البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ما بعد الأخلاق وما بعد الفضيلة

الباحث :  نورة بوحناش
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  33
السنة :  شتاء 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 16 / 2024
عدد زيارات البحث :  261
تحميل  ( 563.573 KB )
الملخص
يسعى هذا البحث إلى الحفر عميقًا في مصطلح «ما بعد الأخلاق»، الذي تشكّل نتيجة تسارع خطوات الإنسان نحو التفلّت من كل الضوابط والمعايير؛ لذلك، فإنّ أسئلة ما بعد الأخلاق دائمًا ما تُعاني من ارتياب داخليّ من الأخلاق المعيارية التي تعطي للشيء قيمةً بناء على مجموعة من المقولات من قبيل: الخير والشر، والمحمود والمذموم. وتعالج الباحثة في هذا البحث ما بعد الأخلاق من خلال تفصيل الكلام في حقيقة الما بعد، والإشارة إلى تقاطع الدلالات بين الميتاأخلاق وما بعد الأخلاق، كما تُسلّط الضوء على الذات ما بعد الحديثة في خضم الانفكاك من الأخلاق، وتُشير إلى العلاقة بين ما بعد الأخلاق وفلسفة الجسد.

الكلمات المفتاحيّة: المابعد - الأخلاق - الفردانيّة - ما بعد الأخلاق - الميتاأخلاق.

تمهيد
يمثّل التسارع سمة العصر البارزة، ليغدو الوجود معه سيلانًا إلى المجهول وتقصّيًا للايقين، وسيرًا نحو المحو المتتالي للذات، فما يدفعها في هذا الوجود، هو نسب المنافع واللذات التي تستزيدها كسبًا دون هوادة. لقد تشكّلت لدى الإنسان في زمن التسارع السائل، فوبيا التغيير حتى لم يعد له مقدرة على قبول ذاته، وسرى في درب المغايرة الجسدية، التي بدت له ضرورية، في زمن لم يعد يمتلك قيمًا محيطة به، بل هو الذي يخلقها برهة، ثم يعود فيُمِيُتهَا تقويضًا في برهة قصيرة. قادت هذه الحقيقة الأنطولوجية إلى الانفتاح على مساحة اللايقين الأخلاقي، بنهاية لصلابة القيمة وزوالها، في إطار محيط فرداني، شديد التمسك بأنا وحيدة في هذا العالم، تعيش تشقّق العدم وقلق الوجود الفاقد للأسس. من هنا تنبثق أسئلة المابعد، الذي يتناسب مع الانهيارات الكبرى للسرديات الحديثة، وزوال تأثيرها المُمِد بمشروعية العقلانية، وقيمة الواجب قانونًا منظّمًا، واستشرافًا إنسانيًا نحو منظومة القيم الأخلاقية الثابتة بثبات العقل. بيد أن الصلابة المادية، لم تعمّر طويلًا وانهارت لتلد من رحمها الرخاوة الأخلاقية، إلى حدٍ تفتّت معه القيم واندثرت، فلم يعد يُعرف لها معيار.

هكذا دخل الوعي الراهن، في عملية تفكيك منظومة القيم الأخلاقية، لتنفتح على مساحات العدمية الأخلاقية، حيث مابعد الأخلاق التي تترادف مع موتها وتشظّيها، بتشظّي الأنا وتفكّكه وتبعثر مطالبه في محيط استهلاكي، يخلق القيم الاقتصادية، ويكيّف الوجود حسب هذا الخلق، زيادة في الإشباع الرغائبي، ثم يعيد عملية التفكيك في دورة التحطيم المتكررة، ذلك أن الأشياء تفتقد في أصلها قوة الإقناع المعنوي، الأمر الذي يحدث قلق المغايرة، لتعقبها عملية تكسير ألواح القيم، حسب المنظور الجينيالوجي بصيغته النيتشوية، وفي شمول معاني الموت الأكبر، موت الإله وموت الإنسان.
المقدمة-المابعد والفراغ الأنطولوجي: يستدعي الجمع بين السابق (المابعد) والكلمة الأصلية (الأخلاق)، إعادة معالجة مفهوم الماهية فحصًا له، وإعادة فهمه وتعريفه على ضوء الدوار الذي أصاب المعنى في زمن مابعد الحداثة. فهل بقي معنى للماهية بعدما غادر المعنى وتشظّى إلى ضروب لامتناهية وتفرّق في دروب شتى؟

يفرض فهم المابعد، وقراءته تبديل مسالك التفكير، إنه يفتح دروبًا حلزونية تتقاطع فيما بينها يلج بعضها إلى بعض، مشكّلًا لمتاهة شديدة التسارع والحركة والتعقيد، لينتقل الحال من النقيض إلى النقيض، مرات ومرات، إلى حد أنّ »الذات لا تدرك الواقع بشكل دقيق، وأن (الواقع) نفسه متغير ومتحوّل لا يمكن الوصول إليه[2] « بهذا تنتفي طبيعة الأشياء، وتزول المعاني لتتفكّك صيغتها الجوهرية، ففي نهاية المطاف يرفض المابعد الصلابة المادية، ويبعثر المعاني وينفيها لصالح التشتت والانزياح الذي يَسِمُ العالم، فكان موت الإنسان لازمًا ضروريًا، من لوازم هذا التبعثر والتشظي[3]. لكن أليس موت الإنسان بعدما مات الإله، يعدّ تفكّكًا للمحيط الأصلي للأخلاق، وموتًا للأخلاق، ونهاية تنفي أصلًا وجود الأخلاق؟ بهذا يترادف المابعد مع نهاية الأخلاق وموتها بعدما تفكّكت المركزيات وحلقات الكلي الثابت، الضامن للقيمة الأخلاقية. فكيف نفهم مابعد الأخلاق؟ هل هي أخلاق أخرى تتكيف مع الوضع الجديد للذات؟ فتخلق هرمية قيمية تتلاءم مع الظرف الجديد؟ أم هو وضع أفقي تتساوى فيه القيم، فلا خير ولا شر، ولا فضيلة ولا رذيلة، بل ما يريده الإنسان رغبة هو القيمة؟

يتسم المابعد بالتعقيد، ليمتدّ عميقًا في بنية الذات، التي فقدت إيمانها قبلًا بسردية الدين ثم أعقب هذا الفقدانَ فقدانٌ آخر تجلّى في تفكّك السردية المستنيرة المطمئنة بالآن والهنا، لتلج بعد ذلك إلى ظرف تميّزه الرخاوة والميوعة، فكل شيء ممكن، بعدما صمت المعنى وتلوّن بألوان الذات. فـ«لم يعد الدين العلماني -الرأسمالي أو الاشتراكي- للتقدم يبدو إلّا كإيديولوجيا تستعملها الطبقة المسيطرة، التي بيدها فرض تراكم رأس المال»[4]، ليكون المال قِبْلَة رئيسة في زمن تماهى فيه المال مع المعنى.

يساوي اللقاء بين الإيديولوجيا والمال مسارًا تتحول معه الأشياء والمعاني، إلى حالة من السيولة المتسارعة التي تلقي بنفسها في المجهول. فما هو المابعد؟ عن ماذا يعرب؟ فهل هو لازم ضروري لانفجار الذات والموضوع وتشظّيهما؟ ما معناه في حالة ارتباطه بالأخلاق؟ حيث يكون الدالّ والمدلول في وضع التنافر والتضاد. هكذا يكون مصطلح ما وراء الأخلاق، محمّلًا بتشقق المعنى. فكيف يمكن التوفيق بين التخطّي والتجاوز والانسحاق المتضمنة في دلالة المابعد من جهة، وبين الأخلاق التي تفترض الأصول والقيمة والغاية من جهة أخرى؟

مابعد الأخلاق تركيبة ثنائية تقتضي التحليل، المابعد بوصفه تركيبًا دلاليًّا، وتعبيرًا نسقيًّا عن الزمن المتسارع كناية عن اندثار الكل، ودرء الثبات وتفكيك المعنى، ذلك أن الأخلاق تعني ضرورة الالتزام بمجموعة قواعد، تشير دلالة وخبرة وجودية إلى محورية الركائز والأسس، بهذا يكون مصطلح ما بعد الأخلاق، تركيبة متنافرة بين السعي الحثيث إلى تجاوز الزمن، بوتيرة سريعة شديدة التغيير، ثم الركون إلى قواعد توجّه الخبرة الوجودية، التي تحيي وتيرة الزمن المتسارع. فكيف تكون الأخلاق في وضع التسارع وتشظّي الأسس وتغير المعايير؟ ماذا تعني الأخلاق في حالة تفكك الأسس؟ هل ستحافظ على ماهيتها التوجيهية والإعلامية؟ أم تسيل مع سيلان الزمن وتتكيف مع متغيراته؟ فتكفّ عن أن تكون أخلاقًا.

يستدعي الجمع بين الركون إلى الثبات، والاعتقاد بالقيم من جهة، والزمن المتشظي من جهة أخرى، سبر الدروب التي سلكتها فكرة التقدّم قرينة الحداثة. قد يتخذ التقدّم معاني متعددة، أما المقصود به هنا، فهو الصيرورة والسير إلى أمامٍ يُتخيل، أنه أفقٌ عامر بالوعد اليوتوبي، ليمثّل محرّكًا للحداثة، التي تتشابك مفاصيلها بين العقلنة والسعادة، في وضع يجعل الغاية من الوجود ذات خصوصية، تتحوّل بتحوّل المتغيرات الطارئة.

يتكيف الزمن الحداثي، مع التحيين المتواصل للطارئ، ويتطلب تجاوز الثابت، وتحليل الأصول ودرئها، إذا ما استعصت على التكيف والتحيين المفروض من قبل التقدّم، كما يناهض وعي الدوغما مسائلًا ومنتقدًا لكل ما يعيق قاطرة التقدم، وعليه فلن يركن إلى معيار أو قيمة البتة «فكان التحديث المتواصل، منذ بدايته وحتى يومنا هذا، السمة البارزة للحداثة. وهكذا فإن ما تتميز به طريقة الحياة الحديثة، عن أنماط الحياة السابقة السائدة، يكمن في التحديث الوسواسي القهري الإدماني- إنه يكمن، دعوني أكرر في الإذابة المتواصلة والإحلال السريع للبنى والنماذج الذاتية»[5]، بهذا تتخطى الحياة بنود الفضيلة، وتلتقي في مناطق أخرى، تغيب فيها المفاهيم الأخلاقية بصيغتها الكلية، بينما تكون الفضيلة شرط تحقيق الخيرات الداخلية[6]. بهذا ينتج الظرف مابعد الحديث صيغة تنتهي فيها سلطة الأخلاق وسلطة الفضيلة؛ لأن الذات لن ترضى بفوقية الأمر الأخلاقي.

وعلى الرغم من الحركة السريعة لهذا الزمن الحداثي، إلا أنه أسس ثوابته، التي ترادف سردية لها خصوصية الإقناع والاعتقاد، يعتبرها فلاسفة مابعد الحداثة، سردية بديلة عن سرديات أخرى مضت، إنها ضرب من الوعد، الذي حرك شعور الجموع، تحقيقًا لوعد التنوير. أفلا يعني هذا أن الحداثة قد أسست أخلاقها، في إطار جامع للعقلنة والأنسنة؟

تتكيف الحداثة مع سردية بديلة وتؤدي أغراضها، موجزة لخطة الوجود في رؤية مادية صلبة، تمتثل لتصوُّرِ مفسّرٍ وجامعٍ، يؤكد ضربًا من التعليل الذرّي الديموقريطي(ديموقريطس)، المادة حركة كلية، حيث تتجمّد الطبيعة في نقطة واحدة، يراها سبينوزا جوهرًا يمتلك دواليبه الخاصة، ولأن المادية تسير حتمًا إلى اعتماد أخلاق مادية، فقد هيمنت الروح الأبيقورية تعليلًا للغاية الأخلاقية، ومنها تنفجر ضروب الفعل الإنساني، اقتصادية وسياسية، المهم أن السعادة هي الثمرة التي تفسر حركة الإنسان الآن وهنا.

