البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

من الحداثة الداروينيّة إلى الحداثة الدنيويّة نقد المسيري للحضارة الغربيّة المعاصرة

الباحث :  محمد الشريف الطاهر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  26
السنة :  شتاء 2022م / 1443هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 4 / 2022
عدد زيارات البحث :  1036
تحميل  ( 426.276 KB )
يعدّ مشروع المفكّر المصريّ عبد الوهاب المسيري في جوهره مشروعًا نقديًّا للحضارة الغربيّة، وقد اتّجه هذا النقد أساسًا نحو الحداثة ومآلها المابعد حداثيّ، وتكمن أهمّيّة هذه الممارسة النقديّة في تفكيك النزعة التقديسيّة للحداثة الغربيّة، والتي هي في الحقيقة تعبير عن الانهزاميّة التي مُنِيت بها الروح العربيّة المعاصرة، والتي أضحت تنغلق على كلّ ما هو غربيّ بدعوى العلميّة والتقدّميّة وغيرها من الادّعاءات التي تنتهي إلى إغفال الذات العربيّة وخصوصيّتها المتعيّنة في تاريخها ولحظتها الآنيّة المعاصرة، فسادت الغفلة عن واقعنا ومشكلاته الحقيقيّة.

طرح عبد الوهاب المسيري عدّة أسئلة حول الحداثة الغربيّة، ابتداء من ماهيّتها وانتهاء إلى إمكانيّة تطبيقها على عالمنا العربيّ المعاصر، وقد أفضت كلّ هذه الأسئلة إلى استيعاب للحداثة الغربيّة ثمّ نقدها ليصل إلى تقديم بديل عنها، مقدّمًا بذلك خطابًا تفسيريًّا يسبق الممارسة النقديّة، والتي لا تتوقّف عند تفكيك الإنتاج المعرفيّ الغربيّ فقط، بل تمتدّ كذلك إلى تأسيس بديل حضاريّ مشروط بالإنسانيّة مما يطرح علينا عدّة أسئلة- هي موضوع المقالة- وهي: لماذا ربط المسيري بين الداروينيّة والحداثة؟ وما وجه الصلة بينهما؟ وهل قادت هذه الحداثة الإنسانيّة إلى مآل لا إنسانيّ لتستدعي بديلًا إنسانيًّا؟

حتى نصل إلى تكوين صورة شاملة وعميقة حول فهم المسيري للحداثة الغربيّة، من المهمّ تحديد نموذجها المعرفيّ، والذي يشهد عند المسيري تشابكًا مفاهيميًا وتداخلًا بين المجالات المفهوميّة التي يستعملها، والقصد من المجال أن كلّ مفهوم له مجاله الذي يدُّل عليه.

كلمات مفتاحيّة: الحداثة – العقلانيّة – المشروع التحديثيّ- المادّيّة الصلبة – الداروينيّة.

طرح عبد الوهاب المسيري عدّة أسئلة حول الحداثة الغربيّة، ابتداء من ماهيّتها وانتهاء إلى إمكانيّة تطبيقها على عالمنا العربيّ المعاصر، وقد أفضت كلّ هذه الأسئلة إلى استيعاب للحداثة الغربيّة ثمّ نقدها ليصل إلى تقديم بديل عنها، مقدمًّا بذلك خطابًا تفسيريًّا يسبق الممارسة النقديّة التي لا تتوقّف عند تفكيك الإنتاج المعرفيّ الغربيّ فقط، بل تمتدّ كذلك إلى تأسيس بديل حضاريّ مشروط بالإنسانيّة مما يطرح علينا عدّة أسئلة- هي موضوع المقالة- وهي: لماذا ربط المسيري بين الداروينيّة والحداثة؟ وما وجه الصلة بينهما؟ وهل قادت هذه الحداثة الإنسانيّة إلى مآل لا إنسانيّ لتستدعي بديلًا إنسانيًّا؟

أوّلًا: الشبكة المفهوميّة وتصوّر الحداثة عند المسيري:
حتى نصل إلى تكوين صورة شاملة وعميقة حول فهم المسيري للحداثة الغربيّة، وجب تحديد نموذجها المعرفيّ، والذي يشهد عند المسيري تشابكًا مفاهيميًّا وتداخلًا بين المجالات المفهوميّة التي يستعملها، والقصد من المجال أنّ كلّ مفهوم له مجاله الذي يدُّل عليه.

وتتمثّل عمليّة التشابك في ذلك الارتباط بين المشروع التحديثيّ-الذي هو مدخل المسيري لفهم الحضارة الغربيّة الحديثة– وعلاقته بنموذج العلمانيّة من جهة، ومن جهة ثانية علاقته بالمادّيّة والحلوليّة المادّيّة الصلبة والسائلة، فنجد أنّ المسيري يقول: «فمثلًا أنا أتحدّث عن نموذج الحضارة الغربيّة باعتباره نموذجًا مادّيّا علمانيّا شاملًا داروينيًّا منفصلًا عن القيمة»[2] وفي موضع آخر يورد المادّيّة دون الحديث عن العلمانيّة الشاملة في قوله: «أنّ النموذج المهيمن على الحضارة الغربيّة هو النموذج المادّيّ»[3]، وإن كان نموذج الحضارة الغربيّة مادّيّا، فما علاقة التحديث بالمادّيّة؟ وما علاقة الحداثة بالعلمانيّة الشاملة؟
 وما علاقة العلمانيّة الشاملة بالمادّيّة؟ وما هي علاقة الحلوليّة بالمادّيّة وبالحداثة والعلمانيّة الشاملة؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات، فإنّه لا بدّ من تحديد ثلاثة مفاهيم أساسيّة وهي: الحداثة، الحلوليّة، العلمانيّة الشاملة، مع تحديد السياقات التي يستعمل كلّ طرف فيها داخل نص المسيري، ومنه يمكن تحديد وجه العلاقة لنصل في الأخير إلى تحديد وجه الصلة بين كلّ هذه المفاهيم ومفهوم الحداثة الغربيّة عند مفكّرنا، لنخلص في النهاية إلى تحديد النموذج المعرفيّ.

أ- الحداثة: مشروع التحديث هو المصطلح الذي يشير إليه المسيري عندما يتحدّث عن الحداثة عمومًا، وقاصدًا به المرحلة البطوليّة من الحضارة الغربيّة، حيث كان فيها المأمول و المرجوّ هو تحقيق سعادة الإنسان، وكلمة مشروع تعني: «رؤية للواقع وبرنامج لإصلاحه في ضوء معتقدات محدّدة»[4]، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤالان هما: ما هي هذه المعتقدات والرؤى التي تحدّد وفقها المشروع؟ ثمّ ما مضمون هذا المشروع؟.

والإجابة عن السؤالين تتحدّد في النصّ التالي: «...ثمّة ما يشبه الإجماع على أنّ الحداثة مرتبطة تمامًا بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيّده، وأنّه لا يحتاج إلّا إلى عقله سواء أكان  في دراسة الواقع أو إدارة المجتمع أو للتمييز بين الصالح والطالح، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر، مصدر المعنى والقيمة، والتكنولوجيا الآليّة الأساسيّة في محاولة تسخير الطبيعة وإعادة صياغتها؛ ليحقّق الإنسان سعادته ومنفعته، والعقل هو الآليّة الوحيدة للوصول إلى المعرفة» [5]، ويضيف قولًا آخر مكملًا لتعريف الحداثة وذلك في قوله: «هذا التعريف قد يبدو للبعض تعريفًا جامعًا مانعًا، أو على الأقلّ كافيًا، ولكنّنا لو فحصنا الأمر بدقّة أكبر لوجدنا أنّ الحداثة ليست مجرّد استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا، بل هي استخدام العقل والتكنولوجيا المنفصلة عن القيمة»[6] ومن خلال النصّين السابقين نجد أنّ ما يشكّل مفهوم الحداثة يتحدّد بمحدّدين مهمّين هما: فلسفة الأنوار والانفصال عن القيمة الإنسانيّة.

والاستنارة كفلسفة هي الرؤية المعرفيّة المؤسّسة للنموذج المعرفيّ للحداثة الغربيّة، وسنتعرف على ذلك عندما نطلع على مفهوم العلمانيّة الشاملة في سياق الحداثة الغربيّة، ولكن ما يهمّنا هنا هو تعريف المسيري لمفهوم الاستنارة، إذ يقول: «نحن نذهب إلى أنّ الاستنارة هي بباسطة شديدة (لكنها غير مخلّة) رؤية مادّيّة عقلانيّة تدور حول رؤية محدّدة للعقل وعلاقته بالطبيعة/المادّة، وتتفرّع عنها رؤية للتاريخ وللأخلاق والجمال...الخ، وتدور أيّة منظومة فلسفيّة حول ثلاثة محاور: الإنسان، الطبيعة، الإله. وفي حالة الاستنارة يحلّ العقل محلّ الإنسان في هذا الثالوث»[7]، ويظهر من هذا النصّ أنّ رؤية الاستنارة تتميّز بكونها مادّيّة، وكذلك يعتبر مفهوم العقل المعبر الرئيسيّ عن الإنسان، و نصّ كانط المعروف «بما هي الأنوار» خير دليل على أنّها تجعل للعقل مكانة مركزيّة وذلك بقوله: «توصّل إليّ أنّ الأنوار تتأسّس لأجل إنسان يخرج من قصوره الذي يجده في ذاته، والقصور يعني عدم القدرة على استخدام فهمه الخاصّ بدون إدارة الغير...»[8]، وهذا يعني أنّ العقل قادر على بلوغ المعرفة واستخدام التقنية، وتسخير الطبيعة له دون أن يحتاج إلى الغير أو إلى سلطة متجاوزة، ولكن ما يظهر هنا هو أنّ هذا النمط من العقل يدور في الطبيعة المادّة ملغيًا كلّ ماهو متجاوز لحدودها.

ومادامت الرؤية الاستناريّة تؤكد على مركزيّة العقل في حدود الطبيعة/المادّة، فإنّها بالضرورة ستنطلق من مشروع منفصل عن القيمة الإنسانيّة، لكون هذه الأخيرة عنصرًا متجاوزًا لحدود الطبيعة/المادّة؛ لهذا فإنّ الرؤية الاستناريّة هي من تحدّد فكرة الانفصال عن القيمة الإنسانيّة.

