الباحث : عبد الحليم فضل الله
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 33
السنة : شتاء 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث : May / 16 / 2024
عدد زيارات البحث : 532
تضمّن العقد الأخير من القرن مسعى لكتابة فصل جديد في كتاب المركزية الغربية بحبر العولمة الاقتصاديّة. ساعد على ذلك التقدّم التكنولوجي المرتبط بالثورات العلمية، وارتفاع الإنتاجية وزيادة مداخيل الأفراد؛ ما يجعل التجارة ممكنة ومربحة، ووجود دولة قوية ترى أن من مصلحتها المضي قُدمًا في تحرير العلاقات الاقتصادية بين دول العالم. وبوجود هذه العوامل كان يفترض من الدول الأقوى سياسيًّا واقتصاديًا أن تكون رشيدة في سياساتها ومتواضعة في أهدافها وتميل إلى التسوية، وأن تبدي استعدادها كذلك لدفع الأثمان اللازمة لإبقاء قطار العولمة على سكّته.
وهذا لم يحصل، بل ظهر من المشهد الخلفي للعولمة أنها ليست ظاهرة اقتصاديّة صرفة، بل كانت حافلة برؤى وأفكار وانحيازات اجتماعية وسياسيّة، فالوجه الآخر للتدفّق الحرّ للسلع والأموال والأشخاص هو القبضة الخفيّة التي تحاول تشديد سيطرتها على قنوات تبادل المعلومات والمعرفة والأشياء. وفي الظاهر تسري الرموز والأفكار والمحاججة والمناصرة في الشبكة الافتراضية المعولمة بصورة عفويّة ولامركزيّة ومن دون قيود، لكنّها في واقع الحال تخضع لطبقات متعدّدة من الرقابة والضبط، إمّا من خلال التكنولوجيا التي تقلّص الوصول إلى المعلومات أو تحجبها تمامًا، أو بالسياسات التي تفرض عقوبات على الفاعلين والناشطين أو تلوّح بها في وجوههم. ويمكن ضبط الفضاء الافتراضي اقتصاديًّا بجعله مرتعًا للكسب، الذي على الرغم من ضآلته، يكفي لإخضاع الجمهور الواسع المنتِج للمحتوى لقواعد عمل انتقائيّة ومتحيّزة.
وإذا أمعنّا النظر أكثر، سنرى كم تبذل المركزيّة الغربية من جهود، بنجاح وفشل، لإحكام قبضتها التكنولوجيّة على فضاء التداول المعولم، والذي يشمل إلى جانب البيانات والمعلومات، سلاسل الإنتاج والتوريد التي تمرّ عبرها في آنٍ معًا، الموارد الطبيعيّة والمنتجات والآراء والموجات الفنيّة والمعايير التي تميّز بين ما هو مقبول وحسن وما هو قبيح ومرفوض.
وفي واقع الحال نحن نشهد مرحلة جديدة من مراحل السيطرة على حقّ التعبير الافتراضي. ما زالت وسائل التواصل الاجتماعي تمتلك هامشًا واسعًا للإتاحة والمنع والتحكّم بالمحتوى، لكن الحكومات بدأت تقتحم المشهد وتسجّل حضورًا أقوى، يجري ذلك إمّا بالتواطؤ مع «التطبيقات» الكبرى نفسها التي يُراد لها أن تكون ذراعًا للهيمنة، أو من خلال قوانين وقرارات وإجراءات سياديّة أخرى تُفرض عليها فرضًا. ومع ذلك ما زالت الشبكات الاجتماعيّة تحظى بهامش حرّية وافر مدفوع بالدرجة العاليّة من الحياد التقني التي تتمتّع بها، وهذا يكسبها المرونة ويعطيها القدرة على التكيّف والمراوغة في وجه الحكومات.
ملامح جديدة
تكشف المركزيّة الغربيّة، في ثوبها المعولم وما بعده عن ثلاثة وجوه غير مرئيّة تضاف إلى وجوهها الموروثة والسافرة.