هكذا أحاطت الحداثة نفسها بأخلاق، ودعمت روحها بقيم الصلابة المادية، معلنة ميلاد إنسان المنفعة والواجب، ذلك الذي تجاوز حال القصور الذاتي، محصّنًا ذاته بإرادة عاقلة، تكتسب صفات المطلق الإلهي، ولكنه سيسعى حتمًا وقد تقمّص مركزية الإله، إلى جلب أكبر قدر من المنافع، تحقيقًا لسعادة قرأها في صفحات الطبيعة المكتفية بذاتها.
لعل هذا الجمع بين المنفعة والواجب سيثير الاعتراض، لما للاختلاف الكبير بينهما، إلا أن هذا الإنسان الذي تألّه بفعل الاكتفاء الذاتي الذي تقتضيه الإرادة العاقلة، هو عينه من يقدِم على الاستزادة من الأشياء إلى حدّ التخمة. لقد اقتنع الإنسان الحديث بفوقيته وتفوّقه، فراح يبسط سلطانه على الطبيعة، غرْفًا لجملة الغايات المنوطة بالإنسان الإله. أفلا تكون أخلاق الحداثة إرهاصًا ضروريًا لأخلاق ما بعد الحداثة؟

هكذا تحلّقت سردية الحداثة حول مركزية الإنسان، وصاغت أنموذجه الأخلاقي طبقًا لمشروعية عقلية تتمسّك بالاستقلالية، فكان معيارًا أوحدَ للأخلاق ومشرّعًا للقواعد، إنّها مركزية الشخص الإنساني الذي يفعل بالقانون الذاتي. ولأن الطبيعة تتدافع نحو الرغبة، فما كان لهذا الإنسان ليتنازل عن حقه في ملك الطبيعة والتسيّد عليها، وعليه رسم فردوسًا أرضيًا تحرّكه المنفعة رغبة في البقاء. هي إذن ثنائية القيمة التي اعتمد عليها الإنسان الحديث، ليفسّر لماذا يرنو الفكر الأخلاقي دائمًا، إلى الواجب والمنفعة مرجعيةً يتعقّل بها حلوله الأخلاقية، حتى في زمن السيولة الفائقة ونهاية الأخلاق[7].

لقد تمركز الرأسمال الحداثي في شخصنة التقدّم، وتناسقه مع أنموذج أخلاقي، يربط بين الفرد ومثله الأعلى، الذي يرادف تعقيل المبدأ الأخلاقي، وإحاطته بالحرّية ليفعل الشخص وفق ما يمليه عليه التزامه الذاتي. أما عن صفاء هذا الالتزام، وخلوه من حركات الذات الراغبة، فهو سؤال شكّل الحلقة الأساس في علم النفس التحليلي، فلن يصمد الالتزام أمام التشكل الإيروسي لطبقة الرغبات والنزعات والميول التي تمليها الحياة الضاغطة، وما فتئت حركة الطبيعة، أن تلزم الملتزم بصلابة الإلزام، باستكمال حركة الحياة الراغبة، لتعتلي الرغبة الممانعة العاقلة، وتلتف بالتقاليد الأخلاقية للواجبات وتفرض أمرًا واقعًا يجعل من الأخلاق إرادة للرغبة[8].

يؤكّد التحليل النفسي بصيغته الفرويدية، غلبة هذا التشكّل الإيروسي، طبقًا لتفاعل طبقات الجهاز النفسي، الذي تقوده خبايا الحياة، وتدفعه لا شعوريًا إلى تحقيق نداء الحياة الصاعدة، سيحين «الهوا» عناصر هذا الجهاز لصالح الحياة، فتطفو الرغبات قائدة لقاطرة الأخلاق. فهل يعني هذا أن الأخلاق تفشل دائمًا أمام قوة الحياة؟
يتخذ المابعد دلالة التجاوز وتكسير السياقات السائدة، معبرًا بذلك عن الجوهر القلق للتقدّم كمحرّك مركزيّ لحضارة بأكملها، يتحكم المابعد في معايير السيولة المفرطة، التي تتميز بها الحياة الراهنة، حتى بدا أنه تعبير عن أزمة الذات، وعجزها عن لجم مطالب التقدم، ولعل دلالاته الشاملة مؤشّر بَيِّنٌ على ذلك، إنها متعددة لكنها تطالب دائمًا بتكسير العابر وتحطيمه، مابعد الحداثة، مابعد الأخلاق، مابعد الإنسانية، دلالات تعبّر عن قلق عارم، حيال كل ما يرسم إطارًا خاصًا للأصول، وينزع دائمًا صوب التغيير والتبدل والتفكيك. فهل المابعد بتجلّياته المتعددة هو صيرورة حتمية للنظام الحديث؟

يكوّن مابعد الأخلاق مصطلحّا مثيرًا لأسئلة الذات اتجاه القيم، وإن اتخذ له في المعجم الفلسفي دلالتين: الدلالة الإبستمولوجية، والدلالة الأنطولوجية، لكنهما معًا يعبّران عن قلق الأخلاق في حضارة، يحرّكها مفهوم التحوّل المتواصل الممعن في الإفراط، الذي يعدّ مثارًا لفراغ أنطولوجي، يبحث عن المعنى بين ثنايا الممكنات، فكلٌّ منهما ينوء كاهله، من ثقل العدمية المتحكّمة.

إذا كانت الميتاأخلاق حقلًا يؤسس لتحليل وفهم لغة الأخلاق، فهذا لأن الأخلاق غدت مسألة شعور بالاستحسان أو الاستهجان أي قضية رغبة، لا ترقى لتكون حقلًا معرفيًّا يمتلك أنموذجه النسقي. يعد هذا الإبعاد نتيجة لارتفاع ذرى العلم وقوته في الإقناع، فلا تمتلك المعارف طاقة الوجود، إلا في وضع التطابق مع البراديغم العلمي، إذ غدا الوجود المادي، ركيزة كونية إليها يعود اليقين تحقّقًا. ولأن الأخلاق والقيم عمومًا، عسيرة على التجلي المادي، والتحقّق المنطقي بوسيلة الأجرأة والعقلنة، فإن قضاياها فاقدة لدلالة الصدق أو الكذب، لأنّ الموضوعات المعيارية مجرّد تعبير عن رغبة انفعالية. تقود هذه النتائج التحليلية، إلى ترسيم النهاية والفراغ في حقل الأخلاق. فلا وظيفة تؤيدها إلا لعبة التحليل، التي تقف خلفها ذات حسمت صلتها بالقيم، إنها لا معروفة ولا تُعْرف.

على الرغم من تباين معاني المابعد الأخلاقي، واتخاذه سياقات مختلفة، بين نهايته في مستوى الفعل ونهايته في مستوى الابستيمولوجيا، فإنه يؤكد سيادة الفراغ الأنطولوجي، ونهاية الكل الأخلاقي، الذي يمدّ بالمشروعية ويبرر الوجود.

وعمومًا توجد علاقة قوية، بين ما بعد الأخلاق، وسوسيولوجيا التقدم في المجتمعات الغربية، فقد تميزت فلسفة الأخلاق الأنجلوساكسونية، بسلطة الجانب التحليلي، على الدرس العقلي للأخلاق، لتمثل الميتاأخلاق مركز البحث الفلسفي الأول بعد الحرب العالمية الثانية. ونعني بها التحليل اللغوي والمنطقي للغة الأخلاق، من مثل معنى الخير، الواجب واللذة... الخ[9]، ليتركّز هذا البحث على اعتبار الموقف الحيادي للأخلاق، فما يعني الفيلسوف هو مجرد تحليل لغوي، ومنطقي للقيم وقضايا الوجوب. ماذا يعني اهتمام الفلسفة بالتحليل دون الإنشاء الأخلاقي؟ ألا يعني هذا أنها غير قادرة على التشريع؟ فما هي الصلة بين مابعد الأخلاق الإبستيمولوجي ومابعد الأخلاق الأنطولوجي؟ ألا يعودان إلى مصدر واحد، هو ضبابية القيم بفعل سيادة الحرية (غير المراقبة) كقيمة محورية، فإليها يعود تقرير القيم المختارة؟

أوّلًا: تقاطع الدلالات بين الميتاأخلاق وما بعد الأخلاق: يعرب الاشتراك الدلالي بين هذين المصطلحين عن وجود نقطة اشتراك بينهما، التي تكمن في تعثّر الإنشاء الأخلاقي، نظرًا لنسبية للقيم الأخلاقية الشديدة، أكان مقارنة بالنسق العلمي الذي يبدي صلابة اليقين، أو ما تعلّق بالكيانات المجتمعية، التي فتح فتور القيم أمامها مساحات التشظّي الأخلاقي، ونهاية سلطة كل المعايير. إلّا أن الاختلاف بينهما، يكمن في إنشاء الميتاأخلاق لحقل التحليل، الذي يعدّ حقلًا معرفيًا يُستند إليه، في مضمار فهم، الدلالات الأخلاقية، هو ما يجري مثلًا في مستوى البيوإتيقا، بمدلول متميز هو الميتابيوإتيقا، فما هو الفرق بين الميتاأخلاق ومابعد الأخلاق؟ فهل هما خلاصة للفهم النسبي للقيم؟

1– الميتاأخلاق وانحصار الأخلاق المعياريّة: ينظر الدرس التحليلي، إلى الأخلاق نظرة تجريدية، ترى أن مهمة التشريع، تقوم بها أطراف أخرى لا علاقة لها بالمعرفة الأخلاقية، إذ تنتهي النتيجة المعتبرة لمبدإ التحقق، إلى تقرير عدم قابلية القضايا للمعرفة، لينحصر العمل العلمي للفيلسوف في تحليل لغة الأخلاق. إذا تنكفئ الوظيفة الفلسفية، في مجال الأخلاق على تسيير منهجي وإبستيمولوجي للقضايا الأخلاقية.

كان من نتائج هذا الدرس الفلسفي، أن حدث انفطار في جسم الأخلاق، بين جانب النظر وجانب العمل. وشهد البحث الأخلاقي عامة هزالًا تأسيسيًّا، فالنظرية الأخلاقية ولَّت بسبب سيطرة المجال التحليلي، فلم يعد التنظير الأخلاقي مهمّة فلسفية، ليسود الفراغ في الإنشاء المعرفي للنظرية الأخلاقية ويقتضب، فلا وجود لإمكان معرفي للصياغة الأخلاقية.

تأسّس الجذر المعرفي للميتاأخلاق بين ثنايا الشكّية الهيوميّة؛ إذ انتهى هيوم إلى التفرقة بين الأحكام المعيارية والوصفية، إنهما لا يندمجان البتة، لكلٍّ طبيعته الخاصة لتشكل القضية الأخلاقية ضربًا من التقويم المثير للاستحسان والاستهجان؛ فلا ينبغي أن تستند الأخلاق على العقل. ولا يمكن أن يؤثر إيماننا الدوغمائي على أفعالنا توجيهًا، إلّا إذا كانت الأشياء ذات أهمية خاصة بالنسبة للذات، أي إذا كانت تمنحها المتعة أو الألم[10]. إذن ليس المنطق هو الذي يجعلنا نتصرف، بل اللذة والألم، لم تعد العواطف منطقية أو غير منطقية؛ لانحيازها عن العقل، بينما تشكّل المشاعر الأفعال. بهذا كان هيوم سلفًا مباشرًا وغير مباشر لانبثاق حقل الميتاأخلاق.

ستقود هذه النتيجة الهيومية، في زمن السلطة المطلقة للبراديغم الوضعي؛ إلى السلطة الكاملة للمذهب الطبيعاني، الذي يعتبر أن العالم، في جوهره مؤلف من وقائع فيزيائية، وكل شيء ظاهر في هذا العالم بما فيها الوعي، يعود إلى المادة والحركة. هكذا يشكل مشروع علمنة الأخلاق، وضبطها وفقًا للنسق الوضعي وإبيستميه المؤسس على التظهير، أحد اللحظات الأكثر بروزًا في المشروع الوضعي بتعدّده؛ إذ تصبح الأخلاق خارج إطار المعرفة العلميّة، ذلك أن نسقها المعياري منسلّ من الميتافيزيقا. وفي إطار العلمنة الشاملة، فمن الواجب أن تدخل الأخلاق في مصاف الوضعي، فلا بدّ أن تتحوّل إلى أنموذج اختزالي، يساوي بين الظاهرة الأخلاقية والأخرى الطبيعية.

تكون هذه العملية، غير ممكنة في نسقها المعياري، وممكنة في نسقها الوضعي الخالص؛ لذلك تغدو الأخلاق رهانًا وضعيًّا علميًّا، يستخدم منهج العلم ويتّجه وجهة العلم الوضعي، أما قضاياه فهي ذات طابع وصفي. في سبيل الولوج إلى المرحلة الوضعية، تمّ نحت مصطلح مابعد الأخلاق، Meta éthique من قبل ليفي برويل في كتابه الأخلاق وعلم العادات الأخلاقي[11]. هي صيرورة معرفية تبدو كلاسيكية، لا تثري حقل الميتاأخلاق بمنزعه التحليلي، لكنها تعمق تاريخية المنعرج الأخلاقي في تطوره اللاحق.