والاستنارة كرؤية مرتبطة بالحلوليّة، أي عندما يصبح كلّ شيء كامنًا في المادّة، فإنّ الارتباط يصبح وثيقًا بين الحلوليّة المادّيّة الكامنة والحداثة الغربيّة من جهة، وبين الحداثة والعلمانيّة من جهة أخرى، وهنا لا بدّ أن نورد بعض النصوص التي تؤكّد على خاصّية الارتباط، والتي تسوق ماهيّة الارتباط، أي أهو جزء من كلّ أم سبب ونتيجة وغيرها؟  وسنأخذ على سبيل المثال لا الحصر نصوص كتاب العلمانيّة الشاملة:

نصوص كتاب «العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشاملة»: يقول: «ومنظومة التحديث والعلمنة الغربيّة تدور في إطار ما نسمّيه» الحلوليّة الكمونيّة المادّيّة» أو المرجعيّة الكمونيّة الواحديّة»، وما يميّز هذه المنظومة على مستوى البنية العامّة أنّ المبدأ الواحد المنظم للكون ليس مفارقّا له أو منزهًا عنه، متجاوزًا له، وإنّما كامن حالٌّ فيه؛ ولذا فالكون(الإنسان والطبيعة) يصبح مرجعيّة ذاته، ومكتفيًا بذاته»[9]، وهذا النصّ يجعل كلّ من الحداثة بمراحلها ومآلها (المابعد حداثيّ) تندرج ضمن الرؤية الحلوليّة المادّيّة، والحال نفسه ينطبق مع العلمانيّة الشاملة.

يقول: «يتّسم التحديث (في إطار العلمانيّة الشاملة) بعدّة صفات، ويؤدّي إلى عدّة نتائج...من أهمّها- في تصوّرنا- تفكيك الإنسان»، وهنا قد جعل المسيري التحديث يدور في إطار العلمانيّة الشاملة أي أنّ كلّ ما يحدث داخل الحداثة في المجال الاقتصاديّ والسياسيّ يرد إلى العلمانيّة كنموذج معرفيّ مؤسّس لحركة تاريخ الحضارة الغربيّة الحديثة.

ويبدو من النصّ السابق أنّ الحلوليّة إطار عامّ تدور فيه كلّ من الحداثة والعلمانيّة، لكنّ المشكلة الحقيقيّة بين الحداثة والعلمانيّة الشاملة، والتي يمكن حلّها في مصطلح الرؤية والمشروع، فالمشروع التحديثيّ يتمّ ضمن نموذج معرفيّ أو رؤية كونيّة، وذلك بصفته برنامجًا إصلاحيًّا للواقع يتمّ وفق معتقدات مسبقة –كما سبق شرحه-، وهذه المعتقدات لا بدّ وأن تكون هي العلمانيّة الشاملة والحلوليّة المادّيّة، فعندما يتحدّث المسيري عن المشروع التحديثيّ، فهو يجعله مرادفًا للعلمنة كإجراء، والتي هي الترشيد المادّيّ، ولكن كلّ هذه الإجراءات تجري ضمن رؤية معرفيّة وهي العلمانيّة الشاملة، عندما يتحدّث عن الحداثة بوصفها رؤية مادّيّة للوجود، فهي مرادفة للعلمانيّة الشاملة وكذلك للحلوليّة المادّيّة.

ومن ما سبق يظهر أنّ كلًّا من الحلوليّة والعلمانيّة الشاملة هما النموذج المعرفيّ الذي يدور داخله مشروع التحديث الغربيّ، وعليه فالحداثة الغربيّة الحديثة هي حداثة علمانيّة شاملة.

4- العلمانيّة الشاملة ومقدّماتها الحلوليّة المادّيّة: من خلال ما سبق عرفنا أنّ قراءة المسيري للحضارة الغربيّة تتمّ من خلال عمليّة التحديث، ومشروع الحداثة ومراحلها التطوّريّة انتهاء إلى مرحلة ما بعد الحداثة، والنموذج المعرفيّ لهذه الحضارة يتمثّل في الحلوليّة المادّيّة الصلبة والسائلة، والعلمانيّة الشاملة.

والعلاقة الرابطة بين الحلوليّة والعلمانيّة الشاملة تتجلّى في الارتباط بالحداثة الغربيّة، حيث إنّ الحلوليّة المادّيّة هي أوسع من تحليل الحداثة الغربيّة ومآلها «المابعديّ»، في حين أنّ استعمال العلمانيّة الشاملة يرجع لارتباطها بالحضارة الغربيّة ولمجتمعها العلمانيّ، وهنا يقول عن استخدام نموذج العلمانيّة الشاملة «لكلّ هذا قمت بصياغة مصطلح العلمانيّة الشاملة لأصف وضع المجتمع العلمانيّ بعد التطوّرات التي أشرت إليها، فهي أيديولوجيا كاسحة لا يوجد فيها مجال للإنسان أو القيم...»[10]، ويظهر كذلك الاختلاف من حيث ارتباط الحلوليّة بالبعد النظريّ والتصوّري أكثر من الواقعيّ، في حين أنّ العلمانيّة الشاملة ترتبط بالواقع الاجتماعيّ من زاوية علاقة الفكر والمعرفة بالمجتمع والتي تظهر بشكل واضح في علم اجتماع المعرفة، وإضافة إلى ذلك فالحلوليّة المادّيّة هي مقدّمة للعلمانيّة الشاملة.

أ)- الحلوليّة المادّيّة الصلبة والسائلة: الحديث عن الحلوليّة عند عبد الوهاب المسيري تعبير عن مرحلتين مهمّتين، هما الحداثة في عصرها البطوليّ وهنا تظهر الحلوليّة المادّيّة الصلبة، وما بعد الحداثة حيث تظهر حالة السيولة والنسبيّة المطلقة أي الحلوليّة المادّيّة السائلة، وهي كلّها تعني العلمانيّة الشاملة [11].

والحلوليّة عكس التوحيد، بمعنى أنّها تحوي المفاهيم المركزيّة نفسها في التوحيد، ولكن الاختلاف هو في المفاهيم الناظمة التي ترتّب العلاقات بين المفاهيم المركزيّة.
والمفهوم الناظم الذي تنتظم به الحلوليّة عمومًا هو حلول أحد الأطراف في طرف واحد أو طرفين، ويفسّره بمفهوم شارح وهو الكمون، إذ يقول: «الحلوليّة الكمونيّة المادّيّة هي مذهب الحلول أو الكمون القائل بأنّ كلّ ما في الكون (الإله، والإنسان والطبيعة) مكوّن من جوهر واحد مكتَفٍ بذاته...»[12] وما دام مكوّنًا من جوهر واحد كامن، فالمسافة لا وجود لها والثنائيّات كلّها منعدمة، ويبقى أمر واحد وهو المركز الذي يعيّن موقع الحلول، فإنْ كان «الإله» هو موضع الحلول تكون حلوليّة روحيّة، وإن كان الإنسان أو الطبيعة فهي حلوليّة مادّيّة، وبهذا ينتفي مفهوم التجاوز ومعه الحدود، فكلّ العناصر متماهية في العنصر المركزيّ.

وفي الحلوليّة المادّيّة الصلبة يبدأ مركز الحلول بالإنسان ثمّ ينتقل إلى الطبيعة، وما يهمّنا في هذا الصدد هو طريقة الانتقال؛ إذ سيتمّ «تصفية الإنسان» لصالح الطبيعة/المادّة، ويورد عبارة أخرى وهي «تفكيك الإنسان وردّه إلى ما دونه»، إذ تبدأ الحلوليّة بمركزيّة الإنسان «فيحلّ المبدأ الواحد في المرحلة الأولى في عنصر مادّيّ إنسانيّ واحد (مسار التاريخ- روح الشعب- الرجل الأبيض) ويتمّ التجاوز باسمه، وهذه هي رحلة التحديث البطوليّة»[13]، ولكن في هذه المرحلة لا يكون الإنسان إنسانًا كما سبق وطَرَحه في الأنطولوجيا التوحيديّة؛ بل هو إنسان طبيعيّ، وهنا يتمّ تهميش أبعاده الإنسانيّة ومركزة الأبعاد الطبيعيّة، وتستمرّ العمليّة إلى «حين يتمّ تصفية الإنسان باسم الطبيعة ويكون مركز العالم هو الطبيعة/المادّة (وهذه هي مرحلة الحداثة)»[14] وهنا يتلاشى الإنسان ويصبح جزءًا لا يتجزّأ من الطبيعة/المادّة، وتصبح الطبيعة مركز العالم، وذلك أنّها تحوي قوانين صلبة يحويها الزمان والمكان المطلقان، ويظهر عندئذ إنسان طبيعيّ مادّيّ وإنسان جسمانيّ وآخر اقتصاديّ، والمشترك بينهم هو خضوعهم لقوانين الطبيعة، من هنا نجد مفهوميّن تحليليّين مهمّين هما التفكيك والاختزال؛ أمّا التفكيك فالأجدر أن نضعه ضمن سياق تحليل العلمانيّة الشاملة، وأمّا الاختزال فهو يحدّد الوضع والقيمة ضمن الطبيعة، وعليه فهو يضبط طبيعة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، فهي علاقة جزء بالكلّ ينحصر فيه لا يتجاوزه، وهذا ما عبّر عنه بـ: «جزء لا يتجزّأ»، وعليه يتمّ اختزال الإنسان إلى بُعده الطبيعيّ/المادّيّ إمّا «الجسم» أو «الاقتصاد»، باعتبار أنّ هذا الأخير تعبير عن حالة الطبيعة، وهنا يظهر ما يسمّيه بالنموذج الاختزاليّ والذي يعرّفه بقوله: «والنموذج الذي يختزل الواقع إلى عدّة عناصر بسيطة مستبعدًا كثيرًا من العناصر والأبعاد (وخصوصًا العناصر الإنسانيّة المركّبة)»، وهنا يختفي الإنسان باعتباره كيانًا مركّبًا يحوي عناصر متجاوزة للطبيعة هي أساس إنسانيّته، وعناصر طبيعيّة مستمدّة من الطبيعة المادّة، ففي النموذج المادّيّ يختزل الإنسان داخل البعد المادّيّ ويستبعد البعد المتجاوز، وهنا يقول:«ويتلاشى الحيّز الإنسانيّ تمامًا إذ يبتلع الحيّز الطبيعيّ كلّ الكائنات بما في ذلك الإنسان نفسه» وتختفي مع ذلك فكرة الإله، إذ يصبح لا وجود له، فالحاكم على العالم هو الطبيعة.

وبعد مرحلة الحلوليّة المادّيّة الصلبة تأتي الحلوليّة المادّيّة السائلة، والرابط بينهما هو زيادة نسبة الحلول، وهنا يقول: «ولكن درجات الحلول تزداد، ويتوزّع الكمون أكثر من عنصر واحد، حتى تصبح كلّ عناصر الواقع موضع كمون، فتصبح كلّ الأشياء مقدّسة، ويتساوى المقدّس والمدنّس والمطلق والنسبيّ، ويختفي المركز- تتعدّد المراكز- ومن ثمّ تصبح كلّ الأمور نسبيّة وتسقط في قبضة الصيرورة، ويختفي الحيّز الطبيعيّ ذاته، وهذه هي مرحلة ما بعد الحداثة والحلوليّة الواحديّة السائلة»[15]، وهنا يظهر أمران أساسيّان هما تعدّد المراكز والنسبيّة المطلقة؛ وذلك أنّ المراكز المتعدّدة تؤدي إلى معياريّة متعدّدة ولا معياريّة واحدة يستند إليها البشر، وعليه لا وجود لحقيقة واحدة وقيمة أخلاقيّة واحدة ولا جماليّة، فكلّ شيء حقيقة وباطل في الآن نفسه؛ إذ وفق مركز معيّن هو حقيقة، ووفق مركز آخر هو باطل، والأمر نفسه بالنسبة إلى باقي القيم، وبتعدّد المعياريّة نصل إلى النسبيّة والتغيّر المطلق ونفي الثبات، أي الوقوع في الصيرورة المطلقة، وتختفي الطبيعة كقانون متماسك مطلق.

