البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الغيريّة الأنثروبولوجيّة

الباحث :  محمّد باقر كجك
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  26
السنة :  شتاء 2022م / 1443هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 4 / 2022
عدد زيارات البحث :  889
تحميل  ( 386.548 KB )
أثار إيمانويل ليفيانس (1906-1995) في فلسفته عن الغيريّة، العديد من الأسئلة التي ترتبط مجدّدًا، بالهموم الفلسفيّة التقليديّة، أيّ البحث عن المعرفة انطلاقًا من محوريّة الذّات. تخيفُ المعرفة التي تولّدها الذّات، عبر التجريد الذي يقوم به العقل النظريّ، طائفةً من الفلاسفة الإنسانيّين، باعتبار أنّ الصبغة المطلقة والكلّيانيّة التي تتمتّع بها الفلسفة العقليّة تحمل في أعماقها قدرة إنتاج حدود إقصائيّة أو إلغائيّة أو تصنيفيّة للآخر. بينما، يعتقد ليفانس والفلاسفة الإنسانيّون والغيريّون الجدد، أنّ الخروج من مربع الذّات إلى مربع الغير، وإنتاج معرفة تشاركيّةٍ، تجعل تقبّل المنتجات المعرفيّة للآخر والأنا، أكثر مقبوليّة؛ لأنّها لا تصدر عن الذّات المتعالية. هذا الهمّ المعرفيّ لليفانس، قد يظهر بدوًا أنَّه يعالج مشكلة الإقصاء التي تقوم بها أغلب الفلسفات، بل حتَّى المعارف الصادرة عن تعالي الذّات (الذّات البشريّة، وغير البشريّة)، إلّا أنّ عقبات منهجيّة، وابستمولوجيّة، تُظهرُ أنّ المعرفة التي تقدّمها الفلسفة الغيريّة المعاصرة، هي معرفة ذاتُ اتّجاه مبهم حتى على مستوى أدوات المعرفة. إنّ مقاربة سؤال الغيريّة من وجهة نظر فلسفيّة وأنثروبولوجيّة، بل وإثنوغرافيّة، والبحث عن نقطة التلاقي بينهما، هي أمر ضروريّ؛ إذ تشتدّ الحاجة أكثر فأكثر إلى اتجاه إنسانيّ ذي أسس فلسفيّة عقلانيّة وبناء إنسانيّ يأخذ بعين الاعتبار التداعيات الجادّة للفلسفات على واقع حياة الإنسان وعلاقته مع نفسه والآخر.

كلمات مفتاحيّة: الفلسفة العقليّة، الأنثروبولوجيا، الغيريّة، الذّات، الآخر، إثنوغرافيّة السيرة الذّاتيّة.

1. الغيريّة كسؤال فلسفي
يشكل السؤال الفلسفيّ الدائم حول حقيقة المعرفة، وأدوات الوصول إليها، وكيفيّة التثبت منها، الهاجس الدائم للمشتغلين في الفلسفة منذ البدايات المعروفة للفلسفة إلى يومنا هذا. لقد سعت الفلسفة الأرسطيّة والمشّائيّة إلى البحث عن حجر الزاوية في نظرية المعرفة الفلسفيّة، والتي يمكن من خلالها إكمال بناء المعرفة، وذلك عبر محاولة الكشف عن علاقة «الذّات المدرِكَة» بالـ «مدرَك». يشهد على الحراك ما حصل في الفلسفة اليونانيّة القديمة، أي في مرحلة الفلاسفة القدماء ما قبل سقراط (470ق.م - 399 ق.م)، ثمّ أفلاطون (427ق.م - 347 ق.م) ومن بعده أرسطو (384 ق.م - 322 ق.م)، وهو ما أظهرته تصوّرات الفلاسفة القدماء لهذه العلاقة الإدراكيّة والمعرفيّة من البحث في الوجود الخارجيّ بهدف الكشف عن الحقيقة دون البحث عن صدق ومدى صحّة أدوات المعرفة، واعتمدوا على العقل كوسيط وحيد بين الذّات وما تدركه هذه الذات في الخارج[2].
مع مجيء السوفسطائيّين، الذين رفضوا سطوة العقل، وقالوا بالنسبيّة المعرفيّة، واستحاليّة اليقين في ظلّ الخداع والخطأ دائميّ الوقوع في أدوات المعرفة، تحرّك الفلاسفة الثلاثة (سقراط وأفلاطون وأرسطو) إلى القيام بمواجهتم، دفعوا بالبحث العقليّ مجدّدًا إلى الواجهة، مبتنيًا على ثلاثة مرتكزات[3]:

الدفاع عن محوريّة العقل، ومعياريّته، وكلّيّته، وخلوّه من اشتباهات الحسّ.
تقسيم المعرفة بين المعقولات اليقينيّة، والمعقولات الظنّيّة.
البحث عن مرجعيّة التعقّل وإمكانيّة التصديق بنتائجه.
هذا ما دفع أفلاطون للحديث عن عالم المثال كمرجعيّة للتثبّت من المدركات الكلّيّة للعقل النظريّ. بينما أكّد أرسطو أنّ المعرفة العقليّة مرجعها هذا العالم الحقيقيّ، وأنّ إمكانيّة التثبّت منها تقوم على مباني القياس الأرسطيّ وصوره المنتجة، وكذلك على عمليّات الاستقراء.

وإذا أمعنا النظر في المبنى الثاني والثالث، لوجدنا أنّ هذا الاشتغال الفلسفيّ، كان يبحث عن إمكانية «حدوث» المعرفة، وهي كما سنجدها بشكل متطوّرٍ فيما بعد عند نظريّة الرجل المعلّق (أو الطائر) عند ابن سينا (980-1037م)[4] (ابن سينا، رسالة في معرفة النّفس الناطقة وأحوالها، الفصل الأوّل)، ستتجه أكثر إلى الذّات في سبيل إيجاد أرضيّة عقليّة تجريديّة لا يمكن أن تشوبها شائبة شكّ، قبل الوصول إلى مرحلة استعمال المعقولات أو المدركات الظنّيّة التي هي في الغالب نتيجة استعمال الحسّ[5]. ومع ذلك، فإنّ فرز مكان للمعقولات الظنّيّة في الفلسفة الأرسطيّة، بل والأفلاطونيّة، وكذلك البحث عن كيفيّة التصديق بنتائج العقل النظريّ، يشكّل بوابة عريضة للبحث في موضوع الغيريّة، من جوانب عدّة كما سيأتي.
لقد انطوت المباحث الفلسفيّة الكلاسيكيّة في المدرسة العقليّة على مساءلة قضيّة الإدراك من باب الذّات المدركة، بشكل أساس. إنّ مباحث علم النّفس الفلسفيّ، المنطوية على همّ التعرّف على النّفس، والاستدلال على وجودها، وأقسامها، وكيف تدرك، والقوّة المدركة، وتقسيم المدرَك، والبحث المفصّل حول النّفس الناطقة وكيفيّة حضور الذّات في الذّات، وإدراك الذّات للصور البسيطة، والتجرّد عن المادّة، والتفصيل حول قوى النّفس، وعلاقتها بالبدن وغير ذلك.. تؤكد أنّ همَّ الفلاسفة، وخصوصًا الفلاسفة المسلمين، وبالأخصّ الشيخ الرئيس ابن سينا، كان متمحورًا حول البحث عن جوهر الإنسان، ككائن متميز بقوته الناطقة في علاقته مع ذاته، ومن ثمّ مع محيطه (من خلال قواه الإدراكيّة المجرّدة، والحسّيّة)، وفي رؤيته الكونيّة ومصيره أيضًا (خصوصًا في مباحث المعاد في الفلسفة الإسلاميّة). كما تظهر هذه المباحث أنّ اهتمامهم كان منصبًّا أيضًا على «محوريّة الذّات» في الإدراك، ولم يكن ثمّة مباحث مستقلّة لتناول قضيّة الذّات والغير (وهذا غير مبحث الواجب لغيره وأمثاله)، من حيثيّة إدراكية تشاركيّة إن صحّ التعبير.

