البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

فلسفة العدالة، نحو منظومة صراطية تجاوز الإنسداد الحضاري

الباحث :  محمد شقير
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  20
السنة :  السنة الخامسة - صيف 2020م / 1442هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 5 / 2020
عدد زيارات البحث :  420
تحميل  ( 384.884 KB )
يعمل هذا البحث على إجراءاتٍ تأصيليّةٍ لمفهوم العدالة في المجالين النّظري والتطبيقي. ولأجل هذه الغاية يسعى الباحث الشيخ الدكتور محمد شقير إلى مقاربة ماهيّة العدالة وبيان مبانيها المعرفيّة في سياق مقارن بين الفضاءين الدّيني والوضعي. كما يضيء البحث على أبرز المعاثر التي وقعت فيها المعارف الوضعيّة الحديثة حيال العدالة وخصوصًا تلك المتعلّقة بنسبيّتها وإخضاعها للشروط التاريخيّة والحضاريّة، وهو ما يناقض عقيدة العدل الإلهي في القرآن الكريم والفكر الإسلامي.

المحرّر

-------------------------------

مع انهيار الاتّحاد السوفياتي سادت مقولة نهاية التّاريخ، والتي أرادت القول إنّ الرأسماليّة ـ بما هي من خيار حضاري، قيمي، اقتصادي، سياسي، واجتماعي ـ  قد انتصرت، وأنّ الشيوعيّة قد فشلت، وسقطت إلى غير رجعة. ثم لم تمضِ ثلاثة عقود حتّى انتشرت جائحة كورونا، لتشكّل إيذاناً بفشل الرّأسماليّة، وسقوطها الحضاري. وهو ما سوف يدفع العقل البشري إلى مراجعة مساراته الحضاريّة، والبحث عن خلاصه الحضاري، واجتراح سبيل مختلف يمكن أن تهتدي إليه الإنسانيّة ويوصلها إلى سعادتها.

وفي هذا المخاض قد يكون لدى البشريّة التّائهة طريق ثالث يمكن أن يُبنى عليه، وتلتقي عنده جميع الأمم، والشعوب، والمذاهب، والدّيانات، والمدارس الفكريّة على اختلافها. وهو يتمثّل في العدالة كخيار حضاريّ، ومدرسة فكريّة متكاملة، وكفلسفة أخلاقيّة شاملة، وإن لم تهتدِ البشريّة بعد إلى جوهر تلك العدالة وحقيقتها، فضلاً عن المنظومة القادرة على تسييلها؛ وذلك لأنّ التجارب البشريّة في مجملها، إمّا أنّها لم تنظر إلى العدالة كأولويّة قيميّة، وكميزان نظريّ فلسفيّ، بل قدّمت عليها قِيَمًا أخرى، كما هو الحال في الليبراليّة، وخصوصًا في مجالها الاقتصادي التي تقدّمت فيها الليبراليّة على العدالة، وهو ما يتبدّى في كثير من المقاربات النّظريّة والفلسفيّة. وإمّا أنّها اقتربت من جعل العدالة كقيمة أولى، ومطلقة، ومعياريّة، لكنّها افتقدت إلى المنظومة القيميّة، والأخلاقيّة، والمعنويّة، والرّوحيّة... وهي تلك القادرة على إحالة قيمة العدالة إلى واقع تربويّ، ثقافيّ، اجتماعيّ، سياسيّ، اقتصاديّ، قانونيّ.

1 - ضرورة تظهير الخطاب الديني للعدالة

قد تكون لدينا نماذج تنطوي على العدالة كقيمة أولى ومعياريّة، وتحتوي على تلك المنظومة القيميّة والأخلاقيّة والتّربويّة، القادرة على بناء العدالة في الاجتماع العام في مختلف ميادينه، لكن ثمة أكثر من التباس نظريّ أو تاريخيّ أعاق، تسييل فعل العدالة هذا، ولذلك يمكن القول بشكل عام، إنّ العدالة تعاني من احتباسين: الأوّل، نظريّ يرتبط برؤية العدالة وفلسفتها وموقعها الفكري. والثاني: عملي يتّصل بالإمكانيات المتعلّقة بتسييل هذه العدالة ووجود المنظومة القيميّة والأخلاقيّة والتّربويّة القادرة على هذا الفعل، وصولاً إلى المبادرة بهذا الاتّجاه في سياسات ومشاريع وبرامج ذات صلة. أضف إلى ذلك أنّ السبب الرئيس في فشل العديد من التّجارب التّاريخيّة في إقامة العدالة، وتحويلها إلى ثقافة اجتماعيّة شاملة؛ يعود إلى أنّها لم تهتدِ إلى المصدر الأساس الذي يمكن أن ينبثق منه فعل العدل، أو يصدر عنه ارتكاب الظّلم؛ كما يعود إلى أنّها لم تضع يدها على المنطلق، الذي منه ومن خلال إصلاحه، يمكن الوصول إلى صناعة العدالة وإقامة بنيانها.

وما يعزّز هذه المقاربة هو وجود العديد من المقاربات النّظريّة والفلسفيّة للعدالة لم تتجاوز الإطار الخارجي والمادي إلى المحتوى النّفسي والجواني، واقتصرت في سعيها على كيفيّة توزيع الثّروة أو اعتماد سياسات ضريبيّة عادلة، أو توزيع الدّخل بطريقة تنسجم وقيم العدالة. وهذا يسري في المجال الاقتصادي، والسياسي، والقانوني، أو في العلاقات الدّوليّة، وسوى ذلك من مجالات. وهي في مجملها قد غفلت عن المحتوى الحقيقي للعدالة، وحقيقة جوهرها، والمعنى الخالص من فلسفتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إنّ إيجاد التحوّل في ملكيّة وسائل الإنتاج من الطّبقة الرّأسماليّة إلى غيرها، كما هو في الماركسيّة، واعتماد مبدأ تدخّل الدّولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي بمستوى أو آخر، كما هو لدى بعض المنظّرين في الفضاء الرّأسمالي، بهدف تحقيق عدالة مرتقبة كما يظنّون؛ يبقى هذا كلّه في الإطار المادّي، ولا يلامس الموطن الأساس لاستنبات العدالة، ولا يبلغ المنبع الأشد غورًا لصناعة العدل وتشييده.

هذه الأسباب وغيرها تفرض على جميع الأفكار والأديان ولا سيّما الإلهية منها إعادة تقديم نفسها؛ بوصفها أديان عدالة بالدّرجة الأولى، وهو ما يقود إلى أطروحة إعادة بناء الفكر الدّيني، وخطابه، وثقافته، بطريقة مختلفة، ترتكز فيها على العدالة كأساس مكين، وتتمحور حولها في بنيتها، وفي المحتوى والغايات، وهو ما سوف يترك أثره البالغ على الاجتماع العام في مختلف ميادينه.

