الباحث : إبراهيم أحمد سعيد
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 31
السنة : صيف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث : September / 30 / 2023
عدد زيارات البحث : 921
الملخّص
لا شكّ أنّ القرون الوسطى تمثّل مرحلة مهمّة في تاريخ أوروبا؛ لأنّها جاءت بعد تراث حضاريّ أساسيّ أرست دعائمه الحضارة الإغريقيّة وطوّرته الحضارة الرومانيّة، وتكمن أهمّيّة القرون الوسطى في طبيعة التغيّرات التي حصلت داخل القارّة ذاتها، وخاصّة بعد الحروب الصليبيّة.
وقد كانت التغيّرات الداخليّة في القارّة خلال العصور الوسطى نتيجة لعوامل كثيرة متداخلة بدءًا من نتائج سيطرة البرابرة الجرمان على العاصمة المركزيّة (روما)، وانتهاءً بتراجع سيطرة الكنيسة وهيمنتها. ومن المتغيّرات المهمّة أيضًا تراجع العلاقات الإجتماعيّة-الإقتصاديّة بين طبقات المجتمع، وهذه التغيرات مهّدت لعصر التنوير فيما بعد.
لقد قام هذا البحث برصد عناوين التغيّرات الإجتماعيّة والإقتصاديّة في القارّة الأوروبيّة خلال القرون الوسطى لفهم طبيعة التحوّلات والتبدّلات في الجغرافيا السياسيّة الأوروبيّة. حيث نشأ الصراع بين الوثنيّة والمسيحيّة، فتشكّل المجتمع الأوروبيّ باختلاط الثقافتين.
وكان للحروب الصليبيّة دور بارز في تغيّر خصائص المجتمعات الأوروبيّة، فأنهت النظام العبوديّ وظهر النظام الإقطاعيّ بقوّة وبسرعة، ولكنّه في الوقت ذاته حمل براثن تبدّله وانهزامه أمام نشوء المدن الكبيرة التجاريّة وظهور الكومونات فيها. وأصبح هذا التغيّر مقدّمة لعصر التنوير الأوروبيّ والنهضة الأوروبيّة والاكتشافات الجغرافيّة العظيمة وما أحدثته من تغيّر على المستوى العالميّ في مجالات المعرفة والتقانة والاستعمار.
كلمات مفتاحيّة: القرون الوسطى، المسيحيّة، الحضارة الرومانيّة، الحروب الصليبيّة، الطبقيّة، الكنيسة، القارّة الأوروبيّة، النظام الإقطاعيّ.
المقدّمة
تُشكّل القرون الوسطى مرحلة مهمّة في تاريخ أوروبا؛ لأنّها جاءت بعد تراث حضاريّ أساسيّ أرست دعائمه الحضارة الإغريقيّة وأضافت إليه الحضارة الرومانيّة، على الرغم من محافظتها، في القواعد المنهجيّة والعلميّة إلى حدّ ما، على ما سبقتها إليه الحضارة الإغريقيّة وكذلك ما امتزجت به حضارة الشعوب البربريّة في الشمال. وتكمن أهمّيّة القرون الوسطى في طبيعة التغيّرات التي حصلت داخل القارّة ذاتها، وكذلك المؤثّرات التي تلقّتها من المشرق العربيّ إبان الحروب الصليبيّة وعبر معابر التأثير المباشرة عن طريق جزيرة صقليّة والجنوب الإيطاليّ وعن طريق الأندلس، حيث ترافق وجود العرب هناك مع امتداد القرون الوسطى، وكان خروجهم منها أحد أشكال انتهاء تلك العصور.
إنّ التغيّرات الداخليّة في القارّة خلال العصور الوسطى كانت نتيجة لعوامل كثيرة متداخلة بدءًا من نتائج سيطرة البرابرة الجرمان على العاصمة المركزيّة (روما) كونها أنهت وجود إمبراطوريّة كبيرة مهيمنة على أوروبا كلّها كما كان في السابق، وانتهاءً بتراجع سيطرة الكنيسة وهيمنتها وقدرتها على التدخّل في الممالك الأوروبيّة، بل نستطيع القول إنّ الممالك والحكّام والأغنياء (الإقطاع والنبلاء) استطاعوا التدخّل في الكنيسة، كتغيير بعض البابوات وفرض بعضهم الآخر، أو وجود أكثر من بابا في الوقت نفسه، وانتقال مركز البابويّة إلى خارج روما، إضافة لنشوء الكنائس القوميّة التي أدّت بالفعل إلى ربط الكنيسة بالسياسة، وبالتالي تراجع شعبيّة السلطة الدينيّة بين العامّة والخاصّة على حدّ سواء.
ومن المتغيّرات المهمّة أيضًا تراجع العلاقات الاجتماعيّة-الاقتصاديّة بين طبقات المجتمع، وظهور طبقة الصنّاع والتجّار، وإصابة النظام الإقطاعيّ في صميم مرتكزاته التي اعتمد عليها بوجوده لقرون كثيرة. وقد أسهمت حروب الفرنجة في المشرق، التي استمرت لنحو مئتي سنة، في توجيه ضربة للنظام الإقطاعيّ ولوجود الأقنان والعبيد على حدّ سواء، من خلال حصولهم على حرّيّاتهم إذا انخرطوا في تلك الحروب. ولكن لا ننسى الظلم الشديد من الاقطاعيّين الذي وقع على تلك الطبقة، مما دفع بهؤلاء، مع وجود بوادر الفرص المناسبة، إلى هروبهم والتخلّص من تلك السلطات القاسية.
ومن المتغيّرات المهمّة في القارة التي جاءت، كانت نتيجة للحروب التدميريّة البينيّة بين العائلات الحاكمة والرغبة في التوسّع على حساب بعضهم بعضًا، أو نتيجة لتوزيع الملك (الأقاليم والمقاطعات) بين أفراد العائلة ذاتها، وهذا حصل في معظم ممالك القارّة ضمن القرون كلّها، ومن المتحوّلات الإيجابيّة التي كان لها دور تراكميّ في التغيّرات داخل القارّة هي حركة استصلاح الأراضي وزيادة إنتاجيّتها وإنتاجها، وظهور حركة النقد والبنوك والتحويل؛ مما سهّل النموّ الاقتصاديّ والتجارة داخل القارّة وخارجها وإقامة السفارات، وحتّى نشأة بعض الدول وإقامة الأسواق التجاريّة الكبيرة ثمّ تحوّلها إلى مدن اقتصاديّة خارج مفهوم المدن التاريخيّة. وبعض الإصلاحات التي قام بها الحكّام أدّت إلى التغيّر في مفاهيم السلطة، كما حصل في إنكلترا بتشكّل البرلمان وتحديد سلطات الملك، وكذلك في فرنسا، بالإضافة لنشوء تجربة الإحصاء وحصر الملكيّات والسكّان والثروات.
وقد كان لتشكيل الكومونات في المدن (1100-1400) دور مهمّ في التصدّي لسلطة رجال الدين (الإكليروس) ولطبقة النبلاء والدفع بتشكّل طبقات جديدة في المجتمع على أساس مدنيّ، ليس دينيًّا ولا وراثيًّا، عماده الحِرَف الأوّليّة والتجارة، فتشكّلت فرق لحماية المدن وتحصينها ورعاية أفرادها اجتماعيًا وماديًا ضد الفقر والأمية وعمليات النهب والاعتداء والتخفيف من آثار الجائحات المرضيّة، وقد كوّنت اتحادات تجاريّة بين المدن تحوّلت إلى اتحادات عسكريّة وأمنيّة وتنظيميّة.
هكذا نجد أنّ القرون الوسطى بدأت بحال وانتهت بحال أخرى؛ مما جعل نهايتها مقدّمة لعصر التنوير والعلم والمعرفة واكتشاف القوانين الطبيعيّة والاجتماعيّة التي أدخلت أوروبا في الاكتشافات الجغرافيّة وما تبعها من إعمار لقارّات جديدة، ولظهور الاستعمار والإنتاج الاقتصادي الكبير، ولحركة التجارة العالميّة، وظهور العلاقات الدوليّة على أسس جديدة قائمة على المصالح من جهة وعلى الهيمنة الاستعماريّة من جهة أخرى، حيث الشمال والجنوب وحيث المركز والأطراف.
أوّلًا- إشكاليّة التغيّر الجيو سياسيّ للقارّة الأوروبيّة خلال القرون الوسطى
تُشكل القارة الأوروبيّة إحدى قارّات العالم القديم (آسيا، أفريقيا وأوروبا) ممتدّة من المحيط المتجمّد الشماليّ في الشمال، إلى البحر المتوسط والبحر الأسود وجبال القوقاز في الجنوب، ومن جبال الأورال وبحر قزوين في الشرق، إلى المحيط الأطلسيّ في الغرب. بمساحة تُقدّر بنحو 10.288 مليون كيلو متر مربع[2]، وهي تعادل نحو 7% من مساحة اليابس، ويبلغ عدد سكّانها نحو 750 مليون نسمة (2022م) وهذا يعادل نحو 9.4% من سكّان العالم. يبلغ طول شواطئها البحريّة نحو 61 ألف كم، وقد أُضيف إليها معظم جزر البحر المتوسّط (البليار، صقلية، سردينيا، كورسيكا، مالطا، قبرص وكريت) وأطول أنهارها نهر الفولغا، بينما يُعد نهر الدانوب أكثرها حيويّة؛ لأنّه يمرّ في ستّ دول (النمسا، سلوفاكيا، هنغاريا، صربيا، بلغاريا ورومانيا)، وأكبر بحيرة فيها بحيرة لادوغا الروسيّة.
يوجد في أوروبا نحو 50 دولة ذات سيادة، وتوجد أقاليم عدّة ضمن دول مهيأة للاستقلال، وهي تسعى لذلك (الباسك، برشلونة، بريتاني، الألزاس، اللورين، اسكوتلند، ويلز...). وتوجد بالفعل جملة من العوامل أو الأسباب التي تدفع باتجاه التغيّر الجيو سياسيّ في القارّة الأوروبيّة منذ القرون الوسطى وحتى الآن، ولكنّها كانت أكثر شدّة وحركة في القرون الوسطى.
