رئيس التحرير :
هاشم الميلاني
مدير التحرير :
حسين ابراهيم شمس الدين
فهرس المحتويات :
المبتدأ
■ فلسفة اللغة التحليلية وعدم تعيّن المعنى
حسين إبراهيم شمس الدين
الملف
■ فتغنشتين وتحقيقاتٌ فلْسفيَّة: دراسة نقدية
مرتضى فرج
■ نظرية غرايس الحوارية: عرض ونقد
الدكتور العياشي ادراوي
■ الوضعية المنطقيّة وهاجس توليد المَعنَى: من لغة الميتافيزيقا المُفرَغة إلى لغة الفيزيقا المُشبَعة دراسة تحليلية نقدية
د. شـهـرزاد حـمـدي
■ دراسة الشأن المعرفي للغة الدين من وجهة نظر لودفيغ فتغنشتاين المتأخر ونقده في ضوء آراء العلامة الطباطبائي
آرزو زارع زاده، بابك عباسي وعلي رضا دارابي
■ لغة الدين بين خواء المعنى وتعيّنه في فلسفة اللغة
حميد رضا آيت اللهي
■ نقد ومناقشة رأي جورج مور في حقل الفهم العُرفي
مصطفى عزيزي علويجه والسيد إحسان رفيعي العلوي
أبحاث بين مناهجية
■ التحليل السيميوطيقي للخطاب الأخلاقي «دراسة نقدية للأسس والآليات»
أ.د.نوال طه ياسين
ندوة العدد
■ فلسفة اللغة التحليلية والفكر الإسلامي: بين النقد والبناء
حوار مع الدكتور مجتبى رستمي كيا
رسوم بيانية
■ فلسفة اللغة عند برتراند راسل
■ فلسفة اللغة عند جورج مور
■ فلسفة اللغة عند فتغنشتين
مراجعات الكتب
■ كتاب فلسفة اللغة
إدارة التحرير
■ كتاب الفلسفة واللغة: نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة
إدارة التحرير
ترجمة ملخصّات المحتوى بالإنكليزيّة
المبتدأ
فلسفة اللغة التحليلية وعدم تعيّن المعنى
عندما يصل الكلام إلى فلسفة اللغة، فنحن أمام ما يكاد يكون أهم فرع من فروع الفلسفات المضافة في العصر الحاضر، فقضية اللغة والعلاقة بينها وبين عناصر أخرى، شغلت فكر العديد من المفكرين والفلاسفة منذ القديم، منذ أرسطو وأفلاطون وصولًا إلى يومنا هذا، بدأت مسألة الاهتمام باللغة في عصور تكوين العقل الفلسفي اليوناني، مع السفسطائيين الذين اعتُبروا خطباء ومحامي عصرهم وأصحاب اللعب بالكلمات وتحوير الفهم حول الواقع، مرورًا بأرسطو الذي كتب الأورغانون دفاعًا عن الواقعية في مقابل زئبقية الفهم، وأعاد للفكر والمنطق أصالته التجريدية، واستمر الأمر كذلك في العصور الإسلامية مع فلاسفة أمثال ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصولًا إلى القرنين الماضيين، حيث انبعث الفكر الفلسفي اللغوي من جديد في الغرب، ويمكن جعل هذا الانبعاث متمثّلًا ضمن قضايا اكتسبت محورية ومبدءًا للبحث:
أولًا: اللغة الميتافيزيقية وخواء المعنى: اعتبر الكثير من آباء فلسفة اللغة المعاصرة أن الميتافيزيقا في حقيقتها تشكّل مجموعة من القضايا الفاقدة للمعنى، وهذه مواجهة جديدة مع الإلهيات والبحوث التجريدية الفلسفية، حيث كان النقاش قبل ذلك حول أدلة وبراهينها القضايا الميتافيزيقية، وفي وقت لاحق حول ابستمولوجيا التحقيق الميتافيزيقي وأدوات التحقيق، ولكن مع فلسفة اللغة، صار النظم القضوي للميتافيزيقا موضع شك وترديد، فلم يعد النظم الاستدلالي أو المعرفي هو الذي يجري حوله النقاش، بل انتقل السؤال من: هل هناك دليل؟ إلى السؤال: هل هناك معنى أصلًا؟
فقضية وجود الله تعالى أو قضية وجود عالم ما وراء الطبيعة وما بعد الموت، ووجود سنن غيبية تحكم حركة التاريخ والاجتماع – دون مساس باختيار الإنسان بطبيعة الحال- لم تعد قضايا يدور النقاش فيها مع الفلسفات المختلفة حول أدلتها وبراهينها، بل انتقل البحث إلى أصل كونها ملفوظات تدل على معنى، وهذه كانت إحدى منطلقات بعض فلاسفة اللغة في الغرب.
