون المحاكمَ على وجه التحديد للنظر في سياسات مختلفة لمعرفة ما الذي يعزِّز الصالح العام. وقد يمنح التشريعُ أيضًا حقوقًا للأفراد، بغرض تعزيز سياسة تعتبر نافعة الصالح العام.
ويقترح دوركين أنه في مثل هذه الحالات، يجب على المحاكم أن تنظر إلى «النظرية السياسية الخاصة التي تبرر هذا القانون، في ضوء المسؤوليات الأكثر عمومية للسلطة التشريعية، بشكل أفضل من أي نظرية بديلة»[76]. ولكن إذا كانت المسؤولية العامة للهيئة التشريعية تتلخّص في تعزيز الصالح العام، فيبدو أننا عدنا إلى المربع الأول. علاوة على ذلك، إذا كانت العملية التشريعية، كما يقترح دوركين، هي الأكثر ملاءمة فيما يتعلق بقضايا السياسة، فكيف يمكن للمحكمة أن تكون مختصّة بنقضها؟
وبالمثل، فإن دعم الحقوق الدستورية قد يتطلّب قيام المحاكم بوضع السياسات المتعلّقة بكيفية إرساء حق معيّن. ومع ذلك، لنفترض أن الهيئة التشريعية قد أخذت في الاعتبار قضايا المبادئ الدستورية في صنع السياسة. وربما، كما هو الحال في المملكة المتحدة بموجب قانون حقوق الإنسان، أجرت صراحة مناقشة مبدئية حول مضامين وتأثير السياسة المتعلّقة بالحقوق، فإن بعض التشريعات الصادرة عن مثل هذه العملية قد تركّز على تعزيز مبدأ دستوري. يدرك دوركين أن المواطنين والقضاة يمكن أن يختلفوا حول المسائل المبدئية، وأن أخذ الحقوق على محمل الجد لا يمكن إلا أن يعني النظر فيها على النحو الواجب، وإظهار الاهتمام والاحترام المتساويين للآراء المعنية وضمان أخذها في الاعتبار بشكل كامل ومنصف. ويبدو أن حجّته هي أن السياسة الديمقراطية تفعل ذلك بشكل أقل كفاءة من المحاكم، وذلك ببساطة لأن المسائل المبدئية أقلّ أهمية. ولكن لنفترض أنها ذات أهمية، وأن النظر الواجب إليها يشكل جزءًا واضحًا من اختصاصات الهيئة التشريعية وجزءًا يتم القيام به على محمل الجد - في بعض الأحيان يقترح دوركين أن مجرد إجراء التصويت التشريعي يشير إلى الافتقار إلى المداولات المبدئية[77]، ومع ذلك، فإن المحاكم المتعددة الأعضاء تختلف بحسن نية (وسيئة) أيضًا، وتصوت لاتخاذ القرار. فهل يستطيع القضاة بشكل مشروع إلغاء هذه السياسات من خلال التذرع بالحقوق باعتبارها أوراقًا رابحة إذا كانت هذه الأوراق الرابحة قد تم لعبها بالفعل في مداولات الهيئة التشريعية؟ أليس هذا أفظع شكل من أشكال الأخذ المضاعف بعين الاعتبار؟
إن تفسير دوركين للطبيعة الأخلاقية للقانون ومركزية الحق في المساواة قد لا يلزمنا، كما كان يعتقد، بشكل معين من أشكال الدستورية القانونية. ومن المحتمل أن يكون بمثابة أساس للنزعة السياسية الدستورية. ويمكن قراءة تعليقات دوركين حول العصيان المدني بطريقة سياسية للغاية، لجهة أنها تمكّن المواطنين من المشاركة في النقاش الأخلاقي حول طبيعة القانون. حتى أنه أصر في كتاباته اللاحقة على أن إحدى الفضائل الأساسية للحماية القضائية للحقوق الدستورية تكمن في الطريقة التي يمكن أن تثير بها نقاشًا عامًا أوسع. ومع ذلك، ظل يعارض السماح للمواطنين باتخاذ قرار بشأن مثل هذه المسائل المتعلقة بالحقوق بأنفسهم، من خلال العملية الديمقراطية. وربما يرجع ذلك جزئيًا إلى سعيه للاحتفاظ بنقده لعنصر النسب في نموذج القواعد. وإذا نظرنا إلى الانتخابات الديمقراطية والمناقشات التشريعية بوصفها مشاركة في نقاش مبدئي على أساس عادل ومتساو، فإن حقيقة أن أصل القانون يكمن في مثل هذه العملية تكتسب وزنًا إضافيًّا. ويشير ذلك إلى أن القضاة قد لا يأخذون الحقوق على محمل الجد كما ينبغي إذا تجاهلوا الجدية التي تمت مناقشتها بها بالفعل من قبل المواطنين[78].
وهذا لا يعني أن القضاة لا يمكنهم لعب أي دور في المناقشة. فالهيئات التشريعية تتبنى بالضرورة وجهة نظر عامة، حتى ولو لم تكن بالضرورة تلك التي تضحّي بالمبادئ لصالح السياسة، في حين تتعامل المحاكم مع القضايا الفردية. ونتيجة لذلك، يمكن للمحاكم أن تكتشف أنه، في ظروف معينة، قد يكون للقانون عواقب مؤسفة على أفراد معينين بطرق ربما لم تتوقعها الهيئات التشريعية، وربما لم تكن قادرة على توقعها، وفي مثل هذه الحالات، يمكن للمحاكم أن تلعب دورًا حيويًا في تحفيز المزيد من المداولات من خلال تشريع الحقوق الفردية. ومع ذلك، فإن هذا لا يحتاج إلا إلى أن يأخذ شكل مراجعة «ضعيفة»، حيث يطلب من المجلس التشريعي إعادة النظر في تشريعاته في ضوء الصعوبات التي أبرزتها القضية[79]. ونظرًا لأن وجهة نظر المحكمة قد تكون خاطئة مثل وجهة نظر الهيئة التشريعية، شريطة أن ينخرط الساسة في عملية تأخذ الحقوق على محمل الجد، فلن يكون هناك أي مبرر لتسليم القرار النهائي إلى القضاة. إن قيامهم بذلك، في الواقع، سيفشل في معاملة المواطنين وممثليهم المنتخبين على أن لديهم وجهات نظر متساوية حول موضوع القوانين التي يجب أن تحكم علاقاتهم مع الآخرين.[80]
وقد يجادل المرء بأن قيام الهيئة التشريعية بمراجعة قرارها من شأنه أن يسمح لها بالحكم في قضيتها الخاصة. ودوركين ليس لديه أي اعتراض على قيام المحاكم بمراجعة سوابقها، بل على العكس فهو يرحب بذلك. وتشير الأدلة إلى أن الهيئات التشريعية في معظم الحالات تذعن للهواجس القضائية، وحيثما لا يفعلون ذلك - كما في حالة حقوق التصويت للسجناء مثلًا في المملكة المتحدة - فإن هذه القضية عادة ما تكون مثيرة للجدل إلى حد كبير من الناحية القانونية والسياسية، ومع ذلك، فمن الممكن أيضًا أن تقرر الهيئة التشريعية المستقبلية، ذات التكوين المختلف، بشكل مختلف. ففي نهاية المطاف، يمكن للناخبين عزل أعضاء البرلمان بشكل منتظم، مما يجعلهم مستجيبين للحجج الأخلاقية للناخبين بطريقة نادرًا ما تفعلها المحاكم.
إن نقد دوركين للديمقراطية له طابع النبوءة ذاتية التحقق. وليس هناك ما قد يدفع الساسة إلى عدم أخذ الحقوق على محمل الجد أكثر من الإشارة إلى أنهم لا يتحملون أي مسؤولية خاصة عن القيام بذلك. والحجج المعيارية القليلة التي يقدمها لتقسيم العمل هذا إما أنها غير متماسكة أو تنطوي على مشاكل تنطبق على المحاكم بقدر ما تنطبق على الهيئات التشريعية. وعلى النقيض من ذلك، فإن العديد من حججه التي تسلّط الضوء على الدور الذي تلعبه الإجراءات القانونية الواجبة في أخذ الحقوق على محمل الجد، تشير إلى أن المحاكم والديمقراطية من الممكن أن تعملا بشكل أفضل معًا بدلًا من الفصل بينهما، حيث يُنظر إلى كل منهما بوصفه منتدى للمبادئ.
لقد ساهم «أخذ القانون على محمل الجد» في إحياء النظرية القانونية والسياسية، على الأقل في الإشارة إلى الروابط بين الاثنين. وكما يحدث غالبًا مع الكتب المهمة، فقد ألهم دوركين الكثيرين لانتقاد حججه وتطوير أفكاره بطرق لم يتوقّعها، ولم يكن ليرحّب بها بالضرورة، وعلى وجه الخصوص الانتقاد الذي يقول إن الكتاب المستوحى من الحاجة إلى قراءة أخلاقية للقانون يمكن أن يوفر أساسًا للنظر في أخلاقيات وضع القوانين. وعلى هذا فإن أحد كلاسيكيات النظرية القانونية في القرن العشرين قد يصبح كلاسيكيًا في النظرية السياسية في القرن الحادي والعشرين.
