البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

صورة فرنسا الكولونياليّة قراءة في أطروحات الرَّحالة الجزائريّ حمدان خوجة

الباحث :  عبد القادر بوعرفة
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  25
السنة :  خريف 2021م / 1443هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 1 / 2022
عدد زيارات البحث :  1658
تحميل  ( 406.976 KB )
تنظر هذه الدراسة في آليّات السلوك الاستعماريّ الفرنسيّ حيال المجتمع الجزائريّ على مدى عقود طويلة من الاحتلال المباشر. وقد ركَّز الباحث على الرَّحالة الجزائريّ حمدان بن خوجه الجزائريّ من أجل أن يستظهر الأنماط المتعدِّدة لسلوكات المستعمر الفرنسيّ خلال القرن التاسع عشر.

«المحرِّر»
----------------------
ظهر أدب الرحلات منذ القِدَم، إذ يُعتبر من أجمل أنواع الآداب وأطرفها وأصعبها، فهو جَميل من حيث الصّور التي ينقلها عن الأماكن والجغرافيا، وعن البشر وأنواعهم، وطَريف لأنّه ينقل لنا العجائب والغرائب التي يُصادفها الرّحالة في طريقهم، وصَعب لأنّه يُجهد الجسد والنّفس، وتَكتنفه صِعاب ومخاطر الطريق، حيث إنّ كثيرًا من الرّحالة لقوا حتفهم أثناء رحلاتهم، وعليه فهو أدب نادر نظرًا لصعوبة الرحلة ذاتها.

ويُمثّل أدب الرحّالة المرآة العاكسة لصور الآخر الذي كنَّا نجهله أو نعرفه معرفة سطحيّة وساذجة، فابن بطوطة في رحلته الشّهيرة أماط اللّثام عن كثير من الحقائق المزيّفة عن أهل الهند وما جاورهم من الأمم، والأمر ذاته قام به الرحّالة العربيّ أحمد بن فضلان حين زار البلدان الإسكندنافيّة، والتي كانت مجهولة وغير معروفة لدى المسلمين، وتعتبر تلك الرحلة من أروع الرحلات التي عكست لنا الوجه الحقيقيّ لسكان المناطق الباردة كروسيا والنرويج، كما انطبعت صورة ابن فضلان المُسلم في ذهن الفياكينج من خلال ما علّمهم من أدوات المَدَنِية الإسلاميّة، خاصّة الصّابون والقَّداحة النَّارية.

ومن هذا المنطلق، سنحاول من خلال كتاب «المرآة» لحمدان خوجة أن نناقش إشكاليّة صراع النماذج وتدافعها، فحمدان خوجة حاول قدر الإمكان وضع مقارنة تاريخيّة بين الفرنسيّ الغازي الموجود بالجزائر المُحتلّة وبين الفرنسيّ المتمدِّن المتواجد بفرنسا، وهذه المقاربة كانت نتاج رحلته لفرنسا سنة 1833م، حيث اكتشف وجهين لفرنسا، فرنسا الاستعماريّة وفرنسا الحَضاريّة، فحاول من خلال تلك الصُّورة أن ينقل رسالةً للمجتمع الفرنسيّ المدنيّ، لينبّههم إلى تلك الصورة المتناقضة عنهم، وقد عبر عن تلك الرغبة في قوله: «هل تتجدّد مصائب القرن السّادس عشر في القرن التاسع عشر؟ إنّ كلّ ما وقع في الجزائر منذ ثلاث سنوات، يفرض علينا واجبًا مُقدّسًا يتمثّل في التّعريف بالوضع الحقيقيّ لهذا البلد قبل الغزو وبعده، ذلك لألفت انتباه رجال الدّولة إلى هذا الجزء من العالم، ولأقدّم ما لدي من معلومات وأنوّرهم حول بعض النقاط التي لا شكّ أنّهم يجهلونها»[2].
إنّ إشكاليّة البحث يمكن أن نضعها في سؤال رئيس وأساس، كيف ارتسمت فرنسا في ذهن حمدان خوجة بعد رحلته الشّهيرة؟ وكيف نستثمر تلك المقاربة التاريخيّة؟ وإلى أيّ مدى استطاع حمدان خوجة أن يكشف الوجه الحقيقيّ لفرنسا الاستعماريّة؟

تفرض الأسئلة السابقة استخدام منهجين، الأوّل هو المنهج التحليليّ التاريخيّ، والثاني المنهج النقديّ، فالأوّل يفرضه طابع الرحلة التي ترتكز على السرد والإخبار، والثاني يفرضه مقام التساؤل والتأمّل، ويمليه أيضًا مقام الشكّ لا التشكيك، وذلك كلّه من أجل الرغبة في الاقتراب من بؤر الحقيقة والالتزام النسبيّ بالموضوعيّة والحياديّة.

أقدمّ رحلة بشريّة موثّقة هي رحلة المؤرخ هيرودوت Hero Dotus (حوالي 484 ق.م - 425 ق.م)، الذي زار مصر وقبرص وفينيقيا وآشور وإيران، ودوّن كلّ ما شاهده وصادفه في كتابه الموسوم «تاريخ هيرودوت».

والرحلة الثّانية للرحّالة الإغريقيّ ميغس تهنيز Mégès Téhenez ، المُوسوم «سفريّة الهند»  يصوّر فيه ما شاهده أثناء طريقه إلى الهند سنة 330 قبل ميلاد المسيح .

كما يذكر بعض المؤرّخين بأنّ كثيرًا من الأنبياء قاموا برحلات عظيمة صوّرها القرآن الكريم في مقاطع بسيطة منها، رحلة: نوح، إبراهيم، وموسى، وعيسى، وآخرها رحلات محمّد عليه الصلاة والسلام، سواء أكان ذلك قبل النبوّة أم بعدها.

اشتهر المسلمون بأدب الرحلة، وقد تفنّنوا في ذلك تفنّنًا لم نجده عند غيرهم، ومن باب تعميم الفائدة سأعرض أهمّ الرحّالة المسلمين إلى خارج العالم الإسلاميّ في الجدول الآتي وفق ترتيب كرنولوجي:

اسم الرحلة
مؤلِّفها
موضوعها الرئيس
رحلة السيرافيّ
أبو زيد السيرافيّ
رحلة سليمان التاجر إلى الصين والهند
رحلة بن فضلان
أحمد بن فضلان
وصف بلاد الروس، الفايكينغ
رحلة البيرونيّ
البيرونيّ
تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة
نزهة المشتاق في اختراق الآفاق
محمد الإدريسيّ
وصف العالم ، بناءً على طلب الملك روجر الثاني
معجم البلدان
ياقوت الحمويّ
ذكر الأماكن والأقاليم الإسلاميّة وذكر أمم الجوار
رحلة ابن بطوطة
ابن بطوطة المغربيّ
وصف أمم الجوار من الهند وغيرها
الاجتهاد في المهادنة والجهاد
أحمد بن المهدي الغزال
وصف إسبانيا والأندلس
الإكسير في فكاك الأسير
ابن عثمان المكناسيّ
وصف بلاد الإسبان، مالطة ونابولي
الواسطة في أحوال مالطة
أحمد فارس الشدياق
وصف جزيرة مالطة
صفوة الاعتبار بمستودع اﻷمصار واﻷقطار
محمد بيرم التونسيّ
وصف جميع الأقطار والأمصار التي زارها شرقًا وغربًا
رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا
حسن أفندي توفيق
وصف رحلته لكلّ من ألمانيا وسويسرا
رحلة محمد شريف إلى (أوربة)
محمد شريف
وصف رحلته إلى أوروبا
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاويّ
ذكر رحلته إلى باريز وما جرى له أثناء البعثة العلميّة
زهرة العمر
توفيق الحكيم
ذكر باريس وأحوالها