يمكن فهم هذا الاشتغال المعرفيّ داخل الذّات من زاوية محاولة الفلاسفة الكلاسيكيّين الارتكاز إلى القوى المدرِكة داخل الذّات، بصورتها الأوّليّة البدهيّة، والتي يمكن أن تولّد أولى صور المعرفة اليقينيّة التي لا ينتابها شكّ. فالعقل عند ابن سينا على سبيل المثال، يمكنه: « بقوَّته الذّاتيّة أن يبرهن على وجود النّفس، وأقوى برهان يأتينا به برهان الحدس والمحاكمة كما يسمِّيه، إنَّنا نرى أجسامنا تتغذَّى وتنمو وتتحرَّك، ونعرف من الاختبار أنّ هذه الصفات ليست من خاصَّات الأجسام، فندرك بالحدس أنّ فينا مبدأ تصدر عنه هذه المعلولات، وهو ما نطلق عليه اسم نفس»[6]. ويقول في كتاب الإشارات ص١٢٣: «بماذا تدرك حينئذٍ ذاتك، وما المدرك من ذاتك؟ أترى المدرِك منك أحد مشاعرك أم عقلك، وقوّة غير مشاعرك وما يناسبها؟ فإن كان عقلك وقوّة غير مشاعرك بها تدرك، أفبوسط تدرك أم بغير وسط؟ ما أظنك تفتقر في ذلك حينئذٍ إلى وسط؛ فإنّه لا وسط، فبقيَ أن تدرك ذاتك من غير افتقار إلى قوّةٍ أخرى».

إنَّ هذا السعي لإثبات وجود الذّات و«النّفس» من خلال إثبات تجرّدها، استمرّ أيضًا من خلال الفلسفة الإسلاميّة مرورًا بملّا صدرا، وفلاسفة القرون الوسطى في أوروبا، إلى الفلسفة المعاصرة؛ إذ نجد على سبيل المثال، أنّ ديكارت وعلى خلاف ابن سينا الذي أراد إثبات ثنائيّة الروح والمادّة، إلّا أنّ ديكارت (1596-1650م) في كتابه (تأمّلات في الفلسفة الأولى) أراد ثنائيّة العقل والجسد، من خلال الموقف الديكارتيّ الخاصّ بالكوجيتو. وهو موقف ينتمي إلى اتجاه محوريّة الذّات في المعرفة.

لقد شكّل القرنان التاسع عشر والعشرين، بعد ابتعاد العديد من التيّارات الفلسفيّة عن التيّار العقلانيّ الديكارتي والمباحث الانطولوجيّة الكلاسيكيّة، إلى تيّارات جديدة في الفلسفة المعاصرة من قبيل المدرسة الظاهراتيّة لهوسرل (1859-1938م) ، والتي مهّدت لظهور الفلسفات التطبيقيّة ذات الاهتمامات والانشغالات الإنسانيّة فيما بعد. حاولت هذه التيّارات الفلسفيّة أن تنطلق من «براديغم» جديد يتمحور حول قاعدة أنطولوجيّة غير تقليديّة؛ إذ تتواطأ هذه التيّارات (مع اختلافاتها في أدوات الإدراك وأنماطه) على التسليم بهذا الوجود وإمكان تعقّله، ولكنّها تقع في معضلة إبستمولوجيّة أخرى تتعلّق بكيفيّة الشرح والتبرير العقلانيّ لفهم الإنسان لذاته: هل هي معرفة ذاتيّة، غيريّة، بينذاتيّة؟ وكيف يمكن تبرير ذلك؟ وهل هي معرفة قبليّة، أم عقلانيّة، أم أنّها ذات طبيعة بنائيّة؟ أم أنّها قضيّة شكوكيّة، بمعنى أنّها معرفة مفتوحة لا يمكن أن تكون مضبوطة بحدود معرفيّة، لصبغتها التجريبيّة؟ إلخ.

من الباحثين من يربطون انشغال الفلسفات الحديثة بما يسمّونه بقضيّة انسداد المعرفة التي انتجتها مركزيّة الذّات في المعرفة الإنسانيّة[7]. ويعتبر هؤلاء أنّ انتقال هوسرل إلى اعتبار العلاقة التي تجمع «الذّات» مع «الآخر» في كتابه «أزمة العلوم الأوروبيّة»، هي البداية لتجاوز الموقف الديكارتيّ في المعرفة الذّاتيّة (أي التي مرجعها الذّات). إذ يؤكد هوسرل على أنّ الوعي لا يمكن أن يتحدَّد أو يوجد بانفراديّة الذّات، وإنّما داخل «البينذاتيّة»، ومن خلال نقطتين ذكرهما بول ريكور (1913-2005م): «أوّلًا: التعاطي مع الآخر، كجزء من غيريَّتنا الداخليّة كما الخارجيّة؛ ثانيًا: الإقرار بأنّ وجود العالم مرتهن بوجود ذاتٍ تعيه وتقوله، والعكس صحيح».

والذي نريده من هذا التقديم، هو التأكيد على حدوث انزياح إبستيمولوجيّ في الفلسفة، جعل من البحث عن الإدراك والمعرفة أمرًا ذا نزعةٍ خارج-ذاتيّة، وهو –كما يبدو- نتيجةٌ لتحوّلات اجتماعيّة وتاريخيّة عصفت بأغلب المجتمعات البشريّة في القرن الثامن والتاسع عشر ووصولًا إلى القرن العشرين. فإذا كان هذا حال البحث عن المعرفة وأدواتها الإدراكيّة داخل الفلسفة، فما هو الحال داخل الأنثروبولوجيا؟ بمعنى ما هو موقف الأنثروبولوجيا من سؤال الغيريّة؟

2. الغيريّة كسؤال إنثروبولوجيّ
يقع السُّؤال عن «المعرفة» بين الفلسفة والأنثروبولوجيا، في مأزق الابستيمولوجيا بين نزعتها التجريديّة والتجريبيّة، ولربما يصحّ اختصار شرح هذه الفروقات، بين الذي ينظر من الخارج إلى كوب مليء بالماء، وبين من يرى الماء والكوب وهو يعيش داخله.

إنَّ الذي قدّمه «الوجود الإنسانيّ»، باشتماله على كمٍّ كبير جدًّا من التعقيدات والاختلافات والتنوّع الجسديّ والمادّيّ والثقافيّ، من إغراء الباحثين الأنثروبولوجيّين لقيامهم بالأبحاث الميدانيّة والحقليّة الموسّعة، والتي شهدت طفراتٍ كيفيّة وكميّة وسّعت من مستويات معرفة الإنسان بنفسه من خلال معرفةٍ أكثر موضوعيّة وقربًا من وجوده. هذا الإغراء، وبعد تراكم المشاهدات والمشاركات الميدانيّة والبحثيّة لحياة الإنسان القديم والحديث، تحوّل إلى إثارات إثنولوجيّة ورمزيّة وشبه-تجريديّة ارتقت بالسؤال الأنثروبولوجيّ الذي يتعاطى مع جسد الإنسان كمساحةٍ معرفيّة حصريّة (الجسد الإنسانيّ بوصفه المنتِج والمنتَج المعرفيّ والثقافيّ والمادّيّ)، إلى مساحة جديدة من الأسئلة كالسؤال عن ذاتيّات المعرفة ومحاكمتها ضمن طروحات فلسفيّة مغايرة كالتي قدّمها ايمانويل ليفانس في موضوع «الغيريّة».

إنَّ اعتناء الأنثروبولوجيا بالمنتجات الثقافيّة والمادّيّة للبشريّة، وقيامها بتصنيفها، وتحليلها، وفكّ شبكاتها والعلاقات القائمة ضمنها، وقراءة كلّ هذه الظواهر رمزيًّا، أدّى إلى مساءلة جديدة للمعرفة التي يكوّنها الإنسان عن نفسه. فهل هذه التصوّرات هي ذاتيّة، بمعنى أنّها مبنية على منهج الفلسفة العقليّة سابقة الذكر؟ أم أنّ هذه المسبقات العقليّة والمنطقيّة هي نتيجةُ تفاعلٍ عضويّ وبيولوجيّ مع الطبيعة والموجودات التي فيها، بحيثُ يشكّل هذا التفاعل وما ينتج عنه من تعقيدات ردّات الفعل، مجموعة التصوّرات المتراكمة، التي تسمّى بالمعرفة.
ابتنت رؤية ليفانس على هذا الجدال المعرفيّ، بين مساءلة ذاتيّات المعرفة وبين التأكيد على غيريّة المعرفة. قام ليفناس سنة 1934 بنشر مقال بعنوان l’évasion جادل فيه فكرة إنتاج المعرفة من قبل الذّات التي تمّ سحقها من قبل الممارسات الَّلاإنسانيّة التي تستعبد الذّات من أجل خدمة النسق وسطوته، وأنّ هذا الأمر جاء نتيجة تمحور الذّات ونظرة الإنسان إلى غيره من خلال العدسة المعرفيّة  الذاتيّة، وهذا ما لمسه ليفانس في الذّات المتعالية الأورومركزيّة التي لم تأخذ في الحسبان مساهمة الآخر في تكوين العدسة التي ينبغي أن تنظر فيها إلى ذاتها وإلى الوجود.