رابعًا: بعض عيوب في نظرية دوركين حول الحقوق
لقد زعم شابيرو في نقده لنظرية دوركين في الحقوق أنها معيبة بشكل جذري، لدرجة أنه يمكن الزعم أن ليس لديه أي نظرية للحقوق على الإطلاق. والمشكلة ليست في أن دوركين فشل في الواقع في تأسيس نظريته؛ إذ في الوقت الذي يرغب فيه المرء في الحصول على نظرية راسخة للحقوق، فإن الافتقار إلى الكمال ليس خطيئة فلسفية في حد ذاته، بل إن المشاكل المتعلّقة بنظرية دوركين أعمق بكثير من مجرّد عدم الاكتمال؛ ذلك أن الحق الأساسي الذي من المفترض أن يشكل أساسًا لحقوق فردية معينة عنده - الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين - لا يمكن أن يكون حقًا أساسيًا، بل وقد لا يكون حقًا طبيعيًا على الإطلاق. ثم إن حجة دوركين حول أن الحق في الحرية غير متماسك هي حجة ضعيفة ويمكن دحضها بسهولة كما سيأتي. وهاتان النقطتان، إذا كانتا صحيحتين، تظهران فشل محاولة دوركين للتغلّب على التعارض بين الحرية والمساواة. ومن ناحية أخرى سيزعم شابيرو أن أي نظرية للحقوق الطبيعية تستلزم الحق في الحرية. وإذا كان ذلك صحيحًا، فإن أي نظرية مثل نظرية دوركين التي لا يوجد فيها مجال للحق في الحرية، لا يمكنها حل التعارض بين المساواة والحرية، بل هي معيبة بشكل خطير.[81]
ولقد وجهت انتقادات عديدة لمفهوم دوركين حول الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين. وانتقدت كذلك قناعته بأن الحق في الحرية غير متماسك ولا أساسي، استنادًا إلى أن أية نظرية للحقوق الطبيعية يشكل الحق في الحرية عنصرًا أساسيًا فيها. وها أنذا سأوجز طبيعة المشكلات التي تعانيها رؤية دوركين في كلا هذين الموضوعين، على ضو الانتقادات الأحدث التي وُجّهت إليه.
تتطلّب النظرية الناجحة للحقوق الطبيعية فكرة أن الحق الأساسي الذي تشتقّ منه جميع الحقوق الفردية الأخرى يجب ألا يفترض مسبقًا جميع أنواع الحقوق. ومع ذلك، فإن أمثلة دوركين الثلاثة التي من المفترض أن تجسّد الحق في المعاملة على قدم المساواة تثير تساؤلات واضحة بشأن حق وكالة أو شخص في توزيع سلع معينة (الأدوية، والإغاثة من الفيضانات) أو اتخاذ قرارات معينة (مكافحة التضخّم). وبما أن اثنين من أمثلة دوركين - الإغاثة من الفيضانات وقضية التضخّم - يتضمّنان قرارات سياسية، فإن حق دوركين السياسي الأساسي يثير تساؤلات حول الحقوق السياسية الأساسية الأخرى. بالطبع، كان المقصود من أمثلة دوركين إثبات أن الحق في المعاملة على قدم المساواة لا يستلزم دائمًا معاملة متساوية، وكثيرون ينكرون ذلك.[82] ما أريد قوله هو أن الأمثلة التي قدّمها لا تساعدنا على رؤية كيف أن الحق في المعاملة على قدم المساواة هو حق أساسي. وتشير مثل هذه الأمثلة، في الواقع، إلى حجة ضد فكرة الحق الأساسي في الحصول على حصة توزيع عادلة من سلعة أو مورد، أو مجرد «حصة» من الاعتبار مقابل اتخاذ قرار سياسي. بكل بساطة، إذا كانت (أ) هي هيئة حكومية ما، و(ب) هي حصة عادلة من سلعة أو مورد أو اعتبار، و(ج) هو بعض المواطنين (المواطنين)، فيمكن أن يكون لـ (ج) الحق في الحصول على (ب) من (أ) إذا وفقط إذا لم ينتهك (أ) أي حقوق في الحصول على سلطة توزيع (ب). ولا يمكن لـ (ج) أن يطالب بالحق في حصة توزيع عادلة لـ (ب) من (أ) إذا تم تحقيق سلطة (أ) لتوزيع (ب) من خلال بعض انتهاكات الحقوق. وإذا لم ينتهك (أ) أي حقوق في الحصول على سلطة توزيع (ب)، فهناك احتمالان: (1) كان لدى (أ) الحق في اكتساب السلطة على (ب)، أو (2) كان (أ) حرًا في اكتساب هذه السلطة. ومن الواضح أنه ما لم يتم دعم البديل الثاني، فإن الحق في الحصول على حصة توزيع عادلة، أي الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين، لا يمكن أن يكون حقًا أساسيًا. لكن البديل الثاني غير مقبول.[83]
إن القول بأن (أ) لديه الحرية في الحصول على سلطة توزيع (ب) يعني أنه يجوز له القيام بمثل هذه الأفعال، أي أن (أ) غير ملزم بالامتناع عن هذه الأفعال. وهذا يعني أن المبادئ التبريرية الوحيدة التي تتعلّق بالقرارات أو الأنشطة التي تتمتّع الحكومة بسلطة المشاركة فيها هي(1) الحقوق غير السياسية والالتزامات المرتبطة بها و/أو (2) المبادئ الأخلاقية التي لا تنطوي على الحقوق والالتزامات المرتبطة بها. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فمن الغامض كيف ينبغي للحق السياسي والالتزام السياسي أن يظهرا فجأة في الصورة فيما يتعلّق بالطريقة التي تتّخذ بها الحكومة قراراتها أو تدير أنشطتها. إن الأسئلة المتعلّقة بما يمكن للحكومة أن تفعله بشكل مشروع - حدود سلطتها القسرية -، في الفلسفة السياسية، تسبق منطقيًا الأسئلة المتعلقة بالطريقة التي ينبغي للحكومة أن تفعل بها الأمور التوزيعية والإجرائية. وإذا لم تكن هناك حاجة إلى الحقوق والالتزامات السياسية على المستوى الأول، فلماذا تكون هناك حاجة إليها على المستوى الأخير؟ هنا يصبح تصنيف دوركين للحق السياسي تعسّفيًا إذا كان له صلة بالمستوى الأخير فقط. وبالتالي، يتبقّى لنا البديل الأول، وهو ما يعني أن الحق السياسي في الحصول على حصة توزيع عادلة، أي الحق في الاحترام والاهتمام المتساويين، يَفترض وجود حقوق سياسية أخرى، وبالتالي فهو ليس أساسيًا. وعلى الرغم من الضرر الذي يلحق بالحجة المذكورة أعلاه بسبب مثل هذه الاعتراضات، إلا أن النقد الأعمق يظهر عندما يفكّر المرء في السؤالين الآتيين: ما هو الهدف من الحقوق الفردية؟ وما هي أنواع القيم التي تكمن وراء فكرة أن الأفراد لديهم حقوق أخلاقية قبل أي عمل حكومي؟[84]
لقد قدم دوركين بنفسه مدخلًا للإجابة على هذين السؤالين. ويكتب أن النظريات القائمة على الحقوق «تضع الفرد في المركز، وتأخذ قراره أو سلوكه على أنه ذو أهمية أساسية... [إنها] تهتم [في المقام الأول؟] باستقلالية العمل الفردي، وليس بمطابقة العمل الفردي مع الحقوق.» أي أنها تفترض وتحمي قيمة التفكير الفردي والاختيار»[85]. ويمكننا تجسيد تفسير دوركين من خلال إيلاء اهتمام وثيق للسمات الحاسمة للحقوق الطبيعية التي أشرنا إليها بالفعل: الأولى، إنها دائمًا حقوق فردية، وثانيًا، يلعب مفهوما الإكراه والموافقة دورًا تفسيريًا مركزيًا فيها. ويعتبر الإكراه أمرًا أساسيًا لأنه إذا كان للفرد حق طبيعي في القيام بشيء ما، فمن الخطأ التدخل قسرًا في ممارسته لهذا الحق، وتعتبر الموافقة أمرًا حيويًا لأنه لا يمكن للمرء التأثير على أنشطته وأهدافه أو توجيهها إلا في نطاق هذا الحق، من خلال موافقة الفرد أو تعاونه. وهذا يعني أن الحق الفردي ينشئ مجالًا معينًا تكون فيه خيارات الفرد وقراراته وأفعاله خالية من التدخّل القسري. وفي هذا المجال يمكنه أن يفعل ما يريد بحياته طالما أنه لا ينتهك حقوق أي فرد آخر. إذًا، تحتوي الحقوق الطبيعية، في مصدرها، على ما يمكن أن نسميه، لعدم وجود مصطلح أفضل، القيم الفردية: كل فرد لديه حدوده الأخلاقية الخاصة التي لا يمكن للآخرين تجاوزها إلا في ظل ظروف غير عادية. وعلى وجه الخصوص، لا يمكن كسر هذه الحدود الأخلاقية قسرًا وتجميعها داخل كتلة غير متمايزة تتبدى في صورة هدف جماعي.[86]
إن حق دوركين الأساسي في الاحترام والاهتمام المتساوي لا يفترض مسبقًا ولا يحمي قيمة الأفراد الذين يعيشون حياتهم الخاصة؛ بل يدور حول معاملة الحكومة بشكل عادل للمجتمع أو الأغلبية التي تؤثر عليها قراراتها. وبالنسبة لليبرالي (كما أعاد دوركين صياغته) هذا يعني أن الحكومة لا يمكنها أن تمنع الممارسات الاجتماعية من تمييز أي طريقة معينة للحياة باعتبارها جديرة أو غير جديرة بشكل خاص، بينما يعني هذا بالنسبة للمحافظ (كما أعاد دوركين) أنه يجب على الدولة أن تساعد الأغلبية في تعزيز أسلوب حياة جيد، أو يجوز لها تصحيح الممارسات التي لا تكافئ الفضيلة. وفي كلتا الحالتين تكون القيم بالتأكيد غير فردية. الليبرالي يهتم بـ «ما يجب على المجتمع، بوصفه كلًّا، توزيعه»[87] (على حد تعبير دوركين في مناقشة وجهة نظر الليبراليين في المسائل الاقتصادية)، أو يهتم باتّباع الأغلبية لإجراءات عادلة؛ وينصبّ التركيز على الفرد باعتباره متلقّيًا لبعض إجراءات الأغلبية أو المجتمع. ويهتمّ المحافظ بأن يتعامل المواطنون مع «حياة الأعضاء الآخرين في المجتمع كجزء من حياتهم الخاصة»،[88] إما بمعنى أنّ أي أنشطة غير فاضلة نشارك فيها حياة شخص ما تصبح اهتمامًا بالمجتمع أو الأغلبية، أو بمعنى أن التوزيع الاقتصادي يكون مبررًا إذا كان الأشخاص الذين يكافأون فيه يقدمون للآخرين الفاضلين ما يريدون؛ ويكون التركيز على الفرد بقدر ما يتناسب مع المخططات الفاضلة فقط.[89]
ومن الواضح تمامًا، إذًا، أن القيم التي يقوم عليها حق دوركين الأساسي تتعارض جذريًا – وفي الواقع تتعارض عمليًا – مع القيم الفردية التي تكمن وراء فكرة الحق الفردي: (1) بدلًا من التأكيد على الحدود الأخلاقية التي تميز الأفراد عن بعضهم، يتم التركيز على عدم جواز قيام الحكومة بتخصيص فرد أو مجموعة معينة للحصول على اهتمام خاص أو الفشل في القيام بذلك عندما يكون ذلك مبررًا؛ و(2) لا يبدو أن مفاهيم الموافقة والإكراه تلعب دورًا رئيسيًا. وعواقب هذا خطيرة للغاية.
