البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد فلسفة نظرية القانون الوضعي لجون أوستين

الباحث :  أ. هشام الإسماعيلي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  34
السنة :  ربيع 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 26 / 2024
عدد زيارات البحث :  440
تحميل  ( 444.790 KB )
الملخص
تتأثّر النظريات القانونية بالتوجّهات والمفاهيم الفلسفية، والتي كان لها تأثير عميق في القرن التاسع عشر على ما يسمى حاليًّا «بالعلوم القانونية». حيث يتناول هذا البحث موضوعا فقهيًّا تحليليًّا بشأن نقد فلسفة نظرية القانون الوضعي لجون أوستن وتأثيرها على نظرية القانون المعاصرة، وفهم ما تنطوي عليه هذه النظرية، وتطبيقها في فهم القانون كظاهرة اجتماعية. ولا يقتصر هذا البحث على تحليل ظاهرة القانون الوضعي، بل يعرض أيضًا تعليقات على ظواهر مماثلة في نظرية أوستن، مثل نظرية الأوامر والقانون الدولي والسيادة والأخلاق الوضعية. فقد كانت نظريته في القانون واحدة من أهم المقاربات النظرية في إنجلترا في القرن التاسع عشر، وشكّلت أيضًا الأساس للمفاهيم الجديدة وللتحليلات النقدية لنظريات القانون الوضعي اللاحقة، وتوفّر أرضية صلبة لتفسير بعض فروع القانون، وخاصة القانون الجنائي. ويقدم البحث أيضًا تحليلًا نقديًّا لنظريته، مما يفتح المجال لآفاق أوسع لتطوير نظرية القانون الوضعي.

الكلمات المفتاحية: نظرية الأوامر، الحاكم صاحب السيادة، القانون الوضعي، الأخلاق الوضعية، العلوم القانونية التجريبية.

تقديم:
تشتمل نسخة فلسفة القانون الوضعي، وفقًا للفقه التحليلي، على وجهة نظر مفادها أن القانون هو عبارة عن أوامر تنبع قوّتها الإلزامية من سيادة الحاكم الذي أصدرها. ويعتبر المفكّر الإنجليزي جون أوستن[2] (1970 -1985) John Austin من مؤسّسي هذه المدرسة الفكرية، حيث كان يعتقد أنه ينبغي تعريف القانون على أساس الوقائع والحقائق السياسية للسلطة، والأنظمة، والعقوبات والمنافع، والتي يمكن أن تكون بمثابة الأساس المحوري لاستنباط نظرية علمية للتشريع تقوم على مبدأ المنفعة عوض الأخلاق[3].

وقد كان جون أوستن الشخصية الأكثر تأثيرًا في الفقه الإنجليزي للثلث الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد نشر عمله الوحيد المكتمل في الفقه بعنوان «مقاطعة الفقه المحدد Jurisprudence Determined The Province of»في سنة 1832، وفي غضون سنوات قليلة من وفاته، كان من الواضح أن عمله الفكري أسس لدراسة الفقه في إنجلترا، ومن الواضح بعد كل تلك المدة الزمنية؛ فإن تأثير أوستن على تطور نظرية القانون الوضعي في إنجلترا كان أكبر من تأثير أي مفكّر آخر[4].
ومن أهم مبادئ نظرية القانون الوضعي لأوستن هو أن ثمّة العديد من قواعد السلوك البشري المرغوب فيها أخلاقيًّا، ولكنها لا ترقى لتصبح قوانين. وبالمثل، توجد العديد من القوانين التي تنتهك المعايير الأخلاقية، ولكنها مع ذلك تعتبر قوانين. فقد ميّز أوستن جانبين من التحقيق في طبيعة القانون، حيث اعتبر: «إن وجود القانون شيء، ومزاياه أو عيوبه شيء آخر. سواء أكان الأمر كذلك أم لا، فهو استفسار واحد؛ وسواء أكان ذلك مطابقًا لمعيار مفترض أم لا، فهذا استفسار مختلف. إن القانون الموجود بالفعل هو قانون، على الرغم من أننا نكرهه، أو على الرغم من اختلافه عن النص، الذي ننظّم به استحساننا وعدم استحساننا»[5]. فقد طور أوستن نظرية مفادها أن توافق القاعدة القانونية مع الأخلاق ليس له صلة في تحديد ما إذا كانت تلك القاعدة تعدّ قانونًا، فالقانون «السيئ» هو قانون مثل القانون «الصالح أو الملائم»، وبالتالي فإن الخير والأخلاق أو الشر ليست هي العناصر الحاسمة في صناعة التشريع أو التي تشكل أساس ومرجعية النظام القانوني.

كما اعتقد أوستن أنه من خلال هذا التمييز بين ماهية القانون وما يجب أن يكون، يمكنه توضيح معنى القانون الذي حجبه المدافعون عن القانون الطبيعي الذين أدخلوا فكرة الأخلاق كعنصر ضروري في فلسفة تعريف القانون. فهذا التمييز بين القانون والأخلاق موجود منذ حقبة أوستن وكان له تأثير قوي في عالم الفقه القانوني. وينكر أوستن أن التأثيرات الأخلاقية كان لها دور في صناعة القانون، ولم يسمح في نظريته بأي مكان للعنصر الأخلاقي عند تحديد طبيعة القانون. ومن أجل الحفاظ على التمييز الواضح بين القانون والأخلاق، عرّف أوستن القانون بعباراته الأكثر تجريدًا وصرامة على أنه «أمر من صاحب السيادة (الحاكم)». فقد كان اختزال أوستن للقانون إلى «أمر» قد ساهم في تفاقم الجدل حول طبيعة القانون، من خلال اعتبار أن القانون والأخلاق يمثّلان نوعين منفصلين من قواعد السلوك، وليس بينهما علاقة تفاعلية. فهو يدعو حقًا إلى الفصل التام بين القانون والأخلاق واختزال القانون في قوة وسلطة الدولة. ووفقًا لهذا الرأي، يتم صياغة مفهوم القانون دون أي إشارة إلى جوانبه الأخلاقية.

فالقانون الوضعي حسب نظرية أوستن هو قانون أدخلته هيئة ذات سيادة حيّزَ التنفيذ بواسطة سلطتها. وتتكوّن السيادة من الرئيس السياسي الذي يحكم «الدونيين السياسيين (المواطنين)»، بأوامره التي هي تعليمات معيارية في نطاق «مجتمع مستقلّ سياسيًّا». وفي حالة عدم الامتثال لقيادة وأوامر الحاكم، يخضع المواطنون لـ «العقوبة» المرفقة بالقانون الذي تم انتهاكه. فالهيئة ذات السيادة قوية بما يكفي لحثّ مواطنيها على الالتزام بالقانون، ولا تهتم بالأخلاق أو أي نوع من المشاعر والقيم والمرجعيات ذات القيمة المضافة عند القيام بذلك. وبالتالي ينبع القانون من صاحب السيادة الذي يجعل القانون ملزِمًا وليس العكس. ويخضع الموضوع الأدنى سياسيًا (المواطنون) للأمر «القانون». وهذا هو ملخّص فلسفة القانون الوضعية عند جون أوستين، كواحدة من المفاهيم القانونية الأكثر راديكالية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

أهمية البحث:
جادل العديد من الفكرين حول كيفية التعامل مع وجود قوانين «سيئة أخلاقيًّا»، فقد اعتبر ويليام بلاكستون [6]William Blackstone في أحد تعليقاته «أن قوانين الإله تتفوّق في الالتزام على جميع القوانين الأخرى؛ وأنه لا ينبغي السماح لأي قوانين بشرية أن تتعارض معها؛ وأن القوانين البشرية لا قيمة لها إذا كانت تتعارض مع قوانين الإله وأن جميع القوانين الصحيحة تستمدّ قوتها من الأصل الإلهي»[7]. وعندما واجه أوستن هذه الأفكار، ركز على الفور على القضية المركزية في النظرية القانونية؛ لأنه لاحظ أنه إذا كانت هذه الأفكار -أنه لا يمكن وجود قانون إنساني يتعارض مع القانون الإلهي ويعتبر إلزاميًا أو ملزِمًا؛ وبعبارة أخرى، لا يمكن اعتبار أي قانون بشري يتعارض مع القانون الإلهي قانونًا -، تتلخّص في تحديد كيفية تحقيق سلطة النظام القانوني. أو بعبارة أخرى، فقد تساءل كيف تستمدّ القوانين صفتها كقانون؟
فإن إعادة فهم معنى القانون عبر عدسات وجهة نظرية فلسفة القانون الوضعي لأوستن، هو أمر ضروري لفهم أبعاد هذه النظرية وتحديد آثارها ومكامن ضعفها ضمن مشروع ثقافي وفكري يهدف إلى مواجهة التحدّيات التي تواجه الدول غير الغربية ضمن السياق العالمي متعدّد الثقافات والأيديولوجيات، وفي إطار المرحلة الجديدة من العولمة التي تنادي بعولمة القانون وإفراغه من الحمولة الأخلاقية والثقافية.