ثمّة رأي في هذا الإطار يقول إنّ ليفانس يرى أنّ «خطأ الإنسانيّة الغربيّة المهيمنة الأوّل أنّها جعلت الذّات هي دائمًا التي تحدّد الغير، ولم تنظر إلى الغير على أنّه هو الذي يحدّد الذّات، الخطأ الثاني هو أنّها اعتبرت الوجود من أجل الله واعتبرت الله من أجل الوجود، بينما الله منفصل عن الرغبة بشكل لامتناهٍ، إنّه آخر الوجود أو الوجود الآخر «المنفصل»، ثم ينقل البحث إلى محوريّة العلم الطبيعيّ مقابل التفلسف في تكوّن المعرفة، فيقول: «إنّ الفلسفة هي علم الوجود أو أنطولوجيا لا يعزب عنها شيء أي هي نظريّة للكلّيّةTotalité ، أمّا العلم فهو أثر للعقل ومرتبط بالتقنية ويظهر كتفعيل لمعرفة مسيطرة على الطبيعة». يقول ليفانس “الأنا ليس الكائن الذي يبقى في وجوده هو عينه، بل الكائن الذي يرتكز وجوده على التماهي وعلى البحث عن هويّته من خلال كلّ ما يحدث له"[8]. وبسبب هذه النزعة الأنثروبولوجيّة في المعرفة، بدأ ليفانس يتحسّس الاستشكال الفلسفيّ والمعرفيّ، وهو مسألة علاقة «الانية بـ الغيريّة» من قبيل الأسئلة التالية، مثلًا: ما هي علاقة الأنيّة بـ الغيريّة ؟ ومن يحدّد الآخر؟ هل المطابق هو الذي يحدّد الآخر أم الآخر هو الذي يجعل من المطابق مطابقًا لذاته؟ كيف يكون المرء ذاته ويصبح أنا؟ هل عن طريق الوعي أم عن طريق الإرادة؟ هل عن طريق القول أم عن طريق الفعل؟ كيف تطرح هذه الذّات ذاتها؟ هل بالانفصال عن العالم والانطواء على ذاتها أم بالانخراط في العالم والانفتاح على الآخر؟ ماهو الآخر؟ ولماذا أصبح الآن مشكلًا فلسفيًّا بامتياز؟ هل هو عدوّ للذّات أم هو عين الذّات كآخر؟ من أين ينبع إحساس الذّات بالضياع في العالم وبالَّلاحماية من الآخر؟ وماذا تفعل للتغلّب على هذا الخطر المتأتّي من الآخر؟ كيف يمكن للذّات أن تجد مكانًا ما تحت الشمس وتنجز كيانها من دون أن تعرّض حياة الآخر إلى الخطر؟ ما هو الطريق الجديد الذي انخرط فيه ليفناس وساعده على حلّ معضلة الأنيّة والغيريّة؟ ألا ينبغي أن تتوقّف على اعتبار الآخر مجرّد شيء ونبدأ في معاملته كشخص ينتمي مثلنا إلى دائرة النوع البشريّ؟ هل يقدر الحوار على إزالة سوء التفاهم بين الأنا والآخر، أم يجب أن نتعدّى ذلك نحو المقابلة rencontre la والتلاقي وجه لوجه؟ ماذا تضيف المقابلة إلى الحوار؟»[9]

وكما هو واضحٌ، فإنّ المنعطف الفكريّ الذي عمل على إحداثه ليفانس، يعدّ محاولة على نحوِ التباين المنهجيّ في التعامل الموضوع نفسه (الذّات)، خصوصًا في افتراقه عن المدرسة العقليّة. لقد ناقش ليفانس (بوصفه فيلسوف الغيريّة) منعطف الحداثة «الذي أحدثه ديكارت لأنّه عندما صرّح: أنا أفكر، فإنّه ربط الوجود بالتفكير، ولكنّه فصل الذّات عن الواقع المعاش وعن الحياة اليوميّة». يثير الكوجيتو الديكارتيّ حفيظة ليفانس؛ إذ يعتبر أنّ ديكارت حصر حدوث الوعي في مأوى، وقالبٍ شيئيٍّ، فالوعي والمفكَّر به يحدثان في «الجسد»؛ ولذلك فإنّ محوريّة الجسد في التفكير، وكونه هو «حدث» الوعي و«حدث» الوجود، يجعل من علاقة الإنسان بالواقع علاقةً أكثر جسديّة من كونها «متعقّلة» و«مجرّدة» عن المادّة. وعلى هذا النحو «يجري الجسد انقلابًا في علاقة الإنسان بالواقع وفي عالم الذّات-بينيّة Inter-subjectivity طالما أنّ الوعي يكون عالم الذّات عن طريق الجسد دون أن يقوم بتجريده أو يغادره. يقول ليفناس في هذا الصدد:

«يميل الجسد دائمًا وأبدًا إلى أن يكون أكثر من كومة من المادّة؛ إذ يمكن له أن يكون أكثر كثيرًا وأقل قليلًا من مجموعة أجزائه…الوجه والعيون بوصفها مرايا الروح هي أعضاء التعبير بامتياز. لكن روحانيّة الجسد لا تقطن في  قدرته على التعبير عن الداخل. والجسد لا يعبّر عن الحدث أنه هو نفسه هذا الحدث». (الخويلديّ، 2006) لذلك، وباعتبار أنّ ليفانس، حاول أنْ يجمع عمليّة صناعة الوعي في رابطة وسطيّة وضروريّة تجمع الذّات والجسد جبرًا، فإن الذّات عنده «ليست خارج العالم بل هي متجذِّرة فيه عن طريق الجسد».

ومن هنا، بدأت رحلة التعرّف على الذّات في ممرّها الجسديّ الضروريّ، من خلال كلّ ما «يصدر» عنها على نحو الحصر؛ إذ إنَّ الصادر عن هذا الظهور الجسدانيّ للذات، هو «المعرفة» بعيدًا عن أيِّ نقاش تجريديّ. لقد قلب ليفانس الميتافيزيقيا القديمة، إلى ميتافيزيقا أنثروبولوجيّة، تؤمن بالمجرّد بقدر ما ينتجه وعي الذّات في إطارها الجسدَانيّ، مهما بلغ مدى هذه الميتافيزيقا، لكن على أن تكون دومًا بشرط.

3. السؤال المعرفيّ عن الغيريّة بين الفلسفة والأنثروبولوجيا
إذن، هل الغيريّة هي سؤال فلسفيّ حصرًا؟ أم أنّها سؤال أنثروبولوجيّ حصرًا؟
يمكن باختصار، أن نعتبر، ولدواعٍ عديدة، أنّ إلغاء السؤال الفلسفيّ، سيموّه أدوات المعرفة والإدراك بشكل لا يمكن ضبطها منهجيًّا ولا ابستمولوجيًّا، وأنّ إلغاء المجرّد الفلسفيّ، هو إلغاءٌ لقسم واسع من المعرفة الإنسانيّة، وكذلك القاعدة الضروريّة لإثبات السرديّات الميتافيزيقيّة. وأنّ إلقاء اللوم بوجود هذا الدمار والخراب الإنسانيّ على الميتافيزيقا – كما فعل ليفانس- أمر مبالغ به دون دليل. وسيكون العالم، كما هو منظورٌ إليهِ أنثروبولوجيًّا، تحت مساءلة قدرته على إنتاج معرفة لها حدود منهجيّة وابستمولوجيّة واضحة ويمكن ضبطها والبناء عليها؟

يبدو لي، أنَّ الحاجة المتزايدة، في ظلِّ انفتاح الثَّقافات على بعضها وازدياد ضغط العلاقات الدّوليّة والثقافيّة والسياسيّة وغيرها، إلى معرفة ذات زوايا غير حادّة، ومبنيّة على فهم الآخر وتقبّله، ومشاركته في صناعة معرفة وسطيّة وموضع قبول بين الذّات وذات الآخر، دفعت ليفانس وبقيّة الفلاسفة الإنسانيّين إلى المناداة بترك الميتافيزيقيا والفلسفة العقليّة التقليديّة، إلى معرفة فلسفيّة أنثروبولوجيّة (والأنثروبولوجيا هي علمُ الآخر).
إذن، وبناء على ما مرّ، يمكن القول إنّ سؤال الذّات والغيريّة، هو سؤال مشتركٌ، ويمكن للمنهجين، -على ما بينهما فارق منهجيٍّ وابيستمولوجيّ كبير - أن يقدّما معًا معرفةً أكثر حيويّة واتزانًا؟ هذا بنفسه سؤالٌ مهمّ أيضًا.
لقد شكّلت محوريّة الأنا- والآخر، البرادايغم الرئيس في أمّهات الأعمال الأنثروبولوجيّة منذ انطلاقاتها الأكاديميّة الأولى في القرن التاسع عشر إلى عهد قريب، حيث بدأتْ الدراسات البينمنهجيّة في نقد هذه المحوريّة التي أنتجتها الأورومركزيّة في بدايات العمل الأنثروبولوجيّ، خصوصًا مع تأثّرها بالمدرسة التطوّريّة.

