رئيس التحرير :
هاشم الميلاني
مدير التحرير :
حسين ابراهيم شمس الدين
فهرس المحتويات :
■ الثقافة بين التمثل الخارجي وتأويل المعاني...صراع فلسفي مخفي
حسين إبراهيم شمس الدين
الملف
■ مفهوم الثّقافة ونسبيّة القيم في الفكر الغربي، قراءة نقديّة في ضوء أصول الفكر والفلسفة الإسلاميّة، (السّيّد محمّد باقر الصّدر نموذجًا)
د. عباس حمزة حمادي
■ تقييم الأسس المعرفيّة للنّسبيّة الثّقافيّة في ضوء نظريّة الفطرة
د. عين الله خادمي وعلي حيدري
■ الثّقافة وإشكاليّة المفهوم في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع
د. عبير أحمد
■ العولمة الثّقافيّة وصدام الموجات الحضاريّة عند ألفن توفلر
أسماء أحمد محمود
■ تحليل فلسفي لمنشأ الثّقافة وإمكان التّغيير فيها والتّخطيط لها
رضا ماحوزي
أبحاث بين مناهجيّة
■ مفهوم الثّقافة والتباساته في المجال التّداولي الغربي نقد الالتباس الدّلالي والمخرج الاصطلاحي القرآني
د. الطّاهر محمّد الشّريف
ندوة العدد
■ الثقافة في الفكر الغربي ومجالات النقد
حوار مع الأستاذ البروفسور محمود الذوادي
رسوم بيانيّة
■ أهم النظريات حول الثقافة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا
■ أهم الموضوعات التي تتناولها العلوم الإنسانية فيما يتعلق بالثقافة
مراجعات الكتب
■ كتاب مدخل إلى علم اجتماع المخيال
■ كتاب ثقافة الحركات الاجتماعيّة الجديدة
ترجمة ملخصّات المحتوى بالإنكليزيّة
المبتدأ
الثقافة بين التمثل الخارجي وتأويل المعاني...صراع فلسفي مخفي
تعدّ مفردة «الثّقافة» من المصطلحات الإشكاليّة في تاريخ الفكر والمعرفة، حيث تتناولها تعريفات متعدّدة قد تصل إلى حدّ التّناقض، فالبعض يجد أنّ الثّقافة هي وصف لطبقة نخبويّة من النّاس، وبعض آخر يجد أنّها عبارة عن «نمط حياة» شامل لما عليه جماعة، أو مجتمع بدءًا من اللّباس، والعمارة، وصولًا للدّين، والفكر، والبعض يجد أنّ الثّقافة في الحقيقة ليست سوى شبكة من المعاني، والرّموز الّتي تصبغ الأشياء المادّيّة الحياديّة بطبعها اتّجاه أي معنى.
ولكنّنا إذا أردنا رصد الوجهة العامّة الّتي تمحورت حولها الدّراسات حول الثّقافة في الفكر الغربي، فإنّنا نجد وجود مذهبين عامّين يتجاذبان النّظريّات:
المذهب الأوّل هو الّذي ينظر إلى الثّقافة في تمثّلها الواقعي الخارجي، والّتي تتمثّل في شبكة العلاقات الاجتماعيّة، والسّياسيّة، والاقتصاديّة، وغيرها.
المذهب الثّاني هو الّذي ينظر إلى الثّقافة بوصفها بنية داخليّة رمزيّة، وشبكة من المعاني الّتي تصبغ الأمور الخارجيّة بكتلة من التّأويلات الّتي يمارسها أبناء الثّقافة على الوقائع والأشياء.
هذان المذهبان يتنازعان مسألة أساسية، وهي الأصالة بين المعنى، والعلاقات الخارجيّة، حيث نجد أنّ بعض التّيّارات العامّة من قبيل البنيويّة، والوظيفيّة، والصّراعيّة الماركسيّة، وإن كانت تيّارات مختلفة جذريًا فيما بينها، ولكنّها في العمق تتعامل من الظّواهر الثّقافيّة «كأشياء» خارجيّة، والبحث عن العلاقات النّاظمة بينها، في المقابل نجد أنّ التّيارات الأخرى، كالتّيّار الفيبري في علم الاجتماع، والتّفاعليّة الرّمزيّة، وصولًا إلى كليفورد غيرتز في كتابه «تأويل الثّقافات» تتعامل مع الثّقافة بما هي روح المجتمع، أو المعاني، والرّموز الّتي تمثّل الهويّة الدّاخليّة لأيّ مجتمع.