ولقد ادعى دوركين أنه يقدم نظرية للحقوق، أو كما يقول، نظرية سياسية قائمة على الحقوق. والنظرية السياسية القائمة على الحقوق، وفقًا لدوركين[90]، لا تحتوي على حقوق فردية معينة لا يمكن تجاوزها باسم الصالح العام؛ والسمة الأساسية لهذه الحقوق الفردية المحددة هي أنها مستمدة من حق أساسي، أو أساسي أكثر من هدف سياسي أساسي على سبيل المثال. لكن الحقوق الفردية يجب أن يكون لها هدف أو غرض إذا أريد لها ألا تكون مجرد أدوات جدلية أو رمزية؛ فمثلما يفتقر المرء إلى نظرية سياسية قائمة على الحقوق إذا كان يفتقر إلى حق أساسي في جذور النظرية، فكذلك يفتقر إلى نظرية سياسية قائمة على الحقوق إذا كانت القيم المتجسدة والمحمية في جذر النظرية تتعارض بشكل أساسي مع الغرض من حقوق فردية معينة. وهذا بالضبط ما يحدث في نظرية دوركين. إذ تظهر الحقوق الفردية في الصورة كنوع من الأدوات الإستراتيجية التي تساعد على منع القيمة غير الفردية المتمثلة في الاهتمام والاحترام المتساويين من أن تُهدم من خلال قرارات الأغلبية أو القرارات الاجتماعية غير العادلة. لكن النظرية التي تنظر إلى الحقوق الفردية بهذه الطريقة لا تدعي حقًا أنها نظرية للحقوق الطبيعية على الإطلاق.
في هذا الصدد، من الواضح تمامًا أن خطاب دوركين حول «أخذ الحقوق على محمل الجد» لا يظهر أبدًا على مستوى الحق الأساسي. وعبارة «أخذ الحقوق على محمل الجد» لا ترِد إلا في الفصل السابع من كتاب دوركين، وتعني أن الفرد الذي يمارس حقًا معينًا يجب أن يُترك حرًّا من أيّ تدخّل قسري عندما يسعى لتحقيق أهدافه ضمن حدود هذا الحق. لكن بما أن الحق الأساسي لا علاقة له بهذه القيم الفردية، فليس من المستغرب ألا يتحدث دوركين أبدًا عن أخذ هذا الحق على محمل الجد. لكن إذا لم يأخذ المرء الحق الأساسي على محمل الجد، وكان هذا الحق يؤسس لجميع الحقوق الأخرى، فلا يمكن القول بأن دوركين يأخذ الحقوق على محمل الجد.
قد يعتقد بعض الباحثين أن الحجة المذكورة أعلاه ليست ذات صلة[91]. وبما أنه لا يزال هناك حق طبيعي في أساس نظرية دوركين، فما الذي يهم أنه ذو طبيعة مختلفة جوهريًا عن الحقوق التي يرتكز عليها؟ السبب وراء أهميته هو أن فكرة «الحق» من المفترض أن تميز بعض المفاهيم الأخلاقية/السياسية عن غيرها (على وجه الخصوص، كما أشار دوركين، فكرة الهدف الجماعي). ولكن إذا كان حق معين يفتقر إلى السمات الأساسية التي تساعد على تمييز الحقوق عن المفاهيم الأخرى (مثل القيم الفردية)، وكان هذا الحق يلعب دورًا رئيسيًا في النظرية من خلال تأسيس حقوق معينة أخرى، فليس من التلاعب بالكلمات أن نعلن أن مثل هذه النظرية ليست نظرية حقيقية للحقوق الطبيعية. وبما أن حق دوركين الأساسي يشير، في الواقع، إلى قيم تتعارض بشكل جذري مع القيم المرتبطة عادة بالحقوق الطبيعية، فإن الأمر متروك له لإثبات أن الحق في الاهتمام والاحترام المتساوي هو حتى حق طبيعي على الإطلاق. نحن لا نزعم أن الأمر ليس كذلك، ولكن من الواضح أن عبء الإثبات يقع على عاتق دوركين لأنه ذو طابع مختلف جذريًا عن الحقوق الطبيعية الفردية الأخرى[92].
وهكذا، فإن انتقادَينا في هذا القسم يتوافقان بشكل جيد. إن الحق في الحصول على حصة توزيع عادلة لا يمكن أن يكون حقًا سياسيًا أساسيًا؛ لأنه يفترض وجود حق سياسي آخر. ويترتّب على ذلك أنه إذا كان حقًا في الأصل، فإنه لا يمكن إلا أن يكون حقًا مشتقًّا. وإذا كان حقًّا مكتسبًا، فلا بد من شرح دقيق لكيفية جعل القيم غير الفردية التي يحميها متوافقة مع القيم الفردية التي تحميها الحقوق الفردية.
وثمّة ردان أسايان يقدّمهما دوركين على هذه المناقشات؛ الأول هو أنها أهملت ذكر فقرة معينة في مقدمة «أخذ الحقوق على محمل الجد» والتي من شأنها أن تظهر أنه كان يدرك أن الحق الأساسي في الاحترام والاهتمام المتساويين الخاص به كان ذا طابع مختلف بشكل أساسي عن الحقوق الأخرى. يقول هذا المقطع:
«... إن الحق في الاهتمام والاحترام هو حق أساسي بين الحقوق بطريقة مختلفة، لأنه يوضح كيف يمكن لفكرة الهدف الجماعي أن تكون مستمدة من هذا الحق الأساسي. إذا كان الأمر كذلك، فإن الاهتمام والاحترام هو حق أساسي لدرجة أنه لا يمكن استيعابه من خلال التوصيف العام للحقوق على أنها تتفوق على الأهداف الجماعية، إلا كحالة محدودة. لأنه مصدر السلطة العامة للأهداف الجماعية والقيود العامة على سلطتها التي تبرّر المزيد من الحقوق الخاصة[93].
وهذا يعني أن الجاذبية الأخلاقية أو المبررات التي تتمتع بها الأهداف الجماعية بالنسبة لنا تبدو وكأنها تجسد الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين. ويعتقد دوركين، في الواقع، أن جاذبية النفعية -نموذج النظرية المعنية بالأهداف الجماعية - تكمن في أنها تجسد الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين.[94] ويفسّر دوركين هذا الادعاء بالطريقة الآتية: صحيح أن الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين يختلف جوهريًا عن الحقوق الطبيعية الأخرى، لكن هذا لا يبطل نظرية الحقوق التي تمّ تقديمها. ولقد أشرنا سابقًا إلى أن الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين عند دوركين هو في الواقع حق في الاعتبار المتساوي أو العادل عندما تسعى الحكومة إلى تحقيق هدف جماعي. من هذا الحق الأساسي في الاعتبار المتساوي أو العادل تجاه الهدف الجماعي، تأتي جاذبية أو تبرير الأهداف الجماعية بشكل عام، والتي قد لا يكون بعضها مساواتيًا أو عادلًا، من حيث إنها لا تعامل جميع المواطنين بالقدر نفسه من الاهتمام والاحترام. ومن ثم تكون هناك حاجة إلى حقوق فردية معينة لتصحيح تلك الأهداف الجماعية التي توجد فيها مثل هذه العيوب، وبالتالي الحفاظ على الاهتمام والاحترام؛ لذلك ليس من المستغرب أن التركيز على «أخذ الحقوق على محمل الجد» يحدث فقط على مستوى حقوق فردية معينة؛ لأنه في هذه الحالة فقط قد لا تجسّد فكرة الهدف الجماعي اهتمامًا واحترامًا متساويين، وبالتالي توجد حاجة إلى حق بالمعنى «القوي» (المناهض للهدف الجماعي)[95].
