البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التجربة الدينيّة الإسلامية؛ دحض المفهوم الغربي لخصخصة الدين

الباحث :  محمد لكنهاوزن
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  22
السنة :  شتاء 2021م / 1442هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 14 / 2021
عدد زيارات البحث :  469
تحميل  ( 408.425 KB )
يعتبر مصطلح «التجربة الدينيّة» مصطلحًا أجنبيًّا في العالم الإسلاميّ. وقد تطوّر عند الغربيين إلى تيارين رئيسيّين: يتمثّل التيّار الأوّل بأعمال فريدريك شلايرماخر (١٧٦٨-١٨٣٤)، بينما يتمثّل الآخر بأعمال ويليام جيمس (١٨٤٢-١٩١٠). يسود في الوقت الحالي نوع من الخلط بين التيارين، ولا تهدف هذه المقالة إلى إعادة تتبّعها بهدف نقد أو تفصيل مفهوم التجربة الدينيّة بحدّ ذاتها، عوضًا عن ذلك، سوف أفترض أنّ المفهوم موجود بالفعل، وأتساءل كيف تمّ انتشاره بهذا الشكل.

مهمّة هذه المقالة للبروفسور محمد لكنهاوزن إجراء مناقشة نقدية لأصل هذا المفهوم في نشأته الغربية، وبيان العناصر الأساسية التي تميِّزه عن المفهوم الإسلامي للتجربة الدينية. وقد سعى الكاتب الى إجراء تأصيل إجمالي للتجربة الدينية في فضاء الفكر الإسلامي.

«المحرر»

يثير استخدام مفهوم التجربة الدينيّة في مجال الدراسات الإسلاميّة عدّة تساؤلات مهمّة مثيرة للتفكير.

أوّلًا: التساؤل حول شرعيّة استخدام المفهوم في نواحٍ تختلف جدًّا عن المصدر الذي نشأ منه! إذ إنّه من حيث المبدأ، لا يوجد ما يتعارض بين الحاجة لوجود هذا المفهوم وبين المصادر التي نشأ منها، على سبيل المثال: إنّ عزل عنصر التنجستن لأوّل مرة من الولفراميت لا يمنعنا من التعرف عليه عندما يتمّ استخراجه من معدن الشيليت. وبالمثل، فإنّ ظهور التجربة الدينيّة في الديانة المسيحيّة أوّلًا لا يمنع إمكانيّة تطبيقه في مختلف نواحي الحياة الدينيّة عند المسلمين. من ناحية أخرى، تبدو الافتراضات الكامنة وراء مفهوم التجربة الدينيّة أكثر حساسيّة ثقافيًّا من تلك التي يمكن أن يتمّ الكشف عنها خلال البحث في البناء الاجتماعيّ عن مختلف أنواع المعادن (روكس، 1999، ص: 186-206).

ثانيًا: إذا افترضنا أنّه يُسمح للمسلمين تطبيق مفهوم التجربة الدينيّة في شؤونهم الحياتيّة، فهل يوجد اختلافات جوهريّة في أنواع التجارب الدينيّة عند المسلمين والمسيحيّين؟
توجد أنواع من التجارب الدينيّة لدى المسلمين يجهلها المسيحيّون؟ وهل يوجد أنواع من التجارب الدينيّة المسيحيّة على وجه التحديد يجهلها المسلمون؟ وإذا افترضنا أنّ التجارب الدينيّة المسيحيّة والإسلاميّة تتنوع بين الأنواع نفسها، أليس ثمّة المزيد من الاختلافات الجوهريّة بين المسيحيّين والمسلمين؟

ثالثًا: إذا افترضنا أنّ الأنواع الرئيسة للتجربة الدينيّة مشتركة بين المسلمين والمسيحيّين، حينها من المرجّح أن يختلف دور هذه التجارب في الحياة الدينيّة. هل تعتبر الأنواع المتشابهة من التجارب الدينيّة أمرًا مركزيًّا في حياة المسلمين والمسيحيّين؟  إذا افترضنا أنّ أهمّ التجارب الدينيّة للمسلمين تختلف اختلافًا كبيرًا عن أهمّ التجارب الدينيّة للمسيحيّين، فماذا تخبرنا هذه الفروقات بين الإسلام والمسيحيّة أو بين الحياة الدينيّة لكلٍ من المسلمين والمسيحيّين؟

للإجابة على القضايا المذكورة سابقًا يجب أن نتوصّل إلى عدّة أحكام:
الحكم حول إمكانية تطبيق مفهوم التجربة الدينيّة على الإسلام، أي تحليل ماهيّة المعنى الذي يمكن أن يُمنح لمصطلح التجربة الدينيّة في حال إيجاده وتوظيفه بهدف تعزيز فهمنا للإسلام.

تصنيف التجارب الدينيّة الإسلاميّة.
سرد أدوار التجربة الدينيّة الإسلاميّة في الحياة الدينيّة للمسلمين. وفي الواقع إنّ المساعي الهادفة لتحقيق هذا الأمر ليست سهلة المنال. سأقوم في هذه المقالة بدراسة بعض المسائل الأساسيّة المطروحة حول مفاهيم التجربة الدينيّة المكتشفة في أعمال كلٍّ من شلايرماخر وجيمس، لا سيّما تلك المطبَّقة على الحياة الدينيّة الإسلاميّة؛ لكنّني آمل أن نتمكّن من اتّخاذ بعض الخطوات الأوّليّة نحو هذه الأهداف الثلاثة. وبالرغم من أنّ التساؤل عن شرعيّة مفهوم التجربة الدينيّة في البيئة الإسلاميّة قد يعتبر أمرًا مبالغًا به، إلّا أنّ العديد من الأسئلة الجدّيّة حول التجربة الدينيّة قد تمّت إثارتها بشكل عامّ، خاصّةً في بيئة الثقافة المسيحيّة ذاتها، والتي كانت السبب وراء ظهور هذه الفكرة في المقام الأوّل.

المفهوم في الحيِّز الإسلامي
حتى لو مُنحنا شرعيّة استخدام هذا المفهوم بغرض فهم التديّن المسيحيّ، فهذا لن يجيز تطبيقه على الإسلام، من ناحية أخرى، ومن خلال الاعتراض على تطبيق المفهوم على الإسلام فإنّنا قد نجد ما يثير تساؤلاتنا حول الأفكار المرتبطة باتباع المفهوم إلى الحدّ الذي قد يجعل تطبيقه على الحياة المسيحيّة أمرًا مثيرًا للشكّ أيضًا بخلاف ما كنّا نعتقده في بادئ الأمر.

بدايةً، يعتبر مفهوم التجربة الدينيّة كما أُشيع استخدامه في الفلسفة الغربيّة مفهومًا عامًّا للغاية يشمل جميع أنواع المشاعر ووقائع الأفكار الدينيّة، ولا يقتصر على الرؤى الصوفيّة واكتشافاتها فقط، لكن الوضع يختلف في العالم الإسلاميّ، فعلى سبيل المثال: لا يعتبر المسلمون التجلّيات الروحانيّة التي يشعرون بها أثناء الصلاة والدعاء على أنّها تجربة دينيّة، قد تكون مسألة مصطلحات، فليس هنالك ما يمنع فيلسوفَ الدين من تعريف التجربة الدينيّة على نطاق واسع بحيث تشمل حالة التفكير الدنيويّ حول صلة المرء الحاليّة بالله، ومع ذلك، يجب أن نضع في الحسبان وجود العديد من الأشخاص الذين قد نظنّ أنّهم يعيشون تجارب دينيّة، لكنّهم مع ذلك يرفضون وصف أنفسهم بهذه الطريقة. في الحقيقة يميل الناس في جميع الأحوال إلى عدم التفكير في تجاربهم الدينيّة، ومع ذلك لا يمكن السماح أثناء وصفنا لتجربة المرء بالإسهاب بعيدًا عمّا قد يؤكّده بنفسه؛ ذلك لأنّ التجارب تتميّز بكونها تتشكّل كلّيًّا أو جزئيًّا من خلال كيفيّة ظهورها لنا، يمكننا دائمًا أن ننكر رواية لمرءٍ يتحدّث فيها عن تجربة شخص آخر، وأن نطعن بمصداقيّتها. لقد أدّى عدم الاقتناع بالنظريّة اللاهوتيّة والدراسات العقائديّة إلى ازدياد التركيز على التجربة الدينيّة عند كلٍّ من شلايرماخر وجيمس. شعر المفكّران أن دراسة العقيدة قد أدّت إلى إهمال ونسيان جوهر الدين، واعتقد كلٌّ منهما أنّه يمكن أن يتمّ تقديم مفهوم التجربة الدينيّة كبديل عن المبادئ العقائديّة القائمة على الحجج والدفاعات.