في ظلّ هكذا نقاشات بين تيّارات مختلفة، بحيث يعود النّقد الأساس في اختزال كلّ تيار أبعاد اهتمّ بها تيار آخر، حيث يتمّ اتّهام تيّار التّفاعليّة الرّمزيّة الّذي هو امتداد للنّمط الفيبري التّأويلي في التّعامل مع الظّواهر بأنّه يهمل الوقائع الفعليّة الخارجيّة، فإنّ التّأويليّين كغيرتز مثلًا يوجّه نقده للسّوسيولوجيّين الآخرين بأنّهم قصروا رؤيتهم على ظواهر الثّقافات، ولم يتعمّقوا في المعاني الّتي يحملها الفاعلون الثّقافيّون في أيّ مجتمع، وأنّ هذه المعاني هي عمق الثّقافة وروحها.
وبمعزل عن كلّ هذا النّقاش، فإنّه لا بدّ من تلمّس الأبعاد الفلسفيّة الّتي تكمن وراء هذه الرّؤى والنّظريّات، إذ قد يظهر للمتأمّل في كلمات علماء الاجتماع، والانتروبولوجيا أنّ نظريّاتهم حول الثّقافة، وطبيعتها، وآليّات اشتغالها إنّما هي نظريّات أقرب الى الحدس، والتّأمّل السّاذج، أو التّجريبي البسيط، والحال أنّها تُخفي وراءها ما تتّكئ عليه من أفكار فلسفيّة حول الوجود، والعالم، والمجتمع.
ولذا فإنّنا سنسعى في هذا المبتدأ للإشارة لأهمّ ما يمكن أن يُعدّ من المبادئ التّحتيّة، والتّأسيسيّة للتّفكير حول قضيّة الثّقافة عمومًا، أو قضيّة بحثيّة في العلوم الإنسانيّة خصوصًا:
أوّلًا: نحو وجود الثّقافة
عندما نتكلّم على أيّ أمر متحقّق في الواقع، فلا بدّ من طرح سؤال أوّلي هو «ما نحو وجود هذا الشّيء؟»، أي إنّنا إذا سلّمنا بأنّ شيئًا ما ليس بوهم واهم بل هو أمر له حقيقة في عالمنا الواقعي، وليس عدمًا، فإنّ لنا أن نسأل عن نحو وجوده.
ويتبلور هذا السّؤال عندما نرصد أنحاء وجود الأشياء، وأنّها لا توجد على نحو واحد، فبعض الأشياء توجد في الخارج على نحو مستقلّ لها ما بإزاء، كالأجسام المختلفة مثلًا، وهذا بخلاف الألوان، والحرارة، والبرودة، والخشونة، وأمثال هذه الأمور، الّتي لا يشكّ أحد بوجودها، ولكنّها موجودة لا على نحو وجود الأجسام – أي لا بنحو مستقلّ- بل موجودة بوجود تقوم به، وبتبع غيرها، فالحرارة نحو وجودها هو بأن تكون حاصلة في جسم، وكذا يوجد أنحاء أخرى لوجود الأشياء، كوجود وحدة الشّيء عندما نقول «هذا الشّيء واحد»، فإنّ وحدته وصف حقيقيّ له، ولكن له نحو خاصّ من الوجود.
والآن، ما هو نحو وجود الثّقافة؟ هل هي أمر يقتصر على وجوده في الأذهان؟ أم له نحو وجود في خارج الأذهان؟
التّيّارات التّأويليّة تميل بشكل واضح للقول بأنّ الثّقافة هي أمر داخليّ في الإنسان. إنّها المعاني الّتي يؤول فيها الأشياء، وأمّا التّيّارات الأخرى كالوظيفيّة، والبنيويّة، فإنّهم بصراحة يذهبون إلى أنّ الثّقافة هي هذه الأمور الخارجيّة الّتي باجتماعها تعطي نمطًا واحدًا لمجتمع من المجتمعات، كالهندسة المعماريّة، والفنون، واللّغة، وغير ذلك الّتي باجتماعها تمثّل نظامًا متميّزًا لجماعة ما.
في هذا المجال، نجد غيابًا لهذا الأمر في الأبحاث الإنسانيّة الأكاديميّة الغربيّة، ولعلّ السّبب في ذلك هو انفصال البحث الفلسفي عن البحث في العلوم الإنسانيّة، ممّا أدّى إلى إهمال مثل هذه الأسئلة الّتي ترجع في العمق إلى نحو من التّفلسف.
ثانيًا: الثّقافة والنّسبيّة
الكثير من النّقاشات الّتي تعرّض لها الفلاسفة الغربيّون، وعلماء الاجتماع، والإناسة، قضيّة النّسبيّة – سواء على مستوى المعرفة، أم القيم، أم غير ذلك- معتمدين في ذلك على استدلال خفيّ سارٍ في كلماتهم، هو أنّ تعدّد الثّقافات الّذي قد يصل في بعض الأحيان إلى التّناقض، أمارة، وعلامة على أنّ أنظمة الاستدلال العقلي عند الشّعوب ليست أصيلة في ذات الشّخصيّة الإنسانيّة، وإنّما هي مصطبغة بالصّبغة الحضاريّة، والثّقافيّة، وبالتّالي لا معنى لادّعاء الثّبات، والخلوص للقيم في عالم متعالٍ عن الثّقافات، وفي النّتيجة القول بالنّسبيّة.