لا يمكن أن نتجاوز تأثير المدرسة التطوّريّة، على قضيّة الغيريّة من وجهة نظر الأنثروبولوجيا؛ إذ إن المدرسة التطوّريّة كانت من جملة المدارس الفكرية التي عملت على تفسير وتحليل وتصنيف حياة الإنسان في مساره التاريخيّ وأبعاده المادّيّة والثقافيّة، ولتحليل الظواهر الاجتماعيّة والثقافيّة المرتبطة به، وقد كان من أبرز روادها (هربرت سبنسر، ولويس هنري مورجان، وإدوارد تايلر، وجيمس فريزر وصولًا إلى دوركهايم في بداياته المعرفيّة). ومع أنّ ثمّة شكوكًا في استلهام المدرسة التطوّريّة لأعمال داروين في كتابه «أصل الأنواع»، إلّا أنّ ثمّة اتجاهًا يقول إنّ هذه المدرسة تمتدّ في جذورها إلى أوغست كونت ومنتسكيو وباسكال (وعدد من الفلاسفة وفلاسفة الاجتماع الذين كانوا يعتقدون بأن المجمتعات البشريّة تتطوّر باتجاه التقدّم الدائم وتنتقل من البساطة البدائيّة إلى التعقيد الحضاريّ، خلافًا للرواية التوراتيّة كبراديغم سيطر على العقل الفلسفيّ والتاريخانيّ الأوروبيّ) ومن ثمّ إلى باخوفن في كتابه الشهير «حقّ الأمّ» وكتاب هنري مين «القانون القديم» اللذين كانا يدرسان تطوّر الأسرة وما يرافقها من تنظيم سياسيّ وقانونيّ واجتماعيّ ودينيّ. لقد نشأ هذا المسار الأكاديميّ من الأنثروبولوجيا «المكتبيّة» أي التي لا تستند إلى أبحاث ميدانيّة وحقليّة يقوم به الباحث نفسه، بل إلى ما يجتمع عنده من معطيات من الحملات الاستعماريّة والاستكشافيّة في أنحاء الكرة الأرضيّة، فيقوم بتحليلها واستخراج النظريّات منها.

لقد وقف الباحث التطوّريّ من كمّيّة المعطيات الكبيرة التي تدفّقت إلى أوروبا موقف المتعجّب، خصوصًا المشاهدات الميدانيّة للرحالة والمستكشفين و«المستعمرين» للمناطق التي لم تكن أوروبا تعرفها من قبل، أو كانت تعرفها لكن ضمن سياقات معرفيّة أخرى، ووقع في مأزقِ تحديد موقفه من هذه الجماعات والشعوب، والتي بسبب ما أحدثته النهضة الصناعيّة في أوروبا، ومن ثمّ التوسّع الاستعماريّ المرتكز إلى قوّة النهضة الصناعيّة ومعارفها، أصبح هذا المأزق معقّدًا من عدّة نواحٍ، بالنسبة للتطوريّين من جهة، ولبقيّة الأنثروبولوجيّين كذلك:

4. محوريّة الأورومركزيّة وتأثيرها في المعرفة الغيريّة
لقد شهدت أوروبا أبان الموجة الاستعماريّة وطغيانها، نوعًا من التضخّم في الذّات، الذي أفضى بها إلى اعتبار أنّ التقدم والتّطوّر الذي وصل إليه الإنسان الأوروبيّ (وربما تأثّرًا بالمدرسة التطوّريّة الداروينيّة) يمثّل المسار التطوّريّ الذي ينبغي أن تسير الإنسانيّة باتجاهه. لذلك بدأنا نجد تصنيفات لتطوّر المجتمعات البشريّة، قائمة على افتراض الباحث الأنثروبولوجي التطوّريّ أو الفيلسوف وعالم الاجتماع التطوّريّ لمجموعة من الأنماط السلوكيّة والاستجابات البيولوجيّة الأوّليّة و«البسيطة» لتحدّيات الطبيعيّة، والتي لا تلبث وأن تتعقّد في أنماط متطوّرة شيئًا فشيئًا، في مسارات تطوّريّة «جبريّة» ذات قوانين يمكن التنبّؤ بها وتوقّعها، وبالتالي تؤدّي هذه المسارات إلى أنماطٍ مألوفة من الاجتماع البشريّ الآخذ في التعقيد. يستفيد الباحث التطوّريّ من تخيّله وافتراضاته إلى إجراء مقارنة تاريخيّة، من أجل دراسة الظاهرة التي تحّتم الانتقال من مرحلة إلى أخرى، بحيث تؤدي هذه الحتمية التاريخيّة إلى وصول أي جماعة بشرية تطورية إلى ما وصلت إليه الجماعة الأوروبية كذات متعالية في سلّم التّطوّر البشريّ.

 لقد اختلف التطوّريّون فيما بينهم في سلّم التصنيفات، فهل بدأ البشر من مرحلة قطف الثمار، إلى مرحلة القنص، فتربية الماشية، ثمّ الزراعة، إلى الصناعة إلخ. وكذلك، في تفكيك القوانين وأنماط الروابط السببيّة الحاكمة على تتابع هذه التصنيفات، بين ما ذهب إليه ماركس (1818-1883) في تحليله لعلاقات قوى الإنتاج والفرز الطبقيّ للمجتمعات البشريّة وبناءً عليه تصوّره الحتميّ للشيوعيّة كنمط إنتاج تطوّريّ نهائيّ للبشريّة، أو ما قدّمه غيره من الأنثروبولوجيّين المكتبيّين، كلويس هنري مورغان(1635-1688)، الذي اعتبر أنّ المراحل التطوّريّة للحضارة تتألّف من هذه المتوالية الحتميّة: مراحل التوحّش الدنيا والوسطى والعليا، ومرحلتا البربريّة الدنيا والمتوسطة، ثمّ مرحلة الحضارة التي لا تزال ممتدّة إلى يومنا هذا (عبر الوسط الأوروبيّ طبعًا). وبطبيعة الحال، فقد قادت هذه النّزعةُ التطوّريّة الأورومركزيّة التي سادت الوسط المعرفيّ في العالم الحديث حينها، الدول المستعمرة، إلى مزيد من السيطرة والتوسّع على حساب الأمم والشعوب والثقافات الأخرى، وتبرير ذلك، لأنّه يشكّل أولًا المسار الحتمي للتطوّر، وثانيًا، لأنّه يشكّل فرصةً لبقيّة الأمم من أجل طيِّ المراحل التطوّريّة للحاق بالركب المتقدّم لأوروبا[10]. وبسبب المدّ الاستعماريّ، والموارد البشريّة والمادّيّة والطبيعيّة الهائلة التي استفادت منها قوى الاستعمار، أمكن لها إعادة إنتاج الحتميّة التطوّريّة من خلال أدوات كالانتداب، والهيمنة المعرفيّة، والسيطرة العسكريّة والتكنولوجيّة، واستخدام الدعاية المكثّفة للإقناع بهذا التفوّق. لذلك، ظهرت تيّارات فكريّة عديدة، مبنيّة على هذه الرؤية الفوقانيّة (حتى العرقيّة والإثنيّة منها)، وأثّرت في تأسيس البنية المعرفيّة والابتسمولوجيّة للنظرة نحو الذّات والآخر.