المطلب الأوّل: أسباب التغيرات الجيوسياسيّة في القرون الوسطى
كانت أوروبا مسرحًا للتغيرات الجيوسياسيّة السريعة في القرون الأولى من العصور الوسطى وذلك لأسباب متعددة يأتي في مقدمتها:
1. التناقض العقديّ في المجتمعات الأوروبيّة منذ أن أصبحت المسيحيّة ديانة الدولة الرومانيّة في القرن الرابع (مرسوم ميلان)، بالمقابل كانت الوثنيّة عقيدة مهيمنة على وسط وشمال أوروبا ومعادية سياسيًّا للإمبراطوريّة الرومانيّة.
2. انقسام الإمبراطوريّة الرومانيّة إلى قسمين: شرقيّ وعاصمته القسطنطينيّة، وغربيّ وعاصمته روما، وقد ارتكب الإمبراطور تيودوسيوس الأوّل خطأً كبيرًا عندما قام بتقسيم الإمبراطوريّة بين ولديه أركاديوس على القسم الشرقيّ وأنوريوس على القسم الغربيّ[3]، مما دفع بظهور التناقض الجيوسياسيّ بين إمبراطوريّة الشرق (القسطنطينيّة) وإمبراطوريّة الغرب (روما)؛ لذلك لم تهدأ محاولات التوسّع عند كلّ جزء على حساب الجزء الآخر وباستخدام كلّ الوسائل السياسيّة والعقديّة والعسكريّة.
3. اكتساب الوثنيّة قدرة عسكريّة قويّة من أقوام وشعوب الشمال الطامحة للمياه الدافئة والمناخ المتوسّطيّ (الجرمان، الوندال، الفايكونغ، السلاف...) وقد استطاعت بالفعل تدمير السلطة السياسيّة في روما، ولكنّها تبنّت العقيدة المسيحيّة وأصبحت جزءًا من السلطة المدعومة بموافقة وتبريكات الكنيسة.
4. التحوّل الملموس في قوّة الإنتاج في المجتمعات الأوروبيّة، في القرون الأولى من العصور الوسطى، من العبيد إلى الأقنان الزراعيّين أو الفلّاحين، حيث تراجعت الحروب وقلّت أهمّيّة العبيد كمحاربين؛ ولذلك قام السادة (أغنياء المجتمع) بتقسيم الأراضي واستصلاحها وتوزيعها على العبيد ليتحوّلوا إلى فلّاحين منتجين بحصص محدّدة؛ مما أوجد علاقات اجتماعيّة جديدة قائمة على التمسّك بالأرض وإيجاد التشريعات الضابطة لها، فشكّلوا فيما بعد طبقة منتجة أساسيّة في أوروبا العصور الوسطى[4].
5. تشكّلت ملامح الحضارة الأوروبيّة بتلاقح بين الثقافة اليونانيّة والرومانيّة والجرمانيّة، ولكنّها في القرون الخمسة الأولى سمّيت بالعصور المظلمة لتراجع الحضارة الرومانيّة وتردّيها في مجالات المعرفة وسيادة ظلام التخلّف في الحياة الفكريّة[5].
6. سيطرة الكنيسة ممثّلة برجال الدين الموزّعين في أرجاء أوروبا، دنيويًّا وأخرويًّا، من خلال التدخّل في تعيين الأباطرة (الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة) وإعطائهم الغطاء السماويّ بالتعميد والمباركة، وهذه كانت ضروريّة للحكام، وفي الوقت ذاته كان رجال الدين يمتلكون الحظوة الكبرى في البلدات والمدن الأوروبيّة لإقامة الشعائر الدينيّة، في الولادة والموت والإرث وغير ذلك من المناسبات (عيد الميلاد، الفصح....) في الكنائس والحصون، وأصبحت سلطة الكنيسة قويّة بعد سقوط روما. فالتغيّرات الجيوسياسيّة كانت متوافقة مع القدرات الداخليّة ضمن أقاليم الإمبراطوريّة الرومانيّة وعلى هوامشها في الشرق والشمال، حيث قبائل السلاف والجرمان والهون والكلت، مما دفع بتلك القدرات إلى التحرّك جغرافيًّا على حساب الجوار، حسب قوّة كلّ قدرة من حيث ثرواتها ومقاتليها ومدى استمراريّتها بالدعم المادّيّ والروحيّ من رجال الدين المحلّيّين ومن البابا أيضًا.
7. تفكيك الإمبراطوريّة الرومانيّة، وذلك نتيجة لأسباب عدّة أهمّها:
أ. خسارتها لإنكلترا وانسحابها منها.
ب. خسارتها لإسبانيا، حيث تمّ احتلالها من القوط الغربيّين ومن البرجنديّين.
ت. استقرار الألمان في الألزاس بعد عبورهم نهر الراين.
ث. احتلال الفاندال شمال أفريقيا.
ج. الآثار المدمّرة للزواج السياسيّ من أجل عقد تحالفات ومحاور ضمن الممالك الأوروبيّة[6]، فأصبحت قوى نبذ وتضادّ مع السلطة المركزيّة.
8. إن تشكّل الممالك المتطاحنة مع بعضها والمتوسّعة على حساب بعضها أدى إلى عدم الاستقرار السياسيّ، وإلى سرعة التغيّرات في حدود تلك الممالك: كمملكة اللومبارديّين وممالك الأنغلوساكسون ومملكة الفرنجة التي كانت تعاني من صراعات قويّة بين مقاطعاتها الثلاث المكوّنة لها (برجنديا، أوسترازياونيستريا). كان الصراع شديدًا بين الملوك والإقطاع، وعندما تكون العائلة المالكة ضعيفة يصبح الصراع داخليًّا على مستوى سيطرة الحجّاب على القصور الملكيّة، وكذلك صراع الحجّاب مع الوزراء، فتعمّ الفوضى إلى درجة تصبح فيها الوزارة والحجابة بالوراثة ولعائلات محدّدة، وأصبحت وظيفة الملك شكليّة لاستقبال السفراء وتوقيع القرارات. من هؤلاء على سبيل المثال: شارل مارتل، الذي أصبح بطل المسيحيّة ضد العرب لانتصاره على عبد الرحمن الغافقي في معركة بواتيه (بلاط الشهداء) في عام 732م، فقد حكم مملكة الفرنجة كحاجب، وليس كملك حتى عام 741م[7]، وأصبح ابنه بيبيان القصير ملكًا، وأسّس عائلة ملكيّة وحظي بموافقة البابا، وغدا أقوى ملوك أوروبا بتحالفه مع البابا، فتوسّع في كلّ الاتجاهات على حساب العرب في الأندلس، وأخضع البافاروالساكسونوأكيتانيا، ثمّ تعاون مع الإقطاع وحسّن التنظيم الداخليّ للدولة وضمن لمملكته الاستقرار الاجتماعيّ بشكل نسبيّ[8].
9. كان لا بدّ من القضاء على الوثنيّة الأوروبيّة الممثّلة بالساكسون لثلاثة أسباب مهمّة:
الضغط الشديد من الكنيسة للقضاء على الوثنيّة؛ لأنّها مناهضة لها ومغايرة في العقيدة إضافة للخسارة الكبيرة التي تصيب الكنيسة بعدم دخول الوثنيّين للمسيحيّة، ودفع ما يترتّب عليهم من الشعائر الدينيّة المتعدّدة والمدرّة للأرباح.
الخطر الكبير الذي يشكّله الوثنيّون الهمج على الممالك المتحضّرة، وكثرة هجومهم عليها؛ لأنّهم قساة أشدّاء؛ لذلك حاربهم شارلمان (أقوى ملوك أوروبا كوالده بيبيان القصير) ثلاثًا وثلاثين سنة (772-804م).
لأنّ الساكسون الوثنيّين يحتلّون منطقة جغرافيّة مهمّة في موقعها كوسط وشمال أوروبا، وواسعة تمتدّ من بحر البلطيق إلى بحر الشمال في الغرب وإلى جبال الألب في الجنوب، وهي أراضٍ زراعيّة خصبة، وفيها مراعٍ مهمّة اقتصاديًّا.
لقد اتّبع شارلمان مع الساكسون الوثنيّين وسائل متعدّدة للقضاء على الوثنيّة ولفرض سيطرته عليهم، فقد أرسل البعثات التبشيريّة لإدخالهم في المسيحيّة، وقام بشراء أكثريّة أمرائهم بالمال، وقام بإحداث الفتن بين مجموعاتهم ليقاتلوا بعضهم بعضًا، واعتمد على المزج وإدخال شعوب أخرى داخلهم للتقليل من هيمنة الساكسون وإضعاف عقيدتهم، واعتمد القسوة الشديدة في القتل والإعدام، ففي يوم واحد قتل 4500 وثنيّ. وأدّى اختلاط شعوب أوروبا الغربيّة مع الوسطى والشرقيّة لتفاعل العناصر اللاتينيّة والجرمانيّة بعقائدها المتنوّعة مشكّلة مزيجًا حضاريًّا جديدًا لأوروبا في العصور الوسطى[9]. لقد جرى عقد قويّ بين شارلمان والبابا أساسه: توطيد سلطة شارلمان بتأييد الكنيسة مقابل أن ينشر المسيحيّة في كلّ المناطق التي احتلها وضمّها لمملكته[10]، مع محاربة العرب في الأندلس والقضاء على المذهب الأريوسيّ. وكان بالنتيجة أن أصبح شارلمان أوّل إمبراطور تتوجّه الكنيسة في روما معمّدًا بالزيت المقدّس وبلقب القيصر والإمبراطور أوغسطس، من خارج الأصل الرومانيّ أو اليونانيّ، فهو من أصل جرمانيّ بربريّ[11]. بالنتيجة انقسمت أوروبا إلى إمبراطوريّتين: البيزنطيّة وعاصمتها القسطنطينيّة، والإمبراطوريّة الفرنجيّة الكارولنجيّة وعاصمتها مدينة آخن في الغرب، ولم تعد روما عاصمة.
