البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ما بعد الكولونياليّة دراسة في أزمة المصطلح والنظريّة ونقد التجربة التاريخيّة

الباحث :  أزراج عمر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  25
السنة :  خريف 2021م / 1443هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 1 / 2022
عدد زيارات البحث :  1090
تحميل  ( 403.314 KB )
أخذت الدراسات والأبحاث حول الكولونياليّة وما بعد الكولونياليّة منفسحات لا حصر لها من المساجلات خلال العقود القليلة المنصرمة. وقد كان من البيِّن حجم الالتباسات التي رافقت المفهوم والمصطلح، الأمر الذي أدّى في كثير من الأحيان إلى تراكم المزيد من الأوهام والتعقيدات التي لا تزال تداعياتها تتفاعل في الأوساط الأكاديميّة ومراكز الدراسات في الغرب والعالم الإسلاميّ. وفي هذه الدراسة للباحث والمفكّر الجزائريّ البروفسور أزراج عمر مقاربة تحليليّة نقديّة لمفهوم ما بعد الكولونياليّة وما يدور حولها من مساجلات.

«المحرّر»
--------------------------------
ينبغي الإشارة بداية إلى ثلاثة عناصر متلازمة في بنية الأزمة التي يعاني منها تخصّص «ما بعد - الكولونياليّة» في طبعته الأوروبيّة الغربيّة منذ ثمانينات القرن الماضي. يتمثّل العنصر الأوّل في الزعم الذي يحاجج أصحابه أنّ نقد ظاهرة الاستعمار في ممارسات هذا النقد الغربيّ، وفي إطار هذه الدراسات، لا يصدر عن موقف واحد بل إنّ الممارسين له من منظّرين ودارسين إمبريقيّين يرون أنّ ثمّة تعددًا في المواقف المختلفة التي تكاد أن تكون متناقضة في أحيان كثيرة، ولذلك فهم يدعون إلى التمييز بين نمط الدراسات ما بعد – الكولونياليّة المتواطئة مع الاستعمار الكلاسيكيّ والجديد وبين تلك التي ما فتئت تساهم في اجتثاث جذور وبقايا الاستعمار التقليديّ وتقاوم، في الوقت نفسه، شتّى أشكال الاستعمار الجديد وتجلّياته في السياسة والعلاقات الدوليّة وفي التمثيلات التي تمارس العنف الابستيمولوجيّ من خلال وبواسطة أشكال التعبير الثقافيّ والفنّيّ والفلسفيّ معًا.

أمّا العنصر الثاني من بنية هذه الأزمة فيبدو في اعتراف فريق من منظرِّي هذا التخصّص المعرفيّ بهيمنة الجهاز النظريّ المشتقّ من الفكر الغربيّ على الدراسات ما بعد الكولونياليّة، وهو الأمر الذي سنناقشه في  القسم الأخير لاحقًا. أمّا العنصر الثالث من مركَّب هذه الأزمة فيتمثّل في المشكلات التي تحيط بمصطلح «ما بعد- الكولونياليّة» وشرعيّته أو عدم شرعيّته.

أنطلق الآن في رصد الأسباب التي جعلت ولا تزال تجعل كثيرًا من الدارسين والنقَّاد يعتبرون هذا النمط السائد من الدراسات ما بعد - الكولونياليّة المعمول به في المنظومات الجامعيّة الغربيّة بخاصّة مجرّد آليّة معرفيّة جديدة «اخترعتها» المراكز الكولونياليّة الغربيّة» من أجل تحريف دفّة الجدال الحقيقيّ حول ظاهرة الاستعمار التقليديّ وآثارها السلبيّة الاقتصاديّة والثقافيّة واللغويّة والنفسيّة في المجتمعات الخاضعة لاحتلالٍ سابقًا ولشتّى أنماط الهيمنة راهنًا؛ أي أنّ هذا النمط من البيداغوجيّات يبقي على فكر الكولونياليّة وممارساتها وجرائمها المادّيّة والرمزيّة المرتكبة في الفضاءات الخاضعة للاستعمار، ويهدف بالتزامن أيضًا إلى التغطية على وحشيّة علاقات القوّة التي تُمارس ضدّ دول الأطراف المستعمرة سابقًا في المرحلة التي تشهد نسبيًّا بعض التقهقر للكولونياليّة التقليديّة التي تعوَّض  بالاستعمار الجديد المقنَّع حينًا والسافر أحيانًا كثيرة.
يوصف منظّرو الدراسات ما بعد-  الكولونياليّة ومنفّذوها وجهازها النظريّ وتوجّهاتها التطبيقيّة التي يرحّب بها ويموّلها الغرب في منظوماته التعليميّة الأكاديميّة بأنّهم محافظون ومتواطئون في العمق ويرفضون مواجهة الاستعمارين الكلاسيكيّ والجديد ومقاومتهما، بل إنّهم يُتّهمون بأنّهم يكتفون بنقد الخطاب الكولونياليّ في صيغته الكلاسيكيّة والجديدة عن طريق تحليل أنماط التمثيلات في الأعمال  الأدبيّة والفنّيّة والفكريّة والإعلاميّة، وفي الوقت نفسه،  يتغاضون عن تفعيل التحرير الحقيقيّ للفضاءات المستعمرَة من الإرث الاستعماريّ، وفي المقدّمة، التناصّ القائم بين المراكز الغربيّة وبين الأنظمة الحاكمة التي تعيد إنتاج مركَّب ثقافة الحكم الاستعماريّ القديم والجديد وسلوكهما وبنيتهما.

أميركا تقود حرب المصطلحات
وهنا يبرز هذا السؤال: لماذا كلّ هذا السجال الخلافيّ الحادّ والدائر منذ سنوات طويلة بين النقّاد والدارسين، وبخاصّة، على مستوى الأكاديميّات الأوروبيّة / الغربيّة وأمام ذهول مثقّفي البلدان المستعمرة سابقًا ونقّادها، حول شرعيّة مصطلح ما بعد- الكولونياليّة نفسه أو عدم شرعيّته؟ 

 يرى النقّاد المعارضون لمصطلح «ما بعد - الكولونياليّة» وللاحقة «ما بعد ..»  أنّ أساس فقدان هذا المصطلح الشرعيّة يعود بالدرجة الأولى إلى تورّط الدراسات ما بعد – الكولونياليّة وجهازها النظريّ، على أيدي مثقّفي العالم الثالث العاملين في الجامعات الغربيّة، في تعليم أجيال الطلّاب عن حملات توظيف مصطلحي «الدراسات ما بعد- الكولونياليّة»  Postcolonialism و«مابعد- الكولونيالويّة» Postcoloniality  على نحو يوحي  بانتهاء ظاهرة الاستعمار، وتثبيت صيغة الشرط أو الوضع الاستعماريّين في الماضي فقط أيضًا.