هي أوّلًا، وبخلاف ما كانت عليه في السابق، تخلو من أيّ تعاقد سياسي معروف وواضح، يحدّد حقوق الخاضعين لها وواجباتهم ويعيّن نطاق عملها؛ ولذلك نراها تولّد دائمًا نزاعات وصراعات دموية وحروبًا لا تنتهي. وللمفارقة كانت المركزيّة القائمة على الاستعمار، تستند بهذا الشكل أو ذاك إلى قيود عرفيّة أو مكتوبة وشُرعٍ عالميّة اضطر المستعمرون والمنتصرون إلى الاعتراف بها. والحال نفسه في مرحلة حروب الهيمنة والاحتلال، والتي ازدهر ربيعها في حقبة تصفية الاستعمار ثمّ ما بعد الحرب الباردة.
الوجه الثاني للاختلاف، هو أن المركزية الغربية في قالبها الحالي تستبطن مقايضة مريرة بين الحق من ناحية والمنفعة من ناحية ثانية، فكلّما جرى التنازل عن مزيد من الحقوق السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والإنسانيّة زاد حظّ الدولة التي تُقدم عليه من الرفاهية والوفرة، والعكس بالعكس. وفي الأساس جرى إمرار هذه المقايضة من خلال العولمة الاقتصادية التي كانت في بداياتها تعمل لمصلحة دول المركز، لكن عندما خرجت عن السيطرة الغربيّة واتّسع نادي المستفيدين منها، أُضيفت إليها آليّات مسانِدة كالعقوبات والحصار. تكشف لنا المقايضة المذكورة عن الأسباب التي تجعل بعض بلدان الأطراف قادرة على تحقيق الوفرة بيسر يفوق بكثير غيرها من البلدان الطرفية المماثلة لها. يُعزى ذلك بطبيعة الحال إلى الثمن السياسي والثقافي والإنساني المدفوع للعواصم الكبرى، التي تمنح غيرها من البلدان فرصًا مقنّنة من النمو والرفاهية غير المستدامة. أمّا الدول التي تقرّر القيام بمقايضة داخليّة، أو توجّه سياساتها نحو الداخل، فستكابد مشقّات وصعوبات، لكنّها إذا صمدت في وجهها فستنجح في الوفود إلى عالم التنمية والتقدّم الدائمين وستفلت من قبضة دول المركز.
ومما يميّز النسخة الحاليّة من المركزيّة الغربيّة عمّا سبقها ثالثًا، أنّ المآرب الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة تتمازج فيها بقوّة. إنّها شديدة التطلّب ومفتوحة الشهيّة على الدوام، ولا تكتفي بنوع من الاستتباع دون غيره، بل تحرّك أصابعها على كل الأوتار. فمن زاوية للنظر هي مركزيّة سياسيّة قوامها السيطرة والهيمنة وعملتها القوّة، ومن زاوية ثانية هي مركزيّة اقتصاديّة كارهة للمنافسة وتحدوها الرغبة بالاستيلاء على فوائض الآخرين دون هوادة، وهي في المقلب الآخر صراع حضارات وثقافات ونمط حياة وحيد وأبدي يريد أن يتربع بنرجسيّة على عرش العالم. وبسبب هذا التداخل والتشعّب والتطلّب تراها مشبعة بالأزمات وعوامل الانفجار الذاتي، التي تحاول بين حينٍ وآخر تصديرها إلى آخرين.