ثانيًا- تعريف بحمدان بن عثمان خوجة
هو حمدان بن عثمان خوجة من أصل تركيّ، وُلد بالجزائر العاصمة من أمّ جزائريّة سنة (1189 - 1255هـ / نحو 1775 - 1840م)، درس بها وتلقّى علومه الأولى على يد أبيه، خاصّة القانون، ذلك أنّ والده عثمان كان فقيهًا وإداريًّا، شغل منصب الأمين العام لإيالة الجزائر، كما كان محاسبًا ومشرفًا على السجّلات التي تخصّ أسماء ورتب ورواتب أفراد الجيش الإنكشاريّ.
أرسله والده لإسطنبول من أجل الدراسة والتّعلم بمدارسها سنة 1784م، وكان عمره آنذاك إحدى عشرة سنة، وقد تركت في نفسه آثارًا إيجابيّة، حيث تحصّل على قدر مهم من العلوم والمعارف، وصقلته الرّحلة فألهمته إلهامًا، وغرست في نفسه الرغبة في الأسفار للتعرف على الأمصار والأقطار. قال عنه عادل نويهض:” كاتب سياسيّ، من رواد الحركة الوطنيّة الجزائريّة. وُلد بمدينة الجزائر. وبها نشأ وتعلّم. درس القانون على أبيه، ثم قام مقامه، بعد وفاته، وأصبح أستاذًا في الحقوق المدنيّة والقوانين الإسلاميّة. وفي سنة 1784م صحب خاله في زيارة لأهمّ مدن البلقان والقسطنطينيّة وغيرها. وفي سنة 1820 زار فرنسا وتعلّم اللغة الفرنسيّة. وبعد الاحتلال الفرنسيّ للجزائر، وعدم وفاء الفرنسيّين بالشروط التي اشترطتها الحكومة التركيّة عليهم قبل أن تسلّم لهم البلاد، نظّم الجزائريّون بزعامة حمدان أوّل حزب وطنيّ سياسيّ عرف بلجنة المغاربة أو حزب المقاومة، فقارع حمدان الاستعمار الفرنسيّ بقلمه ولسانه، فنفاه الفرنسيّون من الجزائر، فكان أوّل عربيّ مسلم يُطرد من وطنه من قبل دولة أجنبيّة من أجل قضيّة وطنيّة»[3].

حين أكمل دراسته عاد إلى الجزائر، حيث زاول دراسة العلوم الطبّيّة ومارسها، وقد كتب عن العدوى وكيف يمكن التعامل معها من خلال كتابه «اتحاف المنصفين والأدباء في الاحتراس من الوباء».

حين مات والده الخواجة عثمان تولّى مهامه، لكنّه ما لبث أن انجذب نحو التجارة، وخاصّة أنّها تُوفّر له رغبته الدفينة والمتمثّلة في السفر والترحال، ولقد فتحت له التجارة بابين، باب الغنى والثراء، حيث أصبح من أغنى تجّار الجزائر، وباب السّفر والترحال، حيث عرف عدّة بلدان ومدن، وتعلّم فنون السياسة والأعراف الدوليّة.
إبان الغزو الفرنسيّ للجزائر سنة 1830م، هبّ مدافعًا عن الجزائر، لكن الجزائر سقطت، وسلم الدّاي حسين المدينة للفرنسيّين، وهنا انبرى حمدان خوجة للدّفاع عن الجزائر بأسلوب آخر، إنّه الجهاد بالكتابة.
شهدت الجزائر مقاومة شرسة، خاصّة بالغرب والشرق، الأولى خاضها الأمير عبد القادر بن محيي الدين، والثانية قادها بالشرق الباي أحمد، وحين اشتدّ الخناق على الباي أحمد تولّى حمدان خوجة مهمّة الوساطة بينه وبين الفرنسيّين، وكان شاهدًا على بنود الاتفاق بين الطرفين.

حين لم يلتزم الفرنسيّون بالاتفاق والأعراف، أعدَّ تقريرًا مفصّلًا عن التّجاوزات التي قام بها جنرالات فرنسا، وأرسله إلى الجنرال سولت Jean de Dieu Soult. مما دفع الحكومة الفرنسيّة لإنشاء اللّجنة الإفريقيّة في 07 جويلية 1833م للبحث عن حقيقة الأوضاع في الجزائر؛ ولكن هذه الأخيرة كانت مجرّد حبر على ورق.
عندما فقد الأمل في الدولة العثمانيّة وفي قادة الحملة الفرنسيّة، ورأى كثرة المجازر والمآسي، قرّر السفر إلى باريس سنة 1833م، حيث ألّف كتابه الشّهير «المرآة»، الذي يعرض فيه ما شَاهده وما صَادفه، وينقل لنا صورة فرنسا من الدّاخل ويعكسها على أرض الجزائر، وبالفعل كانت رحلتهُ مرآةً عكست بوضوح حقيقة فرنسا الاستعماريّة.

حينها كتب من باريس في 16 أوت 1833م رسالة إلى السلطان العثمانيّ محمود الثاني، مناشدًا إيّاه التدخّل لإنقاذ الشعب الجزائريّ: «إنّ المسلمين الذين استشهدوا ودفنوا في هذه التربة سوف يسألونكم يوم الحساب لماذا تخلّيتم عنهم»[4].
غادر باريس سنة 1836م إلى تركيا، استقرّ بها وظلّ هناك مدافعًا عن الجزائر إلى أن وافته المنية سنة 1840م.

ثالثًا- كتاب المرآة: المضمون والمقاصد
كتاب «المرآة» ألّفه حمدان خوجة بعد رحلته إلى «باريس» سنة 1833م، ويبدو أنّه ألّفه باللغة الفرنسيّة، والنصّ الأصليّ غير موجود لدينا، وقام بترجمته إلى اللغة التركيّة نجله علي رضا زمن السلطان العثمانيّ عبد الحميد الثاني، ثم نقله إلى العربيّة المؤرّخ الجزائريّ محمّد العربيّ الزبيريّ سنة 2005م.

الكتاب مُؤَلَّف من مقدّمة مقتضبة، ولكنّها رائعة جدًا، وقِسمين، سمّاهما حمدان بالكتابين، حيث اشتمل الكتاب الأول على فصول تُعرّف بالجزائر من حيث تضاريسها وسكانها، والعادات والتقاليد، وحاول أن يُركّز على التّنوع العرقيّ والثّقافيّ لسكان الجزائر، والقصد منه تعريف الفرنسيّين بشعب يتعرّض للجور والظلم من قبل دولة شعارها الحرّيّة والإخاء والمساواة: « وفيما يخصّني ووفاء منّي للحكومة الفرنسيّة ولصالح قضيّتها، فإنّني قد حاولت أن أُعرّف بطبائع تلك الأمّة الحرّة وكذلك الشّعور النّبيل الذي تتحلّى به حكومتها التي لن توافق أيًّا من أساليب الجور اللاّسياسيّة والمناهضة للقوانين» [5].

الكتاب الثاني، هو أهمّ من الأوّل؛ لأنّه يتعلّق بموضوع بحثنا، ومن جهة أخرى، يُصوّر طبيعة الصّراع بين الغزاة والشّعب الجزائريّ، والذي قدّمه على النحو الآتي:

الفصل الأوّل: الحرب وأسبابها
الفصل الثاني: قصّة وصول الجيش إلى سيدي فرج
-اتفاقيّة بين قائد جنرالات الجيش الفرنسيّ وسموّ داي الجزائر
-الفصل الثالث: عن تفاصيل دخول المارشال بورمون إلى الجزائر
-الفصل الرابع: عن الاحتلال العسكريّ
-الفصل الخامس: عن البيانات منذ أن وقع الغزو الفرنسيّ
-الفصل السادس: عن إدارة المارشال بورمون
-الفصل السابع: عن أحداث الترسانة والاحتلال العسكريّ
-الفصل الثامن: عن الاحتلال العسكريّ وسلوك أهمّ ضباط الجيش الفرنسيّ
-الفصل التاسع: عن مصطفى بومزراق، وباي التيطريّ
-الفصل العاشر: تابع لإدارة الجنرال كلوزيل، وحملاته ضدّ المدية والبليدة نسخة المعاهدات
-الفصل الحادي عشر: عن الأوقاف، والتغييرات التي تعرّضت لها تلك المؤسّسات والمحاكم التي تنظر في شؤونها أثناء ولاية الجنرال كلوزيل
-الفصل الثاني: عشر تفسيرات حول ممتلكات الأوروبيّين في الجزائر.