لقد أدّى هذا النمط من التحريف والتلاعب بلاصقة «ما بعد ..» إلى استبعاد المصطلحات المطابقة للواقع التاريخيّ في الماضي وفي الحاضر معًا - وهي «الدراسات الكولونياليّة» أو «دراسات الاستعمار القديم والجديد» أو «الدراسات الرأسماليّة والإمبرياليّة» - من المنظومة الأكاديميّة بالجامعات الغربيّة. فالمصطلحان الأوّل والثاني يفضحان ما تخفيه لاصقة «ما بعد...» التي أُلصقت بكلمة «الكولونياليّة»؛ لأنّ  هذه الـــ «ما بعد ...» تحتمي أوّلًا بفكرة التعاقب الزمانيّ المرحليّ الذي يطمس استمرار آثار الاحتلالات العسكريّة، والسيطرة المتواصلة للمراكز الغربيّة وتشويه الحقائق التاريخيّة عن طريق تثبيت وعي زائف لدى طلّاب وطالبات الدراسات الثقافيّة والأدبيّة والفنّيّة والتاريخ في الجامعات ومراكز البحث الأكاديميّ لكي توهمهم أنّ الدور الحيويّ المحوريّ للدراسات ما بعد- الكولونياليّة يقتصر جوهريًّا على ممارسة عمليّة «تطهير» Catharsis   الرضّات الناتجة عن ما تبقَى من مخلّفات الاستعمار نفسيًّا بعد زواله.
 في هذا السياق، يتّضح لنا أنّ لاصقة «ما بعد..» المقحمة على مفردة «الكولونياليّة» تحوَل الاستعمار بضربة ساحر إلى مجرّد أثر Trace مغلق عليه غالبًا داخل هوَامات «أبنية لاوعي» السجلّ التاريخيّ المثبت في الماضي فقط، وهنا يكمن خطر هذا النمط من الدراسات ما بعد- الكولونياليّة التي تلغي حقيقة استمرار الشكل التقليديّ للكولونياليّة جنبًا إلى جنب تكريس هيمنة أشكالها الجديدة المعاصرة في صورة علاقات بينيّة غير متكافئة أو دوليّة مفروضة وغير عادلة أو في شكل ممارسة نفوذ ثقافيّ/ لغويّ أو تجاريّ أو احتكارات علميّة، فضلًا عن فرض الشروط التي تبرَّر التطوّر اللامتكافئ  بين ما اصطلح عليه بمجاز الضفّتين الجنوبيّة والشماليّة.

ولكي ندرك أخطار هذا النموذج من الدراسات ما بعد- الكولونياليّة واستراتيجيّاتها ومسوّغاتها البيداغوجيّة، فإنّه ينبغي القيام الآن باستدعاء الملابسات والأسباب التي فُرضت منذ البداية مصطلح «الدراسات ما بعد - الكولونياليّة» بلاحقتها «ما بعد» في الجامعات الأميركيّة أوّلًا عوضًا عن المصطلحات المذكورة آنفًا، ونكرّرها هنا كما يلي: «الامبرياليّة» و«الاستعمار الجديد» و«الدراسات الكولونياليّة» وغيرها من المصطلحات التي لا تعترف بزوال ظاهرة الاستعمار الغربيّ الكلاسيكيّ وتجهر بتفاقم أشكال الاستعمار الغربيّ الجديد.
وفي الواقع، ثمّة مناقشات كثيرة في هذا الخصوص تحفل بها عشرات الكتب والدراسات التي تؤرّخ لظاهرة الدراسات ما بعد- الكولونياليّة وتفحص وتصقل معمارها المفهوميّ والاصطلاحيّ.

 من الضروريّ التذكير أوّلًا بسيل الكتب المقرّرة في أقسام الدراسات ما بعد الكولونياليّة والتي يطلق عليها في أوروبا/الغرب اسم «منتخبات أو مختارات الدراسات الكولونياليّة» حينًا و«النظريّة ما بعد الكولونياليّة حينًا آخر. وتمثّل هذه المجاميع التي صدرت  بدءًا من ثمانينات القرن العشرين إلى يومنا هذا كمًّا ضخمًا لم تشارك بلداننا في تقويمه أو حتّى في التعرّف عليه وفحصه ومقاربة مضامينه نقديًّا علمًا أنّ هذه «المنتخبات» هي من إنتاج الجامعات والمراكز الأوروبيّة / الغربيّة المتخصّصة في الدراسات ما بعد - الكولونياليّة التي يغلب عليها الحضور الطاغي لنصوص الجامعات الأميركيّة والبريطانيّة، والأستراليّة، أمّا المساهمات المختارة من طرف أكاديميّ أو مفكّري ونقّاد الهند وأميركا اللاتينيّة ومنطقة الكاريبيّ وأفريقيا فتدور مضامينها غالبًا حول التأكيد على «عدم قدرة التابع على الكلام»، أو حول الإسراف في مدح بذخ «الهجنة المركّبة» من نسل الغزاة المستعمرين والأهالي المستعمرين، أو حول ميكانزمات فتح صناديق الذاكرة المعبّأة بتناقضات انزلاقات تأرجح الأهالي الوجدانيّ بين لغاتهم ولهجاتهم التي تلصق بها صفة البدائيّة والتخلّف العلميّ وبين لغات المستعمر التي تنعت بالعالمة والواصفة، وبين الهويّات والثقافات الأهليّة الثانويّة والمستعمرة المركزيّة. ويلاحظ قارئ هذه «المنتخبات» انعدام النصوص التي تحاكم الاستعمار الأوروبيّ/ الغربيّ على اغتصاب النساء أمام مرأى الأهالي العزّل وفتح بطون كثير من الحاملات منهنّ بالخناجر وإسقاط الأجنّة منها ميتة، وعلى مجازر إبادة الغابات والبيئات الطبيعيّة المستعمرة بالنابالم وبالغازات السامّة فضلًا عن حرق المزارع ومحاصيلها وقتل المواطنين والمواطنات الأبرياء ونفي آلاف منهم إلى الأبد إلى الجزر النائية في أستراليا وأميركا الجنوبيّة وغيرها من الفضاءات، حيث تفرض عليهم الأشغال الشاقّة بغير حقٍّ.

ومن اللافت للنظر، في هذا السياق، هو أنّ وزارات التعليم العالي والجامعات العربيّة لم تصدر بديلًا لهذه «المختارات» أو «المنتخبات» بأقلام نقّادنا ودارسينا، ولم تفاوض أقسام ومراكز الدراسات الكولونياليّة وما بعد الكولونياليّة في أوروبا/الغرب لتصحيح منتخباتها وتعديلها في إطار تفعيل أخلاقيّات التعاون الثقافيّ والتعليميّ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّها لم تتحرّك على مستوى أفريقيا وآسيا والعالم الأميركيّ اللاتينيّ ومنطقة الكاريبيّ وأميركا الوسطى والجنوبيّة التي تشترك معنا في معاناة الظاهرتين الاستعماريّتين الكلاسيكيّة والجديدة بقصد إعداد مشاريع جديدة في مجال تدريس النقد الكولونياليّ وما بعد الكولونياليّ البديل.

قبل الانطلاق في مناقشة المشكلات التي يثيرها مصطلح «ما بعد- الكولونياليّة»، ومصطلح Postcoloniality الذي أترجمه هنا إلى العربيّة ما بعد الكولونياليّ على غرار ما بعد الحداثيّ Postmodern  لدى جان فرانسوا ليوطار، أذكر بسرعة عددًا من النقّاد والمنظّرين البارزين في الفضاء النقديّ ما بعد الكولونياليّ الذين كرّسوا الكثير من كتاباتهم من أجل ترصين وتمحيص هذين المصطلحين وتبيان مشكلاتهما، فضلًا عن التبعات السياسيّة والأخلاقيّة التي انجرّت ولا تزال تنجرّ عن استخدام هذين المصطلحين المذكورين بدلًا من مصطلحات أخرى تعتبر أكثر تاريخيّة ومطابقة للحال الاستعماريّ في الماضي ولحال علاقات السيطرة في الحاضر، وأذكر منهم إدوارد سعيد، وغياتري سبيفاك، وهومي بابا، وإيلاّ شوحاط، وعجاز أحمد، وستوارت هول، وعريف درليك،  ونايل لارسن، وآنيا لومبا، وآن ماكلنتوك، ونايل لازاراس، وبال أهلاواليا، وربيرت يونغ، وكوام أنثوني أبياخ، وغريغوري كاسل، وسيمون ديورينغ، وأتو كويسن. إنّ ذكر هؤلاء فقط لا يعني السقوط في الانتقائيّة الاختزاليّة، بل لأنّهم يعتبرون أبرز الأسماء راهنًا في مشهد النقد المدعوّ بالنقد ما بعد- الكولونياليّ، وسأحاول أيضًا استعراض بعض سجالاتهم حول مصطلحي ما بعد - الكولونياليّة وما بعد الكولونياليّ، علمًا أنّهم يشتركون غالبًا في معارضة لاحقة «ما بعد ..» التي تلصق بمفردة الكولونياليّة، وفي التشكيك في فاعليّة الدراسات ما بعد الكولونياليّة في وضعها الحاليّ وقدرتها على تفجير ثنائيّة المستعمر / المستعمر وتحرير العقل الكولونياليّ وأنسنته.

