البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مراجعة كتاب فلسفة القانون: مقدمة قصيرة جداً

الباحث :  ادارة التحرير
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  34
السنة :  ربيع 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 26 / 2024
عدد زيارات البحث :  470
تحميل  ( 722.395 KB )
معلومات النشر:
ـ اسم الكتاب: Philosophy of Law: A Very Short Introduction
ـ اسم الكاتب: Raymond Wacks
ـ دار النشر: Oxford University Press
ـ تاريخ النشر: 2006
ـ عدد الصفحات: 145

معلومات حول الميدان المعرفي للكتاب
ينتمي الكتاب إلى مجال «فلسفة القانون» كما يظهر من عنوانه، وهو من الكتب التي تعتبر «مقدمة» لهذا العلم، وهو حلقة من سلسلة كتب صدرت عن جامعة أوكسفورد للتعريف بالحقول العلمية المختلفة الإنسانية وغير الإنسانية.
هذا الكتاب يتميّز بخاصيّة الشمول والبساطة في الوقت نفسه، فهو يقدّم شرحًا لأهم نظريات فلسفة القانون من باب طرح السؤال المحوري الذي دارت حوله النظرية، فالسؤال الذي مثّل الفصل الأول الجواب عليه هو: ما هو القانون؟ وهل ترجع حقيقته إلى مجموعة مبادئ أخلاقية متعالية عن النسبية والتعددية، بحيث يكون مصدرها الطبيعة المشتركة بين جميع البشر؟
أمّا الفصل الثاني، فقد كان جوابًا عن السؤال التالي: إذا لم يكن القانون يستند إلى المبادئ الطبيعية، فهل هو عبارة عن مجموعة من القواعد والأوامر والنواهي التي وضعتها اليد البشرية نتيجة الحركة الوضعية؟
أما الفصل الخامس، فكان عبارة عن سؤال العلاقة بين القانون والسياق الاجتماعي: وهل يمكن فصل القانون عن سياقه الاجتماعي الذي نشأ فيه والذي يمارس فعاليته فيه؟
وتبقى الفصول الثالث والرابع والسادس، والتي تجيب عن السؤال المركب التالي: هل القانون له غرض محدد مثل حماية الحقوق الفردية (الفصل الثالث)، أوتحقيق العدالة (الفصل الرابع)، أو المساواة الاقتصادية والسياسية والجنسية (الفصل السادس)؟

وبناء عليه توزّعت فصول الكتاب على النحو التالي:
1. القانون الطبيعي (Natural law).
2. الوضعية القانونية (Legal positivism).
3. القانون كتفسير (Law as interpretation).
4. الحقوق والعدالة (Rights and justice).
5. القانون والمجتمع (Law and society).
6. النظرية القانونية النقدية (Critical legal theory).

الفصل الأول: القانون الطبيعي
«الزواج المثلي غير قانوني لأنه أمر خارج عن الطبيعة»
«الإجهاض مسألة قبيحة وتعتبر قتلًا لنفس محترمة؛ ولذلك يجب أن يكون ممنوعًا قانونيًا»
«قبول الرشوة يجب أن يعاقب عليها القانون لأنها مسألة تتنافى مع طبيعة الأخلاق والقيم التي يحكم بها الوجدان».

هذه العبارات وأمثالها، تعبّر عن تعليلات قيمية ووجدانية، أو فقل تعليلات ناشئة من «طبيعة» الأشياء، بحيث تكون هذه التعليلات هي أساس التشريع والتقنين، وهذه هي نقطة الارتكاز الأساسية في «النظرية الطبيعية للقانون»، أو ما يسمى بالقانون الطبيعي.

ويذكر الكاتب أن القانون الطبيعي يستبطن اعترافًا ضمنيًا بوجود «حقائق أخلاقية متعالية» غير قابلة للتغيير، وإنّما هي أساس «حقيقي» للتشريعات، وتكون وظيفة العقل اكتشاف هذه الحقائق ومن ثم التشريع على طبقها، ومن هنا تقترب «فلسفة الأخلاق» من «فلسفة القانون» من حيث الاشتراك في الإجابة عن الأسئلة القيمية والأخلاقية الأساسية، والتي شغلت بال الفلاسفة منذ أرسطو، وبالتالي: عندما ننشغل بوضع القانون، فنحن منشغلون في الوقت نفسه في تحديد ما هو «جيد» و«خير»، وهذا يؤكّد عالمية القانون الطبيعي وثباته، ومكانته كقانون «أعلى»، وقابلية اكتشافه عن طريق العقل (وهو بهذا المعنى «طبيعي»).

وأما أعلام هذه النظرية في الفضاء الغربي، فبعد أرسطو والفلاسفة اليونانيين نجد أنه في القرون الوسطى الأوروبية كانت الكنيسة الكاثوليكية متمثّلة بأوغسطين أيضًا من أعلام النظرية الطبيعية للقانون، ونجد أن الطرح الأوسع لهذه النظرية تم على يد القدّيس توما الأكويني حيث قسّم أصناف القوانين إلى أربعة أصناف:

1. القانون الأبدي الإلهي، وهو الموجود في العقل الإلهي والذي لا يعرفه إلا الله.
2. القانون الطبيعي، وهو عبارة عن ما شاركه القانون الأبدي مع المخلوقات العاقلة والذي يمكن اكتشافه عن طريق العقل.
3. القانون الكنسي/ الدين، وهو القانون الذي جاء في النص الديني.
4. القانون البشري، وهو المؤيد من قبل العقل والذي يضعه لأجل الصالح العام.