أهداف البحث:
يهدف هذا البحث إلى التطرّق لجزء من تاريخ الفكر القانوني في نهاية القرن التاسع عشر، حيث كان المفكّرون الأكثر شهرة في إنجلترا فيما يتعلّق بدراسة الإشكاليات القانونية والاجتماعية ومهندسي الإصلاحات الكبرى هم ذووا النظرة النفعية البراغماتية. وكان من بينهم المفكّر جون أوستن، والذي أكّد باستمرار على ضرورة التمييز بحزم وبأقصى قدر من الوضوح، بين القانون كما هو والقانون كما ينبغي أن يكون. والذي انتقد مفكري القانون الطبيعي على وجه التحديد؛ لأنهم تجاهلوا حسب نظره الفصل بين القانون والأخلاق. وبالتالي فالغرض الأساسي من هذا البحث هو محاولة تحليل مجال فلسفة فقه القانون الوضعي لجون أوستن من خلال دراسة تعريفه الأساسي لمفهوم القاعدة القانونية التي يعتبرها نوعًا من الأوامر commands أو ما يسمى بنظرية الأمر Command Theory، مع تحديد آثار نظريته ومكامن ضعفها.

إشكالية البحث:
أثار عمل الفيلسوف القانوني جون أوستن نقاشًا وجدالًا استمرّ حتى الوقت الحاضر، ويتمحور الكثير من الجدل القانوني من خلال عدسات مدافعيه ومنتقديه. كما أن تحليل نظرية أوستن، يتطلب دراسة التفاعلات بين المفاهيم الرئيسية لنظريته كمفهوم السيادة والأوامر والفصل بين القانون والاخلاق، خاصة وأن التفاعل بين تلك المفاهيم ينتج بعض الغموض والتناقض. وبالتالي فتقويم نظرية القانون الوضعي لأوستن تستوجب طرح الإشكاليات الرئيسية التالية:

1. ما هو معنى القانون ومصادره وغاياته وفقًا لنظرية أوستن؟
2. ما هي دوافعه ونواياه الكامنة وراء فقهه القانوني؟
3. ما هي أهم مكامن ضعف نظرية أوستن بشأن القانون الوضعي؟

فرضية ومنهجية البحث:
حتى لو افترضنا أن غرض أوستن كان إنشاء علم قانوني تجريبي من خلال تعريفاته المجردة لمجموعة من المفاهيم كالسيادة والقاعدة القانونية، فإن عمله يطرح عددًا من الإشكاليات التفسيرية، خاصة من خلال وصفه المجرد والراديكالي للقانون، ومن خلال اعتباره أن الحاكم هو كيان «غير مبال أخلاقيًا»، يصدر الأوامر بطريقة سلطوية، ويوجّه هذه الأوامر إلى الأشخاص الذين هم ملزمون بالاستجابة بشكل قطعي، والذين يلتزمون بتلك الأوامر فقط لأنهم يعرفون أن أنواعًا معينة من السلوك المخالفة لتلك الأوامر قد تؤدّي إلى التعرض للعقاب. وعلى النقيض من ذلك، في الوقت الحاضر، يعتبر هذا الفصل بين القانون والأخلاق سطحيًا ومجانبًا للصواب والمنطق. حيث يعتقد بعض النقاد أنه يكرّس تجاهل الطبيعة الحقيقية للقانون وجذوره في الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمع. ويعتقد مفكّرون آخرون أن نظرية القانون الوضعي لأوستن ليست مضللة فكريًا فحسب، بل إنها مفسدة في الممارسة العملية، وفي أسوأ حالاتها قد تؤدي إلى تكريس سلطوية الدولة، ونزع الطابع الأخلاقي الشرعي عن القانون، وعدم الاكتراث لمبادئ العدالة والانصاف في القاعدة القانونية.

ولدراسة فلسفة نظرية القانون الوضعي لأوستن يتحتّم علينا وصف وتحليل المفاهيم الأساسية لنظريته باتّباع المنهج الوصفي التحليلي، كما سنعتمد على المنهج النقدي من خلال الاعتماد على مجموعة من الأدوات المنطقية والعلمية لتقويم نظريته وتحديد آثارها ومكامن ضعفها.

خطة البحث:
سأعمل على تقسيم البحث وفق ما يلي:
المحور الأول. مفهوم ومصادر وغايات نظرية القانون الوضعي عند جون أوستن
أولًا. نظرية الأوامر command theory لجون أوستن
ثانيًا. مفهوم القانون كإلزام أو أمر من هيئة ذات سيادة
ثالثًا. مفهوم القانون الدولي والسيادة عند أوستن
رابعًا. الفصل بين القانون الوضعي والأخلاق عند أوستن

المحور الثاني. تفسير ونقد فلسفة نظرية القانون الوضعي لجون أوستن
أولًا. تفسير فلسفة نظرية القانون الوضعي عند أوستن
ثانيًا. نقد فلسفة نظرية القانون الوضعي عند أوستن

المحور الأول. مفهوم ومصادر وغايات نظرية القانون الوضعي عند جون أوستن
يتطرق هذا المحور إلى تحليل «نظرية الأوامر» لجون اوستن بشأن فلسفة القانون الوضعي، مع تحديد إطاره المفاهيمي حول العناصر المكونة للنظام القانوني، وأثرها على تطور العلوم القانونية.

أولًا.نظرية الأوامر command theory لجون أوستن
تعدّ نظرية الأوامر لجون أوستن من النظريات السائد للقانون الوضعي في القرن التاسع عشر بإنجلترا؛ حيث لا تزال نتائج نظريته قابلة للتطبيق في تفسير بعض فروع القانون ذات الطابع الوطني والزجري، وخاصة قواعد القانون الجنائي. وعلاوة على ذلك، كما أشار روجر كوتريل Roger Cotterrell في كتابه قانون المجتمع Law‘s Community 1997 أن نظرية الأوامر لأوستن قد أثّرت على الفقهاء القانونيين الواقعيين الأمريكيين في العقود الأولى من القرن العشرين، وتتضمّن فلسفة أوستن القانونية مجموعات مختلفة من الأفكار، تم التعليق على بعضها بشكل أعمق، وبعضها بشكل أقل، وبعضها مقبول على نطاق واسع، وبعضها الآخر تعرّض لانتقادات واسعة. ففي التعليق المنشور بعد وفاة المفكّر جون أوستن، يلاحظ المفكّر هيربرت هارت Herbert Hart’s أن الغرض من مفهوم القانون وفقًا لأوستن هو توفير نظرية عامّة ووصفية؛ عامة بمعنى أن وصفه للقانون لا يرتبط بأي نظام قانوني أو ثقافة قانونية، ولكنه يسعى إلى شرح وتوضيح القانون كمؤسسة اجتماعية وسياسية معقدة، وأخيرًا كظاهرة تحكمها القواعد، ووصفية بمعنى أن القانون محايد أخلاقيًا ولا يسعى إلى تبرير أو تقديم أي وجهة نظر أو نظام أخلاقي.

فوفقًا لأوستن، فإن «القانون، بمعناه الصحيح law, properly so called» يشمل الأوامر، في حين أن «القانون، بمعناه غير الصحيح» لا يتضمّن الأوامر. حيث ميّز بين ما يعدّ قانونًا وما لا يعدّ كذلك. وتتضمن المجموعة الأولى من القواعد (القانون بمعناه الصحيح): (1) القانون الإلهي؛ (2) والقانون الوضعي، (3) والقواعد الفردية للأخلاق الوضعية. في حين تتضمّن المجموعة الثانية (القانون بمعناه غير الصحيح) (1) قواعد أخرى للأخلاق الوضعية تنبني على المشاعر أو الآراء، (2) والقواعد المجازية أو التصويرية.

فقد كان الهدف من «نظرية الأوامر» هو تحديد الجوهر أو الطبيعة المشتركة للقواعد التي تعتبر بشكل صحيح حسب أوستن «كقانون». وبعبارات أخرى، لتحديد طبيعة القانون الملزم أو الملائم. وفي هذا الصدد، يحدّد أوستن موضوع البحث الفقهي على أنه بحث في القانون الوضعي، وتحديد عنصر الوضعية وعلاقته بالأشياء أو القواعد الأخرى، والعناصر العقلانية في القواعد الوضعية التي تعدّ العنصر الرئيسي أو العنصر السائد.

ولتحديد الطابع الإلزامي للقانون، فقد صنّف أوستن نوعين من الأوامر على الشكل التالي:

(1) الأوامر كقوانين أو قواعد
(2) الأوامر على أنها مجرّد قواعد عرضية أو ذات طبيعة خاصة.
ولتحديد طبيعة الأوامر، فقد حدّد أوستن معاني المفاهيم التي تشمل مفهوم الأمر، وحددها فيما يلي:
العقوبة؛ (2) إنفاذ القانون؛ (3) الواجب أو الالتزام؛ (4) والحاكم والمحكوم[8].
ولمحاولة شرح مفهوم القانون باعتباره أوامر فقد اعتبر أوستن، أن الأوامر تعد «أمنية أو رغبة تصورها كائن عقلاني، بأن كائنًا عقلانيًا آخر يجب أن يطبّقها أو يتحمّلها، وشرّ ينطلق من الأول، ويتكبّده الأخير، في حالة عدم امتثال الأخير لتلك الرغبة»[9]، فهذا التعريف لمفهوم الأوامر يتوفّر على ثلاثة جوانب رئيسة لاستيعاب نظرية الأوامر لأوستن، وهي: العقوبة، والعمومية، ووجود الحاكم (هيئة ذات سيادة). كما وصف الأمر بأنه أُمْنية أو رغبة، ومع ذلك، ورغم أنه من غير المتوقّع أن تكون الرغبة مساوية للأمر، فإن الحاكم سيفرض الامتثال لرغبته عن طريق العقاب. كما يجب أن تكون الأوامر كقانون تتمتع بطابع العمومية من خلال عمومية نطاق تطبيقها باعتبارها ملزمة لأعضاء المجتمع بشكل عام.