أبدأ الآن باقتباس شهادة تاريخيّة مهمّة أدلت بها ناقدة أمريكيّة من أصل يهوديّ عراقيّ، وهي إيلاّ شوحاط Ella Shohat، ووردت في دراستها النقديّة «ملاحظات حول ما بعد الكولونياليّ – 1992م». في هذه الشهادة الحيّة تدوّن وتدين «إللا شوحات» التدخّلات السافرة داخل اللجنة المكلّفة بانتقاء المدرّسين والمدرّسات واختيار المناهج والمفاهيم والمصطلحات التي تدرَّس للطلّاب الأميركيّين في المنظومة التعليميّة بجامعات مدينة نيويورك ومعاهدها التي تعدّ بالعشرات، وهي بذلك تكون قد أرخت للحظات الأولى التي شهدت ميلاد مصطلح «الدراسات ما بعد - الكولونياليّة» الذي يفترض تعسّفيًّا زوال الاستعمار. ومن المعروف أنّ مصطلح «الدراسات ما بعد – الكولونياليّة قد أصبح منذئذ تخصّصًا رسميًّا بأميركا، ومن ثمّ اكتسح عددًا من الجامعات في أوروبا وفي جامعات البلدان المستعمرة سابقًا، وبخاصّة في الهند وأستراليا وجنوب أفريقيا وأميركا اللاتينيّة. يؤرّخ لتأسيس مصطلح الدراسات ما بعد الكولونياليّة ببدايات ثمانينات القرن العشرين.

وفي ما يلي شهادة «إيللا شوحات» كاملة: «رغم التعدّديّة المذهلة لمواقفها، إلّا أنّ النظريّة ما بعد الاستعماريّة لم تتطرّق إلى سياسة موقع مصطلح «ما بعد الاستعمار» نفسه. في ما يلي، أقترح البدء في مساءلة مصطلح «ما بعد - الاستعماريّة»، وإثارة تساؤلات حول انتشاره غير التاريخيّ والعالميّ، وآثاره المحتملة منزوعة السياسة. إنّ تأييد المؤسّسات المتزايد لمصطلح ما بعد– الاستعماريّة والدراسات ما بعد الاستعماريّة كتخصّص صاعد (واضح في إعلانات وظائف MLA التي تدعو إلى التخصّص في أدب ما بعد الاستعمار) المحفوف بالغموض».

وتواصل إللا شوحات قائلة: «توضّح تجربتي الأخيرة كعضو في لجنة الدراسات الدوليّة متعدّدة الثقافات، في أحد فروع جامعة مدينة نيويورك، بعض هذه النقاط الغامضة. ردًّا على اقتراحنا، قاوم الأعضاء المحافظون عمومًا في لجنة المناهج الجامعيّة بشدّة أيّ لغة تستدعي قضايا مثل «الإمبرياليّة ونقد العالم الثالث»، و«الاستعمار الجديد ومقاومة الممارسات الثقافيّة»؛ والجغرافيا السياسيّة للتبادل الثقافيّ، ولكنّهم ارتاحوا بشكل واضح عند رؤيتهم كلمة «ما بعد - الاستعمار». إنّ المبادرة الدبلوماسيّة للتخلّي عن المصطلحات المروّعة الإمبرياليّة والاستعمار الجديد قد ضمنت الموافقة لصالح «ما بعد- الاستعمار «الرعويّة». 

لا شكَ في أنّ هذه الخلفيّة التي توثّقها الناقدة والدارسة «إيللا شوحات» خطيرة جدًّا وجديرة بالدراسة العميقة وبكثير من الوعي النقديّ من قبل مثقّفي التعليم عندنا ونقّاده وأساتذته بهدف إعادة بناء حقل النقد الكولونياليّ مجدّدًا على أسس مواقف وحقائق تاريخ ومرجعيّات الدول المستعمرة أيضًا، وعلى نحو يُمَكِّن من تجاوز نقائص انزلاقات «دال- signifier» وعيوبها، مصطلح الدراسات ما بعد – الكولونياليّة وما ينتج عن هذه النقائص والعيوب من تداعيات لها آثار سلبيّة سياسيّة، وتاريخيّة  وأبستمولوجيّة وأخلاقيّة في آن واحد.

 وفي هذا الخصوص بالذات، يبدو أنّه حان الأوان أن تكون لنا مشاركتنا الفاعلة من المحيط إلى الخليج في إنشاء مصطلحات ذات خصوصيّة لهذا الحقل المعرفيّ، بالإضافة إلى ضرورة دعم الجهود النظريّة والتطبيقيّة الموضوعيّة والمساهمة بالتزامن في تغيير المعمار النظريّ الراهن للدراسات ما بعد الكولونياليّة ومعطيات تطبيقاته بواسطة تنقيّة المتن النظريّ المتمركز غربيًّا واستعماريًّا الذي يقوم عليه جزء أساس من الدرس ما بعد الكولونياليّ. إنّه يمكن لنا أن نستعين على ذلك بالنظريّة النقديّة للاستعمار المسلّحة بالوعي النقديّ المتعدّي الذي يقترحه تنظير المفكّر البرازيليّ باولو فريري،[2] ويمكن أيضًا التفاعل مع تبصيرات «الفلسفات الأرواحيّة التي اعتمدت عليها النضالات التحرّريّة في أفريقيا، مثلًا، والتي تختلف في شعريّتها غير الثنائيّة عن نظرة ثنائيّة الفلسفات الأوروبيّة»، كما تقترح، علينا، ذلك، الناقدة البريطانيّة كارولين روني.[3]

في سياق تفكيك مصطلح «ما بعد الكولونياليّة، تلفت الناقدة «إيللا شوحات» الانتباه إلى استبعاد لجنة نيويورك مصطلح العالم الثالث الذي تؤرّخ له بأنّه دُشّن في خمسينات القرن العشرين بفرنسا واكتسب سمعة دوليّة في كلّ من السياقات الأكاديميّة والسياسيّة، لا سيّما في ما يتعلّق بالحركات الوطنيّة المناهضة للاستعمار في خمسينات حتّى سبعينات القرن الماضي، وكذلك التحليل السياسيّ لنظريّة التبعيّة ونظريّة النظام العالميّ (أندري غوندر فرانك، عمانويل وولرشتاين، سمير أمين).[4]

تبرز شهادة إيللا شوحات كعضو بارز في منظومة التعليم في نيويورك أنّ بداغوجيّات هذه المنظومة، وكذلك أغلب المنظومات التعليميّة في الكتلة الغربيّة تخضع للتدخّلات التي تفرض وتُسيّس مضامين وأنماط التخصّصات والمفاهيم والمصطلحات التي تدرّس للطلاب، ممّا يوضح أنّ شعار تحرير التعليم من الإيديولوجيا المرفوع في أميركا ليس سوى شعار فضفاض، وأنّ ما يسمّى بتحييد  التعليم الغربيّ عن السياسة ليس إلّا وهمًا.

 واللافت للنظر، أيضًا، هو أنّ شهادة «إيللا شوحات» تطرح بقوّة مشكلة كبيرة نلخّصها في الشكّ في الفاعليّة السياسيّة للدراسات ما بعد – الكولونياليّة، وبخاصّة في طبعتها الأميركيّة، وما تمخّض عنها على مستوى أقسام الدراسات التي أُوكلت إليها مهمّة التفكيك النقديّ للخطابات الكولونياليّة سواء أكان على مستوى الفكر الفلسفيّ أو الاقتصاديّ أو العلاقات الدوليّة أو الأجناس الأدبيّة أو التحليل الثقافيّ الأنثربولوجيّ والإثنوغرافيّ، أو حتّى على مستوى مجال تقصّي الثقافات الشعبيّة والجماهيريّة والفرعيّة وغير ذلك ضمن فضاءات الدول المستعمرة سابقًا وداخل المراكز الاستعماريّة الكلاسيكيّة بما في ذلك فضاءات الشتات والمهاجر في الغرب، حيث تعاني الجاليات المتحدّرة من العالم الثالث من التهميش ومن تغريب هويّاتها.