هذا التحدي لم يكن سهلًا؛ إذ أدى إلى سبر أغوار الدلالة والعلامات وكيفية الانتقال من دالّ إلى آخر، حتى يتم تحقيق معنى «المعنى»، ومن ثم تصنيف الملفوظات بأن بعضها ذو معنى والآخر ليس كذلك، وهذا الأمر نقل النقاش إلى ظاهراتية الفعل الكلامي، ودراسة وعي المتكلّم ووعي المخاطب وغير ذلك، فدخلت الظاهراتية أيضًا في قضية تحليل اللغة.
ثانيًا: اللغة المثالية واللغة العادية: حاول أرسطو في قسم التصورات من الأورغانون تأسيس لغة مثالية تنسجم مع الفكر المنطقي الدال على الواقع، وسار على هذا الأمر فلاسفة العالم الإسلامي ومناطقته، حيث نجد الفارابي مثلًا في كتاب الحروف وغيره، يسعون لتأسيس المصطلحات كمعجم دلالي متحرر من اللغة العرفية العادية، لأجل ضمان الفهم الصائب تجاه المفاهيم والمصطلحات، دون أن يختلط البحث العلمي بالإبهامات التي يورثها استعمال اللغة العادية، مثل إبهام احتفاف الاستعمال اللغوي بقرائن من قبيل الفرضيات المسبقة عند التداول والمحاورة، ومثل الإبهامات الناشئة من المجاز والكنايات وتعدد المعاني بحسب ملابسات الاستعمال، وغير ذلك. فلأجل الاحتراز عن الابهام كان الفلاسفة حريصين على السير والبحث العلمي وفق حقل معجمي اصطلاحي خاص، مضافًا إلى أن المصطلحات توفر على الباحثين الكثير من الشرح المتكرر عند الاستعمال، فاستعمال كلمة « الحيثية التقييدية» مثلًا يغني عن الشرح الكثير، من قبيل كون الموضوع في القضية مقيّدًا بقيد خاص يصحّح حمل المحمول عليه، وإلا كان الحمل مجازيًا، كل هذه التعبيرات تختصرها لفظة « الحيثية التقييدية».
ولكن مقابل هذا الأمر، لم تكن اللغة العادية الطبيعية مقصاة عن البحث العلمي في الفضاء الإسلامي، بل نجد أن علم الأصول والفقه كان يسعى لتحديد الفهم العرفي من النصوص الدينية، لأن النص القانوني الديني هو نص عرفي لا يخاطب الفلاسفة أو المناطقة، بل نص لا بد من أن يكون منفتحًا على الفهم العامي، ولكن هذا الأمر لا يعني أن الفهم العرفي متحرر من الضوابط، وأنه فهم سائل نسبي لا يسير وفق ضوابط قواعدية، وهذه القضية أدت إلى تأسيس علم فهم النص العرفي.
في غرب العالم، أيضًا نجد أن الفلاسفة التحليليين ساروا من محورية اللغة الصورية/المثالية/الاصطلاحية إلى محورية اللغة العرفية العادية، ولكن الفرق بين ما جرى في فلسفة اللغة في الفكر الغربي عن الذي بيّناه في العالم الإسلامي أن الفكر الغربي جعل التنازع بين هاتين اللغتين، ولم يجعل لكل لغة موردها الخاص، كما كان الحال في الفضاء العلمي الإسلامي، حيث جُعلت اللغة العرفية ذات محورية في فهم النصوص القانونية واللغة المثالية جعلت للتفكير التجريدي، بل على العكس من ذلك نجد أن الفكر الفلسفي عند الغربيين تنازع اللغة الصورية المثالية كما نجده عند راسل وفتغنشتين في بداياته، واللغة العرفية العادية كما نجده عند فتغنشتين في أواخر مراحل فكره، حيث اعتُبرت تارة اللغة العادية مبهمة ولا توصل الفكر الصافي تارة، وتارة اُخرى اعتبرت هي الأساس في الفهم، وأن اللغة المثالية تعقد الأمور بل وخاوية من المعنى أيضًا.