والآن بعد أن أصبح القانون أمرًا يتمتع بطابع العمومية، فإنه يستثني الأوامر التي لا تتعلّق بنوع عام من الإجراءات التي تنطبق على جميع المواطنين. وبالتالي، فإن الأوامر التي ترتبط فقط بشكل خاصّ وفردي لا تعدّ قوانين. حيث أعطى أوستن مفهومًا مختلفًا لمثل هذا النوع من الأوامر، باعتبارها أوامر غير عامة، أو الأوامر العرضية أو الخاصة. ومع ذلك، فإن أفضل مثال على ذلك هو الأوامر القضائية، فقد اعتبر أوستن أنه غالبًا ما يصدر القضاء أوامر عرضية أو خاصة لإنفاذ القوانين أو القواعد المتعلقة بالقضايا الفردية، حيث تساهم أوامر المحكمة في تطبيق القانون ولكن يجب تمييزها عن القانون.

كما سعى أوستن من خلال نظرية الأوامر إلى تقديم فكرة السمو أو السلطة (الهيئة ذات السيادة)، والتي تعني أنه يتم إنشاء القوانين من قبل الحكام والتي تلزم المرؤوسين (المجتمع)، ومعنى السموّ هنا يعود إلى القوة أو السلطة. وعلى الرغم من أن أوستن اعترف بأن السموّ يمكن أن يعني الأسبقية أو التميز في الطبقة أو الثروة، إلا أنه صاغها بشكل أساسي على أنها تعني السلطة، أي سلطة إلحاق الأذى بالآخرين أو إجبارهم على الالتزام بالأوامر.
ومن ناحية اخرى، فقد اعترف أوستن بأن هناك ما يسمى بالقوانين التي ترقى لمرتبة الأوامر: «كالقوانين التفسيرية» التي يتم من خلالها شرح أهمية القوانين القائمة، والقوانين التي تعمل على إلغاء القوانين القائمة، والقوانين العرفية التي اعتبرها أوستن بشكل ضمني أوامر للدولة «بشكل دائري أو تدويري»“circuitously”. وبعبارة أخرى، فإن القوانين العرفية قد ترقى لمرتبة الأوامر؛ لأن المحاكم يمكن أن تحوّلها إلى قواعد قانونية من خلال قراراتها وأحكامها القضائية.[10]

ثانيًا. مفهوم القانون كإلزام أو أمر من هيئة ذات سيادة
حاول أوستن أن يحدّد طبيعة أو جوهر القانون من خلال تمييزه مرارًا وتكرارًا بين «القانون بمعناه الصحيح، والقانون بمعناه غير الصحيح»، ويتكوّن مفهوم القانون بمعناه الصحيح من أوامر عامة، والتي تختلف عن الأوامر العرضية أو الخاصة. والمثال الأخير على ذلك هو القرار القضائي، مثل الأمر بإنزال عقوبة محددة على جانٍ معين. حيث أكّد أوستن أن هذا النوع من القرارات أو الأوامر «لن يكون قانونًا أو قاعدة، ولكنه أمر عرضي أو خاص من صاحب السيادة»[11]. وبعبارة أخرى، فإن الطابع الخاص للقرارات أو الأوامر القضائية تمنعها من أن تسمّى قانونًا بمعناه الصحيح.

فقد أكد أوستن أن موضوع الفقه القانوني هو القانون الوضعي، أو القانون بمعناه الصحيح، والذي وصفه بأنه الأوامر الصريحة أو الضمنية للحاكم. هذه السلطة العليا التي لا تسمو عليها سلطة أخرى من الناحية القانونية، وهي المصدر النهائي لكل قاعدة قانونية في مجتمع سياسي مستقل. كما اعترف أوستن بأن المسؤولين (مثل القضاة) قد يسنّون القانون في بعض الحالات، لكنه شدّد على أنهم يفعلون ذلك من خلال تفويض لهم من قبل الحاكم. واعتبر أن سيادة الحاكم يمكن تحديدها من خلال خاصيتين، وهما: «الطاعة المعتادة من غالبية المواطنين له، وعدم امتثاله لأوامر أي حاكم بشري آخر». وقد أعرب أوستن عن اعتقاده بأن الفقه القانوني يجب أن تكون له وظيفة تحليلية، جوهرها هو التوضيح المفاهيمي، من خلال الاهتمام بالمبادئ والمفاهيم المشتركة في الأنظمة القانونية، وذلك لعدة أسباب، كان أحدها إيمانه بالعلاقة الوثيقة بين النظرية والتطبيق، ومن أجل تطوير القانون ليصبح مجالًا علميًا. فقد شدّد أوستن على أن الفقه القانوني العام لا ينطوي على تقويم أخلاقي للقوانين الوضعية. وبدلًا من ذلك، فإن علم الفقه القانوني هو عبارة عن عرض للمبادئ المستمدّة من النظم القانونية القائمة. وفي الوقت نفسه، أكّد على أهمية علم التشريع، الذي تتمثّل وظيفته في «تحديد المعايير التي يجب من خلالها وضع القانون الوضعي، أو القانون الوضعي الذي ينبغي تعديله». فقد ادعى أوستن أن علوم الفقه والتشريع مرتبطة بـ«روابط عديدة لا تنفصم». وفقًا لذلك، فإنه من المستحيل دراسة الفقه القانوني بصرف النظر عن التشريع، فقد انعكست هذه الأفكار على إصلاحات أوستن المقترحة للتعليم القانوني، حيث دعا إلى إنشاء مؤسسات تعليمية مثل كلية الحقوق. وادعى أوستن أن هذا التعليم القانوني سيكون مفيدًا للغاية في ممارسة القانون، ففهم مبادئ الفقه القانوني العام حسب أوستن من شأنه أن يبسّط «اكتساب المعرفة العملية لأصحاب المهن القانونية، التي ستساهم في تجنّب الكثير من التشريعات غير الملائمة»[12].

1. مصدر القانون الوضعي عند جون أوستن
تهيمن إشكالية مصدر القانون على النظرية الوضعية؛ لأن تعريفها للقانون ينبثق من مصدره بشكل مباشر. فعندما يعرّف أوستن القانون بأنه أمر صادر عن هيئة ذات سيادة، فإنه يحصر تلك القواعد القانونية في القوانين التي تنبثق من الحاكم فقط، وهكذا يتم ربط مفهوم القانون مع مفهوم الأمر. ومن أجل التفريق بين مختلف أنواع الأوامر الممكنة، يحدّد أوستن أن تلك الأوامر هي فقط القانون الذي يكون مصدره نابعًا من إرادة الحاكم. فالقانون يتم تعريفه على أنه أوامر من هيئة ذات سيادة تمتلك سلطة إنزال العقاب، ويتم تعريف العقوبة على أنها تهديد يمكن للحاكم أن يوجهه إلى أولئك الذين يعصون أوامره. ومن الناحية العملية، تتلخّص النظرية القانونية لأوستن بأكملها في مفاهيم السيادة (الحاكم) والأوامر والعقوبة.

فإن مفهوم القانون القائم على السيادة والأوامر والعقوبة قد حقّق بالفعل النتيجة النظرية المرجوّة لجون أوستن، وهي الفصل بين القانون والأخلاق: فهناك صاحب السيادة، الذي هو الحاكم بلا منازع؛ وهناك أمره الذي ينظّم سلوك الأشخاص؛ وهناك تهديد بالعقاب أو شكل من أشكال الألم إذا كان الشخص لا يطيع أوامره. فأوستن يرى أن هناك مصدرًا واحدًا فقط للقانون، وهي «أوامر الحاكم»، كما لا توجد قاعدة لها صفة القانون باستثناء القاعدة التي يسنّها الحاكم، ولا يمكن لأي قانون أن ينبثق من أي مصدر آخر غير صاحب السيادة (الحاكم)، لأنه بحكم هذا التعريف؛ فإن أوامر الحاكم فقط تعدّ قانونًا بمعناه الصحيح، والقواعد التي يأمرها هي قوانين لأنه يأمر بها فقط وليس لأي سبب آخر[13].