من الحلوليّتين يتّضح أمران هما تفكيك الإنسان وردّه إلى الطبيعة، وردّ هذه الأخيرة إلى الصيرورة، وعمليّة التفكيك تقودنا إلى مفهوم العلمانيّة الشاملة.

ب- العلمانيّة الشاملة: يفرق المسيري بين العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشاملة والفارق يتمثّل في التعامل مع البعد المعرفيّ للإنسان، فالجزئيّة «رؤية جزئيّة للواقع ( برجماتيّة- إجرائيّة) لا تتعامل مع أبعاده الكلّيّة والنهائيّة المعرفيّة»[16]، حيث إنّها لا تقدّم في حدّ ذاتها أيّ تفسير أو إجابة عن الأسئلة الأنطولوجيّة المتعلّقة بالإنسان وموقعه ضمن نظام الوجود؛ لذلك فهي مجرّد إجراء يقرّر «وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد» [17]، ومعنى ذلك أنّ العلمانيّة الجزئيّة تلزم الصمت إزاء الأبعاد الكلّيّة كالله والطبيعة والإنسان، في حين أنّ العلمانيّة الشاملة «هي رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفيّ ( كلّيّ نهائيّ)، تحاول بكلّ صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورئيّات ( الميتافيزيقيّة) بكلّ مجالات الحياة، وهي رؤية عقلانيّة مادّيّة تدور في إطار المرجعيّة الكامنة والواحديّة المادّيّة...»[18] ومعنى ذلك أنّها رؤية حلوليّة مادّيّة كمونيّة تجعل من الطبيعة/المادّة مطلقها الذي يتجاوز كلّ شيء ولا يتجاوزه شيء، وكلّ شيء حال فيه.

وأمّا العلاقة بينهما ضمن سياق الحداثة الغربيّة وتطوّراتها، فهو السياق التاريخيّ، فالعلمانيّة الجزئيّة هي مرحلة تاريخيّة متأخّرة عن العلمانيّة الشاملة [19]؛ وذلك أنّ العمليّة الإجرائيّة المتمثّلة في فصل الدين لا يمكن فهمها إلّا في إطار رؤية كونيّة، والتي تتحدّد في الرؤية المادّيّة؛ لذلك سرعان ما ظهرت عبر متتالية تاريخيّة العلمانيّة الشاملة، وعليه فإنّ عمليّة الفصل في العلمانيّة الجزئيّة كانت تتمّ في إطار العلمانيّة الشاملة.

وإذا كانت العلمانيّة الشاملة رؤية كونيّة، فإنّ إدراك المسيري لها يتحدّد من خلال مفهومين أساسيّين هما: التفكيك والتجريد من جهة، ونزع القداسة عن العالم وإحلال النسبيّة المطلقة من جهة ثانية، وهنا تظهر العلاقة الرابطة بين الحلوليّة المادّيّة ( الصلبة والسائلة) والحداثة الداروينيّة.

 ب-1- التجريد والتفكيك: والتجريد كما يعرفه المسيري بقوله: «عمليّة التجريد هي عمليّة تفكيك وتركيب تتمّ في ضوء المرجعيّة النهائيّة للإنسان، متجاوزة كانت أم كامنة، فهي التي تحدّد ماهو كلّيّ وما هو جزئيّ...»[20] حيث يعمل العقل بمقتضاه بتفكيك بعض العناصر وإعادة تركيبها من خلال الإبقاء والتهميش، وجعل بعضها مركزيًّا، وكلّها لا تتمّ إلّا من خلال رؤية أو نموذج إدراكيّ محدّد يحوي مرجعيّة ما، وهذه الأخيرة قد تكون حلوليّة مادّيّة كامنة، أي ترى أنّ المادّة فيها كلّ ما يمدّنا بالتفسير وفيها مصدر حركتها، ووجودها متضمّن فيها، وقد تكون متجاوزة. فإنّ عمليّة التجريد تعمل على تفكيك الظاهرة الإنسانيّة وإعادة تركيبها وفق المرجعيّة، وفي العلمانيّة الشاملة فإنّ عمليّة التجريد تتمّ وفق المرجعيّة الكامنة المادّيّة.

والتفكيك إذا هو جزء من عمليّة التجريد، فهو يحظى بأهمّيّة كبيرة في تفسير المسيري للعلمانيّة؛ إذ يعدّ مفهومّا ناظمًا للأنطولوجيا الغربيّة، وكذلك آليّة حركيّة تطوّر العلمانيّة نظريًّا وعمليًّا، فعمليّة التجريد وإن كانت هي الأخرى مفهومًا ناظمًا يعمل عمل التفكيك نفسه، إلّا أنّ هذا الأخير سيوضح أكثر معنى التجريد وفق المرجعيّة المادّيّة الكامنة.

وللتفكيك استعمالان؛ الأوّل عامّ، والثاني هو الأكثر تداولًا في الفلسفة المابعد حداثيّة، والأوّل هو ««التفكيك» بالمعنى العامّ، هو فصل العناصر الأساسيّة في بناء ما بعضها عن بعض، بهدف اكتشاف العلاقة بين هذه العناصر والثغرات الموجودة في البناء واكتشاف نقاط الضعف والقوّة»[21]، وهذه أداة تحليليّة لا تحمل أيّ أعباء أيديولوجيّة وتتلازم مع التركيب، ولكن إن تمّ التفكيك ضمن الإطار المادّيّ، فسيتمّ تفكيك الإنسان بردّه إلى ما دونه، أي إلى الطبيعيّ، ومن هنا ندخل إلى الاستخدام الثاني: وهو التفكيك كتقويض؛ إذ يقول: «ونستخدم أحيانًا كلمة «يفكّك» بمعنى يردّ ما هو إنسانيّ إلى ما هو دون الإنسانيّ «أي المادّيّ/الطبيعي»، باعتبار أنّ الإنسان في منظور البعض إن هو إلّا مادّة، وعمليّة التفكيك هنا هي أيضا عمليّة «تقويض»» [22] ومعنى ذلك اختزال الإنسان في بعده الطبيعيّ/ المادّيّ، ونزع أيّ أبعاد متجاوزة لحدود الطبيعة عنه، وإلغاء حدوده حتّى يتحوّل إلى كائن طبيعيّ، وهذه العمليّة خاصّة بالعلمانيّة الشاملة، وهي: «عمليّة الانتقال من العلمانيّة الجزئيّة إلى العلمانيّة الشاملة»[23]، فهي حلقة الوصل التي تشكّل الجسر الذي ينقل العلمانيّة داخل الحضارة الغربيّة من مرحلة تكون فيها جزئيّة إلى مرحلة أكثر شمولًا لتصل إلى مرحلة السيولة حينما تقوض الطبيعة ذاتها لصالح الصيرورة المطلقة.

وعليه فإنّ التجريد والتفكيك وفق نموذج العلمانيّة الشاملة هما تقويض للإنسان، ويظهر التجريد فيما يسمّيه بالترشيد المادّيّ والعلمنة.

ب 2- نزع القداسة والنسبيّة المطلقة: تفكيك الإنسان وتقويض إنسانيّته له علاقة بنزع القداسة وهذه الأخيرة تقود إلى النسبيّة المطلقة، وقبل أن نطلع على مفهوم نزع القداسة لا بدّ من معرفة مفهوم القداسة أوّلًا.

والقداسة يربطها المسيري بأمر معيّن يكون مقدّسًا، ويطلق عليه لفظة «شيء»، إذ يقول «الشيء المقدّس يتمّ فصله عما حوله ويحاط بمجموعة من المحرّمات الطقوسيّة بحيث لا يقترب الموجود العاديّ من الشيء المقدّس إلّا إذا قام بطقوس تمهيديّة وتطهريّة تؤهّله للاتصال به، وهذا يعود إلى أنّ الشيء المقدّس يشير إلى المبدأ الواحد مصدر التماسك والوحدة»[24]، وهذا التعريف يظهر المقدّس في علاقته مع العاديّ الذي هو الدنيويّ أو الزمانيّ، ولا ينفي المسيري وجود صلة بينهما، بل ثمّة ترتيبات تطهّريّة للعاديّ تمنحه القدرة على التواصل مع المقدّس، هذا من جهة ومن جهة ثانية يضع المقدّس على أنه هو مصدر التماسك والوحدة، ومعناه الذي يرد إليه كلّ شيء، أي الذي يتصف بالألوهية.

وما يلاحظ هنا هو مخالفة المسيري لمفهوم المقدّس عن المفاهيم الغربيّة، والتي من بينها تعريف روجيه كايوا في كتابه «الإنسان والمقدّس»، حيث يحدّده بقوله: «إنّ أيّ تصوّر دينيّ للعالم يفترض التمييز بين المقدّس(Sacré) والدنيويّ(Profane)، على قاعدة التعارض القائم بين عالم يتفرّغ فيه المؤمن لأعماله بحرّيّة ويمارس نشاطًا لا تأثير له على خلاصه الأبديّ...»[25]، ويضع هذا التعريف التعارض على أساس أنّه يمثّل التعارض الطاهر والنجس والخير والشر، إذ يقول: «ما يجدر الإشارة إليه هو أنّ مقولتي الطاهر والنجس لا تدلّان على تعارض خلقيّ في الأصل، بل على قطبيّة (Polarité) دينيّة، إنّهما تمارسان في عالم المقدّس دورًا شبيها بذلك الذي يمارسه مفهوما الخير والشر في المجال الدنيويّ»[26] ولعل مرد اعتبار التعارض هو الأصول المسيحيّة وفلاسفة الأنوار[27].

ومن هنا فإنّ نزع القداسة تنبع من الرؤية الحلوليّة المادّيّة، والتي يسمّيها المسيري «العقلانيّة المادّيّة»، حيث يعرفها بقوله: «هي الإيمان بأنّ الواقع المادّيّ يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى وحي أو غيب، وأنّ هذا الواقع يشكّل كلًّا متماسكًا مترابطة أجزاؤه برباط السببيّة الصلبة والمطلقة...»[28] ومادام العالم لا يحتاج إلى المتجاوز، وكلّ شيء يحلّ في المادّة، فإنّ كلّ الأشياء متساوية، وعليه فلا قداسة لها، وهنا تغيب المعياريّة والغائيّة الإنسانيّة، إذ ستختفي الثوابت والمطلقات مع اختفاء الحدود والمحرّمات.

