البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

فينومينولوجيا الوعي المضطرب

الباحث :  علي محمد أسبر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  27
السنة :  ربيع - صيف 2022م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 12 / 2022
عدد زيارات البحث :  946
تحميل  ( 400.913 KB )
هَدَفَ هذا البحث إلى تبيانِ أنَّ هوسرل فهم حقيقة اللغة في أفق الإبوخي (تعليق الحكم على الظواهر)؛ لذلك جاء تحليله للعلامات، سواء أكانت إشارات أم عبارات، نابعاً من موقفه الترنسندنتاليّ، فأصبحت معاني العبارات تحديداً تتوالد على نحو قبليٍّ داخل الوعي، وذلك بمعزل عن الدور الذي يؤدّيه تركيب الألفاظ المتواطَأ أو المتواضع عليها. وعليه لم ينجح هوسرل في حلّ هذه الإشكاليّة بلجوئه إلى التمييز داخل الوعي بين النوئيسيس والنوئيما، لأنَّ الوعي ليس مغلقاً على ذاته داخل شرنقة الذاتيّة، وإنما هو انفتاح على العالم.

لكن هنا لا بدّ أن تصطدم لغة الأنا المتعالي بلغة الموقف الطبيعيّ للإنسان، الأمر الذي سيؤدّي إلى تناقض عميق بين لغة تتواضع عليها ذاتيّات متعالية وبين لغة يتواضع عليها شعب بأكمله بصفتها محصّلة لتجربة وجوديّة تاريخيّة كبرى. من هنا جاءت محاور هذا البحث على النحو الآتي:

أوّلاً: جذور المنهج الفينومينولوجيّ أو العودة إلى الأشياء أنفسها.
ثانياً: الردّ الفينومينولوجيّ بإزاء اللغة: التحوّل من لغة الأنا التجريبيّ إلى لغة الأنا المتعالي.
ثالثاً: مفهوم العلامة بين النوئيسيس Noesis والنوئيما Noema: العلامة على مستوى التعقُّل والمعقول. وانتهى البحث بخاتمة.

كلمات مفتاحية: أبوخي- رد- علامة- إشارة- عبارة- الترنسندنتاليّ- الذاتية- الوعي- فلسفة اللغة.

مقدّمة
انبثقت فلسفة اللغة عند إدموند هوسرل من تحوّلات موقفه الفينومينولوجيّ؛ لذلك بقيت تصوّراته عن حقيقة اللغة نابعة من رؤية غير مكتملة، أو هي ناتجة عن فهم يبحث عن الاكتمال، وهذا ما يساعد على تقديم رأي مفاده أنَّ هوسرل لم يكن من فلاسفة اللغة، ولم يفكّر أصلاً في أن يضع نظريّة في فلسفة اللغة؛ بل بقيت أفكاره في هذا الاتجاه تابعة لتأمّلاته الفينومينولوجيّة. ومن أجل تحقيق إمكانية الوصول إلى تحديد عميق لماهيّة اللغة، تبعاً لمنظاره، لا بدَّ من توظيف منهجيّة بحثيّة - تقتضيها فينومينولوجيا هوسرل نفسها- تعمل على استبعاد اللغة المتداولة في الموقف الطبيعيّ للإنسان؛ أي ما يجاوز اللغة التي يستخدمها الأنا الإنسانيّ الطبيعيّ بما يتّفق مع معطيات حياته النفسيّة، نحو لغة جديدة يحدّدها الأنا الترنسندنتاليّ أو المتعالي، إذ إنّ دلالات اللغة إذا كانت خارج دائرة الأنا المتعالي فلن يكون لها أيّ معنى؛ لأنَّ الألفاظ تستقي دلالاتها من الذاتيّة المتعالية.

أوّلاً- جذور المنهج الفينومينولوجيّ أو العودة إلى الأشياء أنفسها: الْتباسات البحث عن لغة جديدة للوعي القصديّ.
أرادَ هوسرل من الفينومينولوجيا أن تكون دراسةً لما يظهر داخلَ وعي الإنسان. هي في العُمق منهج مفتوح يُعنى بالبحث في ما يتجلّى داخل الوعي، إذ إنَّ كلّ ما يمرّ في تيار الوعي الإنسانيّ سيكون موضوعاً للفينومينولوجيا؛ غير أنَّ مهمّة الباحث الفينومينولوجيّ تتحدَّدُ على أساس أن يجعل من ظواهر وعيه موضوعاً لوعيه؛ لذلك يجب أن تُفهم فينومينولوجيا هوسرل في البداية بصفتها منهجاً يمكِّن الباحث من أن يُفكِّر في تفكيره، أو بالأحرى يمكّنه أن يعي وعيه بالأشياء. وهذا يجعل من الفينومينولوجيا ضرباً من الاستيعاء العميق لوعي الوعي. لكن نحن هنا بإزاء ازدواجيّة واضحة، فالباحث الفينومينولوجيّ سيوجِّه وعيه نحو ما يستوعيه وعيُهُ، فنصبح أمام نوعين من الوعي: الأوّل وعي يستوعب الموضوعات المختلفة، ووعي آخر يوجّه عمليّة استيعاب الوعي الأوّل لهذه الموضوعات، وهذا كلّه يتمّ داخل أنا إنسانيٍّ واحدٍ، هو أنا الباحث الفينومينولوجيّ، وهذا أمر ظاهر التناقض، فكيف يمكن للوعي الإنساني أن ينقسم على نفسه بصفته ذاتاً وموضوعاً في آن؟!

من جهة أخرى فإنه يجب أن لا تُفهم الفينومينولوجيا بصفتها نوعاً من التأمّل الانعكاسيّ النفسيّ، أي يجب عدم النظر على المستوى الفينومينولوجيّ إلى الوعي وكأنّه يستبطن طريقة وعيه للموضوعات؛ ذلك لأنَّ هوسرل ارتأى أن الفينومينولوجيا هي ضدّ النزعة النفسانيّة التي تتجه نحو تحليل الإنجازات البشريّة كافّةً، تحديداً الفلسفة والمنطق والرياضيّات من جهة علم نفس الإنسان. ولقد وجّه نقداً عميقاً للنزعة النفسانيّة هَدَفَ من خلاله النأي بالفينومينولوجيا عن السيكولوجيا، ولقد وسّع هوسرل دائرة نقده في مقاله “الفلسفة بوصفها علماً دقيقاً” ليشمل المذهب التاريخيّ historicism والمذهب الطبيعيّ [2]naturalism. ثم قدّم عرضاً معمّقاً للفينومينولوجيا في مؤلَّفه أفكار من أجل فينومينولوجيا بحتة وفلسفة فينومينولوجيّة[3]. وبعد ذلك قدّم تلخيصاً مكثّفاً لها في مؤلَّفه تأمّلات ديكارتيّة Cartesian Meditations[4].

وكان هوسرل قد أطلق شعاره الشهير وهو: “ الرجوع إلى الأشياء أنفسها to the things themselves واعتقد أنه قادر فعلاً على تحقيق ذلك، إذ ظنَّ أنَّ الأصولَ الحقيقية للأشياء موجودة داخل الوعي الترنسندنتالي وليست موجودة في الواقع الخارجيّ تبعاً لخصوصياتها، لذلك يُفهم من شعاره أنه أراد أن يطمس تاريخ الأشياء، أي التاريخ الثقافي للنوع الإنسانيّ الذي حدد ماهية الأشياء، ليثبت أنَّها ماهية زائفة، وأنَّ الماهية الحقيقيّة لها تنبع من ذاتيته الترنسندنتاليّة، فهل يعني هذا الرجوع وفقاً لمزاعم هوسرل تحرّراً مما قيل عن الأشياء على جميع المستويات وما طبيعة هذا الرجوع حتى نثق به إلى هذا الحدّ؟!

إذا نظرنا إلى الأشياء أنفسها بصفتها وقائع محضة، بمعنى أنّها خالية في وعينا من أيّ تفسيرات أو تحليلات أو بناءات فكريّة –كما أراد هوسرل- فلا بدّ في هذه الحالة من أن نستبعد من وعينا التاريخ الثقافيّ للنوع الإنسانيّ على جميع المستويات، تحديداً المستوى اللغويّ منها. هذا إذا أردنا أن نتابع هوسرل في تطبيق شعاره السابق، لكن لا يمكن لأيّ إنسان أن يتخلّى عن كلّ معارفه السابقة، حتى أنّنا إذا حاولنا استقصاء مفهوم هوسرل عن الأشياء أنفسها، فلن نجد في أفكاره ما يتّسق مع هذا الشعار. إذ هو دائماً يرجع إلى ما قيل، في علوم مختلفة، عن الأشياء، زاعماً أنَّ ما يقوله جديد لم يسبق إليه!

يفهم هوسرل مفهوم الشيء من نواحٍ عديدة: أوّلاً يصادف الإدراك الأشياء وعالم الأشياء، أي المواد المادّيّة الصلبة التي تكون في المكان والزمان، ويتمّ إدراكها بالإجمال أو من مناظير تفصيليّة، ويُفهم الشيء صوريّاً على أنّه وحدة يمكن أن تكون حاملة للخصائص. ويسمّي هوسرل هذا الشيء الموضوع object. وينتمي هذا المفهوم عن الشيء بصفته موضوعاً محضاً إلى الأنطولوجيا الصوريّة formal ontology. وإذ يتكلم هوسرل في مستوى علم المنطق على فكرة الشيء بعامّة، ففي الإبستمولوجيا يكون الشيءُ مدرَكاً بصفته موضوعاً يتعالق مع ذات[5].