من المفيد قبل نهاية هذا المطلب إظهار دور الملك الحاكم (الإمبراطور) شارلمان في وضع أسس جديدة في القارّة الأوروبيّة، حيث شكّلت نقلة نوعيّة نحو تغيّر مهمّ في المجتمعات الأوروبيّة، فقد حكم سبعة وأربعين مملكة وأجزاء واسعة من أوروبا، وكانت له علاقة قويّة مع هارون الرشيد لحماية المؤسّسات المسيحيّة والحجّاج المسيحيّين في الأراضي المقدّسة، وقد وافق هارون الرشيد على إرسال مفاتيح بيت المقدس لشارلمان، ولعلّ أهمّيّة شارلمان في التغيّرات اللاحقة عمومًا، وفي وضع الأسس السليمة للنهضة الأوروبيّة (الكارولنجية) خصوصًا، تأتي في بناء المدن والحركة العمرانيّة الكبيرة ببناء المدارس والكنائس والجسور وشقّ الطرقات وحمايتها، وقرّب إليه العلماء والشعراء والمؤرّخين واهتمّ باللغة اللاتينيّة وبالتشريع والقضاء والإدارة، وقام بتدوين كلّ القوانين والأعراف عند القبائل الجرمانيّة والأغاني التي تمجّد أعمال ملوكهم القدامى لكي يتمّ نقلها للأجيال الجديدة[12]. على الرغم من أنّه حاربهم وقتل شبابهم وثوّارهم (الساكسون) وقام بتوحيد الموازين والمكاييل، وحدّد أسعار القمح، وحمى التجارة، وأنزل العقوبات بالمخالفين، وشدّد الحراسة على الطرق الداخليّة لحماية المسافرين والتجّار من اللصوص وقطّاع الطرق[13].
لقد اهتمّ شارلمان بالزراعة، وشجّع الإقطاع وكبار الملاّك على تحسين الزراعة والعناية بالجسور، وشجّع الصناعة والصنّاع واستخراج المعادن واهتم بالصناعات الخشبية والجلدية وعمل على حمايتها من المنافسة الخارجيّة. كان شارلمان مثالًا للحاكم القويّ صاحب النظرة الإستراتيجيّة، عامل خصومه بقسوة وبحنكة، وأغدق على المتعاونين معه، ولكنّه اعتمد سياسة عدم ثباتهم في وظائفهم وأماكنهم الجغرافيّة حتى لا تقوى شوكتهم. وتعامل مع الكنيسة بوضوح: تدعمون سلطتي وأدعم سلطتكم وأعمل على رعاية حركة التنصير في الأماكن الوثنيّة.
10. أدّت معاهدة فردان (843م) بين أحفاد شارلمان من ابنه لويس التقيّ إلى نشأة ثلاث دول لأوّل مرّة في أوروبا بالأسماء التي بقيت مستمرّة بعدها؛ فرنسا، ألمانيا وإيطاليا. إنّ تقسيم الممالك كان بين الأخوة الذكور، وإذا مات أحدهم زحف أخوه على مملكته أو مملكة ابن أخيه وأخذها، كما حصل مع أحفاد شارلمان. وعندما تمّ تأسيس الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة في عهد الأسرة الساكسونيّة التي أسّسها أوتو الكبير (919-1024م)، التي تحاربت مع الهنغار والنورمانديّين، قام رئيس الأساقفة ماينز بتتويج أوتو وسلّمه سيف شارلمان قائلًا له: خذ هذا السيف وحارب به كلّ أعداء المسيحيّة والوثنيّين والمسيحيّين المرتدّين، لأنّه وبإرادة الله قد حصلت على كلّ سلطات مملكة الفرنجة للحفاظ على سلام كلّ المسيحيّين» ثمّ قدّسه بالزيت المقدّس وأعطاه الصولجان والعصا الملكيَّين.
11. ومن أسباب التغيّر الجيو سياسيّ في أوروبا في نهاية المرحلة الأولى من القرون الوسطى ما قام به الإمبراطور كونراد الثاني (1024-1039م)، حيث رأى أن احترام الحاكم لا يأتي من الكنيسة، بل من الحرب والشجاعة والقوّة، وعلى الرغم من أنّ هنغاريا بزعامة الملك ستيفان وبولندا بزعامة بوليسلاف وكذلك بوهيميا، قد ثارت ضدّه، ولكنّه هزمها جميعًا، فقام بإلغاء المناصب الوراثيّة لكبار الإقطاعيّين والأدواق وحرّضهم ضدّ بعضهم بعضًا حتّى لا يتّحدوا ولا يشكّلوا خطرًا، بل ليكونوا تحت إمرته بالعموم. وقام بإعادة توزيع الأراضي في ألمانيا وأعطاها لصغار الإقطاع فضمن ولاءهم له.
12. عدم التوافق والانسجام بين الكنيسة والسلطة الدنيويّة (الملوك والأباطرة) لفترات طويلة مما عجّل في التغيّرات الاجتماعيّة والسياسيّة، كما حصل مع هنري الخامس (1106-1126م) الذي جاءت به الكنيسة، ولكنّها سرعان ما ثارت ضدّه؛ لأنّه عاد إلى سيرة أبيه العلمانيّة، فحرمته الكنيسة من الرعاية، وتمّ عزله من المنصب الإمبراطوريّ، ولكنّه عاد وعزل البابا ذاته، فتدخّل في الكنيسة وقام بتعيين رجال دين مؤيّدين له، وزحف باتجاه البابا(باسكال الثاني) في روما، فهرب منها إلى النورمانديّين في جنوب إيطاليا؛ مما دفع بهنري الخامس إلى تعيين بابا جديد (كالكستس الثاني)، وتمّ توقيع اتفاق بينه وبين الكنيسة عُرف باتفاق هورمز (23/ 9/ 1122) يتضمّن: انتخاب الأساقفة في ألمانيا يتمّ دون تدخّل البابا ذاته، وأنّ انتخاب الأساقفة ورؤساء الأديرة خارج ألمانيا يتمّ دون تدخّل الإمبراطور، ويحقّ للإمبراطور تكليف الأسقف بمهمّات دنيويّة بعد موافقة البابا، ويحقّ للإمبراطور تقليد الأسقف المنتخب قبل تقليده من الكنيسة؛ كذلك يحقّ للإمبراطور حضور الانتخابات الكنسيّة داخل ألمانيا فقط. وبذلك أوجد هذا الاتفاق صيغة توافق وسطيّة بين سلطة الإمبراطور الدنيويّة وسلطة الكنيسة الأخرويّة. وفي الوقت ذاته أوجد هذا الاتفاق بيئة مناسبة لنشاط الأمراء والأثرياء والنبلاء في مجالات بناء الحصون واستصلاح الأراضي والتجارة، فأسسوا لتنظيم سياسيّ شبه مستقلّ عُرف لأوّل مرّة في وسط وجنوب أوروبا. وعلى العكس من ذلك، فقد عاد الخلاف مرّة ثانية بين السلطة الأخرويّة (البابا أنوتسنت الثالث) وبين السلطة الدنيويّة ممثّلة بالإمبراطور فريدريك الثاني (1212-1250م)، الذي كان سياسيًّا محنّكًا ومثقّفًا ومحاربًا شجاعًا، وكان يعرف العربيّة، وكان شاعرًا وفيلسوفًا وعالمًا في الطبّ والهندسة، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه أعجوبة العالم[14]. وسبب هذا الخلاف أنّ الإمبراطور لم يفِ بوعده للبابا بتجهيز حملة إلى فلسطين، ولم يكتفِ بصقلية، بل أراد شمال إيطاليا، وقام بتتويج ابنه هنري ملكًا على صقلية وعلى الإمبراطوريّة أيضًا؛ مما دفع بالبابا الجديد (غريغوري التاسع) إلى إصدار فرمان بحرمان فريدريك من رحمة الكنيسة، ولكنّه في عام 1228م قاد حملة إلى فلسطين وعقد اتفاقيّة مع السلطان كامل الأيوبيّ مدّتها عشر سنوات، وقد سمّى نفسه على أثرها بالإمبراطور الرومانيّ وملك صقلية والقدس، ولكن عادت الخلافات مع الكنيسة ثمّ انتهت بصلح سان جرمان 1230م.
13. ومن أسباب التغيّر الجيوسياسيّ في نهاية الفترة الأولى من القرون الوسطى خروج الدانيماركيّين من بيئتهم الجغرافيّة، فسيطروا على النرويج في الشمال بقيادة سفيند، وكذلك تمّ فرض الضرائب على الإنكليز، ولكن الإنكليز حشدوا طاقاتهم بزعامة أثلرد وبتأييد نورمانديا (بالزواج السياسيّ)، فقتلوا الدانيماركيّين الموجودين في إنكلترا بوحشيّة، ومن بينهم أخت ملك الدانمارك وزوجها، فغزاها سفيند وانتقم من الإنكليز (1009-1012م) وسلب وقتل وبطش ودمّر وفرض سيطرته المطلقة على إنكلترا وأصبح ملكًا عليها في عام 1013م، وجاء ابنه من بعده كنوت، الملقب بالعظيم، ملكًا على إنكلترا والنرويج، وعندما انتقم أثلرد مرّة ثانية من الدانيمركيّين تعاون الأخان (كنوت وهارولد) ملكا الدانمارك والنرويج للسيطرة على إنكلترا من جديد، وقد تمّ تقسيم إنكلترا إلى مملكتين؛ واحدة لكنوت، والثانية لابن أثلرد (أدموند)، وكان الاتفاق إذا مات أحدهما يرثه الآخر، فمات أدموند بعد سنة، فأصبح كنوت ملكًا على إنكلترا كلّها دون قتال. وبعد وفاة هارولد ملك الدانمارك أصبح كنوت إمبراطورًا على إنكلترا والدانمارك والنرويج، ولُقّب بالكبير، وتمّ ضمّ إيرلندا وأركاد وإيكوسيا إلى الإمبراطوريّة في عام 1030م. حافظ كنوت الكبير على الأنظمة الداخليّة لممالك إمبراطوريّته، فقد بقي لكلّ منها نظمها وقوانينها ومجالسها الخاصّة بها، دون وجود نظام واحد مطبّق على الممالك الثلاث[15].