ويرى المفكّران أنّ دراسة العقيدة المتعلّقة بالمشاعر والأفكار الدينيّة في مؤلّفات شلايرماخر قد تأثّرت بالحركة الرومانسيّة الألمانيّة، بينما تأثّرت مؤلّفات جيمس المتعلّقة بالتجربة الدينيّة بفلسفة ڤندت والمبادئ البراغماتيّة التي كان قد سعى لتطويرها، ومع ذلك يجب ألّا نغفل عن أهمّيّة أوجه التشابه القائمة بين جيمس وشلايرماخر على الرغم من أوجه الاختلاف الجوهريّة بينهما، فكلاهما يرى أنّ جوهر الدين يكمن في المظاهر الباطنيّة والذاتيّة الخاصّة به، كما أنّهما يعارضان محاولات حصر الدين في النظريّة اللاهوتيّة والوعظ الأخلاقيّ، إذ يعتقد كلاهما أنّه لا يمكن فهم الدين بطريقة صحيحة ما لم يتمّ إيلاء الاهتمام اللازم للمشاعر والعواطف. 
ومن النقاط الأخرى المهمّة التي يتقاسمها شلايرماخر وجيمس التي غالبًا ما حادَ الكُتَّاب الأكثر حداثة عن ذكرها - هي ابتعاد كلاهما عن محاولة إثبات أو تبرير أيّ عقيدة معيّنة على أساس التجربة الدينيّة، حيث كان هدفهم فهم الحياة الباطنيّة للمتديّنين دون محاولة إثبات وجود الله أو ملائكته.  تمتّع كلّ من شلايرماخر وجيمس بالجرأة والحماس اللذين كانا ملائمين للعصر الذي قد عاشا فيه، واتّخذ كلاهما موقفًا ضدّ الإفراط في التفكير في الدين. لقد سعى كلٌّ منهما للدفاع عن الدين كما يفهمه دون محاولة إثبات العقائد أو تبريرها، وإلى محاولة إظهار قيمة الإيمان من خلال شدّة ارتباطه بالمرء.

يعتقد شلايرماخر أنّه لا توجد حاجة لأيّ حجّة تثبت صحّة الادعاءات إذا لم يتمّ اجتثاث الإيمان الدينيّ؛ إذ يرى أنّ قوّة الحدس كافية لترسيخ الإيمان وتأمينه، «يولد الإنسان حاملًا معه الصفة الدينيّة كباقي الصفات، وإذا لم يتمّ قمع إحساسه بالقوّة وحظر وتحصين الصلة التي تربط الإنسان بالكون - المعروفان بأنّهما قطبا الدين- عندها يجب أن يتطوّر الدين دون أيّ خطأ عند كلّ إنسان وفقًا لأسلوبه الفرديّ الخاصّ به» (شلايرماخر، 1996, صفحة:59).
كما يدافع جيمس في كتابه «أصناف التجربة الدينيّة» عن قوّة التجربة الباطنيّة في ترسيخ الإيمان باعتباره أفضل من محاولات الإثبات العقلانيّ. «أعتقد بكلّ أمانة وحزن أنّه علينا أن نخلص إلى اعتبار أنّ محاولة إثبات حقيقة تحرّر التجربة الدينيّة المباشرة عبر المنهجيّات الفكريّة ما هي إلا محاولة يائسة تمامًا» (جيمس، 1928، صفحة: 455). «تعد [المشاعر] مقنعة لأولئك الذين يتمتّعون بها بالقدر الذي يمكن لأيّ تجربة من التجارب المنطقيّة المباشرة أن تحمله، وهي بصفة عامّة أكثر إقناعًا بكثير من النتائج التي أنشأها المنطق المجرّد» (المرجع نفسه، ص: 72). لا يستخدم شلايرماخر مصطلح التجربة الدينيّة، بل يستخدم بدلًا عنه المصطلح الكانطيّ ”Anschauung“ (الحَدْس) الذي يتناقض مع المعرفة والممارسة، حيث يهدف من خلاله إلى تقديم وصفٍ دقيقٍ عن الإدراك والوعي الدينيّ وبالتالي تِبْيانه عدم إمكانية اختزال الدين ضمن مجموعة من المعتقدات أو القواعد الأخلاقيّة، هكذا سعى مدافعًا عن الدين ضدّ رومانسييّ عصره الذين كانوا غير راضين عن الأعراف والعقائد الأخلاقيّة للمؤسّسات الدينيّة في أوروبا، فكان بالمقابل يقدّم الدين على أنّه الحياة الداخليّة للروح. كما اعتقد شلايرماخر أنّ التركيز على الحدس من شأنه أن يتيح إمكانيّة الدفاع عن الدين ضدّ الشكوك التي أثارها النقد الكانطيّ للميتافيزيقيا التأمّليّة والمذهب العقليّ الذي كان يُعتبر من أشكال التنوير. قد لا تكون هذه الشكوك متعلّقة بالحقيقة الدينيّة، حيث إنّ الدين هو مسألة شعور وحدس، في حين تدور الشكوك حول الفرضيّات النظريّة لعلماء اللاهوت. تتميّز الخصائص الرئيسيّة للمشاعر الدينيّة والبديهيّات عند شلايرماخر بكونها مباشرة ومستقلّة عن المعتقدات والممارسات، ويدور اليوم نقاشٌ فلسفيٌ حول إمكانيّة استقلال التجارب عن المعتقدات والممارسات كما اعتقد شلايرماخر.

وثمّة رأي آخر معارض لرأي شلايرماخر، كان قد برز بشكل ملحوظ، وخَلُص إلى الاعتقاد بأنّ جميع التجارب الدينيّة تتشكّل من خلال المفاهيم وأساليب التواصل والتعاون والسلوك الذي يحدث في بعض التقاليد الدينيّة، وقد أُطلق عليه اسم ”البنائيّة“. (برودفوت، 1985)[2]. وفقًا لويليام جيمس، وعلى النقيض من شلايرماخر، فإنّ التجربة الدينيّة ليست مستقلّة عن خلفيّة المعتقدات والمفاهيم. في الواقع، يعدّ رفض الأمّة لجميع أنواع الأسس المعرفيّة من السمات الممّيزة للبراغماتيّة.  تمّ تعريف التجربة عند جيمس والبراغماتيّين الآخرين على أنّها نشاط يعرض لنا كلّ ما قد تتمّ مواجهته، ويختلف هذا الأمر كلّيًّا عن النظريّة التي تدور حول نظرة البريطانيّين التجريبيّين للخبرة باعتبارها سجلًّا سلبيًّا للبيانات المنطقيّة، ونظرًا لاعتبار تجربة البراغماتيّين نشاطًا بشريًّا، فهي بالتالي تعتمد على الغايات والمصالح البشريّة، كأن يتفاعل المرء مع بيئته مستفسرًا بشكل متكرّر حول كلّ ما هو موجود فيها.  شدّد البراغماتيّون على الطابع الاجتماعيّ للتجربة بدلًا من المفهوم القديم لها، كالمحتوى المقتصر على عقل الفرد بشكل خاصّ، وعلى الرغم من وصف جيمس لنظريّته بالتجريبيّة الراديكاليّة، إلّا أنّ أفكاره عن التجربة تجاوزت إلى حدّ كبير الأمور التي كان التجريبيّون التقليديّون على استعدادٍ لقبولها، فبالرغم من أنّه لا يقيّد التجربة بالحالات الباطنيّة الناتجة عن الإدراك الحسّيّ، ويميل إلى التشكيك بمحاولات عزل الجوانب الذاتيّة والداخليّة لحياة الفرد عن بقيّة جوانب الحياة، إلّا أنّه في نهاية المطاف يميّز بين موضوعيّة وذاتيّة التجربة، ويؤيّد بوضوح أولويّة التوجّه الداخليّ، ولا يعتبر هذا الأمر مجرّد تحيّز أو فردانيّة يانكيّة لا واعية. يستمرّ جيمس بالتمسّك بموقفه على الرغم من إدراكه للانتقادات وملاحظتها، مؤكّدًا أنّه فقط من خلال العيش في فلك الفكر المنفتح على التساؤلات المحدّدة حول المصير الذي يجعل الإنسان متعمقًا؛ وعيشه بهذا الشكل، هو ما يجعل الإنسان شخصًا متديّنًا. «وبكوننا متديّنين فإنّنا نثبت بأنّنا نمتلك الحقيقة المطلقة لا سيّما في النقاط التي يسمح لنا الواقع بحمايتها. في نهاية المطاف، إنّ اهتمامنا الجادّ مرتبطٌ بمصيرنا الشخصيّ».