ومن الواضح أنَّ هوسرل يحاول في هذا الاتجاه فهم الشيء في حضوره الأوّليّ، أو البَدئيّ في العالم، فهو موضوع الإدراك الحسّيّ، أو هو الجوهر الحامل للمقولات، أو هو ما يقابل الذات العارفة على مستوى نظريّة المعرفة، لكنّ المشكلة هنا هي أنّه كيف يمكن لذات واحدة من دون أن تستند إلى تاريخ الفكر البشريّ أن تعود إلى العلاقة الأوّليّة مع الأشياء المحضة، لتعيد تحديد حقيقتها من جديد؟

لقد قدّم هوسرل سلسلة من المحاضرات عن تكوين الشيء الماديّ في المكان في غوتنغن عام 1907، وقد نُشرت هذه المحاضرات في سلسلة هوسرليانا Husserliana  في المجلد رقم  XVI . تقدّم هذه المحاضرات تحليلات هوسرل الأكثر تفصيلاً وقوّة في ما يتعلّق بتكوين الموضوع المقصود في أفعال الإدراك والحس الحركيّ، علاوة على تقديم تكوين تصوّر المكان نفسه. يبدأ هوسرل من أبسط حالات الإدراك-رؤية جسم ثابت بعين واحدة (الرؤية الأحاديّة)، ثم يناقش بدايةً تكوين المجال البصريّ ثنائيّ الأبعاد، ثم يناقشه في ثلاثة أبعاد. وفي هذه المحاضرات يحلّل هوسرل فكرة الإحساس المزدوج الذي بوساطته يستطيع الجسد الحيّ أن يلمس نفسه، وكان هدفه هو وصف تكوين الشيء المادّيّ في الإدراك، وفهم كيفيّة انعطاء الشيء، على أساس التركيز في المقام الأوّل على المكانيّة أو الحيّز المكانيّ، لكن على نحو يتمّ فيه تجريد النظر من السببيّة التي تجسِّد وتؤسّس مفهومنا عن الشيئيّة المادّيّة بما يتجاوز ما يسمّيه هوسرل مخطّط الحسّ the ‘sense schema’. أمّا في ما يتعلّق بظاهرة تسمّى الحِسّ الحَركيّ (الإحساسات بالحركة الذاتيّة لجسدنا وأجزائه)، فيشرح هوسرل ما تسهم به الإحساسات في تجربة المكانيّة أو الحيّز المكانيّ، وهنا يميز هوسرل بين محتويات تَمَثُّليّة معطاة وبين لحظة الإدراك. نحن نرى الشيء نفسه تحت شروط متغيّرة: اللون نفسه تحت ملامح أو ظلال مختلفة. ولم تكن المحتويات التمثُّليّة المعطاة موجودة في البداية ثمّ يتمّ إدراكها؛ بل إنَّ الإدراك نفسه يُفَعِّلها بطريقة موحَّدة[6].

والحقيقة أنَّ المتابع لتحليلات هوسرل في هذا الاتجاه سيجد نفسه بإزاء أفكار تنتمي إلى ضرب من الفيزيولوجيا أو علم وظائف الأعضاء، وكأنَّ هوسرل رجّحَ أنه بدراسة العلاقة الأوّليّة أو البدئيّة مع الأشياء على مستوى الإدراك يكون قد عاد إلى الأشياء نفسها، وهو بذلك يظن أنَّ في مقدوره هو وأتباعه من الفينومينولوجيّين –عن طريق الاستمرار في هذا النوع من البحث-أن يعيدوا تكوين فهم البشر لحقيقة الأشياء؛ لكن ما لم يُعنَ به هوسرل في هذا الاتجاه هو أنّه لا يمكن العودة إلى الأشياء أنفسها بمعزل عن العودة إلى أصول العلاقات بين الألفاظ والأشياء؛ إذ إنَّ الألفاظ تُسمِّي الأشياء، وهذه الأشياء لا تنبع أصولها من وصف طريقة إدراكها حسّيّاً عند إنسانٍ بعينه، بل من تجربة شعب تواضع، تاريخيّاً، على مواجهة هذه الأشياء باللغة لكشف حقائقها، فتحوّلت تراكيب ألفاظ اللغة مع تعمّق التجربة الإنسانيّة إلى معانٍ تعبّر عن حضور الأشياء في الوعي الإنسانيّ، وليس وصف عمليّة الإدراك الحسّيّ للأشياء داخل الوعي-كما فعل هوسرل- عودة للأشياء أنفسها، بل إنّ هذه العودة تعني الرجوع إلى نشوء أصل تاريخها، وهذا أمر مغروس في التجربة اللغويّة الشاقّة والشائقة للنوع الإنسانيّ، لأنّه لا يمكن لي -مهما تعاليتُ- أن أسير خارج الطرق التي شقّها البشر من أزمنة سحيقة إلى يوم الناس هذا، ولذا فلن يستطيع المرء -مهما حاول- القفز بعيداً عن ظلِّه. وعليه، فإذا تمَّ الفحص عن الأنطولوجيا الصوريّة التي وظّفها هوسرل على مستوى علم المنطق المنشود من أجل استيضاح فهمه للموضوعات المحضة، نجد أنّه استخدم هذا المصطلح أي الأنطولوجيا الصوريّة ليشمل النظريّة المحضة للكلّ وللأجزاء الموضَّحة في المبحث المنطقيّ الثالث من كتابه المباحث المنطقيّة. ويعرِّف هوسرل الأنطولوجيا الصوريّة بعامّة بأنّها تشكّل إيضاحاً نظريّاً للموضوعات الممكنة من أيّ نوعٍ كانت، لذلك هي نظريّة عن الشيء بعامّة. كما أنّ موضوعات الرياضيّات، بالنسبة إلى هوسرل، تشكِّلُ ببساطة جزءاً واحداً من الأنطولوجيا الصوريّة، ولكنَّ ثمة أنواعاً أخرى من الموضوعات الصوريّة التي لا علاقة لها بالأرقام. ولقد أكّد هوسرل أنّه يمكن في الواقع متابعة الأنطولوجيا الصوريّة على نحو مستقلّ عن المنطق. وهي تشمل المقولات الصوريّة المحضة: الموضوع، والعلاقة، والخاصيّة، والوحدة، والعدد، والكلّ، والجزء، والحجم. يُعدّ الجزء والكلّ ماهيّة صورية تنطبق على أيّ مجال ماديّ. ولا تشكّل كيانات الأنطولوجيا الصوريّة أيّ مجال على الإطلاق، لكنّها تكتنف المجالات كافّة[7].
يظهر لنا في ما تقدَّم أنَّ هوسرل يبحث بوساطة الأنطولوجيا الصوريّة عن نوع من المقولات المحضة التي  تنطبق على كيانات مثاليّة متعدّدة، ليجعل من هذه المقولات سنخاً للأشياء بصفتها موضوعات، وهو بوضعه لهذه المقولات اعتقد أنّه وصل على نحو مبتكر إلى الأشياء أنفسها.

ولقد اضطر هوسرل من أجل القبض على هذه المقولات إلى القول بنوع جديد من الحدْس أسماه الحدْس المقوليّ Categorical Intuition، وهكذا تصير الأنطولوجيا الصوريّة فجأةً نظريّة في المعرفة الحدسيّة، عوضاً عن أن تكون علمَ وجودٍ صوريٍّ.

والحقيقة أنَّ نظريّة الحدس المقوليّ، يمكن النظر إليها بصفتها نظريّة تقتضي إشكاليّة معقّدة، وتُعَدُّ مُبهمة أو حتى خاطئة تماماً، ويمكن أن تكون أحياناً مثاراً للريبة؛ إذ إنَّ هوسرل في ما بعد رفض تماماً نظريّته حول الحدْس المقوليّ.[8] وهكذا، سوف نجد أنفسنا نتحرّك في حلقة مفرغة لو حاولنا أن نعرف حقيقة الأشياء أنفسها! كما أنّ هوسرل برجوعه –وفقاً لزعمه-إلى الأشياء أنفسها لم يستخدم لغة جديدة تكشف الأشياء كما لو أنّها لم تُكشف من قبل؛ وليس ما يحدث داخل الوعي القصديّ من توجّه نحو موضوع بعينه ابتكاراً للغة جديدة تكشف معنى الموضوع، بل يتحوّل الموضوع نفسه إلى معنى بحاجة إلى التكوّن، وهذه مفارقة غريبة، فكيف يمكن للباحث الفينومينولوجيّ أن يهب الموضوعات معانيها في عمليّة وعيه لها؟!

ثانياً-الردّ الفينومينولوجيّ بإزاء اللغة: التحوّل من لغة الأنا التجريبيّ إلى لغة الأنا المتعالي.