وصف التحليليون والوضعيون المناطقة، ضبابية المعنى الأخلاقي في شكله المعياري، فبموجب التحقق المنوط بالتقسيم المعرفي للقضايا بوجه عام، بدا الاستدلال المعياري فاقدًا لنسق الحقيقة المتبوعة بمصداقية الحكم صدقًا أو كذبًا، وإذ يُجمع هؤلاء على الاعتقاد بقانون هيوم؛ لذا يرافع برتراند راسل من أجل أن يساوي بين القيمة والرغبة، إنها فاقدة للمنطق التأسيسي، الذي يسند المعرفة، لتعبّر عن مجرد شعور عاطفي، يفتقد لإمكان الحكم.
هكذا تنزوي العلوم المعيارية عن صيغ الحقيقة سواء أكانت علمية أم رياضية منطقية، لتؤلّف في مسار هذا الاتجاه بوسع ضروبه المتشابكة حقلًا جديدًا لا يشرّع للوجوب، إنما يحفر وراء معنى الوجوب ومقتضياته اللاحقة، إنها الميتاأخلاق منبثقًا جديدًا، بفعل السيطرة الكلية للروح الوضعية والطبيعانية. فما هي مساحاتها وقضياها المؤسسة؟

تُبَيِّنُ التركيبة الدلالية للمصطلح مهمته الرئيسة، إنها الحفر وراء المعنى وتحليل الافتراضات الأخلاقية، والنظر فيا لمسألة المعرفية للأخلاق، ومسارات أخرى عبّرت عن اهتمام آخر، ينحاز عن الطابع المعياري، ليكون حقل الأخلاق تحليليًا بامتياز.

باختصار ينصبّ نظر الميتاأخلاقي على المكوّنات التالية:
علم الدلالة الأخلاقي الذي يهتمّ حصريًّا، بتحليل المعنى الأخلاقي، ولغته ذات الصبغة المتميزة، فهناك اللغة المعيارية واللغة الوصفية، والبحث عن ضروب الصدق والكذب في مظانّ هذه اللغة، فكان هذا التحليل صيرورة منجزة، مؤسسة لإشكالات معرفية كبرى.

الإبستيمولوجيا الأخلاقية، التي تتخذ موضوعًا لها المعرفة الأخلاقية، وإمكان وجوها متسائلة. هل المعرفة الأخلاقية ممكنة؟
الأنطولوجيا الأخلاقية التي تركّز في تحليلها على الوقائع الأخلاقيّة، متجهة إلى البحث في سؤال لماذا بعض أحكامنا الأخلاقية صحيحية[12]؟

ببروز هذا التصور يكون لمجال الأخلاق تقسيمات هي: الأخلاق المعياريّة، والأخلاق التطبيقيّة، وما بعد الأخلاق أو الميتاأخلاق. وإذ ينكبّ الحقلان الأوّلان بحثًا، في كيفية الفعل الواجب، بمعنى ما الذي يجب علي أن أفعله؟ وهل من الأفضل فعل ذلك؟ فإن الميتاأخلاق تنحاز للحفر، في أسئلة الوجوب والفعل، بمعنى إلى أي مدى تعدّ المعرفة الأخلاقية ممكنة؟

يتأسس الخطاب الأخلاقي، على التجاذب بين الرغبة والواقعة، إذ السؤال الذي يقود إلى التفكير في دلالات الأخلاق، هو ما نفعله عندما نستخدم مصطلحات معيارية أخلاقية. فعندما نقول إنه لا ينبغي فعل الشر. فهل يُفهم هذا البيان على أنه أمر زجري أم أنه أمر تأكيدي؟ بمعنى آخر، هل نسعى في المقام الأول للتأثير على الفاعل الأخلاقي؟ أم أننا بالأحرى نقوم بتأكيد وصفي، يهدف إلى بيان واقعة؟

لقد دلّل هيوم سابقًا على أن الخطاب الأخلاقي لا يسعى إلى إعلام أو وصف الحقائق، بل يعرب عن طرف من العواطف، التي لا يمكن أن تتعدى، حدود الرغبة سلبًا أو إيجابًا. أثار هذا الطابع الخاص للخطاب الأخلاقي أسئلة إمكان المعرفة، وتشعّب إلى تصورات إشكاليّة بين اتجاهات تحددت في ضروب من التصورات حول هذا الإمكان، حيث رافعت في إطار الابستيمولوجيا، حول إمكان المعرفة الأخلاقية ولاإمكانها، مسنودة برؤية نسقية عن العالم والعلم، مؤسّسة لشكل من التدليل المعقّد والمتشابك، بين اتجاهات متنوّعة قد تختلف وتلتئم.

2– ما بعد الأخلاق أو الأخلاق الرخوة: تتخذ الأخلاق الحديثة، الطبيعة مستندًا تبرّر به المشروعية الأنطولوجية لكل قيمة، لتجري مواثقة قيمية ضمن نظام الطبيعة، وهو ما تفترضه نظرية العقد الاجتماعي، حيث تتواثق الذوات على احترام الخصوصية الطبيعية للذات، أما مرتكز هذه المواثقة فهو حب الذات، ومن رحم هذا الحب تنبثق الأخلاق[13]، التي تجعل مقصدها الرغبة، لتحيط ذاتها بفضاء ضبابي لا يعرف قيمًا بعينها، إنما يختار القيم التي تسري في فلك الحرية، وقد كفلها حبّ الذات. فلا عجب أن تولد مابعد الأخلاق بعد حين، من رحم الأخلاق الحديثة، على الرغم من بيئتها المؤسسة على الكلي المادي.

يؤكّد النقد الأنواري أن اتّباع الطبيعة لا يعدّ شرًا، فهي السبيل الأوحد الذي يرشد إلى الحياة الجيدة، الجامعة بين الحرية حقًّا طبيعيًّا والسعادة، مكسبًا للحق الطبيعي الذي تمّ التعاقد عليه. في هذا السياق يصير التحالف بين الحرية والسعادة، إلى سلطة الحياة الطبيعية على القيم الأخلاقية، وهي بالذات لبّ مابعد الأخلاق وما بعد الفضيلة، الذي بدا إرهاصًا كامنًا في كنه المنظومة الأخلاقية الحديثة، بمعنى أن مابعد الأخلاق كانت متضمّنة، في الأخلاق المادية التي أطلقتها الحداثة، مع التركيز على بنية الذات الإنسانية العاقلة.

وتعدّ الحرية بوصفها حقًا طبيعيًا، ممارسة للفعل دون حدود؛ وتجلٍّ له، طبقًا لهذا الحق المنقوش في الذات. ويكون إطلاق مجالها مفهومًا وفعلًا مشتركًا حيوانيًا وإنسانيًا، فلا قدرة للإنسان على تجاوز الطبيعة البشرية، التي تجلي بنية لاشعورية تتجه إلى الإشباع. بهذا تكون الحرية إتباعًا للطبيعة، وقوة دافعة لتحقيق أكبر قدر من اللذات، دفاعًا عن الحق في امتداد السعادة، نحو آفاق إنسانية واسعة كما يؤكد بنتام. بهذا «ينظر إلى مجيء الحرية على أنه خلاص مبهج، سواء أكان خلاصًا من التزامات مؤلمة أم من قيود مزعجة، أو روتينًا مكرّرًا ومحبطًا»[14].

قاد التمركز على حب الذات، إلى انبثاق الفردانية، التي ستتخذ لها مسارًا تنمو من خلاله وتتسع إلى حد تحوّلها، إلى فردية هووية تحرس ذاتها، بواسطة الاستقلالية المطلقة، لقد أحدث هذا الأنموذج من الفردانية في عصر نهاية المعنى، تفكّكًا لجدار المعنى، إلى حد فقدانه المعالم المحددة للسبيل الأخلاقي.

اتخذت الأخلاق صفة التحوّل، لتتغير تغيرًا مفرطًا وسريعًا، وهو ما يصطلح عليه لوبفتسكي (Lipovetsy)، بالحداثة الفائقة. فالمؤشر الأكثر ثباتًا في هذه المرحلة التي حصّلها التوالي الحداثي، هو سيادة الفردانية بشكل محوري، لن تكون النتيجة سوى سيادة الفراغ ونهاية للواجب وما يعنيه ما بعد الواجب من نقلة إلى مساحة لا تُعرف فيها الأخلاق[15].

هي إذن جملة التحوّلات الوجودية التي سلكتها الذات، بداية من إقرارها للحق الطبيعي، كشعور أناني لا يمتلك حراسة القيمة، إلى الإقرار بالفردية محيطًا يحدّد سلطة القيم التي تختارها الذات ونعني الواجب والمنفعة صياغة للقيم الحديثة، ثم ورود الفردانية مركزية تلغي سلطة القيم، لتنفتح على مساحات تلغي هرمية القيم، بهذا تغدو المعايير لا معروفة، وهي المنطقة التي تشترك فيها الميتاأخلاق ومابعد الأخلاق ويتشابكان في صورة ضبابية لا تعرف القيم إلا من باب الرغبة. هي إذن صيرورة الفردانية، التي قادت إلى إعلان حقوق الإنسان، محيطًا يبرّر الانزياح الأخلاقي، بدعوى احترام الحق الطبيعي، وشرعنة قانونية للفردانية بوصفها المطلق، ويعتبر مارسيل غوشي (Marcel Gauchet) هذا الإعلان بمثابة: «عقد ميلاد مجتمع الأفراد»[16]. لأنه يحرس الحق الطبيعي للفرد بضرب من العقد الكوني، الذي تحرسه الأمم المتحدة المؤسس للقانون الكوني بوصف العقلانية الأداتية. فكيف تكون الأخلاق، في حالة استنادها على الفردانية والأداتية؟

هكذا سرت مجمل الحركات الفلسفة، لتبني الفردانية مركزية أخلاقية، حتى الماركسية التي تعلي من شأن الطبقة الاجتماعية، تنظر إلى هذه الطبقة كمكوّن فرداني، لذلك فإن السعادة التي توفرها الشيوعية، في مرحلة التطور التاريخي، هي سعادة فردية، «فلكل حسب عمله ولكل حسب حاجته» تساوي في ذلك «دعه يعمل أتركه يمر»، إنه الخطاب الذي يمزج الوجود الإنساني بالاقتصاد، جاعلًا إياه غاية في حد ذاته. فلا عجب أن يندثر الإنساني في الاقتصادي، ويمتثل الكوجيتو إلى إثبات الذات عبر الاستهلاك، «فأنا استهلك إذن أنا موجود» تدلّل على الكينونة المعولمة، وتثبت وجودها من خلال الشراء والتحطيم، وتدوير العملية من دون هوادة.

هكذا تكون الحاجة إلى تطوير قيم، تعترف بالحرية المتجذرة في الخيارات الفردية[17]، هي أصل الخبرة الوجودية كمرتكز للتجربة الأخلاقية. بهذا علينا السؤال، أفلا تنفتح الروح على فضاءات تنتهي فيها القيمة لصالح اللاقيمة ويندثر المعيار لصالح اللامعيار؟

تبريرًا لفوقية الفردانية سيعطي أندريه كومت-سبونفيل (André Comte-Sponville) تعريفًا مختصرًا للأخلاق: «إنها مجموعة القواعد التي تحترم حقوق الآخرين»[18]، على عكس الأخلاقية التي تقول ما يجب على الآخر القيام به. وبالتالي فالأخلاق هي ما يجب أن أقوم به تجاه الآخرين، هنا تتكفل الأخلاق بتوفير مساحة الحق الذاتي، بصيغتها القصوى، وتتفق مع طبيعة العقد الاجتماعي، في إطار مواثقة احترام الحق الطبيعي، وهي مخرجات ضرورية لمجتمع المواثقة الطبيعية.