ومن ثم يذكر أن القانون غير المطابق للقانون الطبيعي أو الديني هو فاقد لصفة القانون أصلًا؛ لذا لا بد أن يكون القانون مستندًا إما إلى العقل المكتشف لإرادة الله أو إلى النص الديني، وأما القانون الذي لا يكون كذلك كالقانون الوضعي، فلا قيمة قانونية له.
بحلول القرن السابع عشر في أوروبا، بدأ هوغو جروتيوس (1583–1645) مسيرة «علمنة القانون الطبيعي»، حيث طرح الفكرة التالية: «حتى لو لم يكن الله موجودًا، فإن القانون الطبيعي يبقى على حاله»، فالأشياء الصحيحة أو الخاطئة هي بنفسها كذلك، وليست مستندة في حسنها وقبحها إلى وجود الله.
وبحلول القرن الثامن عشر حصل القانون الطبيعي على الموافقة في إنجلترا في تعليقات السير ويليام بلاكستون القانونية، حيث حاول إرجاع القانون الوضعي الإنكليزي إلى أسس طبيعية، وهو ما أثار حفيظة جيريمي بنثام الذي اعتبر أن إكساء القانون الوضعي لباسًا طبيعيًا ليس إلا ضربًا من الخيال.

وصولًا إلى هوبز (1588 -1679) الذي جعل النظام فوق العدالة، وأن القيمة الأساسية تكمن في الحفاظ على النظام السياسي، وأن علينا التنازل عن حقوقنا الطبيعية كالحرية لأجل إيجاد مجتمع منظّم، وأن حالة المجتمعات هي حالة الخوف الدائم والصراعات الدائمة، ولا مجال للأخلاق الكلاسيكية في هذه الأجواء، ولذا يرى هوبز أنه المصلحة الذاتية للإنسان والعقد الاجتماعي وحدهما، يشكلان أساس استخلاص نفس أنواع القوانين التي يعتبرها المحامون الطبيعيون ثابتة في الطبيعة.
ويخلص هوبز إلى أن الأخلاق تتكوّن بالكامل من القوانين التي يتمّ التوصل إليها من خلال العقد الاجتماعي، وهذا تفسير مختلف للحقوق الطبيعية عن ذلك الذي يدعمه القانون الطبيعي الكلاسيكي، لكن روايته قد تحمل وجهة نظر حديثة للحقوق الطبيعية، وهي وجهة نظر مبنيّة على الحق الأساسي لكل شخص في الحفاظ على حياته.

وأخيرًا يلعب القانون الطبيعي دورًا أقل أهمية من العقد الاجتماعي في نظرية جان جاك روسو (1712 -1778)، حيث يعتبر العقد الاجتماعي لروسو (في كتابه العقد الاجتماعي) اتفاقًا بين الفرد والمجتمع يصبح الفرد بموجبه جزءًا مما يسميه روسو «الإرادة العامة»، ومن وجهة نظر روسو، من خلال استثمار «الإرادة العامة» مع السلطة التشريعية الكاملة، قد ينتهك القانون بعض الحقوق الطبيعية بشكل مشروع، وفي الواقع، إذا كانت الحكومة تمثل «الإرادة العامة»، فقد تفعل أي شيء تقريبًا، وعلى الرغم من أن روسو ملتزم بالديمقراطية التشاركية، فإنه أيضًا على استعداد لإعطاء السلطة التشريعية سلطة غير مقيدة تقريبًا بحكم أنها تعكس «الإرادة العامة»، إنها بالتالي مفارقة: فهو شمولي\ ديمقراطي.

تراجع القانون الطبيعي
يذكر المؤلف أن تراجع سطوة القانون الطبيعي في الفضاء الغربي في القرن التاسع عشر كان بسبب عاملين أساسيين:
1. العامل الأول: انتشار أفكار القانون الوضعي.
2. العامل الثاني: تراجع الاعتقاد بالحقائق الأخلاقية والحقوقية التي يمكن أن تكون ثابتة وعالمية.

فديفيد هيوم (1711 - 1767) يجادل بأن الحقوقيين والقانونيين الطبيعيين خلطوا بين «ما هو كائن» و«ما ينبغي أن يكون»، إذ يتعاملون مع الأمور الأخلاقية (ما ينبغي) تعاملهم مع الحقائق الوجودية (ما هو كائن).
ومع القرن العشرين وبتأثير من الحروب العالمية شهد العالم نهوضًا جديدًا للقانون الطبيعي مع رواج مفاهيم حقوق الإنسان، ولكن بتعديل حاصله أن القانون الطبيعي لا يقف مقابل القانون الوضعي، وهو ليس «قانونًا» أعلى من القانون الوضعي، بقدر ما هو عاملُ ضبطٍ للتشريعات الوضعية وكمعيار يمكن قياس عملية التقنين الوضعي به.