لقد مثّلت العلاقة بين كنوت الكبير والكنيسة مثالًا للتعاون المتبادل، حيث دعمت الكنيسة سلطة كنوت سياسيًّا وروحيًّا، بالمقابل قام كنوت بنشر الدين المسيحيّ في الدانمارك والنرويج. وكان دور كنوت في إنكلترا مختلفًا وممنهجًا، حيث قام بالقضاء على كلّ من يتوقّع أنّه سيكون معارضًا (الحرب الاستباقيّة على المعارضة). وقام بتوزيع الملكيّات الواسعة على الأمراء المؤدّين، وعمل على تشجيع الاندماج بين الأنغلوساكسون والدانماركيّين، وقام بتنشيط التجارة مع البلاد المجاورة، وضمن سلامة الطرق التجاريّة وحركة التجّار والمسافرين.
14. أسهم تعاون الكنيسة مع القوّة الناهضة في غرب أوروبا ممثّلة بالدوق غليوم النورمانديّ، مضافًا إليها دور المرتزقة والطامحين للمغامرة وجمع الثروة، إلى السيطرة على إنكلترا، فالكنيسة المركزيّة (البابا) لم تكن راضية عن كنيسة إنكلترا، فدفعت بالسلطة الإقطاعيّة المركزيّة الحامية للكنيسة إلى غزو إنكلترا، وقد تحقّق لها ذلك في عام 1066م، واستسلمت لندن، وتوجّ غليوم ملكًا في عيد الميلاد باسم غليوم الأوّل ولُقّب بغليوم الفاتح[16]. يُعد غليوم الفاتح من أكثر الحكّام الذين أثّروا بإنكلترا؛ وذلك لما قام به من إجراءات جديدة ضمنت له الدخل الكافي لشنّ الحروب، فالحروب تحتاج إلى أموال كبيرة، وأهمّ تلك الإجراءات: تجريد الإقطاعيّين من ملكيّاتهم الواسعة وتسليمها لموظّفين نورمانديّين، وتحويل إنكلترا كلّها إلى دولة إقطاعيّة، حيث تحوّل الفلّاحون إلى أقنان، وجعل الإقطاعات متداخلة مع بعضها حتى لا تتكوّن النزعات الانفصاليّة والتمرّد، ولكن كان لهذه الإجراءات دور إيجابيّ في بناء الحصون والقصور، ولعلّ من أهمّ الإجراءات المميّزة والجديدة هو القيام بوضع كتاب إحصائيّ سُمّي بكتاب الحساب الأخير، لتقدير الضرائب وحجم الخدمات الإقطاعيّة والعسكريّة المفروضة على الآخرين أمام الملك، وهي تُعدّ التجربة الأوروبيّة الأولى. في الوقت ذاته زاد من ملكيّات التاج الملكيّ لتصبح نحو سبع الأراضي الصالحة للزراعة في إنكلترا؛ مما زاد في ترسيخ سلطة الملك[17]. ومن الإجراءات التي اتخذها استبدال رجال الكنيسة الإنكليز برجال الكنيسة النورمانديّة، لكن بالاتفاق مع البابا نفسه. وقام بإجراء غريب، حيث جمع كبار الملّاك والأغنياء وأقسمهم اليمين على طاعته، فبلغ عددهم ستين ألفًا في مدينة سالزبوري. عمل غليوم الفاتح على تقسيم إنكلترا إلى مقاطعات يحكم كلًّا منها حاكم مدنيّ نورمانديّ يُدعى الشريف مهمّته جمع الضرائب وأرباح ملكيّات الملك، وكذلك من مهمّاته المحافظة على النظام ومراقبة المحاكم في المقاطعة. وحتّى يضمن وجود قوّة قادرة على تلبية احتياجاته الأمنيّة والقتاليّة قام بإنشاء جيش إقطاعيّ ومليشيا شعبيّة داعمة له، وختم إجراءاته المميّزة بتشكيل مجلس مستشارين يضم شخصيّات دينيّة ومدنيّة وعسكريّة لبحث الأمور المهمّة والمستجدّة.
وشكّل حفيد غليوم الفاتح، هنري الأوّل (1100-1135) محطّة مميّزة أيضًا في إنكلترا، حيث أنشأ مجلس مستشارين ليكون خبيرًا في القضاء والسياسة وعمل الخزينة ومجلس الشؤون الماليّة، بحيث يتوجب على الشريف الحاكم أن يُقدّم مرّتين في العام من دخله وأرباحه، وسمح للسكّان بالتقاضي أمام محاكم واحدة، فاستطاع الحدّ من سلطة البارونات وعزّز بذلك صغار الملاّك. واهتمّ هنري الأوّل بمدينة لندن العاصمة، حيث منحها الإدارة المحلّيّة الذاتيّة، وأعطى سكّانها حقّ التقاضي في المدينة وأعفى منتجاتها وبضائعها من الرسوم الجمركيّة، فتطوّرت المدينة بسرعة بصناعاتها وتجارتها، وخاصّة صناعة الأقمشة وتصديرها. انظر الخريطة رقم (2).
المطلب الثاني: أسباب التغيّرات الجيوسياسيّة في القرون الأخيرة من العصور الوسطى
لقد اكتسبت المجتمعات الأوروبيّة خبرات معرفيّة وسياسيّة من التغيّرات المتلاحقة في أرجاء القارة الأوروبيّة، ولكن مع ذلك نجد ملامح عامّة مشتركة سيطرت على القارّة مثل:
1. السيطرة الواسعة للكنيسة ثقافيًّا وروحيًّا مع وجود قاعدة مادّيّة كبيرة، كانت تتحصّل عليها من مصادر متعدّدة مثل: إقامة الشعائر الدينيّة وتحويل أموال وأملاك وممتلكات المترهبنين للكنيسة، بالإضافة لاستيلائها على أملاك الفارّين والمنتحرين والمقتولين والهراطقة والمطرودين، وكانت للكنيسة أيضًا أملاك خاصّة بها في روما وفي أرجاء أوروبا كلّها ـ وكانت تأتيها أرباح كبيرة من بيع الوظائف الدينيّة والسياسيّة حسب أهمّيّة كلّ وظيفة بالإضافة إلى الضرائب السنويّة على الأساقفة أنفسهم، ولا تقلّ أهمّيّة عنها صكوك الغفران التي يحتاجها الناس، وفقًا لجهلهم، على الأحياء والأموات على حدّ سواء عن خطاياهم المرتكبة. وكانت الكنائس تتلقّى تبرّعات كثيرة لتجهيز الحملات الصليبية من الناس والأمراء والأغنياء مع كثير من الهدايا والمنح من الملوك ومن الإقطاع والأغنياء لقاء التقرب من الكنيسة لأهداف متباينة.
2. سيطرة الجهل وتراجع دور العقل والعقلانيّة والمحاكمات العقليّة، حيث سادت الغيبيّات بأشكالها المختلفة كالخرافات والسحر والهرطقة، مع انتشار الأمّيّة والفقر واستخدام اللغة اللاتينيّة في الشعائر الدينيّة وفي المدارس، وكان عامّة الناس لا يفهمون هذه اللغة مما دفعهم إلى الابتعاد أكثر عن مصادر المعرفة والتربية والتعلّم.
3. لقد أدّت الحروب الصليبيّة، التي امتدت من عام 1095 إلى عام 1291م بحملاتها الثمانية، إلى نتائج أصبحت مقّدمة لتغيّرات جذريّة في القارّة، حيث: تحسّن الإنتاج الصناعيّ في أوروبا، وتحسّن وتنوّع الإنتاج الزراعيّ بإدخال أنواع كثيرة من المحاصيل والأشجار المثمرة، ونشأت صناعات عسكريّة تابعة للجيوش غيّرت فيما بعد بعض المفاهيم العسكريّة في الحروب وفي التسليح وفي بنية الجيوش. ومن نتائج هذه الحروب خسارة المسلمين للبحر المتوسّط وتحوّله لسيطرة المدن التجاريّة الكبيرة كالبندقية وجنوا ومرسيليا وبرشلونة. وقد قويت سلطة البابا وأصبحت مقدّسة أكثر؛ لأنّه قام بحروب مقدّسة في نظر الأوروبيّين، فحصد ثمارها في صكوك الغفران أو قرارات الحرمان من بركة السماء. ولكن في الوقت ذاته قويت سلطات الملوك، وخاصّة الذين شاركوا في الحروب الصليبيّة، وعلى الأخصّ ملوك فرنسا، ونستطيع القول إنّ الحروب الصليبيّة في الغالب كانت حروب فرنسا على الشرق، فالبابا أوربان الثاني، الذي بدأ بالحروب كان فرنسيًّا، والمملكة التي أنشأت في الشرق كانت فرنسيّة. وقد أدّت الحروب الصليبيّة إلى زيادة الانقسام بين الدول (الشعوب) التي شاركت في هذه الحروب، وخصوصًا الكبيرة منها كفرنسا وإنكلترا وألمانيا، حيث جرى الفرز القوميّ في الميدان أثناء الحروب وتقسيم الغنائم وإقامة المقاطعات وبناء الحصون والتجارة. وقد ترسّخ الانقسام بين الغرب اللاتينيّ الكاثوليكيّ والشرق البيزنطيّ الأرثوذكسيّ والوصول إلى حالة التصادم في المستويات كافّة، الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. وشكّلت عودة المقاتلين من المشرق إلى أوروبا عمومًا نقلة نوعيّة في البناء الاجتماعيّ الاقتصاديّ. فقسم من هؤلاء تمّ تحريره بقرار من البابا وضمان حقوقهم وأملاكهم حتى يعودوا بالإضافة لإعفاء عموم المشاركين من الضرائب ومن الديون المستحقّة عليهم، فكان للعائدين دور مهمّ في إضعاف النظام الإقطاعيّ والحدّ من سلطاته، وشكّل مقدّمة لعلاقات اجتماعيّة جديدة في المدن الكبيرة أسهمت بالانتقال فيما بعد إلى دول المدن وسلطاتها وللنظام البرجوازيّ كقطيعة مهمّة مع النظام الإقطاعيّ.