لئن كان هوسرل قد اتَّبع جورج ستيوارت ميل في الاعتقاد بأنَّ المنطق يجب أن يقدّم توضيحاً للغة، وأنَّ المنطق الصوريّ يجب أن يقوم بتحديد القواعد الصوريّة لدمج المعاني في وحدات دالّة، ونبّه إلى ضرورة أن نضع في الحسبان الجانب النحويّ للخبرات المنطقيّة؛ غير أنَّ هوسرل لم يُعن على نحوٍ مباشر باللغة بصفتها موضوعة لأعماله، بل جاء اهتمامه بها على أساس فهمه لضرورة اللغة من أجل التعبير عن الفكر. ولقد أدرك هوسرل فعلاً في المباحث المنطقيّة أنَّ المعرفة النسقيّة تعتمد على اللغة، وأنَّ الأحكام المعرفيّة يجب التعبير عنها باللغة في المقام الأوّل. ولقد درس هوسرل اللغة في المبحث المنطقيّ الأوّل من وجهة نظر الناطق باللغة (المتكلّم). إنَّ المتكلّم يقصد معنى معيّناً ولديه رغبة في التواصل. وعليه، فإنَّ للغة وظيفةً تعبيريّةً (توضيح المعنى)، ولها وظيفةً تواصليّةً أيضاً (الإبلاغ)، حين يريد المتكلّم أن ينقل شيئاً ما إلى المستمع (تمثيلاً لا حصراً: أمر، سؤال، اتفاق، خلاف، وإلى ما هنالك). تدل العبارة اللغويّة على معنى (أي تقوم بتجسيد معنى ذي وجود مثاليّ) وتتجه أيضاً إلى إيصال شيء ما إلى المستمع أو إعلامه به. ويظهر أنَّ هوسرل كان ملتزماً أحياناً بفكرة لغة فلسفيّة بحتة، وهو يقرّ لأسباب مختلفة وفي مواضع متعدّدة من المباحث المنطقيّة بأنَّ اللغة غير كاملة لأنّها غامضة.

وقد ميّز هوسرل بين تحليل معنى اللغة وتحليل نحو اللغة، فتحليل معاني اللغة يقتضي البحث في نشأتها وتطوّرها وكيفيّة توظيف الألفاظ للدلالة عليها وأنواع الدلالات وتغيّرها تبعاً لتغيّر الأزمان، وإلى ما هنالك؛ أمّا التحليل النحويّ فغرضه الفحص عن صحّة تأليف الألفاظ من أجل الدلالة على المعاني، ويبدو في رأي هوسرل أنَّ البحث في تراكيب الألفاظ على أساس وضع قوانين محدّدة لها جعل المعاني خاضعة لقواعد تأليف الألفاظ، فالعلاقة بين اللفظ والمعنى أدّت إلى طمس المعنى والانتصار للفظ، فلا بدّ في رأي هوسرل من تحرير المعاني من إسار الألفاظ والرموز النحويّة من أجل إطلاقها فينومينولوجيّاً، على أساس أنّ كلّ تعبير لغويّ وإن لم يلتزم بقواعد النحو لا بدّ من أن يكون له معنى، وبما أنَّ كلّ تعبير قابل للكشف عنه بالصوت، فإنَّ هذا التعبير لن يتمّ إلّا بوساطة رموز أخرى تختلف عن الرموز في النحو، وهي الأصوات المنطوقة والمتداولة بوساطة رموز غير نحويّة في لغة بعينها، وهذا يُدخل المعاني في دائرة المنطق البحت من جهة أنّها انكشفت بوساطة رموز، لذلك يجب نقل النحو إلى دائرة المنطق الصوريّ، لأنّه لن يؤدي وظيفته إلّا إذا صار أساساً للتفكير الصوريّ من جهة وجوب خضوعه للمنطق.

ولقد قال هوسرل في هذا الاتجاه: “يعلم الجميع كيف يمكن بسهولة وبطريقة غير ملحوظة أن يَضِلَّ تحليلُ المعنى بسبب التحليل النحويّ. وبما أنَّ التحليل المباشر للمعنى، رغم كلّ شيء، مستغلَق، فنحن نرحب بأيّ مساعدة وإن كانت غير كاملة، ولو جاءت نتائجها بطريقة غير مباشرة؛ لكن التحليل النحويّ أكثر تأثيراً من أيّ مساعدة إيجابيّة من جرّاء الأخطاء التي يكرِّس استخدامَها حينما يحلّ محلّ التحليل الحقيقيّ للمعنى. إنَّ التأمّل الصارم في أفكارنا وتعبيراتها اللفظيّة، الذي نجرّبه من دون تعليم خاصّ، وغالباً ما يكون ضروريّاً للأهداف العمليّة للتفكير، يكفي للإشارة إلى بعض التوازي بين التفكير والكلام. ونحن نعلم جميعاً أنّ كلّ لفظ من الألفاظ يعبّر عن شيء محدّد، وأنَّ الألفاظ المختلفة، بوجه عام، يعبِّر كلّ واحد منها عن معنى مختلف عن الآخر. إذا تمكّنا من حسبان هذه التطابقات تامّة، ومُعطاة قبليّاً a priori، بصفتها وحدة خاصّة على أساس أن تكون للمقولات الماهويّة للمعنى صور- مرآة كاملة في مقولات النحو، فإنَّ فينومينولوجيا الأشكال اللغويّة phenomenology of linguistic forms ستشمل فينومينولوجيا خبرات-المعنى phenomenology of meaning - experiences (خبرات التفكير، والحكم، إلخ)، وتحليل المعنى، إذا جاز التعبير، سيتزامن مع التحليل النحويّ.[9]”

يتضح هنا تماماً أنَّ هوسرل قدّم حلاً شكليّاً لهذه الإشكاليّة. فقد ظنَّ أنّه حدّد العلاقة بين تحليل المعنى وتحليل النحو على أساس التعويل على التوازي بين المعاني والألفاظ، فلا يجب على النحو أن يكتنف لفظاً من الألفاظ إلا ما يكون فيه دلالة على معنى ماهويّ أنتجته التجربة الفينومينولوجيّة للوعي، وبذلك تؤسّس الفينومينولوجيا لعلم المعاني الماهويّ الذي يؤسّس بدوره لعلم النحو. وعلى هذا الأساس تتحرّر المعاني من قواعد النحو الحاكمة لدلالات الألفاظ على المعاني؛ لكن هذا النمط من التفكير الهوسرليّ يعني أنَّ الألفاظ معطاة للمعاني على نحو قبليّ داخل التجربة الفينومينولوجيّة نفسها، ولا يعود للردّ الفينومينولوجيّ أيّ قيمة في هذه الحالة، لأنَّ الردّ عمقيّاً هو نوع من العودة-وفقاً لآراء هوسرل-إلى الينابيع التي تنبجس من داخل الوعي من دون تأثيرات ناجمة عن الموقف الطبيعيّ، فالردّ جوهريّاً هو تعليق الموقف الطبيعيّ من أجل تحقيق الذاتيّة المتعالية. ولكن.. ألا يقتضي ذلك تعليق اللغة نفسها المتداولة داخل الموقف الطبيعيّ من أجل ابتكار لغة تنبع من الذاتيّة المتعالية؟ّ!

من أجل فهم هذه التناقضات الهوسرليّة ينبغي البدء من مصطلح يسمّيه هوسرل الإبوخي epoche ويستخدمه للدلالة على إجراء يقوم على الوضع بين قوسين، باستبعاد وإلغاء وتعطيل جانب من مكوِّنات الاعتقاد في خبراتنا داخل عالم العيش. يرجع المصطلح أصلاً إلى المدرسة الشكّيّة اليونانيّة. ويعني هذا المصطلح باللغة اليونانيّة إيقاف أو تعليق الحكم، وكان أوّل من استخدم هذا المصطلح بيرون Pyrrho في القرن الرابع قبل الميلاد، إذ طالب بإبوخي أو بتعليق الحكم في ما يخصّ المعتقدات؛ لأنّها مُغيّبات -وفق زعمه- تخرِّب حياة الإنسان. واستخدم أرقيسيلاوس Arcesilaus   (315-242 ق.م) بعده مصطلح إبوخي، وأراد منه إيقاف الاعتقاد بعامّة؛ لأنّه لا توجد أدلّة كافية لإثباته. ثمّ ترسّخ هذا المصطلح في أدبيّات المدارس الشكّيّة وصولاً إلى سيكستوس إمبريقوس Sextus Empiricus في القرن الثاني للميلاد، إلى أن تنبَّه هوسرل إلى استعادة هذا المصطلح.
يذهب هوسرل إلى أنَّ الإبوخي -كما وظّفه- لا يتضمّن ريبيّة شكّيّة ولا إنكاراً صارماً لصحّة الخبرات؛ بل يتضمّن إبطال عمل الافتراض العامّ الذي يطبع بطابعه الخبرة الساذجة للإنسان في الحياة اليوميّة. وأصرّ هوسرل دائماً على أنّ تطبيق الإبوخي وإجراء الردود الفينومينولوجيّة الترنسندنتاليّة كان لهما دور ضروريّ من أجل تطبيق المنهج الفينومينولوجيّ. هذا، وبعد أن قدّم نقداً معمّقاً للموقف الطبيعيّ natural attitude الذي يشغله البشر عادة في حياتهم اليومية الدُّنيوية، اقترح هوسرل تعليق أو تغيير جانب واحد فقط من الموقف الطبيعيّ، أي “افتراضه العامّ”، أو طابعه النظريّ، أي الطريقة التي يعرض بها الكيانات في العالم بصفتها حقائق موجودة فعلاً. ويظهر خطر هذا الافتراض العامّ للموقف الطبيعيّ، أو خطر وجهة النظر التي يقدّمها الموقف الطبيعيّ في جعل الإنسان خاضعاً لمنظار واحد طوال مدّة حياته؛ لذلك أراد هوسرل تعليق هذا الموقف عينه، ووصف هذا التعليق بأنه إبوخي[10].