ثالثًا: المعنى المتعيّن والمعنى اللامتعيّن: من النقاشات المحتدمة بين فلاسفة اللغة واللسانيين، قضية المعنى في الملفوظات، فهل المعنى متعيّن ومحدّد في الملفوظات؟ أم إنها لا تعيّن أي معنى من المعاني إلا إذا دخل الملفوظ في تداول استعمالي؟ بعبارة أخرى، لو أننا وجدنا عبارة مكتوبة على حائط، فهل لهذه العبارة معنی بغض النظر عن قائلها ومقصوده وافتراضاته المسبقة ومراداته من التلفظ لها، أم إن المعنى كامن في الاستعمال؟ لا شك أن التيار الواسع في فلسفة اللغة المتأخّرة يرى أن المعنى كامن في الاستعمال، وأنه لا تعيّن للمعنى إلا في إطار تداولي استعمالي، فحيث لا متكلّم ولا شخصية ينطلق منها الكلام، وتكون هذه الشخصية حاملة بمجموعة من المعتقدات ولأفكار، فلا معنى للكلام إلا وهمًا وفرضًا، فلا شيء اسمه حقل معجمي وقاموس لغوي خاص على وفقه تتحدّد المعاني، بخلاف فلاسفة اللغة التحليليين الأوائل مثل راسل الذي كان ينتمي للذرية اللغوية المنطقية، حيث اعتبر أن الملفوظات تتذرى إلى آحاد مفردات يكون كل واحد منها بإزاء حقيقة ومعنى.
هذا الأمر عينه نجده عند الأصوليين الإسلاميين أيضًا، ولكن لا على نحو التنازع بين فكرتي تعيّن المعنى وعدم تعيّن المعنى، بل من حيث إن للكلام نفسه مرتبتين: مرتبة الدلالة التصورية ومرتبة الدلالة التصديقية، ففي مرتبة الدلالة التصورية لا شك أن لكل كلام معنى خاصًّا يرجع إلى الوضع اللغوي نفسه، فلو وجدنا ورقة مكتوب عليها ( الجدار أبيض)، لفهمنا المعنى من الكلام وفق الحقل المعجمي اللغوي، ولكن هذا غير الدلالة التصديقية التي ترجع إلى مراد المتكلم والسبب الداعي لكلامه والتفهيم المعيّن الذي يريده من التلفّظ بهذا الكلام، فقد يقول قائل (الجدار أبيض)، ويريد به معنىً مجازيًّا، وإنما نكتشف المعنى المجازي بسبب القرائن المحيطة باستعماله لهذا اللفظ، وبعبارة أخرى لا يتم قبول عدم تعيّن المعنى في الدلالة التصورية، ولكن المعنى تابع للاستعمال في الدلالة التصديقية والمراد الجدي للمتكلم.
رابعًا: إبستمية المعرفة العلمية: نشأت فلسفة اللغة في أحضان الوضعية الممتدة من أوغست كونت إلى حلقة فيينا، حيث كانت انطلاقتها الإبستمولوجية قائمة على إقصاء ما سوى العلوم التجريبية، عن المعرفة العلمية، وبالتالي فإن المعرفة الفلسفية التجريدية والميتافيزيقية، ينبغي إقصاؤها من حقل التداول المعرفي، فالمعرفة هي العلم بمعنى العلوم التجريبية وأما التجريد والميتافيزيقيا، فلا تعدو كونها تأمّلات أسطورية وما شابه، ولذا كانت التحليلية اللغوية تقوم بوظيفة التحليل للمشاكل الفلسفية فقط دون قضية الإنتاج المعرفي، فالإنتاج ليس وظيفة الفلسفة، بل وظيفة العلوم التجريبية، والفلسفة وظيفتها التحليل اللغوي للقضايا.
وهذه الانطلاقة في الحقيقة متهافتة داخليًا، إذ إن القضايا والمسائل والمشكلات والفرضيات العلمية التجريبية تكمن في داخلها القضايا العقلية التجريدیة، ولا يمكن أن يتشكّل سؤال دون مبانٍ ميتافيزيقية – ونقصد بها الفكر التجريدي العقلي- غير تجريبية، وهذه المسألة تعني بالدقة أن الفكر العقلي التجريدي حاكم على كل أصناف المعرفة، ولا يمكن أن يكون بعرض المعرفة التجريبية بحيث يقال إما أن نختار التجريبية أو التجريدية، بل التفكير التجريدي الكلي العقلي حاكم حتى على الإدراك الحسي البسيط، فكيف تدرك أن هذا جسم؟ أنت تدرك لونه واللون غير الجسمية، وأنت تدرك ملمسه والملمس غير الجسمية، وأنت تدرك صوته والصوت غير الجسمية، فالجسمية جوهر ممتد في الأبعاد الثلاثة، وهذه لا تُدرك بالحواس، لأن الحواس تنال اللون والطعم والرائحة والتي هي أمور غير الجسمية حقيقة، بل هي من الأمور التي تعرض الجسمية، فلولا حكم العقل بأن العارض لا بد من معروض يقوم به، وبالتالي لا بد مما يقوم اللون به مثلًا وهو الجسم، فهذا إدراك تجريدي عقلي، وهذه القضية كانت من بديهيات الفكر الفلسفي الإسلامي، ومثال ذلك ما ذكره صدر المتألهين، حيث قال « فالحواس أو النفس الحساسة بما هي حساسة ليس لها علم بأن للمحسوس وجوداً في الخارج إنما ذلك ممّا يُعرف بطريق التجربة، فهو شأن العقل أو النفس المتفكّر وليس شأن الحس ولا الخيال، والدليل على صحة ما ذكرناه أن المجنون مثلاً قد تحصل في حسّه المشترك صوَر يراها فيه ولا يكون لها وجود من خارج، ويقول ما هذه المبصرات التي أراها، ويقول إني أرى فلاناً وكذا وكذا، ويجزم أن ما رآه كما رآه فهي بالحقيقة موجودة في حقه كما وجدت للإنسان سائر الصوّر الحسيّة لكن لمّا لم يكن له عقل يميّزها ويعلم أن لا وجود لها من خارج، توهّم أن تلك الصوَر موجودة في الخارج ـ كما هي مرئية له».[2]
خامسًا: العلاقة بين الفكر واللغة: هذه النقطة تشكّل أيضًا نقطة عطف أساسية في تأسيس فلسفة اللغة في القرنين الماضيين، وذلك أن العلاقة بين اللغة والفكر ظهر إبهامها من جهة اندماج هذين البعدين بعضهما، ودعا إلى هذا الأمر التفكير بالمشتركات بين هذين البعدين، فاللغة نظم مركّب من آحاد الكلمة والجملة، والفكر أيضًا نظم قضوي مؤلّف من مفاهيم ومعانٍ، ولا يمكن الفصل بين الكلمة والمفهوم، وكذلك بين الجملة والقضية، واختلاف النظم النحوي المرتبط باللغة المتمثّل بقواعد الاستعمال والمنطوقات يؤثر على بنية القضية والمفاهيم، ومن هنا وجد فلاسفة اللغة نفسهم أمام إشكالية الفصل بين اللغة والفكر، فاللغة منطق الكلام والمنطق لغة الأفكار، وأدى هذا الى القول بالنسبية بين صور العالم عند الثقافات والمجموعات اللغوية المختلفة في العالم، وهذا ما اشتُهر عن فتغنشتاين في كتابه (في اليقين)، حيث اعتبر أن الدوائر اللغوية هي صور للعالم، وهذا في بعد من أبعاده استبعاد لتجريدية التفكير والبنية التحتية السابقة على اللغة.
في المقابل أيضًا نجد أن أصحاب الفلسفات الضاربة في العمق من أفلاطون وسقراط وأرسطو وصولًا إلى الفارابي وابن سينا وغيرهم، قد فصلوا الأمرين، واعتبروا أن اللغة بنية فوقية للفكر ولا يمكن اعتبار الفكر تابعًا للغة، وذلك لأسباب كثيرة لا يمكن ذكرها ههنا، ولكن أهمها هو فكرة الوضع اللغوي وأصل اللغة، حيث إننا إذا بحثنا عن وضع الألفاظ للمعاني، نجد أنها عملية فيها نوع من الإضافة المقتضية لوجود مضاف ومضاف إليه، فوضع لفظ ( الأسد) للحيوان الخاص، يقتضي أن يكون هناك فكرة أولًا عن هذا الحيوان ومن ثم وضع لفظ ( الأسد) بإزائه، فلا يمكن القول بوحدة الرتبة بين الفكرة واللفظ، هذا من دون إنكار أن الألفاظ قد تصل الي مرحلة من الالتصاق بالمعنى بحيث يتوهم الإنسان وحدتهما، فيخطر بباله معنى الأسد من إخطار لفظه فيتوهم أن بين اللفظ والمعنى شيئًا من الاتحاد بل الوحدة، وقد تنبّه المناطقة إلى هذا الأمر، حيث جعلوا الوجود اللفظي من مراتب وجود المعنى، فللمعنى وجود عيني في الخارج، ووجود ذهني في عالم الأفكار، ووجود لفظي وكتبي.
هذه جملة من الأسباب التي يمكن صياغتها في هذا المبتدا، وإن أمكننا التفصيل أكثر من ذلك.
نظرة على العدد:
عقدنا هذا العدد من الاستغراب ليتضمّن البحث عن أهم القضايا التي نجدها في فلسفة اللغة التحليلية، حيث تم التركيز بشكل أساسي على آباء الفلسفة التحليلية اللغوية أمثال برتراند راسل وجورج مور ولودفيغ فتغنشتين، ودراسة آرائهم في فضاء فلسفة اللغة، كما سعينا لإدخال بعض الموضوعات البينمناهجية المرتبطة بفلسفة اللغة والخطاب الأخلاقي أيضًا إلى غير ذلك من الموضوعات.
------------------------------
[1]* مدير تحرير مجلة الاستغراب.
[2]. صدر المتألهين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، 1981، 3: 498.