وهنا نشهد محاولات عدة:
أوّلها: محاولة لون فولر (1902 -1978) فيما أسماه الأخلاق الداخلية للقانون، حيث حاول صياغة مقاربة علمانية للقانون الطبيعي، فوضع ثمانية مبادئ أخلاقية تضمن كون القانون الوضعي ذا أخلاق داخلية، ولولا هذه المبادئ لخرج القانون الوضعي عن كونه قانونًا.
ثانيها: محاولة جون فينيس (1940 -) فيما أُطلق عليه «النظرية المعاصرة للقانون الطبيعي»، حيث رفض فكرة هيوم حول العقل العملي، هذه الفكرة التي تقول: «عقلي يخبرني ماذا أرغب أن أقوم به ولا يخبرني ماذا يجب أن أرغب به»، حيث يذكر فينيس انتصارًا للقانون الطبيعي، وتبعًا للنظرية الأرسطية في العقل العملي، أن هناك سبعة أمور تحقق ازدهار حياة الإنسان: الحياة\ المعرفة\ اللعب\ التجارب الجمالية\ العلاقات الاجتماعية\ المعقولية العملية\ الدين(بمعنى التجربة الروحية)، وكل واحدة من هذه القيم هي أمور ثابتة وعالمية وليست نسبية.

الفصل الثاني: القانون الوضعي
تكمن الوضعية الكلاسيكية في تفسير القانون بأنه «مجموعة من الالتزامات والأوامر» في الطرح الذي قدمه جيرمي بينثام (1748 - 1832) وجون أوستين (1790 - 1859)، ويتبنّى الوضعيون القانونيون المعاصرون نهجًا أكثر تطورًا إلى حد كبير تجاه مفهوم القانون، لكنهم، مثل أسلافهم، ينكرون العلاقة التي يقترحها القانون الطبيعي، بين القانون والأخلاق، وبعبارة أخرى جوهر الوضعية القانونية هو الرأي القائل بأن صلاحية أي قانون يمكن إرجاعها إلى مصدر يمكن التحقّق منه بشكل موضوعي، وهذا أمر غير متيسّر على القول بالقانون الطبيعي.
إذا أردنا أن نرصد الوضعية في سياقاتها المختلفة، فإن الوضعية الكلاسيكية كما ذكرنا تطرح «وضعية» القانون في كونها ظلًّا للأوامر التي يصدرها مصدر السلطة، وتمثّل هذا الرأي عند بينثام وأوستين، وفيما بعد نظر «هربرت هارت» و«هانس كلسن» إلى الوضعية بأنها تتمركز حول مفهوم «الاعتراف الاجتماعي» بالقانون وقبوله، وبتعبير آخر «القانون بوصفه قواعد اجتماعية» لا بوصفه «أوامر ونواهي سلطوية».

في الوضعية الكلاسيكية، لا سيما عند أوستين، تم التمييز بين نوعين من القانون:
1. القانون البشري: وهو القانون الذي يضعه إنسان لإنسان آخر، وينقسم إلى قسمين بدوره، قسم يضعه إنسان من موقع سلطته السياسية لإنسان آخر، وقسم لا يكون الواضع الذي يضع القانون مشرّعًا من منطلق سلطوي كالأعراف مثلًا.
2. القانون الإلهي: والقانون هو فقط ذلك الذي يضعه إنسان من موقع السلطة لإنسان آخر، وما سوى ذلك – عند أوستين - ليس قانونًا حقيقة، وبالتالي هذا الأمر جرّ أوستين للقول بتقليص الفرق بين مفهوم العقوبة والواجب القانوني، مثلًا لا معنى للقول بوجود عقوبة قانونية على مخالفة فالأعراف، وبإخراج هذه الأمور كالأعراف عن حقيقة القانون انحصر القانون الوضعي بالعلاقة السلطوية، وبالتالي بالقول بالتلازم بين الواجب والعقوبة، وهذا الأمر كان محلًّا للنقد عند فلاسفة القانون، حيث رفضوا القول إنه مع غياب العقوبة لا معنى للباعث نحو الالتزام بالواجب القانوني.

«القانون بوصفه أوامر ونواهي سلطوية» صار محلّ نقد عند الوضعيين الذين جاؤوا بعد أوستين وبينثام، وهم «هربرت هارت، وهانس كلسن، وجوزيف راز»، الذين نظروا إلى القانون الوضعي بوصفه «قواعد اجتماعية».