يجب على الباحث الفينومينولوجيّ الذي يقوم بتعليق الموقف الطبيعيّ ألا يأخذ بمدارك حواسه ولا تفكّراته العقليّة، كما يجب عليه ألا يقتنع بتصرّفاته، ولا بعواطفه، ولا بالمعلومات التي تنقلها اللغات المتواضع عليها بين الناس داخل العالم، وحتى وجود العالم الخارجيّ نفسه ينبغي ألاَّ يحمل على محمل الجِدّ، كما لا بدّ من التوقّف عن استقاء الأفكار من العلوم، وتأجيل ما تقدّمه الرياضيّات، وتجاوز ما يتضمّنه علم المنطق، هذا كلّه ينبغي على الباحث الفينومينولوجيّ أن ينأى بعيداً عنه. وبكلمة، إنَّ تعليق الموقف الطبيعيّ يعني تعليق اللغة والعلامات والرموز المتداولة داخل الموقف الطبيعيّ بكل ما تحمله من معارف.

ولا شكّ في أنَّ هذا الفهم لتعليق الموقف الطبيعيّ من قِبَل هوسرل يكاد يكون مستحيلاً، فلا يمكن للإنسان أن يتنصّل من وجوده في العالم على هذا النحو، فهذا التعليق يعني تعطيلاً للوجود الطبيعيّ للإنسان داخل العالم، والارتداد نحو ذاتيّة مزعومة تُعدّ أعلى من الذاتيّة الإنسانيّة الطبيعيّة-التاريخيّة التي هي عُمقيّاً محصّلة لتجربة تاريخيّة كبرى مرّت بها البشرية منذ أزمان سحيقة إلى يوم الناس هذا، كما أنّ هوسرل تغافل عن عقبة كأداء في طريق المنهج الفينومينولوجيّ، وهي أنّ هذا الموقف يعني تعليقاً للغة المتدوالة -بمعارفها المحمولة فيها- داخل هذا الموقف عينه الذي هو أصلاً موقف الوجود الإنسانيّ، فكيف يمكن التحرّر من لغة تمّ التواضع عليها بين أفراد شعبٍ بعينه على مدى زمنيّ طويل جدّاً؟ هذه أسئلة لم يقدّم هوسرل جواباً عنها.

انتقل هوسرل من “إبوخي” الموقف الطبيعيّ إلى الإبوخي الفلسفيّ الذي يجب أن يتكوّن من امتناعنا التامّ عن أي حكم يتعلّق بالمحتوى العقائديّ لأيّ فلسفة سابقة. لكن هذا الإبوخي الفلسفيّ ليس سوى مقدّمة للإبوخي الفينومينولوجيّ الذي يسمّيه هوسرل أيضاً وعلى الأغلب الردّ الفينومينولوجيّ phenomenological reduction. ولقد كان للإبوخي تأثيرٌ كبيرٌ جدّاً في تكوين مفهوم هوسرل عن الفينومينولوجيا. وأصبح الانقطاع عن الموقف الطبيعيّ وإحالاته الدُّنيويّة أمراً حاسماً. والحقيقة أنَّ تعليق الموقف الطبيعيّ يهدف إلى الوصول إلى الموقف الترنسندنتاليّ؛ ولذلك اتّجه هوسرل في كتاب أفكار 2 إلى تسمية الردّ الفينومينولوجيّ بالردّ الفينومينولوجيّ الترنسندنتاليّ[11].
هذا، وفي مؤلَّفه “تأمّلات ديكارتيّة” نجد أنّ الإبوخي قد تحوّل إلى طريقة في الانتقال من الذاتيّة السيكولوجيّة إلى الذاتيّة المتعاليّة، فالأنا انكشف في نفسه لنفسه بصفته ذاتاً متعالية من أجل العالم بصفته موضوعاً يكتسب معناه وصلاحيّته من هذه الذات المتعالية[12].

ولئن كان الإبوخي شكلاً من أشكال قطع الاتصال مع الموقف الطبيعيّ أو وضعه بين قوسين أو إخراجه من دائرة الاهتمام، تحديداً إخراج افتراضه العامّ أو وجهة النظر التي يقدّمها من نطاق الوعي الإنسانيّ، إلّا أنَّ الردّ يبدأ بصفته ردّاً فلسفيّاً، لكن يتضمّن أيضاً الانتقال من الشيء المعيّن إلى الآيدوس=eidos =الماهيّة=الصورة (عن طريق استخدام التغيير التخييليّ). وهذا يشار إليه عموماً بصفته ردّاَ فينومينولوجيّاً phenomenological reduction. بعد ذلك يأتي الردّ الآيدوسي eidetic reduction، وهناك يكون الانتقال إلى فهم موضوعيّة الموضوعات لكونها نابعة من إسهامات أو فعّاليات الذات الترنسندنتاليّة. ومن هنا يكون الردّ الترنسندنتاليّ transcendental reduction. لكن إذا تعمّقنا في معنى الردّ الفينومينولوجيّ بصفته ردّاً فلسفيّاً في بداية المطاف يقوم على تعليق أو إيقاف محتوى المذاهب الفلسفيّة، فهذا يعني الانقطاع التامّ عن التعويل على أيّ ضربٍ من المعرفة مستفاد من تاريخ الفلسفة، وهذا يعني انقطاعاً تامّاً عن اللغة الاصطلاحيّة الفلسفيّة، وابتكار لغة جديدة تنبع مما يؤدي إليه وضع الانقطاع نفسه من أجل التعبير عنه على نحو جديد فريد لا يوجد مثيل له؛ لكن لا نجد لغةً جديدةً من هذا القبيل في مؤلَّفات هوسرل، فما نجده هو لغة فلسفيّة تنهض مضامينها الفكريّة أساساً على نقد أفكار الفلاسفة السابقين عليه، وهذا أمر شائع إلى أبعد حدّ في تاريخ الفلسفة؛ لذلك تحوّل الردّ الفلسفي المزعوم من الانقطاع عن تاريخ الأفكار الفلسفيّة إلى نقد هذا التاريخ نفسه، ولهذا بقيت لغة هوسرل وهو مغلق على نفسه داخل شرنقة الردّ تابعة لهيمنة لغة تاريخ الفلسفة، أي أنّه لم يتحرّك في أرض بكر أو في عالم جديد بل اقتفى خطى الفلاسفة السابقين عليه.

أضف إلى ذلك أنَّ الردَّ يعني الانتقال من الشيء المتعيّن إلى الآيدوس، أي الانتقال من الواقعة إلى الماهيّة. هنا بالذات، إذا كانت الواقعة هي أفراد البشر كما يتوزّعون في المكان ويسري عليهم الزمان، فإنَّ الماهيّة هي ماهيّة الإنسان بوجه عامّ، أي ماهيّته كما يُفضي إليها الردّ، فالردّ يحوّل الواقعة من معطى واقعيّ إلى ماهيّة داخل الوعي؛ بيد أنّ الفينومينولوجيا إذا كانت أصلاً علم وصف ظواهر الوعي، فيجب في هذه الحالة أن تعدّ اللغة نفسها واقعة أو معطًى للوعي، وهذا يقتضي بصفتها ظاهرة الانتقال إلى ماهيّتها، فاللغة تتعيّن بصفتها شيئاً عن طريق كونها أصواتاً دالّة تخرج من الحنجرة واللهاة وما إلى ذلك، فكيف يمكن نقلها من تعيّنها إلى ماهيّتها بفعل الردّ؟ لا شكّ أنَّه لا يوجد أيّ جواب عن هذا السؤال في تجربة هوسرل الفينومينولوجيّة، ما يعني أنّ الردّ الآيدوسيّ الذي تقوم به الذات المتعالية لا يمكن أن ينطبق على اللغة، فإحاطة اللغة بالوعي تنتصر على محاولة إحاطة الوعي باللغة، والغريب أنَّ هوسرل كان قد اعتقد أنَّ موضوعيّة الموضوعات تنبع من وعي الذات المتعالية بصفتها فاعلةً لها على نحوٍ ترنسندنتاليّ، أي غير متأثّر بالنحو الذي تكون عليه الأشياء في الواقع العينيّ، لكن لم يوضح هوسرل أنَّه كيف يمكن أن تحقق هذه الموضوعات انبساطها أو انتشارها في ضروب وعي البشر الآخرين بعد أن اكتسبت معناها من الذات الترنسندنتاليّة، ثمّ ما ماهيّة اللغة التي ستنقُل بوساطتها الذات الترنسندنتاليّة حقيقة هذه الموضوعيّة إلى العقول الأخرى؟ لا بدّ أنّ تكون هذه اللغة عينها ترنسندنتاليّة غير أنّها ستكون موجّهة إلى عقول كائنة داخل نطاق ما أسماه هوسرل “الموقف الطبيعيّ”، أي عقول معلّقة باللغة المتداولة في الموقف الطبيعيّ. والحقيقة أنّه لا يمكن أن يوجد خطاب بين الأنا الترنسندنتاليّ والأنا التجريبيّ داخل النوع الإنسانيّ ما لم يصبح كلّ فرد في هذا النوع أنا ترنسندنتاليّاً، وهذا أمر فيه مفارقة واضحة؛ إذ إنَّ الأنا الترنسندنتاليّ لن يستطيع أن يحلّ محلّ النوع الإنسانيّ.