ينبغي الإشارة، هنا، إلى أمر مهمّ جدًّا، وهو سيادة نزعة التمركز الغربيّ في نظريّات كتابة التاريخ في الغرب وممارساته؛ ونعني بذلك الدراسات التاريخيّة التي أفرزها التنظير لمهام التاريخ وفق الإطار الماركسيّ الأوروبيّ وبخاصّة تلك التنظيرات التي ما فتئت تحثّ، مثلًا، على كتابة التاريخ من  «الأسفل».

يظهر جليًّا أنّ المعنيّ بكتابة التاريخ من الأسفل هو التاريخ الخاصّ بالطبقة العمّاليّة الغربيّة بالدرجة الأولى الذي يقصي في الممارسة مفهوم الطبقة الماركسيّ التقليديّ ذا البعد العالميّ، ويستبعد الشرائح الأجنبيّة التي اصطلح عليها المنظّر الماركسيّ أنطونيو غرامشي بــ «التابع» Subaltern سواء أكان هذا التابع ممثّلًا في الشرائح المكوّنة للمجتمع المستعمر سابقًا أو في مكوّنات مجتمع المهاجرين المقيمين بصفة دائمة في فضاء الدول الأوروبيّة/الغربيّة أو في مكوّن  الأقلّيّات أو الإثنيّات أو في  النساء المهمّشات وهلمّ جرّا.

توضح رواية «إيللا شوحات» الطريفة والدراميّة سيادة نزعة معيار التمركز الأميركيّ والتحايل على حقائق الوضع الكولونياليّ لدى اللجنة التي اختارت مصطلح «الدراسات ما بعد الكولونياليّة»، وهنا نتساءل: ما هو موقف الدارسين والمنظّرين الآخرين من مصطلح «ما بعد - الكولونياليّة» وما بعد الكولونياليّ؟

نبدأ بتأمّل موقف إدوارد سعيد الذي يبدو ظاهريًّا مخالفًا لموقف «إيللا شوحات»، مع العلم أنّ معظم الدارسين والمنظّرين في حقل الدراسات المكرّسة لظاهرة الاستعمار يتّفقون مع إيللا شوحات في أنّ لاصقة «ما بعد» التي تلصق أو تلحق بمفردة الكولونياليّة تعني المرحلة الزمنيّة التالية على الاستعمار المباشر.

قبل استعراض موقف إدوارد سعيد الموجز وغير المبرهن عليه من مصطلح  الدراسات ما بعد الاستعماريّة ومناقشته أريد البدء بالإشارة إلى أنّ كتابيه «الاستشراق» و«الثقافة والإمبرياليّة» قد تميَّزا على نحو ملفت للنظر بصياغة مصطلح الخطاب الكولونياليّ لمعالجة النصوص الخياليّة وغير الخياليّة التي كتبها ونشرها المستشرقون والروائيّون والأدباء الغربيّون الذين ارتبطوا  بالاستعمار والإمبرياليّة بشكل مباشر أو غير مباشر.

وفي الواقع، فإنّ إدوارد سعيد قد اشتغل عميقًا (مستلهمًا ميشال فوكو في هذا الشأن بالذات) على تحليل الخطاب كما نفَذ إمبريقيًّا عمليّات خلخلة الخطاب الاستشراقيّ المرتبط باستراتيجيّات الاستعمار، فضلًا عن تقصّيه تاريخيّته وكيف شيّدت البنيات الخطابيّة الكولونياليّةDiscursive Structures ، ولكن ربط إدوارد سعيد بمنجز ميشال فوكو النظريّ وحده (وتحديدًا بنظريّاته في  تقنيّات الانضباط والعزل، والتطبيع، والمعرفة / القوّة، ودور الخطاب في لعبة تشكيل الذوات والتاريخ) يحتاج إلى تصحيح وتعديل.
 لا شكّ في أنّ مرجعيّات «سعيد» متعدّدة ومتضافرة؛ وأعني بهذا أنّه قد نهل من عدّة مرجعيّات فكريّة، منها: فكر أنطونيو غرامشي، وبخاصّة نظريّة المقاومة والهيمنة في مقاله الشهير «المسألة الجنوبيّة»، ودفاتر السجن، التي تعتبر متنًا فكريًّا بارزًا ومصحّحًا ومغيّرًا لكثير من المسلّمات الأرثوذكسيّة ذات الصلة بأنماط المثقّفين وأدوارهم وبدوغمائيّة نماذج من الفكر النظريّ الماركسيّ السائد في زمانه، وثمّة أيضًا تأثير حاسم آخر لا يقلّ أهمّيّة في تشكيل الشخصيّة القاعديّة الفكريّة لإدوارد سعيد، ويتلخّص في تفكير غيامبتستا فيكو ( 1668-1744) وبخاصّة فكرته «أنّ التاريخ  يصنعه البشر، وأنّ  أعظم  وأهمّ جزء من الفيزياء هو تأمّل الطبيعة البشريّة». 

ما بعد الكولونياليّة ومشكلة صنع النظريّة
يتّفق مؤرّخو النقد المعاصر في الغرب أنّ نظريّة الخطاب الكولونياليّ لإدوارد سعيد قد وفَرت الأرضيّة الصلبة لبلورة معالم هويّة الدراسات ما بعد الكولونياليّة، ورغم هذا فإنّه الأقلّ انشغالًا بالتدخّل النظريّ لتمحيص مصطلح هذا التخصّص وحلّ المشكلات التي تحيط به أو تحدّ من فاعليّته السياسيّة إلّا نادرًا وعلى نحو سريع كما سنبيّن لاحقًا. في هذا السياق، يلاحظ المرء أنّ إدوارد سعيد يتقن استخدام مفاهيم المفكّرين والنقّاد الآخرين الذين أقام معهم المثاقفة، ولكنّه يبدو زاهدًا في مجال نحت المصطلحات الخاصّة به إلّا قليلًا، ومن المصطلحات التي ابتكرها يذكر له الدارسون النقد العلمانيّ، والقراءة الطباقيّة ودنيويّة النصّ.

إلى جانب ما تقدّم، فإنّ فحص كتب إدوارد سعيد  الأساسيّة «جوزيف كونراد وخيال السيرة الذاتيّة – 1966» و«بدايات: القصد والمنهج – 1975» و«الاستشراق –1977» و«تغطية الإسلام – 1981 م، و«النصّ والعالم والناقد – 1983م»  و«الثقافة والإمبرياليّة – 1993»،  و«تمثّلاث المثقّفين – 1993م»، وغيرها لا تظهر تبنّيه إطلاق نقاش واسع ومثمر حول شرعيّة مصطلح «ما بعد الكولونياليّة أو عدم شرعيّته، ومصطلح» ما بعد الكولونياليّ»- ومدى صلاحيّتهما لتفكيك البنية الشاملة لتعقيدات الكولونياليّة الأوروبيّة/ الغربيّة وآثارها في بلداننا، والكشف عن أبنية الوعي العربيّ التي أدّت إلى الفشل في تحقيق عمليّتين متبادلتي الاعتماد، وهما: فكّ الارتباط مع النماذج المستوردة من المراكز الغربيّة، مثل: الرأسماليّة والإدارة المركزيّة البيروقراطيّة ومؤسّسات الدولة التابعة، وتأسيس نموذج الفكر السياسيّ الديمقراطيّ المتميّز ومؤسّساته عندنا.
ولكن إدوارد سعيد قد حاول استدراك هذا النقص الفادح في كتابه الموسوم «تعقيبات على الاستشراق- 1996م»، وفيه عرض رأيه بإيجاز في مصطلح ما بعد الكولونياليّة، وفي التبعات السياسيّة التي تلصق به.