يمكن عدّ مشكلةُ التصوّر المادّيّ على أنَّه محور عمليّات التّطوّر للبشر، وقد أسهمت هذه المشكلة في اعوجاج البعد الإنسانيّ في الحياة البشريّة. لقد قامت المدرسة التطوّريّة، وبأكثر من طريقة، باعتبار تعقيد الحياة المادّيّة والتكنولوجيّة للبشر البنيةَ التطوّريّة الأكثر وضوحًا. وقد ساهم هذا الأمر، بالتقليل من شأن تعقيد الظواهر الثقافيّة المكثّفة التي امتازت بها الحضارات «القديمة». ففي كتابه «أبحاث في التاريخ المبكر للبشريّة وتطوّر المدنيّة» في عام 1869 والذي أعقبه كتابه «المجتمع البدائيّ» في عام 1871، قام تايلور (1832-1917) بقراءة للديانات البدائيّة، وكيف ساهمت سيادة السحر والطقوس الروحيّة ضمن نظريّته عن (الأرواحيّة) ومن دراسته الميدانيّة لقبائل الهنود الأميركيّين من شعب البويبلو بجنوب غربي الولايات المتحدة، أنّ جميع العقائد الدينيّة ظهرت نتيجة للتفسير الخاطئ لبعض الظواهر التي يتعرّض لها الإنسان مثل الأحلام والأمراض والنوم والموت. ويرى أنَّ ظاهرة الأحلام وظاهرة الموت كان لهما الأثر الأكبر في توجيه الفكر الاعتقاديّ لدى الإنسان، فالأحلام هي التي أوحت للإنسان بفكرة الروح والجسد ذلك أنّ البدائيّ يتخيّل نفسه متنقّلًا من مكان إلى آخر وهو نائم، بل وقد يرى نفسه وهو يؤدّي أعمالًا يعجز عن القيام بها وهو في حالة اليقظة. ومن ثمّ نشأت لديه اعتقادات بأنّ الروح تفارق الجسد أثناء النوم، مبتعدة إلى عوالم أخرى، ثمّ تعود مرتدّة إليه عند اليقظة. ويعني عدم رجوع الروح إلى الجسد الموت. واكتشف تايلور أنّ تلك الأفكار ارتبطت بالطقوس والعادات كما ارتبطت أيضًا بعادة تقديم القرابين لأرواح الأجداد. ومن هنا طرح مصطلحه الأنيميّة (الأرواحيّة) أي الاعتقاد بوجود الأرواح والآلهة والجنّ والشياطين وغيرها من الصور اللامنظورة التي عدّها تايلور الأصل الثقافيّ للمعتقدات الدينيّة على اختلاف أنواعها والتى تطوّرت إلى فكرة الإله العالي في مرحلة المدنيّة» (خرازي، 2008). ثمّ يؤكّد تايلور، ونتيجة لاعتقاده بالوحدة النّفسيّة العالميّة للبشر أنَّ تمحور الحياة الثقافيّة حول الطقوس السحريّة التي تبتني على معارفَ ممنوعة وسريّة ولا يمكن إدراكها، والتي تستبطن في داخلها انغلاقًا ذهنيًّا يواجه الإنسان «البدائيّ»، وبالتالي تمنعه من العقلانيّة التي تميّز الإنسان «المتطوّر». وهذه العقلانيّة في فهم رواسب «الخرافة» والطقوس الدينيّة هي التي تظلّ حاضرة بشكل غامض في الثقافة الإنسانيّة الكلّيّة، والتي لا يمكن إلّا للأنثروبولوجيا أن تفكّكها، وتدرس تاريخها، وتعيد إنتاجها وفهمها بشكل عقلانيّ، كي يمكن للإنسان أن ينسجم مجدّدًا في المسار التطوّريّ للبشريّة.

هذا «الاتهام» بالانغلاق لعقل «البدائيّ» اعتمادًا على نوعٍ من المعرفة التي كوّنها البدائيّ عن نفسه والعالم وظواهره المختلفة، هو اتهامٌ فيه تعالٍ ونزعةٍ إلغائيّة، قائمة على اعتبار المعرفة «العلمانيّة» أو «الأوروبيّة» الحديثة، هي معرفةٌ أعلى؛ ولذلك ينبغي «تحرير» هذا العقل «البدائيّ» من عدسة الخرافة التي يرى فيها ذاته والعالم. وهذه، هي عملية الإلغاء بشكلها الأقصى المبنية على موقف ثقافيّ عقلانيّ وواعٍ. لقد سوّغت هذه الرؤية المتعالية ثقافيًّا، بظهور تيّارات تعتنق التفوّق الثقافيّ، والعرقيّ، وفلسفة القوّة، والاستعمار الوحشيّ، خصوصًا مع «وجود» الدليل المادّيّ والتاريخيّ على تفوق الذّات/الأوروبيّة.

وإن كان للمدرسة التطوّريّة، هذا السهم الكبير من التأسيس للموقف المعرفيّ والإدراكيّ من الذّات والآخر، فإنّ المدرسة الانتشاريّة، والمدرسة الوظيفيّة، تمّ الاستفادة منهما، أحيانًا، في صناعة عدساتٍ إدراكيّة مماثلة.

5. النسبيّة الثقافيّة وتطوير المعرفة الغيريّة
لقد استطاعت الأنثروبولوجيا، وبفضل الموقف الحاسم للمدرسة الوظيفيّة، ومن ثمّ البنيويّة، وبقية المدارس التي قامت بالقطع المعرفيّ مع المدرسة التطوّريّة، أن تنبثق عن براديغم جديد يتمحور حول النسبية الثقافيّة، والتخلّي عن التصنيفات الحادّة للمدرسة التطوّريّة؛ إذ يؤكد هذا البراديغم، الذي اقترحه الأنثروبولوجيّ فرانز بواس (1858-1942)، على ضرورة قيام تيّار فكريّ يتكون من فهم القواعد الثقافيّة المختلفة عن قواعدنا لوضع أنفسنا في مكان الآخر. وبالتالي ومن أجل شرح ودراسة وتحليل كلّ ثقافة، يجب أخذ خصوصيّاتها وتاريخها في الاعتبار، بعيدًا عن المحاكمة الأخلاقيّة أو القيميّة التي سادت في النظريّة التطوّريّة. (رابور، 2019)
صحيح أن بواس نظّر لذلك، إلّا أّن الاتجاهات الوظيفيّة التي نشأت في عهد دوركهايم، وأكملها ابن أخته العالم مارسيل موس بإخلاص، ومالينوفسكي، وثمّ تأكّدت عند ايفنز بريتشارد –وإن كان من وجهة نظرٍ مباينة-، كما ظهرت بقوّة في مدرسة النسبويّة الثقافيّة الأميركيّة على يد الباحثين من أمثال مدرسة الأنماط والشخصيّة مرغريت ميد وبنيديكت روث، وصولًا إلى المدرسة البنيويّة على يد ليفي شتراوس.. أكّدت هذه الاتجاهات على قضيّة محوريّة لا تزال عوالم الأنثروبولوجيا تدور حولها إلى يومنا الحالي: احترام ثقافات الشعوب، دون تقويمها وأخذ موقف منها، وعدم محاكمة أيّ ثقافة بناءً لأيّ مرجعيّة ثقافيّة أخرى مهما كانت. (بايقين، 2020).

لقد دفع هذا المنظور الجديد في الأنثروبولوجيا الباحثين إلى البحث عن الهويّة الثقافيّة لكلّ شعب، وفهمها من خلال لغتها وأدواتها الثقافيّة الخاصّة بها، بأكبر قدرٍ ممكن من الموضوعيّة والاغتراب المناسب عن الحقل. ومن ثمّ الكشف عن البنى الرمزيّة والخياليّة، والروابط التي تنسجها كل جماعة داخلها وخارجها، والتي تشكّل في مجموعها نمط حياة هذه الجماعة ووجهة نظرها نحو نفسها والكون. هذه العودة القسريّة عن التطوّريّة، إلى واقع الاعتراف بالنسبيّة الثقافيّة (مع وجود انتقادات لها أيضًا)[11]، أسّس لرفض التمييز بين الأعراق، والأديان، والقوميّات، واللغات، والأيدولوجيّات، ودعا إلى التعامل مع الواقعة الإنسانيّة على أنّها قضيّة تجريبيّة، ينبغي وبالقدر الأكبر من الأدوات المتاحة، فهمها بموضوعيّة.

إذنْ، وبعدَ التخلِّي عن الأورومركزيَّة، في هذا البرادايم الجديد، أتيحَ للعقل الأنثروبولوجيّ مساحات مستجدّة، ان يتحرر من مركزية الـ«أنا» في فهم الإنسان، خصوصًا مع التيّار الثقافيّ والرمزيّ المتصاعد في فهم الوجود الإنسانيّ، ودراسة حضوره الحاليّ والتاريخيّ، وتفكيكه كنصّ رمزي ثريٍّ يحتاج لأدوات فهم هرمنيوطيقيّة وفيمينولوجيّة. يقول غيرتز إنّ نظريّة «الأنثروبولوجيا التأويليّة» «كانت امتدادًا لاهتمامي بأنظمة المعاني والعقائد والقيم والنظرات إلى العالم وأشكال الشعور وأساليب الفكر التي كانت شعوب معيّنة تبني وجودها من ضمن شروطها». ويحاجج بأنّ الثقافة هي التي تضفي المعنى على العالم في أعين أصحابه، فالثقافة تُقرأ كما يُقرأ النصّ. والثقافة، بما هي نصّ، تتألّف من الرموز، التي هي نواقل للمعنى[12].