يرافع ميشيل أونفري (Michel Onfray) انطلاقًا من موقف إلحادي يجلب حتمًا أخلاقية لذّية أبيقورية، مشيرًا إلى الأسس التي تقوم عليها الأديان، لتبدو له أنها إلغاء وتحدٍ للخطاب العقلاني، لصالح الفكرة السحرية، التي تشكّل ميتافيزيقا لا يقبلها العقل، فكرة تبرّر سيادة الظلامية على حساب الحرية، فتكون من ثم قانونًا مبدئيًّا، يقضي على الحق الإنساني. إن جوهر الدين هو إنكار حقيقة وجود الموت، والتأكيد على الخلود فضدًّا للأبيقورية، تتساوى الحياة والموت في الدين، يكون لصالح حياة أبدية تبدو بالنسبة لأونفري لا معقولة وغير منطقية في جوهرها، وهي ضد للعقلانية السائدة بوصفها خطابًا إنسانيًّا.

يؤصل الدين لفكرة خاطئة، تجلي عمق الكذب المبثوث في التصور الديني، وهي إضفاء الشرعية على أخلاق ضد إنسانيّة. فما هي الأخلاق المناسبة لعصر الفراغ الذي يفرضه الإلحاد؟ يقترح أونفري حلًّا أبيقوريًا مناسبًا لتبرير فضاء اللامعنى، إنه التوفيق بين الإنسان وجسده، باعتبار الجسد آلة حسية، ثم التواضع على أخلاقيات، مبنية على الجماليات واحترام الآخر على الرغم من اختلافه[19]، إنها خلاصة فلسفية تعوّض الأخلاقية بالجمالية، حيث لا وجود للإلزام. هي إذن صياغة أنفرية تستوحي الروح النيتشوية والفوكاوية، ككناية عن التمركز الهووي للفردانية، حيث تغدو الأنا محورية قيمية إليها يعود الأمر، لتنبثق منها كل المعايير، التي تثبت العدمية كمحيط للوعي وممارسة الوعي.

هو إذن، ما يشكّل الأزمنة الراهنة، التي اصطلح عليها ليبوفتسكي بالحداثة الفائقة، لقد استقدمت الأزمنة الراهنة نمطًا اجتماعيًا جديدًا، يرتكز على فردانية ثانية، تنهي علاقتها مع قيم الواجب لتنتقل إلى ما بعد الواجب؛ أي إلى التفوق بالحرية المفرطة، فبها يواصل الفرد حرّيته واستقلاليته إلى أقصى مدى، وأثناء ذلك يكسر ألواح القيم ويخلق أخرى، فلا عجب إنها النهاية الحتمية لموت الإله وموت الإنسان. وعليه، فدلالة الحداثة الفائقة، تعني التضخّم والزيادة، حيث سيادة الفردنة والشخصنة، بوصفها مسارًا للتحرًر الفائق وتجليًا للحرّية بلا قيود[20]. هكذا تنتفي الغيرية، لتحتمي الأخلاق بحدودها الأدنى، إذ ذاك يسود التحرّر كقيمة تعتلي قيادة التوجيه[21].

ثانيًا-الذات ما بعد الحديثة والقرينة الهيدونية: ما بعد الخير والشر، ملفوظ نيتشوي، وتعبير يحمل في طياته القادم من الزمن الغربي، تتضمن هذه الثنائية، دعوة تطهير الإنسان، من كل الأبعاد الاعتقادية والأخلاقية، تستند إلى نواة صلبة، والتفكير خارج كلّ تقويم أخلاقي، يمجّد صنمًا خارج الذات، بل على هذه الذات السعي إلى تحطيم الأصنام وتحفيز العلو الإنساني نحو أفق لا متعيّن[22].

سيغدو العالم غداة هذا التحطيم والإنكار بلا يقين، وعيش في زمن اللايقين بتعبير زيغمونت باومان[23]، اللايقين حالة معرفية، لكنه يفتح المباح على مصراعيه، فإذا مات الإله فكل شيء يغدو مباحًا، بل يتسع المباح ويمتدّ، فلن يحتكم الإنسان إلا إلى ذاته، التي غدت فردية نووية تأبى التشابك مع الذوات الأخرى. فهل أصبح الإنسان، بلا حدود يراعيها في منظومته الأخلاقية؟ أم أنه سيغدو بلا أخلاق؟

لا عجب أن يقود التحطيم إلى إفراط في الحرية، وارتسام للثقوب السوداء في الأفق الإنساني متستقبلًا العدمية ميثاقًا يزيد من شقائه الأنطولوجي، ناظرًا إلى الوجود على أنه دأب سيزفي لا ينتهي[24]. فهل كان نيتشه مجرّد فيلسوف أصابه جنون الحكمة المفقودة؟ أم يمثّل رمزًا لثقافة حصلت خلاصاتها الحتمية؟ هل كانت المابعديات بضروبها المتنوعة، أخصّها الأخلاق، انفجارًا مباغتًا؟ أم أنها تحصيل حاصل للقيم التي صقلتها الحداثة؟ بالأحرى هل الحداثة وما بعد الحداثة قطيعة أم مراجعة؟

لقد سلك مفهوم الشخص، في الثقافة الغربية متغيرات أنثروبولوجية، منتقلًا بذلك من الشخص الإله إلى الشخص العقلاني، ثم إلى الشخص المتعدّد الهويات، وآخرها الشخص الذي تفجّرت لديه الهوية الإنسانية، فأخذ يسعى إلى إماتة ذاته، عبر مفاهيم هي تتابعات، لفكرة التقدم. والأمر هكذا، أيكون إنسان ما بعد الحداثة نتاجًا لمجموعة من الأزمات المتتالية؟

1– الذات الحداثية والأخلاق الجيدة: عوّضت الحداثة الشخص العقلاني بشخص الإله، وتمّت المبادلة بينهما، ليغدو الشخص العقلاني في المركز، في حين يتوارى شخص الإله خلف الحجب ويغدو منسيًّا كآلهة ديموقريطس، يعيش في برجه، لا يعنيه من الكون والإنسان شيئًا، فهو في وضع اللامبالاة، التي ماتت معها فكرة العناية وانتهت مهمّتها، ليتحمّل الإنسان ثقل المهمة الكبرى للتفسير والتشريع.

لقد قرّر العلم وبطريقته التحقّقية والإجرائية الدقيقة بأن كل ما يحدث داخل الكون أو خارجه محسوم مسبقًا في النظام الرياضي الذي تسير عليه المادة، بحيث لم تعد لفكرة من حاجة إلى فكرة هي إجابة مباشرة وبلا مواربة، أدلى بها لابلاس، إثر سؤال لنابليون، فيما يخصّ مكانة الإله في زمن عقلنة العلم للعالم، فلم يعد للإله من دور، إنّما دوره مماثل لدور الآلهة الأبيقورية، التي لا تتحكّم في مادة قديمة تمتلك مصيرها الذاتي، لتبقى حكمة الإنسان سعي وراء اللذة.
تصير هذه الميتافيزيقا الناشئة، إلى نسج جملة عقائد، هي قواعد الديانة الحديثة، المادة هي أصل الأشياء بما فيها الإنسان، ووعيه وكل ما يتجلى لديه حركة وتفكيرًا، بمعنى الاكتفاء الذاتي للطبيعة، ليَتَطَبّْعَنَ كل شيء، سيحتل الإنسان مركز الكون، وإليه يعود الأمر كله، فهو السيد المطلق، غايته -في عالم محيط، يراه ملكًا له دون الكائنات الأخرى -هي السلطان. فلا عناية يمكن أن ينتظرها إلّا من نفسه. هكذا ساد العالم الظلام الدامس، فغدا الإنسان وحيدًا في عالم ستملؤه الثقوب السوداء، التي تمزق الوجود، فكان وجودًا قلقًا يسري بين الوجود والعدم، يحطم ويعيد التأسيس مكررًا وضعه[25]، بأسلوب سيزفي يفتقد إلى المعنى في عملية الذهاب والإياب بين قطبي العدمية اللامتناهيتين.

توفّر هذه العقائد الجديدة فكرة براغماتية لها دورها في بنية الأنظمة الحديثة، فعند سيادة المادة وانفتاح أسئلة المعنى في الفراغ وعليه، حينئذ لن تكون الغاية من الفعل سوى المنفعة بديلًا مركزيًا عن تلك الأعمال التي ظنّها الإنسان يومًا أنها رابحة في عالم ينتظره في وعد آخر، انتهى كل شيء إلى اللامعنى، سيبقى معنى واحد، يتجلى في سعادة الإنسان المرجوّة هنا والآن.

تكفّلت الميتافيزيقا المنبثقة بوضع الأسس الأخلاقية التي تعني الإنسان الحديث، كانت المراجعة التأسيسية لأخلاق تكتفي بذات الإنسان، عمارة كانطية شديدة الحبكة، لقد استطاعت الميتافيزيقا العملية في فلسفة كانط أن تجمل ما خلصت إليه الثورة الإنسان منذ قرون عبر ثنائيات جعلها كانط ضرورية ضرورة التحليل المتعالي للعقل[26].

لقد أصبح العقل الذي كان يسيح في الكون -ملتقطًا وسم الآيات المنظورة في كون عامر بالنظر المغني للروح- أعمى؛ فلا يرى سوى الظواهر، معقلِنًا إيّاها بمقولات تختصر الوجود في معادلة نيوتنية، تجمل التفسير والتعليل، وتقدّم صورة مقتضبة عن الطبيعة، لكنه يفشل في كل محاولة لاستخلاص المعنى من الظاهرة، لقد حكمت عليه تركيبته الذهنية، بالمكوث خارج تأويل معنى الطبيعة تفكّرًا وتدبّرًا يوثّق المعنى الميتافيزيقي أو الأخلاقي.

باختصار سيحصّل العقل الانكسار، كلّما رام النظر في الطبيعة لغاية أخرى غير العلم، لذلك يقع في متناقضات تدفعه ضرورة نحو عتبة أخرى[27]، هناك فقط يدرك أنه سيّد على فضاء آخر يتلاءم مع سيادته على الطبيعة، سيد التشريع الأخلاقي، حامل المسؤولية الكبرى التي يجب أن يضطلع بها الإنسان، ليجعل أعماله قانونًا كليًا، بهذا العلو يستولد كانط الإنسان الكوني، ويجعل من الأخلاق قانونًا عامًا، يتطلّب الإذعان لصوت العقل طاعة. لقد مسح كانط من الأخلاق كل دعم، سواء أكان من الإله أو المجتمع، وجعل من الأخلاق الإنسانية، كونية فائقة القدرة على بلوغ الصواب الأخلاقي، فتكون الفضيلة ذات خصوصية، إنها تنفي كونية المجتمع، وتعلي الفرد العاقل على كل شيء، ومنها الإله الذي لن يكون سوى بداهة، مرجوة بعد نهاية العملية الأخلاقية.
تَعِدُ المقولة البينتامية -أن المنفعة هي تحقيق «أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس» -بالانسجام الكلي مع الروح التي بثّتها الحداثة، إن ما يمدّ الإنسان بالدافع، هو سعيه الدؤوب للاستنفاع من كل شيء، هي إذن طاقة الملك والسيادة، تتجه إلى القيم لتجعل لها مقابلًا ماديًا، لذا فإن ما يهم من درجات الحساب المادي، للقيم في مذهب المنفعة، هو كم اللذّات المقتنصة، وليس القيم المرجوة، بهذا تغدو موزونة بالكم، الذي يجنيه الإنسان من عمله الأخلاقي. فلا جزاء ولا شكورًا، إنما هي حسابات اقتصادية، ترتكز على منظور ليبرالي يقحم الأخلاق في اقتصاد السوق.