وكان من نتائج الحروب الصليبيّة أيضًا انقسام المجتمعات الأوروبيّة إلى طبقات مترابطة مع بعضها، في مقدّمتها الطبقة البرجوازيّة التي تبوّأت قيادة تلك المجتمعات للتغيير والتنوير والدفع بها إلى الأمام، وظهور طبقة عمّال المدن والمانيفكتورات (الورش والمعامل الصغيرة) التي تُشكّل أغلبيّة سكّان تلك المدن، بالإضافة إلى الفقراء والمشرّدين. وظهرت عادات اجتماعيّة مستوردة قائمة على الترف والإسراف في كلّ مجالات السلوك عند الأغنياء (الخدمة البيتيّة في الطعام والشراب واللباس والعطور وبناء القصور وتزيين الجدران وامتلاك الخناجر المطعّمة بالعاج والمرصّعة بالأحجار الكريمة، ومعظمها تمّ استقدامه من المشرق).
4. الآثار القويّة التي تركتها حرب المئة عام (الحرب الإدوارديّة) بين فرنسا وإنكلترا ما بين (1337-1453م) بهدف الحصول على امتيازات أو أراضٍ داخل فرنسا (بوردو، مقاطعة جاكسوني) استنادًا إلى الإرث الملكيّ والزواج السياسيّ، فإدوارد الثالث ملك إنكلترا طالب بعرش فرنسا عندما توفّي ملكها شارل الرابع (1328م)، ولم يكن يوجد وريث إلّا هو عن طريق والدته إيزابيلا أخت الملك شارل الرابع، وهذه كانت سابقة؛ حيث لا تورّث النساء بالحكم، وتمّ تعيين فيليب السادس ابن عم شارل الرابع ملكًا على فرنسا. وقد أدّت العوامل الاقتصاديّة دورها في هذه الحرب كمحاولة لمنع الإنكليز من خيرات غرب فرنسا المرتبطة بالإنكليز (الزراعة والصيد والتجارة). وقد تعاقب على هذه الحرب الطويلة عشرة ملوك، خمسة فرنسيّين وخمسة إنكليز. وكان من أسبابها الكساد الاقتصاديّ الذي أصاب القارّة، وسيطرة إنكلترا على القنال الإنكليزيّ الذي يُشكّل خطورة على البرّ والسواحل الفرنسيّة.
وقد كان لجان دارك (عذراء أورليان) دور مهمّ في انتصار فرنسا، حيث انتصرت على إنكلترا في معركة باتي 1429م، ولكنّها أُسرت في معركة كومبيين شمال مدينة باريس في عام 1431م فاتُّهمت بالسحر وأُرسلت إلى إنكلترا، حيث أُعدمت حرقًا عام 1437م. وانتصر الفرنسيّون أخيرًا في عام 1457م (معركة كاستيلون)، وانتهت الحرب رسميًّا بتوقيع معاهدة بيكوغني 1475م، وبقي للإنكليز مقاطعة كاليه على الساحل الفرنسيّ. هنا يمكن القول إنّ الشعور القوميّ الفرنسيّ والإنكليزيّ شكّل أهمّ تلك النتائج، وكذلك التأثير الاقتصاديّ الكبير على إنكلترا، حيث تراجعت الحياة الاقتصاديّة، وكانت مقدّمة لحرب الوردتين في إنكلترا، ومن نتائجها أيضًا تراجع صلاحيّات ملك إنكلترا، وتقوية سلطة البرلمان، وتراجع صلاحيّات طبقة النبلاء.
ومن نتائجها في فرنسا نهاية مطالبة الإنكليز بالعرش الفرنسيّ، وبالتالي قويت سلطة العرش، وأصبح أكثر استقرارًا، فتشكّلت حكومة فرنسيّة قويّة تتقن الإدارة في عهد شارل السابع. وتمّ تشكيل جيش نظاميّ بقيادة ضبّاط متمرّنين، ولم يُسمح للإقطاعيّين بدخوله ولا بتشكيل جيوش، ولم يُسمح لهم بدخول فئة الفرسان أيضًا. ومن النتائج المهمّة تخصيص ضريبة وطنيّة لصالح الجيش، وتمّ في الوقت ذاته دعم الجيش بالمدفعيّة واستخدام البارود كسلاح استراتيجيّ جديد، ولكن حصل التضخم في الأسعار، وتمّ تخفيض قيمة العملة عن طريق الغشّ في المعادن التي تُصنع منها.
في إنكلترا كانت النتائج سريعة ومتغيّرة جدًّا، فبعد الأزمة الاقتصاديّة بدأت تتطوّر صناعة الصوف ونمت تجارتها، وفي الجانب الثقافيّ حلّت اللغة الإنكليزيّة مكان الفرنسيّة في المحاكم والمراسلات والأعمال الأدبيّة وفي البرلمان؛ نظرًا لنموّ الإحساس القوميّ، أمّا على الصعيد السياسيّ والإداريّ، فقد ازدادت صلاحيّات البرلمان وتقلّصت سلطات الملك، والأهمّ من هذا كلّه، هو تراجع المجتمع الإقطاعيّ وظهور المجتمع البرجوازيّ في المدن، حيث الحرّيّة للأفراد في الحركة والعمل والتعبير.
5. ومن الأسباب التي أسهمت في التغيّرات الجيوسياسيّة في أوروبا في النصف الثاني من القرون الوسطى الشعور القوميّ عند الشعوب الأوروبيّة مع ما رافقه من انعكاس ذلك على الكنيسة ذاتها، حيث بدأت بالظهور ما يُعرف بالكنيسة الوطنيّة، وهي وإن لم تفقد صلاتها وروابطها مع الكنيسة الأمّ في روما أو القسطنطينيّة، فإنّ تلك الروابط بدأت بالضعف وكذلك دخول الملوك على الخطّ ذاته لما فيه مصلحة لها بتشجيع الشعور القوميّ الدينيّ والدنيويّ؛ لأنّه يُقّوي من سلطات الملوك الوطنيّين ويدفع باتجاه تراجع سلطة الكنيسة والإمبراطوريّة الأوروبيّة (الرومانيّة المقدّسة)؛ لأنّه كثيرًا ما كان المتحمّسون للسيطرة على الكنيسة الأم توجّههم أطماع كبرى للسيطرة على أوروبا أو معظمها.
6. بعد فشل الحروب الصليبيّة وعودة الجيوش إلى أوروبا بدأ أمراء الحروب بإقامة إماراتهم وملكيّاتهم داخل القارّة على حساب بعضهم بعضًا، وقد رافق ذلك حروب تبشيريّة، ليس ضدّ الوثنيّة فقط، بل ضدّ المذهبيّة أيضًا.
7. هجرة أعداد كبيرة من سكّان الأرياف إلى المدن والاستقرار فيها، مما أدّى إلى ظهور حركة عمرانيّة كبيرة لاستيعاب تلك الأعداد القادمة ولنشاط اقتصاديّ صناعيّ وتجاريّ مهمّ، سواء أكان في المدن القديمة أو في إنشاء مدن جديدة على طرق المواصلات البرّيّة والنهريّة والبحريّة، كلّ هذا الحراك الكبير أسهم مباشرة، أو مع الزمن، بتراكم المشكلات والقضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وبالتالي السياسيّة، وبالدفع نحو الانتقال إلى التغيّر في علاقات الطبقات الاجتماعيّة الاقتصاديّة بما يخدم سلطات المدن.
8. تشكيل كومونات داخل المدن التي تحرّرت بقوّة السلاح معتمدة على قوّة محلّيّة مكوّنة من الصنّاع والتجّار وبعض النبلاء الذين تأذّوا من قوى الإقطاع والكنيسة، حتّى أنّ بعض الملوك والأمراء أيّدوا هذه القوى ووطّدوا العلاقات معها، بل سيطروا عليها، كما حصل في فرنسا. وقد انطلقت هذه الكومونات من إيطاليا إلى باقي المدن الأوروبيّة. وشكّلت هذه الكومونات نقلة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وفكريّة داخل المجتمعات الأوروبيّة. ففي إنكلترا اندمجت كومونات المدن مع بعضها ونتج عنها تكوين البرلمان الإنكليزيّ، الذي يُعدّ أهمّ مكوّن مدنيّ مقابل السلطة الملكيّة والذي جعل من إنكلترا دولة ملكّية برلمانيّة. وفي ألمانيا وإيطاليا كان لتلك الكومونات دور أكبر في المجتمع بسبب غياب سلطات مركزية، لذلك طوّرت بنيتها وشكّلت اتحادات حربيّة وصناعّية وتجاريّة، ووضعت مجالس قياديّة مركزيّة لها، وانتخبت رؤساء لها. والسؤال هو أنّه كيف استطاعت أن توجِد لها تأثيرًا قويًّا داخل مجتمعاتها، ويمكن بيان الجواب من خلال الخطوات الأربع الآتية:
أ. إنشاء قوات عسكريّة تدافع عن المدن ضدّ أيّ خطر خارجيّ.
ب. الإشراف المباشر على الأنشطة الاقتصاديّة المتنوّعة والمتكاملة في المدن، في الصناعة والتجارة والنشاط الماليّ.
ت. فتح المدارس والاهتمام بالتعليم، الذي يُعدّ أهمّ عامل في تغيير المجتمع، وخاصّة إذا عرفنا أنّ هذه الكومونات امتدّت نحو ثلاث مئة سنة (1100-1400م)، وهذا بالفعل فتح المجال أمام بناء أجيال تحمل العقليّة العلميّة والتنوير، الذي أسهم في التقدّم الأوروبيّ وفي تراجع هيمنة الكنيسة.
ث. تنظيم فرض الضرائب على مستوى الدخل وتوجيهها لتأمين احتياجات المدن من الغذاء وبناء الجسور وشقّ الطرقات والساحات وبناء الأحياء الجديدة لاستيعاب الأعداد المتزايدة وبناء السدود لتأمين المياه للزراعة وتربية الحيوانات والأسماك.