ولهذا فإنّ ما نسعى إليه كسبيل مفارق، هو تسييل أطروحة للعدالة ترتكز على فلسفة أخلاقيّة[2]، تحيل العدالة إلى جذر نفسيّ، وبعدٍ تربويّ، بحيث يعمل على صناعة العدالة في النّفس قبل الفعل، وفي الضّمير قبل الاقتصاد، وفي الوجدان قبل القانون، وفي الثّقافة قبل السّلوك، وفي داخل الإنسان قبل المجال العام. وهذا ما يجعلها فلسفة عدالة جوّانيّة، ترنو بالدّرجة الأولى إلى صناعة الإنسان العادل، وترى في توطين العدالة في النّفس الإنسانيّة أساسًا متينًا ومضمونًا لفعل العدل، كما تبيِّن أنّ إصلاح هذه النّفس بالعدالة هو المنطلق الصّحيح لأيّ إصلاح في المجال العام، حيث ترى في هذه النّفس منشأ العدل ومنبع الظّلم على حدّ سواء. وما مظاهر العدل أو الظّلم التي نراها في أيّ من مساحات الاقتصاد أو الاجتماع أو القانون وغيره، إلّا بمثابة تجليات وانعكاس لمدى تحقّق كلّ من هاتين المقولتين في داخل النّفس الإنسانيّة. أمّا لو ذهبنا إلى أيّ تمثّل من تمثّلات العدالة وتجلّياتها، دون أن نعمد إلى تنظيف النّفس الإنسانيّة من الظّلم القابع فيها، والجور الساكن في جوفها؛ فلا بدّ أن يجد هذا الظّلم طريقًا له إلى الخارج، وأن يلتمس الجور منفذًا له يعبر من خلاله، ليظهر في أيّ من مجالات الاجتماع العام في الاقتصاد أو السياسة أو القانون أو غيره[3]. الأمر الذي يستدعي أن نميّز بين المنشأ والمتعلّق، سواءً كنّا نبحث في مقولة العدل أم في مقولة الظّلم، فمنشأ أيّ منهما هو النّفس الإنسانيّة، أمّا المتعلّق فقد يكون المال أو العقار، السّلطة أو القانون، الاقتصاد أو الاجتماع، أو أيّ من الأفعال أو الأقوال خارجًا على إطلاقها، وسعتها.

وإنّ الخطأ الذي وقعت فيه أكثر نظريّات العدالة في العصر الحديث، أنّها غرقت في المتعلِّق، وغَفِلت عن المنشأ. ولذلك بنت كلّ أطروحتها في الوصول إلى مقصد العدالة على المتعلّق خارجًا، ونسيت المنشأ داخلاً، فأخفقت في الوصول إلى عدالة صلبة في تمثّلاتها الخارجيّة، أي إلى عدالة ذات دفع ذاتي ومستدام في شتّى مجالات الاجتماع العام وشؤونه، بحيث لا تعاني من الانحراف أو الخفوت أو الارتكاس في سيرها ومسارها. ومن هذه النقطة بالذات نستطيع أن نعي لماذا كانت مجمل التجارب البشريّة تصل إلى الفشل، أو إلى بعضٍ أو كثيرٍ منه في سعيها إلى تحقيق العدل وكبح الظلم.

العدالة كاختبار للفرد الإنساني

إنّ في النّفس الإنسانيّة استعدادًا للعدل والظّلم، وبمقدار ما يستطيع المرء أن يكون وسطًا بين نفسه والآخر، يمكن له أن يصل إلى عدله وأن يفارق ظلمه. أي المطلوب أن يخرج الإنسان من نفسه، من سطوتها، وسلطانها، وميولها، وشهواتها، وأهوائها حتّى يستطيع أن يجعل لنفسه ميزانًا بينه وبين غيره. ومن الطبيعي أن ترتقي هذه المقولة بالإنسان ليرى الأمور من زاوية الآخر كما من زاويته، وأن ينظر إلى مصلحة الآخر، مثلما ينظر إلى مصلحته، وأن يهدف إلى نفع الآخر كما إلى نفع نفسه، وأن يكره للآخر ما يكره لنفسه، وأن يحبّ للآخر ما يحبّ لنفسه، وبالمستوى نفسه الذي يكره لنفسه، أو يحبّ لها؛ أي أن تستوي نفسه مع الآخر، ولا تتمايز عنها.

ذاك يعني أنّ للإنصاف بعدين أساسيّين: بعد معرفيّ، يتّصل باستواء النّظرة للأنا والآخر، وبعد وجدانيّ، يتّصل بالشعور تجاه الآخر - حبًّا وكرهًا وإرادة خير - بالمستوى نفسه تجاه الذّات والأنا[4]. وهو ما يؤسّس لبعد عملي تتوزّع تمثّلاته وتجلّياته في أكثر من ميدان وصعيد، ويلتقي مع ما نطلق عليها فلسفة عبوديّة الله تعالى، والتي لا تتمّ إلّا بالخروج من عبوديّة الأنا، والتي لا بدّ أن تنتج - إذا ما تحقّقت فعلاً إلى الإنصاف في العلاقة مع الآخر، وإلى العدل في معاملته، وإلى أن تكون النّفس ميزانًا بين الذّات والغير. وهي الوظيفة الأساسيّة للأديان الإلهيّة، أي صناعة إنسان العدالة، تمهيدًا لمجتمع العدالة، حيث لا يكون التّخلق بأخلاق الله العادل إلّا بالتزام صيرورة العدالة، ولا يستطاع السير إلى الله العادل إلّا بتمثّل العدل ونهجه[5]. ما يعني أنّ المؤدّى التلقائي لعبوديّة الله تعالى، هو إقامة العدل ونفي الظلم. وهذا يعني أنّ أيّة ممارسات عباديّة لا تفضي إلى الخروج من عبوديّة الأنا، وتاليًا إلى القدرة على فعل العدل، وممارسة الإنصاف في العلاقة مع الآخرين؛ هي ممارسات عقيمة، وفاقدة لروحها، ومبتورة عن مقصدها، ويلتقي أيضًا مع عقيدة التوحيد التي تفضي إلى الخروج من أيّة عبودية أخرى للأنا والهوى متعلقاتهما، وهو ما يسمح بإيجاد أساس معنويّ وقيميّ لتوطين العدل في النّفس، وإسكان الإنصاف لديها.  أي إنّ التوحيد يفتح على عالم الألوهيّة بما يحمله من مخزون قيميّ وروحيّ داعٍ إلى التربية على العدالة والتنشئة عليها، ويُبعد عن العبوديات الأخرى من ماديّة وأهوائيّة، وما يمكن أن تؤدّي إليه تلك العبوديات من انحياز إلى الأنا ومتعلّقاتها، وهو انحياز يقود إلى إيجاد منشأ للظلم والجور في النّفس، لا بدّ أن يعبر منه إلى الخارج فعلاً وسلوكًا.

وبناءً على مجمل ما تقدّم، يمكن لنا نسج ميزان، يتيح لنا أن نتلمّس مدى محاكاة أو مفارقة أي خطاب ديني أو سلوك للهدف الأساس والمقصد الأوّل الذي كانت الأديان من أجله، وجاءت لتحقيق غايته، إذ إنّه بمقدار ما يعبّر عن العدل وقيمه، بمقدار ما يحكي طهرانيّته وصفاءه، وبمقدار ما يفارق الإنصاف وميزانه، بمقدار ما يحكي تشوّهًا أصابه، أو انحرافًا ألمّ به.

ومن هنا نستطيع أن نفهم هذا المخزون المعنوي، والرّوحي، والقيمي، والأخلاقي، والتّربوي الهائل الذي جاءت به الأديان الإلهيّة، والذي يهدف إلى ترويض النّفس، وتهذيبها، وكبح جموحها، وضبط جماحها، وغلبة أهوائها؛ إنّه من أجل هدف أساس، وغاية أسمى، وهي صناعة الإنسان العادل، وتزكية نفسه بالعدل؛ مع كون هذا المخزون - وللأسف الكبير - لم يتحوّل في مجمله إلى ثقافة عامّة لدى العديد من المجتمعات البشريّة على أنواعها، وذلك لغلبة الفلسفات الماديّة، وطغيان ثقافة المادة، وهجران الرّوح، ونسيان النّفس، والازدلاف إلى صنمَي الدهر: السلطة والمال.