وكِلا المفهومين أي تفكيك الإنسان وتجريده ونزع القداسة عن العالم، يعملان على تنحية الإنسان من مركزه الكونيّ بعدما كان متألّهًا وتحويله إلى المادّة بحيث يكون فيها جزء لا ينفصل ولا يختلف عن باقي الأجزاء ويلخّص ذلك بقوله: «ومن كلّ هذا استخلصت نموذجًا يمكن تلخيص ملامحه في صياغة بسيطة جدًّا: العلمانيّة تعني ثمّة انتقالًا[انتقال] من الإنسان الطبيعيّ إلى الطبيعيّ/المادّيّ، أي من التمركز حول الإنسان إلى التمركز حول الطبيعة، أي الانتقال من تأليه الإنسان وخضوع الطبيعة إلى تأليه الطبيعة، وإذعان الإنسان لها ولقوانينها ولحتميّاتها»[29]، وذلك من خلال تفكيك الأبعاد المتجاوزة واختزال الإنسان في بعده المادّيّ، ثمّ اختزال الإنسان  ذاته في بعده الطبيعيّ/المادّيّ.

وبهذا فإنّ مفهوم العلمانيّة يحيط بمجموعة كبيرة من المفاهيم المطروحة في الحضارة الغربيّة والتي تنقسم إلى قسمين هما: «القسم الأوّل يضمّ المصطلحات التي تؤكّد الوحدة بين الطبيعيّ والمادّيّ من جهة، وتشير إلى استيعاب الإنسان في منظومة الطبيعيّة/المادّة والواحديّة المادّيّة وإعادة صياغته على هديها (التطييع، التحييد، هيمنة النماذج البيوقراطيّة والكمّيّة، المجتمع التقنيّ أو التكنوقراطيّ، المجتمع مابعد الصناعيّ، العقل الأداتيّ)، ثمّ أضفت لها تلك المصطلحات التي تصف ثمار عمليّة الاستيعاب هذه (العقلانيّة التقنيّة أو المادّيّة، الحوسلة التعاقديّة، الإنسان ذو البعد الواحد، التسلّع، التوثّن، التشيّؤ، التنميط)»[30] وهذه كلّها مفاهيم نقديّة واحتجاجيّة للحضارة الغربيّة ولمشروعها الحداثيّ يظهر أغلبها عند كلٍّ من ماكس فيبر وكارل ماكس ومدرسة فرانكفورت، وهي تنتهي عند تفكيك الإنسان ونزع القداسة عنه وتحويله إلى مادّة استعماليّة، وأمّا «القسم الثاني من المصطلحات فيضمّ تلك المصطلحات التي تشير إلى تفكيك الإنسان واختفائه (التفكيك والتقويض، نزع القداسة، نزع السرّ عن الظواهر، تجريد الإنسان من خصائصه الإنسانيّة، إزاحة الإنسان عن المركز، إسقاط السمات الشخصيّة، الداروينيّة الاجتماعيّة، الاغتراب، اللامعياريّة)»[31]، وهذه كلّها مفاهيم تعمل على فصل القيم الإنسانيّة وتفكيكها؛ ما يؤدي إلى انتشار النسبيّة واللامعياريّة وانتفاء المقدّس والحدود، لتحلّ المادّة محله، وهي أفعال تفكيكيّة ترتدّ إلى انتشار عدد كبير من المصطلحات المتداولة في الغرب، خاصّة في مرحلة ما بعد الحداثة.

جـ- العلمانيّة والإمبرياليّة:
ويرتبط مفهوم العلمانيّة المادّيّة الشاملة بمفهوم آخر، وهو الإمبرياليّة من زاوية أنّ لهما الرؤية المعرفيّة نفسها؛ ولهذا يقول المسيري: «وبسبب هذا الترادف أو التوحّد أو التلازم بين الرؤية المعرفيّة العلمانيّة والرؤية الإمبرياليّة، فإنّنا نشير إليهما باعتبارهما الرؤية المعرفيّة العلمانيّة الإمبرياليّة»[32]، والرؤية المعرفيّة العلمانيّة التي ألغت الإله من ثمّ الإنسان، وأحلّت محلّ ذلك النسبيّة الأخلاقيّة، ونزعت القداسة عن الإنسان، فإنّه لا بدّ وأن يتحوّل إلى مجرّد وسيلة أو وظيفة يمكن توظيفها كيف ما يشاء، وهنا يظهر الإنسان الغربيّ الذي يحوّل العالم إلى مجرّد وسيلة، وقد عبّر المسيري عن ذلك بمصطلح قام بسكّه وهو «حوسلة»، وهي نفسها الرؤية الإمبرياليّة، فالإمبرياليّة حوسلت الإنسان واختزلته في بعده الوظيفيّ وذلك من خلال عمليّتين هما: الدولة القوميّة من الداخل والاستعمار في الخارج[33].

وما يزيد الترابط بين العلمانيّة والإمبرياليّة الفلسفة الداروينيّة وهنا يقول: «الفلسفة الداروينيّة تشكّل اللبنة الأساسيّة في الرؤية الغربيّة الحديثة للعالم، وقد شكّلت هذه الفلسفة المادّيّة الإطار المعرفيّ لما نسمّيه الرؤية المعرفيّة العلمانيّة الإمبرياليّة»[34]، الداروينيّة في المقام ليست مجرّد فرضيّة علميّة، وإنّما فلسفة تعبّر عن رؤية أنطولوجيا للإنسان من زاوية أنّه حيوان يعيش داخل عالم من الصراع تتحدّد وفقه تراتبيّة للكائنات تقوم على مبدأ القوّة، حيث «تصبح مشروعيّة «القوّة» بمثابة الأساس الذي يقوم عليه الاستعمار، باعتبار أنّ القوّة هي وسيلة النشاط المفضلة، وهي الشرط الضروريّ للتطوّر البشريّ»[35] وعلى هذا التطوّر تتحدّد كائنات بشريّة فوقيّة وأخرى دونيّة، والأولى تملك وتستغلّ وأخرى دنيا تُستغلّ. ويردّ المسيري فعاليّة هذه الفلسفة على المستوى الواقعيّ لاعتبار ظهور النسبيّة الأخلاقيّة وفقدان المعيار؛ ولذلك لا بدّ من الاتجاه إلى معيار مادّيّ غير إنسانيّ.

استنادًا إلى ما سبق فإنّ تصوّر المسيري للنموذج المعرفيّ يتميّز بخاصّية الاستيعاب والتجاوز، فهو تارة يأخذ من الفلسفات الغربيّة ذاتها مثل الماركسيّة ومدرسة فرانكفورت، وخاصة ماكس فيبر وغيرهم من الفلاسفة، ولكن قام باستيعاب كلّ أطروحاتهم ضمن أطروحته المتمثّلة في مجلدي العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشاملة، وقد تحوّلت أطروحته هذه أداةَ تجاوز للأطروحات السابقة من خلال عمليّة الربط فيما بينها؛ ليتجاوزها إلى النموذج المعرفيّ الغربيّ ممثلَّا في العلمانيّة الشاملة، ولكن حتّى في عمليّة التجاوز التي يظهر أساسها المعرفيّ والإنسانيّ السابق الذي يحضر بشكل كامن غير ظاهر، فعندما يتحدّث عن نزع القداسة وتفكيك الإنسان من زاوية تقويض البعد القيميّ، فهذا التصوّر يرجع إلى مفهوم المسيري للإنسان الذي يملك بعدًا يتجاوز البعد المادّيّ وإرجاع المسيري نفسه العلمانيّة الشاملة إلى البعد الجنينيّ كما فعل مع الحلوليّة المادّيّة لها تصوّرات أصيلة في فكر المسيري.

خلاصة: المفاهيم التي يستعملها المسيري كلّها مترادفة في سياقين هما:
أ- السياق المعرفيّ: فعندما يتحدّث عن رؤية أنطولوجيا مادّيّة، فإنّ الترادف يكون دائرًا بين الحداثة والحلوليّة المادّيّة والعلمانيّة الإمبرياليّة الشاملة، وهذه المفاهيم بالرغم من ترادفها، إلّا أنّ طريقة توظيفها مختلفة، فعندما يتحدّث عن حلول الإله في مخلوقاته وتحوّل الإنسان أو الطبيعة إلى المطلق الذي يمنح العالم تماسكه، فهو هنا بصدد استعمال الحلوليّة المادّيّة، ولكن عندما يستعمل مرحلة تاريخيّة محدّدة من الحضارة الغربيّة فهو في تلك الحالة يتحدّث عن الحداثة كرؤية، وليس كمشروع يقوم على تلك الرؤية الكونيّة، في حين أنّه عندما يتحدّث عن النموذج المعرفيّ للحضارة الغربيّة الحديثة في جوهره المتمثّل في تفكيك الإنسان ونزع القداسة، وبالتالي هدم جميع القيم الإنسانيّة التي ترتبط أساسا بفكرة الإله، فهو هنا يتحدّث عن العلمانيّة الشاملة.

ب- السياق التطبيقيّ: وهو تحوّل الرؤية المعرفيّة إلى إطار تتمّ داخله الإجراءات والمشاريع الحضاريّة المختلفة، فإنّ الترادف يكون بين «التحديث» و«العلمنة» وكذلك الترشيد في الإطار المادّيّ.

وفحوى الترادف هو الحديث عن عمليّة تفكيك مستمرّة عبر التاريخ تمارسها كلّ من العلمنة والتحديث، إلّا أنّ ثمّة اختلافًا بحسب سياق الاستعمال، فالتحديث مرحلة تاريخيّة تبدأ من عصر النهضة إلى غاية ظهور الأزمة الغربيّة مع الحرب الغربيّة الأولى، أمّا العلمنة فتستمر حتى في مرحلة ما بعد الحداثة.

وإذا قمنا بعمليّة تركيب بسيطة بين المفاهيم التي صوّر بها الحداثة الغربيّة، فإنّنا نجده يحدّدها في عنصرين هما: الرؤية والمشروع، أمّا الرؤية فتتمثّل في العلمانيّة الإمبرياليّة والتي تتأسّس على الحلوليّة المادّيّة، وأمّا المشروع فيتمثّل في جملة البرامج والآليّات التي تمّ بها الرؤية لتعرف طريقها نحو التحقّق الفعليّ والتاريخيّ.

ومن هنا فإن الحداثة الغربيّة ما هي في جوهرها سوى رؤية علمانيّة مادّيّة شاملة، وهذه الأخيرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإمبرياليّة لدرجة أنّه وصف الرؤية بأنّها علمانيّة إمبرياليّة، وهما، أي العلمانيّة والإمبرياليّة، تتأسّسان على سند فلسفيّ والذي يتمثّل في الداروينيّة، وهنا يخلص المسيري إلى أنّ الحداثة الغربيّة هي حداثة داروينيّة.