«إنّك ترى السبب الذي قد جعلني متفرّدًا كثيرًا خلال هذه المحاضرات، وجعلني أبدو عازمًا جدًّا على إعادة تأهيل الجانب الوجدانيّ للشعور؛ وخبايا الإحساس، إذ تُعدّ الطبقات العمياء الأكثر قتامةً في الشخصيّة هي الأماكن الوحيدة في العالم التي تكشف لنا أثناء تكوينها الحقيقة الفعليّة، وتجعلنا ندرك بشكل مباشر كيفيّة حدوث الوقائع، وكيفيّة إنجاز العمل على أتمّ وجه. وبالمقارنة مع عالمنا الذي تحيا فيه المشاعر الفرديّة، يغدو العالم المليء بالأشياء المعمّمة التي يتأمّلها الفكر خاليًا من المتانة والحياة» (جيمس، 1902، صفحة: 501-2). سواء أكان المرء يفترض بأنّ جيمس يدافع هنا بشكل كافٍ عن فرديّته أم لا، إلّا أنّ هذا الأمر أصبح بمثابة نقطة التحوّل. دعونا ننظر كيف كانت ردود اثنين من أبرز النقّاد وهما «كليفورد غيرتز» و«تشارلز تايلور». كتب غيرتز بالإشارة إلى المقطع المقتبس أعلاه قائلًا: إن تطويق فضاء «الدين» في نطاقٍ يُدعى «التجربة» - «الطبقات العمياء الأكثر قتامة في الشخصيّة» - يبدو أنّه بشكل ما لم يعد أمرًا منطقيًّا وطبيعيًّا لتتمّ محاولة القيام به.  ثمّة الكثير مما قد يرغب المرء بمنحه سمة «الدينيّ»، فإنّ جميع الأشياء التي يبدو أنّها تحمل هذه السمة تحدث خارج الذات غالبًا (غيرتز، 2000، صفحة: 169). كما يعبّر تايلور (معترفًا بأنّه «استفاد بشكل كبير» من محاضرات غيرتز) عن نفس الشكوى قائلًا: «يبدو أنّ جيمس لا يستطيع استيعاب ظاهرة الحياة الدينيّة الجماعيّة، والتي لا تكون نتاجًا للصلات الدينيّة (الفرديّة) فحسب، بل إنّها تساهم في تكوين هذه الصلة، بمعنى أنّه لم يترك مكانًا للصّلة الجماعيّة خلال طريقته التقليديّة للوجود» (تايلور، 2002، صفحة: 24). ما يهمّنا حاليًّا أنّ المثير للاستفزاز حول الاعتراضات التي أثارها كلٌّ من غيرتز وتايلور هو اتخاذ كليهما أمثلة من العالم الإسلاميّ كإثبات.

إلتباسات مصطلح الإسلام السياسي
يعترض غيرتز على اعتبار أنّ جوهر الدين يكمن في المعتقد الشخصيّ؛ لأنّ ذلك سينتج عنه إقصاء الدين من الأحداث السياسيّة التي غالبًا ما يكون له دور حاسم فيها. «إنّ الإسلام السياسيّ (بحسب ما قد جاء، وتحت مسمّيات مضلِّلة) هو المحاولة المبذولة من طرف المسلمين لإشراك مطالبات وطاقات العالم الحديث» (غيرتز، 2000، صفحة: 173). يُبدي غيرتز تعاطفًا مع المسلمين لعدم تمكّنهم من الانخراط بشكل فعّال مع الحداثة ومع الذين أصبحت محاولاتهم اليوم تبدو أكثر شؤمًا، «لكنه أيضًا وفي المقابل ليس قائمًا على الهويّة الذاتيّة الدينيّة وعلى الهويّات الأخرى التي برزت بشكل متزايد في الميدان العام والخطاب العلمانيّ فحسب، بل إنّ بعض الهويّات المتينة للغاية مثل «الهندوسيّة» أو«الشيعة» قد اتخذت عالمًا عدائيًّا - ونوعًا من القبول السياسيّ مؤخّرًا» (غيرتز، 2000، صفحة: 175). انتُقِد جيمس بسبب مساواته بين الدين والتجربة الخاصّة كما لو كانت وسيلة عقيمة لمحاولة منع الدين من أخذ أيّ سلطة سياسيّة،  «التجربة التي تمّ طردها خارج الباب باعتبارها «حالة إيمانيّة» فرديّة وذاتيّة وموضوعيّة بشكل راديكاليّ، تعود عبر النافذة كإحساس جماعيّ لممثّل صارم دينيًّا» (غيرتز، 2000، صفحة: 178). يلخص غيرتز حجّة محاضرته في قوله: «إنّ ما نرغب بتسميته العالم الحقيقيّ بما يحمله من معنى وهويّة وسلطة وتجربة، جميعها مقوّمات متشابكة فيما بينها بطريقة معقّدة يصعب حلّها، ومتضمّنة بشكل متبادل، ولا يمكن تأسيس «الدين» أو اختزاله إلى الأخير، أي «التجربة» بشكل أفضل من إمكانيّات المقوّمات الأخرى؛ ذلك لأنّ الإيمان لا يتكوّن في العزلة» (غيرتز، 2000، صفحة: 184). ومن جانب آخر، يستعين جيمس بالأمثلة التي يستقيها من العالم الإسلاميّ ليؤكّد أهمّيّة التجربة المباشرة للدين، حيث يمكننا القول، ردًا على اعتراضات غيرتز وتايلور، إنّ جيمس لم يكن جاهلًا بالجوانب الاجتماعيّة والمجتمعيّة للدين، كما أنّه لم يقصد إنكارها. من ناحية أخرى يرفض كلٌّ من غيرتز وتايلور أن يبرروا له أسلوبه المتجاهل لكلّ ما هو اجتماعيّ.

عندما شدّد جيمس على الفرديّة، لم يهدف بها التحريض ضدّ علم الاجتماع، وإنّما ضدّ الإفراط في التفكير في الدين، وضدّ ما أسماه «نظريّة النجاة» في الدين، والتي قصد بها الغرور العلميّ في أنّ الدين هو كلّ ما بقي راسخًا بشكل مجرّد من الزمن الذي لم يعرف فيه الناس ما هو أفضل. في المحاضرة الثانية من «أصناف التجربة الدينيّة» يدافع جيمس بالتفصيل عن «حصر الموضوع» الذي ناقشه، ويعترف بأنّ للدين جوانب أشمل من التي تطرّق لها في باقي الكتاب، مصرّحًا أنّه لن يبحث في الجوانب المؤسّسيّة للدين، ويمكننا أن نبرّر الخطأ الذي تمّ اصطياده لجيمس فيما يخصّ عدم إيلائه الاهتمام الكافي عن كيفيّة خضوع التجارب الشخصيّة لتأثير العلاقات الاجتماعية أو العلاقات مع المؤسّسة الدينيّة، فهو مدركٌ لذلك، حيث يؤكّد أنّ اهتماماته تكمن في مكان آخر، وأنّ فكرته ليست في حصر الدين، بل في حصر موضوع البحث الخاصّ به، حتى أنّه يُعرب عن استعداده للتخلّي عن اسم ”الدين“ لموضوعه، «أقترح حاليًّا في هذه المحاضرات أن أتجاهل القسم المؤسّسيّ تمامًا، وألّا أتحدّث عن التنظيم الكنسيّ، وأن أتأمّل بأقلّ قدر ممكن في علم اللاهوت النظاميّ والأفكار المتعلّقة بالآلهة نفسها، وأن أقصر نفسي قدر الإمكان على الدين الفرديّ بشكل طاهر وبسيط... إنّني مستعد لقبول أيّ اسم قد يُطلق على الديانة الشخصيّة والتي أوصي بدراستها» (جيمس، 1902، صفحة: 29-30). يستمرّ جيمس بتقديم الأسباب التي تقوّي اعتقاده بأنّ الجوانب الفرديّة للدين أكثر جوهريّة من أساليب التعبير المؤسّسيّة (على الرغم من أنّه يعترف بأنّه يمكننا إيجاد أصول المشاعر الدينيّة الصادقة حقًّا في الفتشية البدائيّة والسحر). إنّه أمر قد يختلف معه المرء، لكن لا ينبغي أن نأخذ فكرة عن جيمس كما لو أنّه الشخص الذي أعمته فردانيّته الصارمة للحدّ الذي يمنعه من تقدير حقيقة أنّ الدين ممتدّ إلى ما وراء نطاق الفرديّة.