وشكّل هذا الانعطاف داخل المنهج، فرصةً وتحدّيًا ابتسمولوجيًّا جديدًا، أمام أدوات المعرفة التي تستعين بها الأنثروبولجيا في فهم الإنسان، فبعد التخلّي عن محوريّة الذّات، خرجت أسئلة من قبيل: هل يمكن تحديد ما هي الذّات، وما هو الآخر؟ ما هي وسيلة الفهم: هل هي اللغة؟ أم العقل؟ أم نوعٌ جديد من المعرفةِ البينذاتيّة؟ وما هو العقل في المنظور الأنثروبولوجيّ؟ وإلى أيّ مدى يمكنُ ادّعاء الموضوعيّة في فهم الذّات والآخر/ الذّات أو الآخر؟ وهل باتت التأويليّة هي قدرُ الإنسان في فهم ذاته؟ وكيف يتشكّل المعنى عن الذّات؟

6. التأسيس لأدوات الإدراك
يتأكّد الإشكال في نوع المعرفة التي تسمح الأنثروبولوجيا بتكوينها عن الذّات والآخر، في التزامها المدرسة الوضعيّة والتجريبيّة في البحث، بل تلتزم الحدّ الأقصى من البعد عن الفلسفة العقليّة. لقد جرّ هذا الأمر على المعرفة التي تنتجها الأنثروبولوجيا، سمات مثل عدم ثبات المعرفة، وعدم ثبات أدوات إنتاجها، وأنّ نتائجها هي دومًا مؤقّتة.

يشرح ليستل هذا الأمر في طيّ عرضه لفلسفة ليفانس، من خلال تمثيل هذا المأزق بمثال المرآة، حيث يعتبر أنّ معرفة الذّات على بنية الخبرة الحسّيّة، هي معرفة لا يمكنُ أن تنتج معرفة قابلة لإعادة الإنتاج، لأنَّ تجسيدها في قضايا تمتلك صفة الثبات والديمومة (كمثل القضايا الكلّيّة الفلسفيّة) أمرٌ لا يمكن أن يكون عبر تجربة حسّيّة. يذكر ليستل تحت عنوان “Not to be reproduced” – on the structure of sensory experience) هذه التجربة في إدراك الذّات فيقول: «عندما ننظر إلى المرآة ، فإنّ ما ينعكس علينا هو المشهد الذي يراه الآخرون منّا من ناحية، كما أنّنا نرى أنفسنا في المرآة كأشياء من ناحية أخرى، ومع ذلك فإنّ هذا التجسيد للذات يقدّم نفسه على أنه غير مكتمل»، فهو في النهاية معطًى حسّيّ تجريبيّ! «بينما أرى نفسي كآخر، فأنا لا أرى نفسي حقًّا كما يراني الآخرون. المرآة لا تعكس نظراتي الحيّة؛ لأنّها مرتبطة بالأشياء وغيرها في العالم؛ إنّه يظهر لي فقط في موقف محدّد للغاية، أنا أنظر إلى نفسي». إن المرآة تشكّل تجربة الذّات في استخدامها للرؤية، أي الرؤية البصريّة المباشرة للآخر نحو جسدي، إضافة إلى رؤية الجسد الخاصّ بي، فهي تنقل انطباعاتٍ حسّيّة يتمّ التقاطها من المرآة. فالمرآة هي الوسط المعرفيّ الذي تحدثُ فيه المعرفة المشتركة بين نظرتي لنفسي، ونظرة الآخر إلى نفسي، ونظرتي إلى معرفة الآخر بي. هذه المعرفة، لا تساوي الذّات تمامًا، وإنّما هي تقاربها من وجه، وتختلف عنها من وجوه أخرى.. إلّا أنّها المعرفةُ المتحصّلة عنّي.
هذا الانقسام الذي يمرّ عبر الوجود المادّيّ للفرد يعني أن الذّات في جوهرها يتخلّلها الآخر، رغم أنّ الإدراك الحسّيّ لتموضع الذّات في حيّز الوجود الجسديّ، يؤدّي إلى الاعتراف بأنَّ الرؤية (والتجربة الحسّيّة بشكل عامّ) هي في الأساس غير مكتملة ومفتوحة. إنّه ينبثق من نقطة عمياء، جسد المرء ووجهة نظره، ويمكنه أن يمنحنا احتفاظًا جزئيًّا بالشيء الذي يتعلّق به فقط. وهذا النحو من الإدراك، يتعلّق بمحدوديّة أجسادنا وتحرّكها في الحيّز المكانيّ وأبعاده الزمكانيّة. وهذا العالم المادّيّ المدرَك، هو عالمٌ منغلقٌ على الإدراك الحسّيّ، ويخدعه، أو يسدّ عليه كلّ ما هو وراء الحسّ. ومع ذلك، فإنَّ هذه المعرفة التي يحصّلها المرء عبر جسده عن ذاته وعن العالم، تقدّم له مجموعة من الخصائص البنيويّة للمعرفة التي يتمّ إنتاجها عبر طريق طويل «إلى أنماط الخبرة الاجتماعيّة والثقافيّة ، والممارسات والمؤسّسات التي يدرسها عادة علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع».

ومن جهة أخرى، يؤكّد ليفانس، على أنّ النظام الإدراكيّ الحسّيّ الذي يقوم على محوريّة الجسد، ولأنّه غير شموليّ، يظلّ يتعامل مع الظواهر المقابلة له، عبر التجربة التي تستدعي عمليّات « الاختيّار والدمج والاستبعاد»، إذ إنّ هناك دومّا ما هو «غريبـ« عن «ذاتنا»، هذا الغريب، يمكنه أن ينشئ معنا الاتصال والاستجابة، والسؤال والجواب، والحوار، والمساهمة في إخبارنا عن أنفسنا. وبالتالي يسهم في تكويننا كـ «أشخاص»، أي أنّه يقوم في تشخيص –بمعنى وضع الحدود والمشخّصات- لذواتنا، ليدخل هذا التشخيص الذي يقوم به الغريب عنّي، ضمن تصوّراتنا عن أنفسنا والعالم. إنّها عمليّة معقّدة، ومكامن التأويل فيها كثيرةٌ، ومتبادلة لكنّها، كما يقول ليفانس، هي المعرفة التي «ينتجها البشر أنفسهم».
إنّ الانتقال من محوريّة الذّات الأوروبيّة، إلى محوريّة الآخر على يد مالينوفسكي، لم تخفّف من اغتراب المعرفة التي ولّدتها الأنثروبولوجيا. يقول ليستلي»إذا عرّفنا الأنثروبولوجيا على أنّها علم الآخر ثقافيًّا، فستكون على قدم المساواة في أهمّيّتها مع مفهوم الثقافة، علاوة على ذلك ، يبدو أنّ الأنثروبولوجيا كعلم كرّست نفسها في البداية لإعادة فهم الآخر على أنّه الآخر. فيما يلي مقولة مالينوفسكي الشهيرة «للهدف النهائيّ للإثنوغرافيّ»: «هذا الهدف، باختصار، هو فهم وجهة نظر المواطن الأصليّ وعلاقته بالحياة وتحقيق رؤيته لعالمه» (Malinowski 1984: 25) هذه المعرفة التي تتشتّت فيها معرفة الآخر، وتزاد وتتكثّف الشكوك التي تثيرها حول نفسك وحول الآخرين، بأنك قد «لا تفهم» أو قد لا تصل إلى الفهم التامّ، إلّا إذا أصبح الباحث الميدانيّ انعكاسًا ذاتيًّا خالصًا، وخاليًا من «التحيّز الثقافيّ»، و«التحليل النّفسيّ».

7. الاثنوغرافيا والغيريّة
إنَّ التّماسَ الذي أحدثته الحركة الاستعماريّة مع «الغير» كان تماسًا قائمًا على النفرة منه والاستعلاء عليه و«استغرابه» والتعامل معه كغريبٍ عن الإنسان المعاصر والمألوف، وحينما بدأت الأعمال الإثنوغرافيّة الأولى، كانت تجرى بروحِ محاولة فهم الشاكلة الأولى التي كان عليها البشر، من أجل التعرف على الذّات، وكيفيّة تطوّرها. هكذا يقترح بانديان أنَّ هذا «التحيّز الذي كان كامنًا بل واضحًا في الأدبيّات الإثنوغرافيّة يتجلّى في المبدأ الأنثروبولوجيّ الأوّليّ هو عمليّة «اختراع الإنسان الآخر» من أجل تطوير معرفة أكثر بالبشريّة. هذا «الآخر الأنثروبولوجيّ» هو أساسًا «معرفيّ». يعتمد على فكرة الاختلافات المدركة وهي عمليّة معرفيّة تتضمّن الملاحظة وجمع البيانات والتنظير».