ثانيًا: الحداثة الغربيّة بوصفها تطوّرًا تاريخيًّا:
لتحليل تاريخ تطوّر الحداثة الغربيّة يتّجه المسيري نحو الاستعانة بفكرة الحضارة باعتبارها مقولة تحليليّة، تقدّم له تفسيرًا يضع الحداثة في إطار مجراه التاريخيّ، وهو هنا يؤكّد على الاختلافات الجوهريّة بين الحضارة الغربيّة وغيرها من الحضارات، وأول مقدّمة يفرضها التحليل هي رفض عالميّة الحضارة الغربيّة، والإقرار بخصوصيّتها وهنا يقول: «إذا كان الغرب قد تحوّل إلى مطلق، فيجب أن يستعيد نسبيّته و تاريخيّته وزمنيّته، وإذا كان يشغل المركز، فيجب أن يصبح مرّة أخرى عنصرًا واحدًا ضمن عناصر أخرى تكوّن عالم الإنسان، وإذا كان يعتبر نفسه عالميًّا وعامًّا، فيجب أن نبيّن خصوصيّته و محليّته....»[36].

ويأتي تأكيد المسيري على خصوصيّة الغرب من زاويتين؛ الأولى: والتي تتمثّل في الأساس الأنطولوجيّ ممثّلًا في نقطتين مهمّتين، تتعلّق إحداهما بمفهوم الإنسانيّة المشتركة، والثانية بالبعد الحضاريّ كأحد أهمّ العناصر المعبّرة عن تجاوز الإنسان للطبيعة/المادّة، فالإنسانيّة المشتركة ترفض التصوّر القائل بالإنسانيّة الواحدة، فهذه الأخيرة تؤكّد على أنّ: «...هناك إنسانيّة واحدة، ترصد كما ترصد الظواهر الأخرى، وبأنّ الناس كيان واحد وإنسانيّة واحدة خاضعة لبرنامج بيولوجيّ ووراثيّ واحد...»[37].

أمّا بالنسبة للزاوية الثانية، فهي تتّجه نحو الاختلافات الجوهريّة الواقعيّة، على خلاف الزاوية الأولى، التي تبدو أنّها نظريّة، تبدأ من تصوّر مجرّد، في حين أنّ الزاوية الثانية تتّجه أساسًا إلى الواقع؛ إذ يقول: «وحتى حينما نهبط إلى المستوى المحسوس، سنجد أنّ الحضارة الغربيّة لها وجود محدّد، فنحن إن وضعنا تاريخنا ونظمنا الاقتصاديّة والسياسيّة بجوار تاريخهم ونظمهم، فإنّنا سنكتشف على التو أنّ ثمّة فروقًا جوهريًة بيننا وبينهم...»[38]، فهذه المقارنة بين التاريخ الإسلاميّ، والتاريخ الغربيّ، تظهر الاختلاف بين الحضارتين فعندما نشأت حضارتنا وفي أثناء ازدهارها كان الغرب يعيش في عصر الظلمات، ولما بدأت نهضته تشرق، أخذت أيّام زهو حضارتنا تخفو وتسقط.

من هنا يتّضح أنّ الحضارة الغربيّة لها تاريخ خاصّ وهويّة خاصّة تميّزها عن باقي الحضارات الأخرى، وهنا لا بدّ أن نتطرّق إلى مراحل تاريخ الحضارة الغربيّة حسب تصوّر المسيري.

وتصوّر المسيري لتاريخ الحضارة الغربيّة يتّجه أساسًا إلى تاريخ الحداثة ومآلها، وهذا راجع لكونه يبحث عن تكوين هذا النموذج والعناصر التي دخلت فيه، وحدّدت صفاته وسماته، ويتحدّد تاريخ تكوين النموذج الغربيّ ابتداء من عصر النهضة الغربيّة إلى يومنا هذا حيث يقول: «بدأ هذا النموذج في التكوين في عصر النهضة ووصل إلى قدر كبير من التحقّق، وربما الاكتمال في منتصف القرن التاسع عشر، وبدأت ملامح أزمته تظهر بعد الحرب الغربيّة (العالميّة) الأولى. وقد حاول حلّ هذه الأزمة عن طريق الإمبرياليّة المباشرة في بداية الأمر، ثمّ عن طريق الاستعمار الجديد وتشجيع الاستهلاكيّة الحادّة في الداخل»[39].

وهذا النصّ يحدّد المحطّات الكبرى للحداثة الغربيّة، ابتداء من تكوّنها إلى مرحلة اكتمالها وانتهاء إلى مآلها، وتظهر هذه المحطّات كتعبير عن مسار متكامل للتاريخ، مقدّمته تقود إلى نهايته، ولكن بالرغم من هذه الصورة المتكاملة للتاريخ يعمل على تقسيم التاريخ الغربيّ الحديث إلى قسمين، وهما: التحديث وهي مرحلة الصلابة، وما بعد الحداثة وحالة السيولة العارمة، وبين الصورة المتكاملة، والتقسيم الذي يظهر التاريخ كأنه وحدات متقطّعة تظهر مفارقة التصوّر والواقع، ويقول في هذا السياق: «ومع هذا يجب أن نشير إلى أنّنا ندرك تمامًا أنّ الظواهر التاريخيّة، بكلّ أنواعها و تركيبها، لا يمكن اختزالها ببساطة إلى مرحلتين، وأنّ التقسيمات بسيطة ومغرية. ورغم أنّنا قسمنا تاريخ الحضارة الغربيّة  (العلمانيّة) الحديثة إلى قسمين اثنين (مرحلة التحديث الصلبة التقشفية ومرحلة ما بعد الحداثة السائلة الفردوسيّة)، فإنّنا ندرك تمامًا أنّ تقسيماتنا هي وسيلة تفسيريّة وحسب، وليس لها أيّ وجود مادّيّ»[40]، ومن هنا فإنّ التقسيم هو وسيلة إدراكيّة تخضع لعمليّة الاختبار من حيث المقدرة التفسيريّة.

ويغلب على جلّ كتابات المسيري هذا التقسيم الثنائيّ، وإن كان يطرحه بعبارات مختلفة، الحداثة وما بعد الحداثة، المادّيّة الصلبة والمادّيّة السائلة، العلمانيّة الشاملة الصلبة والعلمانيّة الشاملة السائلة، ولكن في كتابه «دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة» يضع تقسيمًا ثلاثيًّا، ولكنّه لا يخرج عن إطار التقسيم الثنائيّ؛ إذ في مرحلة الحداثة يضع تقسيمين هما: مرحلة التحديث والحداثة، وقد وضع تعريفًا لكلّ مرحلة وهو:

أ- مرحلة التحديث: في هذه المرحلة ظهر المشروع التحديثيّ، وكلمة مشروع «بمعنى أنّه رؤية للواقع وبرنامج لإصلاحه في ضوء معتقدات محدّدة»[41]. وتتميز هذه المرحلة كذلك بأنّ الإنسان الغربيّ كان متفائلًا بمشروعه، الذي يمتدّ من عصر النهضة إلى غاية الحرب العالميّة الأولى[42].

ب- مرحلة الحداثة: وهي مرحلة تقع بين مرحلتين، وهنا يقول: «في الواقع توجد مرحلة بين المرحلتين وأسمّيها مرحلة الحداثة، وهي المرحلة التي أدرك الإنسان الغربيّ فيها أنّ عصر التحديث البطوليّ قد ولّى وانقضى....»[43]، ويسمّي هذه المرحلة بالحداثة الاحتجاجيّة على مشروع الحداثة أي على المرحلة اللاحقة عليها، وهي تمتدّ من الحرب العالميّة الأولى إلى غاية منتصف الستينات، أي حتّى سنة 1965.

جـ - مرحلة ما بعد الحداثة: وهذه المرحلة تبدأ من سنة 1965 إلى يومنا هذا، وتحديد البداية لا يعبّر عن حادثة تاريخيّة ملموسة ومحدّدة بشكل دقيق، وإنّما هو «نقطة تركّز تقع داخل متّصل طويل، بعد عام 1965 بدأت النتائج السلبيّة بتساقط المعياريّة في الظهور....»[44]، ومعنى ذلك أنّ منتصف الستينات كان أوّل بداية لهدم المعيار و المركز، حيث يصبح كلّ شيء مائعًا لا لون له ولا رائحة أي في حالة السيولة.

وعليه فتاريخ الحداثة مرتبط بالحضارة الغربيّة بوصفها نتاجًا بشريًّا خصوصيًّا، لا ينطبق على البشريّة بوصفه عالميًّا بقدر ما أنّه ينطبق على حالة واحدة في التاريخ وهي الحضارة  الغربيّة. من هنا يتّضح لدى المسيري خصوصيّة الحداثة في الغرب وخصوصيّة الحداثة الغربيّة في الداروينيّة، أي أنّ الحداثة كمصطلح لا يستقيم إلّا بتوصيفين هما الغربيّة وهذا توصيف تاريخيّ حضاريّ، وأما الثاني فهو قيميّ أي الداروينيّة.

ثالثًا: نقد الحداثة الغربيّة :
 إنّ نقد المسيري للحداثة الغربيّة لا يأتي من الخارج بقدر ما هو تحديد لمفارقات النموذج العلمانيّ المادّيّ، والتي تظهر في تلك الهوّة السحيقة بين المنطلق وآماله والنهاية وأحزانها، أو بين التضارب بين الطيّب والخبيث، ولكن المفارقة لا تغني عن نقد آخر، وهو الآخر يتميّز بالعمق في الطرح، والذي يتجلّى في البحث عن الأصيل والهامشيّ، أي أيّهم أصيل في الغرب، الظلمة أم الاستنارة؟ ولهذا يمكن أن نجمل نقد المسيري فيما يلي:

1- جدل الموجب والسالب أو المستنير والمظلم: داخل الواقع الحضاريّ الغربيّ هنالك ما يثير الإعجاب، وهنالك ما يحثّ في النفس الشعور بالغثيان، فتارة يظهر التنظيم الإداريّ المحكم، والمؤسّسات البيروقراطيّة القويّة، والإنتاج العلميّ الوفير، وهذا ما يتماشى مع إحساس الإنسان الغربيّ بالاغتراب عن ذاته، فيظهر من ذلك الجريمة والانتحار والمخدّرات والشذوذ الجنسيّ والإباحيّة، ناهيك عن تدمير وفتك بالطبيعة، وحربين غربيّتين (عالميّتين) أتت كلّ واحدة منها على الأخضر واليابس، وأتبعتها ظهور أسلحة الدمار الشامل.

هنا يطرح السؤال نفسه أيهما أصل: هل الجانب المستنير في الحضارة الغربيّة أم الجانب المظلم؟ وأيّهما أسبق؟ وهل يردّ البعد المضيء والنيِّر إلى المظلم أم العكس؟ وهذه الأسئلة هي محور جدل كبير بين دعاة الاستنارة الغربيّة ورافضيها في الفكر العربيّ المعاصر، وهذا الجدل يتراوح بين الأصل والفرع، وبتعبير الفلاسفة المسلمين الأوائل، ما هو جوهريّ ثابت، وما هو عرضيّ أو عارض.