 قد تمّ تكرار وانتقاد تعريفه للدين في مناسبات لاحصر لها، لكن انظر إلى الصيغة التي يقدم بها هذا التعريف: «لذلك، فالدين (كما أطلب منك الآن أن تتخذه اعتباطيًّا) يمثّل لنا المشاعر والتصرّفات والتجارب الفرديّة للبشر في عزلتهم، بقدر إدراكهم لارتباطهم بما قد يعتبرونه عالم اللاهوت» (جيمس، 1902، صفحة: 31). يتابع جيمس فكرته معتبرًا أنّ العلاقة بعالم اللاهوت نفسه «قد تكون إمّا أخلاقيّة أو بدنيّة أو شعائريّة»، وكان يجب أن يضيف عبارة «اجتماعيّة أو مجتمعيّة ـ أو حتى سياسيّة»، ولا أعتقد أنّه كان ليعترض على مثل هذه الإضافة، كان سيستمر بإنهاء فقرته بالجملة نفسها: «في هذه المحاضرات، كما صرّحت سابقًا، فإنّ التجارب الفرديّة المباشرة ستملأ وقتنا بما يكفي، ولن نفكّر في اللاهوت أو الكنسيّة على الإطلاق». كما كان يجدر به أن يضيف أنّه لم يكن ليأخذ بعين الاعتبار أيًّا من الهياكل والعلاقات الاجتماعيّة الدينيّة، ليس لأنّه ينكر وجودها أو أهمّيّتها، بل لأنّه يصطاد في مكان آخر، صحيح أنّه ينحاز للعاطفة ضدّ الفكر، كما أنّه مع المرتدّين ضدّ الأرثوذكس، لكن هذا الانحياز هو أكثر انعكاسًا على ما يثير تعاطفه، وليس لوجود أيّ نقاش حول عدم اتخاذ الدين أشكالًا لا تجعله يشعر باللّذة.  يعترف جيمس بوجود تعصّب واعتلال دينيّ حتى في الجوانب الشخصيّة التي كان يدافع عنها، ولا تتمثل وجهة نظره في إنكار الأشياء التي لا تلفت انتباهه، وإنّما في إلحاحه على أنّ الدين قادر على اتخاذ أشكال خالية من المظاهر التي يجدها قبيحة، في حين أنّ الدين إن لم يُبنى على أساس الشعور الفرديّ للمرء فهو مجرّد نفاق. إنّ الدفاع عن جيمس أمرٌ مبالغ به، فحتى لو كان بريئاّ فإنّ الفرضيّة الرئيسة لخصومه باقية: لا يمكن للمرء الحصول على فهم كافٍ للدين إذا كان يحصر تركيزه إلى الأمور الفرديّة. يختتم تايلور كتيّبه مشيرًا إلى ثلاثة أشياء قد نتخطّاها في حال حصرنا تفكيرنا على الدين بالشكل الذي يقدّمه جيمس:

يمكن أن يتمّ التوسّط الجماعيّ في تواصلنا مع المُقدَّس حتى لو تمّ إبعاده عن السياسة؛ يمكن أن تحمل الهوية الدينيّة أهمّيّة اجتماعيّة وسياسيّة للناس بغض النظر عن مدى روحانيّتهم؛ كما يمكن اعتماد قواعد السلوك الروحانيّة التقيّة كوسيلة مهمّة للاستجابة للحدس الدينيّ. عندما أعيد قراءة كتابات جيمس، لا أجد أنّني أميل إلى نسيان النقاط التي ذكرها تايلور. يبدو أنّ هناك إشارة كافية للطوائف الدينيّة والانضباط الروحيّ المتّبع رسميًّا على الرغم من التجاهل الواضح للسياسة، إنّ ما يبدو مزعجًا حقًا حول وجهة نظر جيمس للدين هو أنّه يقدّم تجربة دينيّة في مكانة مميزة من الناحية المعرفيّة بسبب الرؤية المحدودة لأصناف «الثمار»، ما قد يؤدّي إلى تقويضها. يبدو هنا أنّ جيمس يحصر تركيزه بشكل كبير على الفوائد والأضرار الروحيّة والنفسيّة التي قد تجلبها التجربة الدينيّة، دون أخذه بعين الاعتبار فوائدها وعواقبها الجماعيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة وغيرها من الشؤون النظريّة. تعتبر التجارب الدينيّة التي تقود إلى الهراء اللاهوتيّ باطلة. إنّ التساؤل حول المعيار الذي نستخدمه لتمييز الخرافات عن اللاهوت الصحيح هو قضية أخرى، لكن الفكرة القائلة بأنّ القيود اللاهوتيّة وقيود المنطق يمكنها أن تقلب سلطة التجربة هي أمرٌ غالبًا ما يلاحظه المرء في كتابات المتصوّفين أنفسهم فيما يتعلّق بالتقاليد المسيحيّة والإسلاميّة معًا، بينما يطلب جيمس من قرّائه قبول تعريفه للدين بشكلٍ اعتباطيٍّ بهدف الوصول إلى التساؤلات التالية، إلّا أنّ اختياره الشخصيّ يبدو بعيدًا عن الاعتباطيّة، أو على الأقلّ ليس متقلّبًا، كان اهتمام جيمس موجّهًا نحو العوالم الباطنيّة الشخصيّة للشعور الدينيّ وهو ما عَكس في شخصيّته مزيجًا من عدم الرضى عن أساليب التعبير العامّة في الدين، تلك المتمثّلة في الطقوس والمؤسّسات، ورفض اللاهوت الفلسفيّ السائد آنذاك، ومعاداة رجال الدين، والإحساس القويّ بالتقوى الذاتيّة، وبالنظر إلى تركيز جيمس على الباطن وعدم الاهتمام بالحالات الاجتماعيّة التي عادةً ما تكون التجارب الدينيّة متأصّلة فيها، نجد أنّ فكرة التجربة الدينيّة في حدّ ذاتها قد تصبح موضع شكّ.

التجربة الدينية أو خصخصة الدين     
تبدو التجربة الدينيّة وكأنها مصطلح يرمز إلى خصخصة الدين.  إنّ هذه القضيّة حسّاسة جدًّا خصوصًا في حال أردنا تطبيقها في العالم الإسلاميّ. لا يتردّد جيمس في تحليل التجربة الدينيّة على الإسلام رغم اعترافه بأنّها تفتقر إلى كثير من المعلومات، حيث يقول مدعيًا: «إذا اتّجهنا إلى الإسلام، نجد أنّ جميع ما يُوحَى به إلى محمّد قد أتى من منطقة اللاوعي» (جيمس، 1902، صفحة: 481)، وهذا لا يدلّ على عدم احترام الله طبعًا، فالقول بأنّ الوحي يأتي من منطقة اللاوعي لا يعني إنكار أنّه يأتي من الله، على الرغم من أنّ كلّ شخص لم يقبل نظريّة الوحي لابن سينا (التي بموجبها يعتبر أنّ الوحي ناتجٌ عن الاتحاد مع العقل الفعّال)، فسيكون على الأرجح غير راضٍ عن نظريّة جيمس، ويتابع جيمس مستشهدًا بـ نولدكه في حديثه عن تاريخ القرآن، حيث تمّت الإشارة إلى العديد من الروايات المتنوّعة التي تصف كيف تجلّى الوحي للنبيّ، على سبيل المثال، مصحوبًا بتنهيدة الملَك، أو بصوت رنين...إلخ، ويلاحظ أنّه لم تكن أيّ من تلك الحالات «m ot or»، أي أنّ الوحي في جميع الحالات المذكورة لم يأتِ عبر أحد الدوافع المحفّزة التي تسبّب ردّة فعل عضليّة بشكل مباشر، كاللسان مثلًا، وينهي فكرته هنا ليتابع بعد ذلك بعرض أمثلة من تقاليد دينيّة أخرى.