ولكن هذه الكومونات، كأيّ حركة اجتماعيّة اقتصاديّة سياسيّة، حملت في أحشائها أسباب تفجّرها من الداخل، وأهمّ تلك الأسباب الآتي: تنافس تلك المدن على الأراضي الزراعيّة البينيّة لتأمين الاحتياجات الغذائيّة، إلى درجة الاقتتال فيما بينها، نشوء خلافات قويّة على الحدود الإداريّة للمدن، التنافس التجاريّ الحادّ ضمن أسواق المدن ومحاولات الهيمنة على الأسواق حسب القوّة المادّيّة (الماليّة) لكلّ سوق، وقوع خلافات حول وضع الضرائب المستحقّة على الجسور والطرق، بالإضافة إلى الخلافات العائليّة المتوارثة بين المدن، الصراع بين السلطات الدينيّة (الكنيسة) والدنيويّة (الحكّام) ملوكًا أو أمراء[18]. وقد تحوّلت مجالس بعض المدن إلى إدارات متسلّطة ديكتاتوريّة لتدخّلها في تفاصيل الأنشطة الاقتصاديّة، كتحديد الأسواق وأوقاتها وأنواعها والمكاييل والمقاييس والعقود والأسعار والنوعيّة (الجودة) والضرائب، ودخول المحسوبيّات والواسطات فيها، مما أدّى إلى زيادة البطالة وإعاقة الأنشطة الإبداعيّة وعمليّات الابتكار والمنافسة الحرّة.
9. تأسيس اتحاد مدنيّ تجاريّ في عام 1230م في ألمانيا بين مدينتي هامبورغ وليوبك، وهو اتحاد تجاريّ ماليّ، وتبعتها مدن أخرى في شمال غرب ألمانيا، فكانت داخليّة أوّل الأمر، ثمّ أصبحت خارجيّةً لها فروع في لندن وبلجيكا وغيرها من البلدان، وقد سمّاها الإنكليز بشركة التج!ار الألمان الشرقيّين إيسترلنغ، ومنها اشتُقّ الجنيه الاسترلينيّ، وقد سُمّي هذا الاتحاد بالعصبة الهانزيّة، التي بقيت حتّى عام 1450م. وكان لهذه العصبة الدور الكبير في نشأة سلطات جديدة لم تكن تعرفها القارّة الأوروبيّة، فاستطاع رأس المال التجاريّ أن يُشكّل جيوشًا وأساطيل تجاريّة وعسكريّة لحماية خطوط التجارة من القراصنة، ومن التدخّلات الخارجيّة، ومن تدخّلات الملوك والكنيسة، واستطاعت أن تهزم ملك الدانمارك؛ لأنّه حاول فرض ضرائب عليها (1340-1375م)؛ وبذلك أصبحت قوّة مميّزة قادرة على تغيير حكامها وأن تضع آخرين، خاصّة في الدول الاسكندنافية، ولكن كان مصير هذه العصبة التفكك لأسباب تشبه أسباب تفكّك الكومونات ومنها: الصراع بين العصب وسلطات المدن الأخرى، وكذلك الصراع بينها وبين الأمراء الألمان الإقطاعيّين؛ لأنّ مصالح هؤلاء متناقضة كلّيًّا مع مصالح العصبة الهانزيّة؛ فأعضاء العصبة تجّار محاربون يملكون ثروات هائلة وأسواقًا كبيرة، داخليّة وخارجية، وهذا يتعارض حتمًا مع مصالح الأمراء الإقطاع الذين يعتمدون على الزراعة والتسويق الداخليّ والهيمنة على الأرياف.
وكان لظهور الشعور القوميّ داخل مؤسّسات العصبة تأثيره على الوظائف والأرباح والأسواق، بالإضافة إلى التنافس بين مدن العصبة وفق المصالح الذاتيّة لكلّ مدينة وانعكاس ذلك على الأنشطة التجاريّة الخارجيّة، وكذلك ظهور دول جديدة مهيمنة تجاريًّا في معظم أوروبا كالبرتغال وإسبانيا وفرنسا وإنكلترا وهولندا [19].
ثانيًا- خصائص المجتمعات الأوروبيّة التي ولّدت التناقضات المصيريّة لتغيّر الجغرافيا السياسيّة في القرون الوسطى
إنّ الحديث عن خصائص المجتمعات الأوروبيّة التي ولّدت التناقضات الأساسيّة في أوروبا ودفعت إلى التغيّر في الجغرافيا السياسيّة فيها يضع جملة من الخصائص المتكاملة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا وقياس تبدّلها خلال تسعة قرون من الزمن؛ لذلك تمّ التركيز على أهمّ تلك الخصائص وعلى دورها الفعّال:
1. انصهار المجتمع الجرمانيّ الوثنيّ مع المجتمع الرومانيّ اللاتينيّ المسيحيّ، وإخراج مجتمع جديد يحمل صفات جديدة أوروبيّة، ويحمل في الوقت نفسه تناقضات أساسيّة استمرّت في القرون اللاحقة، وظهرت آثارها في السلطة، وفي نموّ الشعور القوميّ ضمن مكونات هذا المجتمع.
2. استمرار الصراع السياسيّ والعقديّ وحتّى الاقتصاديّ بين القسم الشرقيّ من الإمبراطوريّة وبين القسم الغربيّ منها جعل بعضها يتحالف مع قوى من خارج القارّة أو من خارج الانتماء المسيحيّ.
3. تبدّل سلطة الكنيسة ودرجة هيمنتها على المجتمع الأوروبيّ، فقد تراجعت هذه الهيمنة روحيًّا وسياسيًّا بعد القضاء على الإمبراطوريّة الرومانيّة الكلاسيكيّة في عام 476م، ثمّ تطوّرت ونمت بما يتوافق مع مصالح الحكّام وتأسيس الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة وقدرتها على الهيمنة وفرض سيادتها من جهة ومع خصائص وقدرات الباباوات الذين استلموا الكرسيّ الرسوليّ في روما، وقد وصلت إلى عزّها أيّام البابا أوربان الثاني، الذي استطاع توحيد قدرات أوروبا وتوجيهها في حروب مدمّرة إلى الشرق (الحروب الصليبيّة أو حروب الفرنجة)، ولكن العامل الكبير الذي أثّر في السلطة البابويّة هو الانشقاق الكبير (1378-1418م) عندما انتخب الفرنسيّون البابا كليمنت السابع (1378-1394م) في مدينة أفينون بتدخّل شارل الخامس الملك الفرنسيّ، ولأوّل مرّة يظهر دور العامل القوميّ في انتخاب البابا، وفي الوقت ذاته انتخب الإيطاليّون البابا أوربان السادس (1378- 1389م) في روما.
لقد أدّى هذا الانشقاق إلى نتائج خطيرة على الكرسيّ البابويّ وإلى تراجع وانحطاط مكانة البابويّة ذاتها، بل والكنيسة كلها، وأثّر كذلك على الكنائس التي ترعى مصالح الناس في المجتمع الأوروبيّ، وعمّت الفوضى فيها من خلال تأثير وتلاعب كلّ كنيسة بالأساقفة التابعين لها على أساس شرعيّة هذه دون تلك، أو أدّى بالنهاية إلى انقسام أوروبا إلى مركزيّن واضحين، فرنسا وإيطاليا، وكان لذلك تبعات على المستويين الدينيّ والسياسيّ، وتمّ أيضًا تشكيل مجمع دينيّ كنسيّ ثالث في بيزا عام 1409م، فقام بخلع البابوين في أفينون وروما وتعيين بابا ثالث، ولم تُحلّ هذه القضيّة إلّا بتدخّل ملك هنغاريا سجسموند، الذي كان حاكمًا للإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة (1411-1437م) فشكّل مجمعًا دينيًّا جديدًا استمرّ أربع سنوات وبأمر الملك تمّ خلع البابوات الثلاثة وانتخاب بابا جديد مارتن الخامس (1417-1431م) من أسرة أرستقراطيّة معروفة في أوروبا (أسرة كولونا)، وهي الأسرة ذاتها التي كانت سببًا في الأزمة البابويّة.
4. انقسام المجتمع الأوروبيّ إلى طبقات اجتماعيّة متباينة، ولكنّها متعاركة في الوقت ذاته، فطبقة رجال الدين (الإكليروس) الناظمة للقضايا الروحيّة أوّلًا، والتي كانت تستقرّ في الأديرة، منعتقة من مشكلات حياة الناس واهتماماتهم المادّيّة، والقسم الآخر منها مادّيّ دنيويّ بشدّة، وهم الذين يهتمّون بقضايا الناس اليوميّة والأخرويّة على حدّ سواء، في الصلاة والولادة والموت والزواج وغيرها، ويتمثّلون بالبابا ورئيس الأساقفة (الكردينال) والأساقفة والقسّيسين والشمّاسين.
وتأتي طبقة النبلاء والفرسان، حيث يسيطرون على المجتمع وعلى موارده وأنشطته الاقتصاديّة وحتّى الاجتماعيّة، ويترأّسهم الدوق، فالكونت، فالمالك الكبير، فالإقطاعيّ، وأخيرًا الفارس المحارب.
أمّا الطبقة الثالثة المهمّة في المجتمع، التي تُشكّل الأساس المادّيّ للمجتمع الأوروبيّ، فهي طبقة الفلّاحين المنتجين للغذاء، أساس الاستقرار الاجتماعيّ، وهذه الطبقة على ثلاثة مستويات وهي: الفلّاحون الأحرار، والأقنان أو رقيق الأرض، والعبيد وهم رقيق البيوت ويعملون في الزراعة عندما يتطلّب الأمر ذلك، وعندما يزداد عددهم وتقلّ أهمّيّة وجودهم في خدمة المنازل، فيُحولون إلى الأرض للعمل بها دون مقابل.
لقد شكّل قانون شارلمان بتحديد العلاقة بين السيّد المالك والتابع الذي يعمل عنده أساسًا لسيطرة وقوة السلطة الإقطاعيّة، حيث لا يحقّ للتابع المالك أن يتخلّى عن سيّده إلّا في حالة الاعتداء عليه أو على أفراد أسرته أو تحويله إلى قنّ تابع، فأصبحت سلطة الإقطاعيّ أقوى من بقيّة السلطات لأنّها مباشرة، فقويت سلطة الطبقة الأرستقراطيّة على حساب السلطة المركزيّة ذاتها.