ناقش هارت (1907 - 1992) بأنه لا معنى لفهم الحقوق والقانون بمعزل عن سياقه الاجتماعي الذي ينمو ويتطور داخله، والملاحظ أنه وظّف شعارات القانون الطبيعي دون أن يقصد بها ما كان يقصده فلاسفة القانون الطبيعيين، غاية الأمر أنه أراد أن يبعد نظريته ويميّزها عن نظرية الأوامر والنواهي القانونية عند أوستين وبينثام وعن نظرية المنفعة من جهة أخرى، وجوهر نظريته القبول بقواعد أساسية في أي مجتمع بحيث تكون العنصر الذي يتكئ عليه المشرّعون لسنّ القوانين، وهذه القواعد قد تكون أخلاقية أو غير ذلك، وأهم القواعد ما يسمّيه بقاعدة التعرّف، وهي القاعدة الدستورية الأساسية للنظام القانوني، وتعدّ قاعدة التعرّف القاعدة الأساسية للقواعد الثانوية، وتشكل معيار البتّ في صلاحية القواعد القانونية، فهي قاعدة تهتمّ بتحديد القواعد الصحيحة للقانون، وهي قاعدة تحضر في النظام القانوني بشكل غير معلن عنه، إذ لا يتمّ ذكرها، لكن وجودها يظهر بجلاء من خلال الطريقة التي يتمّ وفقًا لها تحديد قاعدة قانونية معينة من الجهات المخوّل لها مهمة القيام بذلك.
وأهم عنصر يتفرّع على مقولة هارت هو أن المجتمع إنما عليه أن يقبل القانون «من الداخل» لا من السلطة الخارجية، وهذا «الداخل» هو القواعد الاجتماعية.
طرح هانس كلسن (1881 - 1973) «القانون كمعايير» في نظريته القانونية البحتة -كما تسمى - مقابل الطرحين السابقين : القانون كظلّ للسلطة والقانون كسياق وقواعد اجتماعية، حيث أصرّ على أن الطبيعة الأساسية للقانون تستمدّ من القواعد التي تشمل القرارات القضائية والمعاملات القانونية مثل العقود، وليس للعناصر الخارجية أي مدخليّة في طبيعة القانون، فالقانون هو قانون فقط.
وجدير بالذكر أن هانس كلسن تأثّر بالمقولة الكانطية التي تقول إن المعرفة الإنسانية تموضع الأمور وتصنّفها ضمن مقولات الزمان والمكان وغيرها، وبالتالي لا ينبغي أن نطلب معرفة «الواقع» الموضوعي؛ لأن المعرفة «ذاتية» دائمًا، فكذلك علينا أن نتعامل مع القانون تعاملًا تصنيفيًا، بناء على قوالب معيارية إنسانية خاصة، ولا نسعى كما يسعى الطبيعيون إلى معرفة «الطبيعة» في الواقع.

وبنظر كلسن، إن القوانين هي أسلوب الدولة لتحقيق التنظيم الاجتماعي، وهذه المعايير التي تقوم عليها القوانين توفر عقوبات في حالة عدم الالتزام بها، ولذلك تختلف القواعد القانونية عن القواعد الأخرى من حيث إنها تفرض عقوبة على المخالفة، ويقوم النظام القانوني على إكراه الدولة؛ ووراء قواعدها يكمن التهديد باستخدام القوة، وهذا ما يميز جابي الضرائب عن السارق، فكلاهما يطالب بأموالك، وبعبارة أخرى، كلاهما يُظهِر أن «عليك» أن تدفع، لكن «إيجاب» جابي الضرائب يكون صحيحًا لأنه موضوعي، بخلاف أمر وإيجاب السارق الذي طابعه «ذاتي» لا موضوعي، والموضوعية المقصودة هنا هي وجود «قاعدة أساسية» يستند إليها الجابي لأخذ المال، وعدم وجود مثل هذه القاعدة بالنسبة للسارق، وبالتالي فإن نموذج كلسن للنظام القانوني عبارة عن سلسلة من القواعد المترابطة التي تبدأ من «الواجبات» الأكثر عمومية إلى الأكثر خصوصية، وكل معيار في هذا النظام الهرمي يستمدّ صلاحيته من معيار أعلى آخر، وتعتمد صلاحية جميع القواعد في النهاية على القاعدة الأساسية.
بعد ذلك يأتي الوضعي الصارم جوزيف راز (1939 -) الذي بنى نظريته القانونية على أن القانون إنما يكتسب هويته ووجوده من ثلاثة عناصر: الفعالية، والطابع المؤسساتي، والمصادر، ومن هنا يفصل بشكل واضح جدًا بين الأخلاق والقانون، ولا يعتبره شرط «صحة» للقانون كما ذهب إليه «هارت»، بل يقول راز إن القانون قادر على توجيه سلوكنا أكثر مما تفعله الأخلاق.

وأخيرًا، يقال في بعض الأحيان إن ما يميز القانون هو أنه يتوافق مع المثل العليا لسيادة القانون، والاعتقاد بأن لا أحد فوق القانون، ومن المؤكّد أن بعض الباحثين يؤكد على أن هذا يدل على أن القانون أخلاقي بالفعل، يحاول راز دحض هذا الأمر من خلال القول إنه في حين أن الامتثال لسيادة القانون يقلل من إساءة استخدام السلطة التنفيذية، إلّا أنه لا يمنح القانون ميزة أخلاقية مستقلة، لأن خطر السلطة التعسّفية ينشأ عن القانون نفسه، ويخلص بالتالي إلى أنه، حتى في ظل نظام قانوني منصف وعادل، لا يوجد واجب ظاهري للامتثال للقانون.