وحتّى لا يُفهم أنّنا جنحنا إلى شيء من المثاليّة أو الطوباوية، لا بدّ من إلفات النّظر إلى أنّ هذه المقاربة تحدّد لنا المنهج الذي يجب أن نسلك للوصول إلى عدالة صلبة، تمتدّ جذورها إلى النّفس الإنسانيّة، وإيمانها، وضميرها، ووجدانها. وتبيّن لنا تاليًا كافّة الأطر والسياسات، التي يجب أن تعتمد لبلوغ ذلك المقصد. وهو - أي ذلك المنهج - المنهج التّربوي والأخلاقي بالدّرجة الأولى؛ لأنّ السؤال الأساس الذي يحتاج إلى تقريب الجواب عليه هو هذا السؤال: كيف نستولد عدالة شاملة وصلبة؟ أي كيف نصل إلى عدالة تمتلك دافعًا ذاتيًّا، ينبع من أعماق النّفس الإنسانيّة، وتستوعب جميع مجالات الحياة الفرديّة، وميادين الاجتماع العام؟ وسؤال ال»كيف» هذا وجوابه، هو سؤال المنهج وجوابه، وهو الذي يحدّد جميع السياسات والبرامج والسّبل والأدوات... التي يجب أن تعتمد لتحقيق العدالة المنشودة.

ولهذا فإنّ المقاربات التي تحبس العدالة في إطار مادّي اقتصاديّ يتمحور حول توزيع الثّروة، لن يتعدّى مشروعها لتحقيق عدالة اقتصاديّة - اجتماعيّة، حيث ستكون بدايته من توزيع الثروة، ونهايته في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يترتّب عليه سياسات وبرامج وأدوات تنسجم معه. ومن يرى أنّ العدالة السياسيّة تنبع من توزيع السّلطة وعدم حصرها، فإنّ مشروعها سوف ينحصر في عمليّة الفصل بين السلطات، وما يستتبعه ذلك من نتائج ومترتّبات في أكثر من مجال، وعلى أكثر من صعيد.

أمّا المقاربة التي ترى في العدالة جذراً في النّفس، ونبتًا في الوعي والوجدان؛ فسوف يكون مشروعها للعدالة مختلفًا، حيث يبدأ من النّفس ولا ينتهي عندها، ويشرع من التّربية ومن ثمّ يتجاوزها. أي إنّ ذاك المشروع سوف يكون مشروعًا تربويًّا - أخلاقيًّا في منطلقه، يقوم على أسس فلسفيّة وفكريّة ومعرفيّة، ليتكامل ويشمل مجمل الأبعاد الأخرى ذات الصّلة من قانونيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وغيرها في مراحله اللّاحقة. وعليه فإن حسم الموقف من الجوهر الفلسفي للعدالة ونواتها الأولى، هو الذي يحدّد لنا أي مشروع ننتهج، والسياسات والبرامج والأدوات وجميع الخطوات ذات الصّلة، ويؤسّس لاتّجاهات أكثر واقعيّة، وأوسع شموليّة، وأشدّ قدرة على إنتاج العدل، ويوفّر أرضيّة صلبة تتيح تشييد مسارات أبعد استدامة، وأقرب إلى بلوغ الغاية.

خلفيات هذا الطرح ومرتكزاته

قد يعتقد البعض أنّ مثل هذا الطّرح يؤدّي بحسب أطروحته إلى الانفصام عن الواقع، وهو ما يتطلّب توضيح الأمر في نقاط:

إنّ فشل مجمل التّجارب البشريّة، التي قاربت العدالة مقاربة ظاهريّة أو ماديّة؛ تقدّم مؤشّرًا أو دليلاً على ما نقول.

إنّ فشل العديد من التّجارب الدّينيّة في تحقيق هذا الهدف، لا يعني أنّ الأديان في مضمونها الصافي لا تحمل هذه الغاية، وإنّما الالتباسات التّاريخيّة قد طغت على المحتوى الدّيني، وحرّفته عن مساره، وشوّهت معالمه.

إن أقصى ما يمكن الوصول إليه من المقاربات التي تحبس العدالة في إطار مادّي اقتصاديّ أو سياسي... هو نمط اقتصادي - سياسي قد يحاكي شيئًا من العدالة، لكنّه لا يشمل جميع أبعادها، وقد ينقلب إلى ضدّه وخلاف مقصده؛ لأنّه لا يقوم على أرض صلبة، ولم يهتد إلى المنبع الأساس لمقولتي العدل والظّلم، ولم يعالج الجذر الأساس المولّد لهما.

إنّ ما نتحدّث فيه عن تأسيس معنويّ، قيميّ، أخلاقيّ، تربويّ للعدالة؛ إنّما هو مجرّد بناء تحتيّ ومنطلق لما بعده، أي إنّ أيّة بناءات فوقيّة اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة... تفتقد إلى هذا التّأسيس القيمي للعدالة، هي بناءات لا تقوم على أرض صلبة، ويمكن أن تسقط أو تتهاوى لدى أي اهتزاز، أو اختبار، أو عوامل ذات أثر. وفي المقابل، فإنّ أيّ بناء تحتي – قيمي، أخلاقي -... لا يتكامل ويكتمل مع بناءات فوقيّة في مختلف مجالات الاجتماع العام، هو بناء ناقص، وغير مكتمل، وفاقد لوظائفه في مختلف المجالات الاجتماعيّة ذات الصّلة.

إنّ الشأن الأخلاقي هو شأن معرفيّ وواقعيّ بامتياز، ولا يصحّ الفصل بين المضمون الأخلاقي لأيّة صيرورة اجتماعيّة، وبين جميع تشكّلاتها المعرفيّة من اقتصاديّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة وغيرها، والوقائع التي تنبني من خلالها، ومجمل مؤدّياتها ونتاجها. وهذا  يرتكز على فلسفة مفادها أنّ الإنسان لن يكون إلّا كما هو. أي لن يكون في الخارج إلّا كما هو في الدّاخل. فعلُه يحكي عنه، ونتاجه ثمرة جوفه، ووعيه حصيلة ضميره، ولسانه ترجمان قلبه، وما استقرّ في النّفس يتبدّى في الفكر والثّقافة والسّلوك. هي معادلة جدليّة بين الدّاخل والخارج، كلّ منهما يعطي الآخر، ويأخذ منه. وإن كان ما تقدّم يضيء على إحدى جنبتي هذه المعادلة، وهو ما يتّصل بتأثّر البناء الفوقي المعرفي من اقتصادي واجتماعي وقانوني... بحقيقة النّفس، وجوّانيتها، وتولّده منها.

ثم إنّ الانزياحات العديدة التي شهدتها التّجربة الرّأسماليّة إلى اللّا عدالة، لا تبتعد عن الجذر الأخلاقي في مضمونه الفلسفي والمعرفي؛ لأنّه لا يمكن النّظر إلى أطروحة مركّزة الثروة، ومنفعة الأغنياء، وترف القلّة، بعيدًا عن غواية المال، وشهوة الجمع والتّكاثر، حيث تتجاوز البناءات الفوقيّة المعرفيّة في الاقتصاد وغيره أن تكون مجرّد تبرير لذاك المحتوى الأخلاقي على صلاحه أو فساده، وإنّما البعد المعرفي يتخلّق مع ذاك المحتوى الأخلاقي في علاقة شبه جدليّة، تنتج تلك البناءات الفوقيّة في الاقتصاد أو الاجتماع وغير ذلك.

وإنّ من حصل لديه ذلك الانحياز إلى أناه - ولو بالمعنى الفئوي أو الاقتصادي..-، والميل إلى هواه، وافتقد الإنصاف في داخله؛ لن يقارب موضوع الاقتصاد وقضاياه مقاربة إنصاف وعدالة. وفي المقابل، إنّ من استوطن الإنصاف في نفسه، لن ينظر إلى الاقتصاد في بنيته إلّا نظرة إنصاف، فهو لن ينحاز إلى القلّة المترفة أو الكثرة العاملة، وإنّما يسود لديه نوع من التّوازن في النّظرة إلى كليهما قيميًّا وأخلاقيًّا ونفسيًّا... بما يستولد بناءات فوقيّة معرفيّة في الاقتصاد، تعكس ذلك التّوازن، وتستبطن ذلك الإنصاف، وترعى مصلحة المجموع، ومنفعة المجال العام، دون عصبويّة، أو بغي، أو حقدٍ على طبقة، أو جنوحٍ إلى ظلم.