لكن هذا الرد ينطوي على ثلاثة عيوب. الأول: أنه ما زال غير كاف للإجابة على الاعتراض القائل بأن الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين يفترض وجود حقوق أخرى. وإذا كان هذا الحق أساسيًا وبديهيًا، كما يقول دوركين، فكيف يمكن للاحتجاج به أن يفترض خلفية من الحقوق (السياسية) الأخرى؟ الثاني، هو أننا ما زلنا نفتقر إلى تفسير أنه لماذا يتميز هذا الحق الأساسي بطابع مختلف جذريًا عن جميع الحقوق الطبيعية الأخرى. عادة ما تهزم الحقوق ادعاءات الأهداف الجماعية؛ فلماذا يندمجون على مستوى الحق الأساسي، ولماذا لا نملك الحرية في اعتبار هذا الاندماج عيبًا جسيمًا في نظرية الحقوق الطبيعية؟ إن نقطة مفهوم الحق ستضيع إذا لعبت دورًا مشابهًا جدًا للمفاهيم الأخلاقية/السياسية الأخرى. وإذا تم استبعاد الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين في القول المأثور بأن الحكومة يجب أن تسعى دائمًا إلى تحقيق أهدافها بطريقة عادلة أو قائمة على المساواة (على سبيل المثال، عدم تخصيص أي شخص لاعتبارات خاصة لا مبرر لها)، فسيبدو هذا أساسًا جيدًا للنظر إليه بما أنه ليس حقًا حقيقيًا. ففي نهاية المطاف، لا يمكن جعل أي حق آخر معادلًا لهدف المساواة بهذه الطريقة.[96] على سبيل المثال، القول بأن جميع الأشخاص لديهم الحق في الحرية الدينية، وأن الحكومة يجب أن تحترم هذا الحق، لا يعني أن الحكومة يجب أن تسعى إلى تحقيق هدف الحرية الدينية بطريقة عادلة أو قائمة على المساواة. وهذا متوافق تمامًا مع التصريح الأخير بأن الحكومة تقيّد الحرية الدينية للجميع إلى حد ما من أجل حماية تحقيق بعض الأهداف الجماعية الأخرى (مثل الاستقرار الاجتماعي)، في حين أن هذا لا يتوافق مع التصريح القائل بأن جميع الأشخاص لديهم الحق في الحرية الدينية.[97] لأنه في هذه الحالة يكون الإكراه الموجّه ضد الممارسات الدينية للشخص غير مبرَّرة (إلا في ظروف غير عادية). الثالث: لم يقدّم دوركين في أي مكان حجة مفادها أن السلطة الأخلاقية للأهداف الجماعية تنبع من الحق الأساسي الخاص به. وسيحتاج إلى حجة مؤثرة هنا، لأن استنتاجه مخالف للحدس بالتأكيد. وكما أشار هو بنفسه، فإن معظم الأهداف الجماعية تهتمّ بالترويج الإجمالي لبعض الفوائد؛ إنّهم يشجّعون المفاضلة بين الأفراد، وبالتالي لا يضعون سوى القليل من الضغط أو لا يضغطون على الإطلاق على أفراد محدّدين يعاملون بطريقة معينة. لكن حق دوركين الأساسي، على الرغم من ارتباطاته العديدة بالأهداف الجماعية، لا يشجع على المفاضلات ولا يهتم بالترويج الإجمالي لأي خير، لذلك لا يبدو واضحًا أن الجاذبية العامة لفكرة الهدف الجماعي تنبع من الحق الأساسي الخاص به.
الطريقة الأخرى التي قد يستجيب بها دوركين لهذه الاعتراضات هي إسقاط فكرة أن الحق الأساسي في الاحترام والاهتمام المتساويين هو مجرد حق سياسي، من خلال افتراض أن الحق يشير إلى طريقة عامة يجب على الناس أن يعاملوا بها بعضهم - بنفس القدر من الاهتمام والاحترام الذي يعاملون به أنفسهم.[98] هذا التعديل في الحق الأساسي من شأنه أن يساعد في تخفيف حدة الانتقادات السابقة لنظرية دوركين بثلاث طرق. (1) يبدو أن الحق الآن أساسي حقًا في ضوء حقيقة أننا غالبًا ما نعتقد أن خلاصة القول فيما يتعلق بالحقوق هي أنه يجب معاملة الشخص بحد أدنى معين من الاحترام والاهتمام الواجب له بوصفه شخصًا. (2) القيم الكامنة وراء هذا الحق المعدل هي أكثر فردية وأكثر انسجامًا مع فكرة أن يكون لدى الشخص حياته الخاصة التي يعيشها دون إكراه. (3) إنه يلغي فكرة أنه يمكن للمرء أن يبدأ نظرية الحقوق من خلال فحص الحقوق السياسية التي يتمتع بها الفرد للحصول على حصة توزيع عادلة.
ومع ذلك، تنشأ مشكلة خطيرة الآن، ترتكز على أن دوركين، كما أشرنا إلى ذلك سابقًا، يعتبر أن معاملة الأشخاص «باحترام» تعني معاملتهم على أساس أن لديهم تصوّراتهم الخاصة حول الكيفية التي ينبغي أن يعيشوا بها حياتهم، في حين أن معاملتهم بـ «اهتمام» تعني معاملتهم على أساس أنهم قادرون على المعاناة والإحباط. وبالتالي فإن «الاحترام» و«الاهتمام» مفهومان مختلفان تمامًا. وإذا كان لدى المرء الحق في الاحترام، فإنه يشك في أن هذا سوف يتجسّد في الحق في قدر معين من التحرّر من التدخّل القسري. أنت تحترم الشخص إذا سمحت له بوضع الخطط والمشاريع بما يتوافق مع قيمه ومفهومه عن الحياة الطيّبة. لكن الحقّ في الاهتمام يبدو مختلفًا تمامًا. لا شكّ أنّ الحق في الاهتمام يتزامن مع الحق في الاحترام، حيث إنّ الإكراه يسبّب المعاناة بقدر ما يفشل في احترام الشخص. ولكن حقيقة أن المعاناة والإحباط يمكن أن تحدث بشكل غير مباشر، عن غير قصد، أو من خلال شبكة من الإجراءات المتشابكة ولكن غير القسرية، قد يبدو أنه يعني أن الحق في الاهتمام المتساوي سوف يستلزم الحق في التدخّل القسري (أو أن يتدخّل الآخرون على هذا النحو) من أجل منع الآخرين من التسبّب في معاناة أو إحباط كبيرين. والواقع أن مثل هذا الحق قد يبرّر بعض التصرفات الأبوية؛ إذا كان الشخص يعاني كثيرًا وكان غير قادر على معرفة أين يكمن التحسّن الحقيقي لشخصه، فقد يدعو القلق الآخرين إلى منع الشخص مؤقتًا من القيام بأفعال ضارّة بنفسه[99].
ومن ثم، فإن الحق في الاحترام والحق في الاهتمام يسيران في اتجاهين متعاكسين. وهذا يثير مشكلة خطيرة لدوركين. حقه الأساسي هو الحق في الاحترام والاهتمام على قدم المساواة، وهذا لا يعني الآن سوى أحد أمرين، فإما أن يكون الحق الأساسي هو الحق ضد التدخل القسري والحق في التدخل القسري في حياة الآخرين (وحياة الفرد؟)، أو أن لدينا حقين أساسيين، أحدهما ضد الإكراه والآخر يتطلّب الإكراه. في الحالة الأولى، للحفاظ على التماسك، نحتاج إلى مبدأ إضافي ليخبرنا في أي المجالات يُسمح بالإكراه وفي أي المجالات لا يُسمح به، بينما في الحالة الأخيرة، نحتاج إلى نوع من المبدأ التنظيمي الذي يخبرنا ما هو الحق الأساسي وما يجب علينا فعله عندما يتعارض الحقان. لا يقدم لنا دوركين مثل هذه المبادئ. علاوة على ذلك، إذا فعل ذلك فسيكون بمثابة اعتراف بفشل نظريته في الحقوق؛ لأن فكرة الحق في الاحترام المتساوي هي نسخة من نوع ما من الحق في الحرية (ضد الإكراه) في حين أن فكرة الحق في الاهتمام المتساوي هي في الواقع نسخة من بعض الادعاءات حول الحق في المساواة، أو بشكل أكثر دقة حقوق الرعاية الاجتماعية. وبما أن إحدى النقاط التي أخذها الناس في الاعتبار عندما يشيرون إلى التعارض بين الحرية والمساواة هي أن حقوق الرعاية الاجتماعية والحق في الحرية يمكن أن تتعارضا بسهولة، سيترتب على ذلك أن حق دوركين الأساسي في الاهتمام والاحترام المتساوي يحتوي على صراع بين المطالب التحررية والمساواتية التي أنكر وجودها. ويتم تعزيز هذا الاستنتاج من خلال نسخة دوركين لنظرية الحقوق الليبرالية والنظرية المحافظة.