ثمّة العديد من الأسباب التي تجعل تطبيق جيمس لمفهوم التجربة الدينيّة على أحداث الوحي التي عاشها النبيّ محمّد أمرًا غير مقبولًا، بغضّ النظر عن الشكوك التي قد تصيب المرء حول دور العقل الباطن في الوحي الإلهيّ؛ وعلينا أن نقوّم بحذر، وقد يستاء بعض المؤمنين من وضع النبيّ إلى جانب شخصيّات أخرى مثل فيلون السكندريّ، وجوزيف سميث، وجورج فوكس، وعدد من القدّيسين الكاثوليك غير المعروفين، لكن جيمس لا يدعي امتلاك الشخصيّات لنفس النوع من التجربة، أو أنّ تجاربهم لها القدر نفسه من الشرعيّة، يحاول جيمس أن يتّخذ موقفًا مدروسًا جيّدًا وبعيدًا عن الأحكام الأخلاقيّة، حيث يلعب دور عالم النفس في لباسه المخبريّ الأبيض، فاحصًا أمثلة عن الادّعاء الدينيّ.
يتمّ تصنيف النبيّ مع فئة الذين ادّعوا أنّ لديهم إلهامًا متكرّرًا «مع اعتناقات مميزة تخضع لتوجيه من قوّة خارجيّة» (جيمس، 1902، ص: 479)، والسبب الوحيد وراء تصنيف الأمثلة معًا هو تشابه الادّعاءات المقدّمة من جانب الأشخاص مع التجارب الخاضعة للفحص، إذا لم يتمّ التوصّل إلى فهم المناسب للأمور الجوهريّة دينيًّا المتعلّقة بالوحي الإلهيّ، فليكن كذلك؛ إذ لا يحاول جيمس الكشف عن جوهر الوحي، أو عمّا يميّز الوحي الإلهيّ عن الدجل. ومع ذلك، تعطي الصورة المطبوعة بالذهن انطباعًا بأنّ الادّعاء بالنبوّة قائم فقط على الخصائص الظاهراتيّة لبعض الحالات العقليّة الشخصيّة، هذه ليست أقوال جيمس، بل يعتبر جيمس أنّ قيمة أيّ دين وأيّ ادّعاء مقدّس يتمّ الحكم عليها فقط على أساس ثمارها (جيمس، 1902، صفحة: 327). ماذا يقصد بالثمار؟ بحسب ما يحتويه الجزء الأخير من محاضرة القداسة، فالجواب هو: راحة البال، الإحسان، والصبر، وضبط النفس، والهدوء، وصحة النفس وطهارة الروح، والتقوى، والطاعة، والفقر (الزهد)، والمشاعر الديمقراطيّة والإنسانيّة. ولا شكّ أنّ جيمس لا يقصد بالديمقراطيّة نظامَ الحكم الخاصّ الذي يتمّ فيه انتخاب الأفراد كمسؤولين، بل يقصد الشعور بالمساواة أمام الله: «هناك أيضًا السر الإلهيّ المتعلّق بالديمقراطيّة، أو الشعور بالمساواة أمام الله بين جميع مخلوقاته، يميل هذا الشعور (الذي يبدو عمومًا أنّه كان منتشرًا في البلدان المحمّديّة أكثر من المسيحيّة) إلى إبطال التملّك الفطريّ عند الإنسان» (جيمس، 1902، صفحة: 324). تعتبر ثمار جيمس ثمارًا أخلاقيّة إلى حدّ كبير، ولكنّها ليست مجرّد ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار ما يقوله عن الزهد، «بما أنّ النُسَّاك الهندوس والرهبان البوذيّين والدراويش المحمّديّين يرتبطون مع اليسوعيّين والفرنسيسكان في إضفاء الطابع المثاليّ على الزهد في أسمى حالة فرديّة، فمن الضروريّ دراسة الأسس الروحيّة لمثل هذا الرأي الذي يميل لكونه مخالفًا للطبيعة.

تعدّ الحياة القائمة على الأخذ أقلّ حرّيّةً من تلك القائمة على الإنجاز أو الكينونة، ومن التدابير المتّخذة قيام الأشخاص الخاضعين للإثارة الروحيّة برمي ممتلكاتهم، كالتخلّص من العديد من الأحذية،  فقط أولئك الذين ليس لديهم مصالح خاصّة هم من يستطيعون اتّباع الطريق المستقيم المثاليّ» (جيمس 1902، صفحة: 317-319)؛ وعلى الرغم من أنّ جيمس يركّز عمومًا على ظواهر التجارب الدينيّة دون النظر عمّا إذا كانت جديرة بالثقة أم لا، فإنّه لا يرى أنّ الخصائص الظاهراتيّة لهذه التجارب هي التي يجب تقويم مدى مصداقيّتها في النهاية؛ إذ تتّسم معاييره بالواقعيّة. يجب أن نرى الآثار الناتجة عن هذه التجار، وعلى الرغم من أنّ الآثار يجب ألّا تقاس من منظور تجريبّي تامّ يشكّ في أيّ شيء يتجاوز الإدراك الحسّيّ، فإنّه ومن خلال النظر إلى الفضيلة وما يلزم لأتباعها «تجريبّيون معاصرون مثاليّون ومستقيمون مثل باس فان فراسن (2002)،  يبدو أنّ مصطلح التجريبيّة المستخدم من قبل جيمس فيه نوعٌ من التسمية الخاطئة، عندما يكتب «معيارنا التجريبيّ: من ثمارهم تعرفونهم، لا من جذورهم»[3]. يمكن أن نتصيّد الخطأ عند جيمس بسبب نفاد صبره مع اللاهوت، لولا حقيقة أنّ قدرًا كبيرًا من علم اللاهوت الذي كان عالِمًا به يتكوّن من مثل هذه الحجج الضعيفة التي يبدو أنّها تُستخدم كأعذارٍ للمعتقدات، أكثر من كونها برهانًا لها. على أيّ حال، ربما كان رفض جيمس للطرق البديهيّة أكثر مما قدّمه للتو هو السبب في هذا.

«لا نستطيع التمييز بين الآثار الطبيعيّة والآثار الخارقة للطبيعة؛ ولا بين الآخرين ممّن يعلمون ما هي نِعَم الله، وما هي عمليّات الشيطان المزيّفة، علينا فقط جمع الأشياء معًا دون أيّ منهج لاهوتيّ بديهيّ مميّز، ومن خلال مجموع الأحكام الجزئيّة المرتبطة بقيمة هذا الأمر وتلك التجربة- الأحكام التي تكون فيها تحيّزاتنا الفلسفيّة العامّة وغرائزنا وفطرتنا السليمة هي مرشدنا الوحيد الذي يقرّر بشكل عام أنّ نوعًا واحدًا من الدين موافق عليه من ثماره، والنوع الآخر غير صالح» (جيمس، 1902، صفحة: 327). يتابع جيمس دفاعه عن نفَسِه الشخصيّ الموجود إلى حدّ ما في نصّ التجريبيّة، لكنّه لاحقًا في المحاضرة الثامنة عشر بعنوان ”الفلسفة” يقدّم بعضًا من المحاذير والمحاججات المطولّة ضدّ محاولات بناء الدين على أساس الجدل الفلسفيّ، تتضمّن هذه المحاذير في غالبيّتها التسليم بكونه جدلًا فلسفيًّا، وبحقيقة أنّ البشر يسعون بطبيعتهم إلى تنظيم المنطق وتطبيقه على تجاربهم، وأنّ المنهجيّات التي تمّ إنشاؤها، على هذا النحو قد تشغل محلًا لها في التجربة اللاحقة. إنّ الأساس وراء رفضه لللاهوت الميتافيزيقيّ هو الاعتماد على التجربة المفسّرة على نطاق واسع، بحيث إنّه من غير المنطقيّ أن نبقى على اعتقادنا أنّ الميتافيزيقا بحدّ ذاتها لا يمكن تفسيرها بناء على أساسها. يبدو أنّ الغاية الأولى لجيمس هنا هي مهاجمة الفلسفة الهيغليّة؛ لذلك قد يتمّ احتساب جيمس من بين العديد من الأشخاص (من ضمنهم المفكّرين الذين اختلفوا فيما بينهم، كاختلاف كيركغور عن كارناب) الذين تمّ تحفيزهم من أجل التفكير بطريقة فلسفيّة حديثة بسبب انزعاجهم من الهيغليّة، وعلى الرغم من ”التجريبيّة الراديكاليّة“ عند جيمس، يبدو أنّه لا يمانع الدعوة إلى التعدّديّة الميتافيزيقيّة التي تتجاوز أيّ شيء يمكن الدفاع عنه انطلاقًا من خلاص الإدراك الحّسيّ. إنّ الحالة الأخرى الوحيدة التي وجّه فيها جيمس انتباهه إلى الإسلام في كتابه «أصناف التجربة الدينيّة» هي في القسم الخاصّ بالتصوّف، حيث يترجم صفحتين من النسخة الفرنسيّة التي ترجمها شمولديرس من كتاب الغزالي ”المنقذ من الضلال“ (جيمس، 1902، صفحة: 402-405).
يعترف جيمس بقلّة معرفة المسيحيّين بالتصوّف الإسلاميّ، حيث يقول: «نحن المسيحيّون لا نعرف إلّا القليل عن الصوفيّة؛ لأنّ أسرارها تنكشف فقط لأولئك المنضمّين لها؛ لإضفاء بعض الحيويّة على وجودها في أذهانكم، سأقتبس من وثيقة إسلاميّة، وأبتعد عن الموضوع» (جيمس، 1902، صفحة: 405-402)[4]. وهكذا يعدّ ما اقتبسه جيمس من الغزاليّ أكثر قليلًا من كونه ملخّصًا لبضع صفحات من كتاب المنقذ، إذ إنّ المختارات من الغزالي لم تقف عند حدّ الاقتباس والمضي قدمًا، بل إنّها وعلى النحو الموعود تؤدّي إلى تحريك سلسلة من التأمّلات التي  تقود جيمس إلى  دعم وتأييد التصوّف. يقتبس جيمس ما كتبه الغزالي حول أهمّيّة الذوق (حرفيًّا، التذوّق)، والذي ترجمه جيمس على أنّه «النقل»، في حين ترجمه واتس «تجربة مباشرة».  في الواقع، كان من الممكن أن يوصل جيمس وجهة نظره بطريقة أفضل لو كانت لديه ترجمة واتس، وفي جميع الأحوال، يستشهد جيمس بنقاط من الغزالي يقول فيها إنّه يمكننا الحصول على بعض المعرفة من خلال التجربة الدينيّة واتباع طريق الصوفيّة، وبأنّ هذه المعرفة غير قابلة للتواصل، الأمر الذي يعدّ أساسيًّا في مفهوم التصوّف ككلّ، إنّ الذوق أو التذوّق الذي يتحدّث عنه الغزالي هو بالطبع ما يُناقش عادةً في الفلسفة الإسلاميّة تحت عنوان العلم الحضوريّ أو المعرفة بالحضور (يزدي، 1992)، وهو ما يعتبره جيمس نوعًا من الشعور المباشر، حيث يقوده هذا الأمر إلى المعضلة الآتية: «لكن مشاعرنا المباشرة لا تحتوي إلّا على ما توفّره الحواس الخمس؛ وقد رأينا وسنرى مرّة أخرى أنّ الصوفيّين قد ينكرون بشكل قاطع أنّ الحواس تلعب دورًا ما في الأشكال الأسمى للمعرفة التي تنتجها وسائل نقلهم» (جيمس، 1902، صفحة: 405).