وعلى الرغم من الاختلاف الذي يرى بين الكانطية والبنتامية، إلا أنهما يصدران من منبع واحد يعلي الفردانية ويعيد القيم إلى الذات، فإذا كانت المبدئية تقيس الأخلاق، وفقًا لقبلية تعثر عليها في صدر الإنسان، فإن النتائجية تقيسها وفقا لبعدية منظورة في سلوك الراغب في المنفعة، لكن كلاهما يعتبران الفوقية الإنسانية، ذات البعد الطبيعي، هي مصدر الأخلاق. فما صلة هذه الخلاصة الأنموذجيّة بالأطروحة الأخلاقية لما بعد الأخلاق؟

يضع ألسدير ماكنتاير كلًّا من الكانطية والبنتامية، في خانة التيارات التي أسّست لما بعد الفضيلة، في مبادرة رجّحت الأخلاقية الفردية، وانتزعت المفهوم الكلي للفضيلة بدلالتها الأرسطية، إن ما يبعث على التبرّم من معياري الواجب والمنفعة، اعتمادهما الذات مصدرًا للتشريع الأخلاقي، وهو ما يمثّل نكبة العالم اليوم، فـ«للخبرة الأخلاقية المعاصرة بوصفها نتيجة طابع ذو تناقض ظاهري؛ وذلك لأن كل واحد منّا علم بأن يعتبر نفسه أو نفسها فاعلًا مستقلًّا»[28].
عمومًا يمكن اختصار الظرف الحديث، في خصائص أنطولوجية حدّدت، أنموذجًا مميزًا لأخلاق حديثة تكتسي الصلابة بتعبير باومان، من جرّاء الإيمان بكلية الطبيعة والإنسان، ويمكن اختصار خصائصها، حسب ميشال مافيزوتي (Michel Maffesoti) كما يلي:

1– سيادة الفردانية ليكون المجتمع تجميعًا لكينونات مستقلة، يربطها عقد اجتماعي، بهذا يحيد المجتمع عن أن يكون ذاتًا تتعاضد وتتضامن، إنّ ما يحكم العلاقات الإنسانية هي تبادلية الحقوق والواجبات، وبناء العلاقات على الواجب. وعليه لا يمكن من هنا فصاعدًا، أن يعتبر الفرد والمجتمع وحدة واحدة.

2– شمول مبدأ العقلانية الذي يقدّم غالبًا الأخلاقية على البراغماتية العقلانية، لذلك تكون العلاقات الإنسانية علاقات مشيئة، تعتمد على التبادلية المادية وتعتبر أن القيمة الاستعمالية، هي القيمة الأعلى في هرم التعامل الإنساني.

3- ولأن الفردانية تعدّ محورية، فإنّ صعود النفعية سيكون منطقيًّا، فكلّما أمعن الفرد في الانعزال كانت غايته، هي تحقيق أكبر قدر من السعادة.

4– يكون شرط تحقيق الذات هو الاندماج في الشغل.

5- أولوية المستقبل تتمثّل في المجتمع المثالي بمعنى مجتمع الرفاه.

6– تماهي المعنى تدريجيًا مع الأشياء؛ لذلك يشتري الفرد أي شيء، من أجل أن يمدّ ذاته بالمعنى[29].

هي الخصائص التي سيّرت الذات نحو نهاية المعنى والولوج إلى ما بعد الأخلاق وما بعد الفضيلة، و«أصبحت مقدّمة فلسفية لكثير من النتائج التي يتأسّس عليها النظام المعرفي ما بعد الحداثي»[30]، إننا نعيش نهاية البراديغم الحديث ونهاية العقد الاجتماعي، هذه المتغيرات أدّت إلى تحوّلات كبرى فيما يخص الشخص وحركته من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. فماذا عن القطيعة بين الحداثة وما بعد الحداثة؟ يجيب باومان عن السؤال بوضوح تامّ قائلًا: «فالحداثة السائلة أكثر من مجرد نقيض للحداثة الصلبة، وفي واقع الأمر أنها تعكس هرم القيم الذي اتخذته الحداثة الصلبة»[31]، ففي صلب الحداثة تكمن النوى الأساسية لما بعد الحداثة، وفي صلب الواجب يكمن ما بعد الواجب، بتعبير أدق ما بعد الأخلاق.

اعتزّ المتفائلون بالأنوار وبالمكتسبات، التي تم نيلها من سنوات النضال الذي قاده العقل ضد ما يعتبرونه الظلامية، وأهمّ هذه المكتسبات على وجه الدقة، الاستقلالية والشخصنة، فلم يعد الفرد يستقي قيمه من هرمية ما، إنما من التزام داخلي، فسّره كانط بميلاد الشخص الحرّ المسؤول، دون مراقبة إلّا من ذاته؛ لذلك تغدو الأخلاق مسألة فردية. ولأن الكانطية أسست الأخلاق في مستوى تصور مطلق للعقل، فقد فتر تأثير الواجب شيئًا فشيئًا، لأن الشخصنة تقتضي الاختيار الحر، ففتر تأثير الواجب، وانزلق الأفراد إلى مساحة الحرية السائلة، حيث لا حد فيه للاختيارات الفردية[32]، أو تلك المفرطة التي تعدّ رديفة للفردانية في مستواها الثاني[33]. فما طبيعة الذات، التي تفعل بموجب الحرية المفرطة، بوصفها قيمة مركزية تتعاطى مع القيم باستقلالية تامّة؟

2 –الذات ما بعد الحديثة والإشباع الإيروسي: ليكون البدء من وصف بانورامي لتحوّلات راقبها ودقق فيها جيل لوبفتسكي في كتابه عصر الفراغ، معلنًا بقول واضح، لقد ولجنا إلى عصر جديد، فقد قادت المتغيّرات الاجتماعية، إلى بداية عصر اللامبالاة والنرجسيّة، بحلول هذا المستوى التاريخي للفردانية، تحوّلت المجتمعات الديمقراطية إلى فضاء ما بعد الحداثة[34]. ماذا تعني الأخلاق في الزمن المتسارع لما بعد الحداثة؟ نعود إلى ميشال مافيزوتي، لنحصر مميزات ضبطها ولكن بتصرّف يضاف إلى تحليله:

1-بداية فردانية عقلانية وإنّية تعاقدت، على احترام القانون الطبيعي، لتفتر بعد حين درجات هذه العقلانية، وتتفكّك الطاقة الصلبة للعقل، لم يعد الواجب ضابطًا للعلاقات، انتقلت على إثر ذلك الفردانية إلى حالة من التشخصن بهتت معها، علاقات التعاقد وبهت معها الواجب[35]، فما يؤلّف المجتمع ما بعد الحداثي، هم أشخاص تفجّرت لديهم الهوية، لتغدو هويات تتصارع فيما بينها[36]. لقد تطوّرت شخصية برونسون كروزو، من بطل يستحوذ على ما وراء البحار، وحيدًا يفرض قانونه على الجزيرة، إلى بطل يفكّك منطق التحكم، في الأرض عن طريق التعاقد القانوني، لأن جزر ما بعد الحداثة، لا تعترف بالقيم والواجبات والعلاقات، فتكون الحرية هي القيمة المركزية، التي تتحدّد وفقها القيم. هكذا يموت المجتمع وتنتهي العلاقات، إلا في حدود مركزية الحرية، طبعًا إن المحيط الذي تحوم حوله هذه القيمة يتّسم بالضبابية والتغير السريع لما يؤمن به الفرد، فمركزية المعيار تتحدّد بمركزية الأنا، في حالة انفجار وتفكّك هووي.

2- إنّ المراجعة التأسيسية لمحورية المنفعة، سياسيًّا واقتصاديًّا -في عصر الحداثة الذي تحكمه العلاقة التعاقدية- قد صارت إلى بنية مادية تراكمية، هدفها الاستهلاك وتدوير الأشياء إنتاجًا وتحطيمًا، أثناء هذه العملية يتشكل إنسان مستهلك ذو خصوصية، إنه لا يمتلك من مشروعه الاقتصادي والسياسي هدفًا، إنما تتركز غاياته القصوى، على تطوير أساليب الاستهلاك وتوسيع دائرة الأشياء المرغوبة تحقيقًا لمجتمع الرفاه، بل الرفاه المفرط، هنا انبثق تاريخ آخر للإنسانية إنسان الغواية، الذي يستهلك الجنس وينتج أدواته، ويتبرّم من جنسه لينتقل إلى الجنس الآخر، لتكون مدارسة إنسانية ما بعد الحداثة ضرورية ولازمة، إذا ما رمينا فهم الواقع العالمي في ظل العولمة.

3- كان للعولمة دورها المحوري والرئيس، في التأكيد على إنسان ما بعد الحداثة، ذلك الذي تفجرت لديه الهوية لكثرة ورود الهويات، إنه الدور الذي تؤديه تكنولوجيات الاتصال في زيادة شدة هذه اللحظة، لذا فإن إنسان ما بعد الحداثة، مصاب بدوار التنازع الهووي. ولعل الثورة الجندرية الأخيرة، التي وسعت حقوق الإنسان في المغايرة الطبيعية، الزواج المثلي وتغيير الجنس، تعد بحق مظهرًا مثيرًا لما وصلته الإنسانية ما بعد الحداثية، ودلالة تطبيقية عن ما بعد الأخلاق، فقد انحلت الهرمية القيمية وتفسّخت، ولم يعد في مقدور الأفراد الحكم على القيم، إلا بمنظور إيروسي، فـ«في ذلك النظام الجديد المرونة هي الثبات الوحيد، والزوال هو الدوام الوحيد، والسيولة هي الصلابة الوحيدة، باختصار شديد: اللايقين هو اليقين الوحيد»[37]؛ ذلك أن فروض الحداثة -التي تستوجب الثورة على التقاليد، بضرب من الوسواس القهري، الذي يلحّ على الارتماء في المستقبل والتدافع فيه نحو مكتسبات جديدة، يعمل فيها منطق الخيال عمله الأساس- قد وصلت إلى أرض التقاليد الأخلاقية، فلم يعد في مقدور الأفراد إدراك الهرمية القيمية، كما افتقدوا حسّ القيمة، ليتساوى لديهم كل شيء، مما اضطرّهم إلى مساءلة الطبيعة، وهو ما يجري فعلًا في حقل التقنيات الحيوية، ليتكيّف الأنا الإيروسي، مع التقدّم التقنوحيوي في فضاء الهيمنة الرأسمالية، التي أعادت صياغة الوجود ليكون متساويًا مع التسوّق.

4– لقد تأسطرت ما بعد الحداثة بواسطة الخيال سلطة على الذات، فأخذت تبحث عن إنسانيتها خارج حدود الإنسانية الحاضرة، ويكون السوبرمان دعوة نيتشوية في غرة القرن العشرين لكي يسلك الإنسان سبيل القلق من ظرفه الإنساني، إنّه دائمًا مدعوّ إلى الاستمرارية في التجاوز ممسكًا بضرب من اللامبالاة القيمية، محيطًا ذاته بالحرية المطلقة، متصوّرًا أنه قذف به إلى هذا العالم في صمت الفراغ[38]، وهو يكرّر الأيام بضرب من السيزيفية اللامجدية والمضنية، فدعاه هذا التوالي إلى فتح ملف المغايرة الجسدية، فلم يعد له من إيمان إلا بالجسد. وتحت دافع نشوة الانتصار على الطبيعة، وامتلاكه لناصية المادّة الحيّة، فتح ملفًّا وجوديًّا ضخمًا، خاصة وأن القدرة على ذلك أصبحت ممكنة، بفضل فتوح العلم البيولوجي، والطاقة الإجرائية للتطبيق البيوتكنولوجي.

5– النفور من المؤسسة، بتعدد ضروبها ولعل المؤسسة الإجتماعية، تبدو شديدة التنافر مع الوضع الفرداني الموسوم بالانفجار الهووي، لذا يؤمن إنسان ما بعد الحداثة، لكن خارج التأطير المؤسساتي، ليبقى إيمانه خارج حدود المؤسسات والقيم المعروفة[39].

الحاصل، لقد تم التخلي عن مبدأ المعيارية الذي أتى به الدين الصالح قبلًا، ذلك الذي يؤكد أن مبدأ قياس الأشياء بالنتائج لصالح الفاعل المحدد هو معيار مشروعيته وصدقيّته، ليعوّض بعد ذلك بمعايير موصولة بالهيمنة الإنسانية، من عقلانية وتجريبية، فحُصرت القيم في الذات الإنسانية، وتأكد استقلال المعيار والتقويم عن البنية الميتافيزيقية والكلية، لتغدو القيم والمعايير مجرّد مراقبة تجري في مستوى الذات. والحق أن حلول ما بعد الأخلاق وما بعد الواجب لم يكن صدفة ولا مفاجأة، فهو نتيجة للتحديث المستمر، بطريقة يتواصل فيها الإدمان على وضع المغايرة، سلكت فيه الذات منطق التحطيم، إلى أن وصلت إلى أرض لا يعرف فيها مؤشّر للسماح أو المنع.
وعمومًا تشكّل الحرية المحيط القيمي الشامل المحيط بالقيم، أي بكل الخيارات الفردية الممكنة، وهي ركيزة الفردانية والاستقلالية، لتمثّل قاعدة كل المراجعات الأخلاقية والتشريعية. وفي هذا الإطار المحيط طوّر روين أوجين (Ruwen Ogien) نظرية أخلاقية يصطلح عليها «الحد الأدنى من الأخلاق». تتميز بمعاداته فوقية السلطة، متحذّرة من التدخّل في الأخلاقية الذاتية؛ ليكون مبدؤها: «يجب أن يقتصر التدخّل في حالات الأذى الصارخ الذي يلحق بالآخرين»[40]، هي خلاصة نظرية المواثقة الطبيعية التي أسّست مجتمعًا من الأفراد يتواطؤون على الاعتراف المتبادل بالحقوق الطبيعية؛ لذلك ترتخي الأخلاق، وتتخلص من ضابط الإلزام، وبعدها تفعل ما تريد.