ويبدو مفهوم الاحترام أكثر توافقًا مع وجهة نظر الليبراليين القائلة بأنه يجب أن تكون هناك حقوق ضد استخدام الحكومات للقوة القسرية في مجالات مثل حرية التعبير وحرية الاختيار في الأمور الجنسية والشخصية، ومع وجهة نظر المحافظين التي تقول بأن حقوق الملكية ضرورية للحد من سلطة الحكومة في إعادة توزيع الثروة أو مصادرتها. يرى الليبرالي أن تنظيم الخطاب أو الممارسات السياسية والشخصية مهين للفرد؛ لأنه يحبط قدرته على التصرف وفقًا لخططه ومشاريعه التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأهداف حياته، بينما يرى المحافظ أن إعادة التوزيع أو نوع الملكية أمر يتضمن عدم احترام؛ لأنه يعني ضمنيًا أن الناجحين في مساعيهم الحياتية سيعاقبون أو يُدانون. من ناحية أخرى، فإن فكرة الاهتمام تبدو أكثر انسجامًا مع دفاع الليبرالي عن التدخّل القسري للحكومة في السوق ومع اعتقاد المحافظ في حظر أو تقييد الممارسات أو المعتقدات المنحرفة. وفي كلتا الحالتين، يُنظر إلى استخدام الدولة لأجهزتها القسرية على أنه ضروري؛ لأن بعض المؤسسات أو الممارسات - سوق الممارسات الليبرالية أو المنحرفة أو غير الأخلاقية بالنسبة للمحافظين - تسبّب معاناة شديدة لأولئك الذين يتأثّرون بشكل مباشر أو غير مباشر بهذه المؤسسة أو الممارسة. ومن الواضح أنه إذا ركز الليبرالي على الاهتمام بينما ركز المحافظ على الاحترام والعكس صحيح، فسوف تظهر نظرية مختلفة للحقوق. ويوضح هذا مرة أخرى أن حق دوركين الأساسي في الاحترام والاهتمام المتساوي يحتوي على صراعات كان أعلن هو بنفسه أن نظريته ستظهر أنها زائفة (في هذه الحالة، يختلف الليبراليون والمحافظون حيث تنطبق المطالب التحررية والمساواتية)[100] (L، 123 -4). وستضع مثل هذه المناقشات دوركين في مأزق لا يمكن التغلب عليه. فإما أن حقه السياسي الأساسي في الحصول على حصة توزيع عادلة ليس حقًا أساسيًا، أو إذا تم تفسيره بطريقة أكثر فردية بحيث لا يكون مجرد حق سياسي، فإنه يحتوي في داخله على صراعات داخلية بين المطالب التحررية والمساواتية التي نفى وجودها.[101]
خامسًا: «تهافت دوركين»
إن ما ذكره دوركين في كتابه الذي تم استعراضه بشكل مفصّل، أي كتاب «أخذ الحقوق على محمل الجد» عدّ بحسب بعض المحللين «النظرية الثالثة في فلسفة القانون»[102]، حيث سعى في هذه النظرية إعادة الاعتبار لليبرالية بعد أن وجد أن جملة من الانتقادات الجادة تتوجه إليها، في الوقت نفسه الذي لا يجد ميلًا أو قناعة نحو تبنّي نظرية القانون الطبيعي بصيغته الرائجة.
والنقد المحوري الذي يوجهه رونالد دوركين للوضعية الرائجة أنها أضافت لوضعيتها عنصر «النفعية»، وهو ما لم يقبله بشكل واضح، لأنه يجرّ الواقع القانوني إلى تذويب حقوق الأفراد تجاه الرفاه العام الاجتماعي أو ما يسمى المنفعة العامة.
وفي هذا المجال، بعد أن تبيّنت العيوب القانونية الأساسية الموجهة لنظريته، نحاول في هذا القسم الأخير من البحث تسليط الضوء على جملة من المبادئ والأصول في نظريته ومحاكمتها وفق الأصول المقابلة لها في الفكر الإسلامي الفلسفي أو الأصولي وغيرهما.
جدلية العلاقة بين الحق الفردي والأساس الميتافيزيقي
يصرّ رونالد دوركين على أسبقية الحقوق الفردية على أي تنظيم اجتماعي أو مؤسسات اجتماعية، ويعتبر ذلك الحد الفاصل بينه وبين الليبرالية والوضعية القانونية السائدة، حيث إن النظرية الوضعية السائدة للقانون جعلت الحقوق الفردية منتزعة ومستخرجة من القانون نفسه ومن المؤسسات الاجتماعية، وحيث كانت الوضعية تتمحور حول النفعية العامة، وقفت الحقوق الفردية في نظريته على طرف نقيض المنفعة الجمعية، ومن ثمّ أراد أن يعيد الاعتبار للحقوق الفردية بعد أن تم هضمها في الليبرالية السائدة.
ولكن يضيف دوركين إلى هذه القضية أنه لا ينبغي أن يُفسّر كلامه بالإقرار بالحقوق الفردية قبل التشكّل الاجتماعي إلى الرجوع نحو تبني القانون الطبيعي أو الميتافيزيقي، حيث يقول أن الحقوق الفردية «بمنزلة أوراق رابحة سياسيًا في حوزة الأفراد؛ إذ يكون هؤلاء أصحاب حقوق عندما يفقد، لسبب أو لآخر، هدفًا مشتركًا ما، له صفة الهدف الجامع، ويغدو عاجزًا عن تقديم التعليل المقنع لحرمانهم مما يرغبون فيه بصفتهم أفرادًا، ومما يودّون الحصول عليه وإنجازه أو حينما لم يعد ذلك الهدف كافيًا لتعليل تحميلهم خسارة أو حيفًا ما. ولئن كان توصيف كهذا للحق شكليًا، بطبيعة الحال، بمعنى أنه لا بد لنا على الحقوق التي يمتلكها الناس ولا يضمن في الحقيقة حيازتها، إلا أنه يوحي بأن تلك الحقوق ليس لها صفة ميتافيزيقية ما»[103].
في الحقيقة إن التأمل في كلام دوركين في هذا المجال يُظهر أنه يبني نظريته هذه على عدة مسلّمات:
- هناك حقوق للأفراد قبل الاجتماع وقيام المؤسسات الاجتماعية
- ليست الحقوق الفردية منتزعة وخاصة بما تمنحه الدولة والمؤسسات للأفراد
- ليس للحق الثابت للفرد أي أساس ميتافيزيقي
- لا يمكننا أن ننكر أن مثل هذه القضايا كانت محلّ بحث ونظر لكثير من المفكرين في العصور المتأخرة في العالم الإسلامي، بل نجد أن قضية الحق بالخصوص كان لها حضورها القوي في الأبحاث الفلسفية والفقهية والأصولية، خاصة بالنظر إلى أن مصطلح «الحق» يدخل في التكوين المفاهيمي التوحيدي، فيكون له بعدٌ عقائدي أيضًا، ولذا نجدهم يقسّمون الحق إلى قسمين:
1. حق بالمعنى الفلسفي وهو ما يقع مقابل الباطل ويكون له عينية خارجية
2. حق بالمعنى القانوني كالحق المالي والحق الجزائي وغيرهما
وكلا القسمين يشتركان في استنادهما إلى حقيقة تكوينية وليس الحق القانوني من قبيل الحق الاعتباطي، وبعبارة أخرى «إن الحق - ويقابله الباطل - هو الثابت الواقع في الخارج من حيث إنه كذلك، كالأرض والإنسان وكل أمر ثابت في حد نفسه، ومنه الحق المالي وسائر الحقوق الاجتماعية، حيث إنها ثابتة بنظر الاجتماع، وقد أبطل القرآن كل ما يدعى حقًّا إلّا ما حقّقه الله وأثبته، سواء في الإيجاد أو في التشريع، فالحق في عالم التشريع وظرف الاجتماع الديني هو ما جعله الله حقًّا كالحقوق المالية وحقوق الإخوان والوالدين على الولد وليس هو سبحانه محكومًا بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم[104].
ثم إن أهم ما يمكن أن تستند إليه الرؤية الإسلامية في مسألة الحقوق هي كونها مستمدة من أساسها الديني الإلهي، فلا وجه لإثبات أي حق من الحقوق تجاه أي فرد من دون الاستناد إلى سلطة متعالية إلهية، فالحق يستلزم بطبيعته تكليفًا بالمقابل، بمعنى أن حق (أ) بالانتفاع بشيء من الأشياء لازم بواجب من قبل (ب) بعدم التعدي أو غصب هذا الشيء، والذي يضع هذه الإلزامات المتفرّعة على الحقوق وفق الرؤية الإسلامية هو التشريع الإلهي، أما التشريعات الوضعية فهي لا تكتسب وفق الرؤية الدينية التبرير الكافي لرسم معالم الحقوق والواجبات.
الغفلة عن الحقوق الإنسانية العامة
لا يظهر من دوركين أنه يخرج عن ثنائية الحقوق الاجتماعية والحقوق الفردية، بحيث يدافع بشدة عن حقوق الفرد – خاصة الحقوق السياسية - في مقابل الأسس النفعية الاجتماعية، ولكن نجد أنه في الرؤية الإسلامية توجد ثلاثة أضلع للحقوق:
1. الحقوق الفردية
2. الحقوق الاجتماعية
3. الحقوق الإنسانية الأعم
والمقصود من الحقوق العامة الإنسانية، هي تعالي الحق الإنساني بما يمثل من قيم لا يمكن القبول باندثارها ولو على حساب الحقوق الاجتماعية والفردية، وبحسب ما يبيّنه العلامة الطباطبائي إن قضية الدفاع عن الدين لأجل بقائه في الحياة العامة الإنسانية يعتبر من الحقوق المقرّرة على البشر سواء من حيثيتهم الاجتماعية أم الفردية، وبعبارة أخرى «أثبت القرآن أن أهم حقوق الإنسانية هو التوحيد والقوانين الدينية المبنية عليه كما أن عقلاء الاجتماع الإنساني على أن أهم حقوقها هو حق الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الإنساني التي تحفظ منافع الأفراد في حياتهم"[105].
الحق في الحرية أساسي في أي نظرية للحقوق الطبيعية
السبب الذي يجعل تعديل الحق الأساسي بحيث يتضمن داخله الصراع بين الحق في الحرية والحق في المساواة مشكلة بالنسبة لدوركين هو أنه يعتقد بعدم وجود شيء اسمه حق عام أو أساسي في الحرية. وهذه علامة أخرى على أن دوركين ليس لديه نظرية للحقوق، لأن أي نظرية للحقوق الطبيعية يجب أن تحتوي على الحق في الحرية كأحد حقوقها الأساسية (أو «المجردة»).