من خلال تفكيك بُنية النّص وتحليله بناءً على موضوع الدّراسة فقط، سنلاحظ أنّ حمدان خوجة بعد رحلته إلى باريس عمل على تأليف الكتاب لإعطاء صورة واضحة عن الجزائر؛ وما تُعَانيه تحت نير الاستعمار الفرنسيّ، ولَفْت انتباه الأنتلجنسيا الفرنسيّة لبشاعة صورة فرنسا في الخارج، ويمكن رصد النقاط الرئيسة على النحو الآتي:

1- التحالف اليّهودي الفرنسيّ على الجزائر
رصد في الفصل الأوّل أنّ غزو الجزائر تمّ بناءً على مطالبة داي حسن من الحكومة الفرنسيّة تسديد ديون يهود الجزائر البالغة أكثر من مليونين فرنك فرنسيّ، وقد كان جوزيف يعقوب بكري (يهوديّ جزائريّ) قد كوّن مع مجموعة من اليهود الجزائريّين مؤسّسة يهوديّة تجاريّة تتعامل مع الدّول الأوروبيّة، كانت تبيع القمح بالخصوص، وكان من بين اليهود نفتالي بوجناح، وبوشناق.

والغريب في الأمر أنّ ديون فرنسا بالخصوص لم تكن للحكومة الجزائريّة بل كانت لليهود، وأراد الدّاي حسين أن يتدخّل من أجل دفع الحكومة الفرنسيّة تسديد ديونها لليهود، في المقابل كان دافعه الرئيس هو استعادة ديون الحكومة الجزائريّة من اليهود بعد أن يتمّ تسديدها لهم من قبل فرنسا وإسبانيا. وقد ذكر أبو القاسم سعد الله بأنّ فرنسا كانت مَدينة لليهود الجزائريّين. في المقابل كان اليهود مدينين للدّولة الجزائريّة، حيث قُدّر الدَّين سنة 1795 بمليونين فرنك فرنسيّ، أمّا دَيْن اليَّهود للحكومة الجزائريّة قُدّر بـ 300000 فرنك، وقد عيّن هؤلاء التّجار اليهود يعقوب بكري ممثّلًا لهم في مرسيليا ثمّ في باريس[6].

وتبيّن فيما بعد أنّ يهود الجزائر تواطؤوا مع سَاسة فرنسا لاستعمارها، وأنّ يهود الجزائر افتعلوا أزمة الدّيون فقط؛ لأنّ الغرض كان إعطاء فرنسا ذريعةً لغزو الجزائر، ويكون اليَّهود بذلك تحرّروا من ديون الحكومة الجزائريّة التي تفوق ديون فرنسا.
وحين دخل الفرنسيّون الجزائر أصبح أغلب اليهود من حاشية الجنرال كلوزيل، وهذا يُفسّر أنهم سبب غزو الجزائر، وقد قال حمدان خوجة: “كان يحيط بالجنرال كلوزيل عدد كافٍ من اليَهود الذين كانوا يوحون إليه بأخلاقهم الخاصّة، تلك الأخلاق التي وصفها كما ينبغي فاتل وكروتيوس. ويقول تاسيت في حديثه عنهم: إنّ اليهود، بسبب تعصّبهم، يحملون حقدًا شديدًا للأمم الأخرى. وكان المرؤوسون، كذلك محاطون بأناس من نفس الجنس يسيّرونهم حسب أهوائهم”[7].

لقد دأب اليهود على التقرّب من السّاسة دون ولاء يذكر، ولا صداقة تُرجى، فكان همهم المال والمصالح، وأن لهم قدرة على التّغلغل لا يُجاريهم فيها أحد، ويذكر خوجة ذلك زمن حكم الدّاي: “ كانوا يحظون بجميع منافع ذلك الاحتكار، في حين أنّ تلك التّجارة كانت تُمنع علينا ولا نستطيع التمتّع بما ينتج عنها من منافع، لأنّنا لا نستطيع الشّراء بنفس الأسعار التي يشترون بها هم»[8].

2- صورة فرنسا الاستعماريّة في المرآة الجزائريّة
يُبيّن حمدان خوجة من خلال «المرآة» ثلاث أوجه لفرنسا:
أ_ الوجه الديبلوماسيّ: يتجسّد من خلال أعمال قنصل فرنسا الدّائم بالجزائر، وكانت سلوكات السّيد دوفال محلّ تساؤل من قبل الجزائريّين والأتراك، فالسّيد دوفال كان بادئ الأمر يتنافس مع القنصل البريطانيّ من أجل اكتساب الحظوة لدى الدّاي حسين، مما دفع بالدّاي إلى تقسيم أيام الاستقبال بينهما بالعدل، ولكن بعدما بلغت مسألة الدّيون مبلغها بدأ يتصرّف تصرّفات هوجاء ورعناء، وقد أفضى هذا السُّلوك إلى استهجانه من قبل حمدان خوجة، فهو تعلّم أنّ الأعرافَ الدّوليّة تقرّ بضرورة احترام البلد المضيف، بيد أنّ السّيد دوفال تجاوز حدّ اللّباقة واللّياقة: «وبعد الحفل سأل الباشا القنصل، لماذا لم تجبه حكومته عن برقيّاته العديدة الخاصّة بمطالب البكري، فكان جواب السيد دوفال في منتهى الوقاحة، إذ جاء كالآتي: «إنّ حكومتي لا تتنازل لإجابة رجل مثلكم».

تستطيع لصالح السّيد دوفال أن تقول بأنّ إجابته هذه كانت بسبب جهله للغة، لأنّ الفرنسيّ الأصيل لا يتلفّظ بكلام بذيء مع إنسان عاديّ، ناهيك إذا كان ذلك الإنسان رئيس إيالة. وما لا شك فيه أن الداي كان يمكن أن يعذر السيّد دوفال لو وقّع بمناسبة أخرى، ولكن هذه الكلمات، وأمام ديوانه، قد مسّت كرامته إلى درجة أنّه لم يتمالك نفسه من الغضب وضربه بالمروحة ضربة واحدة»[9].

ولم يكن غزو الجزائر بناءً على حادثة المروحة الشهيرة كما يردّده أغلب المؤرّخين، بل كان قد أُعِدّ مسبقًا منذ بداية القرن التاسع عشر.
ب- الوجه العسكريّ: حين دخل الفرنسيّون الجزائر، قام الجنود بأبشع الأعمال الوحشيّة في حقّ الجزائريّين، ولم يحترم قادة الجيش الفرنسيّ المواثيق والعهود التي أُبرمت مع ساسة الجزائر وقادتها، يصوّر حمدان ذلك الوجه القبيح لفرنسا في قوله: «وعندما قام الجنود الفرنسيّون بأعمال وحشيّة في هذه المدينة وأحدثوا مجزرة رهيبة، لم ينج فيها رجال ولا نساء ولا أطفال. هناك من يذكر أنّه تمّ تقطيع بعض الرضّع على صدور أمهاتهم. ووقع النهب في كلّ مكان، ولم يستثن حتى الجزائريّون الذين فرّوا إلى هذه المدينة لينجوا من ظلم الحكومة الفرنسيّة، وليجدوا وسائل تمكّنهم من العيش (إنّني أتكلّم هنا بكلّ نزاهة، ولا أروي وقائع الأحداث إلّا كما جرت). وهكذا، فإنّ عددًا كبيرًا ممن لم يكونوا يفكّرون في خيانة الفرنسيّين، ولا حتّى في معاداتهم، قد وقع تقتيلهم في هذه الظروف! هل من العدل أن يكون الاحتداد أو الغضب في سبب مثل هذه الأعمال؟»[10].