أما الوجود الجميل عند ميشال فوكو، فهو كناية عن وجود فردي، ودرب تسلكه الذات بمعزل عن السلطة، لتكون الأخلاق محض إبداع جمالي تختاره الذات الفردية. ونظرًا للمقدمات الافتراضية من موت الإنسان وموت التاريخ، فقد تسرّبت المرجعيات إلى النهاية، وهنا تبحث الذات عن مخرجات التأسيس المرجعي، ليعثر عليها في فنون ممارسة الذات والاهتمام بها عند الأسياد اليونان والرومان. وعليه سيكفل فن الوجود للذات التحرر من كل قمع السلطة التي تتجلى في جملة ممارسات خطابية مهيمنة تمارسها شبكة القوى السياسية والاجتماعية[41]؛ لذلك ينفتح أمام الذات المباح على مصراعيه، فلا خير ولا شر، إلا ما تريده الذات، إشباعا لطموحها الإيروسي، الذي يترادف خير الذات.

حاصل القول، لم يعد الأفراد فيما بعد الخلاق يعتبرون الواجب، بل يتوجهون إلى الاستزادة من الحقوق موسعين لها بحسب تزايد الرغبات. لقد أضحى الواجب ضربًا، من القيد المعيق للحرية، ودليل ذلك تلك التشريعات الجديدة التي انتقلت من الحقوق الصلبة إلى حقوق رخوية ترى أن المطالب الرغائبية هي عينها الحقوق الإنسانية، فلم يعد هناك فرق بين القيمة والهوى.

ولعل المسارات التي سلكتها الحداثة، مؤسسة لأنطولوجيا الأنسنة والعقلنة، تفسر هذه الصيرورة الاسترخائية للأخلاق التي انطلقت من الإنسان، لتركن إلى وضعه اللامتعين، والمتجلي في العقلنة المفرطة، التي سارت رويدًا إلى تثبيت سلطة الهوى، بل والحق فيه وتحويره، لكي يقنع التصوّرات التي يقترحها الخيال.

ثالثًا- ما بعد الأخلاق وفلسفة الجسد: عرفت الذات ما بعد الحديثة الانفجار الهووي، لم يعد العالم ما بعد الحديث عالمًا كليًّا، كما لم يعد يدرك على أنه وحدة متماسكة، بل هو عبارة عن تركيبة من شذرات منقسمة، لا قدرة لها على بناء الذات؛ ولأنّ هذه الذات فقدت مقدرات الكلّيّ والتماسك، فلم يعد يحوم حولها سوى الحسّ للتمركز حول الجسد تمركزًا كليًّا. فكيف تغدو الأخلاق تحت هيمنة المنظومة الجسدية؟ ألا تبرر كل مطالبها؟ ألا تعتلي النسبية لتوجّه القيم نحو النهاية باعتبارها، حصيلة الممارسة الجسدية؟

يتّخذ الجسد في أخلاق ما بعد الحداثة مركزية قصوى؛ لأنّه موقع اللذّات التي تبدو غاية في حد ذاتها، لهذا تفكّر الذات انطلاقًا من صورتها الجسدية، التي تكون دائمًا في وضع المغايرة والتحوّل والتطوير، هذه الصورة حسب مقولة الجسد الملك، الذي تنفتح قبالتها خيارات وإمكانات التغيير لذلك، تجد السعادة القصوى غايتها في معانقة الجسد، الذي يفرض الإشباع المتزايد، والمتمركز على مطالبه الحسية والإيروسية. تبدو هذه الخلاصة صيرورة لكوجيتو تمركز على قرينة الذات العاقلة، التي أحدثت نقلة نوعية في فضاء الملك والسيادة، فمادام الجسد آلة بلا روح فهو مساوٍ للأشياء، وشيئًا فشيئًا، غدا مدعاة للاستهلاك التي تطور فيما بعد الحداثة إلى ماهية وشخصنة للذات.

في الواقع، تعتبر هذه الفكرة ذات وصال شديد بميتافيزيقا الحياة العضوية، كما تعدّ هيكلتها الداروينية تفسيرًا للتطور الحيوي للكائنات، حيث يغيب الكلي، وتكون الحياة أجزاء تتراكب، وهي في تطور وتغير مستمرين. لم تعد صورة الكائن منظورًا كليًا، بل أجزاء تتركّب وتتغير، بفعل قوانين شديدة العنف[42] تموت فيها الأخلاقية وتتثبت غريزة حب البقاء، لتصارع من أجل الحياة بدون رحمة، هي فكرة تشكل لبّ الأخلاقية التطورية عند سبنسر، فالأفراد يعملون أثناء حياتهم الأخلاقية، وفقًا لما تتطلّبه الحياة من إقصاء وصراع من أجل البقاء[43]، ولا مراء أن الأخلاق ستسيل طبقًا لهذا التفسير، لتنتقل حتمًا إلى وضع مابعدي، لأنها تتسرّب كما تتسرّب الحياة.
يجري هذا التفكيك الحيوي للحياة على نقيض من النسق الأخلاقي المفترض أن يكون كلية حاكمة على الحياة. وتعزيزًا للقيمة المحورية للجسد، كان لا بد من تصور أخلاقية تتلاءم مع الظرف الجسدي المتحوّل. هكذا فرض منطق استهلاك الجسد إعادة صياغة المنظومة القيمية بما يتناسب، والتعزيز المطلق لفكرة تحويل الجسد، ولما لا بقائه الأبدي[44]؛ لذلك شهد الشرط الأخلاقي تغيرًا فاصلًا يتواكب مع حالة الشخصنة التي اتخذتها الذات في إطار مفهوم الجسد، في حالة تطور ومغايرة وتحسين ذاتي، يتفق مع السعادة العارمة، التي تنتظر الذات في هذا العالم الذي تملكه.

1– الاحتفاء بالجسد وفلسفة الغواية: لا يخفى على كل ناظر، أن الحداثة قد هيكلت صورة عن الجسد الملك الخاص في إطار قراءة أداتية تجعله آلة، يمكن السيطرة عليها وتكييفها حسب المبتغى الإنساني، لكن لن تجري عملية السلطة في عصر الحداثة، إلا تحت عين المراقبة المفروضة من القواعد الأخلاقية العقلانية، التي يجب أن لا تتجاوز الإطار العام للعقلنة، في علاقة توجه الشخص، وجسده للفعل طبقًا للواجب.

لم تكن الذات في عصر الحداثة، قد وصلت بعد إلى حد النرجسية، التي تطلّب قراءة الجسد كمركزية للوجود، بعيدًا عن منظور القيم ذات الصبغة الفوقية والكلية، صحيح أنه شكّل لديها حقلًا لتطوير الذات معرفيًّا ووجوديًّا، لكنه لم يكن مركزًا وحيدًا لتطويرها. كان العرف الأخلاقي يثني عن المس بالجسد، من باب الحفاظ على الكرامة الإنسانية كإطار أخلاقي وركيزة تمكن من عقلنة الواجب. لكن بعد حين وشيئًا فشيئًا، تغيرت المقاربة الجسدية، مع صعود النرجسية والإفراط في عبادة الجسد، وقد اندمج في عملية استهلاك ممتدة ومتواصلة، تكثيرًا للأشياء المحيط به، بل يرعى زيادة الإنتاج في سبيل رفاهيته، وقد غدا في حد ذاته موضوعًا للاستهلاك.

ومع تطور التقنيات الحيوية، وتغوّل منطق الاستهلاك، فُتح أفق التجلي في مقاربة التجاوز بالجسد نحو المغايرة الكاملة، وهو ما تُبينُ عنه فلسفة تجميل الجسد، وتغييره لكي يكون متوافقًا مع مستوى النرجسية والغواية، وسيتحوّل إلى سلعة تُباع وتُشترى، لتخزن القطع الجسدية في البنوك الحيوية كغيرها من قطع الغيار إلى حين شرائها واستعمالها، تكميلًا للذات ونيلها الشخصنة المرغوبة، وهذا في سياق السعادة العارمة المحيطة بالوجود، وهي مرحلة تالية من مراحل الرأسمالية، حيث يلتحم الوجود بالمنطق الاستهلاكي، وتتحرك اللذات بشكل لامتعيّن، لينفتح هذا الوجود على تجارب استهلاكية، لم تكن في المدارك الإنسانية قبل صعود منطق الحداثة المشكّل من ثلاثي نسقي: الأنسنة والعقلنة والمنفعة، »لقد ولدت حداثة جديدة: إنها تتصادف مع «حضارة اللذة» التي أسست إبان الجزء الثاني من القرن العشرين[45] «، معلنة ميلاد مجتمع الرفاه، الذي يتغيى تكثير اللذة غاية له. لا عجب أن يشكّل الجسد، موضعًا لاستكمال الغاية المنوطة بهذا الوجود المتلذّذ، ليس إشباعًا لغرائزه ورغباته، إنّما ليكون موضعًا لعبادة نرجسية تتحلّق حوله باعتباره مركزًا للوجود.

تعكس فلسفة الغواية، تلك العمليات الطبّيّة المستخدمة في حالة الرخاء الإنساني، زيادة في الجسم بسطة بحسب تصور الذات، جمالًا وتكييفًا للجسد حسب الرغبة، وطلبًا للحاجة الكمالية، بل المفرطة في الكمالية، إذ تستبطن الذات النرجسية، الرغبة في التجاوز المتواصل للجسد نحو التغيير الكلي محيطة ذاتها بالتبرير الذي تمدّ به الحرية كقيمة كونية مطلقة. ولعلّ عمليّات التجميل الإفراطيّ، تعد أحد المتلازمات المرتبطة بفلسفة الغواية، حيث تسوقِن الجسد، وغدا سلعة رائجة في أسواق الرغبة، سواء في العالم الواقعي أو الافتراضي. أضف إلى هذا عمليات لاحقة، مكّن منها التطور اللامتعين للتقنيات الحيوية، مثل تغيير الجنس، طلب الشباب الدائم إنكارًا لحقيقة الإنسان الفاني، عبر الاستثمار في الخلايا الجذعية. وعمومًا فقد فقدت مع هذا المتحوّر الجسدي، حدود الطبيعي واللاطبيعي، الذي عد سؤالًا جوهريًّا شديد الأهمية، بعدما تفجرت الأنا ولم تعد تعرف جنسها شكّا فيه، ويشهد العالم اليوم، أزمة الهوية الطبيعية، في انزياح بين الذكورة والأنوثة، وما بينهما، لتغرق الذات في ضباب أنطولوجي مخيف، إذ لم يعد الإنسان يدرك جنسه، إنما هو في وضع المغايرة والتطوير الذاتي. تجدر الإشارة إلى أن المزاوجة بين الوجود المائع ونهاية الأخلاق، ينذر بنهاية الإنسانية التي أصبحت تفكر اليوم بالتجاوز بالإنسان نحو الآلة، عبر فلسفة تؤكد على أن الممكن التقني يعد خيارًا جذريًا، يواجه منطق الضعف البيولوجي الذي يميز الجسد البشري[46].

