البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

كوفيد 19 كمؤشر على أفول العصر الأميركي

الباحث :  غوستاف بالوماريس ليرما
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  20
السنة :  السنة الخامسة - صيف 2020م / 1442هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 5 / 2020
عدد زيارات البحث :  620
تحميل  ( 304.922 KB )
تناقش هذه المقالة حالة أميركا تحت ظل الجائحة. وفيها يبيِّن بالتحليل والنقد، واستناداً إلى المعطيات العلمية، الأعطاب التكوينية التي أظهرتها السلطات الصحية والسياسية حيال التعاطي مع الانتشار المريع للوباء في المدن والولايات الأميركية. الكاتب البروفسور غوستاف بالورماريس ليرما هو مفكر إسباني ومتخصص في العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي.

المحرر

---------------------------

غالبًا ما كانت ولا زالت الولايات المتحدة تنصّب نفسها كقائد عالميّ، وعلى استعداد لمواجهة التّحدّيات العالميّة. ولكن يستمرّ كوفيد 19 بنشر الفوضى في الولايات المتّحدة، ممّا يتسبّب في دمار، خاصّة بالنّسبة لـ 43 بالمئة من الأشخاص الذين يعيشون بدون أيّ نوع من التأمين الصّحّي أو لديهم الحدّ الأدنى من الحماية من برامج التغطية الصحيّة (Medicare أو Medicaid) الحكوميّة. إنّ حالة الرفاهيّة الاجتماعيّة الضعيفة في البلاد والاستجابة السياسيّة غير المنتظمة قد أدّيا إلى تفاقم الأزمة الحاليّة. وقد وُصفت أميركا ذات مرّة بأنّها «منارة» القيم و«نموذج النماذج» في كتاب «الديمقراطية في أميركا» في القرن التاسع عشر لعالم السياسة الفرنسي «ألكسيس دي توكفيل»، إلّا أنّ الأزمة تلقي بظلالها على ما كان يتطوّر منذ فترةٍ طويلةٍ: الإمبراطورية الأميركية آخذة في الإنحدار.

يبدو من الواضح أنّه في السنوات الأخيرة، وخاصّة خلال هذه الأسابيع والأشهر من الموت والحبس، تحدث تغييرات في المجتمع الأميركي. حتى قبل بداية أزمة كوفيد 19 في الولايات المتحدة، اعتقد جزءٌ كبيرٌ من الطبقة الوسطى أنّ هناك مستوياتٍ غير مقبولة من عدم المساواة، وأنّه من الضروري التّحرّك نحو دولة الرفاهيّة ونظام أكثر إنصافًا للحماية الاجتماعيّة. يتطلّب هذا عقدًا اجتماعيًّا جديدًا للاستجابة لجزء كبير من المواطنين الذين يشعرون بأنّهم مهجورون وغير محميين في مواجهة الأزمة الكارثيّة التي سبّبها كوفيد 19. بدون أيّ شك، أدّت استجابات الإدارة الحاليّة مضافة إلى نقاط الضّعف الاجتماعيّة والصحيّة بأساليبها الحاليّة إلى العديد من الخسائر البشريّة والماديّة، كما أدّت إلى التشكيك في القيادة العالميّة للولايات المتحدة.

صعود الولايات المتحدة العالميّة وانحسارها

استمرّت قيادة أميركا للعالم نحواً من مائة وعشرين عام حتى يومنا هذا. وإذا بدأ المرء باحتساب التدخّل العسكري في الفلبين عام 1899. ولكن يمكن القول أيضًا إنّها استمرّت 230 عامًا، إذا عدنا إلى بداية القيادة أي إلى فترة ترجع إلى تعيين جورج واشنطن رئيسًا في عام 1789، عندما تمّ إنشاء أوّل حكومة وسكرتاريّة حديثة للشؤون الخارجيّة في الولايات المتحدة. على أي حال، فإنّ قرنين من الزمان يفصلان قسم الرئيس ترامب عن عقيدة «جيمس ك. بولك» (James K. Polk) بشأن «القدر الواضح» وخطاب «جيمس مونرو» (James Monroe) في الكونغرس بشأن وجود الأوروبيين في القارّة الأميركية. لقد مرّ وقت أقل على «النقاط الأربعة عشر» التي وضعها «ويلسون»، والتي تمّ الإعلان عنها في نهاية الحرب العالميّة الأولى، لتشكيل نظامٍ عالميٍّ جديدٍ، أو من «خطاب العار» الذي قدّمه «روزفلت» بعد «بيرل هاربور» في شهر كانون الأوّل من عام 1941. لقد مرّ عقدان فقط على كلمات «جورج دبليو بوش» بعد فترة وجيزة من 11 أيلول 2001، عند إعلانه الحرب على الإرهاب. في كلّ لحظة من هذه اللّحظات المحوريّة، كانت الولايات المتّحدة مسؤولةً بشكلٍ أساسيٍّ عن تشكيل النّظام الدولي.