أنواع القوانين حسب نظرية القانون الوضعي لأوستن
لتحديد أنواع القوانين حسب نظرية القانون الوضعي لأوستن، ينبغي مناقشة المفاهيم المرتبطة بمفهوم القانون الوضعي إما عن طريق القياس الوثيق أو البعيد. حيث يدّعي أوستن أن القانون البشري الذي يسمّيه «الأخلاق الوضعية“positive morality” «ليس له طابع إلزامي. فواجبات وعقوبات الأخلاق الوضعية تشبه إلى حد كبير واجبات وعقوبات القانون الوضعي. ومع ذلك، فإن الأخلاق الوضعية ليست قانونًا بالمعنى الصحيح للكلم،. فهي تتضمن فقط القواعد التي تعتبر مجازية metaphorical أو تصويريّة، والتي ترتبط بالقانون الوضعيّ عن طريق القياس. كما اعتبر أوستن أنه لا يمكن تسمية الإجراءات والقرارات التي تصدر من جانب الهيئات التشريعية “البرلمان» لتفسير القانون الوضعي على أنها ترقى لمرتبة القانون الوضعي، فهي فقط أعمال تفسيرية للقانون الوضعي. كما اعتبر أن قوانين إلغاء قوانين أخرى، وقوانين الإعفاء من واجبات قانونية لا تعتبر قوانين وضعية، لأنها ليست أوامر، ولكنها عبارة عن إلغاء للأوامر، حيث يسمح قانون إلغاء القوانين للأطراف بالقيام أو الامتناع عن الأفعال التي أُمروا بالامتناع عنها أو القيام بها، وفي هذا الصدد، غالبًا ما يتمّ تسميتها «بالقوانين الترخيصية أو المتساهلةpermissive laws»، وهكذا اعتبر أوستن بأن القانون الناقص أو غير المكتملLex imperfecta الذي لا يتضمن أي عقوبة نتيجة الإخلال بالواجب أو الالتزام الذي يفرضه؛ فإنه لا يمكن أن يصل إلى درجة الأوامر، أي القانون الوضعي. كما أن «القانون العرفي» لا يشمله مفهوم القوانين الوضعية أو الأوامر حسب أوستن، لأنه لم ينبثق من هيئة ذات سيادة. ومع ذلك، قد يتحوّل إلى قوانين وضعية حينما يتم إنفاذه من قبل المحاكم القضائية. وبالتالي لا يعتبر «الأعراف» كقوانين وضعية على النحو الصحيح حتى يتم تحويلها إلى قانون وضعي حينما تطبّقها المحكمة أو يعتمدها المشرّعون.

ومن ناحية أخرى، فهناك نوع آخر من القوانين الوضعية التي لا ترقى إلى مرتبة الأوامر، لكنها رغم ذلك تعتبر قانونًا بالمعنى الصحيح للكلمة، وعلى سبيل المثال، القانون الوضعي الذي لا يفرض واجبات بل حقوقًا فقط. ومن جهة أخرى ثمّة نوع آخر من القوانين الوضعية التي تفرض واجبات فقط لا ترتبط بالحقوق، ويمكن تسميتها «بالقوانين المطلقة». لكن كل قانون يمنح صراحة حقًا يفرض صراحة أو ضمنيًا واجبًا «نسبيًا»، فالأطراف الذين تم وضع الحقوق من أجلهم، أو الأطراف الذين تم فرض الواجبات عليهم، هم يخضعون بالضرورة للعقوبة التي تفرض الحقوق والواجبات[14].

ج) أثر مفهوم أوستن للقانون الوضعي على النظام القانوني
وفقًا لجون أوستن، فإن الغرَض الرئيسي من نظريته في فلسفة القانون الوضعي، حسب تعبيره، هو «الملائم» الذي يهتم به علم القانون. ففي سياق محاضراته الست حول الفقه القانوني، يحاول أوستن التمييز بين» القوانين بمعناها الصحيح والتي تشكّل القضية المحورية للفقه القانوني العام والخاص من جهة، والقانون الإلهي والأخلاق الوضعية وجميع القوانين المجازية أو التصويرية من جهة أخرى». ويعرّف بذلك المفهوم العام للقانون على النحو التالي: «يمكن القول إن القانون، في الإطار الأكثر عمومية وشمولية الذي ُيستخدم فيه هذا المفهوم بمعناه الحرفي، هو قاعدة وُضعت لتوجيه كائن ذكي من قبل كائن ذكي له سلطة عليه»[15]. فمن المهم أن نلاحظ، أوّلًا، أن تعريف أوستن لا يتحدّث عن «القاعدة القانونية» فقط، ولكنه يتضمن مفهوم «العقل» أو «الذكاء» كجزء من مفهوم القانون بشكل عام، فعندما يكون الذكاء مفقودًا وفقًا لأوستن، فلا يمكننا التحدث عن القانون إلا بالمعنى «المجازي أو التصويري».

ومن جهة أخرى فالقوانين أو القواعد بمعناها الصحيح، هي نوع من الأوامر التي يتم وضعها «لإرشاد كائن ذكي من قبل كائن ذكي آخر يتفوّق عليه أو له سلطة عليه superior «. ووفقًا لأوستن، فمفهوم التفوّق يدل على السلطة والقوة - قوّة التأثير على الآخرين بالعقوبة والألم، وإجبارهم من خلال الخوف من تلك العقوبة على صياغة سلوكهم وفقًا لرغبات الحاكم -، فذلك التفوق الذي يطلق عليه السيادة، والمجتمع السياسي المستقل الذي يخضع لتلك السيادة، يتميز عن أنواع التفوّق وعن المجتمعات الأخرى بالرموز أو الصفات التالية:

الجزء الأكبر من المجتمع السياسي المستقلّ معتاد على الطاعة أو الخضوع لحاكم محدد أو مشترك؛ والذي قد يكون فردًا معينًا، أو هيئة معينة أو مجموعة من الأفراد.

ذلك الحاكم الذي هو عبارة فرد معيّن، أو مجموعة معينة من الأفراد، لا يخضع لحاكم بشري محدّد.
وحسب أوستن فإن «العلاقة المتبادلة بين الهيئة ذات السيادة والمواطن؛ قد تكون على شكل علاقة السيادة والموضوع، أو علاقة السيادة والخضوع»[16]. فإذا وضعنا ملاحظات أوستن حول مفهوم القانون الوضعي إلى جانب مفاهيم السلطة والتفوّق والسيادة والعقوبة بشكل عام، فإننا نصل إلى التعريف التالي للنظام القانوني وفقا لنظرية أوستن: «النظام القانوني هو مجموعة من القواعد المنصوص عليها لتوجيه المجتمع، من قبل شخص محدد أو مجموعة من الأشخاص الذين لديهم سلطة عليهم بحكم احتكارهم الفعّال للعقوبات المادية داخل ولاية قضائية معينة».[17]

2.مفهوم القانون الدولي والسيادة عند أوستن
اعتبر أوستن أن القانون الدولي، أو «القانون الذي يتم اعتماده بين الدول»، «عبارة عن سلوك الحكّام الذين يعتبرون مرتبطين ببعضهم، ومن ثم يتبع ذلك حتمًا، أن القانون الذي يتم اعتماده بين الدول ليس قانونًا وضعيًا؛ لأن كل قانون وضعي يتمّ اعتماده من قبل هيئة ذات سيادة معينة لفرضه على شخص أو مجموعة أشخاص الذين يخضعون لصاحب السيادة.... فالقانون الدولي، هو عبارة عن القانون الذي اعتمده الرأي العام الدولي، وواجبات يتم يفرضها من خلال العقوبات الأخلاقية؛ أي من خلال الخوف من جانب الدول، ومن جانب الحكام، من إثارة النزاعات الدولية، في حالة انتهاكهم للمبادئ التي يتم الإجماع على احترامها». كما "يتكوّن ما يسمّى بقانون الأمم من آراء أو مشاعر ورغبات الدول بشكل عام... لكن حكومة عليا قد تأمر بلا شك حكومة أخرى بأن تنأى بنفسها عن نوع من السلوك الذي يدينه قانون الأمم. وعلى الرغم من أن هذا الأمر قد يعتبر قانونًا في الدلالة الصحيحة للمصطلح. وبالحديث بدقة، فهذا الأمر هو عبارة عن قاعدة من الأخلاق الوضعية التي وضعها منشؤوها. ولأنه نظرًا لعدم وجود حكومة في حالة خضوع لحكومة أخرى، فإن الحكومة المصدّرة للأمر لا تأمر وفقًا لطابعها السياسي المتفوّق»[18]. ومن ثم، فمن الواضح أن القانون الدولي، وفقًا لأوستن، قد خضع لتعريف مجرد، لأنه اعتبر أن طابعه الأخلاقي يطغى على طابعه القانوني. وبالتالي، لا يمكن أن يكون أكثر من مجرّد أخلاق وضعية.

غير أنه من خلال تحليل الضوابط التي تحكم القانون بين الأمم حسب أوستن، فمن الواضح أن جزءًا كبيرًا من المجال المنظّم للعلاقات الدولية سيعتبر قانونًا بالمعنى الدقيق للمصطلح؛ وبالنسبة لأي دولة قد تلزم نفسها بمعاهدة (التي تعد اتفاقية وضعية)، فانتهاك الحقوق بموجب تلك المعاهدة من شأنه أن يؤدي إلى إصدار «أمر» من الدولة المتضرّرة إلى الدولة المتّهمة بارتكاب المخالفة. وقد يبدو بالمثل أنه إذا كان على الدول أن تعترف بعرف أو بمجموعة من الأعراف التي تشكّل قانون الأمم وتنفّذ هذا العرف بشكل كامل، فإن ذلك ينشئ حقوقًا تعتمد على العرف وتطبق من خلال المحاكم الوطنية، وبالتالي تصبح تلك الأعراف قانونًا، لكن هذا القانون المطبق يصبح قانونًا وطنيًا ويفقد طابعه الدولي.
ومع ذلك، فإنه سيسمح له كامتياز خاص أن يطلق عليه اسم القانوني الدولي، على الرغم من أنه ينبغي أن يطلق عليه في اللغة القانونية اسم القانون الوطني باعتباره مختلفًا عن الدولي. فإذا افترضنا أن دولة ما تتبنّى ما يسمّى بالقانون الدولي، أو قانون الأمم، وتدمجه في دستورها الوطني، وتطبّقه محاكمها، فإن هذا القانون سيكون ببساطة هو القانون الوطني، أو القانون الدولي «للدولة المتبنّية «Adopting state، وحسب تعبير أوستن فإنه «يجوز لكل دولة أن تتبنّى قانونًا دوليًا خاصًا بها، وتطبق هذا القانون من خلال محاكمها الوطنية، أو بواسطة قوّتها العسكرية ضد الدول الأخرى»[19].