وترتكز هذه الحجة على ملاحظة بعض الحقائق حول الحقوق الطبيعية. من ذلك أنه إذا كان لشخص ما حق، فمن الخطأ التدخل قسرًا في ممارسته لهذا الحق. ومنها: أن الحقوق تنطوي على التزامات باحترام الحقوق أو عدم انتهاكها، وأن الحق الأساسي هو الحق الذي لا تفترضه حقوق أخرى، وهو الحق الذي يشكل أساسًا لمعظم أو كل الحقوق الأخرى، وهو حق يتمتع به جميع الأشخاص ببساطة بحكم كونهم أشخاصًا (على عكس الحق الذي ينشأ ببساطة عن العقد أو المنفعة أو يبرره العقد أو المنفعة). ومنها، أنه يجب أن تكون معظم الحقوق التي يتمتع بها الأشخاص متطابقة مع القيم الفردية التي تفترضها الحقوق الطبيعية وتحميها؛ وإلا فإن الحقوق الخاصة التي يُزعم أن الأشخاص يمتلكونها لن تكون لها علاقة تذكر بالسبب الذي يجعل الحقوق بشكل عام ضرورية في المقام الأول. وإذا كان يجب أن تكون معظم الحقوق متطابقة مع هذه القيم الفردية، فمن المفترض أن الحقوق الأساسية التي ترتكز عليها حقوق معينة ستكون متطابقة أيضًا مع هذه القيم[106].
لكن لماذا يجب على المرء أن يفترض أنه يجب أن يكون هناك (بعض) الحقوق الطبيعية الأساسية؟ لأن جميع الحقوق الفردية المحددة هي إما حقوق تنشأ بموجب علاقة خاصة بين أشخاص معينين (مثل الحقوق الناشئة عن الوعد والتعاقد)، أو حقوق تشير إلى مجال محدد من النشاط البشري (مثل حقوق حرية التعبير، والملكية، حرية ممارسة الدين، الخ. الآن، يبدو أن مثل هذه الحقوق الخاصة أو المقيدة تتطلب أسسًا من خلال بعض الحقوق الأخرى، وبينما لا يثبت هذا أنه يجب أن يكون هناك (بعض) الحقوق الأساسية التي تقوم بالتأسيس، سيكون من الغريب للغاية أن تحتوي نظرية الحقوق على سلسلة من الحقوق الخاصة فقط. على أي حال، يفترض دوركين نفسه أن هناك حق أساسي لا يمكن أن يطاله هذا الادعاء.
وإذا كان افتراض الحق الأساسي ما يزال يبدو دوغمائيًا للغاية، فيمكن إعادة صياغة الحجة على النحو الآتي: إذا كانت نظرية الحقوق الطبيعية تحتوي على (بعض) الحقوق الأساسية، فيجب أن يكون أحد هذه الحقوق هو الحق في الحرية. ونحن بحاجة إلى النظر إلى المرشحين المحتملين لبعض الحقوق الأساسية، نظرًا لأن الحق في الاهتمام والاحترام المتساويين قد تم استبعاده من خلال المناقشات السابقة. أحد المرشحين هو الحق ضد الإكراه (الحق في الحرية)، وهو يناسب متطلّبات الحق الأساسي بشكل جيد للغاية؛ ولأن الكثير من الحقوق الخاصة هي حقوق ضد الآخرين الذين يستخدمون القوة أو العنف أثناء قيام الشخص ببعض الأنشطة السلمية، لذلك فمن المنطقي أن يكون هناك حق عام أو أساسي ضد الإكراه يبرّر هذه الحقوق. علاوة على ذلك، من الواضح أن هذا الحق يحمي القيم الفردية. ومن المنطقي تمامًا أيضًا أن يتمتّع جميع الأشخاص بهذا الحق، وأن جميع الأشخاص ملزمون بالامتناع عن إكراه أي شخص، وأن المرء يرتكب خطأً إذا مارس هذا الإكراه. أخيرًا، لا يبدو أن الحق في مكافحة الإكراه، نظرًا لكونه عامًا تمامًا، يفترضه أي حق آخر، ومن المعقول التأكيد على أن جميع الأشخاص، لمجرّد كونهم أشخاصًا، يمتلكون هذا الحق بقدر ما يكون هناك حاجة إلى درجة معينة من الحرية من أجل أن يحقق عمليًا أي هدف أو قيمة قد يمتلكها. لكن من هم المرشحون الآخرون لحق طبيعي أساسي؟ بما أن الناس يدعون بعضهم للقيام بشيء ما أو الامتناع عنه، وبما أننا قد ناقشنا بالفعل ادعاء عامًا محتملًا حول امتناع الآخرين، فيبدو أن البديل هو حق عام في أن يفعل الآخرون شيئًا ما. ومن الطبيعي أن يتبادر إلى الذهن الحق (المزعوم) في الرعاية أو الدعم، أي الحق في أن يقدم لك الآخرون بعض العون أو المساعدة. ومثل هذا الحق العام من شأنه أن يعمل على ترسيخ أي حقوق معينة في مجال الرعاية الاجتماعية - على سبيل المثال، الحقوق المفترضة في التعليم والرعاية الصحية، وما إلى ذلك. وقد يكون الحق في الحياة مرشحًا محتملًا آخر، ولكن من السهل إثبات أنه ليس حقًا أساسيًا، لأن الحق في الحياة هو إما حق بأن لا يتخذ الآخرون إجراءات لإنهاء حياتك، على سبيل المثال، الحق في عدم التعرض للقتل. أو الحق في أن يوفر لك الآخرون وسائل الحياة (أو كليهما). في الحالة الأولى، يكون الحق في الحياة مثالًا للحق في عدم الإكراه أو مستمدًّا منه، وفي الحالة الثانية، يكون الحق في الحياة مثالًا للحق في الرعاية أو مستمدًا منه. وبالتالي فإن الحق في الحياة لا يمكن أن يكون أساسيًا، ويتبقّى لنا الحق في الرعاية كمرشح، بخلاف الحق في عدم الإكراه، لحق طبيعي أساسي. وبغض النظر عما إذا كان الحق في الرعاية هو حق طبيعي أساسي، فإنه لا يمكن أن يكون الحق الأساسي الوحيد. وإذا كان الأمر كذلك، كانت هناك ثلاث نتائج غريبة للغاية. الأولى: أنه لن يكون هناك حق أساسي يتوافق مع القيم الفردية، لأن حقوق الرعاية لا تركّز على قيمة أن يعيش الشخص حياته الخاصة متحرّرًا من التدخل القسري للآخرين، بل تركّز بدلًا من ذلك على قيمة امتلاك وسائل أو سلع معينة (مادية في المقام الأول) ضرورية لحياة كريمة. وقد يُعتقد أن حقوق الرعاية مبرّرة من خلال فكرة ما حول ما هو جيد لازدهار الأعمال، ولكن في هذه الحالة، سيتضمّن هذا الازدهار بلا شك نوعًا ما من الحق في الحرية، نحن نستبعده هنا افتراضًا. الثانية: هي أنه بما أن القيم التي يفترضها ويحميها الحق في الرعاية والحق في الحرية (ضد الإكراه) مختلفة تمامًا، فسيكون من الصعب جدًا استخلاص أي حقوق خاصة من النوع الأخير من الحق العام للأول. الثالثة: هي أنه لن يكون هناك حق أساسي يمكن لجميع الناس ممارسته في وقت واحد؛ إذ في الوقت نفسه يمكن التمتع بالحق في مكافحة الإكراه عالميًا في نفس الوقت من قبل كل شخص يمتنع ببساطة عن الإكراه، فإذا حاول كل شخص من جانبه ممارسة حقه في المساعدة، فلن يتمتع أحد بهذا الحق: سيكون الجميع أيضًا ملزمين بتقديم المساعدة؛ لذلك لن يحصل أحد على أي مساعدة. ولا يمكن، في الواقع، التمتع بالحق في الرعاية إلا بمعنى ضعيف: فكل شخص لديه هذا الحق، ولكنه «يُستحق/ إذا جاز التعبير» فقط عندما يجد المرء نفسه في حالة احتياج. وتظهر هذه النقاط الثلاث مجتمعة مدى عدم معقولية افتراض أن الحق في الرعاية هو الحق الطبيعي الأساسي الوحيد، ويترتب على ذلك، نظرًا لعدم وجود مرشحين آخرين لحق طبيعي أساسي، أن الحق في الحرية يجب أن يكون حقًا طبيعيًا أساسيًا. ومثل هذا الاستنتاج أعلاه سيكون معيبًا بالضرورة إذا كان دوركين على حق في أنه «من السخافة افتراض أن الرجال والنساء لديهم أي حق عام في الحرية على الإطلاق، على الأقل كما تم تصوَّر الحرية تقليديًا من قبل أنصارها.[107]
لكن حجة دوركين وراء هذا الاستنتاج تنقسم إلى جزءين. أولًا، هو يدعي أن المدافعين عن الحرية فسروها على أنها تعني الترخيص قائلًا:
«يدور في ذهني التعريف التقليدي للحرية على أنها غياب القيود التي تفرضها الحكومة على ما يمكن أن يفعله الإنسان إذا أراد ذلك. ... إن مفهوم الحرية كرخصة هو محايد بين الأنشطة المختلفة التي قد يمارسها الإنسان. ... إنها تقلل من حرية الإنسان عندما نمنعه من التحدث أو ممارسة الحب كما يشاء، ولكنها تقلل أيضًا من حريته عندما نمنعه من القتل أو التشهير بالآخرين»[108].