ثالثاً-مفهوم العلامة بين النوئيما Noema والنوئيسيس Noesis:
لقد كان هوسرل -بصفته رياضيّاً- مهتمّاً بالكيفيّة التي يمكن بواسطتها لأشكال معيّنة أو كيانات فيزيقيّة أن تُفهم بصفتها علامات تدلّ على ما يتجاوز نفسها. وفي مؤلَّفه فلسفة الحساب كان واعياً أنَّ البشر لا يمكنهم سوى أن يحدسوا أعداداً صغيرة على نحو ملموس، ويحتاجون إلى استخدام علامات للدلالة على الأرقام التي لا يمكن تخيّلها على الفور. وتستمر المعرفة العلميّة عبر العلامات بشكل عام[13]. وهو يريد من هذا التفسير أن ينقل مفهوم العلامة إلى حيّز الفينومينولوجيا الترنسندنتاليّة حتى تصير الذات المتعالية هي المنبع في هذا المنحى.

في المبحث المنطقيّ الأوّل من المباحث المنطقيّة قام هوسرل بتقسيم العلامات signs إلى إشارات indications تشير مباشرةً إلى موضوعها، وعبارات expressions تعبّر عن موضوعها عبر معنى[14]، ثم إنَّ العبارات – وفقاً لرؤيته في المباحث المنطقيّة- هي فئة معيّنة من العلامات، على عكس الإشارات المجرّدة التي تشير إلى الأشياء مباشرة “مثل الأعلام، والإشارات (=إشارات كهربائيّة-إشارات عسكريّة، إلخ)، وعلامات الإرشاد، وعلامات التحذير”؛ أمّا العبارات فتدلّ عبر مغزى أو معنى. العبارات بالنسبة إلى هوسرل هي بالدرجة الأولى أفعال لغويّة وهو يستثني الإيماءات أو تعابير الوجه (التي لا تدلّ إلّا بالإشارة،) وكذلك الإشارات من قَبيلِ إشارات المرور والأعلام. إنَّ العلامات اللغويّة التي توظّف بصفتها تعابير هي أكثر من مؤشّرات فقط، إذ إنَّ علاقتها أو نسبتها إلى الموضوع تكون مُتَوَسَطّةً عبر المعنى. إنّه جزء من فكرة العبارة التي يجب أن تحوز معنًى؛ إذ إنَّ العلامات التعبيريّة تعبّر عن المعاني، أي أنّها تنشئ معنى مثاليّاً[15]، كما أنَّ التعبير الذي لا معنى له، بالدلالة الدقيقة للكلمة، ليس تعبيراً على الإطلاق.

ويُفهم من هذا الكلام أنَّ العلامة تُعدّ في هذا السياق عبارة مؤلَّفةً من ألفاظ، وهي تدلّ على موضوعها عبر المعنى الذي تحمله على أساس تركيب هذه الألفاظ في العبارة؛ لذلك فإنّ العبارة تُحيل إلى المعنى، والمعنى بدوره يُحيل إلى موضوع يجب أن يكون في منظار هوسرل ذا وجود مثاليٍّ داخل الوعي، وهذا التفسير يتناسب مع مطامح هوسرل الفينومينولوجيّة، فقد انتقل مفهوم العلامة على مستوى الدلالة من العالم إلى الذات، فعبارات اللغة تكون ذات قيمة لأنّها تتولّد داخل ذات بعينها، لا لأنّها قائمة أصلاً على تواطؤ أو اتفاق بين أفراد شعب بعينه على ألفاظ محدّدة تدلّ على معان متواضَع عليها، فكيف يمكن قبول أنَّ العبارات اللغويّة علامات-كما ذهب هوسرل-، ونحن نتحرّك عقليّاً في عالم من المعاني حدّدته ألفاظ اللغة وتراكيبها عبر مسار تاريخيّ فاعل إلى أبعد حدّ؟! وهكذا فقد حاول هوسرل المداورة في هذا الاتجاه لمَّا أكّد أنَّ مجموعة من الأصوات (سلسلة من التصويتات) تصبح معنًى قابلاً للإيصال للآخرين فقط حين يمنحها المتحدِّث قصداً من قِبَله ويوجهها على أساسه. بهذا المعنى، لا يمكن للببغاء أن يقوم بفعل تعبيريّ حتّى لو كان قادراً على نطق الأصوات المنطوقة أو تقليدها، فيجب توظيف الأصوات لتؤدّي المعنى كي يكون تسلسل الصوت تعبيراً[16].

ولكن الحقيقة هي على العكس مما ذهب إليه هوسرل، إذ إنَّ المتحدّث ليس هو من يجعل الأصوات قابلة للإيصال استناداً إلى قصده وتوجيهه، بل تصبح هذه الأصوات قابلة للإيصال على أساس قبولها داخل نسق لغويّ بعينه فقط، بحيث يمنحها معناها ويجعلها صالحة للتداول، وحتى الببغاء وإن عبّر بأصوات عن ألفاظ لا يعرف معناها، إلّا أنّ هذه الألفاظ يصبح لها معنى داخل هذا النسق عينه، أي أنّ معناها ينبع أصلاً من هذا النسق المتواضَع عليه، وهذا ينطبق على الإنسان الذي إذا عبّر بأصوات عن ألفاظ غير موجودة في نسق اللغة وقصد منها معاني محدّدةً، لن يكون لمحاولته هذه أيّ جدوى.
لقد اعتقد هوسرل أنَّ كلّ تعبير يقصد معنى، وفي الحديث ننفذ فعلاً داخليّاً للمعنى يمتزج بالكلمات، بما هي عليه ويوجّهها. يعتمد المعنى على الأفعال الداخليّة من قصد المعنى. فيما يتعلّق بالعبارات، يميِّز هوسرل بين فعل التعبير أو القصد، والحالة النفسيّة للشخص الذي يعبّر، والمعنى المتطابق المثاليّ المعبَّر عنه، والموضوع المشار إليه[17].

وذهب هوسرل إلى أنَّ وعي الكلمة له خصائص فينومينولوجيّة تتعلّق بتغييب الذات أو التوجيه إلى ما وراء الذات نحو موضوعها. عادة نحن لا ندرك هذه الخاصّيّة البعيدة عن الذات في كلماتنا، نحن بالأحرى نعيش في ما تعنيه الكلمة، وهذا صحيح حتّى في الحياة العقليّة الانفراديّة في التفكير العقليّ الخاصّ للفرد. هنا تستمرّ العبارات في القيام بوظيفتها كما هو الحال في التواصل العام، دون أن تكون وظيفة التنبيه أو التدليل، كما يعتقد هوسرل، فعّالة لأنّها الآن غير ضروريّة؛ إذ إنَّ المرء لا يحتاج إلى أن ينبّه نفسه أو يخاطبها، وهذا ما سيكون موضوع اهتمام جاك ديريدا[18]. إنَّ التعبير عن المعنى هو فعل مختلف ماهويّاً عن التواصل أو الإخبار رغم وجود هاتين الوظيفتين المختلفتين في فعل كلاميٍّ واحد.

أراد هوسرل من هذا الكلام التأكيد على أنَّ وعي العبارات اللغويّة أمر لا يتّصل بالذات الإنسانيّة نفسها بقدر ما يتّصل بالموضوعات التي تحيل إليها هذه العبارات، أي أنّ اللغة تحيل داخل الموجود الإنسانيّ من ذاته إلى موضوعه، فلا يعود دور اللغة هو التواصل، بل تأسيس معنى الموضوع المقابل للذات داخل الذات نفسها. والحقيقة أنَّ مسألة العلامة بصفتها عبارة لها معنى يتأسّس داخل الذات مسألة يجب أن تُفهم في أُفق المنهج الفينومينولوجيّ، أو بالأحرى يجب أن تُفهم في أفق قصديّة المعنى، فقد انطلق هوسرل من قناعة راسخة بالنسبة إليه وهي أنَّ أيّ وعي يجب أن يكون وعياً بموضوع، ويُفهم من ذلك أنَّه لا وجود للوعي من دون موضوعات يقوم باستيعائها، فتصبح العلاقة بين الوعي وموضوعه جوهريّة إلى أقصى حدّ، وتدلّ داخل الوعي نفسه على تعقُّل ذاتيّ لمعقول موضوعيّ، فلا معنى للوعي إن لم يقصد الموضوعات، ومن هنا انبثقت فكرة القصديّة، وعدّها هوسرل الفكرة الرئيسة في الفينومينولوجيا، فتوجد أفعال يقوم بها الوعي وهو يقصد موضوعه، وثمّة قابليّة في الموضوع كيما يُستوعى، فالعلاقة التضايفيّة بين الاستيعاء والمستوعى هي قوام القصديّة[19]. فقد سعى إلى أن يُعمّق فكرة القصديّة فاستند إلى مصطلحين مأخوذين من اللغة اليونانيّة هما: النوئيسيس Noesis والنوئيما Noema.