حاول حمدان خوجة أثناء رحلته لباريس أن ينقل بكلّ وضوح ما يقع في الجزائر للأنتلجنسيا الفرنسيّة، لعلّها تتحرّك وتنقذ الشّعب الجزائريّ مما يتعرّض له من مخاطر جسيمة، بيد أنّه اكتشف أنّ فَرنسا لا تؤمن بمبادئ ثورتها إلّا على مستوى الكتب والمحاضرات.

ج – الوجه الحضاريّ
 يتمثّل هذا الشطر؛ فيما وجده وعاينه بباريس خاصّة، وهو هنا لا يختلف عما حدث للطهطاويّ بعده بثمانين سنة، فلقد اكتشف حمدان خوجة في فرنسا دولة قويّة، ومنظّمة تنظيمًا جيّدًا، قال عن هذه المدنيّة الراقية: «وفي أثناء رحلتي إلى أوروبا، درست مبادئ الحرّيّة الأوروبيّة التي تشكّل أساس الحكم التمثيليّ والجمهوريّ، ووجدت أنّ هذه المبادئ كانت تشبه المبادئ الأساسيّة لشريعتنا إذا استثنينا فارقًا بسيطًا في التطبيق، وعليه فكل من يدرك الشريعتين إدراكًا صحيحًا يستطيع الموافقة بينهما، وأعتقد أنّه لن يتمكّن من إنكار هذه الحقيقة. وهناك أحد المبادئ الأساسيّة في شريعتنا يقول: (تترتّب عن الزمن وحاجات الإنسان ظروف لم تتوقّعها القوانين؛ ولذلك يجب على المشرّع أن يتفهّم الضرورات ويعمل على إيجاد كيفيّة حكيمة لتطبيق هذه القوانين). لكن من سوء الحظّ أنّ سائر الملوك يجهلون مبادئ هذه القوانين، مما تجعل أوروبا تنتقد تشريع الشرق.

ولو أنّ السّادة المتحرّرين كانوا يعرفون مبادئ قوانيننا معرفة جيّدة ويدركون مدى الحرّيّة التي تتّسم بها مؤسّساتنا، لكان من الممكن أن نجد فيهم مساعدين بدلًا من أعداء كما هو الشأن الآن»[11].

يمثّل هذا النصّ وجهًا مخالفًا لما قيل في القرن العشرين من قبل طه حسين، وتوفيق الحكيم، وتوفيق العدل، فحمدان خوجة يبدي أعجابه بالنظام السياسيّ والقانونيّ الفرنسيّ، ولكن في الوقت نفسه يبيّن أنّه نظام لا يخالف روح الإسلام، وإنّما العيب يعود للسّاسة المسلمين الذين تخلّوا عن هذا الدّين ونظامه إمّا جهلًا أو رغبة في الحكم خارج روح الإسلام.

ثمّ تعرّض لمسألة أكثر أهمّيّة في مجال الحضارة، وهي أنّ لكلّ عصر متطلّباته وخصائصه الجديدة، وحين ظهور عادة حديثة وجب التخلّي عن القديم والتَّليد، والذي أغلبه يمسّ الفروع لا الأصول.

3- خطورة المسألة الجزائريّة
لم تكن مهمّته أثناء الرحلة اكتشاف فرنسا وحضارتها، بل كان همّه الأوّل هو تبليغ رسالة للفرنسيّين عن خطورة القضيّة الجزائريّة، وأنّ فرنسا التي قام شعبها بثورة في القرن الثامن عشر من أجل الانعتاق والحرّيّة لا يمكن أن يرضى بأن يُهين شعب ويسلبه حرّيّته: «إنّ مسألة الجزائر مسألة خطيرة لأنّها تخصّ حياة أمّة بأجمعها، تتكوّن من عشرة ملايين نسمة، وهي الآن، من سوء الحظّ، في نقصان يتزايد من يوم لآخر بسبب الحرب، والبلاد يقودها الظلم والطغيان منذ ثلاث سنوات»[12].

دخل في سجال مع بعض المثقّفين الفرنسيّين الذين دافعوا عن فرنسا ومشروعها الاستعماريّ، محتجًّا على عدم عقلانيّة مشروعهم من خلال الممارسات الفرنسيّة المتناقضة مع أسس مشروعها الحضاريّ، وأعطى مثالًا رائعًا عن ذلك التناقض، فباسم الحضارة والتّقدّم ومبادئ عصر التّنوير تمّ مدّ يد العون للدول الأوروبيّة من أجل أن تنهض وتتقدّم، عن طريق سلب بلد غير أوروبيّ: «إنّكم تعطون الملايين لليونانيّين وللبولونيّين:!! .. وتنجدون تلك الشعوب بأموال الجزائريّين!! إنّكم تستغلّون هذا البلد المسكين، ومع ذلك، فإنّ الجزائريّين، أيضًا، أناس!! ... ما هي الذنوب التي اقترفوها لتسلّط عليهم مثل هذه العقوبات؟؟ .. وبالتالي، ما هو في هذه الظروف، موقف الحكومة الفرنسيّة؟. لقد كان من الأفضل أن تحجم الحكومة عن تقديم تلك المساعدات ما دامت تتسبّب في شقاء مواطنيها. وكيف يمكن أن نفترض بأنّه لم يتفطّن أحد لهذه الوقائع؟ لا بكل تأكيد، وأن التاريخ سيسجّل كلّ هذه الأعمال الشريرة!! أيحقّ أن نعتقد بأنّ النّاس لا يصلحون؟ إنّ أخطاء القرن السادس عشر، وزلّات المستبدّين تتكرّر في أيامنا هذه لماذا؟. لأنّ الناس احتفظوا بأهوائهم الذميمة التي ورثوها عن آبائهم، وعلى الرغم من أنّ الإمبراطوريّات أصبحت تحكم بكيفيّات مختلفة، فإنّ النتائج ما تزال واحدة .. فالجريمة المسموح بها تبقى جريمة، وعند الملوك حلّ الضعف محلّ الطغيان.

وهكذا، إذن، إذا كان وكيل الأمّة يقوم بأعمال تثير الظنون، وإذا كان سلوكه مشبوه ومطبوع بضعف مخز، فما هي الطريقة التي تقدّمه بها ليتمكّن المعاصرون من تقويمه؟»[13].

إنّ قضيّة الجزائر مثّلت الهَّمَ الرئيس لدى حمدان خوجة، ومدّة ثلاث سنوات بفرنسا، وهو يدافع ويناضل من أجل إسماع صوت الحقّ للفرنسيّين، بل دفعه الهَّمُ الوطنيّ إلى تأليف كتاب المرآة بباريس ليعكس صورة الجزائر في ضمير الفرنسيّين، ويعكس صورة الفرنسيّين في صفحات التاريخ: «ولئن لم أنشر المجلّدين في نفس الوقت [الوقت نفسه]، فلأنّني مكسور القلب من جرّاء الأخبار التي تصلني يوميًّا من الجزائر والتي تقول بأن الدّماء تُراق وديانًا، وأن السّخط عامّ، وأنّ بلدي يسير نحو الخراب وأترك لقرّائي تقولون لي كيف تكون أفكار رجل حساس عندما يرى أنّ تلك الأعمال تتمّ باسم نفس فرنسا التي تدافع عن مصالح الشعوب وتحارب الحكم المطلق والتي يوجد من أبنائها أكبر الأساتذة في الأخلاق وفي حقوق الإنسان، وعندما يرى أنّ بلده، فقط، هو الذي يُحرم من منافع تلك المبادئ الخيريّة» [14].