ففي البداية، نوّه إدوارد سعيد بالدور الذي لعبه كتابه «الاستشراق» في بناء حقل النقد الكولونياليّ، قائلًا: «وإنّني بالغ السعادة والرضى؛ لأنّ الاستشراق قد شكّل، في الغالب، فارقًا في الدراسات النشطة للخطابات الأفريقيّة والهنديّة، وفي تحليلات تاريخ التابع Subaltern History وفي إعادة تجسيد ما هو ما بعد- كلونيالي ّPost-colonial في الانتربولوجيا والعلوم السياسيّة وتاريخ الفنّ والنقد الأدبيّ والعلوم الموسيقيّة، فضلًا عن التطوّرات الجديدة الهائلة في الخطاب النسويّ وخطاب الأقلّيّات ..»[5].
ثمّ أشار إدوارد سعيد -بسرعة أيضًا- إلى «اتجاهين عريضين: ما بعد الكولونياليّة، وما بعد الحداثة، «ثمّ أكّد أنّ» كلاهما في استخدامهما لكلمة «بعد» -Post لا يوحي بمعنى الذهاب إلى ما هو «أبعد من..»[6]، بل كما تعبّر إيللا شوحات Shohat في مقالة واعدة حول ما بعد- الكولونياليّ–  التواصلات والانقطاعات، حيث يتمّ التشديد على الطرز والأشكال الجديدة للممارسات الاستعماريّة القديمة، وليس أبعد منها...»[7].

والحال، فإنّ اقتباس إدوارد سعيد من مقال إيللا شوحات الموسوم «ملاحظات حول ما بعد الكولونياليّ» انتقائيّ وتجزيئيّ ومقطوع الصلة بمغزى شهادتها التي ذكرناه آنفًا والتي أكّدت فيها أنّ إقحام  مصطلح «الدراسات ما بعد – الكولونياليّة» من طرف لجنة نيويورك المكلّفة بمنظومة التعليم بهذه المدينة مقصود وتكتيكيّ للإيحاء يأنّ عصر الاستعمار الغربيّ قد انتهى، وأنَ ما تبقّى هو آثاره التي ينبغي أن تعالج وتصفّى. ففي هذا المقال بالذات تبرز شوحات أيضًا أنّ اللاحقة / أو اللاصقة «ما بعد ..» في مصطلح ما بعد – الكولونياليّة هي رجع صدى للتحقيب الزمانيّ الذي تكرّسه لاحقة «ما بعد» في مصطلح ما بعد- الحداثة، و«يمثّل حالة أو وضعًا أو حقبة معاصرة»[8]، أي أنّها تعني الحاضر الذي أتى بعد المرحلة الاستعماريّة. إنّه حتّى لو فهمنا من ظلال معاني مصطلح «ما بعد الكولونياليّة» ما يخالف هذا، فإنّ إيللا شوحات تصحّح الموقف، قائلة: «يتضمّن ما بعد الاستعمار سرديّة للتقدّم يظلّ فيه الاستعمار النقطة المرجعيّة المركزيّة، في مسيرة زمنيّة مرتّبة بدقّة من قبل إلى ما بعد الاستعمار، ولكنّه يترك علاقته مبهمة بأشكال الاستعمار الجديدة، مثلًا: الاستعمار الجديد»[9].

وفي الحقيقة، فإنّ إدوارد سعيد لا يناقش بعمق أيضًا المشكلات المحوريّة الناشئة من العلاقة المفترضة بين ما بعد - الكولونياليّة وما بعد - الحداثة وما بعد - الحداثيّة وما بعد - البنيويّة رغم أنّه يذكر تجاورها وتشابكها جميعًا في كتابه «تعقيبات على الاستشراق». والغريب في الأمر هو أنّه يقول بصريح العبارة بأنّ مصطلح «ما بعد – الحداثة» ليس تحقيبيًّا ولا يوحي بمعنى الذهاب إلى ما هو أبعد، أي أبعد من الحداثة، ويتّضح جليًّا أنّ إدوارد سعيد يناقض الفيلسوف الفرنسيّ جان فرانسوا ليوطار الذي حاجج في كتابه الشهير «الوضع أو / الشرط ما بعد الحداثيّ» بأنّ هذا المفهوم الأخير هو تجاوز وقطيعة للحداثة وسرديّاتها الكبرى، وهو يخالف، أيضًا، الناقد والمفكّر إيهاب حسن الذي بَيّن بالحجّة التناقضات القائمة بين الحداثيّة وما بعد الحداثيّة في كتابه «تقطيع أوصال أوروفيوس. ولكن  إدوارد سعيد قد وافق، بشكل ضمنيّ وغير مباشر، الفيلسوف هابرماس القائل في كتابه العمدة «الخطاب الفلسفيّ للحداثة» ما معناه أنّ الحداثة مشروع غير مكتمل وأنّ ما بعد الحداثة هي حداثة متأخّرة تنتقد وتصحّح نفسها.

في الواقع، فإنّ إيللا شوحات ليست وحدها التي تخالف إدوارد سعيد وتشدَد على الصفة المراوغة والغامضة لمصطلح «ما بعد - الكولونياليّة» وعلى دلالته التحقيبيّة، بل هناك الناقد التركيّ الأميركيّ البارز عريف درليك «الذي  يؤكّد في كتابه» هالة ما بعد الكولونياليّ: نقد العالم الثالث في عصر الرأسماليّة الكوكبيّة «أنّ مصطلح ما بعد الاستعمار في استخداماته المختلفة يحمل سوء فهم المعاني التي يجب تمييزها لأغراض التحليل».[10] ثمّ يضيف «هناك ثلاث استخدامات بارزة ومهمّة تبدو لي بشكل خاصّ: (أ) كوصف حرفيّ للحالة في المجتمعات الاستعماريّة بشكل رسميّ، وفي هذه الحالة يكون للمصطلح إشارات ملموسة، كما في مجتمعات ما بعد الاستعمار أو مثقّفي ما بعد الاستعمار، (ب) كوصف للحالة العالميّة بعد فترة الاستعمار، وفي هذه الحالة يكون الاستخدام إلى حدّ ما أكثر امتناعًا وأقلّ واقعيّة في الإشارة، ويمكن مقارنته في غموضه بمصطلح العالم الثالث، والذي يقصد به أن يكون بديلًا، و(ج) كوصف لخطاب حول الشروط المذكورة أعلاه يستنير بالتوجّهات المعرفيّة والنفسيّة التي هي نتاج تلك الشروط / الظروف.»[11] أمّا الناقدة آن ماكلينتوك فتناقش مصطلح «ما بعد- الكولونياليّة» في مقالها الممتع «ملاك التقدّم: مآزق مصطلح ما بعد الكولونياليّة» على أساس أنّ كلمة «ما بعد» تختزل أكثر من ذلك ثقافات ناس ما بعد الاستعمار إلى زمان حرف الجرّ، وأنّ المصطلح يضفي على الاستعمار هيبة التاريخ الصحيح، والاستعمار هو العلامة الحاسمة للتاريخ.»[12]

ويسجّل المفكّر ستيوارت هول، المؤسّس التاريخيّ الرابع لتخصّص الدراسات الثقافيّة في بريطانيا والعالم، في مساهمته الساخرة والموسومة «متى كان ما بعد الكولونياليّ: التفكير في الحدّ الأقصى» موقفه في متابعته النقديّة للسجال الخلافيّ حول مصطلح ما بعد الكولونياليّ الذي شاركت فيه آن ماكلينتوك وعريف درليك وإيللا شوحات، «مبرزًا أنّه» إذا كان الزمان ما بعد الكولونياليّ هو زمان الذي يلي الكولونياليّة، وأنّ الكولونياليّة محدّدة على أساس التقسيم الثنائيّ بين المستعمرين والمستعمر، فلماذا يكون الزمان ما بعد الكولونياليّ هو أيضًا زمان الاختلاف؟»[13] كما هو بيّن من عنوان دراسة هول الساخر، فإنّ ما بعد الكولونياليّ في مثل هذا الوضع يدلّ على حدث تمّ في الماضي، ولكذلك نجده متسائلًا عن تبعات ذلك على «أشكال السياسات وعلى تشكيل الذات في هذه اللحظة الحديثة المتأخّرة»؟[14] ثمّ يوضح أكثر أنّه «إذا كانت كلمة ما بعد الاستعمار مفيدة، فإنّها تشير إلى عمليّة فكّ الارتباط مع المتلازمة الاستعماريّة بأكملها والتي تتخذ أشكالًا عديدة».[15]