ویشبه هذا النّمط من التّفكير في الاستدلال على النّسبيّة ما ذكره الشّيخ الرّئيس ابن سينا في إلهيّات الشّفاء، حيث نص على قول المتحيّر في أمر وجود معرفة أوّليّة بديهيّة، حيث قال: «المتحيّر لا محالة أنّما وقع فيما وقع فيه إمّا لما يراه من تخالف الأفاضل الأكثرين، و يشاهده من كون رأي كلّ واحد منهم مقابلًا لرأي الآخر الّذى يجده قرنا له، لا يقصر عنه، فلا يجب عنده أن يكون أحد القولين أولى بالصّدق من الآخر.[2]»
وأجاب عن هذه الشّبهة بأنّ التّفاوت لا يدلّ على أكثر من خطأ البعض لا على أنّه لا صواب ولا خطأ!، قال: «أمّا حلّ ما وقع فيه فمن ذلك أن يعرّفه أنّ النّاس ناس لا ملائكة. و مع ذلك فليس يجب أن يكونوا متكافئين فى الإصابة، و لا يجب إذا كان واحد أكثر صوابًا فى شيء من آخر، ألّا يكون الآخر أكثر صوابًا منه فى شىء آخر. وأن يعرّف أنّ أكثر المتفلسفين يتعلّم المنطق، وليس يستعمله، بل يعود آخر الأمر فيه إلى القريحة فيركبها ركوب الرّاكض من غير كف عنان أو جذب خطام[3].»
هذا البحث في الحقيقة هو بحث حكميّ، وفلسفيّ أيضًا، لأنّه بحث عن العلاقة بين الثّابت، والمتغيّر، وعلامات كلّ منهما، مضافًا إلى أنّ الشّخصيّة الإنسانيّة هل تستقيم وحدتها مع القول بالنّسبيّة في القيم؟ وهل الأدلّة الّتي طرحت على القول بالنّسبيّة هي أقوى من الأدلّة الّتي تطرح في مجال إنكار النّسبيّة؟
ثالثًا: الاعتبار والحقيقة في الثّقافات
تعتبر مسألة الاعتباريّات من المسائل المهمّة الّتي نجدها في تراث الفلاسفة المتأخّرين منهم خاصّة، كالعلّامة الطّباطبائي، حيث ذكر أنّه لا بدّ من التّفريق بين القضايا الّتي تحكي أمورًا خارجيّة واقعيّة، وبين القضايا الّتي تنشأ في ظرف الاجتماع، والمجتمع، والّتي لا تعبّر عن حقائق تكوينيّة، وإنّما أفقها هو أفق الّذين أنشأوها، واعتبروا لها التّحقّق لأسباب متعدّدة مثل الحاجات الاجتماعيّة، بحيث لو ألغينا الذّهن الإنساني الّذي ابتكر هذه القضايا لما كان لها محكيّات خارجيّة.
ولكن مع ذلك، هناك في قلب كلّ اعتبار حقيقة يتمّ الاتّكاء عليها في فعل الاعتبار نفسه، ولا يمكن لاعتبار المعتبرين أن يكون أجنبيًّا عن أيّ حقيقة تكوينيّة، وبالتّالي فإنّ الثّقافات في بعدها الاعتباري الّذي يمكن أن يقال إنّه يتمثّل في الآداب، والقوانين، والنّظم الحاكمة في العلاقات، وحتّى في بعد القيم – بناء على بعض التّفسيرات- لا يمكن جعله اعتبارًا ذهنيًّا لا امتداد له في الواقع، أو فقل ليس امتدادًا هو بنفسه لواقع وراءه.
يقول العلامة الطّباطبائي: «حقيقة التّشريع هي أنّه [الله تعالى] فطر النّاس على فطرة لا تستقيم إلّا بإتيان أمور هي الواجبات، وما في حكمها، وترك أمور هي المحرّمات، وما في حكمها فما ينتفع به الإنسان في كماله، وسعادته هو الّذي أمر به، وندب إليه، وما يتضرّر به هو الّذي نهى عنه، وحذّر منه.
فله تعالى أن يختار في مرحلة التّشريع من الأحكام، والقوانين ما يشاء كما أنّ له أن يختار في مرحلة التّكوين من الخلق، والتّدبير ما يشاء، وهذا معنى قوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ) [...] وقوله : ( وَيَخْتارُ ) إشارة إلى اختياره التّشريعي الاعتباري، ويكون عطفه على قوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من عطف المسبّب على سببه لكون التّشريع، والاعتبار متفرّعًا على التّكوين والحقيقة.[4]»