إنّها بالفعل صورة صادمة ومؤلمة، فرنسا التي حاربت الاستبداد والقمع، وعملت على سنّ القوانين والشرائع التي تضمن كرامة الإنسان، وفق شعاراتها الثلاث: حرّيّة، أخوّة، مساواة. تعمل في الضّفة الجنوبيّة على قهر واستعباد شعب أطعمها حين جاعت بقمح أرضه، وأدفأها بصوف غنمه وجلود بهائمه، فردّت له الجميل بالقتل والفتك، فحوّلت تربته الطاهرة إلى أنهار من الدم.

4- الاختلاف وأصول الحضارة
حاول بعض السُّوقة من الفرنسيّين كما سمّاهم حمدان أن يُشرعنوا الاستعمار من خلال القول إنّ فرنسا استعمرت الجزائر؛ لأنّ الوضع بالجزائر يؤدّي إلى التطاحن بين القبائل الجزائريّة، وعليه، فإنّ فرنسا تُقدّم خدمة حضاريّة وإنسانيّة، ومن جهة أخرى يعترف بعض المثقّفين المرتزقة أنّ الأمم غير الأوروبيّة تختلف عن غيرها اختلافًا جذريًا، وتحُوّل ذلك الاختلاف إلى نوع من الاحتقار ووصف المختلف بالدّونيّة، والنظر إلى الآخر غير الأوروبيّ على أنّه مجرّد أهليّ، بمعنى دون إنسان: «ومن سوء الحظّ، فإنّ مثل هذا الاختلاف في العادات والتقاليد هو الذي يكون دائمًا في أساس احتقار الأمم بعضها لبعض، وهو أمر ما كان يجب أن يحدث؛ لأنّ الحضارة لا تتمثّل في كيفيّة الجلوس على مقعد أو على أريكة، أو في اللباس بهذه الطريقة أو بتلك، ذلك أنّ بعض الناس أنيقون، يتردّدون على الصالونات ولكنّهم يشكّلون، في بعض الأحيان، خطرًا على الأخلاق أو على المجتمع، أمّا البعض الآخر فهم أناس بما في الكلمة من معنى يحتاجون في بعض الأحيان إلى من يصلح أحوالهم. وبكلّ تأكيد، فليست هذه هي الحضارة التي نريد إدخالها إلى إفريقيا. إنّ الشرقيّين يعتبرون الحضارة هي اتّباع الأخلاق الشاملة والعدل إزاء الضعيف والقوي على حدّ سواء، والمساهمة في إسعاد الإنسانيّة التي تشكّل أسرة كبيرة واحدة. ولكن التغلّب على الأهواء والنزوات، وللقيام بالواجبات، ينبغي أن نستعمل جزءًا من الوقت للتعرّف حقّ المعرفة على الأسباب التي تجلب للبعض توبيخًا من الناس أجمعين وتغطي الآخرين بمدح أبناء وطنهم، وكذلك للتعرّف على عظمة الأمم وانحطاطها قصد اتباع الخير وتجنّب الشر.

إنّ المجرّبين المتعوّدين على القضايا سيفهمون كما ينبغي هذا الأسلوب الفلسفيّ، فإلى هؤلاء الناس أهدي هذا الكتاب»[15].
إنّ هذا النصّ بالذّات يُبيّن بعمق مدى فهم حمدان خوجة لمعنى الحضارة، فالحضارة ليست أن تُعلّم النّاس كيف تجلس أو تأكل، أو أن تستبدل آلة بأخرى أكثر حداثة منها كما يعتقد الفرنسيّون، بل الحضارة الحقّة تكمن في القيم والأخلاق.

وفي السّياق نفسه، ينتقل حمدان خوجة إلى تذكير الفرنسيّين بمسألة في غاية الأهمّيّة، وهي أن من أصول الحضارة الإنسانيّة ألّا يسطو بلد على ثروة بلد آخر، فأصدقاء الإنسانيّة كما يسمّون أنفسهم بفرنسا لا يلتفتون أبدًا إلى هذا البلد الإفريقيّ مادامت ثروته تكبّ في صالح بلدهم: «وعندما نقارن ثروة فرنسا بثروة هذا الجزء من إفريقيا، ومواردها المتعدّدة وتأثيرها وعظمتها بموارد وتأثير وعظمة إيالة الجزائر، فإنّ المقارنة حطٌّ من قيمة تلك الأمّة في نظر الإفريقيّين، وفي أذهان أصدقاء الإنسانيّة والحضارة الذين يعملون على التوفيق بين الشعوب وتوحيدها، وعلى تدعيم علاقاتها الاجتماعيّة والتجاريّة والسياسيّة»[16].

إنّ الحضارة لا تقتصر على الفرنسيّين وغيرهم من الأوروبيّين، فكثير من علماء فرنسا وساستها يعتقدون أنّ الشّعب الجزائريّ شعب مُتخلّف ولا يعلم بما يحصل في الغرب، بيد أنّ حمدان خوجة يُثبت العكس تمامًا، فالأخبار التي تبثّها الجرائد الفرنسيّة تصل أخبارها إلى البدو والريف الجزائريّ، ويمثّل هذا السلوك أنّ لكلّ شعب طريقة في تَمَثُل الحضارة وأصولها: «هناك من يؤكّد بأنّ الحكومةَ الفرنسيّة قد أمرت بأن يعتنق المسلمون الديانة المسيحيّة. ويبدو أنّ (البريد الفرنسيّ) الصادر بتاريخ 20 جوان قد اكتشف السرّ، ومع ذلك لم يصدر أيّ تكذيب في الجرائد الوزاريّة. من الممكن أنّ ثمّة من يعتقد، في أوروبا، أنّ الجرائد لا تصل إلى البدو، وأنّ هؤلاء الأخيرين لا علم لهم بالسياسة الأوربيّة، وهذا خطأ لأنَ البدو يعرفون كلّ ما يجري في أوروبا، بينما لا يعرف الأوروبيّون ماذا يصنع البدو في أفريقيا، ولكنّهم يضخّمون الوقائع. وأنّ معظم البرابر الموزّعين في مدن الإيالة وفي مدينة الجزائر خاصّة ما زالوا يحتفظون بعلاقاتهم مع أهاليهم الذين يسكنون الأرياف. وموضوع أحاديثهم بالطبع هو أحداث اليوم. وكلّ ما يجري في مجال السّياسة....» [17].

رابعًا -نتائج الدراسة ونقدها
بعدما تمّ عرض بعض ما جاء في متون الرحلة الباريسيّة لحمدان خوجة، يجب القول إنّ كتاب “المرآة” من خلال تحليله وتفصيله، كان مرآةً صادقةً، عكست بوضوح الصّراع الحضاريّ بين العالم الغربيّ والعالم الإسلاميّ، وأنّ حمدان خوجة حاول قدر الإمكان من خلال رحلته أن يُقدّم صورة حقيقيّة عن ذلك الصراع: «إنّ معرفتي لأنحاء هذا البلد ووضعي الاجتماعيّ في مدينة الجزائر قد مكّنني من تقديم صورة صادقة، كما أنّني اعتمدت في ذلك على معرفتي لأحوال الإنسانيّة بصفة عامّة»[18].

وعليه يمكننا تقديم أهمّ الاستنتاجات الآتية:
1- كتاب المرآة وجدل الأنا والآخر
أنّ كتاب «المرآة» مثله كباقي كتب الرحّالة العرب والمسلمين، عالج موضوعًا رئيسًا تمثّل في جدليّة الأنا والآخر، فلا فرق بين حمدان خوجة وغيره من الرحالة كالطهطاويّ وحسن توفيق العدل، وتوفيق الحكيم... وقد عبّر عن هذه الاتفاق مقدّم كتاب «رسائل البشرى» السّيد عصام حمزة: تكشف يوميّات الكاتب المصريّ حسن توفيق العدل المدوّنة في كتاب عن رحلته لألمانيا في لقرن التاسع عشر عن نزاع فكريّ ونفسيّ تجلّى في ثنائيّة الصراع بين الأنا والآخر.. بين تقدّم الآخر الأوروبيّ وتخلّف الأنا العربيّ، وهي ثنائيّة حكمت جيل العدل بأسره والأجيال اللاحقة إلى اليوم. وفي كتابه «رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا... رحلة عربيّ من برلين إلى برلين» الذي أصدرته دار السويديّ الثقافيّة الإماراتيّة في إطار مشروع ارتياد الآفاق الذي يعنى بأدب رحلات العرب إلى دول العالم خلال العشرة قرون الماضية يكشف الكاتب المصريّ عن انطباعاته ومقارناته عن إيمان بالعلم والتقدّم والحرّيّة وعن تقدير للاختلاف الثقافيّ والحضاريّ بين الأمم والثقافات»[19].