ثم يستمر دوركين في القول إنه لا يمكن أن يكون هناك حق في الحرية كرخصة؛ إذ من الواضح أنه ليس من الصعب للغاية إظهار أنه لا يوجد حق في القيام بكل ما يريد المرء القيام به، لأنه إذا كان لدينا جميعًا مثل هذا الحق فسوف تترتب على ذلك نتائج سخيفة، من مثل أنه إذا كان لي الحق في القيام بكل ما أريد، فهذا يعني أن لدي الحق في انتهاك حقوقك، لأن أفعالي ربما تمنعك من القيام بما تريد القيام به؛ وبالمثل إذا كان لديك الحق في أن تفعل ما تريد، بما في ذلك إيقاف أفعالي - بالقتل أو الاعتداء أو أي شيء آخر - فإنك بلا شك تنتهك حقي في فعل ما أريد أن أفعله. وبالتالي يمكن للمرء أن يتصرّف ضمن حقوقه وينتهك حقوق شخص آخر بنفس الإجراء.
مثل هذه الحجج يستخدمها بنثام لإظهار أن الحقوق الطبيعية كانت مجرد هراء؛ ومع ذلك لا يستخدم دوركين مثل هذه الحجج، ولكنه بدلًا من ذلك يستخدم حججًا مختلفة فيقول:
«... ليس هناك حق عام في الحرية في حد ذاتها. ليس لدي أي حق سياسي في القيادة في جادة ليكسينغتون. إذا اختارت الحكومة جعل شارع ليكسينغتون في اتجاه واحد وسط المدينة، فهذا مبرّر كافٍ لأن يكون هذا في المصلحة العامة، وسيكون من السخافة بالنسبة لي أن أزعم أنه لسبب ما سيكون خطأً. إن الجزء الأكبر من القوانين التي تنتقص من حريتي لها ما يبررها على أسس نفعية... ومع ذلك فهي لا تحرمني من أي شيء يحق لي أن أملكه[109].
لكن هذه الحجة معيبة من البداية إلى النهاية؛ ذلك أنه إذا كانت الحرية تعني غياب القيود التي يمكن أن تفرضها الحكومة على الشخص، فيمكننا تعريف الحرية بشكل أكثر وضوحًا على أنها غياب استخدام الإكراه أو التهديد به، نظرًا لأن القيود التي تفرضها الحكومة هي في النهاية قسرية. ومع ذلك، فهذا لا يعني عدم وجود حق في الحرية (ضد الإكراه). لأن الإكراه الذي يستخدم لمكافحة الإكراه من قبل الآخرين يمكن تبريره على أساس أنه لا يحق لأحد أن ينتهك حقوق أي شخص آخر أو على أساس أنه لا يحق لأحد أن يبدأ الإكراه. إن مثل هذه التصريحات ضرورية للحصول على مجموعة متماسكة من الحقوق؛ وبدون مثل هذه المبادئ، ستتبدّى مواقف مثل الدفاع عن النفس كما لو أن المرء يتصرف ضمن حقوقه وينتهك حقوق شخص آخر بنفس الفعل.[110]
ومن المسلَّم به أن هذا التحديد للحق لا يتعامل مع التهديدات البريئة وحالات حماية الأبرياء innocent shield كما حدّدها روبرت نوزيك في كتابه «الدولة، الفوضى واليوتوبيا»[111]، وفي مثل هذه الحالات ينتهي الأمر باستخدام الإكراه لمكافحة الإكراه ضد أولئك الذين لم يبادروا بأنفسهم إلى الإكراه أو اختاروا طوعًا انتهاك حقوق شخص ما. وفي الوقت الذي أن يجب أن تأخذ نظرية الحقوق في الاعتبار مثل هذه الحالات في نهاية المطاف، فإن كل ما يمكننا قوله هنا هو أنه ربما عندما يتم تعداد مبادئ مثل هذه الحالات، وكذلك مبادئ السلطة الأبوية أو الحالات المفترضة للأبوية المبررة، تتم إعادة صياغة الحق ضد الإكراه على أنه الحق في عدم الإكراه بشكل غير مبرر، حيث تعني بشكل غير مبرر: «حيث لا يوجد سبب خاص ومقنع عادة». وحتى لو أعيدت صياغة الحق بهذه الطريقة، فإنه سيظلّ أساسيًا - حيث إن حالات الإكراه المبرر ستكون محدودة للغاية - فضلًا عن كونه متماسكًا.[112]
كيف يرتبط ما قيل هنا بمثال دوركين؟ إن تنظيم المرور هو مجرد مثال لقواعد استخدام الممتلكات. أي شخص أو مجموعة من الأشخاص يملكون عقارًا يضعون قواعد لاستخدامه، سواء في ذلك الحكومة التي تمتلك الشوارع وتصمم قواعد المرور أم الشخص الخاص الذي يمتلك منزلًا، على سبيل المثال، الذي يضع القواعد لضيوفه. هذه القواعد في حد ذاتها لا علاقة لها بالحرية أو انتهاكها؛ فهي مجرد نتيجة حتمية للملكية. وإذا أثيرت أسئلة تتعلق بالحرية، فإنها تكون على مستوى حق الملكية نفسه الذي هو أصل هذه القواعد. النقطة الأساسية هي أن مسائل الحرية لا تنشأ إلا على مستوى ما إذا كان ينبغي للحكومة أن تمتلك الشوارع. إن ليبراليًّا مثل نوزيك يعتقد أن الإكراه لا يمكن تبريره إلا إذا تم استخدامه لمكافحة الإكراه، وربما يقول إن الحكومة تنتهك حقوق الناس من خلال انتزاع الأموال قسرًا من دافعي الضرائب من أجل بناء الشوارع والطرق. وهذا يعني أن انتهاكات الحق تحدث بحكم ملكية الدولة، وليس لأن المالكين يضعون قواعد لاستخدام الشوارع والطرق. نخلص إذًا إلى أن دوركين لم يثبت أنه لا يوجد شيء اسمه الحق في الحرية، وبالتالي فهو لم يبطل الادعاء بأن أي نظرية للحقوق الطبيعية يجب أن تحتوي على حق أساسي في الحرية.[113]
قائمة المصادر والمراجع:
رونالد دوركين، أخذ الحقوق على محمل الجد، ترجمة: منير الكشو، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا - تونس، 2015.
طباطبائي، محمدحسين، الميزان في تفسير القرآن، 20جلد، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - لبنان - بيروت، الطبعة: 2، 1390 ه.ق.
John Mackie, The third theory of law, philosophy and public affairs, 1977.
Bellamy, R. P. "Rights as Democracy." Critical Review of International Social and Political Philosophy (CRISPP) 15(4): 449–471. 2012.
Bellamy, R. P. Political Constitutionalism. Cambridge: Cambridge University Press. 2007.
Bellamy, R. Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously The Oxford Handbook of Classics in Contemporary Political Theory Edited by Jacob T. Levy DOI: 10.1093/oxfordhb/9780198717133.013.18 : 8 Aug 2019, P 1 -2.
Coleman, J. L. 1982. "Negative and Positive Positivism." In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, pp. 28 - 48. London: Duckworth, 1984.
Dworkin R. Liberalism, in Stuart Hampshire ed., Private and Public Morality (Cambridge: Cambridge University Press 1978)
Dworkin, R. Freedom’s Law. Oxford: Oxford University Press.1996.
Dworkin, R. Justice for Hedgehogs. Cambridge MA: Harvard University Press. 2011.
Dworkin, R. Taking Rights Seriously. Cambridge: Harvard University Press. 1978.
Dyzenhaus, D. "The Rule of Law as the Rule of Liberal Principle." In Ronald Dworkin, edited by A. Ripstein, pp. 82 -108. Cambridge: Cambridge University Press. 2007.
Greenawalt, K. 1977. "Policy, Rights and Judicial Decision." In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, pp. 88 - 118. London: Duckworth, 1984.
Hart, H. L. A. "Postscript" to The Concept of Law, 2nd edn. Oxford: Clarendon Press. 1994.
Hart, H. L.A. The Concept of Law. Oxford: Clarendon Press. 1961.
Hart, H.L.A. 1979. "Between Utility and Rights." In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, pp. 214 -226. London: Duckworth, 1984.
MacCormick, N. 1982. "Dworkin as a Pre -Benthamite." In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, pp. 182 - 201London: Duckworth, 1984.
Mackie, J. 1977. "The Third Theory of Law." In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, 161 - 170 London: Duckworth, 1984.
Nozeck R., Anarchy State and Utopia, New York: Basic Books, 1974.
Rawls, J. A Theory of Justice. Oxford: Oxford University Press. 1971.
Shapiro, D. Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously ?. Canadian Journal of Philosophy, Sep., 1982, Vol. 12, No. 3 (Sep., 1982), pp. 417 -434, Cambridge University Press.
Shapiro, S. J. "The Hart–Dworkin Debate: A Short Guide for the Perplexed." In Ronald Dworkin, edited by A. Ripstein, Cambridge: Cambridge University Press. 2007.
Waldron, J. "Can There Be a Democratic Jurisprudence?" Emory Law Journal, 2008.
Waldron, J. "The Rule of Law as a Theatre of Debate." In Dworkin and his Critics, edited by J. Burley, pp. 319 -335 Oxford: Blackwell. 2004.
Waldron, J. Law and Disagreement. Oxford: Oxford University Press. 1999.
-----------------------------------
[1]* - أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية.
[3] - Dworkin, Ronald. Taking Rights Seriously. Cambridge: Harvard University Press. 1978.