منطق العدالة في المنظومة الدينيّة

إنّ الأديان الإلهيّة في جوهرها المنفصم عن الصّيرورة التّاريخيّة تمتلك فلسفة أخلاقيّة ذات مضامين وأبعاد معنويّة معرفيّة ثقافيّة تربويّة اجتماعيّة... قادرة على صناعة إنسان العدالة، ومجتمع العدالة، بالارتكاز إلى مجمل تلك المنظومة القيميّة والأخلاقيّة التي جاء بها الدّين. أي إنّنا نحتاج إلى الفصل بين الدّين في معانيه الصافية، وبين الدّين في العديد من تجاربه التّاريخيّة، وتحديدًا تلك التي أخذت مسارًا سلطانيًّا، أو خضعت لسطوة الظّروف التّاريخيّة، وتلوّثت بوقائعها، وتشوّهت بالكثير من التباساتها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّنا نجد في تراث مدرسة أهل بيت النبيص، مخزونًا قيميًّا وأخلاقيًّا رائعًا ونموذجيًا لما نتحدّث عنه؛ وذلك لما ينطوي عليه ذلك التّراث من بعد معنويّ زاخر، ومن محتوى قيميّ واسع، ومن غنًى في المضمون الأخلاقي والتّربوي، بما يسعف القاصد إصلاح نفسه بالعدل، وإشباع وجدانه بالإنصاف.

وقد يقول قائل، إنّ ما تقدّم ينطوي على دعوة إلى عودة الدين إلى الاجتماع العام[6]، مع أنّ من يقرأ التجارب الدينية في التاريخ القريب والبعيد، يصل إلى نتيجة مفادها، أنّ مجمل تلك التجارب قد أفضى إلى نتائج غير مشجّعة في أكثر من مجال، وأكثر من حقبة تاريخيّة.

في مقام الجواب، لا بدّ من القول إنّ ما تقدّم من مقاربة لا ينطوي البتّة على استعادة مجمل تلك التجارب التي توصف بكونها دينيّة، وهي في جوهرها مجافية للدّين وحقيقته، وكانت من أهمّ الأسباب لتشويه الدّين والنفور منه، بل هي مقاربة تسعى إلى بيان المنهج، والمضمون، الذي قد يفضي إلى تدشين طريق ثالث، وفتح كوّة في جدار الإنسداد الحضاري، الذي تعاني منه البشريّة، وهي محاولة للإضاءة على سبيل الخلاص الحضاري، الذي تسعى إليه البشريّة، وتجهد للحصول على بارقة توصل إليه.

إنّ هذه المقاربة تريد القول إنّ العدالة بذاك المعنى وتلك الفلسفة؛ هي سبيل الخلاص، وترياق التّيه[7]. وإذا ما بحثنا في مجمل الموجود المعرفي الإنساني، فإنّنا نجد أنّ المضمون الديني في صورته النّقيّة والصافية، تتوفّر لديه مجمل تلك القيم، التي تسهم في صناعة إنسان العدالة، وتتوفّر لديه أرضيّة أخلاقيّة خصبة للتربية على العدالة، وتدشين مساراتها.

وهنا، لا بدّ من الإلفات إلى ما يلي:

أوّلًا: إنّ هذا المضمون قد نجده أو بعضًا منه لدى العديد من الأديان - في صورتها النّقيّة، ونسختها الصافية - كما لدى بعض الفلسفات أو المدارس الفكريّة، أو حتى التجارب الإنسانيّة التي حاكت الفطرة البشريّة، أو استلهمت من بعض القيم الاجتماعيّة البشريّة ذات المنشأ الديني.

ثانيًا: لا يعني ما تقدّم أن نأخذ من المضمون الديني جميع ما فيه وكلّ ما لديه، وإنّما نأخذ منه ما يسهم في الوصول إلى تلك الغاية، ويسعف في بلوغ ذلك المقصد. أمّا ما يؤدّي إلى خلاف ذلك، فينبغي أن يُعمل على كنسه، وتطهير المضمون الديني منه.

ثالثًا: إنّ ما تقدّم من مقاربة، في الوقت الذي يفتح فيه على الأخذ من المضمون الديني ـ كما من غيره ـ، فإنّه «يقدّم أيضًا» معيارًا وميزانًا، يمكن من خلاله تقييم تلك المعطيات الدينيّة ذات الصّلة بالبعد القيمي والمفهومي، بحيث يميّز بين ما كان منها مؤدّيًا إلى ذلك الهدف وتلك الغاية، فيُعلم أنّه من الدين ومن صلبه، وما كان منها مبعدًا عن ذلك الهدف، وتلك الغاية، فيعلم أنّه ليس من الدين، وينافي حقيقته.

فمثلاً ـ وحتى لا يشتبه الأمر على البعض، فيظنّ أنّنا نخضِع الدّين في جميع معطياته لتقييم الذّوق البشري، وهو ليس كذلك ـ ، هناك من يخلط بين الطائفيّة في مضمونها العنصريّ، وبين الدّين في محتواه القيمي، فيعمل على رمي جميع مثالب الطائفيّة على الدّين وأهله. وفي هذا خلطٌ، وظلم، وكثير من الافتراء. مع أنّه إذا ما تأمّلنا في حقيقة الطائفيّة، نجد أنّها نوع تعظيم لأنا الجماعة، المتمثّلة هنا في الطائفة، وإعلاء لهذه الأنا على أنا الجماعة الطائفة الأخرى، لمجرّد أنّ هذه الأنا هي أنا النحن، وتلك الأنا هي أنا الهم، أي إنّ هذا الإعلاء هو إعلاءٌ عنصريّ، وليس إعلاءً قيميًّا مبنيًا على التفاضل القيمي.

وهو يتضمّن نوع عبوديّة لهذه الأنا الجماعيّة، والذي يعبّر عن نفسه من خلال تعظيمها، والإعلاء من شأنها، وتفضيلها بما هي أنا النحن على أنا الهم. وبالتالي هي تتنافى وجوهر العدالة ومقصدها الهادف إلى إخراج الأنا ـ فردية أو جماعية ـ من عبودية الذات إلى عبودية الله، ومن التعالي إلى التواضع، ومن التفاضل العنصري إلى التفاضل القيمي، ومن العنصريّة إلى الإنسانيّة، ومن التشرنق الأنوي إلى التناصف في الرؤية والوجدان.

بناءً على هذا المعيار يتبيّن أنّ مقولة الطائفيّة ليست من الدّين في شيء، بل هي تتنافى معه[8]. ولذا ينبغي العمل على إخراجها من الخطاب والثقافة، وإفقادها أية مشروعيّة دينيّة مدعاة يمكن أن تتلطّى بها، أو تتستّر بلباسها.

وهذه المقاربة التي تنطبق على الطائفيّة تنطبق أيضًا على جميع المقولات العنصريّة الأخرى، بمعزل عن تمظهرها، والتعبير الذي تأخذه، سواءٌ أكان قوميًّا أم مذهبيًّا أم إثنيًّا أم جهتيًّا أم مناطقيًّا أو حزبيًّا، بل وحتى أيديولوجيًّا وغيره؛ لأنّها جميعها في المضمون واحد، وفي المحتوى تتشابه. إذ إنّها تنطوي على تعظيم تلك الأنا في مقابل الآخر، وتكبّرها عليه. وهو يعني أنّ سبب الانحدار إلى الظّلم في جميعها واحد، وأنّ العلاج لديها متجانس.