تعني النوئيسيس noesis عمليّة عقليّة قصديّة على نحوٍ محدّد يمكن تناولها بطريقة يتمّ فيها التأكيد على مكوّناتها الذهنيّة بوضوح. تتضمّن النوئيسيس ما أسماه هوسرل في المباحث المنطقيّة طابع الفعل the quality of the act أي مثلاً ما تشترك فيه أفعال الأمل كافةً، أو أفعال التذكّر كافةً، لكن للنوئيسيس دور أكبر ينبع من كونها تضطلع بمنح المعنى، وتكوين معنى ما تستوعبه بصفتها عمليّة عقليّة. وترتبط النوئيسيس بالنوئيما دائماً[20].
والحقيقة أنَّ هوسرل هنا ينتقل إلى مستوى جديد تماماً من التحليل الفينومينولوجيّ، فالعلامة-العبارة-المعنى، أضحى الآن ثالوثاً بائداً، وحلَّت محلّه أفعال واعية نوئيسيسيّة تعمل على تكوين معنى الموضوع المستوعى داخل الوعي نفسه.

أمّا النوئيما فهي تعني في اللغة اليونانيّة ما هو مُفَكَّر فيه؛ وبالنسبة إلى هوسرل تعني الموضوع المقصود على مستوى الوعي، كما هو مُدْرَك، وكما تمّ الحكم عليه، وكما هو مرغوب فيه، وبكلمة، كما هو مقصود من قِبَلِ الوعي. والحقيقة أنَّ تحليل هوسرل للنوئيسيس والنوئيما يُعَدُّ مركزيّاً في فهمه للتدريب الفينومينولوجيّ ضمن أفق الردّ الترنسندنتاليّ. إنَّ النوئيما عنصر أساس في الوصف الآيدوسيّ للوعي، إنّها موضوعيّة تنتمي إلى الوعي، ومع ذلك فهي غريبة على وجه التحديد. النوئيما هي دائماً في ارتباط مع فعل الاستيعاء أي النوئيسيس؛ إذ يوجد ارتباط قبليّ بين النوئيسيس والنوئيما (الاستيعاء والمُستوعى)، وقد وجّه هوسرل نقده للنزعات التقليديّة التي تفصل بين هذين العنصرين حين دراستهما. (تمثيلاً لا حصراً حينما سعى علم النفس إلى دراسة الأفعال النفسيّة على نحو مستقلّ عن الموضوعات التي تمَّ توجيه الأفعال إليها). [21]

ولا غرو أنَّ النوئيسيس بالنسبة إلى هوسرل تعني أفعال التعقُّل الموجَّهة داخل عقل الذات الترنسندنتاليّة نحو معقول هو النوئيما؛ إذًا العقل يتعقّل ذاته، وبتعقّله لذاته ينتج المعاني، ويجب أن يصوغها في عبارات مؤلَّفة من ألفاظ تصبح بدورها علامات، وإلاّ لبقيت الذات الترنسندنتاليّة داخل شرنقتها؛ لكن هل هذه العلامات هنا-وهذا ما لم يتناوله هوسرل- من جهة كونها عبارات – تبعاً لزعم هوسرل أنّ العبارة علامة- يمكن أن تهب المعاني إلى عقل آخر غير ترنسندنتاليّ، أي وفقاً لتحديد هوسرل لمصطلح ترنسندنتاليّ؟ وهذا يعني أنّ الذات الترنسندنتاليّة تعيد إنتاج العلامات، لكن من دون وجود ضمان عندها للتواضع عليها بين الناس، إنّها أشبه بعنكبوت تنتج من جسمها مادّة تحيك منها خيوطاً لتبني بيتها، معتقدةً أنّه البيت المثاليّ لكلّ ما يوجد في العالم من عناكب!

هذا، ومع النوئيما يفترض هوسرل كياناً معقّداً واحداً سيأخذ توليفات مما يُضَمِّنُهُ غوتلوب فريغه Gottlob Freege تحت مصطلح المعنى، وطريقة العرض، والوظيفة المرجعيّة للفعل، أي الموضوع المقصود من قِبَلِ الفعل، إذ إنَّ فريغه أراد بلوغ ضرب من فعل الاستدلال العقليّ الذي لا يشوبه أيّ عيان حسيّ، لذلك حاول استنتاج المعنى الرياضيّ من المعنى المنطقيّ.

يؤكد هوسرل أنّ النوئيما في ذاتها لها نسبة موضوعيّة، وعلى نحو أكثر تحديداً، بحكم معناها الخاصّ؛ ولهذا السبب ليست نوئيما هوسرل متطابقة مع مفهوم فريغه عن المعنى، رغم أنّه يبدو وكأنه يشمل هذه الفكرة (يُعدُّ المعنى صورة مجردة متأصّلة في النوئيما)[22].
يُعيد هوسرل التفكير، جوهريّاً، في العلاقة بين فعل إعطاء المعنى والمعنى والموضوع المقصود. يجب أن تحلّ النوئيما محلّ مفهومي المحتوى والموضوع. ولا يمكن أن تكون النوئيما ببساطة موضوعاً، أي موضوعاً يمكن الوصول إليه بشكل مختلف وطرق متغايرة للفعل (الإدراك، التذكر)، ولا يمكن ببساطة أن تزود بطريق إلى الموضوع من أجل فهمه بصفته شيئاً متعالياً بالنسبة إلى الفعل القصديّ. تتضمن النوئيما بطريقةٍ ما الموضوعَ المقصود بصفته شيئاً مباطناً فيها ذلك بحسبانه نمطَ تمثُّل هذا الموضوع[23].

هنا نقع على فكرة من أغرب الأفكار على الإطلاق، ولا يمكن قبولها إلّا على أساس أنَّ الفينومينولوجيا ليست إلّا غنوصيّة محدثة، فإذا كانت النوئيما تتضمّن الموضوع المقصود، أي الذي يقصده الوعي، وتتضمّن في الوقت نفسه الكيفيّة أو الطريقة الواجب اتّباعها لتعقّل هذا الموضوع، فإنَّ هذا يعني أنَّ وعي الذات الترنسندنتاليّة يكتنف حقيقة الوجود على نحوٍ قبليّ، أي هذا الوعي هو نفسه الوعي الإلهيّ، ويبدو أنَّ كلّ ما فعله هوسرل هنا هو إعادة إنتاج آراء الفلاسفة المشّائين من أنَّ الله بتعقّله لذاته يتعقّل مبادئ الموجودات! وهذا ما تفعله الذات الترنسندنتاليّة تماماً؛ فالعلاقة بين العنصر النوئيسيسيّ والعنصر النوئيميّ داخل الوعي يشطب الوجود الخارجيّ، ولا يعترف إلّا بوجود الذات الترنسندنتاليّة التي تنبع منها  الحقائق كافةً، بل ذهب هوسرل إلى حدّ الغلو حينما ظنّ أنّه داخل الوعي يوجد موضوع الوعي وطرق استيعاء هذا الموضوع عينه؛ ذلك بأنّ التمييز الأساس داخل الوعي كان مُتَضمّناً في نظرية النوئيما كما وجدت مسبقاً في المبحث المنطقيّ الخامس من المباحث المنطقيّة، وتحديداً في معرض تحليل هوسرل للتجارب القصديّة ومحتوياتها، حيث ميّز بين “الموضوع المقصود” وبين “الموضوع كما هو مقصود”[24]. فتمثيلاً لا حصراً، إذا كان الموضوع المقصود هو إنسان بعينه، فيمكن أن يُقصد أو يُعرف بصفته ابناً لرجل معيّن، أو حفيداً لإمرأة معيّنة، فأنا قصدتُ بوعيي هذا الإنسان بصفته ابناً لفلان، أو حفيداً لفلانة.  وسيقول هوسرل لاحقاً إنّ المباحث المنطقيّة ركزت على الجانب التعقُّليّ، أي على الفحص عن الفاعلين القاصدين ولم تتطرّق على نحو كافٍ إلى النوئيمات المقابلة[25]. وهذا يعني أنّه لم يكتشف أهمّيّة النوئيما بالنسبة إليه في بداية المطاف؛ لكن سيجد ضالَّته فيها في ما بعد.