[4] - Bellamy, R. Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously The Oxford Handbook of Classics in Contemporary Political Theory Edited by Jacob T. Levy DOI: 10.1093/oxfordhb/9780198717133.013.18 : 8 Aug 2019, P 1 -2
[5] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. Canadian Journal of Philosophy, Sep., 1982, Vol. 12, No. 3 (Sep., 1982), pp. 417 -434, Cambridge University Press. P 417.
[6] - محكمة وارن هي الفترة التي شغل خلالها الإيرل وارن منصب رئيس القضاة في المحكمة العليا للولايات المتحدة. في عام 1953، حل وارن محل فريد فينسون في منصب رئيس القضاة، وبقي في منصبه حتى تقاعد في عام 1969. كثيرًا ما تُعتبر محكمة وارن المحكمة الأكثر تحررًا في تاريخ الولايات المتحدة. وسعت محكمة وارن نطاق الحقوق المدنية والحريات المدنية والسلطة القضائية والسلطة الاتحادية بطرق مذهلة. من المسلّم به أن المحكمة، بقيادة الكتلة الليبرالية، أحدثت «ثورة دستورية» عظيمة في تاريخ الولايات المتحدة.
[7] - Hart, H. L. A. The Concept of Law. Oxford: Clarendon Press. 1961.
[8] - Rawls, J. A Theory of Justice. Oxford: Oxford University Press. 1971. Shapiro, S. J. “The Hart–Dworkin Debate: A Short Guide for the Perplexed.” In Ronald Dworkin,
[9] - Dworkin, Ronald. Justice for Hedgehogs. Cambridge MA: Harvard University Press. 2011.
[10] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 176 - 177
[11] - Ibid, p 91.
[12] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 194.
[13] - Ibid, pp 188 -91
[14] - Ronald Dworkin, ‘Seven Critics/ Georgia Law Review, 11 (1976 -7) 1
[15] - (في: “أخذ القانون على محنل الجد»، ص94، الحاشية 1، يميز دوركين بين الحقوق في مواجهة المواطنين والحقوق مواجهة الدولة)
[16] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 180, 273.
[17] - Ibid, p 93.
[18] - Ibid, p 272.
[19] - Ibid, p 237.
[20] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 227.
[21] - Ibid, p 273.
[22] - Liberalism, in Stuart Hampshire ed., Private and Public Morality (Cambridge: Cambridge University Press 1978), p126.
[23] - Ibid, p 137.
[24] - Liberalism, p 127.
[25] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 235 - 37, 275 - 77.
[26] - Liberalism, p 137.
[27] - Liberalism, p 129 - 32.
[28] - Bemally, Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously The Oxford Handbook of Classics in Contemporary Political Theory Edited by Jacob T. Levy DOI: 10.1093/oxfordhb/9780198717133.013.18 : 8 Aug 2019, p 4 - 9
[29] - للحصول على نظرة عامة، انظر:
Shapiro, S. J. “The Hart–Dworkin Debate: A Short Guide for the Perplexed.” In Ronald Dworkin, edited by A. Ripstein, Cambridge: Cambridge University Press. 2007. pp. 56 -81
[30] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 22.
[31] - Ibid, p 17.
[32] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 139.
[33] - Ibid.
[34] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 198 - 199.
[35] - Ibid, p 162.
[36] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 81.
[37] - Ibid, p 105.
[38] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 80.
[39] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously,. P 206 - 207.
[40] - Ibid, p 213.
[41] - Ibid, p 185.
[42] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 186.
[43] - Ibid, p 213.
[44] - Hart, H. L. A. The Concept of Law. Oxford: Clarendon Press. 1961. P 199.
[45] - Coleman, J. L. 1982. “Negative and Positive Positivism.” In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, pp. 28 - 48. London: Duckworth, 1984. P 44.
[46] - Hart, H. L. A. “Postscript” to The Concept of Law, 2nd edn. Oxford: Clarendon Press. 1994. P 250, 253, 258.
[47] - Hart, H. L. A. The Concept of Law. Oxford: Clarendon Press. 1961. P 203 - 207.
[48] - Mackie, J. 1977. “The Third Theory of Law.” In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, 161 - 170 London: Duckworth, 1984. P 166 - 168. Dyzenhaus, D. “The Rule of Law as the Rule of Liberal Principle.” In Ronald Dworkin, edited by A. Ripstein, Cambridge: Cambridge University Press. 2007. pp. 82 - 108.
[49] - MacCormick, N. 1982. “Dworkin as a Pre -Benthamite.” In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, pp. 182 - 201London: Duckworth, 1984. P 191. Hart, H. L. A. “Postscript” to The Concept of Law, 2nd edn. Oxford: Clarendon Press. 1994. P 270 - 271.
[50] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 216.
[51] - Waldron, J. 2004. “The Rule of Law as a Theatre of Debate.” In Dworkin and his Critics, edited by J. Burley, pp. 319 - 335 Oxford: Blackwell.
[52] - MacCormick, N. 1982. “Dworkin as a Pre -Benthamite.” In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, pp. 182 - 201, London: Duckworth, 1984. P 193.
[53] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 178 - 179, 268 - 272.
[54] - Ibid, 199.
[55] - Ibid, 272 - 273.
[56] - Ibid, 199,
[57] - Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, London: Duckworth, 1984. pp. 28 - 48.
[58] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 273.
[59] - Mackie, J. 1977. “The Third Theory of Law.” In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, 161 - 170 London: Duckworth, 1984.
[60] - Waldron, J. Law and Disagreement. Oxford: Oxford University Press. 1999. Bellamy, R. P. Political Constitutionalism. Cambridge: Cambridge University Press. 2007.
[61] - Bemally, Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously The Oxford Handbook of Classics in Contemporary Political Theory Edited by Jacob T. Levy DOI: 10.1093/oxfordhb/9780198717133.013.18 : 8 Aug 2019, p 10 - 14.
[62] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 269.
[63] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 272 - 273.
[64] - Ibid, p 273.
[65] - Ibid, p 275.
[66] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 191, 269 - 278.
[67] - لوشنر ضد نيويورك، 198 الولايات المتحدة 45 (1905)، كان قرارًا تاريخيًا من المحكمة العليا في الولايات المتحدة التي ترى أن حدود وقت العمل تنتهك التعديل الرابع عشر. وقد تم إلغاء القرار فعليًّا. ويقتصر قانون ولاية نيويورك ساعات عمل موظفي المخابز على 10 ساعات في اليوم و60 ساعة في الأسبوع. ورجّحت أغلبية من خمسة قضاة أن القانون ينتهك شرط الإجراءات القانونية الواجبة، مشيرة إلى أن القانون يشكل «تدخّلًا تعسّفيًّا وغير معقول وغير ضروري في حق الفرد وحريته في التعاقد».
[68] - Ibid, p 278,
[69] - التمييز العكسي (بالإنجليزية: Reverse discrimination) هو مفهوم يَعتَبر التمييز الإيجابي وبرامج الوعي العرقي المشابهة التي تهدف إلى استدراك عدم المساواة العرقية شكلًا من أشكال العنصرية ضد البيض. وغالبًا ما يرتبط هذا المفهوم مع الحركات الاجتماعية المحافظة ومع الاعتقاد بأن المكاسب الاجتماعية والاقتصادية التي يحقّقها السُود في الولايات المتّحدة وفي أماكن أخرى توقع ضررًا بالبيض.
[70] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 269.
[71] - Ibid, p 275.
[72] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 234 - 235, 275 - 276.
[73] - Ibid, p 235.
[74] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 82.
[75] - Greenawalt, K. 1977. “Policy, Rights and Judicial Decision.” In Ronald Dworkin and Contemporary Jurisprudence, edited by M. Cohen, pp. 88 - 118. London: Duckworth, 1984
[76] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 108.
[77] - Dworkin, Ronald. Freedom’s Law. Oxford: Oxford University Press, 1996.
[78] - Waldron, J. “Can There Be a Democratic Jurisprudence?” Emory Law Journal, 2008.
[79] - Bellamy, R. P. 2012. “Rights as Democracy.” Critical Review of International Social and Political Philosophy (CRISPP) 15(4): 449 –471.
[80] - Waldron, J. Law and Disagreement. Oxford: Oxford University Press. 1999. P 302. Bellamy, R. P. Political Constitutionalism. Cambridge: Cambridge University Press. 2007. p 93–100.
[81] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 418.
[82] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?, P 426.
[83] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 419.
[84] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 427 -28.
[85] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 172.
[86] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously ?. P 426 - 27.
[87] - Liberalism, p 130 - 131,132.
[88] - Ibid, p 137.
[89] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously ?. P 427.
[90] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 170 - 172.
[91] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 427.
[92] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 428.
[93] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p xv.
[94] - ibid, p 236.
[95] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 427.
[96] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?, p 227.
[97] - Ibid.
[98] - عند نقطة ما (Seven Critics/ 1260 -2) يقترح دوركين هذا التفسير الذي أبني عليه.
[99] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 428.
[100] - Liberalism, p 123 - 24.
[101] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 428.
Ibid, p 29.
[102] - John Mackie, The third theory of law, philosophy and public affairs, 1977, p.3.
[103] - رونالد دوركين، أخذ الحقوق على محمل الجد، ترجمة: منير الكشو، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا - تونس، 2015، صفحة 39.
[104] - طباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، الجزء 20، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - لبنان - بيروت، الطبعة: 2، 1390 هـ.ق./ 1: 225 - 226.
[105] - طباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، م.س
[106] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 430.
[107] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 267, 277.
[108] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriousl. p 267.
[109] - Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously, p 124, 269.
[110] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 430 - 31.
[111] - Anarchy State and Utopia (New York: Basic Books 1974) 33 -4.
[112] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?. P 430.
[113] - Danny Shapiro, Does Ronald Dworkin Take Rights Seriously?, p 431.