وكذلك الأمر عندما تُعرض بقيّة المفاهيم والمعطيات القيميّة على معيار العدالة وميزان الإنصاف، فإنّه يمكن لنا أن نتبيّن ما الذي يتماهى والدين منها، أو يتنافى معه.

وعليه، ليست دعوة إلى استجرار تلك التجارب الفاشلة، التي تنسب إلى الدين، وهي ليست منه، وإنّما هي دعوة إلى تدشين مسارات جديدة، تستفيد من أيّ معطى، يسهم في تعزيز مقولة العدالة القائمة على تلك الفلسفة.

إنّ مجمل التجارب البشرية قد اعتمدت مسارين: الأوّل، وهو المسار الذي عمل على الالتحاف بالدّين وارتداء لباسه، وإن كان في جوهره وقيمه منافيًا له، ومخالفًا لحقيقته. والمسار الثاني هو الذي قطع مع الدّين قلبًا وقالبًا، وركن إلى وضعيّته، واعتمد أشكالاً مختلفة من العلمانيّة، وإن كانت في مجملها قد نحت إلى البعد المادي، وأغفلت البعد المعنوي والروحي.

أمّا هنا، فإنّ المطروح:

1. تدشين مسارات مختلفة تستقي من جوهر الدين القائم على العدالة، وتسعى إلى مقصده الهادف إلى القسط والإنصاف.

2. الانفتاح على مجمل الموجود الديني وغير الديني الفطري، الذي يسعف الوصول إلى ذاك الهدف، ويعين على ذاك المسعى.

3. تقديم معيار يمكن من خلاله وعلى أساسه تمييز أي معطى قيمي، يمكن أن يؤدّي إلى ذاك المقصد، كما يمكن أن يؤدّي إلى خلافه، سواءٌ أكان دينيًّا أم غير دينيّ، فإنّ هذا المعيار يصلح لغربلة كلّ منهم، وذلك من حيث النتيجة التي يمكن أن تترتّب على ذاك المعطى، خروجًا من سلطان الأنا وعبوديّتها وسطوتها، أم مزيد تعظيم لها، وإعلاء من شأنها، وتكبّر على أقرانها.

4. إنّ هذه المسارات تنبع من صميم الفطرة الإنسانيّة، وتستجيب لعطشها، وتروي توقها إلى حياة تقوم على العدالة الشاملة، التي تستوعب كلّ شيء وفعل.

5. إنّ محور هذه الأطروحة هو العدالة، وليس التّراث على إطلاقه، أو أي شيء آخر. نعم، عندما نجد أنّ أيّ معطى ديني – أو فطري - يخدم مقولة العدالة، فينبغي الأخذ به، ولا يصحّ أن تكون هناك أيّة حزازة تمنع من الاستفادة منه.

إنّ فهم الدين في مجمل منظومته على أساس من تلك القيم المحورية والجذرية العدالة؛ يتيح لنا أمرين اثنين متكاملين: الأوّل، فهم تلك المعطيات الدينيّة بشكل أعمق. والثاني، توظيفها بشكل أفضل، بحيث يعلم المقصد منها، والهدف الذي تسعى إليه. وبالتالي يمكن إدارتها بطريقة توصل إلى ذاك المقصد، وتحقّق الغايات المرجوّة منها في التخليق بالعدل، وصناعة وجدانه، وتخصيب ضميره، وتنمية جميع أخلاقياته وسلوكياته.

العروة الوثقى بين العدل والعقل

مع الإلفات إلى أنّ كلاً من العدالة والحريّة هنا إنّما هو في إطاره الجوّاني، وبعده النفسي. فنحن هنا نتحدث في معنيين موطنهما النّفس، ولا ينحصران به وإنّما ينشآن منه، ويتمدّدان إلى خارجه.

أمّا عن دور العقل فيما يرتبط بموضوع العدالة، فيمكن القول:

أوّلاً: إنّ منظومة العدالة بأجمعها تقوم على أساس من فعل العقل.

ثانيًا: إنّ مقاربة أيّ من المفردات التربويّة والسلوكيّة المؤدّية إلى تحقيق العدالة، إنّما تتمّ من خلال العقل ودوره، بما هو أداة وعي وفهم.

ثالثًا: إذا كان هوى النّفس هو الحاجز دون تحقّق العدالة، وإذا كان كلٌ من الهوى والعقل مقولتين متنافيتين؛ فهذا يعني أنّه بمقدار ما ينتعش الهوى ينحسر العقل. وفي المقابل، بمقدار ما يأخذ العقل دوره ويتّسع مداه ينقبض الهوى، وتاليًا تتمّ صناعة العدالة.

للعقل دورٌ أساس في صناعة العدالة. بل من دون العقل ودوره لا تحقّق للعدالة. وقيمة هذه العدالة أنّها تتحقّق بالاختيار، حيث يُمارس هذا الاختيار من خلال منحى صراعي بين الهوى والعقل، فإذا ما كانت الغلبة للعقل فهو ما يؤدّي إلى صناعة العدالة، وإذا ما كانت الغلبة للهوى فهو ما يفضي إلى نقيضها، أي إلى اللا عدالة. فالعقل نقيض الهوى، ومن خلال فعل التّعقّل يُستدفع الهوى، فيُستولد العدل.

العقل هو أب العدل، والعدل وليده. بل يمكن قياس مستوى العقل والعقلانيّة لدى الفرد والمجتمع من خلال قياس مدى العدالة لدى أيّ منهما الفرد، والمجتمع، والعكس صحيح. أي إنّه يمكن قياس مدى العدالة فرديًّا ومجتمعيًّا، من خلال قياس دور العقل ومداه، ومستوى الإشباع العقلاني لدى أيّ منهما. فلا عقلانيّة من دون عدالة، وإلّا كانت عقلانيّة مزيّفة، ولا عدالة من دون عقلانيّة، وإلّا كانت عدالة خاوية وصوَريّة. فهما مقولتان متلازمتان في الخارج والواقع، وإن اختلفتا في المفهوم والوعي.

وفيما يتّصل بذلك النّقاش الذي يدور حول أنّ هذه الفلسفة أو تلك للعدالة هل هي فرديّة، أم اجتماعيّة؟ تعنى بالفرد، أم تتّسع للاجتماع العام؟ فلا بدّ من القول إنّ بعض فلسفات العدالة جنحت إلى البعد الفردي أكثر، في حين إنّ فلسفات عدالة أخرى عنت بالاجتماع العام، سواءٌ في مجاله السياسي أم الاجتماعي، فكان همّها الوصول إلى عدالة سياسية أو اجتماعية، من دون أن تعنى بالعدالة الفردية، وصناعة إنسان العدالة تربويًّا وأخلاقيًّا، وذلك تبعًا للمباني الفكريّة والمعرفيّة لكلٍّ منهما.

أمّا في هذه المقاربة لفلسفة العدالة، فإنّنا نبحث في عدالة تجمع البعدين معًا، الفردي والاجتماعي، الجواني والخارجي؛ إذ إنّها تهدف إلى العدل في الاجتماع العام في مختلف مجالاته السياسية والاجتماعية وغيرها، لكنّها ترى أنّ هذا العدل لا يمكن أن يقف على أرضٍ صلبة، ويكون أدعى إلى بلوغ مقاصده وتحقيق غاياته، وأشدّ استدامة وإنتاجيّة وضمانة من الانقلاب إلى ضدّه؛ ما لم يكن هناك دوافع ذاتيّة للعدالة، تنبع من صميم النّفس الإنسانيّة، وتنسجم مع فطرتها، وتتلاءم مع وجدانها، وتجمع ما بين المنافع الذاتيّة والعامّة لإقامة القسط وصناعة العدل، بما في ذلك المنافع المعنويّة والأخرويّة منها.