نجد أنّ المسيري يؤكّد على جوهريّة البعد المظلم وعرضيّة البعد المنير في الحضارة الغربيّة، وسرّ التأكيد على ذلك يرجع إلى البعد النظريّ ممثّلًا في حركة الاستنارة، وجدل الاستنارة المظلمة والاستنارة المضيئة وثانيًا إلى التحقّقات الواقعيّة لفكر حركة الاستنارة، فمن المنطقيّ أنّه إذا كان الأصل هو الاستنارة المظلمة، فلا بدّ وأن يكون التحقّق الواقعيّ الأصل فيه أنّه ظلاميّ حتى لو ظهرت بعض الأبعاد المنيرة.

 ولتبيان ذلك يرصد المسيري بعض المظاهر الإيجابيّة للحداثة الغربيّة ومشروعها التحديثيّ، ونورد ذلك من باب الإشارة وليس التفصيل، إذ لن يفيدنا ذلك كثيرًا في فهم مقصد مفكّرنا، فإبداعيّة الحضارة الغربيّة تبرز في مؤسّساتها الرشيدة، وقدرتها على توظيف أحسن الوسائل لبلوغ الغايات، إضافة إلى الحقوق السياسيّة، وإنشاء مفهوم المواطنة، واستقلاليّة المرأة، إلى تطوير مناهج البحث العلميّ، والقدرة على الكشف عن مواطن الضعف والخطأ وتصحيحها، وغير ذلك، لكن سرعان ما يتساءل عن مصدر تحقّق كلّ هذه النجاحات، ثم ما تكاليف كلّ هذا النجاح؟

ويظهر أنّ كِلا السؤالين يتمحوران حول المنطلق أو المصدر والمآل، وتكلفة النجاح، ومن هنا يبرز ما يسمّيه بالنقد الكلّيّ، وهذا حتّى يتسنّى له أن يقدّم منظورًا كلّيًّا يحيط قدر المستطاع بالظاهرة الغربيّة، وهنا يتجلّى مفهوم النقد الكلّيّ.

ويردّ المسيري سبب نجاح الغرب إلى ظاهرة الإمبرياليّة، إذ يقول: «ولعلّ من أهمّ أسباب «نجاح» النموذج الحضاريّ الغربيّ هو الإمبرياليّة الغربيّة التي حقّقت مستوى معيشيًّا مرتفعًا للإنسان الغربيّ ومكّنته من تشييد بنية تحتيّة مادّيّة قويّة، كما أنّها ساعدته على تصدير مشاكله الاجتماعيّة والمادّيّة إلى الشرق»[45]، وهذا النصّ يلخّص لنا فيه كاتبه سرّ نجاح النموذج الغربيّ على المستويّين الداخليّ والخارجيّ؛ إذ من الداخل تمّ تجييش الشعب، وذلك من خلال علمنة المسيحيّة، أي استبعاد البعد الإلهيّ (المتجاوز)، وأمّا في الخارج، فكانت تحرّكهم الأيديولوجيا الداروينيّة باسم الإنسان الأعلى، الذي يحقّ له امتلاك كلّ شيء، والإنسان الأدنى لا بدّ أن يكون تابعًا خاضعًا له، وهذا ما يعطي مشروعيّة للتحرّك نحو استدمار الشعوب الأخرى، ومن هنا تسنّى للغرب أن ينهب العالم ويستعبد شعوبه.

أمّا بالنسبة للمآل أو النتائج والتكلفة، فتظهر في عدّة مجالات منها البيئيّة والإنسانيّة على حدّ سواء، ولعلّ أبرزها اللحظة النازيّة التي يقولها عنها: «ومع هذا، يمكن أن تكون لحظة نادرة هي أيضًا اللحظة النماذجيّة التي يكشف فيها النموذج الحضاريّ والمعرفيّ عن وجهه القبيح، ويمكن إنجاز هذا بالنسبة للنازيّة إذا وضعت في إطار نظريّات التفاوت العرقيّ، والداروينيّة الاجتماعية التي شكّلت الإطار العقائديّ للتشكيل الاستعماريّ الغربيّ...»[46]؛ إذ تكشف النازيّة الوجه المظلم للحضارة الغربيّة، والذي يتجلّى في إبادة الإنسان.

وعليه فإنّ البعد المظلم هو الأصل، أمّا البعد المنير فهو الفرع، تمامًا كما تحدّث في ذلك عن جدل الاستنارة المضيئة والمظلمة، فهذه الأخيرة هي الأصل والأخرى ما هي إلّا فرع لها.

وبهذا فإنّ الصلة الرابطة بين النموذج المعرفيّ والتحقّق الواقعيّ تكمن في إقناع النموذج العلمانيّ المادّيّ، والذي يصدر عن نزعة نفسيّة أصليّة في الإنسان، والتي تعبّر عن البعد الطبيعيّ مع استبعاد للبعد الربّانيّ، مما يؤدّي بالإنسان إلى التماهي مع الكلّ وإلغاء المسؤوليّة، وكذلك تقديم تفسيرات سهلة أحاديّة البعد، هذا القبول تدعّم بالنجاحات والمكاسب المادّيّة التي حقّقها الغرب، مما جعلهم ينسون البعد المظلم من ذلك، والذي لم يتمّ الانتباه إليه إلّا من خلال أزمة الحضارة الغربيّة والتي أشار إليها شبينجلر وتوتنبي وقبلهما ماركس وغيرهم، ولكن المشكلة ليست في الانتباه إلى الظلمة، وإنما في تحديدها والتعامل معها، ومن هنا ظهرت حسب المسيري ثلاث تيّارات غربيّة وهي تتحدّد في قوله: «...فهناك التقدميّون ممن طرحوا برنامجًا إصلاحيًّا، ثمّ هناك المأساويّون الذين أدركوا المأساة، فتقبّلوا الوضع ولم يأتوا بحلّ، وهناك أخيرًا العدميّون البرجماتيّون ممن قبلوا الظلمة باعتبارها أمرًا نهائيًّا لا بدّ من الإذعان له....»[47]، أمّا التقدّميّون فقد قرّروا أنّه من الممكن التصدّي للأبعاد الظلاميّة ومواجهتها والتقدّم نحو الأفضل، ويمثّلها كلّ من كارل ماركس من خلال تأكيده على أنّ تناقضات المجتمع البرجوازيّ لا بّد من إنهائها من خلال الدولة الاشتراكيّة للانتقال إلى المرحلة الشيوعيّة التي يسود فيها مجتمع عادل تتحقّق فيه المساواة، والأمر نفسه بالنسبة إلى دوركايم، هو الآخر أكّد على إمكانيّة حلّ أزمة الحضارة الغربيّة من خلال تحسين البيئة الاجتماعّية، في حين أنّ المأساويّين - وهنا يصنّف المسيري عالمي الاجتماع جورج زمل وماكس فيبر اللذان أثّرا على الجيل الأوّل لمدرسة فرانكفورت - رأوا أنّ الحلّ غير موجود، وبالتالي على الغرب أن يواجه قدره المحتوم والمظلم، أمّا آخر توجّه فقد علموا بالظلمة ورحّبوا بها وتفاعلوا معها على أنّها حقيقة وجب التكيّف معها وهؤلاء هم المابعد حداثيّين وعلى رأسهم جاك ديريدا.

هذه العمليّة التصنيفيّة مهمّة جدًّا بالنسبة للمسيري؛ إذ سمحت له باستثمار الممارسات النقديّة لهذه التوجُّهات وتركيبها، خاصّة وأنّه لا ينكر تأثّره بها، إذ يقول: «ونقدي للحداثة الغربيّة، متأثّر إلى حدّ كبير بالنقد الغربيّ لهذه الحداثة....»[48]، وهذا ما يقودنا إلى التساؤل كيف أستعمل واستثمر التراث المعرفيّ الغربيّ الممثّل في الممارسات النقديّة؟.

2- مفارقة المشروع التحديثيّ بين المثال والواقع: لقد انتبه المسيري إلى مفارقة الغرب في باكاورة احتكاكه معه، إذ يروي في العديد من مؤلّفاته، خاصّة منها «رحلتي الفكريّة»، و«الحداثة وما بحداثة» وغيرها خلاصة التناقض الذي عايشه هنالك في الولايات المتّحدة الأميركيّة وقد صرّح قائلًا: «وبدأت ألاحظ بعض التناقضات الأساسية...فبينما يتحدّثون عن أن الحضارة التكنولوجيا ستأتي بالسعادة للإنسان، وأنّها ستشيد له فردوسًا أرضيًّا، نجد أنّ الأدب الحداثيّ في الغرب يتحدّث عن (الأرض الخراب) التي خّلفها التقدّم التكنولوجيّ وعن عبثيّة الحياة في العصر الحديث، ونجد علم اجتماع الغربيّ يتحدّث عن التنميط وسيطرة النماذج الكمّيّة على المجتمع وعن التسلّع والتشيّؤ»[49]، وهذا النصّ يعبر عن مفارقة الغرب، في حين أنّه كان يبشّر بالتقدّم، ليجد نفسه يتحدّث عن اللاعقل والجريمة، وعن السوق بدلًا من الإنسان وحقوقه، وبدلًا من القضايا العادلة جميعها، كما أنّه تمّ رصد الكثير من النتائج السلبيّة للمشروع الغربيّ ككلّ، ومن هنا اتجه المسيري إلى الاستعانة بالترشيد المادّيّ لماكس فيبر قصد استثماره في إطار رؤية المسيري النقديّة للحضارة الغربيّة، والتي تجد نفسها في أساسه الأنطولوجيّ المعبَّر عنه بالرؤية الإنسانيّة الإسلاميّة والذي انبثق عنه تصوّر مناقض تجلّى في رؤيته للمادّيّة.

ويتجه إلى التحقّق الواقعيّ لنموذج العلمانيّة الذي يسمّيه بمسمّيين وهما العلمنة والترشيد في الإطار المادّيّ، وهذه الأخيرة ترجع في أصولها إلى عالم الاجتماع الألمانيّ ماكس فيبر.

خلاصة:
إذا حاولنا أن نلخص نقد المسيري، فإنّه لا بدّ وأن نحدّد سؤاله، والذي كان يتمحور حول مفارقة المشروع الحداثيّ الغربيّ؛ إذ مثاليّته المأمولة تحوّلت في أرض الواقع إلى ديستوبيا مدمّرة هالكة للحرث والنسل، فكّكت الإنسان وأتت على الطبيعة بتلوّث لم يُرَ مثله في التاريخ من ثقب الأوزون، ومشكلة النفايات التي يصعب على الطبيعة تدويرها وانتهاء إلى الاحتباس الحراريّ وتلوّث المحيطات.

ونقد المسيري للحضارة الغربيّة الذي خيّب آمال اليوتوبيا الغربيّة ومثاليّاتها الحالمة وتحديد الطبيعة المفارقة مقارنة بنموذجها الأصليّ، من زاوية أنّها إمّا أن تكون مجرّد انحراف عن الأصل، والحلّ هو إعادة تقويم الإعوجاج أو أنّه جزء لا يتجزّأ من المنظومة الغربيّة وهو جزء أصيل فيها.