ولعلّ من أهم أسباب تراجع سلطة الكنيسة هو ابتعادها عن أهدافها الأساسيّة الأخرويّة، والاهتمام بأمور الدنيا والسياسة، وعدم قدرتها على مواكبة التغيّرات التي حصلت في المجتمعات الأوروبيّة. وفي الوقت ذاته تمكّنت بعض العائلات الأرستقراطيّة والإقطاعيّة من السيطرة على الكنيسة عمومًا وعلى البابويّة خصوصًا، فالبابا بونيفاس الثامن (1294-1308م) قام بإعطاء أموال البابويّة لأقربائه، فسارعت عائلة كولونا الأرستقراطيّة بالسيطرة على أملاك البابا كلّها، فبادلها البابا العمل ذاته، وقام بتوزيع أملاك العائلة وثرواتها على أقربائه.
لقد دبّ الفساد في السلطة البابويّة، فاتّهمت بالرفاهية والملذّات وفي بيع المناصب، وقد سيطرت عليها فرنسا، فمن بين 28 كردينالًا في مجلس الكرادلة كان 25 منهم فرنسيّين، فقرارات البابويّة أصبحت في غالبيّتها لخدمة السياسة عمومًا والفرنسيّين خصوصًا.
5. لقد أسهمت الحروب الصليبيّة في تغيّر البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة في المجتمعات الأوروبيّة، فمن شارك في تلك الحملات تمّ إلغاء القنانة (عبوديّة الأرض) عنه، بالوقت ذاته وبالنظر إلى قلّة العمّال الزراعيّين، فقد قام الإقطاعيّون بتحرير العبيد وتحويلهم إلى أجراء يعملون في الأرض لقاء أجر محدّد مما زاد من الإنتاج وحسّن من إنتاجيّة الأرض ومستوى الدخل عمومًا[20]. وأدّت نتائج الحروب الصليبيّة إلى زيادة الهجرة من الأرياف إلى المدن، وبالتالي الانتقال إلى حالة اجتماعيّة اقتصاديّة جديدة.
تعرّض طبقة الفلّاحين في أوروبا إلى تغيّرات جذريّة دفعت ببعضهم إلى المدن هربًا من ظلم الإقطاع، أو لغياب الأمن والاستقرار وتسجيل أراضيهم باسم الإقطاعيّ لحماية أنفسهم من المخاطر أو من الضرائب، فأصبحوا شبه أقنان يتحكّم بهم الإقطاعيّ، أو بسبب الجفاف وتدنّي الإنتاج وعدم كفايته لحياة مقبولة، بل إنّ بعضهم وهب أملاكه للكنيسة وانضمّ إلى الأديرة، إمّا لغايات عقديّة، أو هربًا من مخاطر الحياة والديون.
ثالثًا- ديناميك التغيّر والحركة في الجغرافيا السياسيّة للقارّة الأوروبيّة في القرون الوسطى
يُعدّ الحراك الاجتماعيّ الصاعد وتوجيه هذا الحراك نحو أهداف اجتماعيّة كبيرة أحد أهمّ المتغيّرات التي أسهمت في تغيّر الخريطة السياسيّة للقارّة، حيث بدّل هذه الحراك حدود الدول وقدرة وكوامن القوّة في السلطة المركزيّة التي تمثّلها الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة، كما عكس جملة المتغيّرات في القارّة بإقامة التحالفات بين الممالك لحماية نفسها أو للتوسّع على حساب ممالك أخرى ضمن مصالح سريعة التغيّر، وبالتالي كثرت التحالفات، فاتسمت بعدم متانتها وعدم استمراريّتها أو ديمومتها؛ لذلك كانت السمة السياسيّة للقارة هي سرعة التغيّر وقوّة التطاحن ونشوء ممالك وإمارات وزوالها، إمّا لأسباب خارجيّة، ولكنّها من القارّة ذاتها، أو لأسباب داخليّة ضمن أفراد العائلة الحاكمة، فالأخوة يتصارعون على السلطة، وكذلك الأبناء، وحتّى الأحفاد مع أعمامهم. مع ذلك كان للعوامل المادّيّة الإنتاجيّة والتجاريّة دور مهمّ في تغيّرات الجغرافيا السياسيّة الأوروبيّة، ونشير هنا إلى أهمّ تلك العوامل الطرق التجاريّة، وهي على ثلاثة أنواع:
الطرق البرّيّة داخل القارّة، وقد كانت في القرون الأولى على درجة جيّدة من المتانة، بالرصف وإقامة الجسور ونقاط المراقبة والأمن، ولكنّها أُهملت بعد سيطرة البرابرة على روما وتعرّضت للتدمير والتراجع بسبب كثرة اللصوص وقطّاع الطرق، ولكن بعد القرن العاشر عادت تلك الطرق للازدهار وسيادة الأمن فيها وتكوين فرق للحراسة والمرافقة، وقد توطّدت حالات الأمن مع تكوين سلطات المدن والكومونات وإقامة الأحلاف، كحلف الراين والعصبة الهانزيّة وبناء الفنادق على الطرق للتجّار والمسافرين والخانات للحيوانات وإقامة الكنائس والأديرة، وتحوّل بعضها فيما بعد إلى مدن صغيرة وظيفتها الأساسيّة خدمة التجّار والمسافرين وعربات الجرّ لنقل الركّاب والبضائع.
الطرق النهريّة، للطرق النهريّة دور كبير في التواصل بين المراكز العمرانيّة الأوروبيّة بسبب كثرة الأنهار وصلاحيّتها للملاحة وحركة السفن، كالدانوب والراين والسين والرور والأوب وغيرها، بالإضافة إلى شقّ القنوات بين الإقطاعات واستخدام الترع في نقل الركاب والبضائع، ولكن هذا النوع من الطرق يحتاج إلى العناية الدائمة من التنظيف أو التجمّد وإقامة الموانئ النهريّة، بالإضافة إلى الضرائب التي كان يفرضها الإقطاعيّون على التجّار، ولكن التجّار شكّلوا اتحادات خاصّة بهم لحماية وسائل النقل وصيانة الأنهار والمراسي وبنائها بالشكل المناسب. فالطرق النهريّة كانت بالفعل مهمّة جدًّا ولا زالت على الصعيدين الاقتصاديّ والاجتماعيّ، بل لقد استخدمتها بعض الممالك في وسط أوروبا لتحريك ونقل قواتها العسكريّة.
الطرق البحريّة، وهي طرق ذات أفضليّة في النقل والحركة؛ لعدم وجود ضرائب عليها، وهي رخيصة قياسًا بالوسائل البريّة والنهريّة، ولكونها تحمل كمّيّات أكبر من البضائع والمواد الأوّليّة وتنقل مسافرين أكثر، وقد ساعد النظام العبوديّ والإقطاعيّ على تأمين القوّة البشريّة المحرّكة لها من العبيد، بالإضافة لقوّة الرياح، وقد تمّ تأمين الحماية لها بسفن حربيّة خاصّة أحيانًا من هجمات القراصنة. وقد ظهرت مدن كثيرة بقوّتها البحريّة التجاريّة كالبندقيّة وميلانو وجنوا ومرسيليا وبرشلونة ولندن ولشبونة وهامبورغ وغيرها. وأسهم هذا بظهور أسواق كبيرة في أوروبا كأسواق منطقة الشامبانيا في شمال فرنسا ضمن نظام تحدّده البلديّات والسلطات في التقسيم والضرائب والأوقات.
ومن العوامل التي أسهمت في التغيّر الاقتصاديّ، وبالتالي السياسيّ هو نشأة المصارف والبنوك، التي بدأت في إيطاليا في مدينتي جنوا (بنك القديس جورج) وفلورنسا، ثمّ انتقلت إلى المدن الأوروبيّة الكبيرة، وجاءت فكرة نشأتها تلبية للاحتياجات التي تكوّنت لأسباب متعدّدة: وجود حقّ لكلّ أمير بصكّ نقود خاصّة به تستخدم في إمارته (مقاطعته)، ولا يمكن استخدامها في مقاطعات أخرى، وكذلك نموّ حركة التجارة بين المدن وعدم القدرة على حمل النقود إلى أماكن المبادلات التجاريّة؛ لزيادة وزنها وبسبب عمليّات الغشّ في المعادن المصكوكة منها، مما دفع باتجاه إقامة مراكز ماليّة وابتكار الحوالات والشيكات والكمبيالات كطريقة سهلة تناسب هذا التغيّر في نمط المعاملات التجاريّة، ولكن في الوقت ذاته ظهرت العمليّات الربويّة الكبيرة والفوائد التي بدأ اليهود باستخدامها، ثمّ أصبحت عامّة.
ومن العوامل المهمّة أيضًا استصلاح مساحات واسعة جدًّا من الغابات والمروج وتحويلها إلى أراضٍ زراعيّة، فأدّت إلى زيادة الإنتاج والإنتاجيّة الزراعيّة، وهذا مهمّ للأمن الغذائيّ للقارّة، ولكن مع ذلك فقد أسهمت عمليّات الاستصلاح في التغيّر الاجتماعيّ الاقتصاديّ، فزادت الحاجة إلى قوّة العمل الزراعيّة، ولم يكن يوجد بديل لسدّ النقص إلّا بتحويل العبيد إلى الأرض، فكانت الضربة القاضية للنظام العبوديّ والانفتاح نحو النظام الإقطاعيّ. ولعبت أدوات الإنتاج الزراعيّة الجديدة في الحراثة والحصاد وفي شقّ القنوات النهريّة وإقامة السدود واستخدام الأسمدة العضويّة في تطوّر الزراعة وزيادة الإنتاج، وقد أدّى ذلك إلى ظهور التخصّص الاقتصاديّ الاجتماعيّ، فأصبح للمدن الدور الكبير في خدمة الأرياف، من خلال صناعة الأدوات والمعدّات الضروريّة الإنتاجيّة والاستهلاكيّة على حدّ سواء، ثمّ الانتقال من أسلوب المقايضة إلى تقدير الأثمان بالنقود، وبالتالي نشأة البنوك والحوالات.