هذه المقاربة تذهب إلى أنّ مجمل ارتكاسات وانتكاسات العدالة، التي احتبست في الشأن العام، وانحصرت في حدوده؛ تعود إلى أنّها جافت البعد الجوّاني، وأغفلت ضرورته، ولم تلتفت إلى أنّ العدالة في السلوك تنشأ من العدالة في النّفس، وأنّ العدل العام يتألف من العدل الخاص، وأنّ العدل في الاجتماع العام هو -في مجمله- حصيلة العدل لدى مجموع الأفراد، وأن نبتة العدالة تبدأ من تحت التراب، وما فروعها إلا ثمرة بذرها المتخفّي في جوف الأرض.

ومن هنا كانت الحاجة إلى عدالة لا تهمل منبتها، ولا تغفل عن مقصدها. أي عدالة قادرة على الولوج إلى باطن النّفس والتموضع فيها، ومتطلّعة في الآن نفسه إلى جميع ميادين الاجتماع العام وحقوله، من سياسية واقتصادية وغيرها، والبناء فيه، والتمدّد إليه.

إنّ الحديث عن عدالة اقتصاديّة لا يتمّ ـ بناء على هذه المقاربة ـ بمعزل عن أخلاق عدالة اقتصاديّة، كما إنّ الحديث عن عدالة سياسية لا يتمّ بمعزل عن أخلاق عدالة سياسية. وهكذا الأمر في بقيّة المجالات المعرفيّة والاجتماعيّة والعلوم ذات الصلة[9].

إذن، يمكن القول إنّ ميزة هذه المقاربة أنّها تجمع البعدين معًا. بل ترى أنّ كلاً من البعد الجوّاني والخارجي للعدالة هو في جوهره أمرٌ واحد، وإن اختلفت تجلّياته وتعابيره، وجهة النّظر إليه. بل ترى نوع تكاملٍ بينهما، وأنّ علاقة جدليّة تقوم بين هذين البعدين، بحيث إنّ كلاً منهما يغذّي الآخر ويستفيد منه، يأخذ منه ويعطيه.

وفي هذا نوع تأسيس لفلسفة شاملة في العدالة، تستوعب جميع الأبعاد، ولا تستثني أيًا من المجالات، وتسري إلى أية قضيّة مهما كان مضمونها، سياسيًا أو اجتماعيًّا أو قانونيًّا أو اقتصاديًا أو في السياسات الضريبية أو في توزيع الدخل والثروات الوطنية...

بين العدالة والحرية

أما في الرأي القائل إنّ المقاربة الإسلاميّة تاريخيًا شدّدت على العدالة وأهملت الحريّة، وأنّه إن كانت الحرية أيقونة الغرب في الفكر والثقافة والسلوك... فإنّ العدالة هي أيقونة الشرق في مجمل ما تقدّم، وخصوصًا في السياق الإسلامي تاريخيًّا وحاضرًا؛ فلا بدّ من بيان التالي:

أوّلاً: إنّ مقاربة العدالة في مجمل التاريخ والتراث الإسلاميين قد تمحورت إلى مستوى وآخر حول العدل الإلهي، والبعد الفردي لها، ولم تعن بالمستوى نفسه بالعدالة في الاجتماع العام. أي هي لم تنظر إلى تلك العدالة الفرديّة والجوانيّة تربويًا وأخلاقيًا ضمن منظومة شاملة، ورؤية أوسع، ترى في العدالة الفرديّة أساسًا للجمعيّة، وفي الجوانيّة منطلقًا للعدالة في الاجتماع العام. أي إنّ الغالب على تلك المقاربة هو بعدها الكلامي، أو الخلقي- الفردي والفقهي، ولم يكن لديها ذلك القصد والتطلّع إلى صناعة مجتمع العدالة ومؤسّسات العدالة ودولة العدالة.

ثانيًا: بناء على فلسفة الوصل تلك التي سلفت ما بين العدالة والحرية، يمكن القول إنّ أيّة مقاربة للعدالة تنطوي بالمستوى نفسه على مقاربة للحرية. وهو ما يعني أنّ القول بوجود تلك العناية بالعدالة في السياق الإسلامي، ينطوي ضمنًا على القول بوجود تلك العناية وبالقدر نفسه بالحرية. نعم بناءً على الفلسفة الخاصّة بالحريّة في الإطار الإسلامي، والمحتوى الاصطلاحي النابع منها. وهو ما يفضي إلى القول إنّ الحريّة قد أخذت مداها في السياق الإسلامي، لكن في تعريفها الخاص بها، ومضمونها المستخلص من المباني الفكريّة والمعرفيّة التي يرتكز عليها.

 ثالثًا: أما الحديث عن الحرية بناءً على اصطلاحها الغربي، فهو يحتاج إلى مقاربة مختلفة، تتطلّب تعقّب هذا المضمون في التراث والتاريخ الإسلاميين، بمعزل عن المفردات الموازية التي تحمل المضمون نفسه. وهو ما يحتاج إلى بحثٍ مستأنف.

التمايز المنهجي في العدالة بين الإسلام والغرب

ثمة فرقٌ منهجيٌّ بين مقاربة الحريّة في مضمونها الغربي من خلال التاريخ الإسلامي، وخصوصًا في مساره السلطاني، وبين مقاربة الحريّة في ذاك المضمون من خلال التّراث الإسلامي؛ لأنّه ليس من الضروري أن يعبّر ذاك التاريخ عن ذاك التّراث في جانبٍ أو آخر ويحكيه، كما ليس من الضروري أن يكون ذاك التراث قد تموضع في جميع أبعاده ثقافيًّا واجتماعيًّا في ذاك التاريخ، أو عُمل على تسييله فيه.

أمّا إن كانت المقاربة في الإطار التاريخي حصرًا، فلا بدّ من تحقيب هذا الإطار وتحديده اجتماعيًا وتاريخيًا زمنيًا؛ لأنه لا يصحّ الحديث عن نموذج واحد في الإطار التاريخي الإسلامي، وإنما تتعدّد النماذج وتختلف باختلاف العوامل والأسباب الاجتماعية والثقافية والتاريخية وغيرها، والتي تفضي إلى إنتاج نماذج مختلفة فيما يرتبط بموضوع الحرية في مضمونها الغربي. وهو ما يتطلّب منّا مقاربة أكثر دقّة.

وهنا من المفيد الإطلالة على هذه الفلسفة الأخلاقيّة للعدالة من جهة قدرتها على بناء المجتمعات وهويّاتها الجمعيّة، حيث ينبغي الإلفات إلى أنّ هذه الفلسفة تؤسّس لانتفاء العنصريّة في جميع أشكالها وألوانها. إذ إن العنصريّة تعني تضخيم الذّات والإعلاء من شأنها بالمقارنة مع الآخر، بمعزل عن الشكل الذي تأخذه هذه العنصريّة وتعبيرها، في حين أنّ فلسفة العدالة تلك تفضي إلى استواء النظرة بين الأنا والآخر معرفيًّا ووجدانيًّا، وإن كان من باب للتفاضل فهو تفاضلٌ قيميّ لا عنصريّ، وهو ما يؤسّس لوجود كلمةٍ سواء قيميّة، ولإمكانيّة بناء مساحة قيميّة مشتركة بين مختلف الفئات والجماعات على اختلافها؛ لأنّ المحتوى العنصري هو محتوى مقفل، في حين أنّ المحتوى القيمي هو محتوى مفتوح. المحتوى العنصري يمتنع عن أن يلجه من لا يحمل تلك الصفات العنصريّة، والتي هي صفات غير اختياريّة، في حين أنّ المحتوى القيمي يقبل أن يلجه كلّ من يختار الانتماء إلى مضمونه ومعانيه، وهو انتماء اختياري، يمارسه الفرد بفعل العقل والوعي. وهو ما يتيح بناء هويّات قيميّة مشتركة تصلح أن تكون أساسًا مجتمعيًّا لتكوين هويّة المجتمعات وانتمائها، حيث يمكن لهذه الهويّة القيميّة أن تكون عابرة لجميع الحواجز العنصريّة وقادرة على اختراقها، وتأسيس المشتركات من دونها[10].