تقترح تقنيات البحث الإثنوغرافيّ مجموعة من الأدوات البحثيّة، ننتخب منها الملاحظة بالمشاركة، لجمع المعطيات الحقليّة والميدانيّة. يحاول الإثنوغرافيّ إزالة مسافة الاستغراب، بينه وبين الجماعة، بالدخول إلى فضائهم الخاصّ. يتعلّم اللغة ويحكيها، كي يلجَ إلى فضائهم الثقافيّ قدر الإمكان؛ إذ تشكل لغة أيّ جماعة بشريّة، مخزونها الخاصّ من الفهم ومحاولات التعبير عن الذّات وعن التصوّرات، وهي التي تساهم في صناعة الطقوس (طقوس العبور، الزواج، الموت إلخ)، وتعبّر عن العلاقات القرابيّة، وشكل السطوة السياسيّة المتّبعة في الجماعة، وتصوّراتهم عن «الغريبـ«.
إنَّ ثقافة الجماعة في أحد شقوقها، تقدّم فكرتهم عن الآخر «الغريبـ« عنهم، وهذه الفكرة بالدقّة هي التي تغري الأنثروبولوجيّ (على مذهب مالينوفسكي الدائر حول فحص الاختلافات الثقافيّة) باقتحام المساحة الخاصّة للجماعة، كي يتعرّف على نفسه من خلال فكرة الآخرين عنه. يمكنُ، للإنسان أن يتصوّر ذاته كما يحبّ، لكن أن يتعرّف على ذاته في مرآة الآخرين، هي المعرفة المكمّلة لما يملك، بل ربما تكون المعرفة الأكثر عملانيّة؛ لذلك تنتخب الإثنوغرافيّة تقنية الملاحظة بالمشاركة، كي تنتفي الغرابة بين الجماعة والباحث، يعني بين الذّات والآخر، ويقترب من فرصة التعرّف على ذاته داخل الذّات الغيريّة. تشكّل هذه المساحة الإثنوغرافيّة، المساحة الأكثر واقعيّة، بين العلوم المختلفة، من أجل مقاربة قضيّة المعرفة الغيريّة والذّاتيّة. صحيح أنّها تظلّ مع هامش خطأ في التأويل والفهم، أو الإغراق في الخفاء الذي قد تمارسه الجماعة قبال الوافد الغريب -مهما اندمج معهم-، إلّا أنّها تبقى في الحيّز الأبعد عن التحكّم والإسقاط والمحاكمة. هي معرفة بصناعة يظهر فيها الحسّ الإنسانيّ أكثر .

يقول ساروكاي منبّهًا في توضيح المحذور الذي قد يعتري العمل الميدانيّ في الاثنوغرافيا: «إنّ عمليّة «الغريبـ« الأنثروبولوجيّ الساعي إلى تعريف المواطن الأصليّ جعلت منه أجنبيًّا محلّيًّا مع الحفاظ على استقلاليّة الذّات الغربيّة. في هذا السيناريو، يستولي الأجنبيّ الذي يغزو أراضي المواطن الأصليّ على روح المواطن الأصليّ من خلال تكوينه كآخر. إن طبيعة الآخر في هذه الحالة واضحة: إنّه ليس نفسًا للآخرين. لقد عانى الآخرون الأنثروبولوجيّون الأوّليّون من عنفه بشكل دائم بسبب عنف إعادة تشكيل الذّات الأصليّة.. هذا هو الاختلاف في الذّات الإثنوغرافيّة التي ينتج عن هذا النوع من الدراسة الإثنوغرافيّة وليس الذّات الأصليّة. ويقترن بهذا إبعاد الذّاتيّة في التمسّك بادّعاء معرفيّ للملاحظة الأنثروبولوجيّة، الأمر الذي يزيد من مخاطر فقدان «جوهر» الذّات الأصليّة. يشتمل هذا النشاط في معظم أساسيّاته على تجسيد للسكان الأصليّين والذي ينتهي في هذه العمليّة بتجسيد الملاحظ المحايد نفسه»، حيث «يتمّ فهم الآخر بشكل مختلف. من خلال محاكاة الآخر لدى المواطن الأصليّ، يبني المراقب نفسه على أنّه «ليس الآخر»، على الرغم من معارضته لبناء الآخر على أنّه ليس ذاتًا»[13].

بناء الذّات على أنها «غير الأخرى» لا يساوي العنف على مفهوم الآخر. وتستمر الذّات الملاحِظة في البقاء على أنّها «ليست غير الأخرى». وهذا الإصرار على نفي الغرابة، ومحاولة التآلف، بحثًا عن معرفة الذّات والغير، قد تصبح أكثر حدّةً من خلال ممارسة الباحث – من حيث لا يعلم لارتكابه الدائم لفعل التأويل، إلّا إذا كان ملتزمًا بالدعوة الأخلاقيّة في التعرّف على الآخر، أو على الذّات من خلال الآخر. هكذا يرى ليفيناس، أنّ العنف يبدأ حينما تتمّ عدم استجابة الدعوة الأخلاقيّة للآخر، بمعنى مسؤوليّة الذّات التي تقوم بالمراقبة تجاه الآخر، وهي تتجلّى في تجنّب محاولة المحاكاة الكاملة في التعرّف على الآخر، بما أنّ المحاكاة هي أسٌّ معرفيّ موجود في كافّة أشكال المعارف والعلوم.

السيرة الذّاتيّة كأسلوبٍ مُشَاكلٍ للعمل الإثنوغرافيّ
يقترح ساروكاي الاستفادة من السيرة الذّاتيّة (Autoethnography)، في العمل الإثنوغرافيّ، من أجل قراءة الذّات من قبل الذّات نفسها، لكن بأدوات البحث الإثنوغرافيّ ومقولاتها. يقول ساروكاي: «السيرة الذّاتية للفرد يجب أن تكون أداة إثنوغرافيّة صالحة»، وهو ذاته السؤال الذي يطرحه سرينيفاس؛ إذ يقول «لماذا لا يستطيع عالم الأنثروبولوجيا أن يتعامل مع حياته كحقل إثنوغرافيّ ويدرسها؟»[14].
تتمحور الدراسة في الإثنوغرافيّة الذّاتية حول ذات الباحث باعتبارها جزءًا أساسيًّا في بنية الكتابة السرديّة والقَصَصْ الشخصيّ. توضح إليس (2004) بأنّ الإثنوغرافيّة الذّاتية، «باعتبارها شكلًا من أشكال البحث الإثنوغرافيّ»، هي كُلٌّ أكبر من جزئيّه اللذين يكوّنانه: الذّاتيّ (Auto) والثقافيّ (ethno)، ومختلفٌ عنهما في آنٍ واحد. وهذا صحيح إلى حدّ كبير؛ إذ يتحوّل الباحث إلى غريبِ وآخرَ ضمن ذاته، كي يحاول قراءته بأكبر قدر ممكن من الاستغراب.

قد يثير هذا الأمر إشكالًا حول الموضوعيّة اللازمة؛ إذ إنّ آفة الذّاتيّة في العلوم، هي من الأمور التي يحاول الباحث تجنّبها، فكيف يمكن للاثنوغرافيّ هنا أن يعتمدها في معرفته لذاته؟ الأمر كلّه يتمحور حول «الأدلّة» التي يقدّمها على دعاويه، حسبما يقرّر ألينغسون[15].
إنّ صلب العمل الإثنوغرافيّ والأنثروبولوجيّ، يتمحور حول إعادة بناء الأحداث من الماضي إلى الحاضر –مهما أمكن- وبأسلوب مقارن، كي يتسنّى للباحث الخلوص إلى نتائج أكثر جامعيّة وشموليّة في رؤيته لموضوع البحث. وكذلك الأمر في أثنوغرافيا السيرة الذّاتيّة، فإنّ إعادة بناء الذّات من أجل معرفتها، هو عبارة عن تسجيل ورصد وتحليل الأحداث المرتبطة بالذّات من الماضي والى اللحظة الآنيّة.
يشرح ساروكاي هذا الأمر فيقول: «تصبح السيرة الذّاتية مجموعة من بقايا الذّات وتتشكّل مؤقّتًا. السيرة الذّاتيّة ليست أكثر من نقش للآخر داخل الذّات. تصبح الذّات التي سكنت نفسها هي الأخرى بمجرّد أن تتجاوز اللحظة الحيّة. وهكذا فإنّ تذكّر الحياة يعطي سلسلة من الصور للآخر والتي ترتبط باستمرار بالحاضر الذّات الحيّة، وهكذا فإنّ أنثروبولوجيا الآخر في الذّات هي عبارة عن إعادة خلق للآخر الذي يسكن الذّات»[16].

إن بناء الآخر في الذّات، من خلال إعادة قراءة الأحداث المتّصلة به (وهي تمرّ حتمًا بالوجود الجسديّ له)، تجعل الإنسان في مقابلة مع «آخره»، وهذا أمرٌ ليس لديه مماثل في الأنطولوجيا. إنّ هذا الانقلاب نحو الداخل من أجل إيجاد الآخر الذي يفترض أن يكون أقرب منّي من أيّ شيء آخر (لأنّهُ لا فاصلة مكانيّة بيني وبينه) يمكن أن يجعل المعرفة المتولّدة عنه، مشكوكة ومشبوهةً أكثر من غيرها، بمعنى أنّها ستكون مائلة إلى قراءة نفسانيّة أكثر منها أنثروبولوجيّة، مع حضور أكبر للخيال.