إذن، ما هي وجهة نظر جيمس في المعرفة الصوفيّة؟ أوّلًا، يؤكّد جيمس أنّ هذه المعرفة لا تقتصر على الصوفيّين فحسب، ويستشهد ببعض الأمثلة من الأعراف المسيحيّة.
ثمّ يقدّم تشخيصًا طبيًّا: «حالات تنويميّة مقترحة ومزيّفة، قائمة على أساسٍ ذهنيٍّ من الخرافات، وحالات بدنيّة من الانحطاط والهستيريا» (جيمس، 1902، ص: 413). ومع ذلك، وبدلًا من رفض قيمة التصوّف القائم على هذا الأساس، فإنّه يسخر من الحديث الطبيّ ويعتبره سطحيًّا، ويشدّد على ضرورة تقويم ثمار الحالات الصوفيّة من أجل الحياة (إنّ عدم الرضى عن التقويم الطبيّ - كيف يمكن للصوفيّة أن تغيّر حياة المرء هو ما يدعوه جيمس بالتجريبيّة!). بعد التفكير في حياة بعض القدّيسين المسيحيّين، توصّل جيمس إلى استنتاج مفاده أنّ التصوّف فعّال حقًّا، لكن هذا التأثير لا يمكن اعتباره ميزة إلّا إذا كانت الأفكار المستوحاة من خلاله صادقةً، لكن كيف يمكننا معرفة مدى مصداقيّتها؟ يبدو أنّنا انطلقنا في دائرة لا يمكن فيها تقويم الحقيقة إلّا على أساس الثمار التي تعتمد قيمتها على خلاص الحقيقة! يقسم جيمس استنتاجاته إلى ثلاثة أجزاء:

(1) إنّ الحالات الصوفيّة، عندما تكون متطوّرة إلى حدّ كبير، فهي عادة ما تكون، ولها الحقّ في أن تكون، ذات سلطة مطلقة على الأفراد الذين تحلّ بهم.
(2) ليس هناك أيّ سلطة تنبع منهم من شأنها أن تجعل من الواجب على من يقف بعيدًا عنهم أن يقبل تجليّاتهم دون انتقاد.
(3) يدمّرون سلطة الوعي غير الصوفيّ أو العقلانيّ، المبنيّ على الفهم والحواس وحدها، لقد أظهروا أنّه لن يكون هناك سوى نوع واحد فقط من الوعي، إنّها تفتح إمكانيّة وجود جوانب أخرى للحقيقة، والتي بقدر ما يستجيب لها كلّ ما فينا بشكل حيويّ، يمكننا مواصلة إيماننا بحرّيّة (جيمس، 1902، صفحة 422-423).  بينما بدأ جيمس يسعى لاكتشاف القيمة (إن وجدت) في التجربة الدينيّة، فإنّه يختتم بنقاشٍ غريبٍ عن السلطة، لا يهتمّ جيمس هنا بالوظائف السياسيّة والاجتماعيّة للسلطة الدينيّة، بل يصبّ اهتمامه حول نظريّة المعرفة[5].

النزعة التبريرية
يتساءل فلاسفة الدين المعاصرون في الغالب حول إمكانيّة تبرير الاعتقادات المختلفة بناءً على التجارب الدينيّة. يبدو أنّ استخدام التبرير كمصطلح فنّيّ في نظريّة المعرفة يلاقي انتشارًا من خلال مدى تأثير تلميذ جيمس المدعو سي آي لويس (1929)؛ لذلك يتناول جيمس في حديثه الجانب المتعلّق باكتساب السلطة بدلًا من حديثه عن التجارب التي تبرّر الاعتقادات، ومن الواضح هنا أنّنا نمتلك مفهومًا ملزمًا فيما يتعلّق بالتبرير المعرفيّ، ذلك أنّ السيطرة التي يتحدّث عنها جيمس تفرض واجب القبول[6]. يُقال إنّ جيمس عبَّر عن ندمه في انتقاء الكلمات التي كان يفترض أن تكون «الحقّ في الإيمان». يدرك كاتب سيرته تمامًا أنّ المسألة متعلّقة بالتبرير المعرفيّ، في حين اتّهم النقادُ جيمس في قوله إنّ الرغبة في جعل شيء ما أمرًا صحيحًا قد تجعله صحيحًا، وقد «اتُّهم بتشجيع التعنّت أو العبث بالإيمان، أو بالدعوة إلى الإيمان في سبيل تصديقه، في حين كانت أقصى غايته تبرير الإيمان» (بيري، 1935، صفحة: 275). يعترف جيمس بأنّ الأحاديّة التي تعتبر سائدة في العديد من نصوص الصوفيّة قد تكون صحيحة، على الرغم من تفضيله لميتافيزيقا التعددّية[7]، لكنه لم يسعَ أبدًا لحلّ المعضلات التي تناقش كيفيّة تحوّل المشاعر إلى اعتقادات ذات محتوى معرفيّ، أو حول ماهيّة تلك المشاعر التي ليس لها ارتباط  بالحواس الخمس؛ مع ذلك، حتى السلطة البسيطة التي يرغب جيمس في منحها للحالات الصوفيّة- مع الفرضيّة الشاذة التي تعطي الحقّ لأولئك الذين يسعون للوصول لها دون غيرهم - يبدو أنّها تعتمد على كيفيّة حلّ هذه المعضلات؛ بل وأكثر من ذلك، إنّ الادّعاء الصريح بأنّ سلطة الفهم والتجربة الحسّيّة يجب أن تفسح المجال للحقيقة المستخلَصة من التجربة الصوفيّة يظلّ خاليًا من الدفاع الكافي في حال استمرّ جيمس بإصراره على أيّ شيء مثل التجريبيّة بالطريقة التي تُفهم بها عادةً.

لتجاوز هذا النوع من التجريبيّة، يدين لنا جيمس بسردٍ عن كيفيّة اكتساب التجربة الصوفيّة لحقوق التبرير المعرفيّ دون أن ينكره، ويعبّر ألستون عن شكوكه حول قدرة شلايرماخر أو جيمس على سداد هذا الدين بشكل تامّ بسبب تعريفهم للتجربة الدينيّة على أنّها نوع من أنواع الشعور، حيث يقول: «إنّ معاملة ”التجربة الدينيّة“ باعتبارها تتألّف بشكل أساسيّ من ”مشاعر أو حالات عاطفيّة أخرى“ أمرٌ شائعٌ جدًا. وهكذا هو الأمر عند شلايرماخر (منبع التركيز على التجربة الدينيّة في دراسة الدين)، نجد أنّه يتمّ التعامل مع العنصر التجريبيّ الأساسيّ للدين باعتباره «الشعور بالتبعيّة المطلقة»، كما ركّز رودولف أوتو وويليام جيمس على المشاعر. يجب الاعتراف أنّه في جميع هذه الحالات يصوّر المنظّرون التجربة الدينيّة على أنّها تجربة إدراكيّة للحقائق الموضوعيّة بوسائل تبدو غير متوافقة مع تصنيفها كحالة عاطفيّة، أشكّ كثيرًا في إمكانيّة العثور على أي سرد متّسق للتجربة الدينيّة في أعمال أيّ من هؤلاء الأشخاص» (ألستون، 1991، صفحة: 16).