ومع افتراض أن العالم يتبنّى نفس القانون الموحّد وينشئ محاكم وهيئات دولية لتطبيقه، وهو ما يسمى بالقانون الدولي. فإن أوستن يدحض ذلك الافتراض، حيث اعتبر أنه «إذا تم اعتماد نفس نظام القانون الدولي وتطبيقه بشكل عادل من قبل كل دولة، … ولكن مع عدم وجود حاكم مشترك بين جميع الدول التي يدير نظامًا دوليا مشتركا بموجب القانون الدولي، فإن هذا النظام، على الرغم من فعاليته البارزة، سيظلّ، لسبب وجيه، نظامًا أخلاقيًا. وإن موافقة أي دولة على دعم مثل هذه المحاكم والهيئات، وخضوعها لقراراتها، يمكنها في أي لحظة أن تسحب انضمامها لها والتزامها بها دون أي خطر أو عواقب قانونية»[20]. يبدو أنّ أوستن قد حلل القانون الدولي من خلال تعريف ضيّق ومختصر وثابت. كما اعتبر أن القانون الدولي لا يعدّ قانونًا بالمعنى الصحيح؛ لأنه لا يتضمّن حاكمًا ذا سيادة ولا آليات للعقاب مثلما هو الحال على المستوى الوطني[21].

وفي غياب هذه السلطة المركزية فوق الوطنية التي تسهر على تطبيق القانون الدولي من خلال إنزال عقوبات جبرية على الدول التي انتهكت قواعده، يتّفق بعض الفقهاء مع اعتقاد أوستن بأن القانون الدولي لا يعتبر قانونًا حقيقيًا. حيث يعتقدون أن التدابير الجبرية والعقوبات الدولية قد تكون في بعض الأحيان غير فعالة أثناء تطبيقها وغير كافية لإضفاء الشرعية على القانون الدولي. فعلى سبيل المثال، رغم أن لمجلس الأمن الدولي صلاحيات السهر على وقف انتهاكات القانون الدولي وتنفيذ العقوبات، إلا أن قدرته واستعداده للتصرف (والتصرف بكفاءة) أمر مشكوك فيه[22].

ثالثا. الفصل بين القانون الوضعي والأخلاق عند أوستن
لعل السمة الأكثر تميزًا لنظرية القانون الوضعي لأوستن هي التمييز الحاد بين القانون والأخلاق. فإذا كان التصور بأن «القانون غير العادل» لا يعتبر قانونًا على الإطلاق هو جوهر نظريات القانون الطبيعي، فإن نظريات القانون الوضعي والواقعية القانونية تتعارضان بشكل أساسي مع هذا التقليد الفقهي. فقد حاول أوستن العمل على توضيح مجال أو نطاق الفقه القانوني، والتمييز بين القانون بمعناه الصحيح، وبين القانون بمعناه غير الصحيح. فقد بدأ من فرضية أن القانون هو نتاج الإرادة، وهو شيء يتم صنعه وليس اكتشافه. فالقانون الوضعي باعتباره موضوع الفقه القانوني يتكوّن من أوامر الحاكم، في حين تتكوّن الأخلاق الوضعية من القواعد الأخلاقية الموجودة في مجتمع معين، وبعض هذه القواعد قد ترقى إلى مستوى القانون الوضعي، في حين أن بعضها الآخر لا ينطبق عليها هذا التصنيف. في حين يتكوّن القانون الإلهي من أوامر الإله، والتي يمكن أن تكون إما صريحة أو ضمنية، ومن مبدأ المنفعة الذي هو مؤشّر قياس تلك الأوامر الإلهية الضمنية لتقويم الخير الأخلاقي أو شر القوانين الوضعية (البشرية). ومع ذلك، أصر أوستن بشدّة على أن القوانين الوضعية موجودة بغض النظر عن قيمتها الأخلاقية أو تعارضها مع القانون الإلهي. من خلال اعتباره «إن وجود القانون شيء، وحسناته أو عيوبه شيء آخر...». فقد اعترض أوستن على الجمع بين القانون والأخلاق في الأسس النظرية والعملية. فقد كان يعتقد أن مثل هذا الالتباس يعيق فهم القانون وإنفاذه. وكان أساس هذا الاعتقاد لدى أوستن هو تأكيده على أن «أكثر القوانين ضررًا، والتي تتعارض مع إرادة الإله، تم تطبيقها باستمرار كقوانين من قبل المحاكم القضائية»[23]. كما اعترض أوستن أيضًا على الخلط بين القانون والأخلاق لأسباب سياسية. باعتباره أن النظرية القائلة بأن القانون غير العادل لا يعتبر قانونًا على الإطلاق؛ لا تعيق تطبيق القانون فحسب؛ وإنما تعزّز المقاومة العشوائية للقوانين الوضعية. وعلى الرغم من أن أوستن كان يعتقد أن العصيان أمر مبرّر أخلاقيًا على أسس نفعية، إلا أنه أكّد على أن «الإعلان بشكل عام أن جميع القوانين الضارة أو المتعارضة مع إرادة الله باطلة ولا يمكن التسامح معها، هو عبارة عن تبشير بالفوضى، وهو أمر عدائي وخطير للحكم الرشيد بقدر الطغيان الغبي والمثير للغضب»[24].

إلّا أنه مهما حاول أوستن أن يؤّكد على فصل القانون عن الأخلاق، فإنه اعترف بتلك العلاقات الممكنة بينهما. وأكّد أن جميع القوانين البشرية يجب أن تتوافق مع القوانين الإلهي،. وشدّد على أن جوهر القواعد القانونية والأخلاقية غالبًا ما يتداخل. حتى أنه اعترف بأن القواعد الأخلاقية قد تعمل على تنظيم السلوك البشري بشكل أكثر فعالية من القانون الوضعي، ومع ذلك أصرّ على أن القانون الوضعي الذي يتعارض مع القواعد الأخلاقية أو الأخلاقية يظلّ قانونًا[25].
ومن جانب آخر، فإنه من الصحيح أن صاحب السيادة (الحاكم) لا يمكن تقييد حدوده «التشريعية»، ومع ذلك فإنه يتم تأسيس سلطته على أساس أخلاقي. ومن ثم فإن القول بأن الحاكم ليس لديه أي قيود قانونية هو فكرة مضلِّلة، وتبيح لصاحب السيادة أن يفعل أي شيء يريده. لكن حتى أوستن رأى سلبيات هذا الاستنتاج وشعر أنه من الضروري الإشارة إلى كيفية عمل البرلمان. فقد كان مهتمًا بالاختصاص التشريعي للحاكم بشكل رئيسي كأساس لبناء نظريته حول القانون. فالسمة الأكثر حسمًا فيما يتعلق بالسيادة، بالنسبة لأوستن، لم تكن حقيقة أن سيادة الحاكم لا يتم كبحها من خلال أي قيود قانونية، ولكن في الواقع يتم كبحها من خلال القوانين «الأخلاقية». وقاد هذا أوستن إلى القول إنه «بدون فهم القيود الأخلاقية المفروضة على الحاكم، لا يمكن للمرء أن يفهم حقًا ما هو القانون الوضعي»[26]. فللقيود الأخلاقية المفروضة على الحاكم تأثير أيضًا في تضمين العناصر الأخلاقية أثناء صياغة القانون الوضعي، وهو ما يعني أنه بدلًا من تحقيق الفصل بين القانون والأخلاق، وهو ما تشتهر النظرية الوضعية به، يكشف تحليل أوستن عن الاقتران الضمني بين القانون بالأخلاق.

وقد أشار أوستن إلى هذه القوانين الأخلاقية في هيكل صناعة القوانين الدستورية، وعلى الرغم من أنّه اعتبارها تزعج الدقة المنطقية للنظام القانوني، إلّا أنّها تعتبر كإطار مرجعي لباقي القوانين، حيث رأى أنه «على الرغم من الدقة المنطقية، فإن الكثير من هذه القوانين المتعلقة بالسيادة، يجب أن يتم إدراجها في النظام القانوني Corpus Juris لأسباب تتعلق بالملاءمة والتي تعتبر ذات أهمية قصوى للتماثل المنطقي»[27].
وبالتالي فإن فصل أوستن بين القانون والأخلاق لا يعني إنكاره أن محتوى القواعد القانونية قد يتم تحديدها إلى حد كبير من خلال الأخلاق، وأن هناك نقاط اتصال مهمة بينهما[28].