أمّا المضمون القيمي هنا، مع ما ينبثق منه، ويقوم عليه، فهو العدالة في أبعادها المعنويّة والأخلاقيّة والتربويّة والثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة... وما يمكن أن يضمّه أو يؤسّسه هذا المضمون في أبعاده تلك من نموذج مجتمعي، فكري، ثقافي، أيديولوجي وجداني...يصلح أن يبني هويّة قيميّة جامعة للمجتمعات، ويوفّر قاعدة انتماء صلبة لها. وإن كان هذا الأمر مشروطًا بتنمية ذلك المضمون، وتوليده لمنظومة شاملة ومتكاملة ذات صلة.

لا ريب في قدرة فلسفة العدالة على التأسيس الهويتي، كما تسري في حال المجتمعات، لكنّها تسري أيضًا على ماهيّة الدولة[11]، حيث يمكن البناء على تلك الفلسفة للوصول إلى هويّة جامعة للدولة، بما يمكن أن يوجد جسور هويتيّة بين مكوّناتها، ويقلّص الشّروخ القائمة في الهويّات المتعدّدة لدى هذه الدولة أو تلك، التي قد ينعدم لدى أيّ منها أن تجد عوامل مسانخة لصناعة الهويّة لدى جميع مكوّناتها. أي لا تجد دولة تشترك جميع مكوّناتها في كل العوامل المشكّلة لهويّتها، وإنّما لا بدّ أن تجد أختلافًا ما في أيّ من تلك العوامل، عرقيًّا كان أو اثنيًّا أو طائفيًّا أو مذهبيًّا أو غير ذلك.

وعليه فإنّ قدرة فلسفة العدالة على التوسّع والتوليد الهويتي من جهة، وقدرتها على تجاوز جميع الحدود والحواجز العنصريّة من جهة ثانية؛ يتيحان بناء أساس هويتي صلب وشامل، يصلح أن يشكّل ركيزة قيميّة وهويتيّة للدول، وهو ما يمكن أن يساهم في حلّ العديد من الأزمات التي تواجه تلك الدول من حيث تعمّق الانقسامات والشروخ المجتمعيّة الموجودة لديها.

بالإضافة إلى ما يمكن أن توفّره فلسفة العدالة تلك من تأسيس صحيح وبنّاء للعلاقة بين الدول نفسها، وإقامة علاقات سليمة، وإعطاء معنى لمجمل تلك المبادئ التي ترتكز عليها العلاقات الدولية، وهذا الأمر يحتاج إلى عملية وصل ما بين تلك الفلسفة وهذه المبادئ. وإن كانت مجمل العلاقات الدوليّة في بعدها الواقعي تقوم على اعتبارات ومعايير مختلفة عن تلك المبادئ ولوازمها.

بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك، وهو إعادة بناء نموذج العولمة، والقائم حاليًا على الاعتبارات الماديّة، ومعايير النفوذ والمصلحة الاقتصاديّة، وتحويله إلى العدالة في قيمها ومؤدّياتها المختلفة، بما يفضي إلى نموذج عولمي يقوم على أساس من العدالة في جميع أبعادها. وهو ما يحتاج إلى أكثر من فلسفة وأيديولوجيّة وجهة تعمل على رفع العدالة إلى هذا المستوى، وأخذها إلى مديات تصل بها إلى تلك النتيجة.

ما هو المعيار الموضوعي في معرفة مكمن العدل أو الظلم؟

وبعد أن تطرّقنا إلى جملة من القضايا، وعملنا على مقاربتها على أساس من فلسفة العدالة تلك؛ قد يطرح البعض هذه المسألة، وهي أنّ هذه الفلسفة قد تفتقر إلى معيارٍ موضوعيّ، يمكن على أساسه ومن خلاله أن يُعمل على قياس مجمل القضايا، لمعرفة مكمن العدل أو الظلم فيها. والجواب أنّ هذه الفلسفة تنطوي على قدرة خلّاقة لإنتاج معايير موضوعيّة لقياس العدل وتمييزه عن الظلم، سوى أنّه فرق في جملة من الأمور:

 بين معيار موضوعيّ ينشأ من جوف النّفس ويتمدّد إلى خارجها، وبين معيار مبتور عن منشئه النّفسي.

 بين معيار يحتاج الى جهد تربويّ وفعل أخلاقيّ، وبين معيار غير مرتبط بهذا النّوع من الجهد والفعل.

 بين معيار قد يختصّ بمجال محدّد، وبين معيار شامل لجميع القضايا، ولا يمكن أن يخلو منه بعدٌ فرديّ أو عام.

 بين معيار يحتاج بشكل مستديم إلى بنائه وبلورته، والعمل على صوغه، وبين معيار يفتقد إلى هذه الخصوصيّة.

5.  فرق بين معيار يتّسم بشيء من الجمود، وبين معيار يمتاز بشيء من الديناميّة الخلّاقة، بمعنى قدرته على توليد معايير جزئيّة مصداقيّة موضوعيّة لجميع القضايا، والوصل ما بين ذاك المعيار على عمومه، وما بين أيّ من القضايا على جزئيّتها.

خاتمة

بناء على ما تقدّم، لا بدّ من القول إنّ ما تقدّمه هذه الفلسفة الأخلاقيّة هو أرضيّة خلّاقة لتوليد معايير موضوعيّة ملموسة للعدالة. وإنّ التحدّي الأهم في إقامة العدالة يكمن في المرتكزات المعرفيّة والمعنويّة والفلسفيّة القادرة على إقامة عدالة حقّة وصائبة، وليس عدالة مزيّفة أو مشوّهة. أمّا موضوع التشخيص المعياري، على أهمّيته، فهو يأتي في مرتبة تالية بلحاظ الأهميّة. وإن كانت مهمّة التشخيص هذه تحتاج إلى جهد مستأنف، وتنطوي على أهميّة خاصّة، وتتطلّب شروطًا ثلاثة:

الأوّل: تحديد المرتكزات المعرفيّة والفلسفيّة التي ينبع منها، ويقوم عليها.

الثاني: تحقيق ذلك المضمون الأخلاقي والمعنوي في النّفس بفعل التربية والتزكية. 

الثالث: معرفة الواقع أو الواقعة التي يراد بناء معيار موضوعي بشأنها.

وهو ما يتيح القيام بعمليّة وصل ما بين ذاك المضمون الأخلاقي المتحقّق في النّفس، وما بين تلك الواقعة، مع ما تحتاجه هذه العمليّة من عناصر معرفيّة وعلميّة ذات صلة، بما يفضي إلى إنتاج معايير موضوعيّة وملموسة هي حصيلة التجادل والتفاعل ما بين ذاك المضمون المعنوي والأخلاقي من جهة، وما بين ذاك المضمون المعرفي والواقعي من جهة أخرى.

وعليه، لا يصحّ القول إنّ هذه الفلسفة تفتقر إلى المعايير، وإنّما هي فلسفة حبلى بهذه المعايير، وقادرة على استيلادها، وإن كانت عمليّة التوليد هذه عمليّة مشروطة ومركّبة، وتتبع آلية خاصّة، لكنّها عمليّة تمتاز بجملة من الخصائص التي تجعل تلك المعايير أقرب إلى الاستجابة للواقع وجميع حاجاته والتباساته، وأقدر على محاكاة العدالة وجوهرها، وأشدّ قدرة على شمولها لجميع الأبعاد من فرديّة واجتماعيّة ودولتيّة ودوليّة وعولميّة، من دون أن تنحصر بمورد وآخر.