إنّ جلّ كتب الرحلة والتي كانت وجهتها أوروبا بالخصوص، تركّز على الصراع الموجود بين الشرق والغرب، إنّه صراع ممتدّ منذ القدم، صراع نجد جذوره تعود إلى عهد الإسكندر المقدونيّ حين غزا الشرق، وإلى هنيبال القرطاجيّ حين غزا روما عبر إسبانيا وجبال البرنس، وتعمّق بعدها بفعل الفتوحات الإسلاميّة والحروب الصليبيّة فيما بعد، بيد أنّ صورة الآخر لم تكن تمثّل معضلة في نفوس الرحّالة في زمن الحضارة الإسلاميّة الراقية، لشعورهم بالتفوّق والتميّز كما يعكسه سلوك أحمد بن فضلان. بيد أنّ الآخر صار يُمثّل في نفوس المسلمين مشكلة تاريخيّة حين انعكس الوضع والواقع، وصار الغربيّ يمتلك الحضارة والقوّة، هنا ظهرت بالفعل مشكلة الأنا والآخر في الفكر العربيّ بقوّة، نلاحظها من خلال توفيق الحكيم حين عبّر عن تلك الجدليّة بنوع من الأسى، فلقد كتب إلى صديقة السيد أندريه رسالة يُبيّن له الصراع الداخليّ الذي ينتابه بين أصله الشرقيّ الذي يَدفعه نحو النزعة التقليديّة وبين تواجده بالغرب الذي يدفعه نحو الحداثة: «لست أدري: أمن سوء حظّي أو من حسنه، أنّي أعيش الآن في أوروبا، وسط هذا الاضطراب الفكريّ، الذي لم يسبق له مثيل؛ فهذه الحرب الكبرى قد جاءت في الفنون والآداب بهذه الثورة، التي يسمّونها (المودرنزم)؛ فكان لزامًا عليّ أن أتأثّر بها، ولكنّني -في الوقت ذاته- شرقيّ جاء ليرى ثقافة الغرب من أصولها، فأنا موزع الآن كما ترى بين (الكلاسيك) و(المودرن) لا أستطيع أن أقول مع الثائرين؛ فليسقط (القديم)، لأنّ هذا القديم أيضًا جديد عليّ .. فأنا مع أولئك وهؤلاء»[20].

إنّ التأثير والتأثّر سنّة كونيّة، ليس لها مكان مُحدّد، ولا زمان مُعيّن، بل هي تخضع للتداول والتّناوب، فلقد تأثّر الغرب بالحضارة العربيّة والإسلاميّة عبر إيطاليا وإسبانيا وتركيا، بعدها تأثّر العرب بالحضارة الغربيّة، وهو يخضع لعامل التّدافع والتّدوال، يقول د. عميراوي أحميده: «مثلّما تأثّر الجزائريّون بمعالم النهضة الأدبيّة الفنّيّة الأوروبيّة بظهور جامعات كتلك التي أنشئت في ايطاليا وفرنسا ابتداء من القرن الثالث عشر لدراسة الفلسفة والطب والقانون وسائر العلوم الأخرى، احتكّ المغاربة بوجه عام والجزائريّون بوجه خاصّ بالأوروبيّين عن طريق التجارة، خاصّة بعد أن رفع عنهم وعن الكورسكيّين الحظر الذي فرضته عليهم الغرفة التجاريّة المارسيليّة. ولما جاء نابليّون بونابرت سمح للكورسكيّين - بحكم أنّه كورسيكيّ- بممارسة التجارة بحرّيّة، فكان من بينهم المغاربة. جرى هذا، علاوة على الصلة التي كانت تربط سكان الغرب الجزائريّ بما ظهر من معالم حضاريّة في إسبانيا وسكان الشرق الجزائريّ بالمدن الإيطاليّة وبفرنسا»[21].  

ونلاحظ أنّ حمدان خوجة تأثّر بالغرب، وخاصّة من خلال طرق التنظيم والتسيير، والنظريّات السياسيّة، ووفرة التشريعات القانونيّة، وقارنها بفساد الحكم في العالم الإسلاميّ، وغياب الاجتهاد، والابتعاد عن روح الإسلام والتمسّك بفروعه وأشلائه.

2- حدود الانبهار بالغرب
ونستنج أيضًا أنّ الانبهار بالغرب عند الرحّالة العرب والمسلمين كان بدرجات مختلفة، فحمدان خوجة أبدى انبهارًا بتقدّم فرنسا من حيث العمارة والصناعات، وأيضًا من حيث التعليم والصحافة، لكنّه أيضًا أبدى امتعاضه من السلوك وقواعد التّعامل، فهو يرى أنّ المَدَنيّة الغربيّة تحمل وجهين: وجهًا برّاقًا يكمن في العلم والصناعة والعمارة، ووجهًا بشعًا يكمن في فلسفة الاستعلاء والاحتقار.

والأمر ذاته نسجّله عند رفاعة الطهطاويّ، فهو ليس كما يسوّقه العلمانيّون العرب على أنّه انبهر انبهارًا كلّيًّا بالمَدنية الفرنسيّة، بل نجده يُحدد مواطن الانبهار والتي هي ذاتها التي حدَّدها حمدان خوجة قبله، يذكر الطهطاويّ فضلهم فيقول: «ولا ينكر منصف أنّ بلاد الإفرنج الآن في غاية البراعة في العلوم الحكميّة وأعلاها في التبحّر في ذلك، بلاد الإنكليز، والفرنسيّس، والنمسا، فإنّ حكماءها فاقوا الحكماء المتقدّمين، كأرسطاطاليس، وأفلاطون، وبقراط، وأمثالهم، وأتقنوا الرياضيّات، والطبيعيّات، والإلهيّات، وما وراء الطبيعيّات أشدّ إتقان، وفلسفتهم أخلص من فلسفة المتقدّمين؛ لما أنّهم يقيمون الأدلّة على وجود الله تعالى، وبقاء الأرواح، والثواب والعقاب.

فأعظم مدائن الإفرنج مدينة «لوندرة»، وهي كرسيّ الإنكليز، ثم «باريز»، وهي قاعدة ملك فرنسا، و«باريز» تفضل على «لوندرة» بصحّة هوائها، كما قيل، وطبيعة القطر والأهل، وبقلّة الغلاء التام»[22].
وفي الوقت نفسه يتحدّث عن مواطن الانزعاج، ومثال على ذلك قوله: «وإنّما نقول هنا: إنّ كتبَ الفلسفة بأسرها محشوّةٌ بكثير من هذه البدع، فسائر كتب الفلسفة يجري فيها الحكم الثالث.... فمن أراد الخوضَ فيها يجبُ أنْ يتمكّنَ من الكتاب والسنة؛ حتى لا يغتر بذلك»[23].