وعمومًا تنفي النرجسيّة كلّ قناعة، بوجود الصورة الكاملة والنهائية للإنسان، لتراه محاطًا بالنسبية، فيتكيف الجسد في مدار التطوّر التقني الهائل، مع تصوّر المغايرة المتواصلة تحسينًا له، حسب الرغبة التي تعد في حالة سيلان دائم، تطويرًا للصورة الإنسانية وفقًا لمبتغى الكمال المنظور. وعليه تُستشكل أسئلة حول حدود الصحّة والمرض، الطبيعي واللاطبيعي، وتندثر الحدود بين هذا المفاهيم وأوضاعها الوجودية. فهل يتم مثلًا قبول الشيخوخة، العقم، الخلقة التي وجد عليها الإنسان، الإعاقة الوراثية؟ ما هو الحد بين الألم الطبيعي والرغبات الخاصة؟ هل يجب تحسين الجسد بوسيلة التقنوعلمي، وابتغاء الكمال الجسدي؟[47]، بل السفر بالجسد إلى منازل الكمال الكلي والبقاء الأبدي.
بهذا يمثّل التقنوعلمي عاملًا فاعلًا، في تطوير مسار الفردانية؛ لقد أصبح بإمكان الأفراد التوسيع الذاتي للمطلب الغريزي، بوسيلة التقنية، إطلاقًا لمداه وتوجيهًا له نحو اختيار معايير جديدة للطبيعة؛ حيث مكّن الطب الحيوي من تطوير آليات تدخّلية، زيادة في سلطة الفرد على جسده، بحسب مطلب النزعة التحرّرية والرغبة المفرطة.
بهذا شهدت مرحلة ما بعد الحداثة، نهاية المعيارية العقلانية اتجاه الجسد، ليتحوّل إلى وسيلة ذاتية وحق من حقوق الذات، يرى ذلك في تشيّؤ أجزائه، لم يعد الجسد مقنعًا في طبيعته، لقد تكيف مع مطالب الفردانية في نزوعها إلى التركيز على الذات السعيدة سعادة فائقة[48].

2– القلق من الجسد والتجاوز إلى ما بعد الجسد الإنساني: تحتضن فلسفة الجسد - بمنظورها المابعدي، الدعوة التطورية سندًا لها والنيتشوية عقيدة وجودية تمدّها بالمشروعية، لتعتبر أن السفر بالجسد إلى القوة، مهمّة لا بدّ أن يؤديها الإنسان الذي مات لديه الإله، فتحمل المهمة الكونية وحملها على عاتقه، ثم مات لديه الإنسان، فأصبحت مهمة ميلاد الذات مهمة ذاتية، في هذا السياق يتّخذ الجسد بعدًا أنطولوجيًا، وعاملًا فاعلًا في بنية النسق المابعدي للأخلاق، بل تصير القيم بصيرورته ومطالبه، التي تتعدّى حد الطبيعة الإنسانية، بتفجيرها لمصلحة الترقّي الجسدي.

أُعِيدَ تعريف الجسد-على ضوء التطور التقني- باعتباره صورة يتم إخراجها وإعادة تركيبها، ومجموع قطع تركب بالمنظور الرغائبي المفصول عن أي قيمة، ولقد لعبت العلوم التقنية دورًا مهمًا في طبعنة وأجرأة الكائن البشري، متصورة إياه على أنه صيرورة طويلة للتطور الفزيوبيولوجي، ومنتوجًا طبيعيًا يمكن تحويله وتحويره مادام قانونه الطبيعي لا يحول دون إجراء عمليات التغيير والتحوير والتحويل[49]، والسير من ثم به نحو الكمال المبتغى الذي يعني اختراق الطبيعي إلى ما بعد الطبيعي. هو الرهان الذي تعمل على تجسيده فلسفة ما بعد الإنسانية، مقابل تطور عارم لحقل البيوتكنولوجيا، الذي يمتلك حركة لولوبية يمتد عمقها إلى اللانهاية، إخراجًا للجسد من ضيقه الأنطولوجي، تحسينًا واستزادة فيه، ولما لإبقائه الدائم من تحكّم في الموت[50].

في هذا الفضاء التقني المترقب سيكون الإنسان، مجرد قطعة مرسومة رسمًا إلكترونيًّا، وخطاطة استُجمعت فيها مركبات جينية وأرقام رياضية، لتترقّب ميلادًا جديدًا، على غير عهد الطبيعة الإنسانية. هو جسد صار قطعة من جزء مادي، لا يشعر بالحياة كما عهدها، وروح تفكّر بذكاء، اصطناعي تمّ تضمينه في الخطاطة المرسومة، في مخابر صناعة الإنسان الجديد.

إنه عالم تقني مشفّر، يتحرك انطلاقًا من الرقمنة، وفرضيات الرياضيات التطبيقية، فهل هو وعد الإنسان القوي القادم من مستقبل الاستشراف النيتشوي؟ أم هو التطوّر الإنساني الذي أعقب التطور الطبيعي بصيغته الداروينية؟ أم أن الإنسان قد استشرف نهايته الكونية؟ هل تمكن برومثيوس الإله العابث أن يضع نهاية محتومة للإنسان؟
تلك هي أسئلة نهاية القرن الفائت الحائرة، تحركت عبر نظرية المسؤولية، في خوف على مصير الإنسانية[51]، وقد تعهدتها التقنية، كإله أعمى وأصم، لا يشعر ولا يدرك فقه المعنى، لتتجه بها نحو مستقبل مجهول ومخيف.
في زمن راهن فقد المقادير الأخلاقية، يكون سؤال الماهية الإنسانية سؤالًا محوريًا، أما سؤال المصير الإنساني فيشكّل مطلبًا حاسمًا، فمن هو الإنسان المترقّب ولادته من رحم الآلة؟ هل سيحتفظ بماهيته الإنسانية، خاصة إذا ما تمّ اعتبار الطبيعة الإنسانية، من جانب جسد، انتقل من أمل في الخلود إلى مطلب تحقيق الخلود عبر التكنولوجيا؟

عكسًا لما سبق، فإن ما يشكّل الأنسنة ويعبّر عنها، هو جوهر يتجلّى في الوظيفة الإنسانية في حد ذاتها، إنها جامعة لأجزاء لا تتفكك، إنما تتوحّد في مدار المقصد المنوط بالوجود الإنساني في حدّ ذاته؛ ذلك أن الإنسان مبنى ومعنى، والعلاقة بينهما متينة لا تنفكّ، فإذا ما انزلقت الماهية الإنسانية نحو الصياغة التقنية. فهل بقي هناك من حديث عن الإنسان؟

ترتهن حياة الأخلاق، بالماهية الإنسانية، ففي حالة تفكّكها تفقد روحها ووجودها، لتسري صوب صياغة مجهولة ترتبط بالميلاد الآلي المرتقب. تبدو أحلام فلسفة ما بعد الإنسانية استشرافًا لقادم مخيف يتوعّد الإنسانية بانقلاب، في وجودها الكلي وجوهرها المتفرّد بوعي القيم، ذلك أن الاختلاف بين الطبيعة الحية والمادة الجامدة يعد صميميًّا، ناهيك عن تردّد المعنى المرتبط بالحياة. فهل من بقاء لوعي الغيرية في ضمير إنساني ولد من صلب الأنانية التي يفترضها منطق التحسين والتجاوز؟ فما يراود الإنسانية التي تسعى إلى تجاوز ذاتها، مكررة إياها دون هوادة، هو فكرة الخلود بمعنى العيش المكرر، وعوْدٌ أبدي يحدّد المصير البشري على تخوم مملكة الآلهة، وهو ما يجلي شقاء باطنيًا مع وفرة مادية مغرقة في الإفراط.

إذن تؤلّف المرحلة الإنسانية الراهنة، نسقًا آخر ومرحلة أخرى من مراحل تصور الجسد، فقد تم توظيف التقنية، ليعيد الإنسان تصوّر ذاته حسب آمال الخلاص، لعله يترقّى في معارج عالم الألوهية، وهو ما أحدث خلخلة لوعيه الطبيعي بالقيم، فالمستقبل واعد، ولكنّه مشحون بمخاطر وهواجس البقاء الأبدي، فما مصير حياة المعنى، التي ترتقي بالإنسان إلى شمول النفس المطمئنة بالقيم؟ هو سؤال تعجز الإنسانية إجابة عنه نظرًا لحبورها، المرتسم في أحلام المادّة، وفي هزّات الآمال المرتقبة التي لا تلتفت البتّة إلى عالم المعنى وحياة الروح، تلك هي معضلة التقدم الإنساني في عالم راهن ممزّق، بسبب غياب وعي الإنساني بالقيم، التي هي ماهيته التي تشكّل وجوده.

خاتمة
ما بعد الأخلاق وما بعد الفضيلة ونهاية الإنسان
تساوق المفهوم الأخلاقي المرسوم في ثنايا المابعديات مع فلسفة التقدم، فلا ريب أن رهان التغيير الذي يعدّ كنهه لصيقًا بالتقدم، قد سار صوب تفكيك المنظومة الأخلاقية، ما دام التجاوز هو محرّكه الذي يحمله من حال إلى حال. فهل نقول إن الأخلاق العقلانية هي التي استولدت ما بعد الأخلاق وما بعد الفضيلة؟

لا تعد القطيعة جذرية بين الحداثة وما بعد الحداثة، صحيح أن الزمن الحديث له مكتسباته الصلبة، لكنها صلابة مادية، ما فتئت أن ذابت وسالت وتفكّكت، نظرًا لغياب المعنى من الوجود، فلا مراء أن الاعتقاد بنجاعة الأشياء ينتهي حتمًا إلى انسداد المشروعية وفقدانها؛ لذلك لا يمكن بتر الجسد، المؤسّس للزمن الحديث وما بعد الحديث إلى جزءين، فهما حركة لزمن واحد، حتمًا سيؤول منطق عبادة المادة الصلبة إلى التبرّم منها وتغييرها بأخرى سائلة، كذلك تحولت الأخلاق من الصلابة إلى السيولة، وغدت شديدة السيران لا تحدّها حدود القيم، لتنشطر إلى اللانهاية، فاقدة المنظور المعياري، الذي يمثل الوسيلة إلى مقاصد أخلاقية تمد الإنسان بالمعنى.
عمومًا يختصّ المشهد الأخلاقي الراهن، بتعدد سياقاته وتنوعها، بكثرة تصوّراته الفلسفية؛ مما أحدث نموًّا مطّردًا للفكر الأخلاقي، بحثًا عن المرجعية بين عقلانية ونفعية. والحقّ أن هذا الكدّ في النظر الأخلاقي، لم يكن سوى تجلٍ لفقدان المرجعية التأسيسية للقيم الأخلاقية، خاصّة وأن الفضاء المرجعيّ الغربي، قد التحم بالعدميّة، حيث غادرت المعاني والقيم مواقعها، ولم يعد الإنسان إلا أنا تفكر انطلاقًا من إنّيتها، فاقدة للسند المرجّح للمعنى، لتهيم على وجهها، فقد قذف بها إلى هذا العالم في عتمة العدم، تجهل كل شيء عن وجودها بدايته ونهايته.

تشكّلت فجوة كبيرة بين ثقافتنا الإنسانية حول القيم، والحياة المستجدّة في كنف التطور العولمي المحمول في ثنايا التقنية والاقتصاد الرأسمالي، مع غزارة لإعلام تكمن وظيفته في برمجة الذهن على قيم بعينها، تحتفي بالحرية الفردية، وتعتبر الديمقراطية حارسًا لها. يعيد الإعلام المستشري كالوباء رسكلة القيم، التي تكوّنها العولمة عبر حربها الاقتصادية، فتحًا لأسواق اللذة والزيادة في فتوح السعادة، باعتبارها بداهة التقدم.

يعتمد الأنموذج العولمي وما بعد الحداثي، على انحسار الرؤية الأكسيولوجية في منظور واحدي باعتباره هو الحق المشترك، في خضمّ تلاحم سياسي اقتصادي إعلامي، يعني تفعيل منظومة تغيب فيها القيم، بل دعوة إلى نهاية القيم وأفولها؛ إذ «هناك فكرة مركزية[. . . ] وهي أنه مع تطور المجتمعات الديمقراطية المتقدمة، تجد هذه الأخيرة قابليتها للفهم في منطق جديد نصطلح عليه هنا بعبارة «عملية التشخصن»، وهي عملية لا تتوقّف عند إعادة صياغة مختلف المجالات بشكل عميق[. . . ] يبدو فيه جليًا أن مجتمعاتنا تقوم بنسج عدد كبير من معايير الخاصة»[52]. هو عصر الفراغ ونهاية الأخلاق، يخلص فيه الحال إلى اختيارات فردية، تتطابق مع أهواء الذات، ما يدل عليه كراء الأرحام، التحول الجنسي، الأسرة المثلية، وغيرها من الاختيارات التي تجد في التقنوعلمي وسيلة قمينة بتحقيقها، لتجد هذه الأوضاع الطارئة، نفسها قبالة عقبات أخلاقية ومجتمعية لها تأثيرها الواضح على الإنسان في تجلّيه الفطري.