وما انتهى إليه المسيري هو أنّه جزء من منظومة الغرب المعرفيّة، ودليل ذلك الانسجام الحاصل بين تفكيك أنطولوجيا الإنسان مع التحقّقات الواقعيّة، التي تظهر في الترشيد المادّيّ الذي قام بتشكيل مجتمع لا يختلف عن السوق/المصنع أي أنّه حوسله، وقام كذلك بحوسلة الفرد داخل هذا المجتمع الذي انتهى إلى الاستهلاكيّة.

وأبرز ما يدلّ على تحطيم مركزيّة الإنسان هو الترنسفير، فالحضارة الغربيّة الأولى من نوعها من حيث إنّها تمجّد التغيير بدلًا من الثبات، وقد تحّول إلى مظهر أساسيّ داخل هذه الحضارة تبرز من خلاله نموذجها الحضاريّ والمعرفيّ على أنّه حوسلة الإنسان وجعله بضاعة يتمّ نقلها وتغييرها كما يتمّ تغيير قطع الغيار.

ويبقى لنا في الأخير التساؤل الآتي: ما هي النتائج التي خلص إليها المسيري، وما البديل المقدّم من طرفه؟ ثمّ كيف يمكن أن نقيم مشروع المسيري؟ وهل استطاع أن يجيب عن أسئلته التي طرحها فعلًا.

رابعًا الحداثة الإنسانيّة بوصفها بديلًا:
إنّ الخلاصة التي ينتهي إليها مشروع المسيري في نقده للحداثة الغربيّة تتمثّل في استحالة تكرير النموذج الحضاريّ الغربيّ لميزته التدميريّة الكبرى، ابتداء من الإمبرياليّة بوصفها تفكيكًا للآخر وإلغاءً له، إلى تدمير الطبيعة من خلال النزعة الإستهلاكيّة المبدّدة وغير المقتصدة. ومن هنا يطرح المسيري بديلًا، لكنّه ليس جاهزًا، بل هو مقدّمة لمشروع؛ لذلك فقد اكتفى بتقديم أسسه فقط، وهي:

أ- أسس الحداثة البديلة (الإسلاميّة): يقول المسيري: «لا بدّ أن يكون النموذج البديل نابعًا من تراثنا الذاتيّ ويقصد بالتراث،...مجمل التاريخ الحضاريّ الذي يتّسع للإنجازات المادّيّة والمعنويّة للإنسان في هذه المنطقة... والنموذج الحضاريّ الإسلاميّ نواته الأساسيّة هي النموذج المعرفيّ الإسلاميّ، وأساسه هو القرآن والسنّة اللذان يحملان القيم الإسلاميّة المطلقة والإجابة الاسلاميّة على الأسئلة النهائيّة...»[50]، ومعنى ذلك أنّ يكون هذا النموذج مؤسّسًا على القرآن والسنّة باعتبارهما أساس الرؤية المعرفيّة التوحيديّة الإنسانيّة، وهي الرؤية التي تجعل الإنسان مركز الكون؛ لهذا فإنّ نقطة انطلاق النموذج البديل هي الإنسان، ويقول: «النموذج البديل يركّز بالدرجة الأولى على الإنسان وإمكانيّاته والإنسان هنا ليس الإنسان الغربيّ أو الإنسان المسلم، وإنّما الإنسان في هذا الكون، أي الإنسان من حيث هو إنسان؛ ولذا سننطلق من مقولة: إنّ الإنسان يقف في مركز الكون والطبيعة كائنًا فريدًا وحركيًّا...»[51]، والرابط بين المبدأ أي القرآن والسنة مع المنطلق أي مركزيّة الإنسان العالميّ هو الإله، فهو ضمان مركزيّة الإنسان، وعليه فإنّ هذا النموذج ليس مادّيًّا وليس روحيًّا بحتًا، بل يجمع بين البعد المادّيّ والروحيّ معًا، وفق هدي الوحي.

ولتحقيق مركزيّة الإنسان المستخلف لله في الأرض والمزوّد بإمكانيّات فطريّة يدعو المسيري أن يكون هذا النموذج توليديًّا، وليس تراكميًّا حتى يتيح تحقّق إمكانيّات الإنسان، ووجود مركز للإنسان بصفته إنسانًا دون مركزيّة لإنسان منطقة معيّنة على أخرى؛ ولهذا يقول: «النموذج البديل نموذج توليديّ، فنحن نؤمن (كما أسلفنا) لا بإنسانيّة واحدة يمكن رصدها كما ترصد الظواهر الأخرى، وإنّما بإنسانيّة مشتركة تستند إلى طاقة إنسانيّة كامنة في كلّ البشر تتولّد منها أشكال حضاريّة متنوّعة...» [52]، وهذا ما يسمح بدوره بتفجير طاقات الإنسان الإبداعيّة بدلًا من الإنسان المتلقّي السلبيّ، وهذا ما يتيح ظهور التنوّع واحترام الخصوصيّات الحضاريّة المختلفة.

ب- المعرفة والعلم في الحداثة البديلة: مادامت الأسس تنبني على القرآن الكريم والسنّة النبويّة، فلا بدّ للعلم والمعرفة أن يتأسّسا على الوحي، وكيفيّة ذلك يتمّ عن طريق النموذج التوليديّ، وهنا تبرز معالم المعرفة المؤسّسة على المرجعيّة الإسلاميّة.

  وبالرغم من أنّ المسيري يرفض مصطلح إسلاميّة المعرفة، إلا أنّه يقترح مصطلحًا آخر، وهو توليد المعرفة من الإسلام، ولتحديد هذا الأخير قال: «وأنا أذهب إلى أنّ جوهر مشروع إسلاميّة المعرفة أو توليد معرفة إسلاميّة هو أنسنة المعرفة، أي استرجاع الإنسان مرّة أخرى ليكون كائنًا غير مادّيّ أو مختلف بشكل جوهريّ عن الطبيعة المادّة»[53]، ومعنى ذلك أنّه لا بدّ من إقامة علم يستعيد مفهوم الطبيعة البشريّة ولا يلغيها، ومن هنا وجب التمييز بين العلوم الإنسانيّة والعلوم الطبيعيّة، وضرورة ذلك مردّها أنّ الإنسان متميّز بطبيعته عن العالم المادّيّ، ويزيد على ذلك بوضع مجموعة من المعايير التي سبق الحديث عنها، والتي تتعلّق بالنسبيّة الإسلاميّة، حيث إنّ ملامح العلم البديل لا يوجد فيه يقين مطلق، ولا شكّ مطلق، بل هو يقين نسبيّ، يبقى مفتوحًا أمام تطوّر المعرفة وتجدّدها بشكل مستمرّ، فاليقين المطلق يؤسّس لنظام مغلق، والشكّ أو النسبيّة المطلقة تجعل المعرفة تراوح مكانها ولا تتقدّم.

 وآخر عنصر يدعو إليه وهو تأسيس منظومة معرفيّة وأخلاقيّة وجماليّة من خلال النموذج التوليديّ[54].
جـ- المجتمع التراحميّ والمجتمع التعاقديّ: كلا المصطلحين وردا في ترجمة للكلمتين الألمانيّتين Geselleschaft ومعناها المجتمع التعاقديّ Gemeinschaft، وهي الجماعة التراحميّة وقد ردّ مفكّرنا كِلا المصطلحين إلى علم  الاجتماع الألمانيّ، لكنّه لم يحدّد بالضبط إلى من يردّ بشكل دقيق، إلّا أنّ فيليب رانيو أكّد أنّها تردّ إلى تونيز الذي اقتبس منه ماكس فيبر أفكاره[55]، ويظهر لنا أنّ ترجمة المسيري فيها إضافة؛ إذ تمّت ترجمة Gemeinschaft بالجماعة، أمّا مفكّرنا فقد أضاف إليها تراحميّة و Geselleschaft ـأأغنمنل

وهي مجتمع، وأضاف إليها تعاقديّة، والإضافة المقدّمة من طرفه إبداعيّة إلى حدّ كبير، فالتراحميّة نسبة إلى الرحمة، والمجتمعات الإسلامية التقليديّة كلّها تتأسّس على مبدأ وقيمة الرحمة كأساس للترابط والتواصل، فتظهر صلة الرحم والتضامن وكذلك بروز العواطف النبيلة؛ إذ «لم تكن العلاقات فيها مبنيّة على المنفعة واللذّة وحسب، إذ كانت هناك حسابات أخرى غير مادّيّة وغير أنانيّة تشكّل مكوّنًا أساسيًّا في هذه العلاقات...»[56]، وأمّا المجتمع التعاقديّ، فهو المجتمع الحديث الذي يُردّ في أساسه إلى نظريّة العقد الاجتماعيّ، حيث يصبح الحاكم على العلاقات الاجتماعيّة المنفعة المتبادلة والتي يضمّنها العقد.

وفي إطار الحداثة الداروينيّة تمّ تهميش الجماعة التراحميّة وإلغاؤها، وتمّ الإبقاء على وحشيّة ولا إنسانيّة الروابط التعاقديّة الجامدة الخالية من أيّ عواطف، كالرحمة والنبل وغيرها؛ لذا يقترح المسيري «حداثة تحترم التعاقد ولا تنسى التراحم»[57]، والقصد من بناء هذا النمط من الحداثة هو عدم التنكّر للبعد المادّيّ في العلاقات الاجتماعيّة، دون نسيان للتراحم، واستخدام المسيري لعبارة احترام دقيق جدّا، فالعقد لا بدّ أن يُحترم من كِلا الطرفين حتى تسير المصالح بشكل سليم، وينطبق الوصف نفسه، أي الدقّة، على استعمال لفظة نسيان؛ لأنّ أصل العلاقات الاجتماعيّة هو التراحم، وهذا لكونه يعبّر عن إنسانيّة الإنسان الممثّلة في احترام القيم.

وهذه الحداثة البديلة تجمع في طيّاتها البعد المادّيّ والبعد القيميّ، متماشية بذلك مع منطلقها الذي يؤكّد على مركزيّة الإنسان وطبيعته المزدوجة؛ لذلك يقول: « الفكرة هي كيف نُوازن بين التعاقد والتراحم...أن نبني مجتمعًا له أساس مادّيّ لكنّه لا ينسى الروح، يحترم الطبيعة ولا ينسى الإنسان، ويصبح جوهر الحداثة التراحميّة الإنسانيّة ليس التصاعد في معدّلات الاستهلاك وتحقيق اللذّة، وإنّما التراحم والتوازن مع الطبيعة ومع الذات»[58]، والتوازن هنا يأخذ معنيين؛ الأوّل ضمن الذات الإنسانيّة، والقصد منه التوازن بين البعد الطبيعيّ المادّيّ والبعد الربّانيّ وبين النزعة الجنينيّة والنزعة الربّانيّة، والمعنى الثاني وهو التوازن في استعمال الطبيعة، وذلك يتمّ بالتخلّص من النزعة الاستهلاكيّة عن طريق الارتباط بالله سبحانه وتعالى والإيمان به، فالمثل الأعلى يساعد في تحكّم الإنسان في نوازعه المادّيّة والتي لا تشبع، وهنالك آلية أخرى وهي واقعيّة، وتظهر فيما يسميه بالنموذج التدويريّ الذي يقف على نقيض النموذج التبديديّ الإستهلاكيّ الذي يظهر في حضارة الفوارغ، حيث يتمّ استخدام الطبيعة بشكل يسمح بتدوير السلع، ومثال ذلك ما كانت عليه مجتمعاتنا سابقًا، فعند شراء علبة طماطم يتمّ استهلاك الطماطم، ولكن لا تُرمى العلبة مما قد يسبب زيادة في النفايات، بل يتمّ استعمالها أي يتمّ تدويرها، كعلبة للقهوة أو السكّر وغيرها من الاستعمالات الكثيرة وهذا ما يقلّل من تبديد الطبيعة.