نجد في المقابل مثلًا الرحّالة توفيق حسن العدل ينبهر انبهارًا كلّيًّا بالغرب ممثِّلًا في ألمانيا وسويسرا، ويتنكّر لتراث أجداده، معتبرًا أن طبع الكتب التراثيّة مجرّد مهزلة ومضيعة: «وها أنا آخذ في تتبّعهم وتعريف أعمالهم التي شغف بها علماء أوروبا، واشتهروا لديهم بجميع المدارس العليا كاشتهار علماء النحو بين طلبة الجامع الأزهر العامر. ولست ترى عالمًا جغرافيًّا أو تاريخيًّا بقارة أوروبا إلّا ولديه علم بتلك الكتب إن لم نقل بما حوته، ولم أقصد سادتي بحديثي هذا تشدّقًا، كلّا، بل بعثًا من نشاطكم، وتنبيهًا من التفاتكم نحو ما قامت به أسلافكم، وتعبوا لأجله، وواصلوا الأيام بالليالي في رقمه، أكان عبثًا ما جاءوا به، حتى نتركه وراءنا ظِهْريًا أم لعبًا فنهزأ به! ألم نكن نحن الجديرين بأن نقدّر لأسلافنا قدر أعمالهم فنبحث وننقّب عنها وندرسها، فنعلم ما هدونا إليه، وننسج على منوالهم ونتمّم مشروعاتهم! ... تلك أعمالهم وتآليفهم بين ظهرانينا في كل فن وعلم، ولكن وأسفاه! نراها ميتة في جلودها لا تجد لها باعثًا لروحها أو مطالعًا لأسطرها أو طابعًا لها! ألم يكن طبعها أولى من طبع ثلاثين جزءًا من قصة عنترة بن شداد، وأبي زيد الهلالي وسلامة، والزير سالم، وخضرا الشريفة، وغير ذلك مما لا يفيد العامّة إلى تأخّرًا في المدنية والآداب. فأقيموا أيها الأخدان الدعائم على ما أسَّسه لنا السلف؛ لنكون لهم خيرَ خلفٍ، وهيا بنا نبني كما كانت أوائلنا ... تبني»[24].

3- انتفاء النزعة الإنسانيّة في الممارسة الفرنسيّة
حاول حمدان خوجة أن يُوجّه رسالة إلى الفرنسيّين الأحرار، فلقد اندهش من التناقض الموجود في سلوكهم وثقافتهم، فهم يُقدّمون أنفسهم على أساس تقدّميّ تنويريّ إنسانيّ داخل أوروبا، بينما سلوكاتهم سلوكات همجيّة خارج أوروبا، وهنا نسجِّل أنّ حمدان خوجة لم ينبهر كثيرًا بالغرب كما حدث لغيره من المسلمين، بل العكس تمامًا، حيث تملَّكه العَجَبُ والأسف، فهو يرى فرنسا المُتحضّرة تكشف عن وجهها البشع حين غزوها للجزائر: «إنّ الأصل أو الأسباب الأولى لهذه الحرب المشؤومة التي سبّبت بؤس جميع الجزائريّين سيجعل الأجيال المقبلة تُدين الفرنسيّين؛ لأنّهم سمحوا بوقوع جميع الأهوال التي أصبحت الجزائر مسرحًا لها، لكي لا نقول: التي سلطوها عليها. لقد كنّا نعتقد أنّ الأفكار التعصّبيّة الضيّقة قد نسيت في القرن التاسع عشر، وأن عصر تحرُّر الشعوب قد حان، وأنّه أصبح من المحتوم اعتبار جميع سكّان المعمورة كأسرة واحدة»[25].

تنكّرت فرنسا حسب حمدان خوجة لفلسفتها الإنسانيّة، فهي تؤمن نظريًّا بالأسرة الواحدة ضمن الفضاء العالميّ، بيد أنّها تمارس عكس ذلك على أرض الواقع، وتمارس التفرقة والتمييز العرقيّ والجغرافيّ على أوسع نطاق ممكن.
ويرى حمدان خوجة بأنّ أوروبا تعمل فيما بينها على إشاعة الاستقرار والنهضة، لكنّها تسلبها من البلدان غير الواقعة في مجالها الجغرافيّ، وهذا التّباين يجعل أوروبا تنتهج نزعة إنسانيّة مغلقة لا مفتوحة، وهذا مخالف للقول الإنسانيّ: «إنّني أرى اليونان تساعد وتتكوّن على أساس متين بعد أن فُصلت عن الامبراطوريّة العثمانيّة، وأرى شعب بلجيكا يفصل عن هولندا بسبب بعض الاختلاف في المبادئ للسياسيّة الدينيّة، وأرى، جميع الشعوب الحرّة تهتمّ بالبولونيّين وباسترجاع سيادتهم، كما أنّني أرى الحكومة الإنكليزيّة تخلّد مجدها بعتق الزنوج، ويضحّي البرلمان البريطانيّ بنصف مليار للمساعدة على ذلك العتق، وعندما أدير البصر إلى بلاد الجزائر، فإنّني أرى هؤلاء السكّان المساكين يرزحون تحت نير الاستبداد معرّضين للإبادة ولجميع آفات الحرب وتلك المظالم كلّها التي تُرتكب باسم فرنسا الحرّة. وعلى الرغم من أنّ عددًا كبيرًا من الكتّاب قد نشروا مؤلَّفات عن الجزائر فإنّ معظمهم لم يعالج هذه المسألة إلّا من زاوية المنافع المادّيّة في البلاد. هذا بقطع النظر عن الطرق التي اتّبعها السادة الولاة للحصول على تلك المنافع.

هذا هو الجانب الذي اهتممت به في كتابي، وأعتقد أنّ السلطات الفرنسيّة قد تصرّفت بكيفيّة تتعارض كلّيًّا مع المبادئ التحرّريّة ومع الإحسان الذي كان من حقّنا أن ننتظره من حكومتها. ولقد شذّ السيد بيشون عن قاعدة هؤلاء الكتاب»[26].
يعتبر حمدان بأنّ تلك الحقائق التي قدّمها دامغة، وأنّها تمثّل برهانًا ساطعًا على التناقض بين النظريّ والعمليّ، فلقد ثبت تاريخيًّا أنّ الجزائريّين (المتوحشّون في نظر الفرنسيّين) التزموا بجميع المواثيق والعهود التي ربطتهم بفرنسا، في المقابل نجد فرنسا (المتحضّرة في نظر فلاسفتها) لم تلتزم بها، بل عملت على التلاعب بها، كما أنّ فرنسا المُتحضّرة أهملت واجباتها الاجتماعيّة حين بسطت نفوذها على أرض شعب لم يمثّل يومًا خطرًا على وجودها: «وقد يتمكّن الفرنسيّون من مناقضتي، لكنّه لن يكون في وسعهم إلّا الثناء على الجزائريّين، في حين أنّ الفرنسيّين لم ينجزوا الجزء المئويّ مما وعدوا به في بياناتهم ومعاهداتهم. إنّ معظم الفرنسيّين لم يؤدّوا حتى واجباتهم الاجتماعيّة - التي تسمّى بالحقوق العموميّة - إزاء أمثالهم من البشر وبصفتهم ينتمون إلى أمّة متحضّرة. وعندما وطأت أقدامهم أرض الجزائر، نسي الفرنسيّون جميع قواعد الأدب والأمانة، بينما لم يطرأ أيّ تغيير على الجزائريّين الذين استسلموا استسلامًا كلّيًّا لمصيرهم البائس حتّى أنّ السيد كلوزيل وصف هذا الاستسلام بالقدريّة الشرقيّة»[27].

4- اليأس والنداء الأخير
لقد خاب أمل حمدان خوجة بعد رحلته لفرنسا، فلقد اكتشف أنّ فرنسا جيشًا وساسة ومثقّفين كلّهم يمثّلون عملة واحدة وإن تعدّدت أوجهها، لقد بلغ به اليأس أن أكتشف بأمّ عينه بباريس التناقض الصارخ بين الأقوال والأفعال، فمفكّروها وفلاسفتها بالخصوص يتحدّثون عن القانون والأخلاق، وحقّ الشعوب في الوجود، بينما سلوكهم داخل الجزائر يتّجه صوب الإبادة والقتل، ومحو كلّ ما يُمثّل هويّة الشعب الجزائريّ، ويعكس أنّ ما كتبه للفرنسيّين عَرّضه للسخرية من قبل السوقة والفضوليّين، وبعض الفلاسفة العنصريّين، الذين شرّعوا احتلال شعب وطمس هويّته، وتبرير سياسة القتل والنهب، وتسويقها على أنّها سلوك حضاريّ.