إنّ المجتمعات كما يمكن أن تتقدّم، أو تسرع الخطى في صناعة عدالتها، فإنّها يمكن أن ترتكس، أو يتباطأ سيرها أو يضعف في تلك الصناعة ومسارها. ما يوفّر لنا مؤشّرًا على مستوى الرّقي المعنوي والأخلاقي، والدرجة التي بلغتها المجتمعات في سلّم تكاملها الروحي والتربوي، ليكون منسوب العدالة ومدى حضوره فرديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا...بمثابة مؤشّر ودليل على ما بلغته تلك المجتمعات في مسارها ذاك، وموضعها منه.

كما لا يفوتنا الإشارة إلى أنّ القدسيّة التي تهبها هذه الفلسفة لصناعة العدالة وفعلها، باعتبار كونها طريقًا إلى الله تعالى وسبيلاً إليه؛ تعطي طاقة خلّاقة لتوليد العدالة، والسير في ركابها، والتغلّب على عوائقها، وتحطيم جميع الأصنام التي تحول دونها، عندما تضحى العدالة مقولة لا تقتصر على الاقتصاد والاجتماع والسياسة والقانون.. وإنّما تشمل أيضًا الإيمان والعرفان والعبادة والسير إلى الله تعالى والسلوك إليه، والآخرة وأهوالها، كما الدنيا وأحوالها.

ومن هنا، يمكن لنا أن نعي فلسفة ذلك الوصل بين خروج إمام العدالة –المهديع من أهل البيت- في نهاية التاريخ، وبين ما نصّت عليه بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيتع من أنّ الإمام المهدي «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما ملئت جورًا وظلمًا»[12]؛ حيث إنّ المهدي هو إمام الهداية المعنويّة[13]، وهو الهادي في طريق السير والسلوك إلى الله تعالى، وتحقيق عبوديّته، والخروج من جميع العبوديات الأخرى. وهو من هذه الجهة إنّما يدفع البشريّة نحو عدالتها، ويقودها لإقامة القسط لديها؛ لأنّ العدالة إذا ما كانت موصولة بالسير المعنوي والتكامل التخلّقي، وإذا كان المهدي هو من يأخذ بيد تلك البشريّة قدمًا في سيرها المعنوي ذاك، وسبيل تكاملها التخلّقي مورد الذكر؛ فهو ما يعني أنّ المهدي إنّما يحقّق لها بذلك عدالتها، ويملأ بهدايته أرضها قسطًا وعدلًا.

وهو لا يتنافى مع مجمل الروايات الأخرى ذات الصلة، والتي يستفاد منها أنّ الإمام يقطع جذور الظّلم بقوّة السيف، ويكنس الجور بمنطق التدافع؛ وذلك لأنّ إقامة العدالة في الاجتماع العام تحتاج إلى فعلٍ جمعيّ، وتكاملٍ اجتماعيّ، بمعزل عن مجمل الظروف والعوامل التي تهيّىء أرضيّة مناسبة لتحقيق هذا التكامل، وتساعد عليه. وإن كان ما يستفاد من مجمل تلك الروايات تلك أن العديد من الظروف والعوامل والأسباب، سوف تكون مساعدة إلى أبعد مدى في نهاية التاريخ وأوان الخروج على تحقيق ذلك التكامل المعنوي، ومؤدية إلى الدفع قدماً في طريق السير التخلّقي[14]، وهو ما سوف يسهم في هداية البشرية إلى عدالتها، وقيادتها إلى إقامة القسط لديها. وهو ما يحتاج إلى بحثٍ مستأنف.

-------------------------------

[1]*ـ باحث في الفكر الديني ، وأستاذ في الجامعة اللبنانية.

[2]- انظر: شقير، محمّد: فلسفة العدالة وإشكاليّات الدّين والدّولة والاجتماع الإنساني، ط1، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2019 م، ص25- 32.

[3]- - م.ن، ص 33.

[4]- لقد وجدنا نوع مقاربة لهذا المضمون لدى «أمارتيا سن»، من خلال ما يصطلح عليه بالتفكير المحايد. انظر: فكرة العدالة، ترجمة: مازن جندلي، ط1، بيروت، الدار العربية للعلوم، 2010م، ص11.

[5]- يمكن الحديث في هذا المورد عن العدالة في العرفان، والوصل ما بين قيمة العدالة وعلم العرفان بشقيه النّظري والعملي. وهو ما يتيح اكتشاف البعد العرفاني في العدالة، وإدخالها في منظومة العرفان، وصيرورتها مقولة عرفانيّة بامتياز.

[6]- في العلاقة بين الدّين والعدالة يمكن الرجوع إلى: م.ن.، صص 33- 62.

[7]- يمكن الوصل بين فلسفة العدالة هذه، وبين فلسفة المهدويّة في رؤيتها إلى حركة التّاريخ ونهايته، ولا يوجد من تنافٍ بينهما. انظر: شقير، محمّد: فلسفة المهدويّة: العدالة ونهاية التّاريخ، ط1، بيروت، دار المعارف الحكميّة، 2018م، ص49- 86.

[8]-  انظر في هذا الموضوع: شقير، محمّد: إشكاليّات التّكفير والمذهبيّة والرّافضة، ط1، بيروت، دار المودّة، 2016م، ص70- 84.

[9]- وفي هذا المورد، قد يؤخذ على ما ذهب إليه «جون رولز» في كتابه «العدالة كإنصاف»، حيث يقول معبّراً عن فلسفته في العدالة: «العدالة كإنصاف ليست عقيدة دينيّة أو فلسفيّة أو أخلاقيّة... هي مفهوم سياسي للعدالة... ومن هذه النّاحية هي أضيق في مجالها من العقائد الأخلاقيّة الفلسفيّة الشاملة..». جون رولز: العدالة كإنصاف،ترجمة: حيدر حاج اسماعيل، مراجعة: ربيع شلهوب، ط1، بيروت، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، 2019م، ص81.

[10]- شقير، محمّد، فلسفة العدالة وإشكاليّات الدّين والدّولة والاجتماع الإنساني، م.س، ص65- 71.

[11]- في الدّولة والعدالة يمكن الرّجوع إلى: م.ن، ص84- 141.

[12]-  الصدوق: الخصال، لا ط، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1403ه.ق، ص396.

[13]- انظر: الطباطبائي، محمد حسين: الشيعة، ترجمة: جواد علي، ط1، مؤسسة  أم القرى للتحقيق والنشر، 1416ه.ق، ص212-213.

[14]- يمكن أن يستفاد هذا المعنى من العديد من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيتع، من قبيل ما جاء عن الإمام الباقر من أنه: «إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم، وكملت به أحلامهم» الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران،1363ه.ش،ط5، ج1، ص25، حيث إن ما يفهم من هذه الرواية حصول نوع من العناية الإلهية الخاصة، أو التدخل الإلهي من خلال الإمام المهديع في وعي الناس ووجدانهم، الذين لديهم استعدادٌ ما لتلقّي هذه العناية، وتقبّل هذا الفيض، بما يؤدي إلى أن يكون لديهم مستوى متقدّم من حضور العقل وفاعليته في مقابل الهوى وتأثيره، وبما يوصل إلى اكتمال الوعي العقلي في مقابل التفكير الانفعالي، وهو ما يساعد بشكل أفعل على  الخروج من عبودية جميع الأهواء، والدخول بشكل أشدّ في عبودية الله تعالى، بما يفضي أكثر إلى صناعة العدل، والبعد عن الظلم. حيث سيكون من الصحيح منهجياً الوصل بين مجمل المضمون الروائي ذي الصلة، وبين فلسفة المهدوية ومقاصدها، التي تتمحور بشكل أساس حول العدالة وغاياتها.