المحور الثاني. تفسير ونقد فلسفة نظرية القانون الوضعي لجون أوستن
سنحاول في هذا المحور العمل على طرح الإشكاليات التفسيرية لنظرية القانون الوضعي لجون أوستن، مع تحليل نقدي لنظريته.

1. تفسير فلسلفة نظرية القانون الوضعي عند أوستن
حتى لو افترضنا أن هدف أوستن كان خلق علم قانوني تجريبي empirical من خلال تعاريفه الاصطلاحية، فإن نظريته بشأن القانون الوضعي تطرح عددًا من الاشكاليات التفسيرية، وهي كالتالي:

أولًا: من الصعب تحديد ما إذا كان القانون، بالنسبة لأوستن، يتم تعريفه بشكل مجرد، أي كقانون قائم بذاته ولا يحتاج إلى تقويم، أو بما كان من المفترض أن يحدث أثناء تطبيق القانون أي غاياته. وحتى إن اعتبر الواقعيون القانونيون في القرن العشرين أن القانون هو ما يحدث بالفعل، وأن أي شيء آخر لا أهمية له من الناحية القانونية، فإن التوجه والمغزى الرئيسي للفقه القانوني التقليدي من جهة أخرى ينظر إلى القانون باعتباره أمرًا توجيهيًا، بمعنى أنه يشير إلى ما يفترض أن يحدث إذا تم اتّباع قواعده. كما أن أوستن كان له توجّه مشابه لنظرية هوبز؛ خاصة من خلال وصفه الغريب والمربك للحاكم كمجموعة من الأشخاص الفعليين الذين يمتلكون السلطة وآليّات إنزال العقاب. وبالمثل بالنسبة لهوبز، فإن السلطة يجب أن تتركّز في يد الأشخاص الواقعيين، وليس المثاليين أو الافتراضيين، مما يجعل تعريف أوستن للحاكم كهيئة ذات سيادة عرضة للانتقادات؛ لأنه لا يميز بين الغاية السليمة والفاسدة للقانون.
الصعوبة الثانية: هي وجهة نظر أوستن بشأن العلاقة بين القانون والقيم الأخلاقية، فهو يؤكّد بشكل لا لبس فيه أن وجود القانون شيء، وأن صلاحه أو فساده شيء آخر، ويصرّ على أن عمل الفقيه القانوني ليس انتقاد القانون أو تحسينه بل الأخذ به كما هو. فهذا الموقف متوقّع من شخص كان يعيد تنظيم العلوم القانونية على شكل نموذج العلوم الفيزيائية، لكنه يتعارض مع وجهة النظر التقليدية التي تعتبر بأن جزءًا مهمًا من وظيفة رجال القانون هو محاولة إجراء تغييرات تهم تعزيز نجاعة القانون.

فرغم أن أوستن لا ينفي بتاتًا بأن القانون يجب أن يكون ثابتًا ولا يتغير، أو أن يكون مستقلًا بشكل قطعي عن الأخلاق. فهو يعتبر أن إصلاح القانون ليس من وظيفة العلوم القانونية، بل يعد من القضايا الأخلاقية بشكل عام وعلم التشريع بشكل خاص. فهو لا يحصر عملية صنع القوانين في البرلمان، ولكنه يسمح بالتشريع القضائي أيضًا، وهذا يعني أنه يجوز للقاضي أن يرتدي قبّعتين، إحداهما تمثّل الوظائف التفسيرية والأخرى تمثّل الجانب التشريعي من خلال الاجتهاد القضائي. فهذا قد يعني أن كل شخص مرتبط بالقانون (المحامي…) له قبعتان قانونية وتشريعية، والتي يجب خلعها أو ارتداؤها أثناء سير العمل القانوني.[29].

ثالثًا: كان أوستن ملزمًا بالنظر في غايات وأهداف القانون على الرغم من تعريفه للقانون على أنه مجموعة من الأوامر، فقد كان مدركًا لحقيقة أن «الأوامر لا تنبع من أشياء مجردة، بل من كائنات حية وعقلانية».
وعلى هذا النحو، فإن أولئك الذين يعملون على صياغة الأوامر ملزمون بالنظر في الغايات المناسبة التي يجب على الأشخاص اتّباعها في سلوكهم. فعند هذه النقطة، أكّد أوستن على العلاقة الوثيقة بين شريعة الإله والقانون الوضعي. فعلى الرغم من أنه لم يخلط بين الاثنين أبدًا، إلا أنه جادل بأن القانون الوضعي يجب أن يصاغ وفقًا للشريعة الإلهية، إما عن طريق الوحي المباشر أو من خلال «مؤشّر» المنفعة "index of utility. بما أن الله يريد خير جميع مخلوقاته، فمن الممكن تحديد صلاح أو صواب القانون بمجرد تطبيق اختبار المنفعة: مثلًا: هل هذا القانون يساهم في سعادة الإنسان والمجتمع أو صلاحه؟

فعلى ما يبدو أن أوستن تصوّر القانون على أنه نظام ينبع من شيء أساسي في طبيعة جميع البشر وجميع المجتمعات، كما لو كان يعني أن طبيعة المجتمع تشكّل أساس القانون، وبالتالي أساس الطاعة في نهاية المطاف، ليس بسبب الطبيعة الإلزامية للأوامر بل بالأحرى نتيجة التصور العام لدى المواطنين بشأن فائدة الحكومة (الهيئة ذات السيادة)[30].

نقد نظرية القانون الوضعي لجون أوستن:
لا شك فيه أنه عندما أصر أوستن على التمييز بين القانون كما هو وكما ينبغي أن يكون، كانا يعني القوانين الوضعية، واعتبر بأن مثل هذه القوانين، حتى لو كانت منحطّة أخلاقيًا، فإنّها لا تزال تعدّ قوانين بمعناها الصحيح.

أولًا. علاقة مفهوم القانون بالعدالة لدى أوستن:
لقد طوّر نظريته بشكل واضح كبديل متفوّق لنهج القانون الطبيعي من خلال تمييزه بين القانون الوضعي والأخلاق الوضعية. حيث اعتبر أن القانون الوضعي يتكوّن من أوامر عامة يضعها وينفّذها صاحب السيادة في «مجتمع سياسي مستقلّ». فالسيادة، في رأيه، هي السلطة العليا في مثل هذا المجتمع؛ والمواطنون في المجتمع عمومًا يطيعون أوامره، في حين أنه (الحاكم) لا يطيع عمومًا أي قوة دنيوية أخرى؛ ولذلك يصبح من الأهمية بمكان بالنسبة لوجهة نظر أوستن حول القانون أن يتم تعريف السيادة من حيث القوة والسلطة فقط، وليس من حيث العدالة أو أي مفهوم أخلاقي آخر. ويمكن أن نستنتج أن أوستن يعتقد أن القوة تصنع السيادة، وبما أن صاحب السيادة يصنع قانونًا وضعيًّا وفقًا لرغباته وأمنياته، فقد لا يحتاج حتى إلى الادّعاء بأنه يحكم بالعدل أو من أجل الصالح العام، كما أن السلطة وفقًا لأوستن جعلت بعض الأشخاص أو الجماعات والهيئات ذات سيادة لا تحتاج أن تتوفر على أي مؤهِّل أخلاقي. وبناءً على هذا المنظور، فإن الوضعية القانونية التحليلية لأوستن تقوم بتهميش هوية القانون باعتباره يمثّل السلطة الاجتماعية العليا ورمًزا للعدالة والإنصاف[31].

ثانيًا. الافتراض «غير المبرّر» لالتزام المواطنين بالقانون الوضعي
أثناء طرح نظريته عن الوضعية، افترض أوستن أن المواطنين يتميّزون بشكل تلقائي ب «عادة الطاعة» “habit of obedience” اتجاه صاحب السيادة. ومع ذلك، لم يشرح أوستن السبب وراء طاعة الجزء الأكبر من المجتمع للحاكم في مجتمعه «المفترض» السياسي والمستقلّ. كما لم تشرح نظرية أوستن «استمرارية السلطة»، ولم تتمكّن من تفسير الانتقال المنظّم للسلطة السيادية على أساس «نظرية الأوامر». ويمكن دحض الافتراض حول «عادة الطاعة» الذي اعتمده أوستن لتفسير نظريته، وذلك من خلال التأمّل في تاريخ الإنسانية المليء بحالات الحرب والعصيان ضد الدولة، والاضطرابات والثورات... حيث لا يمكن اعتبار الخضوع التلقائي والمستمرّ في الزمان لقوانين الحاكم أمرًا مفروغًا عنه، وبالتالي فإن الافتراض بعادة أو سمة الطاعة لدى المواطنين هو فرضية خاطئة. وهو ما أكّده عالم الاجتماع الإيطالي فيلفريدو باريتو Vilfredo Pareto في نظريته حول الميزة أو المنفعة المتبادلة (Pareto Optimality)[32] التي تعني أن النظام السياسي يعمل على أساس «المنفعة المتبادلة»، وليس لأنّ المواطنين بليدون ومطيعون وساذجون حسب افتراض أوستن الواسع «لعادة الطاعة».