يشير جيمس في خاتمة كتابه الأصناف مرّة أخرى إلى الغزاليّ لإثبات وجهة نظره عن وجود اختلاف بين المعرفة النظريّة للدين من وجهة نظر علوم الدين وبين المعرفة المكتسبة من خلال التجربة الدينيّة نفسها، ويجد جيمس نفسه مجدّدًا أمام التساؤل حول ما إذا كان محتوى التجربة الدينيّة معقولًا أم لا، ومن جديد يتشكّك؛ إذ إنّه ذاتيًّا، يحقّ للفرد أن يؤمن بأنّ تجاربه صادقة. يبحث جيمس ما بعد ذلك عن شيء مشترك بين الأصناف، ولا يمانع في إيجادها، لكن عندما يتعلّق الأمر بالتقويم، فإنّه يستمرّ في إبداء حذره الشديد من علم اللاهوت لدرجة عدم السماح باستخدامه من أجل التوصّل إلى أيّ قرار، دون أيّ اعتبار للوضع الاجتماعيّ العام للحياة الدينيّة أو تاريخها على الإطلاق؛ لذلك فقد خلص إلى تأييد دين ليس خاصًّا بأيٍّ مما هو متأصّل في مفهوم التجربة الدينيّة كما يعرّفها جيمس، إنّما مقيّدًا بالخصوصيّة التي منحها له جيمس عبر تشكيكه في اللاهوت العقائديّ وإهمال الاجتماعيّ والتاريخيّ.
في حين أنّه لا يوجد ما يمنع جوهريًّا إمكانيّة تطبيق مفهوم التجربة الدينيّة الخاصّ به على الإسلام، فإنّ النزعة التي أظهرها جيمس لتجاهل تلك الجوانب من الدين (غير الموجهة نحو التجربة الذاتيّة الفرديّة مثل الجوانب المؤسّسيّة والعقائديّة للدين) هي عقبة أمام اكتساب الفهم الصحيح للدين بشكل عامّ، مثلما أشار غيرتز وتايلور، وهي أيضًا مشكلة في دراسة الأديان المحدّدة، ومن بينها الإسلام على وجه الخصوص، وليس من الصدفة أن يلجأ جيمس إلى الصوفيّة كمثال عن الباطنيّة، وهو لا يجد ما يكفي ليشرح كيفيّة تجربة المسلمين لدينهم، فهنا يتبع جيمس الأمثلة الموضوعة من قبل المستشرقين من أمثال السير ويليام جونز (توفي في عام 1794) والسير جون مالكولم (توفي في عام ١٨٣٣)، وآخرين من المرتبطين غالبًا بشركة الهند الشرقيّة البريطانيّة الذين رأوا أنّ الصوفيّين يشتركون إلى حدّ كبير مع المسيحيّة والأفلاطونيّة المحدثة والفيدانتا في الهند أكثر من الإسلام المعارض للإمبراطوريّة البريطانيّة، ويتمّ تقديم الصوفيّة كما لو أنّها دخيلة جدًّا على الإسلام لدرجة أنّ هؤلاء المؤلِّفين غالبًا ما يتخيّلون أنّ أصولها تنحدر من الهندوسيّة.  يبدو أنّ مصطلح التصوّف بحدّ ذاته قد تمّ اختراعه في نهاية القرن الثامن لتخصيص جوانب الثقافة الشرقيّة التي وجدها الأوروبيّون جذابة (إرنست، 1997، صفحة: 9).

يشرح كارل إرنست كيف حوّل المستشرقون الصوفيّة إلى باطنيّة وحدة الوجود، حيث تمّ استيحاء مفهوم وحدة الوجود من النقاش الأوروبّيّ الذي كان دائرًا حول سبينوزا في أواخر الثمانينات من القرن الثامن عشر أكثر من أعمال المتصوّفة المسلمين أنفسهم، ويرى أنّهم ”تجاهلوا تمامًا النواحي الاجتماعيّة للصوفيّة كما وردت في طقوس المتصوّفة، والمؤسّسات التي تشكّلت حول قبور القدّيسين، ودور الصوفيّين في السياسة“ (إرنست، 1977، صفحة:16) فصل المستشرقون الصوفيّة عن الإسلام بطريقة تبيّن فيها أنّ الدين الإسلاميّ  ذو تشريع صارم، بينما كان يجدر بالصوفيّة ألّا تبالي في المسائل المتعلّقة بالتشريع الدينيّ (إرنست، 1997، ص: 19).

إنّ التصوّف عند المستشرقين يلائم تمامًا مفهوم التصوّف عند جيمس، إنّه في المقام الأوّل دين من التجارب الصوفيّة وأحاديّةِ القيمة، أو وحدة الوجود التي تعتبر جوانب الدين التي تجاهلها جيمس شيئًا ثانويًّا. يشير جيمس إلى الإسلام، إلى جانب الصوفيّة والوحي المنزل على الرسول، وذلك فقط  في إشارات عابرة وفي حاشية عن تعصّب الدرويش الشيعيّ، دون أن يلاحظ أيّ ارتباط بين تعصّب الدرويش وتصوّف الصوفيّ (جيمس، 1902، صفحة: 341).
كما أنّ الاعتراضات التي قدّمها كارل إرنست على المستشرقين تحمل تشابهًا لافتًا للنظر مع الاعتراضات التي قدمها غيرتز وتايلور ضدّ تعامل جيمس مع الدين (تايلور 2002، صفحة: 17). تعتبر وجهة النظر المقدَّمة حول موضوع الدراسة مشوّهة نتيجة إهمال جميع جوانبها، باستثناء الجوانب الأكثر خصوصيّة، إنّ أوجه الخلل في معاملة جيمس للتجربة الدينيّة على أنّها جوهر الدين لا تبطل مفهوم التجربة الدينيّة في حدّ ذاته، كذلك فإنّ أوجه الخلل في فهم المستشرقين للصوفيّة لا تعني أن نحكم على الصوفيّة بأنّها مجرّد تركيبة بريطانيّة ليس لديها حقيقة خاصّة بها. يشتدّ النقد تجاه وجهة نظر جيمس للتجربة الدينيّة، ويغدو أكثر جدّيّة عندما يدرس المرء الاستخدام المعرفيّ الذي سيضع المفهوم من أجله، يتمتّع ألستون برؤية ثاقبة في هذا الشأن. ومع ذلك، فمن الطبيعيّ أن يبدي ألستون اهتمامه في الدرجة الأولى بانتقاد جيمس من ناحية دفاعه عن التجربة الدينيّة باعتبارها على قدم المساواة مع التجربة الحسّيّة في تقديم تبرير للاعتقادات التي تشكّلت على أساسها. أعتقد أنّ هذا النوع من الحركة يثير التساؤل عن أسس ظاهراتيّة، مهما كان الأمر، فإنّ ألستون يشير إلى وجود مشاكل خطيرة في منظور التجربة الدينيّة عند جيمس، ولكن يمكن القول إنّ محاولة ألستون لعرض التجربة الدينيّة على أساس التشابه مع تجربة الحسّ غير مرضية، على الرغم من أنّه من واجبي أن أعترف أنّ ألستون ولسنوات عديدة كان قد دافع ببراعة عن موقفه أمام أولئك الذين جادلوا بأنّ التجربة الدينيّة لا تشبه الإدراك الحسّيّ.