الفصل الثالث: القانون كتفسير
اهتزّت أسس الفلسفة القانونية في السبعينات من القرن الماضي بسبب أفكار القانوني الأمريكي رونالد دوركين (1931 - 2013)، حيث ذكر أن القانون لا يمكن أن يكون شكليًا فقط، بل يتألف من قواعد ومعايير غير مقعّدة، وهذه المعايير قد تكون سياسية أو أخلاقية، وبالتالي فإن المقنّن أو القاضي قد يلجأ في بعض القضايا الصعبة أو قواعد القوانين غير المنصوصة إلى الحكم بناء على هذه المعايير.
ويتمثّل القلق الأساسي في فلسفة دوركين القانونية في قضية «الحقوق»، حيث يعتقد أن الوضعية القانونية قد أهدرت أهمية الحقوق الفردية لصالح القوانين؛ ولذلك ذكر أنه لا بد من أخذ الحقوق على محمل الجد وعدم إهدارها ولو لحساب رفاهية المجتمع مثلًا.
فدوركين يحاول تقديم نظرية في فلسفة القانون يدّعي أنها ليبرالية، ولكن لا بالمعنى السائد لليبرالية التي تختزل حقوق الفرد في إطار التشريعات المنصوصة، بل يعتقد بوجود حقوق أخلاقية سابقة على القانون للفرد، مع تأكيده على أن هذه الأسبقية لا تعني القول بالمذهب الطبيعي للحقوق أو الاستناد إلى مبدأ ميتافيزيقي لها.

الفصل الرابع: الحقوق والعدالة
يعتبر البحث عن العدالة من الأبحاث اللصيقة بالبحث القانوني الحقوقي، وقد شغلت الأسئلة حول العدالة حيّزًا واسعًا عند منظّري القانون، ومن هنا يستعرض الكاتب في هذا الكتاب أهم المواقف النظرية في الفضاء الغربي حول العدالة.
عادة ما تكون نقطة الانطلاق لأي تحليل للحقوق هي التحليل المعروف للفقيه الأمريكي ويسلي هوهفيلد (1879 -1918)، لقد حاول توضيح الاقتراح القائل بأن «لـ X الحق في القيام بـ R» والذي قال إنه قد يعني واحدًا من أربعة أشياء. أولًا: قد يعني ذلك أن Y (أو أي شخص آخر) يقع عليه واجب السماح لـ X بالقيام بـ R؛ وهذا يعني، في الواقع، أن X لديه مطالبة ضد Y. وهو يسمي هذه المطالبة حقًا ببساطة “الحق”. ثانيًا: قد يعني أن X حرّ في فعل شيء ما أو الامتناع عن القيام به؛ «Y» لا يدين بواجب تجاه «X». فهو يسمي هذا «امتيازًا» (على الرغم من أنه غالبًا ما يوصف بأنه «حرية»). ثالثًا: قد يعني أن X لديه القدرة على القيام بـ R؛ X هو ببساطة حر في القيام بفعل يغير الحقوق والواجبات القانونية أو العلاقات القانونية بشكل عام (على سبيل المثال، بيع ممتلكاته)، سواء أكان لديه حق المطالبة أو امتياز للقيام بذلك أم لا، وهوهفيلد يسمي ذلك «قدرة» أو قوة، أخيرًا، قد تشير الحقوق والعدالة إلى أن X لا يخضع لسلطة Y (أو أي شخص) لتغيير الوضع القانوني لـ X وهو يسمي هذا «الحصانة».
ثم يشير الكاتب إلى قضية مهمّة، وهي أن منظور الحقوق في الفضاء الغربي يقع إلى جانبه منظوران آخران فيما يتعلق بالقانون والأخلاق، لتكون المنظورات ثلاثة:

1. النظريات القانونية والأخلاقية المبتنية على الحقوق.
2. النظريات المبتنية على الواجب.
3. المنظورات المبتنية على المنفعة.

وأما بخصوص بحث العدالة، فإن العدالة بين الأفراد لا تقل إشكالية من التحدي المتمثل في العدالة الاجتماعية من قبيل إنشاء مؤسسات اجتماعية وسياسية لتقسيم الثروات بشكل عادل، حيث تميل التفسيرات الحديثة للعدالة إلى التركيز على الكيفية التي يمكن بها للمجتمع أن يوزّع أعباء وفوائد الحياة الاجتماعية بشكل أكثر عدالة، إحدى النظريات المؤثرة بشكل خاص هي نظرية النفعية، وبديلها الحديث التحليل الاقتصادي للقانون.
العدالة، وفقًا للنفعيين، تكمن في تعظيم السعادة، أشهرها ما قاله جيريمي بنثام أنه بما أننا نسعى جاهدين في حياتنا اليومية لنكون سعداء ونتجنب الألم، فيجب أيضًا هيكلة المجتمع لتحقيق هذا الهدف.