وفي ظل التدوير يقترح المسيري نموذج اقتصاد يجمع بين التعاقديّة والتراحميّة والذي يصفه بقوله: «...اقتصاد نفعيّ مفعم بالعلاقات الإنسانيّة»[59]، فالأول أي نفعيّ سيكون لا إنسانيّ كما هو حال الاقتصادين الاشتراكيّ والرأسماليّ، والثاني أي الاقتصاد الذي يراعى العلاقات الإنسانيّة فقط قد يكون متخلّفا وضعيفًا؛ لذلك لا بدّ من الجمع بينهما.

د- الوحدة التكامليّة الفضفاضة غير العضويّة: هذه الوحدة مناقضة لكلّ من الإمبرياليّة والترشيد في الإطار المادّيّ الذي آل إلى الهيمنة على الإنسان، فالنموذج الإمبرياليّ يقوم على الوحدة العضويّة التي لا ينفصل فيها الجزء عن الكلّ، وبذلك تضيع فرديّة الإنسان داخل الكلّ، ويصبح مجرّد وسيلة «ولذا فهي تظلّ كلّيّات فضفاضة تحوي داخلها ثغرات، وهذا يعني أنّ الأجزاء مهمّة في أهمّيّة الكلّ، وأنّ الانقطاع مهمّ في أهمّيّة الاستمرار، وأنّ الخاصّ مهمّ في أهمّيّة العامّ، ومن ثمّ فإنّ هذا النموذج سيحاول أن يصل إلى خصوصيّة الظواهر المختلفة وتنوّعها ومنحناها وشخصيّتها دون أن يهمل عموميّتها...»[60]، معنى هذا أنّ ثمّة وحدة كلّيّة تجمع معها عدّة خصوصيّات دون أن تلغي الفرديّة، ووجود التنوّع والخصوصيّات يؤكّد على وجود ثغرات ومسافات، وهذا ينفي وجود وحدة عضويّة، ولكن حتى لا تؤول إلى صراع لا بدّ من البحث عن الأرضيّة المشتركة التي تؤدّي إلى التكامل.

هـ ـ التقدّم وفق منظور الحداثة البديلة: لم يضف المسيري الشيء الكثير في حديثه عن استبدال التقدّم اللانهائيّ بالتقدّم القائم على التوازن والعدل[61]، وهذه الإضافة ذات أهمّيّة بالغة، حيث إنّها ترتدّ من طرف إلى تصوّره لقانون التاريخ القائم على العدل، وهو القيمة القطب في الإسلام.

وإذا لخّصنا بديل المسيري فإنّه يتمحور أساسًا حول الإنسان، وبالتالي فهو إنسانيّ، ويقوم على بعد معرفيّ يتمثّل في النموذج المعرفيّ التوحيديّ الإسلاميّ، وقد أضاف هنالك ثلاثة مفاهيم أساسيّة تُركب المشروع ككلّ، وهي «التوازن أو العدل»، «اليقين النسبيّ»، وإزدواجيّة أو «ثنائية الطبيعة البشريّة»، ففكرة التوازن هي تحقيق للثنائيّة بشكل وسطيّ لا يتطرّف في البعد الروحيّ ولا نغرق في أوحال المادّة في الوسط بينهما، أمّا اليقين النسبيّ فهو وسط بين اليقين المطلق والنسبيّة المطلقة، وهذه الوسطيّة هي ما نسج بها ملامح مشروعه البديل.

خاتمة:
يمكن أن نلخّص النتائج التي آل إليها البحث فيما يأتي:

أوّلًا- الحداثة الغربيّة هي علمانيّة مادّيّة كاسحة، تحوّل العالم إلى طبيعة مادّيّة يحكمها قانون داروينيّ.
ثانيًا- لا يمكن فصل الحداثة عن الإمبرياليّة، فوصف الداروينيّة ليس مجازيًّا بل هو حقيقيّ.
ثالثًا- لقد كانت نتائج الحداثة على الإنسانيّة كارثيّة تظهر من خلال الاغتراب وتفكيك الإنسان الحرّ بين العلميّتين الاستعمار الذي دام أكثر من ثلاثة قرون.
رابعًا-لا يمكن إعادة تكرير الحداثة الغربيّة في أيّ مجال حضاريّ آخر، وذلك لنسبة الاستهلاكيّة العليا فيها وللتكلفة المأساويّة لها.
خامسًا- لذلك وجب أن يكون ثمّة بديل يحلّ محلّ الحداثة الإمبرياليّة، ويشترط فيه أن يلتزم بالإنسانيّة.
سادسًا- لا بدّ للعرب أن يكون لهم دور في البديل، وذلك بالاستعانة بالقدرات الذاتيّة للمساهمة في إخراج الإنسانيّة من الدمار الذي أحدثته وتحدّثه الحداثة الداروينيّة.
سابعًا- لم يقدّم المسيري مشروعًا جاهزًا عن الحداثة الإنسانيّة بقدر ما قدّم خطة لمشروع مستقبليّ.

لائحة المصادر والمراجع
المصادر العربية
أوليفي لوكوزغرانميزون، الجمهوريّة الإمبراطوريّة، ترجمة مصطفى ماض، (الجزائر: دار القصبة، 2009).
روجيه كايوا، الإنسان المقدّس، ترجمة سميرة ريشا، (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، 2011).
عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة والحداثة والعولمة، مصدر سابق.
 عبد الوهاب المسيري، الفكر الغربيّ مشروع رؤية نقديّة، مجلّة إسلاميّة المعرفة، (بدون بلد: المعهد العالميّ للفكر الإسلامّي، العدد 5، بدون سنة).
عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادّيّة وتفكيك الإنسان.
عبد الوهاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، سلسلة حوارات لقرن جديد، (دمشق: دار الفكر،2003).

المصادر الأجنبية
Emmanuel Kant: Qu’est- ce Que les Lunnieres? Trad.Jean-Michel, (France: Muglioni, 1999).

-----------------------------
[1]- أستاذ فلسفة الدين والحضارة بجامعة باتنة1 – الجزائر.
[2]- عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج، مصدر سابق، ص 169.
[3]- عبد الوهاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، سلسلة حوارات لقرن جديد، (دمشق: دار الفكر،2003)، ص 16.
[4]- عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 45. 
[5]- المصدر نفسه، ص 46.
[6]- المصدر نفسه، ص 46.
[7]- عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة الشاملة، مصدر سابق، ص 290.
[8]- Emmanuel Kant: Qu’est- ce Que les Lunnieres? Trad.Jean-Michel, (France: Muglioni, 1999), P4.
[9]- عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشاملة، مصدر سابق، ص321.
[10]- عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية، مصدر سابق، ص 396.
[11]- المصدر نفسه، ص ص 394، 395.
[12]- عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشاملة، مصدر سابق، ص 467.
[13]- المصدر نفسه، ص 469
[14]-عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية، مصدر سابق، ص 394.
[15]- عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشاملة، مصدر سابق، ص 470.
[16]- المصدر نفسه،  ص 220.
[17]- المصدر نفسه، ص 220.
[18]- المصدر نفسه، ص 220.
[19]- المصدر نفسه، ص 222.
[20]- المصدر نفسه، ص 204.
[21]- المصدر نفسه، ص 161.
[22]- المصدر نفسه، ص 450.
[23]- المصدر نفسه، ص 162.
[24]- المصدر نفسه، ص 456.
[25]- روجيه كايوا، الإنسان المقدّس، ترجمة سميرة ريشا، (بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، 2011)، ص35.
[26]- المرجع نفسه، ص 54.
[27]- يظهر مفهوم التعارضيّ بين المقدّس والدنيويّ جليًا عند إيميل دوركايم، انظر: أندريه لالاند، مرجع سابق، ص ص1229،1230.
[28]- عبد الوهاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، مصدر سابق، ص 171.
[29]- عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة والحداثة والعولمة، مصدر سابق، ص 108.
[30]- المصدر نفسه، ص 107.
[31]- المصدر نفسه، ص 108.
[32]- عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادّيّة وتفكيك الإنسان، مصدر سابق، ص 108.
[33]- عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة والحداثة والعولمة، مصدر سابق، ص 111.
[34]- المصدر نفسه، ص 105.
[35]- أوليفي لوكوزغرانميزون، الجمهوريّة الإمبراطوريّة، ترجمة مصطفى ماض، (الجزائر: دار القصبة، 2009)، ص254.
[36]- عبد الوهاب المسيري، الفكر الغربيّ مشروع رؤية نقديّة، مجلّة إسلاميّة المعرفة، (بدون بلد: المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، العدد 5، بدون سنة)، ص 126.
[37]- عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادّيّة وتفكيك الإنسان، مصدر سابق، ص 14.
[38]- عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 82.
[39]- عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 82.
[40]- المصدر نفسه، ص 103. 
[41]- عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 45.
[42]- المصدر نفسه، ص 101.
[43]- عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة والحداثة والعولمة، مصدر سابق، ص 228.
[44]- المصدر نفسه، ص 231.
[45]- عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة والحداثة والعولمة، مصدر سابق، ص ص 200، 201.
[46]- عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحداثة الغربيّة، مصدر سابق، ص 94.
[47]- عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفيّة في الحضارة الغربيّة، مصدر سابق، ص 30.
[48]- عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكريّة، مصدر سابق، ص 209.
[49]- عبد الوهاب المسيري  وفتحي التركي، الحداثة وما بعد الحداثة، مصدر سابق، ص 15.
[50]- عبد الوهاب المسيري، فقه التحيز، مصدر سابق، ص 106.
[51]() - المصدر نفسه، ص 106.
[52]- عبد الوهاب المسيري، فقه التحيز، مصدر سابق، ص 110.
[53]- عبد الوهاب المسيري، الهوية والحركية الاسلامية، مصدر سابق، ص 106.
[54]- المصدر نفسه، ص 106.
[55]- فيليب رانيو، مرجع سابق، ص 189.
[56]- عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية، مصدر سابق، ص 64.
[57]- عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة والحداثة والعولمة، مصدر سابق، ص 220.
[58]- عبد الوهاب المسيري، العلمانيّة والحداثة والعولمة، مصدر سابق، ص 221.
[59]- المصدر نفسه، ص 223.
[60]- عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج، مصدر سابق، ص 301.
[61]() - المصدر نفسه، ص 325.