بالنّظر إلى كيفيّة استجابة حكومة الولايات المتحدة لـكوفيد 19، لم يعد من الممكن التسليم بهذا النّمط. فالتناقض الكبير للقوّة العالميّة السائدة هو أنّه لا يمكن لأيّ لاعب أن يتحكّم في كلّ شيء في مواجهة الأزمة. وبالتالي، لا تزال الولايات المتحدة غير قادرة على تنسيق استجابة مشتركة للوباء، ولا يمكن أن تكون منقذ الأبرياء - منقذ العالم - أثناء الأزمة. في حين أنّ الرئيس ترامب وإدارته يثبتون أنّهم غير قادرين على الاستجابة بفعاليّة للأزمة، فتخسر الولايات المتحدة تدريجيًّا مكانتها كزعيم عالميّ يضع جدول الأعمال.

السّمة الأساسيّة للولايات المتّحدة في هذه الحقبة الجديدة هي ممارسة القيادة المتقطّعة و/أو غير الموجودة و/أو القيادة الغريبة، كما يتّضح من توصيات ترامب للتخفيف من جائحة كوفيد 19. عبر الأزمات، كانت استجابات السياسة الخارجيّة الأميركية الأخيرة سلبيّة وتتّصف بردود الأفعال وفوضويّة. فكان يتمّ اتّخاذ القرارات على أساس كلّ حالة على حدة، وتفتقر إلى إمكانيّة تتبّعها وتحديد موضوعها. هذا السلوك يعكس المعضلة التي تواجه الدبلوماسيّة الأميركية الحديثة: وهو إمّا العودة إلى المثل والقيم التقليديّة التي أثبتت جدواها عبر الزّمن أو وضع مبادئ جديدة لعالم يتميّز بالعديد من القوى المختلفة والديناميكيات الجديدة مثل تفشّي الأوبئة.

في القرن الحادي والعشرين، أثبتت الولايات المتّحدة عدم قدرتها على مواجهة سلسلة من «الحروب» العالميّة الجديدة بنجاح، تلك التي هي ضد الإرهاب المتطرّف، وكذلك المواجهة ضدّ فيروس كورونا الجديد. كلا العدوين كانا قادرين على ضرب الأراضي الأميركيّة وكشفا نقاط الضّعف الكبيرة للولايات المتّحدة. في مواجهة هذه التحدّيات الجديدة، لم تتمكن الحكومة الأميركية من التكيّف، بل لجأت بدلاً من ذلك إلى الاستجابات القديمة، وكان كلّ منها أكثر عجْزًا للتحدّيات الجديدة التي تواجهها البلاد. بالنسبة لـ كوفيد 19، استجابت الحكومة بغطرسة من خلال تقليل أو تبرير عدد الوفيات التي حصلت فعليًّا. أصبح عدد القتلى الآن أكثر من 100000، وهو أكبر بكثير من 60.000 الذين قُتلوا خلال حرب فيتنام، ويقترب - وربما تجاوز - عدد القتلى العسكريين الأميركيين في الحرب العالميّة الأولى. أمّا في حالة العدو الآخر، الإرهاب الدولي، فكانت استجابة الولايات المتحدة متفاوتة الانخراط في صراعات جديدة في ساحات مثل أفغانستان والعراق وليبيا، بينما اختارت اللامبالاة في سوريا التي تشهد أكبر حرب ودراما إنسانيّة منذ الحرب العالميّة الثانية.

الحاجة إلى قيادة عالميّة في وقت الأزمة هذا

في النّظام الدولي المتغيّر للقرن الحادي والعشرين، لا تستطيع الولايات المتحدة، كما أنّها لا تريد الانسحاب من العالم، لكنّها أيضًا لا تستطيع ولا تريد أن تتحمّل التكلفة السياسيّة والاقتصاديّة للسيطرة عليه. لا يوجد احتمال في هذه الفوضى الدوليّة بالعودة إلى الإغراءات التاريخيّة للانعزاليّة، مهما أصرّ ترامب على القيام بذلك. ولكن لا يوجد أيضًا خيار للولايات المتحدة لمواصلة العمل على أنّها الزعيم بلا منازع لهذه الفوضى للنظام العالمي الجديد – وعلى أنّها المنقذ الواضح للتدخّل في النزاعات العديدة على هذا الكوكب. لأوّل مرّة في التاريخ الحديث، لا تستطيع الولايات المتّحدة ضمان أيّ نوع من الحوكمة العالميّة.