إنّ ظهور التخصّص الإنتاجيّ والخدميّ، كضرورة اقتصاديّة واجتماعيّة، جعل من المدن الكبيرة مراكز تطوّر وإشعاع في المجتمعات الأوروبيّة. فهي تقوم بصناعة الأدوات الزراعيّة والمعدّات المرتبطة بها ووسائل البناء والنقل ومراكز العبادة والتعليم والخدمات الاجتماعيّة الأخرى، وهي تُمثل كذلك أسواقًا لتصريف المنتجات الريفيّة الزراعيّة (النباتيّة والحيوانيّة)، بالإضافة إلى تحوّل كثير من المدن إلى موانئ بحريّة أو نهريّة لعقد مواصلات برّيّة ذات قيمة استراتيجيّة، وقد تحوّلت فيما بعد إلى أقاليم صناعيّة كما في شمال فرنسا وفي إنكلترا وألمانيا وهولندا وجنوب البلطيق، فتشكّلت الطبقة البرجوازيّة الجديدة التي أُنيطت بها، فيما بعد، عمليّات التغيّر الاجتماعيّ والسياسيّ في المجتمعات الأوروبيّة، وبجوارها بالطبع كانت طبقة العمّال المنتجة التي شكّلت ديناميك هذا التغيّر.
وقد كان لتبدّل مسار الصراع الداخليّ ضمن المجتمعات الأوروبيّة دوره في ديناميك التغيّر في الجغرافيا السياسيّة الأوروبيّة، فمع تبلور دور المدن الصناعيّة التجاريّة عصفت في تلك المدن قوى ذات فعاليّة كبيرة، حيث تشكّلت النقابات العمّاليّة ونقابات المدن لتدافع عن مصالح السكّان، خاصّة ضدّ الإقطاع في البداية، واستطاعت أن تُحدث تغيّرًا عميقًا، ولكن الصراع انتقل ليُصبح ضدّ أغنياء المدن والتجّار والصيارفة وضدّ زعماء النقابات ذاتها، وقد استمرّ هذا الصراع في القرون الأخيرة من العصور الوسطى ما بين القرن الثالث عشر وحتّى نهاية القرن الخامس عشر وبداية الاكتشافات الجغرافيّة التي أدّت إلى حالة الانتقال إلى العالم الجديد وتخفيف الاحتقان داخل القارّة الأوروبيّة والتحوّل إلى مراكز جذب بعيدة عن القارّة جغرافيًّا وحضاريًّا.
الخاتمة
لقد قام هذا البحث برصد عناوين التغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في القارّة الأوروبيّة خلال القرون الوسطى لفهم طبيعة التحوّلات والتبدّلات في الجغرافيا السياسيّة الأوروبيّة. فبعد القضاء على سلطة روما (الإمبراطوريّة الرومانيّة) في عام 476م من قبل البرابرة نشأ الصراع بين الوثنيّة الجرمانيّة والمسيحيّة العقديّة، الممزوجة باليونانيّة والرومانيّة، كان النصر فيها للأخيرة فتشكّل المجتمع الأوروبيّ باختلاط الثقافتين، وقد كان للكنيسة الدور المهمّ في ذلك التغيّر، ولكنّه كان مدعومًا من ملوك وأباطرة مميّزين حملوا راية التبشير من جهة والهيمنة والسيطرة على المراكز الكبرى في أوروبا من جهة ثانية، كما حصل مع شارلمان (772-804م)، وقد رافق هذا التبدّل التحوّل الملموس في قوّة الإنتاج من حالة العبيد إلى حالة الأقنان الزراعيّين والفلّاحين، ولكن التبدّل في مكانة الكنيسة ما بين القوّة، التي وحّدت أوروبا للدخول في الحروب الصليبيّة، إلى الضعف الذي انتابها في مكانتها وهيبتها بل وقدسيّتها عندما انقسمت، بداية بين الشرق والغرب إلى تأثير الملوك في تعيين البابوات ومجامع الكرادلة إلى وجود أكثر من بابا، وحتّى ظهور العامل القوميّ المؤثّر على الكنيسة (شارل الخامس). وكان للحروب الصليبيّة دور بارز في تغيّر خصائص المجتمعات الأوروبيّة، فأنهت النظام العبوديّ وظهر النظام الإقطاعيّ بقوّة وبسرعة، ولكنّه في الوقت ذاته حمل براثن تبدّله وانهزامه أمام نشوء المدن الكبيرة التجاريّة وظهور الكومونات فيها واكتسابها خبرة ومعارف جديدة في التنظيم والإدارة والاهتمام بالتعليم وبتأسيس الجيوش للحماية الذاتيّة، وفي بناء السدود والجسور وشقّ الطرقات وغيرها، وتطوّر هذه الحالة إلى إقامة الاتحادات التجاريّة الكبرى كالعصبة الهانزيّة، التي رافقها بناء الموانئ والأساطيل التجاريّة وما يرافقها من قوّات بحريّة منظّمة لحماية التجّار وأساطيلهم من القراصنة، وقد شابه ذلك على البر (اليابس) إقامة الحصون ومراكز المراقبة على الطرق البرّيّة وحماية التجارة الداخليّة. ثمّ نشأة المصارف والبنوك ومفاهيم الحوالات والشيكات وغيرها من الأمور الماليّة التي رافقتها عمليّات التخصّص الإنتاجيّ والخدميّ وتنظيم العلاقة بين المدن وأريافها مادّيًّا في الأسواق والصناعة، وثقافيًّا في التعليم والخدمات الروحيّة، مما ساعد في توجيه الحراك الاجتماعيّ الاقتصاديّ نحو تغيّر بات ملموسًا في نهاية القرون الوسطى، وأصبح مقدّمة لعصر التنوير الأوروبيّ والنهضة الأوروبيّة والاكتشافات الجغرافيّة العظيمة وما أحدثته من تغيّر على المستوى العالميّ في مجالات المعرفة والتقانة والاستعمار.
قائمة المصادر والمراجع
1- إينهارد: سيرة شارلمان. ترجمة: عادل زيتون، دار حسان، دمشق 1989م.
2- حاطوم، نور الدين، تاريخ العصر الوسيط في أوروبا، ج1، دار الفكر، دمشق، 1982م.
3- زيتون، عادل، تاريخ العصور الوسطى الأوروبيّة، جامعة دمشق، 1982م.
4- طرخان، إبراهيم علي، دراسات في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، دولة القوط الغربيين، مكتبة النهضة المصريّة، القاهرة، 1998م.
5- عمران، محمود سعيد، معالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، دار النهضة العربيّة، بيروت، 1986م.
6- فرح، نعيم، تاريخ أوروبا السياسيّ في العصور الوسطى، ط7، جامعة دمشق، 2007م.
7- فرح، نعيم، الحضارة الأوروبيّة في العصور الوسطى، جامعة دمشق، 2010م.
8- كانتور، نورمان ف. التاريخ الوسيط، قصّة حضارة البداية والنهاية، ج1، ترجمة: قاسم عبده قاسم، ط5، عين الهرم، 1997م.
9- كانتور، نورمان ف. التاريخ الوسيط، قصة حضارة البداية والنهاية، ج2، ترجمة: قاسم عبده قاسم، القاهرة، 1997م.
10- نعمة، غطّاس، نوفل، وضّاح، تاريخ أوروبا وحضارتها في القرون الوسطى، جامعة دمشق، 2017م.
-------------------------
[1]- باحث وأستاذ في قسم الجغرافية بكلية الآداب في جامعة دمشق.
[2]- في مراجع أخرى يتأرجح الرقم بين 10.180 إلى 10.458 مليون كم2 وهذا يعود لاختلاف عدد الجزر ومساحاتها وتبعيّتها السياسيّة.
[3]- نعمة، غطاس، نوفل، وضّاح، تاريخ أوروبا وحضارتها في القرون الوسطى، جامعة دمشق، 2017م، ص34.
[4]- فرح، نعيم، تاريخ أوروبا السياسيّ في العصور الوسطى، جامعة دمشق، 2010م، ص11.
[5]- حاطوم، نور الدين، تاريخ العصر الوسيط في أوروبا، ج1، دار الفكر، دمشق. 1982م، ص12.
[6]- لقد اتّبع تيودريك ملك القوط الشرقيّين، كمثال على الزواج السياسيّ، هذه الطريق، فقد تزوّج بشقيقة ملك الفرنجة وزوّج ابنة أخيه لملك الثورنجيّين، وزوّج إحدى بناته لملك القوط الغربيّين، والثانية لملك البرجنديّين، فأصبح زعيمًا للبرابرة. عمران، محمود سعيد، معالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، دار النهضة العربية، بيروت، 1986م، ص99-100.
[7]- فرح، نعيم، تاريخ أوروبا السياسيّ في العصور الوسطى، ط7، جامعة دمشق، 2007، ص45.
[8]- حاطوم، نور الدين، تاريخ العصر الوسيط في أوروبا، ج1، م.س، ص98-100.
[9]- فرح، نعيم، تاريخ أوروبا السياسيّ في العصور الوسطى، م.س، ص55.
[10]- عمران، محمود سعيد، معالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، م.س، ص176.
[11]- طرخان، إبراهيم علي. دراسات في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، دولة القوط الغربيّين، مكتبة النهضة المصريّة، القاهرة، 1998م، ص306.
[12]- إينهارد: سيرة شارلمان. ترجمة: عادل زيتون، دار حسان، دمشق 1989م، ص146-147.
[13]- عمران، محمود سعيد، معالم تاريخ أوروبا، م.س، ص180.
[14]- عمران، محمود سعيد: معالم تاريخ أوروبا، م.س، ص209.
[15]- فرح، نعيم: تاريخ أوروبا السياسيّ، مرجع سابق، ص157.
[16]- كانتور، نورمان ف. التاريخ الوسيط، قصة حضارة البداية والنهاية، ج2، ترجمة: قاسم عبده قاسم، القاهرة 1997م، ص389-391.
[17]- فرح، نعيم. تاريخ أوروبا السياسيّ، م.س، ص160.
[18]- زيتون، عادل: تاريخ العصور الوسطى الأوروبيّة، م.س، ص431.
[19]- حاطوم، نور الدين. تاريخ العصر الوسيط في أوروبا. م.س، ص397-402.
[20]- زيتون، عادل. تاريخ العصور الوسطى. م.س، ص419-423.