وتتمتع النفعية بجاذبية كبيرة تتمثل في استبدال الحدس الأخلاقي بفكرة واقعية عن السعادة الإنسانية كمقياس للعدالة، لكن النظرية واجهت منذ فترة طويلة نقدًا حاصله أن النفعية تعتبر البشر وسيلة وليس غايات في حد ذاتهم.
ثانيًا: يذكر معارضو النفعية أنه على الرغم من أن النفعية تعامل الأفراد على قدم المساواة، فإنها تفعل ذلك فقط من خلال اعتبارهم عديمي القيمة: فقيمتهم ليست كأشخاص، بل باعتبارهم «مجربين» للمتعة أو السعادة.
ثالثًا: يتساءل النقّاد عن سبب اعتبارنا زيادة المتعة هدفًا أخلاقيًا قيمًا.
مثل النفعية، يعتقد أولئك الذين يناصرون التحليل الاقتصادي للقانون أن خياراتنا اليومية العقلانية يجب أن تشكل الأساس لما هو عادل في المجتمع، ويجادلون بأن كل واحد منّا يسعى إلى تعظيم سعادته، وإذا كان ذلك يعني بذل المال في مقابل شيء من شأنه أن يحقق هذا الهدف، فنحن على استعداد للقيام بذلك بشكل عام، بمعنى آخر، إذا كنت أريد سيارة فيراري بشدّة بما فيه الكفاية، سأكون مستعدًا لتوفير المال لشراء واحدة.
وأخيرًا، تعتبر نظرية العدالة لجون راولز (1921 -2002) بمثابة إنجاز عظيم، فهو يشرح مفهوم العدالة باعتبارها إنصافًا، وقد أصبح النقطة المحورية للمناقشات المعاصرة حول هذا الموضوع، حيث يرفض النفعية كوسيلة لتحديد العدالة، ويرفض أيضًا عدم المساواة في حد ذاتها ــ حتى ولو كانت هذه الفكرة تضمن الحد الأقصى من الرفاهة.

الفصل الخامس: القانون والمجتمع
يتعرض الكاتب في هذا الفصل إلى العلوم القانونية وفلسفة القانون من منظار اجتماعي، وكما يعبر «من منظار غير معياري»، حيث كان البحث في الفصول السابقة عن «معيار» القانون وفق الفلسفات المتعدّدة المطروحة، أما في هذا الفصل فليس البحث معياريًا بل توصيفي اجتماعي.
يعتمد التفسير الاجتماعي للقانون عادة على ثلاثة ادعاءات وثيقة الصلة: أن القانون لا يمكن فهمه إلا باعتباره «ظاهرة اجتماعية»، وأن تحليل المفاهيم القانونية لا يقدم سوى تفسير جزئي «للقانون حال كونه معمولًا به»، وأن القانون ليس سوى ظاهرة وشكل من أشكال الرقابة الاجتماعية.
من ضمن المساهمات في التفسير الاجتماعي للقانون ما قدّمه إميل دوركهايم (1856 - 1917)، حيث يربط بين تماسك المجتمع وفعلية القانون، وكذلك اهتم ماكس فيبر (1864 - 1920) بالنظر إلى القانون من باب اجتماعي، وربط العقلانية بالقانون، ولذلك تعتبر طروحاته القانونية طروحات تدور مدار فهمه للعقلانية.

في حين أن كارل ماركس (1818 -1883) وفريدريك إنجلز (1820 -1895) لا يقدّمان تفسيرًا شاملًا أو منهجيًا للقانون، فإن نظريتهما حول القانون الاجتماعي والمجتمع مليئة بالملاحظات حول العلاقة بين القانون والاقتصاد (أو الظروف المادية)، فالقانون يحظى بمكانة أدنى من العوامل الاقتصادية: فهو مجرد جزء من البنية الفوقية ــ إلى جانب العديد من الظواهر الثقافية والسياسية ــ التي تحددها الظروف المادية لكل مجتمع.
ويتعرض الكاتب أخيرًا لأفكار كل من يورغان هابرماس وميشيل فوكو القانونية من وجهة نظر اجتماعية ويطرح بشكل إجمالي ما أورد عليها من انتقادات.

الفصل السادس: النظرية النقدية القانونية
النظرية النقدية القانونية تقع في مقابل كل النظريات التي سبق طرحها، فهي لا تولي اهتمامًا بالغًا بالنظر التجريدي الفلسفي للقانون والأسئلة التي كان الفلاسفة القانونيون يسعون جاهدين للإجابة عليها، بل طرحت تيارات النظرية النقدية القانونية آراء في سياق واقعي أكثر، ويتعرّض الكاتب بشيء من الاختصار لجملة من هذه التيارات، من قبيل النظرية القانونية ما بعد الحداثية، والنظرية القانونية النسوية، والنظرية العرقية القانونيّة.

مراجعة نقدية للكتاب
لا شك أن هذا الكتاب كما يظهر من عنوانه، هو كتاب تعريفي أوّلي ومقدمة قصيرة حول أهم المطالب والتيارات والاتجاهات النظرية في ميدان العلوم القانونية وفلسفة القانون، ولكن يمكن عرض بعض النقود التي قد يرجع بعضها إلى المحتوى المطروح وأخرى إلى الصياغة وأسلوب الطرح:

إن عنوان الكتاب هو «فلسفة القانون» وهذا العنوان لا يخلو من نقص وخلل، إذ إننا نجد في التيارات الباحثة عن القانون من رفض أصل البحث الفلسفي للقانون، وهؤلاء بشكل أساسي المفكّرون الذين تأثروا -أو تبنّوا - بالوضعية التجريبية، ولذا نجد أنه قد طُرح في القرن التاسع عشر مصطلح «النظرية العامة للقانون» كمقابل مضاد لفلسفة القانون[1]، واللافت أن المؤلّف جعل مثلًا هانس كلسن ضمن تيارات فلسفة القانون وإن كان هو نفسه طرح ما أسماه «النظرية الخالصة في القانون» ورفض فعل التفلسف في القانون، هذه النقطة النقدية وإن كانت بحسب الظاهر «شكلية»؛ إذ قد يقول قائل إنه لا فرق بين أن نعبر «فلسفة القانون» أو «النظرية العامّة للقانون»، إلّا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فإنّ تعمّد حذف «الفلسفة» من الكلام حول القانون عند الوضعيين والتجريبيين يعكس صفة عامة لكيفية النظر إلى القانون وما يتعلّق به من مفردات من قبيل الحق والعدالة والأخلاق وغير ذلك؛ لذا فإنّ القارئ يقع في اشتباه عند قراءة هذا الكتاب دون تفصيل بين هذين المعطيين، أعني «فلسفة القانون» و«النظرية العامة للقانون».

لا بد أن نفرّق بين أمرين، الأول هو الفكر القانوني عند الفلاسفة سواء أسموه بفلسفة القانون أم لا، والثاني وضوح وتبلور «فلسفة القانون» كفرع معرفي جعل الباحثين والفلاسفة يتكلّمون حوله، بمعنى أننا قد نجد فكرًا قانونيًا عند شخصية قديمة كأرسطو مثلًا، وإن لم يكن مصطلح «فلسفة القانون» قد تبلور بشكل أكاديمي دقيق، وهذا أمر واضح، ومن هنا فإن الكاتب نقل الفكر القانوني القديم لأمثال أوغسطين وتوما الأكويني وغيرهما، فإن كان منظره في الكتاب نقل الفكر القانوني عمومًا كما هو الظاهر، فإنه عندئذ لا يسلم من الاختزال والرؤية المركزية الأوروبية؛ إذ إننا نجد في العالم الإسلامي أنه قد تبلور فكر قانوني عريق، وخاصة مع التفاعل الفكري مع ما طرحته الشريعة الإسلامية، فمن غير المبرّر معرفيًا عدم التعرّض للفكر القانوني وفلسفة القانون الإسلامي، وخاصة أن هذا الفكر لدى المسلمين لم يكن خاصًا بالفقهاء، بل نجد أن الفلاسفة والمتكلمين أيضًا تعرّضوا لموضوعات مهمة ذات مساس بالقانون وحقيقته، والحق وحقيقته، وألّفوا في ذلك كتب الحكمة العملية، مثل كتاب «أخلاق ناصري» للمحقق الطوسي، بل إننا نجد أن بعض الحكماء كابن سينا قد تعرض في كتاب «إلهيات الشفاء» في القسم الخاص بالمعاد والنبوة مباحث مهمة مرتبطة بالقانون والشريعة.

أغفل هذا الكتاب بعض الميادين المهمة التي يتداخل معها البحث القانوني، فهو وإن بحث عند كلامه حول فلسفة القانون الطبيعي العلاقة بينه وبين فلسفة الأخلاق، والعلاقة بين فلسفة القانون وعلم الاجتماع – أو العلوم الاجتماعية عمومًا - لكنه لم يذكر على سبيل المثال العلاقة بين فلسفة القانون وفلسفة اللغة، وخاصة أن هذه العلاقة قد شكّلت مجالًا جّديًا للبحث، خاصة في القرن الأخير، حيث ظهرت البحوث اللغوية الفلسفية بشكل كبير، حيث نجد مثلًا أن نظرية فتغنشتين في الألعاب اللغوية قد حرّكت البحث في فلسفة القانون وما يرتبط بفلسفة القانون[2].
ذكر في البحث حول القانون الطبيعي، أن أحد مسارات تبدّل الرؤى حوله، هو «علمنة القانون الطبيعي» وحاصل ما ذكره، أن بعض الملتزمين لفلسفة القانون الطبيعي ذكروا أنه حتى لو لم يكن الله موجودًا فإن القانون الطبيعي يبقى على حاله، واعتبر الكاتب أن هذا نحو من العلمنة للقانون الطبيعي، وهذا محل تأمل ونقد، إذ إن العلمنة كما هو معروف لها معانٍ واسعة بحسب التقاليد الفرونكوفونية والإنكلوسيكسونية وغيرهما، ففي فرنسا وفضائها نجد أن العلمنة ارتبطت بالإلحاد، بخلاف مواطن أخرى حيث نجد أنها لم ترتبط بهذا المعنى، بل ارتبط بفصل العلاقة بين الاعتقاد بوجود الله والتشريعات والمنظومات السياسية وغيرها؛ ولذا تبقى مقولة «علمنة القانون الطبيعي» مبهمة في هذا الكتاب.