تبقى الخطابات الكونية، حول عالمية القيم وفوقية حقوق الإنسان، مجرد قشرة أيديولوجية، تروّجها الدعاية الإعلامية الموصولة بالترسانة العولمية، أما القيم التي تعمل على زرعها، فإنها قيم ذات خصوصية، تتلاءم مع دعاوى العولمة والنظام الليبرالي. في خضم هذه المتغيرات التي يحملها التقدم في استشرافاته المستقبلية، يبقى السؤال عن القيم الجديدة ملحًّا.

لائحة المصادر والمراجع
أوّلًا– باللغة العربية
1. زيغمونت، باومان، الحرية السائلة، ترجمة: فريال حسن خليفة، مراجعة: محمد سيد حسن، القاهرة: مكتبة مدبولي، د ط، د ت.
2. الأزمنة السائلة، العيش في زمن اللايقين، ترجمة: حجاج أبوجبر، تقديم: هبة رؤوف عزت، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط 1، 2017.
3. الحداثة السائلة، ترجمة: حجاج أبوجبر، مراجعة: هبة رؤوف عزت، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 2016 .
4. الأخلاق في عصر الحداثة، الحداثة السائلة، ترجمة: سعد البازغي، بثينة الإبراهيم، هيئة أبو ظبي للسياحة الثقافة، الإمارات العربية المتحدة، د ط، 2016.
5. داروين، أصل الأنواع، موفم للنشر، الجزائر، د ط، 1991.
6. سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة: عبد المنعم الحفني، د دار، د ط، د ت.
7. ميشال، فوكو، الانهمام بالذات، ترجمة: جورج أبي صالح، بيروت، لبنان مركز الإنماء القومي د. ت.
8. ميشال، فوكو، الكلمات والأشياء ترجمة مطاع الصفدي وآخرون، مركز الإنماء القومي، بيروت لبنان، د ط، 1999.
9. كانط، مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة، متبوع بأسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة فتحي الشنيطي، د طبعة 1991 موفم للنشر، الجزائر.
10. كانط، نقد العقل المحض، ترجمة: موسى وهبة، بيروت:مركز الإنماء القومي، د ط، د ت.
11. جيل، لوبفتسكي، عصر الفراغ - الفردانية وتحولات ما بعد الحداثة، ترجمة: حافظ أدوخراز، مركز نماء للبحث والدراسات، بيروت، لبنان، ط1، 2018.
12. ألسدير، ماكنتاير، بعد الفضيلة – بحث في النظرية الأخلاقية، ترجمة: حيدر إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط 1، 2013.
13. عبد الوهاب، المسيري، فتحي، التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر، دمشق سوريا، د ط، 2003.
14. نيتشه، ما وراء الخير والشر، ترجمة: جيزيلا فالور حجار، دار الفارابي، بيروت لبنان، المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر، الجزائر، ط 1، 2003 .
15. ليلي، وليام، مقدمة في علم الأخلاق، ترجمة: علي عبد المعطي، المعارف بالإسكندرية، مصر، د ط، 2000.

ثانيًا: المراجع باللغة الأجنبية
Camus Albert: Le mythe de Sisyphe. Folio essais. Paris: Gallimard, 2013.
Canto – Sperber Monique (Sous la direction): Dictionnaire d’éthique et de la philosophie morale, 1ere Edition P U F, 2004, T1.
Comte-sponville André. LA PHILOSOPHIE, P U F.
Gauchet Marcel: la révolution des droits de l’homme. Paris: Gallimard, 1989.
Hobbes Thomas: Leviathan, Gallimard, PARIS, 2000.
Hottois Gilbert et autres: Encyclopédie du trans/posthumanisne-L’humain et ses préfixes-Librairie Philosophique J. Vrin.
ـــــــــــــــــــــــــet Missa Jean –Noel: Nouvelle encyclopédie de bioéthique (Médecine Environnement Biotechnologie) – De Boeck Université, Bruxelles.
Hume David, enquête sur les principes de la morale, Traduction Philippe Baranger et Philippe Satel PARIS, Flammarion, 1991.
Jonas Hans: Principe De Responsabilité Une éthique Pour La Civilisation technologique trad. Jean Greisch 1995. Flammarion, PARIS.
Laurent Alexandre :ET SI NOUS DEVENIONS IMMORETS, JCLATTES, 2001.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ: La MORT DE LA MORT, JC Lattés, 2011.
Lévy-Bruhl Lucien: LA MORALE ET LA SCIENCE DES MŒURS, Une collection développée en collaboration avec la Bibliothèque Paul-Émile-Boulet de l’Université du Québec à Chicoutimi Site web: http://bibliotheque. uqac. uquebec. ca/index. htm.
Lipovetsky Gilles, Le crépuscule du Devoir, PARIS, Gallimard, 1992.
ــــــــــــــــــــــــــ:L’ère du vide: Essai sur l’individualisme contemporain, PARIS, Gallimard, 1993.
ــــــــــــــــــــ: Le bonheur paradoxal. Folio essais. Paris: Gallimard, 2006
ـــــــــــــــــــــ: Le bonheur paradoxal, PARIS, Gallimard, 2006.
MAFFESOLI Michel: L’ordre des choses. Penser la postmodernité. Paris, CNRS Éditions (coll «CNRS sociologie»), 2014.
Maffesoli Michel: Le Temps de Tribus le déclin de l’individualisme dans les sociétés de masse, Méridiens – Klinksieck, 1988.
Ogien Ruwen: L’éthique aujourd’hui – Maximaliste et Minimaliste – édition Gallimard.
Onfray Michel: Abrégé́ hédoniste. Paris: Librio, 2011.
Sartre Jean Paul: L’être et Le néant, PARIS librairie Gallimard, 28éme Edition 1950.
Touraine Alain: Lettres à une étudiante, Seuil, 1947.

-----------------------------------
[1]*- أستاذة الأخلاق وفلسفة القيم بجامعة قسنطينة 2، قسم الفلسفة - الجزائر.
[2]- المسيري، عبد الوهاب، التريكي، فتحي، الحداثة ومابعد الحداثة، ص20.
[3]- فوكو، ميشال، الكلمات والأشياء، ص302.
[4]- Alain Touraine: Lettres à une étudiante, Seuil, 1947, P. 8.
[5]- باومان، زيغمونت، الحداثة السائلة، ص21.
[6]- ماكنتاير، ألسدير، بعد الفضيلة –بحث في النظرية الأخلاقية–، ص391.
[7]- في استقراء للنظريات الأخلاقية المعيارية، تكون الكانطية والنفعية تأليفًا مرجعيًا، يستقي منه الفيلسوف التأويل المرجعي للمشروعية الأخلاقية، نظرًا للفراغ الذي يحيط بالفعل، فما يبرر هذا الفعل هما العقلنة والأنسنة. من بين هذه النظريات ثمّة نماذج كثيرة، راولس، هابرماس، يوناس، بتر سينغر، وهلمّ جرّا من الفلسفات التي تستمد المشروعية، من قيمتي الواجب والمنفعة.
[8]- Gilles Lipovetsky: Le crépuscule du Devoir, PARIS, Gallimard, 1992 , P. 117.
[9]- Monique Canto –Sperber (Sous la direction): Dictionnaire d’éthique et de la philosophie morale, 1ere Edition P U F, 2004, T1, P. 695.
[10]- David Hume:enquête sur les principes de la morale, Traduction Philippe Baranger et Philippe Satel PARIS, Flammarion, 1991. P. 199.
[11]- See: Lucien Lévy-Bruhl: LA MORALE ET LA SCIENCE DES MŒURS, Une collection développée en collaboration avec la Bibliothèque Paul-Émile-Boulet de l’Université du Québec à Chicoutimi Site web: http://bibliotheque. uqac. uquebec. ca/index. htm.
[12]- Monique Canto –Sperber (Sous la direction): Dictionnaire d’éthique et de la philosophie morale, T2, P. 1249.
[13]-Thomas Hobbes: Leviathan, Gallimard, PARIS, 2000, P. 171.
[14]- باومان، زيغمونت، الأخلاق في عصر الحداثة -الحداثة السائلة-، ص72.
[15]- Gilles Lipovetsky, Le crépuscule du Devoir, P. 65.
[16]- Marcel Gauchet. la révolution des droits de l’homme. Paris: Gallimard, 1989. p. 11.
[17]- Albert Camus. Le mythe de Sisyphe. Paris: Gallimard, 2013. p. 76.
[18]- André Comte-sponville. LA PHILOSOPHIE, P U F. p . 99 .
[19]- Michel Onfray. Abrégé́ hédoniste. Paris: Librio, 2011. p. 32.
[20]- Gilles Lipovetsky: Le crépuscule du Devoir. p. 186.
[21]- Gilles Lipovetsky: Le bonheur paradoxal. Folio essais. Paris: Gallimard, 2006. p. 220.
[22]- نيتشه: ما وراء الخير والشر، ص23.
[23]- باومان، زيغمونت، الأزمنة السائلة – العيش في زمن اللايقين، ص31.
[24]- Albert Camus: Le mythe de Sisyphe. Folio essais. Paris: Gallimard, 2013, P. 27.
[25]- Jean Paul Sartre: L’être et Le néant, PARIS librairie Gallimard, 28 éme Edition 1950, P. 45.
[26]- كانط: مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة، متبوع بأسس ميتافيزيقا الأخلاق، ص214.
[27]- كانط: نقد العقل المحض، ص45.
[28]- ألسير ماكنتاير: مابعد الفضيلة، ص158.
[29]- Michel Maffesoli: Le Temps de Tribus le déclin de l’individualisme dans les sociétés de masse, Méridiens – Klinksieck, 1988, P. 226.
[30]- المسيري، عبد الوهاب، التريكي، فتحي، الحداثة وما بعد الحداثة، ص35.
[31]- باومان، زيغمونت، الحداثة السائلة، ص23.
[32]- باومان، زيغمونت، الحرية السائلة، ص121.
[33]- Gilles Lipovetsky: Le crépuscule du Devoir, P. 63.
[34]- Gilles Lipovetsky: L’ère du vide: Essai sur l’individualisme contemporain, PARIS, Gallimard, 1993, P. 70.
[35]- Gilles Lipovetsky: Le crépuscule du Devoir, P. 62 .
[36]- وهو ما يرى بكل وضوح في الصراع مع الذات، حول طبيعتها غير المقنعة التي تعيش في القلق، فيما أصبح موضوعًا مجتمعيًا غربيًّا، في اختيار الجندر والجنس تغييرًا ولعبًا بمصير الإنسان، وقبلها النسوية في دفاعها، عن المساواة المطلقة بين المرأة والرجل، انتهت معه الأسرة في الغرب، وأهمها على الإطلاق الزواج للجميع وتغيير الجنس، وفقدان الحدود بين الذكورة والأنوثة.
[37]- باومان، زيغمونت، الحداثة السائلة، ص23.
[38]- سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ص19.
[39]- Michel MAFFESOL: L’ordre des choses. Penser la postmodernité. Paris, CNRS Éditions (coll «CNRS sociologie»), 2014, P. 265.
[40]- Ruwen Ogien: L’éthique aujourd’hui – Maximaliste et Minimaliste – édition Gallimard , 2007, p 14 .
[41]- فوكو، مشال، الانهمام بالذات، ص60.
[42]- داروين، أصل الأنواع، ص378.
[43]-ليلي، وليام، مقدمة في علم الأخلاق، ص310.
[44]- Laurent Alexandre: ET SI NOUS DEVENIONS IMMORETS, JCLATTES, 2001, P. 35.
[45]- Gilles Lipovetsky: Le bonheur paradoxal, PARIS, Gallimard, 2006, P. 09.
[46]- Laurent Alexandre: La MORT DE LA MORT, JC Lattés, 2011 P. 90.
[47]- Gilbert Hottois et autres: Encyclopédie du trans/ posthumanisne-L’humain et ses préfixes-Librairie Philosophique J. Vrin, 2015, P. 30.
[48]- Gilles Lipovetsky: Le bonheur paradoxal, P. 227.
[49]- Gilbert Hottois et Jean –Noel Missa: Nouvelle encyclopédie de bioéthique (Médecine Environnement Biotechnologie)– De Boeck Université, Bruxelles, P. 243.
[50]- Laurent Alexandre: La MORT DE LA MORT, P. 15.
[51]- Hans Jonas: Principe De Responsabilité Une éthique Pour La Civilisation technologique trad. Jean Greisch 1995. Flammarion, PARIS, P. 25.
[52]- لوبفتسكي، عصر الفراغ-الفردانية وتحولات ما بعد الحداثة، ص6-7.