وندرك ممّا تقدّم، أنّ ستيوارت هول يأخذ بجدّيّة، مثل شوحات ودرليك وماكلنتوك، صيغة الماضي وتعقيداتها المتولّدة من ألصاق لاحقة «ما بعد» بكلمة  الكولونياليّة، لتصبح بذلك بمثابة حدث تاريخيّ مثبت في الماضي. وهنا نذكر أنّنا أشرنا سابقًا إلى أنّ إدوارد سعيد لم يولِ هذه المسألة أهمّيّة مركزيّة، بل أشار بوضوح إلى أنّ لاحقة «ما بعد ...» في مصطلح ما بعد- الكولونياليّة ذات دلالة وصفيّة للوضع الاستعماريّ وغير مرحليّة زمنيّة تؤكّد على الماضي الكولونياليّ ولا تعني أبعد من ذلك.

ولهذا السبب، ربّما، يكون إدوارد سعيد قد اكتفى بنحت بعض المفاهيم، وبتطبيق النظريّات المستعارة، من فوكو وغرامشي وفيكو وغيرهم، على تحليل أبنية الخطاب الكولونياليّ المتمثّل في البدء في خطاب «الاستشراق» ومن ثمّ وسّع الرقعة لتشمل الخطابات السياسيّة، والأدبيّة (الرواية، الشعر، النقد الأدبيّ والفكر). وينبغي التذكير، هنا، أنّ سعيد قد حاول في كتابه «تعقيبات على الاستشراق» أن يقارب باختصار شديد جدًّا علاقة  تيّار ما بعد الكولونياليّة بتيّار ما بعد الحداثة، ولكن مقاربته الخفيفة لم تفض إلى دراسة تفاصيل تأثير هذه الأخيرة على تشكيل الجهاز النظريّ للأولى.

مرجعيّات ما بعد الكولونياليّة
في هذا السياق، نلفت الانتباه إلى أمثلة مهمّة من المراجعات النقديّة التي كشفت عن أصول  مرجعيّات الجهاز النظريّ للدراسات ما بعد- الكولونياليّة، وبخاصّة تأثّر هذه الدراسات بنظريّات ما بعد البنيويّةPoststructuralism  وما بعد الحداثة Postmodernity وما بعد الحداثويّة  Postmodernism .

والحال، أنّ اقتراض الدراسات ما بعد الكولونياليّة المفترض من هذا الثالوث المذكور قد واجه نقدًا عنيفًا من طرف التيّارات النقديّة اليساريّة الراديكاليّة الأوروبيّة/الغربيّة من منطلق أنّ ما بعد الحداثيّة، مثلًا، تمثّل منطق البنية الثقافيّة والفكريّة والأيديولوجيّة الغربيّة الرأسماليّة الغارقة في النسبيّة الثقافيّة والمتشكّكة في العقلانيّة التي روّجت لها الفلسفة الحديثة، وفي كلّ ما يصنّف تحت مظلّة السرديّات الكبرى، حتّى وإن كانت سرديّات تنتمي إلى دوائر آسيويّة أو أفريقيّة لا تكرّر أخطاء التمركز الغربيّ العرقيّ أو الرأسماليّة الوحشيّة أو نموذج الإمبراطوريّة الاستعماريّة.

وفي هذا السياق، تتّهم الدراسات ما بعد الكولونياليّة من عدّة جهات بأنّ تبنّيها المنطق النظريّ المستعار من الطقوس ثالوث ما بعد البنيويّة، وما بعد الحداثة وما بعد الحداثيّة يجعلها حتمًا متواطئة مع الأساس المفهوميّ والفكريّ للرأسماليّة والعولمة الجائرتين، وبذلك تساهم هذه الدراسات في تقدير هذه الجهات بوعي أو بدون وعي في طمس خصوصيّات وفرادات أساليب الإنتاج وعلاقات الإنتاج التي تتميّز بها بلداننا تاريخيًّا قبل تعرّضها للاحتلال وللتدمير الثقافيّ، وإحلال النموذج الرأسماليّ الكولونياليّ محلّ نموذجها الأفريقيّ الآسيويّ للإنتاج. ويحاجج النقّاد الراديكاليّون أنّ الحمولة النظريّة التي تستعيرها الدراسات ما بعد الكولونياليّة من الثالوث المذكور لن تحرّر الدول الأطراف (بتعبير سمير أمين، وأغلبها من البلدان المستعمرة سابقًا) من تبعيّتها للمراكز الرأسماليّة الغربيّة.

وفي هذا الخصوص بالذات، نستدعي أستاذ جامعة لندن الناقد بارت مور- جيلبرت الذي جزم في كتابه (النظريّة ما بعد الكولونياليّة: السياق، الممارسة والسياسات -1997م) بشكل أنّ النظريّة ما بعد الكولونياليّة وممارستها تدين بالكثير  لتيّار ما بعد البنيويّ الفرنسيّ. يقول بارت مور جيلبرت:

 «يعرّف نصّ النظريّة ما بعد الكولونياليّة كمتن قد شكّل بالدرجة الأولى، أو بدرجة معتبرة، بواسطة الانتماءات المنهجيّة إلى النظريّة الفرنسيّة، العليا، - وبخاصّة جاك دريدا وجاك لاكان وميشال فوكو. وفي الممارسة، فهذا يعني عمل إدوارد سعيد، وغياتري سبيفاك وهومي بابا»[16].

ويعني هذا، في تقدير مور جيلبرت، أنّ إدوارد سعيد الذي يعتبر من طرف الدارسين  ومؤرّخي الأفكار المدشّن التاريخيّ للخطاب الكولونياليّ مركّبًا ومطبَقًا لامعًا للمنظومة الفكريّة النظريّة التي طوّرها ميشال فوكو في مؤلّفاته من خلال بناء مفاهيم «التكوين الخطابيّ»: و«البنيات الخطابيّة» التي هي أحجار الزاوية للخطاب، و«الإبستيم» باعتباره «مجموعة بنيات خطابيّة تفكّر من خلالها الثقافة في نفسها وتنشئ أفكارًا جديدة. إنّها أشبه بالأدوات المستعملة في التفكير بدلًا من رؤية العالم»[17].

 بالإضافة إلى ما تقدّم، فإنّ النقد الغربيّ يحتفل بمنجزات مجموعة «دراسات التابع» في الهند وجنوب آسيا، ولكنّه يحاجج، في الوقت نفسه، أنّ الأسس النظريّة لدراسات التابع مشتقّة في البداية من أفكار المدرسة التاريخيّة البريطانيّة الماركسيّة التي رفعت شعار «كتابة التاريخ من الأسفل» ومن روّادها إريك هوبسباون، وإدوارد طومسون وغيرهما، ومن ثمّ من فكر غرامشي، وبخاصّة من توظيف مصطلحيه الأثيرين «التابع»The Subaltern ، والهيمنة Hegemony: ومن استخدامات وتطوير فكرتي الخطاب وأشكال القوّة لميشال فوكو في أعمال مجموعة دراسات التابع.