لقد توصّل إلى نتيجة في آخر أيّامه بفرنسا؛ بأنّ المدنيّة الحقّة ليست موجودة في الوعي والسلوك الفرنسيّ وإنّما هي حبيسة الكلام فحسب: « إنّ المدنيّة الحقّة لا تكون بالكلام فقط، ولا يمكن أن تطبّق إلّا بواسطة أناس مجرّبين يميّزون بين احترام الإنسان ومصالحهم. ومن جهة أخرى، فإنّني أَجنبيّ ولا أريد أن أعرّض نفسي لانتقاد السوقة أو الفضوليّين، خاصّة وأنّ واجبي يتمثّل في قضيّة مقدّسة لها علاقة بسعادة الإنسانيّة. إنّني لست مرتاح البال، بل على العكس فإنّ مصائب بلدي تقلقني باستمرار، ولقد كنت في كثير من الأحيان، وأنا أسجّل تلك المصائب، أجبر على التوقّف عن الكتابة لأترك المجال لدموعي تنساب. وعلى الرغم من أنّ كتابي رواية تاريخيّة، فإنّه قد كُتب ليقرأه أشخاص من ذوي الرحمة والإحساس»[28].

خاتمة البحث:
اكتشفنا من خلال ما كتبه حمدان خوجة صورة المثقّف الذي يُناضل بكلّ ما أوتي من قوّة عن قضايا أمّته، ويبدو من خلال كتاب «المرآة» أنّنا أمام رجل محنّك، وسياسيّ بارع، ومثقّف متنوّع المشارب، فلم يكن أسلوبه مجرّد وصف لباريس، بل كانت الرحلة ذات مقصد إنسانيّ ووطنيّ.
لقد قدّم عملًا شبيهًا بما قدّمه ابن خلدون حين درس المجتمع العربيّ أنثروبولوجيًّا، فحمدان خوجة من خلال الكتاب الأوّل قدّم دراسة أنثربولوجيّة للمجتمع الجزائريّ، تجعل القارئ يتخيّل صورة المجتمع آنذاك، حيث استطاع أن يرصد أبسط التفاصيل، اللباس، الأكل، النزاع، الزواج، والعمارة، ...

ومن جهة أخرى وهو بباريس، نقل لنا مظاهر التطوّر والتقدّم. واستطاع أيضًا أن يُخاطب الفرنسيّين بأقوال الفلاسفة والتنويريّين، فلقد ذكر في أحد فصوله مقولة لفيلسوف فرنسيّ يتحدّث عن حقيقة الإنسان، حيث اقتبس مقولة مفادها: «إنّ كلّ جملة تُصاغ بعبقريّة تدلّ في نفس الوقت على الجوهر وعلى مساوئ الإحساس، إنّ الإنسان الذي يقلقه الحبّ يكون ملكًا لشعوره، ولا يهتّم على الإطلاق بالكيفيّة التي يعبِّر بها عما يخالج نفسه: إنّ التعبير الأكثر بساطة هو قبل كلّ شيء ذلك الذي يفهمه»[29].

ويمكن القول في الأخير، إن أدب الرحلة ينبغي ألّا يكون وصفًا لما يشاهده الرحّالة من غرائب الأمور، ومن عجائب المخلوقات، بل يجب أن يتحوّل إلى أدب يحمل هموم المؤلِّف، فيقارب بين الحقائق، ويحاول قدر الإمكان عدم الاغتراب والاستلاب، فالآخر مهما كان نوعه أو جنسه هو مجرَّد أخٍ في الإنسانيّة، وشريك في النهضة البشريّة، فالعالم كله محكوم عليه بالتعارف والتآلف، والتجاور والتحاور، والابتعاد عن التقاتل والتناحر.

المصادر والمراجع
توفيق الحكيم، زهرة العمر، مكتبة الأسرة، القاهرة، سنة 1998،ص: 38.
الطهطاويّ، رفاعة، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، مؤسسة هنداوي، مصر، 2012، ص ص : 30، 31.
سعد الله، أبو القاسم، تاريخ الجزائر، ص: 16.
خوجة، حمدان، المرآة، تعريب: محمد العربي الزبير، منشورات ANEP، الجزائر،  2005، ص:7.
عميراوي أحميده (حمدان بن عثمان خوجة وأفكاره الإصلاحيّة) انظر
http://www.algeriagate.info/2014/11/blog-post_7.html
حسن أفندي توفيق، رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية، مصر، 2008، ص: مقدمة الكتاب(غير مرقّمة).
عبد الجليل التميميّ، بحوث ووثائق في التاريخ المغربي/1816-1871م، الدار التونسيّة للنشر، 1972، ص: 170.
نويهض، عادل، معجم أعلام الجزائر، مؤسّسة نويهض الثقافيّة، بيروت، ط3، 1983م، ص ص: 136، 137.

----------------------------------
[1]*- بروفيسور بجامعة وهران، الجزائر، مدير مختبر الأبعاد القيمية. له مجموعة من المؤلفات أشهرها: الإنسان المستقبلي في فكر مالك بن نبي (الجزائر)، الحضارة ومكر التاريخ (الجزائر)، المدينة والسّياسة(مصر)، العرب وأسئلة الماضي والحاضر والمستقبل(لبنان)، موسوعة الفرق والمذاهب والنحل(لبنان)، التجربة الجمالية في الفن الإسلامي (ألمانيا)، Paris Malek Bennabi، .....
[2]- خوجة، حمدان، المرآة، تعريب: محمد العربي الزبير، منشورات ANEP، الجزائر،  2005، ص:7.
[3]- نويهض، عادل، معجم أعلام الجزائر، مؤسّسة نويهض الثقافيّة، بيروت، ط3، 1983م، ص ص: 136، 137.
[4]- نقلا: عبد الجليل التميميّ، بحوث ووثائق في التاريخ المغربيّ/1816-1871م، الدار التونسيّة للنشر، 1972، ص: 170.
[5]- حمدان خواجة- المرآة-  ص: 120.
[6]- أنظر: سعد الله، أبو القاسم، تاريخ الجزائر، ص: 16.
[7]-  المرآة، ص: 247.
[8]- المصدر نفسه، ص: 160.
[9]- المرآة، نفسه، ص: 142.
[10]- المصدر نفسه، ص: 216.
[11]- المرآة، ص: 92.
[12]- المرآة، ص: 8.
[13]- المصدر نفسه، ص: 244.
[14]- المرآة، ص: 275.
[15]- المرآة،  ص: 10، 11.
[16]- المصدر نفسه، ص ص: 241، 242.
[17]- المصدر نفسه، ص: 220.
[18]- المرآة، ص:8.
[19]- نقلًا: حسن أفندي توفيق، رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا، مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة، مصر، 2008، ص: مقدّمة الكتاب(غير مرقّمة).
[20]-  توفيق الحكيم، زهرة العمر، مكتبة الأسرة، القاهرة، سنة 1998،ص: 38.
[21]- عميراوي أحميده (حمدان بن عثمان خوجة وأفكاره الإصلاحيّة) انظر:
 http://www.algeriagate.info/2014/11/blog-post_7.html
[22]- الطهطاويّ، رفاعة، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، مؤسّسة هنداوي، مصر، 2012، ص ص : 30، 31.
[23]-  المصدر نفسه، ص ص: 177، 178.
[24]- حسن أفندي توفيق، البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا، ص : 420.
[25]- المرآة، ص: 139.
[26]- المرآة، ص: 8.
[27]- المصدر نفسه، ص: 66.
[28]-  المرآة، ص: 9.
[29]- المصدر نفسه، ص: 9، 10.