الأيديولوجيا والمصالح
من الواضح أنّ المركزيّة الغربيّة والعولمة ليستا شيئًا واحدًا مع أنّهما تدفّقتا في العقود الأخيرة في مجرى واحد. فجوهر المركزيّة الغربيّة سياسيّ وحضاري، تسيّره اتجاهات مدبّرة وتطلّعات مدروسة ونزعات أيديولوجية كامنة وبنيّة مؤسّساتية تمتدّ من السجون إلى الجامعات مرورًا بمراكز التفكير والقواعد العسكريّة. فيما العولمة المتباطئة، أكثر واقعية وتدور مدار المصالح وتتقلّب معها. هي تعطي أيضًا مساحة للتمفصل في موازين القوى، فقد تتصدر إحدى الدول في مجال ما (في التكنولوجيا مثلًا) وتتخلّف عن غيرها في مجالات أخرى (عسكريًا أو اقتصاديًّا...). ويضفي التمفصل وتصدّر المصالح قدرًا من التعقيد على العلاقات ما بين الدول، كما يفتح الباب أمام التسويات أو يمهّد السبيل للنزاعات.
إنّ أزمة المركزيّة الغربيّة كامنة في محاولتها إنكار التمفصل المذكور، ووضعها المصالح والأيديولوجيا في بوتقة واحدة. ومن نافل القول إن الهدف الأساسي للتمركز حول الغرب في النظام الدولي، هو تعظيم المكاسب السياسيّة والاقتصاديّة لهذا الأخير، والذي يفترض أن يتحقّق بأيسر السبل من خلال تبادل المنافع مع الآخرين والتوافق معهم. لكن الغرب يريد أن يحرز لنفسه، بموازاة ذلك، التفوّق والسيطرة في كل المجالات. وهذه معادلة عقيمة بل مستحيلة، وخير مثال على عقمها، ما لحق بمصالح واشنطن من خسائر وأضرار بعد انقيادها خلف المحافظين الجدد وأفكارهم عن الهندسة الاجتماعية وتفكيك الشرق الأوسط لدعم «إسرائيل» ومواجهة ما يسمى الإرهاب. لقد ضرب هؤلاء بعرض الحائط المصالح الإستراتيجيّة الكبرى للولايات المتحدّة الأميركية في كسب السباق المعولم مع القوى الصاعدة، وأفقدوها وقتًا تاريخيًّا ثمينًا لم تتمكن من تعويضه حتى الآن.
وفي العموم تؤدي العقلانية السياسيّة والاقتصاديّة دورًا مثبّطًا للصراع العالمي، وأكثر ما نلاحظ حضورها في الأوقات التي تعمل فيها العولمة على نحو متآلف مع المركزيّة الغربيّة، أمّا في الأوقات الأخرى التي يتبدد فيها الإنسجام بين مسار العولمة وأهداف الغرب في السيطرة، يبدأ الأخير بتجاوز التوافقات ونقضها، ويعيد تنشيط آلته العسكريّة لفرض نفوذه السياسي والاقتصادي، وإضفاء بعد عالمي على ما يعتنقه من تصوّرات وقيم عن الحياة والسياسة والعالم.
ومع ذلك ما زالت العولمة، على الرغم من تبدّد وعودها، أقرب إلى أن تكون أحد أذرع المركزيّة الغربيّة، لكن الاعتبارات السياسيّة والأيديولوجيّة للمركزيّة تتصدر المشهد في الأزمات، وكذلك حين تتضارب النزعة الواقعيّة والنفعيّة في الاقتصاد العالمي مع الخلفيّة الأمبراطورية والعصبويّة في نظام الهيمنة الغربي. فما إن يُهدّد موقع الغرب في النظام الدولي أو تستبد به حماسة التوسع يعود العنف والقوة المفرطان «عملة» السياسة، وتُدفع إلى الخلف المصالح والمنافع المادية التي تفضّل العنف الرمزي والناعم على السافر والخشن.