لا بدّ من الإشارة إلى أن مصطلح «القانون الطبيعي» في الكثير من الكتابات التي تناولت فلسفة القانون، ومنها هذا الكتاب، لا يخلو من الإبهام من جهة التشخيص والتعيين، بل يُكتفى عادة بالكلام العام المجمل، ويبقى السؤال المحوري: ما هي المشخّصات للأمور الطبيعية التي على أساسها يبتنى القانون الطبيعي؟ وكي لا نخوض في هذا الأمر تفصيلًا نقتصر على الإشارة إلى أن هذه القضية قد تناولها بعض المفكّرين الإسلاميين والفلاسفة والمفسّرين في العالم بالإسلامي بالبحث والتحقيق، وإن لم توضع نظرياتهم وآراؤهم ضمن عنوان «فلسفة القانون»، بل نجد بعضها في مباحث أصول الفقه، وبعضها الآخر في مباحث التفسير، وثالث في مباحث الكلام وغيرها، وحيث إنه لا يمكننا إطالة الكلام في هذه النقطة نشير إلى محورية الفطرة والحسن والقبح العقلي وبعض الزوايا الأخرى التي تناولها العلامة الطباطبائي في بعض كتبه، كنموذج لما يورد إسلاميًا في هذا المجال والفضاء الذي يدور في فلكه بحث فلسفة القانون، والأرضية التي على أساسها يستنبط الحكم القانوني الشرعي.

قال العلامة في تفسير الميزان: «الخير يجب أن يؤثّر والحسن يجب أن يفعل، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك، كما أنها هي الأساس للأحكام العامة العقلائية كذلك الأحكام‏ الشرعية التي شرّعها الله تعالى لعباده مرعيٌّ فيها ذلك، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معلّلة بأغراض ومصالح عقلائية، ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للأحكام والقوانين، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة إن شاءوا، فهذه كلها معلّلة بالمصالح والأغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الأوامر العقلائية ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، وكل المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيرية والشرّية وبمقدار يناسب وكيف يناسب».[3]
ومن النظريات المعروفة للعلامة الطباطبائي والتي تتعلّق بأساس القانون والتشريع، ما يسمى بقريحة الاستخدام في تعبيراته، حيث يذكر أن الطبيعة الفطرية البشرية بنفسها تؤدّي إلى تزاحم البشر فيما بينهم وهذا الاختلاف الطبيعي هو الذي يستدعي التشريع ووضع القوانين الكلية، ومن ثم يطرح سؤالًا حول كيفية إيجاد الإلزام والطاعة لهذه القوانين، وهو بحث قريب جدًا من البحث الذي شغل بال أوستين وبنتام وغيرهم من فلاسفة القانون الغربيين، والعلّامة في الإجابة عن هذا التساؤل يذكر أوّلًا أنه إما أن يفرض إجبار الناس على الالتزام بالقهر والسلطة بعيدًا عن أي معنى خُلقي أو عقائدي أو يقال لا بد من التربية الخلقية دون التعرّض في قضية الإلزام القانوني إلى المسائل العقائدية والوجودية، قال: «والطريق المتّخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الإنسان أحد طريقين‏:

الأول: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة وتسويتهم في الحقوق، بمعنى أن ينال كل من الأفراد ما يليق به من كمال الحياة، مع إلغاء المعارف الدينية: من التوحيد والأخلاق الفاضلة، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولا مرعي، وجعل الأخلاق تابعة للاجتماع وتحوّله، فما وافق حال الاجتماع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيومًا العفة، ويومًا الخلاعة، ويومًا الصدق، ويومًا الكذب، ويومًا الأمانة، ويومًا الخيانة، وهكذا.

و الثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الأخلاق واحترامها مع إلغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية.
و هذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الأمة المجتمعة من الإنسان: أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلّطة من الإنسان فقط، وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل، فيه بوارُ هذا النوع وهلاك الحقيقة الإنسانية، فإن هذا الإنسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه، بدأ من عنده وسيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الأمد، وهي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية، وكيفية سلوك الإنسان فيها، واكتسابه الأحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدًا لله سبحانه، بادئًا منه عائدًا إليه، وإذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، وستر حقيقة الأمر فقد أهلك نفسه، وأباد حقيقته"[4].

ثم بعد أن يبيّن أن التقنين لا بد أن يراعي الجوانب المختلفة للتكوين الإنساني وأنه لا بد أن يكون ظلًّا لما عليه الوجود من حقائق، يؤكد على قضية التشريع الإلهي: "ولذلك شرع الله سبحانه ما شرّعه من الشرائع والقوانين، واضعًا ذلك على أساس التوحيد، والاعتقاد والأخلاق والأفعال، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، وأنهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏): يوسف - 40، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) الآية، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير والإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم[5].

وبالجملة، فهذا الكتاب ليس كتابًا يطرح رؤية في فلسفة القانون ويدافع عنها، بل هو توصيفي بحت؛ ولذا تركّز النقد في الإيهام والإبهام الذي قد يظهر من عرضه التاريخي والنظري للأفكار.

----------------------------
[1] - ميشيل تروبير، فلسفة القانون، ترجمة: جورج سعد، دار الأنوار للطباعة والنشر، بيروت –لبنان، 2004، صفحة 12
[2] - راجع موسوعة ستانفورد في مبحث «اللغة والقانون»
[3] - طباطبائى، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، 20 جلد، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - لبنان - بيروت، چاپ: 2، 1390 ه.ق. 1: 95
[4] - طباطبائى، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، 20جلد، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - لبنان - بيروت، چاپ: 2، 1390 ه.ق. 2: ص119
[5] - طباطبائى، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، 20جلد، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - لبنان - بيروت، چاپ: 2، 1390 ه.ق. 2: ص 120