ولقد أفضى اتباع هوسرل لفكرة النوئيما إلى تأكيده على أنَّ استيعاء الموضوع المقصود يتمّ على نحوٍ مُباطن، كما هو معطى، بمعزل عن علاقته مع الوجود الفعليّ. ولذلك نجده يقارن بين فعل العيش الزمنيّ الحقيقيّ للقصد مع المثاليّة أو الطبيعة غير الواقعيّة للموضوع المُدْرَك كما هو مُدْرَك. تظهر المشكلة في ما إذا كانت النوئيما بصفتها موجوداً مُباطناً داخل الوعي قد تُعدُّ جزءاً واقعيّاً من التفكير الجاري، أو إذا كانت تشير إلى موضوع ما وراء التفكير، أو إذا كانت معنى مثاليّاً مجرّداً يُعطَى الموضوع بوساطته. والحقيقة أنَّ المعنى الدقيق والوضع المحدّد للنوئيما في كلام هوسرل أمر ملتبس. في حين أنّ النوئيما هي معنى مثاليّ مجرّد يتيح للفعل القصديّ أن يشير إلى الموضوع المقصود. ولقد قال هوسرل نفسه إنَّ الشجرة الواقعيّة يمكن أن تُحرق أو تُقطع؛ لكن الشجرة النوئيميّة غير قابلة للحرق والقطع[26].

وقد تدلّ النوئيما على الموضوع المقصود بصفته مقصوداً، وهذا يعني أنّ النوئيما مصطلح تقنيّ يشير إلى الموضوع المقصود، وقد أصبح على نحو واضح موضوعة للردّ الفينومينولوجيّ. ولقد تحدث هوسرل عن أنّ النوئيما تحوز أجزاءً أو لحظاتٍ مختلفةً. يتكلّم على النوئيما الكاملة، النواة النوئيمية noematic core، ويتكلّم أيضاً على أعمق لحظة في النوئيما التي تؤدّي مهمّة حمل الخصائص، والحفاظ على الوحدة عبر الأفعال المختلفة التي تشير إلى الموضوع بصفته قابلاً للتحديد[27]. لكن إذا كانت النوئيما تقتضي معنى مثاليّاً مجرّداً وموجوداً داخل الوعي يسمح للفعل النوئيسيسيّ التعقُّليّ أن يقصد موضوعه، فهذا يدلّ على أنَّها قوّة فاعلة للموضوعات داخل الوعي لتجعلها قابلة للاستيعاء، فمن أين قُيِّض للنوئيما أن تكون قادرة على وهب أفعال الوعي موضوعاتها؟ يعني هذا الكلام أنَّ الذات الترنسندنتاليّة ليست في مقام كونها ذاتاً تمارس أفعال الوعي فقط؛ بل في مقام كونها ذاتاً تنتج الموضوعات التي تعيها، وهذه مفارقة كبرى –على مستوى نظريّة المعرفة-فكيف يمكن أن يكون الوعي الذاتيّ المنغلق داخل كينونته الخاصّة قادراً على الإحاطة بهالات من الموضوعات بعيدة عنه إلى أقصى حدّ؟

إنَّ التفسير الوحيد لهذا الأمر هو أنَّ الذات الترنسندنتاليّة –في منظار هوسرل-تنطوي، قبليّاً، على معاني الموجودات، لذلك اعتقد هوسرل أنَّ مهمّة هذه الذات هي استنباط هذه المعاني، ترنسندنتاليّاً، من أجل تهيئتها كيما تصبح موضوعات لأفعال الوعي، فهو يستخرج من أعماق وعيه موضوعات لأفعال وعيه؛ لكن الإشكاليّة هنا هي أنّه من أين تأتّى للذات الترنسندنتاليّة أن تكتنف على نحو قبليّ معاني الموجودات وتكون في الوقت نفسه النموذج الكامل الذي يحتوي داخله حقائق الوجود؟ هنا نرجع إلى الحلقة المفرغة التي وضعنا هوسرل فيها منذ البداية، فتجاوز الموقف الطبيعيّ يقتضي القيام بإبوخي وإجراء الردود حتى نبلغ إلى الأنا المتعالي الذي يعلو على الأنا التجريبيّ؛ غير أنَّ التناقض الصارخ هنا في منهجية هوسرل هو أنَّ وجود الأنا المتعالي نفسه غير ممكن، إلّا على أساسٍ من الأنا التجريبيّ، أي أنَّ الوعي المتعالي أو الترنسندنتاليّ-داخل الموجود البشريّ ذاته- يقوم على تحويل معطيات الخبرة التجريبيّة إلى ظواهر محضة، ويعني هذا التحويل أنَّ المعنى لا ينبع من وعي الأنا المتعالي؛ بل يقوم الأنا المتعالي بتجريده من معطى الخبرة. ولا يحلّ هذه الإشكاليّة أنَّ الوعي، نوئيميّاً، يزوِّد ذاته بالموضوعات المعقولة بعد أن قام بتجريدها، لتكون قابلة نوئيسسيّاً كيما تصبح مادة للتعقّل؛ لأنَّ هذه العمليّة من التزويد هي إعادة تكرار لفعل واحد يقوم به الوعي مرّات عديدة، أي أنّ الوعي يقوم بالتجريد، ثم بتجريد ما جرّده، وهكذا دواليك، فإذا كانت العلامة بصفتها عبارة موضوعاً للوعي-وفقاً لرأي هوسرل نفسه-، فإن تجريدها داخل الوعي هو المعنى، والنوئيما حينما تقوم بتهيئة أو تجريد هذا المعنى بصفته موضوعاً للنوئيسيس، نصبح بإزاء معنى المعنى، وهكذا إلى ما لا نهاية.

خاتمة
لقد كانت نقطة انطلاق هوسرل على المستوى المنهجي متناقضةً في ذاتها إلى حدّ بعيد، فقد اعتقد أنَّ في مقدوره أن يُحْدِثَ إثنينيّةً داخل الوعي الإنسانيّ، حين فصلَ بين وعي الأنا التجريبيّ ووعي الأنا الترنسندنتاليّ، زاعماً أنّه يمكن للوعي الترنسندنتالي أن يتسلّط على الوعي التجريبيّ، فيجرّده عن الواقع الماديّ، ويحوِّله إلى موضوع، فيصبح الوعي ذاتاً وموضوعاً في آن. وهذا يتسبّب في في إحداث قسمةٍ تعسفيّة بين البشر إلى بشر ذوي وعي ترنسندنتاليّ وبشر آخرين ذوي وعي تجريبيّ قابع في الموقف الطبيعيّ، لكن هذا يُفضي إلى إرغام كلّ إنسان على أن يصبح فينومينولوجياً كي يرد أناه التجريبي إلى أناه الترنسندنتاليّ أو المتعالي، وكأنّنا بإزاء ديانة وضعيّة فلسفيّة هي الفينومينولوجيا من لم يعتنقها لن يكون سائراً على نهج الحقيقة! كما أنَّ شعاره القائم على العودة أو الرجوع إلى الأشياء أنفسها يسلب الواقعيّة من الموجودات كافةً، ويجعل واقعيتها الوحيدة نابعة من بعد ترنسندنتاليّ غامض، فلا يحيا الأنا إلا داخل وجود مثاليّ وحيد كان قد نسجه بأوهامه معتقداً أنّه الوجود النهائيّ.

هذا إلى أنَّ فينومينولوجيا هوسرل لا يمكن تصنيفها بصفتها فلسفة لغة، بل تولّدت مشكلة اللغة في تفكيره، لأنّه وجد نفسه مضطراً للتعبير عن أفكاره بلغة لا يمكن السيطرة عليها، أي أنّها محيطة بالوعي الترنسندنتالي، ولا يمكن لهذا الوعي أن يحيط بها، فأراد أن يتجاوز هذه المشكلة، لكنه لم يقدر على ذلك متذرعاً بغموض اللغة، وقصده المضمر من وراء ذلك أنَّ اللغة غير خاضعة للإيضاح الفينومينولوجي؛ لكن ما لم يعره هوسرل اهتماماً هنا هو أنَّ الإيضاح الفينومينولوجيّ هذا، لا يُعَدُّ ممكناً بمعزل عن اللغة.

والحقيقة أنَّ اتجاه هوسرل نحو بناء نظرة عن المقولات الماهويّة للمعنى بصفتها متطابقة على نحو كليّ مع مقولات النحو، يدلّ على أنّه أراد أن يُخضع اللغة -وهذا أمر ممتنع تماماً- لما ينبثق من معانٍ داخل الوعي الترنسندنتاليّ، فتصبح اللغة مشروطة ترنسندنتاليّاً، بدلالة أنّه حاول أن يجعل فينومينولوجيا الأشكال اللغوية شاملةً لفينومينولوجيا خبرات المعنى، وهكذا يصبح كل شكل وكل معنى على المستوى اللغوي من دون قيمة ما لم يخضعا للمعايير الفينومينولوجيّة، وهذا أمر ظاهر البطلان؛ لأنّه يقوم على تحويل اللغة، شكلاً ومعنى، إلى حالة لوعي ذاتي ينتمي إلى صنفٍ بعينه من الباحثين الفينومينولوجيين. بينما اللغة أصلاً هي أداة التواصل بين الذوات المختلفة. وآية ذلك أنَّ هوسرل أراد أن يطبق الإبوخي أي تعليق الحكم أو إيقافه على الموقف الطبيعيّ للإنسان، أي أراد أن يلغي ذاتية الإنسان كما هي منفتحة على العالم، ليرتد بها إلى ذاتية منغلقة داخل وعيها الخاصّ بها، وهنا نجد أنفسنا بإزاء نوعين من البشر: نوع ترنسندنتالي، والآخر نوع طبيعيّ، فأيّ لغة أو أي خطاب يمكن أن يكون صالحاً للتفاهم بين هذين النوعين، إلا إذا أصبح البشر كلهم ترنسندنتاليين!!!