ثالثًا. الإفراط في تبسيط مفهوم الحاكم صاحب السيادة
إن الفرضية الأوستنية للحاكم تجعل وظيفته بسيطة وغير معقّدة، وهو ما يختلف تمامًا عن الواقع السياسي لممارسة الحكم في العصر الحديث. فالأشخاص الذين يشكّلون الكيان السيادي ليسوا مجرّد «أشخاص» غامضين ذوي الأخلاق الوضعية، وليس فقط البرلمان أو السلطة القضائية أو أي مسؤول آخر في الدولة، فقد يمكن توسيع هذا المجال ليشمل جمهور الناخبين الذين يقومون بتفويض صلاحياتهم إلى المسؤولين الذين انتخبوهم وإلى المسؤولين الذين تم تعيينهم من قبل الهيئات المنتخبة. كما أن صاحب السيادة قد يختلف حسب طبيعة الأنظمة السياسية (الأنظمة الديمقراطية أو الشمولية والاستبدادية...). وبالتالي فإن نسخة أوستن بشأن الحاكم صاحب السيادة أمر غير منطقي، حيث لا يمكن تصوّره في النظم القانونية الحديثة[33].

كما لم يتفق أوستن مع فلاسفة العقد الاجتماعي على أن السيادة كانت نتاجًا لعقد اجتماعي بين الحاكم والشعب. فالشرعية هي نتاج اختراعات بشرية لتنظيم حياة المجتمع الذي كان يفتقر إلى “السياسة” (المجتمع قبل عقد السيادة أو العقد الاجتماعي)؛ لذلك «السياسة" و«السيادة» هما «توأمان زمنيان»، فإن التعاقد على تشكيل الحكومة هو عمل سياسي؛ لذلك لا يمكن الحكم على إسناد صلاحيات واسعة للحكومة إلا من خلال محكّ «تحقيق رفاهية المجتمع»، وبالتالي فإن الأخلاق، وليس السيادة، هي التي تقيس الرفاهية، خاصة وأن «السيادة» كانت الأداة التي استخدمها الحكّام فيما بعد (وليس شكل السيادة التعاقدية) للتغطية على آثامهم من خلال محاولة استبدال «الأخلاق» بـ «شرعية السيادة والحكم» باعتبارها معيار سنّ القوانين الوضعية[34].

رابعًا. إشكالية فصل القانون (الأوامر) عن الأخلاق:
إن الفصل بين القانون والأخلاق في نظرية القانون الوضعي لأوستن أمر مفهوم نتيجة لمحاولته التفريق بين النظام القانوني والنظام الأخلاقي والمعتقدات الدينية. لكن هذا الفصل لا يعكس المنطق الذي يعني أن النظام القانوني قد يحتوي على عناصر للمعتقدات الأخلاقية والدينية. وفي الواقع، فإن محاولة الوضعية القانونية التأكيد على أن القانون «ليس له أي دلالات أخلاقية على الإطلاق» قد أدى إلى حجب معنى وجوهر القانون. فإذا كان ثمّة افتراض مسبق في علم القانون بأن ما يمكن ملاحظته ماديًا فقط هو الذي سيكون له مكانه الصحيح في بناء نظرية القانون، فمن الواضح أنه لن يكون هناك مكان في النظرية القانونية لمفهوم العدالة مثلًا، أي أن علم القانون غير قادر على التعامل مع ظاهرة القانون بشكل شمولي.

لا في أنّه يفترض أن لا يكون ثمّة قانون لا يتضمن قيمًا أخلاقية. فينبغي أن تكون نظرية القانون الملائمة والمنطقية واسعة بما يكفي للتعامل مع كل الحقائق في ظاهرة القانون، بما في ذلك حقيقة القيم الأخلاقية. ولتكريس تلك القيم، فإن الاهتمام الأخلاقي للمشرّع هو الذي ينتج العنصر الأخلاقي للقانون. وعليه، ينبغي على المنظّر القانوني أن يأخذ بعين الاعتبار بأن القانون ليس مجرّد قوة مجرّدة، بل هو دائمًا قوة مقترنة بـ «الأهداف»، فحينما اعتبر أوستن أنه يجب على المواطنين أن يطيعوا ويلتزموا بالقانون ليس لأي أسباب أخلاقية، بل بسبب وجود تهديد باستخدام القوة من خلال العقاب، فقد تم إعادة تصور مفهوم الالتزام بالقانون بشكل جذري. فرغم أهمية العقوبة في مجال تفعيل القاعدة القانونية، فإنه نادرًا ما كان هناك مثل هذا الفصل الحاسم بين الأخلاق أو العدالة عن هيكل القانون. وهذا له تأثير، مرة أخرى، في جعل القوة والسلطة هي المبدأ الأساسي للقانون حسب أوستن. ولكن كما أكّد كوستاف رادبروخ [35] Radbruch Gustav «لا يمكن للقاعدة القانونية أن يكون لها طابع الأمر، بل يجب أن تكون حكمًا على القيم. شكله الأساسي ليس: افعل هذا! أو: امتنع عن ذلك! ولكن: هذا لا بد منه من أجل العدل والصالح العام». مما يعني أن القانون يُستخدم دائمًا عند تلك النقطة التي يواجه فيها الأشخاص بدائل حقيقية في سلوكهم، ويستخدم القانون للإشارة إلى الاتجاه الذي يجب عليهم اتّباعه في مواجهة العديد من طرق السلوك والتصرّفات المحتملة. فالمشاركة في صياغة القواعد القانونية لتوجيه السلوك هو على وجه التحديد اهتمام أخلاقي، وعند هذه النقطة تصبح وظيفة القانون والأخلاق هي نفسها. وهكذا لا يمكن للقانون أن يكون له أي معنى آخر، ولا يمكن أن يكون «فكرًا» إذا لم يُنظر إليه على أنه الوسيلة التي يواجه بها الأفراد والجماعات ضرورة اختيار «ما يجب" القيام به أو الامتناع عنه»[36].

خاتمة:
رغم انتقاد الوصف الضيق والمركزي للحاكم وافتراض عادة الطاعة لدى المواطنين من خلال نظرية القانون الوضعي لجون أوستن، فإن الواقع السياسي في العديد من الدول (الديمقراطية) يشهد تركيز السلطة؛ عبر تخصيص الصلاحيات التشريعية في أيدي فئة صغيرة من المهنيين التكنوقراط والسياسيين والذين تعكس تقاليدهم القانونية وأيديولوجياتهم مصالح المجتمع بشكل ضيق ومصالح النخبة بشكل أوسع في أغلب الأحيان. كما أن جلّ الإصلاحات القانونية الحالية المبنية على الحداثة والملائمة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان (النوع الاجتماعي، الحريات الفردية...) تقع ضمن خطاب قانوني يعتبر أن فصل القانون عن التقاليد والأخلاق والمرجعيات الثقافية ينسجم مع القانون الدولي الوضعي الذي تمّ تفسيره وتطويره في الواقع ليكون بمثابة مبرّر من أجل الهيمنة الأيديولوجية.

وفي الوقت نفسه، فإن جون أوستن من خلال نظريته بشأن الوضعية القانونية قد ولّد فهمًا يعتبر أن الفصل بين القانون والأخلاق أمر واقعي ومحتمل في الكثير من الأحيان في مجال صناعة القانون على المستوى العملي، من خلال التمييز بين ما يجعل القاعدة موجودة كمعيار قانوني وما الذي يجعل القاعدة موجودة كمعيار أخلاقي، وبالتالي يمكن قبول القواعد القانونية كقانون طالما أنها تستوفي المعايير الرسمية لصناعة التشريع، بغض النظر عن حضور أو غياب الطابع الأخلاقي عن تلك القواعد القانونية.
وبالتالي، فإن دراسة الفقه ليس بأي حال من الأحوال مسارًا واحدًا يتكوّن من أسئلة وأجوبة واضحة، لأنه يشمل مدارس فكرية متنوّعة قد يجد الفلاسفة صعوبة في مواءمتها في نظرية واحدة متماسكة. ومع ذلك، فإن التحقيق في طبيعة القانون أمر حتمي، فلا ينبغي لعمل المفكر جون أوستن أن يكون بمثابة رادع للمحاولات المستقبلية، بل يجب أن يكون تحديًا للقيام بعمل أفضل.