إنّ الصّدمة التي يسبّبها كوفيد 19 للنّظام الدولي ككلّ مهمّة للغاية. فإنّ آليات الترابط العالمي في أزمة، كما أنّ الاتّحاد الأوروبي يتأثّر كمجال للتماسك والتضامن؛ وأخيرًا، العديد من المناطق والنّزاعات تهدّد بالتوجّه نحو الفوضى. في مواجهة هذا التعقيد، من المحتمل أن تصبح العلاقات الدوليّة مرّة أخرى مشابهة لنظام الدّول الأوروبيّة في كلّ من القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، والتي كان يحكمها «صلح وستفاليا» لعام 1648، و«تحالفات» ما بعد الثورة في عامي 1792 و 1798، و«مؤتمر فيينا» لعام 1814، أكثر ممّا هو الجمود الذي فرضه مبدأ الاحتواء خلال «الحرب الباردة». نحن نشهد توطيد القوى العظمى، بدعم كلّ من الدول المجاورة الصغيرة، وتأكيد ثلاث كتل اقتصاديّة كبيرة ستحدّد جميع العمليات في جهودها للخروج من الأزمة الاقتصاديّة التي أعقبت الوباء، ومع استعداد الصين للبروز كقوّة عالميّة بين عامي 2030-2050.

الطريق الخطير بالنسبة للولايات المتحدة وبقية العالم هو طريق القوميّة الاستبداديّة على غرار الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» والرئيس الصيني «تشي جين بينغ». هناك خطر يتمثّل في أنّ السياسة الترامبيّة ستصبح، على المدى الطويل، هي القاعدة في الولايات المتّحدة والعالم الغربي. وهذا من شأنه أن يشير إلى نهاية فترة العولمة التي كنّا ولا زلنا نعيشها منذ التسعينيات، وستكون لها تكاليف كثيرة على الولايات المتحدة. تستلزم رؤية ترامب الأحاديّة في العلاقات الدوليّة العودة إلى القوميّة في العلاقات السياسيّة والتّجاريّة والاستراتيجيّة. هذا من شأنه أن يهيّئ الولايات المتحدة والعالم لاتّباع عقيدة جديدة ورجعيّة، في محاولة عقيمة «لعزل أنفسهم» عن العمليات التي تتجاوز بالفعل الحدود والأيديولوجيات والحكومات.

مخطط لأميركا ما بعد الجائحة

عندما يتمّ التغلّب على الوباء ودفن مئات الآلاف من القتلى، ومعظمهم من العمّال وأفراد الفئات الأكثر ضعفًا وتهميشًا، يجب إجراء مراجعة لجدول أعمال السياسة الأميركية. ستفرض الأزمة حسابًا ليس فقط فيما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة، ولكن أيضًا فيما يتعلّق بالسياسة الداخليّة. يجب أن يشمل هذا إصلاحًا ماليًّا أساسيًّا، وضمانًا اجتماعيًّا متقدّمًا بشكل كبير تقدّمه حكومة الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، يجب تمرير برنامج عام لإنقاذ الصناعات الكبيرة والمؤسّسات الصغيرة التي تمرّ في أزمة أو إفلاس يحاكي «صفقة روزفلت الجديدة» (Roosevelt’s New Deal). ستكون هذه هي الاستجابة الوحيدة المعقولة للفشل البائن للنموذج الاجتماعي الحالي في التخفيف من الأزمة الناجمة عن كوفيد 19.

قد يكون الوباء وآثاره بالفعل ترسيخ لما بدا بالفعل أمرًا حتميًّا: نهاية الحقبة الأميركية. وفي هذه الفترة من التغيير التي نشهدها، يتمثّل الخطر الأكبر في أنّ الولايات المتحدة نفسها تشجع عودة القوميّة والشعبويّة في جميع أنحاء العالم. إنّ الاعتقاد الأساسي للآباء المؤسّسين، وإن كان مبتذلاً، والقائل بأنّ الولايات المتّحدة لديها الديمقراطية الأكثر اكتمالاً وأنّ النّظام الاقتصادي الأكثر عدلاً في العالم يتعرّض للهجوم. كلّ هذه العمليات تظهر إلى أيّ مدى هذا النّظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي «المثالي»، الذي هو ثمرة أخلاق «ويبر» ((Weber البروتستانتيّة الأسطوريّة للعمل الجاد، والروح الرأسماليّة، هم في أزمة كاملة.

------------------------------

[1]*ـ غوستافو بالوماريس ليرما (مواليد فيلانويفا دي لا جارا، كوينكا، إسبانيا في عام 1960) هو عالم سياسي متخصّص في العلاقات الدولية.

العنوان الأصلي: The COVID-19 crisis is another signal that the American era is ending

الناشر: كلية لندن للاقتصاد بتاريخ 26/06/2020 على الرابط:  https://bit.ly/2CDd5fA

ترجمة: فؤاد حيدر أحمد