التجربة الدينية حسية أم إحساسية؟
لا تزال التجربة الدينيّة مختلفة تمامًا عن التجربة الحسّيّة، عندما أقول هذا، فأنا أدين لأليستون بشرح كيفيّة اختلافها، إذًا إنّ الشعور بوجود الله في حياة المرء لا يشبه الشعور ببرودة الجوّ خارجًا، ولا يقتصر على الطريقة البيّنة التي تختلف فيها دوافع الإدراك اختلافًا عظيمًا وتتنوّع الحواس المستخدمة؛ ذلك لأنّنا حتى لو قبلنا أنّ ثمّة نوعًا من الحسّ الإلهيّ الذي زرعه الله في البشر، فهو ليس شبيهًا بالحاسّة السادسة، وليس نوعًا من الرادار الذي يستقرّ في الوجود الروحيّ، إنّه أشبه بإحساس المرء الكامل بأنّه متّجه نحو الله، حيث يلاحظ مظاهر خلقه سواء أكان في الطبيعة أو الأحلام أو الغيبوبة أو المزاج أو الصدف أو أيّ شيء آخر. ثانيًا، إنّنا نستخدم حواسنا للحصول على معلومات حول العالم المرئيّ عبر توجيههم بالشكل المناسب، كما هو الحال عندما أنظر من النافذة لأرى ما إذا كانت السماء لا تزال تمطر؛ لكنّنا لا نوجّه حواسنا الداخليّة لاكتشاف اهتماماتنا حول العالم الروحيّ بهذا الشكل، ونحن لا نستخدم وعينا الروحيّ لتبيان ما إذا كان الله لا يزال يحبّنا أو فيما إذا كان الحضور الملائكيّ متمثّلًا في حضور عزرائيل أم إسرافيل. قد نتمكن من تحصيل مثل هذه المعلومات عبر القليل من التجربة الدينيّة، لكنّنا نمتنع عن النظر والرؤية، إنّنا لا نكبح التجربة بهذه الطريقة. ثالثًا، والأهمّ من ذلك، أنّ التجربة الدينيّة لا تشتمل على الدور المعرفيّ نفسه لموضوع التجربة مثل الإدراك الحسّيّ، هنا قد يتّهمني ألستون بالجدل العقيم، ففي النهاية هذا هو بالضبط ما يسعى ألستون لإثباته، ومع ذلك، ما أقصده هو أنّ الطرق التي يتمّ بها اكتساب اليقين من خلال التجربة الدينيّة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الطرق التي يمنح بها الإدراك الحسّيّ شعورًا باليقين تجاه الأمور، إنّه نوع من الاختلاف بين اليقين بأنّك تحبّ والدتك وبين اليقين أنّك تحدّثت إليها للتوّ في المطبخ. ليس الأمر مرتبطًا بجعل إحدى الحقائق أكثر يقينًا من نظيرتها، ولكن يقين المحبّة يستحوذ على كياننا بالكامل بطريقة لا يفعلها الإدراك الحسّيّ.

تعدّ التجربة الدينيّة أكثر اعتمادًا على الفهم والبصيرة من التجربة الإدراكيّة، هذا أوّل ما نلاحظه من بين الأشكال الأكثر تأمّلًا للتجربة الدينيّة، لكنّني أودّ أن أجازف بالقول إنّه ينطبق حتى على الأنواع الأكثر عمقًا للتجربة الدينيّة التي ناقشها أوتو عام (1958)، كالإحساس بالتقوى والانجذاب والرهبة التي نشعر بها في حضرة ما هو مقدّس، ولكي نستشعر هذه القدسيّة، علينا القيام بفعلٍ يضاهي الشعور بالانجذاب والرهبة وجهل ما يتوجّب فعله، ذلك أنّه بإمكان المرء أن يشعر بمثل هذه المشاعر سواء أكان في مصنع ضخم أم في كاتدرائيّة ضخمة، يكمن الاختلاف في الوضع المعقّد للاعتقادات الأخرى لا سيما الدينيّة، وفي فهمنا لكيفيّة توافق التجربة الحاليّة مع هذا الأمر، وردًّا على ذلك، قد يدافع أحدهم عن موقف ألستون مجادلًا بأنّه قد أصبح مقبولًا على نطاق واسع أن يكون الإدراك الحسّيّ محمّلًا بالنظريّة؛ وبالتالي فإنّ اعتماد الوضع الذي تحدّثت عنه لا يميّز الدين عن التجربة الإدراكيّة، لكنّي لا أدّعي أن اعتماد الوضع هو خاصّيّة حصريّة للتجربة الدينيّة، ما أقصده أنّ اعتماد الوضع للتجربة الدينيّة هو أوسع نطاقًا أو شموليّة مما هو عليه في حالة الإدراك. إن إدراك المرء بأنّ الرؤية التي يراها هي لملاك تنطوي على مجموعة متشابكة لذلك، بدلًا من انتقاد جيمس لأنّه جعل التجربة الدينيّة مختلفة جدًا عن التجربة الحسّيّة، كما يفعل ألستون، أودّ أن أعترف أنّ التجربة الدينيّة تختلف عن التجربة الحسّيّة أكثر مما يعتقده جيمس، ناهيك عن ألستون. إضافة إلى اعتقادي أنّ ذلك الاختلاف يتجلّى بشكل كبير في الكتابات الإسلاميّة حول هذا الموضوع، على الرغم من أنّني لا أجده أمرًا غريبًا عن التجربة الدينيّة الإسلاميّة.

المصادر والمراجع الأجنبية:
“Rocks”, Ian Hacking’s. (1999). The Social Construction of what?. Cambridge: Harvard University.
Schleiermacher, friedrich. (1996). On Religion. Richard Crouter. Cambridge: Cambridge University.
James,William. (1928). The Varieties of Religious Experience. London: Longmans, Green and Co.
Proudfoot, Wayne. (1985). Religious Experience. Berkeley: University of California.
Fraassen, Bas van. (2002). The Empirical Stance. New Haven: Yale University.
Geertz, Clifford. (2000). Available Light. Princeton: Princeton University.
Taylor, Charles. (2002). Varieties of Religion Today. Cambridge: Harvard University.
Ha’ir i yazdi, Mehdi. (1992). T he Principles of Epistemology in Islamic Philosophy:
Knowledge by Presence. Albany: State University of New York.
Miabaa Yazdi,Muaamad Taqi. (1999). Philosophical instructions.Binghamton:Global Publications.
Alston, William P. (1991). Perceiving God. Ithaca: Comell University.
Lewis, C. I. (1929). Mind and The World Order: an Outline of a Theory of Knowledge.
NewYork: Charles Scribner’s Sons.
Perry, Ralph Barton. (1996). The Thought and Character of William James. Nashville: Vanderbilt University.
James, William. (1996). A Pluralistic Universe. Lincoln: University of Nebraska.
Kaysh, Alexander. (2000). Islamic Mysticism: A Short History. Leiden: Brill.
Ernst , Car l W. (1997). T he Shambhala Guide to Suf ism. Boston: Shambhala Publications.
Otto, Rudolf. (1958). The Idea of the Holy. London: Oxford University.

-------------------------------------
[1]*. البروفسور محمد لگنهاوزن (أستاذ سابق بجامعة تكساس الجنوبية 1979-1989) وعضو الهیئة العلمية بمؤسسة الإمام الخميني التعليمية – البحثية في قم. له أنشطة علمية فلسفية إسلامية بالتعاون مع العديد من المراكز العلمية الإيرانية من مثل جامعة قم، وجامعة الأديان والمذاهب والمؤسسة الدولية للدراسات الإسلامية.
المصدر: مجلة "روش شناسى علوم انسانى" [منهجيات العلوم الإنسانية]، ربيع 1383 ش، العدد 38.
ـ ترجمة: علي فخر الإسلام.
[2]- لمزيد من المعلومات والمقاربة النقديّة لشلايرماخر من زاوية بنيويّة، راجع:
Robert Forman, Mysticism, Mind, Consciousness (Albany: SUNY Press, 1999).
[3]-  المقطع مأخوذ من إنجيل متّى 7: 15- 19: «احترزوا من الأنبياء الكذَبَة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنّهم من الداخل ذئاب خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبًا أو من الحسك تينًا. هكذا، كل شجرة جيّدة تصنع أثمارًا جيدة، وأمّا الشجرة الرديّة، فتصنع ثمارًا ردية. لا تقدر شجرة جيّدة أن تصنع ثمارًا رديّة ولا شجرة رديّة أن تصنع ثمارًا جيّدة. كلّ شجرة لا تصنع ثمرًا جيّدًا تقطع وتلقى في النار. فإذًا من ثمارهم تعرفونهم.»  هل يعني ذلك أنّ المسيح أو الإنجيليّين كانوا براغماتيّين؟
[4]-  اعتمد جيمس الترجمة الإنجليزيّة  من:
 (1902) is taken, see W. Montgomery watt, The faith and practice of al-Ghazali (Chicago: Kazi, 1982; originally published in london by George allen and Unwin, 1956), 54- 68.
كما اعتمد ترجمة Schmolders لـ»گلستان راز [جنة الأسرار]» للشبستري.
[5]-  كما اعتمدت وجهة النظر هذه من قبل by Will iam P. Alston in his Perce iving God ( Ithaca: Comell University Press, 1991), 281.
[6]- لمزيد من المعلومات حول مفاهيم التبرير المعرفيّة راجع:
William P. Alsto, Epistemic Justification (Ithaca: Comell University Press, 1989).
[7]- راجع James (1902), 131؛ حيث يتبيّن أنّ التعددّيّة الميتافيزيقيّة التي كان يميل إليها لم تكن بتلك الدرجة من المعارضة للأحاديّة. راجع:
 William James, A Pluralistic Universe. (Lincoln: University of Nebraska Press, 1996, first published in 1909) and the appraisal by Ralph Barton Perry (1948), 328- 334.
[8]- شجر يستعمل للزينة