قائمة المصادر والمراجع:
المراجع باللغة الإنجليزية:
المقالات:
1) BANOVIĆ, Damir About John Austin’s analytical jurisprudence: The empirical¬ -rationalist legal positivism. International and Comparative Law Review, 2021, vol. 21, no. 1, pp. 242–243. DOI: 10.2478/iclr -2021 -0010.
2) Fiorenzo Mornati, «Pareto Optimality in the work of Pareto», Revue européenne des sciences sociales [En ligne], 51 -2 | 2013, mis en ligne le 01 janvier 2017, consulté le 19 mars 2024. URL :
http://journals.openedition.org/ress/2517 ; DOI : https://doi.org/10.4000/ress.2517.
3) Hart, H. L. A. “Positivism and the Separation of Law and Morals.” Harvard Law Review, vol. 71, no. 4, 1958, pp. 593–629. JSTOR, https://doi.org/10.2307/ 1338225.
4) Isabel Turégano Mansilla. “Reconstructing Austin’s Intuitions: Positive Morality and Law”. In: Freeman, M.,
5) Kronman, Anthony “Hart, Austin, and the Concept of a Legal System: The Primacy of Sanctions.” The Yale Law Journal, vol. 84, no. 3, 1975, pages. 602–606. JSTOR, https://doi.org/10.2307/ 795466
6) Mindus, P. (eds) The Legacy of John Austin's Jurisprudence. Law and Philosophy Library, vol 103. Springer, Dordrecht. (2013). Page 10.
https://doi.org/10.1007/978 -94 -007 -4830 -9_15
7) Miura, Motoki. “Re -examining Austin’s Command Theory.” Cambridge Legal Theory Symposium (2018). Pages 3 -7. https://hdl.handle.net/10086/29572
8) Mumford, Nicole. “Persuasion: Austin, sanctions and the legal status of international law”. Perth International Law Journal, 6 (2021). Pages 2 -6. https://search.informit.org/doi/10.3316/informit.026559263260377
9) Radbruch, Anglo -American Jurisprudence Through Continental Eyes,
52 L. Q. Rzv. 534 (1936).
10) Richard T. Bowser and J. Stanley McQuade, Austin's Intentions: A Critical Reconstruction of His Concept of Legal Science, 29 Campbell L. Rev. 47 (2006).
11) Samuel E. Stumpf, Austin's Theory of the Separation of Law and Morals, 14 Vanderbilt Law Review 117 (1960) Available at: https://scholarship.law.vanderbilt.edu/vlr /vol14 /iss1/ 6
12) Scott, James B. “The Legal Nature of International Law.” Columbia Law Review, vol. 5, no. 2, 1905, pages 128–132. JSTOR, https://doi.org/10.2307/1109809.
13) Singh, Prabhakar, 'Austin's Positivism': Is it a Retrospective Investigation of Contractualist’s Sovereign? Locating Hobbes’ Theory in the History of 'Sovereign’s Debate' (April 16 2009). Global Jurist Topics, Vol. 6, No. 2, Article 1, 2006, Available at SSRN: https://ssrn.com/abstract=1386562
14) Singh, Prabhakar, 'Austin's Positivism': Is it a Retrospective Investigation of Contractualist’s Sovereign? Locating Hobbes’ Theory in the History of 'Sovereign’s Debate' (April, 16 2009). Global Jurist Topics, Vol. 6, No. 2, Article 1, 2006, pages 8 - 10. Available at SSRN: https://ssrn.com/abstract=1386562
15) Wilfrid E. Rumble, Legal Positivism of John Austin and the Realist Movement in American Jurisprudence, 66 Cornell L. Rev. 986 (1981), page 986.

Available at: http://scholarship.law.cornell.edu/clr/vol66/iss5/4

--------------------------------
[1]* - كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ـ المغرب.
[2] - جون أوستن (1790 -1859) كان فقيهًا وفيلسوفًا قانونيًا بريطانيًا. بعد أن خدم في الجيش البريطاني، أصبح محاميًا في سنة 1818، وبعد ذلك تخلّى عن ممارسة المحاماة وفضّل دراسة القانون، وأصبح أستاذًا في الفقه في جامعة لندن خلال الفترة الممتدة من 1829 و1833. وشملت منشوراته كتاب بعنوان «مقاطعة الفقه المحددة» (1832).
[3] - BANOVIĆ, Damir About John Austin’s analytical jurisprudence: The empirical -rationalist legal positivism. International and Comparative Law Review, 2021, vol. 21, no. 1, pp. 242–243. DOI: 10.2478/iclr -2021 - 0010.
[4] - Wilfrid E. Rumble, Legal Positivism of John Austin and the Realist Movement in American Jurisprudence, 66 Cornell L. Rev. 986 (1981), page 986.
Available at: http://scholarship.law.cornell.edu/clr/vol66/iss5/4
[5] - Wilfrid E. Rumble, Ibid, page 1007.
[6] - ويليام بلاكستون (1723 1780) كان فقيهًا إنجليزيًا، وله تعليقات على قوانين إنجلترا، أهمها المجلد رقم 4، هو الوصف الأكثر شهرة لمذاهب القانون الإنجليزي.
[7] - Samuel E. Stumpf, Austin’s Theory of the Separation of Law and Morals, 14 Vanderbilt Law Review 117
(1960) page 117.
[8] - BANOVIĆ, Damir About John Austin’s analytical jurisprudence: The empirical -rationalist legal positivism. Supra, pages 243 - 247.
[9] - Miura, Motoki. “Re -examining Austin’s Command Theory.” Cambridge Legal Theory Symposium (2018). Pages 3 -4. https://hdl.handle.net/10086 /29572
[10] - Miura, Motoki. “Re -examining Austin’s Command Theory Supra. Pages 3 - 7.
[11] - Wilfrid E. Rumble, Legal Positivism of John Austin and the Realist Movement in American Jurisprudence, 66 Cornell L. Rev. 986 (1981), page 991.
Available at: http://scholarship.law.cornell.edu/clr/vol66 /iss5/ 4
[12] - Wilfrid E. Rumble, Legal Positivism of John Austin and the Realist Movement in American Jurisprudence, Supra, pages 991 - 996.
[13] - Samuel E. Stumpf, Austin’s Theory of the Separation of Law and Morals, Supra. pages 120 - 123.
Available at: https://scholarship.law.vanderbilt.edu/vlr/vol14/iss1 /6
[14] - BANOVIĆ, Damir, Supra, pages 254 - 255.
[15] - Kronman, Anthony “Hart, Austin, and the Concept of a Legal System: The Primacy of Sanctions.” The Yale Law Journal, vol. 84, no. 3, 1975, page. 602 JSTOR, https://doi.org/10.2307/ 795466
[16] - Kronman, Anthony, Ibid, page 604.
[17] - Kronman, Anthony “Hart, Austin, and the Concept of a Legal System: The Primacy of Sanctions.” Supra, pages. 602–606.
[18] - Scott, James B. “The Legal Nature of International Law.” Columbia Law Review, vol. 5, no. 2, 1905, pages 128–129. JSTOR, https://doi.org/10.2307/ 1109809.
[19] - Scott, James B. “The Legal Nature of International Law.” Supra, page 131.
[20] - Scott, James B. Ibid, pages 131 - 132.
[21] - Scott, James B. Ibid, pages 128–132.
[22] - Mumford, Nicole. “Persuasion: Austin, sanctions and the legal status of international law”. Perth International Law Journal, 6 (2021). Pages 2 - 6.
https://search.informit.org/doi/10.3316/informit.026559263260377
[23] - Wilfrid E. Rumble, “Legal Positivism of John Austin and the Realist Movement in American Jurisprudence”, supra, pages -1007.
[24] - Wilfrid E. Rumble, Ibid. page 1008.
[25] - Wilfrid E. Rumble, “Legal Positivism of John Austin and the Realist Movement in American Jurisprudence”, supra, pages -1006 -1008.
[26] - Samuel E. Stumpf, Austin’s Theory of the Separation of Law and Morals, 14 Vanderbilt Law Review 117
(1960), pages 130.
[27] - Samuel E. Stumpf, Ibid, pages 129 - 130.
Available at: https://scholarship.law.vanderbilt.edu/vlr/vol14 /iss1/ 6
[28] - Isabel Turégano Mansilla. “Reconstructing Austin’s Intuitions: Positive Morality and Law”. In: Freeman, M., Mindus, P. (eds) The Legacy of John Austin’s Jurisprudence. Law and Philosophy Library, vol 103. Springer, Dordrecht. (2013). Page 10. https://doi.org/10.1007/ 978 - 94 - 007 - 4830 - 9_15.
[29] - Richard T. Bowser and J. Stanley McQuade, «Austin’s Intentions: A Critical Reconstruction of His Concept of Legal Science», 29 Campbell L.Rev. 47 (2006). Pages 56 - 57.
[30] - Samuel E. Stumpf, Austin’s Theory of the Separation of Law and Morals, supra, pages 148 - 149.
[31] - Singh, Prabhakar, ‘Austin’s Positivism’: Is it a Retrospective Investigation of Contractualist’s Sovereign? Locating Hobbes’ Theory in the History of ‘Sovereign’s Debate’ (April, 16 2009). Global Jurist Topics, Vol. 6, No. 2, Article 1, 2006, pages 8 -10. Available at SSRN: https://ssrn.com/abstract=1386562
[32] - Fiorenzo Mornati, « Pareto Optimality in the work of Pareto », Revue européenne des sciences sociales [En ligne], 51 - 2 | 2013, mis en ligne le 01 janvier 2017, consulté le 19 mars 2024. URL : http://journals.openedition.org/ress/2517 ; DOI : https://doi.org/10.4000/ress.2517 .
[33] - Richard T. Bowser and J. Stanley McQuade, “Austin’s Intentions: A Critical Reconstruction of His Concept of Legal Science”, Supra, pages 53 - 57.
[34] - Singh, Prabhakar, ‘Austin’s Positivism’: Is it a Retrospective Investigation of Contractualist’s Sovereign? Locating Hobbes’ Theory in the History of ‘Sovereign’s Debate’, Supra, page 21 - 223.
[35] - Radbruch, Anglo -American Jurisprudence Through Continental Eyes,
52 L. Q. Rzv. 534 (1936).
[36] - Samuel E. Stumpf, Austin’s Theory of the Separation of Law and Morals, supra, pages 140 - 144.