هل يمكن اعتبار أيّ قيمة لمعرفة الذّات الناتجة عن السيرة الذّاتيّة؟
إذا قبلنا بالآخر الفيزيائيّ، وقلنا إنّه لا يمكننا فعلًا الاحاطة به أنطولوجيًّا، إذًا تبقى هناك مساحة للخيال، المساحة الفارغة التي يملؤها الخيال بالتأويل، والتفسير، والإنتاج المتنوّع للمعنى. هذا الأمر، ينطبق أيضًا على المساحات الفارغة حول إدراك الآخر في الذّات. وهو، كما يعتبر بعض الباحثين، أمر يشكّل غنى إنسانيًّا لا بدّ منه.

وهذا الخيال، أي المساحة المملوءة بين الذّات والموضوع (الآخر الفيزيائيّ في الحالة، والآخر الذّاتيّ في الحالة الثانية)، قد يكون الثروة الإنسانيّة البعيدة عن المحاكمة الأنطولوجيّة والأيدولوجيّة. يمكن للخيال، أن يعيد إنتاج المسافات بين الذوات، وبين الذّات والآخر، ويخفّف من عبء الجدل الفلسفيّ حول الذّات والموضوع، ويستهلك في هذه العمليّة، الخبرات الحسّيّة بأنواعها، فضلًا عن منتجات الرأسمال الثقافيّ والرمزيّ والمادّيّ، ليكون في الإمكان المساهمة في صناعة معرفةٍ تجاور الفلسفة في تجريدها والخبرة الإنسانيّة في مادّيّتها القح.

الخاتمة
تؤكِّد هذه المطالعة للأسس الابستيمولوجيّة والمعرفيّة لقضيّة الغيريّة  من زاويةٍ منهجيّةٍ ومعرفيَّةٍ، أنّ انزياح الطّرح المعرفيّ/الأنثروبولوجيّ الذي يبني عليه ليفانس رؤيته نحو الذَّات-الآخر، عن اختصاص هذه القضيّة التجريديّة والتحليليّة بالفلسفة العقليّة، سبّب لطرح ليفانس مجموعة من الإبهامات المعرفيّة وارتكازه على قاعدةٍ معرفيةٍ قلقةٍ..إنَّ غياب التصوّر العقليّ المجرّد والكلّيانيّ عن هويّة وحقيقة النفس البشريّة، من جهة، واعتماده على المعطيات المتنوّعة جدًّا للتجربة الثقافيّة للبشر والممتدّة على مدى آلاف السنوات كبنية أساس للتأويل والفهم لظاهرة الذات والآخر، سيسبّب مزيدًا من تشظّي نوعِ المعرفة التي يمكن تحصيلها حول قضيّة الغيريّة. لا يمكن بحال من الأحوال، الادّعاء أنّ الحسّ الإنسانيّ المسالم كفيلٌ بمعالجة الزوايا الحادّة للمعرفة الذاتيّة والغيريّة التي يكوّنها الإنسان؛ إذ سيكون السؤال الدائم: ما هو الأساس المعرفيّ لهذا الحسّ؟ هل يرتكز إلى إطار معرفيّ ثابت كي يتمّ الاحتكام إليه في أيّ مطبّ ابستيمولوجيّ؟ أم هو يعود إلى التجربة البشريّة الأنثروبولوجيّة؟ وهي تجربة ذات معطيات متغيّرة بشكل لحظويّ.
هذا النقاش في عمق أدوات الإدراك، وصناعة التصوّرات ومفهمة الغيريّة، يخالف بشكل حاسم توجّه ليفانس في فلسفته الغيريّة، ويعيد البوصلة إلى المدرسة العقليّة والتجريديّة كميدان أكيدٍ وأوّلٍ لهكذا نوعٍ من النقاش، مع التأكيد على ضرورة أنسنة النواتج المعرفيّة العقليّة حول فهم الذات والآخر، من خلال احترام الجهد والتجربة الإنسانيّة التي يقدّمها البشر.

لائحة المصادر والمراجع
المصادر العربية
ابن سينا، 2008، شرح الإشارات، دار المعارف، مصر.
باقادر، أبو بكر أحمد، 2017، الأنثروبولوجيا: حقل علميّ واحد وأربع مدارس، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.
بت دحمان، حاج، 2016، نظرية المعرفة عند أرسطو، جامعة أحمد زبانة، الجزائر، العــدد 80 المجلد 35،
خبيت، محد حسن همدي، 2015، الفلسفة الإغريقيّة ومدارسها من طاليس إلى أبروقلوس، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، إربد، الأردن.
خرازي، عزيزة، 2008، الاتجاهات النظريّة الحديثة في سوسيولوجيا التنمية، الحوار المتمدّن، العدد: 2175.
الخويلدي، الأنا وجهًا لوجه مع الآخر، مجلّة الحكمة، 2015.
خيرة، عبد العزيز، 2016، مفهوم النّفس عند ابن سينا إرهاص الصياغة لنظريّة في علم النّفس، الأكادمية للدراسات الاجتماعيّة والإنسانيّة، قسم الآداب والفلسفة.
سامة، النور عبد الرحمان، د. أبو بكر. شلابى، 2002، (الأنثروبولوجيا العامّة: فروعها واتجاهاتها النظريّة وطرق بحثها) المركز القوميّ للدراسات والأبحاث، طرابلس.
لكلرك، جيرار، 1990، الإنثربولوجيا والاستعمار، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر، بيروت.
ليفيناس، 1996، بعض التأمّلات في فلسفة الهتلريّة. شواطئ الجيب، ليتل ليبراري.
لينتون، 1968، الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث.المكتبة العصريّة، بيروت.
محمد بايقين، مؤمنون بلا حدود، الهوية والغيريّة وقضايا التداخل الثقافيّ، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانيّة، يناير 2020
يمينة، بورزاق، 2021، إشكالية الغيريّة وسؤال الاعتراف في الفلسفة الغربيّة المعاصرة مقاربات فلسفيّة، مجلّة مقاربات فلسفيّة، المجلّد 8، العدد 2.

المصادر الأجنبية
Ellingson, Laura. L., & Ellis, Carolyn. (2008). Autoethnography as
constructionist project. In J. A. Holstein & J. F. Gubrium (Eds.), Handbook of constructionist research ). New York: Guilford Press.
Ellis, C. (2004). The Ethnographic I: A Methodological Novel about Autoethnography. Walnut Creek, CA: AltaMira Press
Leistle, Bernhard (1997), Otherness as a paradigm in anthropology
Leistle, Bernhard (2017) Anthropology and Alterity Responding to the Other, Routledge, New York.
Sarukkai, Sundar (1998) The ‘Other’ in Anthropology and Philosophy, Economic and Political Weekly, Vol. 32, No. 24 (Jun. 14- 20, 1997).

-----------------------------------
[1]*ـ  أستاذ جامعيّ وباحث في الأنثروبولوجيا التربويّة في مركز الأبحاث والدراسات التربويّة - بيروت.
[2]- خبيت، الفلسفة الاغريقيّة ومدارسها من طاليس إلى أبروقلوس، ص190
[3]- بت دحمان، نظريّة المعرفة عند أرسطو، ص503.
[4]- يجمع عبد العزيز خيرة براهين ابن سينا على وجود النّفس ضمن أربعة براهين: 1- برهان الأنا المستمر. 2- برهان أن الماثل في الوعي. 3- برهان أنا الفاعل الجامع. 4- برهان الأنا المعلّق.
[5]- خيرة، مفهوم النّفس عند ابن سينا إرهاص الصياغة لنظريّة في علم النّفس، ص51.
[6]-  شرح الإشارات، ص١٢٢.
[7]-  يمينة، إشكاليّة الغيريّة وسؤال الاعتراف في الفلسفة الغربيّة المعاصرة مقاربات فلسفيّة، ص55.
[8]-  لیفانس، بعض التأمّلات في فلسفة الهتلريّة، ص102.
[9]-  الخويلديّ، الأنا وجهًا لوجه مع الآخر، مجلّة الحكمة، 2015.
[10]-  لينتون، الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ص65.
[11]-  راجع كتاب:
اريكسن، توماس (2012) مفترق طرق الثقافات: مقالات عن الكريوليّة توماس هيلاند إريكسن، ترجمة محيي الدين عبد الغني،  المركز القوميّ للترجمة.
[12]- Leistle, Anthropology and Alterity Responding to the Other, p.71.
[13]- Sarukkai, The ‘Other’ in Anthropology and Philosophy, Economic and Political Weekly, p. 1407.
[14]-  Sarukkai, The ‘Other’ in Anthropology and Philosophy, Economic and Political Weekly, p. 1407.
[15]- Ellingson, Autoethnography as constructionist project, p. 445.
[16]- Sarukkai, p.1408.