كما أنَّ هوسرل حينما وجد في مفهوم القصديّة ضالته على المستوى الفينومينولوجيّ، ظنّ أنه قادر على تطبيق هذا المفهوم على اللغة، بمعنى أنّه أراد أن يجعل اللغة خاضعةً لفعل القصد النابع من وعيه، فيصير الوعي الترنسندنتالي حاكماً على اللغة وموجّهاً لها ومحدّداً لتراكيبها ومعانيها؛ غير أنّ ما لم يُعنَ به هوسرل أنَّ اللغة لا معنى لها إلّا لأنّها متداولة داخل نسقٍ بعينه تشترك فيه ذاتيات أبعد ما تكون عن بعضها بعضاً، ولو لم يكن هذا النسق المشترك موجوداً، أو بالأحرى لو لم تكن هذه اللغة نفسها نسقاً شاملاً، يستوعب الفعّاليات اللغويّة للذاتيات كافةً، لما كان للاتصال اللغوي بين الذاتيات المختلفة أيّ وجود.

لقد اكتفى هوسرل بذاتيّته المتعالية، وأراد أن يُسوِّغ هذا الاكتفاء بتركيزه على النوئيسيس والنوئيما، ظانّاً أنَّ ما هو نوئيميّ في الوعي الترنسندنتاليّ ينتج موضوعات يتلقّفها ما هو نوئيسيسيّ فيه، وهكذا استغنى هوسرل عن الذوات الأخرى، أو عن العقول الأخرى، تحت ذريعة أنّ الوعي الترنسندنتاليّ بانغلاقه داخل ذاتيته يؤلّف قاعدة جوهريّة للوصول إلى ماهيات الظواهر التي تتضافر بصفتها معاني لتحديد معنى الوجود، لكن لا يمكن قبول توجّه هوسرل هنا؛ لأنَّ المعنى لا يقبع داخل شرنقة الوعي المتعالي، بل في حركيّة التواصل الكيانيّ بين الأناسيّ في الواقع العينيّ المتحقق.
لم ينجح هوسرل في فهم ماهية اللغة، إذ ظنَّ أنَّ بمقدوره توجيهها وفقاً لرؤيته الفينومينولوجية؛ لكن في الحقيقة اللغة هي الحاكمة على الوعي، ولا يمكن للوعي أن يكون ما هو عليه بمعزل عن اللغة، فهي أساس تكوينه، وهو -ولا شك- يسهم في تطويرها، لكن لا يمكن أن يجعلها موضوعاً قابلاً للتكوين، نوئيميّاً ونوئيسيسيّاً، على الطريقة الفينومينولوجيّة.

لم يكن هوسرل صاحب نظريّة واضحة في فلسفة اللغة؛ بل جعل اللغة موضوعاً لمنهجه الفينومينولوجيّ، لكنّ اللغة نظام تكوَّن تاريخيّاً بسبب جهود هائلة بذلها النوع الإنسانيّ في مسيرة تطوّره؛ لذلك لا يمكن أن تتحوّل إلى ظاهرة داخل الوعي، لأنّها هي نفسها لحمة الوعي. كما أنَّ نظام اللغة يحمل أفقاً من المعاني المتولِّدة عن تراكيب ألفاظ متواضَّع عليها، فأفضى ذلك إلى تكريس هذه المعاني داخل الوعي، وليس متاحاً ولا مسوّغاً أنَّ الوعي الفرديّ ينتج المعاني ليقدّمها للنوع الإنسانيّ، حتى لو كانت هذه المعاني موضوعيّة داخل الوعي الفرديّ؛ لأنَّ موضوعيّتها في نهاية المطاف ذات أصل نوعيٍّ وليست من أصل فرديّ، وإلّا لَمَا كانت موضوعيّةً أصلاً؛ أمّا أن يجد هوسرل في العلاقة بين النوئيسيس والنوئيما داخل الوعي الترنسندنتاليّ مسوّغاً لابتكار معانٍ يمكن نقلها إلى الآخرين، فإنَّ المعنى لا ينبع من أيّ ذاتيّة إنسانيّة حتّى لو كانت متعالية؛ بل ينبع من كيفيّة النظر إلى مشكلة الحقيقة.

لائحة المصادر
- Dermot Moran and Joseph Cohen, The Husserl Dictionary (Continuum International Publishing Group,2012).
- Derrida, Speech and Phenomena and Other Essays on Husserl’s Theory of Signs (Evanston,IL:Notthwesttern University Press, 1973).
-Dieter Lohmar, Categorial Intuition, in: A Companion to Phenomenology and Existentialism. ed. Hubert L.Dreyfus and Mark A.Wrathall (Blackwell Publishing, 2006).
-Edmund Husserl, ‘Philosophy as Rigorous Science’, in Phenomenology and the Crisis of Philosophy, ed. Q. Lauer (New York: Harper & Row, 1965).
- Edmund Husserl, Ideas Pertaining to a Pure Phenomenology and to a Phenomenological Philosophy, First Book: General Introduction to a Pure Phenomenology, tr. F. Kersten (The Hague: Nijhoff, 1982).
- Edmund Husserl, Ideas Pertaining to a Pure Phenomenology and to a Phenomenological Philosophy, Second Book: Studies In The Phenomenology Of Constitution. tr. Richard Rojcewicz and Andre Schuwer (Kluwer Academic Publishers: Dordrecht / Boston/ London,1993).
- Edmund Husserl, Cartesian Meditations: An Introduction to Phenomenology, tr. D. Cairns (The Hague: Nijhoff, 1973).
-Edmund Husserl, The Short Logical Investigations, tr.J.N.Findlay (Routledge: London and New York, 2001).
- Hubret L. Dreyfus. (ed.) Husserl, Intentionality and Cognitive Science, (Cambridge, MA: MIT Press, 1982).

-------------------------------------
[1]*- باحث في الفلسفة الحديثة وأستاذ جامعيّ- سوريا.
[2] - Edmund Husserl, ‘Philosophy as Rigorous Science’, in Phenomenology and the Crisis of Philosophy, ed. Q. Lauer (New York: Harper & Row, 1965), 71- 147
[3] -See: Edmund Husserl, Ideas Pertaining to a Pure Phenomenology and to a Phenomenological Philosophy, First Book: General Introduction to a Pure Phenomenology, tr. F. Kersten (The Hague: Nijhoff, 1982).
[4] -See: Edmund Husserl, Cartesian Meditations: An Introduction to Phenomenology, tr. D. Cairns (The Hague: Nijhoff, 1973).
[5] - Dermot Moran and Joseph Cohen, The Husserl Dictionary (Continuum International Publishing Group,2012) ,p.317.
[6] - Dermot Moran and Joseph Cohen, The Husserl Dictionary,pp.317 -318.
[7] -  Edmund Husserl, The Short Logical Investigations, tr.J.N.Findlay (Routledge: London and New York, 2001), pp.164- 178. 
[8] -Dieter Lohmar, Categorial Intuition, in: A Companion to Phenomenology and Existentialism. ed. Hubert L.Dreyfus and Mark A.Wrathall (Blackwell Publishing, 2006),p.115.
[9] -  Edmund Husserl, The Short Logical Investigations, p.92.
[10] - E.Husserl, Ideas Pertaining to a Pure Phenomenology and to a Phenomenological Philosophy, First Book: General Introduction to a Pure Phenomenology, tr. F. Kersten (The Hague: Nijhoff, 1982),pp.51-60.
[11] - E.Husserl, Ideas Pertaining to a Pure Phenomenology and to a Phenomenological Philosophy, Second Book: Studies In The Phenomenology Of Constitution. tr. Richard Rojcewicz and Andre Schuwer (Kluwer Academic Publishers: Dordrecht / Boston/ London,1993),p.412.
[12] - Husserl, Cartesian Meditations: An Introduction to Phenomenology, pp.20- 21.
[13]- Dermot Moran and Joseph Cohen, The Husserl Dictionary,p.299.
[14]- Edmund Husserl, The Short Logical Investigations,p.103.
[15]-Ibid.p.112.
[16]-Ibid, p.106.
[17]-Ibid, p.197.
[18]-Derrida, Speech and Phenomena and Other Essays on Husserl’s Theory of Signs (Evanston,IL: Notthwesttern University Press, 1973).And See: Dermot Moran and Joseph Cohen, The Husserl Dictionary,p.p.116- 118.
[19]-See: Hubret L. Dreyfus. (ed.) Husserl, Intentionality and Cognitive Science, (Cambridge, MA: MIT Press, 1982).
[20]-Husserl. Ideas 1..,p. 96.
[21]-Husserl, Ideas 1.. ,p. 128.
[22]-Ibid, 132. And see also: And See: Dermot Moran and Joseph Cohen, The Husserl Dictionary,p.p. 222 -224.
[23]-Ibid.p.129.
[24]- Edmund Husserl, The Short Logical Investigations,p. 199- 210.
[25]-Husserl, Ideas 1.., p.128.
[26]-Husserl. Ideas 1..,p. 89.
[27]- Husserl. Ideas 1..,pp. 129 -131.