وفي الحقيقة، فإنّ إدوارد سعيد نفسه قد اعتبر أفراد هذه المجموعة تلامذة لماركس ومتأثّرين بالماركسيّة الغربيّة، ويرى أنّ دراسات التابع من حيث البنية النظريّة والمنهجيّة هجين مشكّل من التيّارات والخيوط الأوروبيّة والغربيّة والآسيويّة والكاريبيّة، والأميركيّة اللاتينيّة والأفريقيّة.[18]

الخاتمة: في البحث عن البديل النظريّ
إنّ هذا النقد يعني أنّ وضع الدراسات ما بعد الكولونياليّة وجهازها النظريّ إشكاليّ ويحتاج إلى التغيير جذريًّا، وهل هناك بديل في الأفق يمكن أن يساهم في إخراج هذه الدراسات من مآزق التبعيّة للنظريّات المذكورة آنفًا؟ 

وفي الحقيقة، ثمّة إمكانيّات تسمح بابتكار الخصوصيّة النظريّة للدراسات الكولونياليّة / ما بعد الكولونياليّة وتطويرها؛ وذلك بتفعيل المركب المتكوّن من «نظريّة فَكّ الارتباط» التي اقترح سمير أمين بعض عناصرها  وبروتوكولاتها في  كتابيه «فكّ الارتباط: نحو عالم متعدّد المراكز/ Towards a: Delinking polycentric World – 1990، ونحو نظريّة للثقافة: نقد التمركز الأوروبيّ والتمركز الأوروبيّ المعكوس، والمنجزات الفكريّة النقديّة العربيّة الأخرى التي انخرطت ولا تزال في تفكيك أنساق الكولونياليّة والتمركز الغربيّ، وعلاقات السيطرة حينًا والهيمنة حينًا آخر بعد استقلال معظم بلداننا ظاهريًّا.

لا يعني البحث عن خصوصيّتنا النظريّة نبذ مكاسب النظريّات النقديّة الغربيّة التي تنتقد ميتافزيقا التمركز الغربيّ وفي مقدّمتها المقاربات التي تفكَك أوجه التحامل والقصور في كتابة «الرجل الأبيض» لتاريخ الاستعمار وللتداعيات الراهنة لهذه الكتابة المنحازة. وهناك ضرورة الانفتاح على خصوصيّات التطوّرات النظريّة التي تشكّل في بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة ومنطقة الكاريبي مثل التطوّرات الواعدة لدى مجموعة «دراسات التابع» في الهند، ومشروع نزع الاستعمار عن الجماليّات في أميركا اللاتينيّة؛ وذلك لدعم الآليّات التي تقاوم وتنزع والاستعمار الخارجيّ exo-colonialism والاستعمار الداخليّ colonialism-  Endo من مجتمعاتنا.

في العقود الماضية، بلورت في كتابي / أطروحتي باللغة الإنجليزيّة التي ناقشتها بجامعة لندن الشرقيّة في عام 1994م باللغة الإنجليزيّة، وعنوانها: «تأثير نزع الاستعماريّ الجزائريّ في تشكيل الفكر ما بعد البنيويّ وما بعد الحداثيّ الفرنسيّ والنظريّة ما بعد الكولونياليّة» وقام بترجمتها إلى اللغة العربيّة الشاعر والمترجم السوريّ فادي أبو ديب وصدرت في عام 2018م تحت عنوان «من أين جاءت ما بعد البنيويّة ومقاربات أخرى». في هذا الكتاب، أكّدت على ضرورة تغيير توجّه النظريّة النقديّة الكولونياليّة وما بعد الكولونياليّة على نحو يمكّنها من  تحرير نفسها من عطالة الاكتفاء فقط بالنزعة الأحاديّة التي كرّسها إدوارد سعيد في كتابيه «الاستشراق» والثقافة والإمبرياليّة وفي عدد من كتبه الأخرى؛ والتي تتمثّل في مسألتين، وهما: الاستغراق في السجال الانتقائيّ حول تمثّلات الاستشراق الأوروبيّ الغربيّ للشرق بشكل عامّ وللشرق الأوسط بشكل خاصّ أوَلًا، والدوران النمطيّ في تحليل أبنية الخطاب الاستشراقيّ؛ باعتبارها تحمل مضمونًا استعماريًّا ثانيًا. 

ولتجاوز هذه النمطيّة المتحذلقة، اقترحت إضافة بعد التركيز على المثاقفة الحضاريّة بين الغرب والشرق، وعلى ما دعوته وأشدّد عليه الآن بــ «التأثير المعاكس» الذي مارسته مقاومات مجتمعاتنا وحضاراتها وحركاتها التحرّريّة، فضلًا عن التأثيرات الثقافيّة الناتجة عن تغير الخريطة الإثنيّة والثقافيّة في بلدان أوروبا / الغرب المستعمرة سابقًا مع إبراز تفاعل جالياتنا المهاجرة مع المجتمعات الأوروبيّة والغربيّة التي صارت تقيم فيها شرط أن لا يهمل هذا نقد مركَب ميراث الكولونياليّة وخطاباتها السياسيّة والثقافيّة والفنّيّة.

 في هذا البحث، قمت بقلب النزعة التقليديّة النمطيّة التي طبعت ولا تزال تطبع الدراسات الكولونياليّة وما بعد الكولونياليّة سواء أكان في الغرب أم في دول العالم الثالث، وخاصّة في البلدان الكاريبيّة والآسيويّة والأميركيّة اللاتينيّة ولحدّ ما الأفريقيّة السوداء المستعمرة سابقًا، وفي فضاءات تلك التي لا تزال تصنّف ضمن خانة جيوب الاستغلال ما بعد الكولونياليّ في مرحلة الاستقلال الوطنيّ الشكليّ.

أقصد هنا بقلب نزعة التركيز الكامل، لحدّ الغرق في المازوخيّة، على التأثير الأوروبيّ الاستعماريّ/ما بعد الاستعماريّ على هويّات بلداننا وهذه البلدان الأخرى المذكورة آنفًا وثقافات وأشكال التعبير النظريّ والفكريّ في النسيج العامّ لمجتمعاتها. ومن أجل تجاوز هذه النزعة التي تكرّس المنظور الواحد فضلًا عن الدونيّة، فقد قمت بحركة السبر النقديّ لإبراز تأثير الفضاءات المستعمَرة سابقًا (بفتح الميم) على تشكيل سرديّات ونظريّات بعض أنماط الفكر الفلسفيّ في الدول الأوروبيّة المعاصرة. ولا شكَّ في أنَّ هذا التأثير ليس ذا بعد واحد، بل هو متعدّد حيث لا يقتصر على تشكيل الأفكار إنّما نجده يمتدّ إلى جميع نواحي الحياة في المجتمعات الأوروبيّة الكولونياليّة التي عرفت ظاهرة الاستعمار التقليديّ، ولكن المكان لا يتّسع هنا لفحص كلّ هذه النواحي جميعًا.

ينبغي التذكير أنّني شرعت في كتابة مواد كتاب «من أين جاءت ما بعد البنيويّة ومقاربات أخرى» في عام 1992م واكتمل إنجازه في عام 1994م. عمليًّا فقد كان هذا العمل جزءًا من نشاطي الأكاديميّ أثناء انخراطي في الدراسات العليا بجامعة شرق لندن. وأكرّر مرّة أخرى مبرزًا أنّه في تلك اللحظات من التاريخ الفكريّ في الفضاء الغربيّ كان تركيز الأغلبيّة الواسعة من الدارسين والمنظّرين الغربيّين، المتخصّصين في حقل الدراسات الكولونياليّة وما بعد الكولونياليّة، على تأثير علاقات القوّة للمراكز الأوروبيّة/الغربيّة وهيمنتها على المجتمعات المستعمرة وما بعد المستعمرة في العالم الثالث.
في هذا السياق، لاحظت أنّ هذا التوجّه المحدود، الذي مورس ولا يزال يُمارس إلى يومنا هذا من طرف روّاد الخطاب الكولونياليّ والدراسات ما بعد الكولونياليّة أمثال إدوارد سعيد وهومي بابا وغياتري سبيفاك وغيرهم، هو جزء عضويّ من العَوْد الأبديّ للتمركز الأكاديميّ ذي البعد الواحد، ولقد رسَم هذا تهميش التأثير المعاكس للمقاومات التحرّريّة التي أثّرت في الفكر الغربيّ نفسه وساهمت بذلك في إغنائه بمنظورات مضادّة للكولونياليّة بكافّة أشكالها في الزمان والمكان، ومثال ذلك تأثير حركة التحرّر الوطنيّ الجزائريّ في تشكيل جزء مهمّ من المعمار النظريّ والتوجّه لما بعد البنيويّة الفرنسيّة غير اليمينيّة والتي لعبت لاحقًا دورًا تكوينيًّا في بناء النظريّة ما بعد الكولونياليّة كما بيّن الناقد البريطانيّ روبيرت يونغ في كتابه «أساطير بيضاء: كتابة التاريخ والغرب«، حيث قال: إذا كان ما يدّعى البنيويّة ثمرة للحظة تاريخيّة واحدة، فإنّ تلك اللحظة هي إذن ربّما ليست ماي 1968م، وإنّما هي بالأحرى الحرب التحريريّة الجزائريّة – لا شكّ في أنّها هي العرض والإنتاج. وفي هذا الخصوص فإنّه مهمّ أنّ سارتر، ألتوسير، دريدا، وليوطار، من بين آخرين كانوا قد ولدوا في الجزائر أو كانوا منخرطين شخصيًّا في أحداث الحرب»[19]. وينبغي الإشارة إلى أنّ تأثير هذه الحركة التحرّريّة قد طالت مواقف معظم المفكّرين والفلاسفة الفرنسيّين وكتاباتهم منهم ما بعد البنيويّين وما بعد  الحداثيّين الفرنسيّين المعاصرين، أمثال: جاك لاكان، وهيلين سيكسو، وورولان بارط، وميرلو بونتي، وميشال فوكو الذي اعترف في حواراته مع الإعلاميّ والمثقّف الإيطاليّ داسيو طرومبادوري «أنّه مع الحرب مع الجزائر انتهت مرحلة طويلة في فرنسا كان اليسار يعتقد خلالها قليلًا وبسذاجة أنّ النضالات العادلة والقضايا العادلة للحزب الشيوعيّ كانت واحدة».[20]

في كتابي المذكور آنفًا، أكّدت على ضرورة دراسة دور المقاومات الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة وإبرازها داخل المجتمعات الأوروبيّة / الغربيّة، وكذلك تأثير البلدان المستعمرة سابقًا، وكذلك أشكال المقاومة التي فجّرتها هذه البلدان في مرحلة ما بعد الاستعمار التقليديّ على بناء أفكار ونظريّات المفكّرين المنتمين من حيث الولادة إلى المراكز الاستعماريّة السابقة، مع الاهتمام أيضًا وأساسًا بتأثير حركة التحرّر الوطنيّ الجزائريّ وتبعات مرحلة المحاولات المبذولة لفكّ الارتباط بالأثر الاستعماريّ الفرنسيّ بقليل من النجاح وبكثير من تعميق التبعيّة له».

المصادر باللغة العربيّة
إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة وتحرير: صبحي حديدي، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، ودار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى 1996م.
كتابي، من أين جاءت ما بعد البنيويّة ومقاربات أخرى، ترجمة عن الإنجليزيّة: فادي أبو ديب، دار فضاءات للنشر والتوزيع، الأردن،  2018 م.

المصادر باللغة الأجنبيّة
ARIF Dirlik, The Postcolonial Aura Third World Criticism in the Age of Global Capitalism, in Contemporary Postcolonial Theory , A Reader, Edit Padmini Mongia, Arnold, London .New York . Sydney, Auckland, 1997.
Anne McClintock, The Myth  of Progress  Pitfalls of the term  Post-Colonialism, in social text , 31/32, 1992
More  - Gilbert, B.J. ( 1997)  Post-Colonial :  Theory,  Context,  Practice,  Politics,   London : Verso
Robert J.C.Young, White Mythologies, Writing History and the West, Routledge, London And New York, 1990.
Selected  Subaltern Studies, Edward W.Said,s  foreword, edit,  Ranajit Guha  and Gayatri Chakravorty Spivak, oxford University Press, New York  Oxford, 1988, p.X
Stuart Hall, When Was The Post-Colonial? Thinking At the Limit; In The Post-Colonial Question Cmmon skies Divided Horizons, Edit; Lain Chambers and Linda Curti, Routledge, London and New York, 1996.
Ella shohat, notes on post-colonial, in contemporary postcolonial theory : Areader, Edit by Padmini Mongia, Arnold publisher, London.New York . Sydney .Aukland, 1997 .
Michel Foucault, Remarks on Marx, Conversation with Duccio Trombadori, Trans, R. James  Goldstein and James Cascaito, Semiotext ( E), 1981.
Millis Sara, Discourse, Routledge, London and New York, 1997.

------------------------------------
[1]- مفكّر وروائيّ جزائريّ مقيم في لندن.
[2]- لقد اكتشف المفكّر البرازيليّ باولو فريري في إطار تجربته البرازيليّة لمحو الأمّيّة أنّ تعليم المواطنين والمواطنات المسنّين القراءة والكتابة أمر مهمّ يدخل في إطار محاربة الجهل المفروض من طرف الضغوط الرأسماليّة الوافدة من الغرب وبخاصّة من أميركا إلى المجتمع البرازيليّ، ولكنّه قد اكتشف أيضًا أنّ محو الأمّيّة الحرفيّة والتقنيّة والمعرفيّة غير كاف لمقاومة التخلّف بل فإنّه قام بتجربة بناء الوعي النقديّ المتعدي لدى الأمّيّين بالتزامن مع محو أمّيّتهم من خلال التوصّل معهم إلى تأليف جماعيّ لنصوص نقديّة للرأسماليّة وقيمها، ويعني بهذا النمط من الوعي المتعدّي تنظيف الوعي الذاتيّ وتظيف النصوص التعليميّة من آثار الرأسماليّة.
[3]- انظر افتتاحيّة مجلّة «مثاقفات» الصادرة ببريطانيا، عدد 03، شتاء 2021، ص. 3
[4]- Ella shohat, notes on post-colonial, in contemporary postcolonial theory : Areader, Edit by Padmini Mongia, Arnold publisher, London.New York . Sydney .Aukland, 1997, pp.321- 322.
[5] - إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة وتحرير: صبحي حديدي، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، ودار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى 1996م، ص.114.
[6]- المرجع نفسه، ص. 128.
[7] - المرجع نفسه والصفحة نفسها.
[8] -Ella Shohat, « Notes On the Post-Colonial» in  Contemporary Postcolonial Theory: A Reader, Edited by Padmini Mongia, Arnold  London .New York. Sydney. Auckland, 1997, p.323.
[9]-Ibid, p.328.
[10] -  ARIF Dirlik, The Postcolonial Aura    Third World Criticism in the Age of Global Capitalism, in Contemporary Postcolonial Theory , A Reader, Edit Padmini Mongia, Arnold, London .New York . Sydney, Auckland, 1997, P.296.
[11] -Ibid, P.296.
[12] - Anne McClintock, The Myth  of Progress  Pitfalls of the term  Post-Colonialism, in social text , 31/32, 1992
[13] - Stuart Hall, When Was The Post-Colonial ? Thinking At the Limit; In The Post-Colonial Question  Cmmon skies Divided Horizons, Edit ; Lain Chambers and Linda Curti, Routledge, London and New York, 1996, P.242.
[14] - Ibid, P.246.
[15] - p.246.
[16] - More  - Gilbert, B.J. ( 1997)  Post-Colonial :  Theory,  Context,  Practice,  Politics,   London :  Verso
[17]-Millis Sara, Discourse, Routledge, London and New York, 1997, p.145.
[18] - Selected  Subaltern Studies, Edward W.Said,s  foreword, edit,  Ranajit Guha  and Gayatri Chakravorty Spivak, oxford University Press, New York  Oxford, 1988, p.X
[19] - Robert J.C.Young, White Mythologies, Writing History and the West, Routledge, London And New York, 1990, P.32.
[20] -Michel Foucault, Remarks on Marx, Conversation with Duccio Trombadori, Trans, R. James  Goldstein and James Cascaito, Semiotext ( E), 1981, PP.110 -111.