لقد شهدنا في العقود القريبة كيف فرّطت الإمبراطورية الغربية بمصالحها الاقتصادية المباشرة ودفعت أثمانًا باهظة لتغذية هيمنتها، فعلت ذلك في العراق الذي تكبدت فيه أثمانًا تفوق ما نالته من مغانم، وكذلك الأمر في تصعيد أميركا المواجهة مع الصين، من أجل عرقلة صعودها ونموّها لا لأي هدف آخر. والحال نفسه مع روسيا التي واجهت سياسات فئوية وعقابية لأسباب لها علاقة بتمدّد النفوذ الإمبراطوري، ولم يبال الغرب بالتكاليف الاقتصادية والعسكريّة المباشرة للحرب الأوكرانيّة، ولا بتعطيل سلاسل التوريد وتقليص دورة الموارد الطبيعية الأساسية والطاقة وإقحام العالم في مخاطر الركود المضاعف بعد كساد جائحة كورونا. وها هو منطق الانتقام، على ما يجرّه على الغرب من خسائر، يفرض نفسه من جديد في مواجهة غزة ودماء أطفالها. وإذا أردت أن تلقي نظرة على أزمة المركزيّة الغربية ورعونتها، فستراه في تنوع مسارح الجبهة التي تقاتل عليها، إنها تواجه دولًا تمتد على 11.5 بالمئة من مساحة العالم (روسيا)، ويسكنها 17.5 بالمئة من سكانه (الصين)، لكنّها لا تتورّع عن الفتك بإقليم صغير محروم كغزة توازي مساحته 2.5 بالمليون من مساحة اليابسة تقريبًا ولا يزيد عدد سكانه عن 0.26 بالألف من سكّان العالم.
صورة الغرب التي تتغيّر
لم تخلُ أسطورة التفوق الغربي، ولا سيّما في حقبة العولمة، من التأويلات الأيديولوجية التي أوّل ما عبّرت عن نفسها في أطروحة نهاية التاريخ. لم يأبه واضع الأطروحة بأن مبدأ الحتمية الاجتماعية والتاريخيّة يتناقض مع روح الحداثة الغربية التي ربطت نفسها بالتجربة الحسيّة وبعقلانية ماديّة لا قِبَل لها بالتجريد الفلسفي، وأن الحتميّة التي هي في صلب الأطروحة، تخالف أيضًا منطق ما بعد الحداثة الذي يحتفي بالقطيعة والتفكيك واللايقين.
وفي التأويلات الأيديولوجية للتفوق الغربي المعولم أيضًا، يحلّ الصراع العالمي بين الحضارات، بوصفها أعلى تجمّع تاريخي، محلّ الصراع بين الدول التي رُسمت حدودها السياسيّة عنوة بالحروب والجيوش. وما زال اسم صامويل هانتنغتون يتردد في الأنحاء كلّما عصف التوتر في العالم. مع ذلك، فشلت أطروحتة عن صدام الحضارات في تقديم شرح للانقسامات الدامية والمريرة داخل الحضارات نفسها. ففي الغرب تتصارع اليوم الليبرالية المعولمة مع اليمين المحافظ المتشدد، وفي الأمس القريب جنح التكفيريون في العالم الإسلامي، بدعم خارجي أو من دونه، نحو عنف دموي متوحش بدعاوى عقيديّة زائفة، وتواجه الكنيسة الأرثوذوكسيّة الانقسام على خلفية الصراع على أوكرانيا.
ومهما كان دافع هنتنغتون من أطروحته، فإنها عبّرت ولا تزال عن توق الغرب الجماعي إلى إسباغ صفة جوهرانيّة على صراعاته العالميّة، فلا يكون مدارها السيطرة والنفوذ فقط. ويؤكّد الشعار الذي رفعه الرئيس الأميركي جو بايدن عن تحالف الليبراليات هذه الحقيقة، ويُستوحى الأمر نفسه من الرطانات الأوروبية المذعورة بعد عملية طوفان الأقصى، والتي لم تتردد عن إعطاء تفسيرات دينيّة كاذبة للحرب بين المقاومة الفلسطينيّة والاحتلال.
يفضّل تيار آخر أن يضفي على المركزيّة الغربيّة المعولمة صفة أداتيّة تعتني بالكفاءة والتفوق، فالأمم القويّة يمكنها أن تفرض حضورها في المجتمعات الأخرى من خلال التكنولوجيا لا الحرب. لكن خلف هذا التبسيط تكمن الليبرالية الجديدة، وهي التي تنتشر ضمن عمليّة معقّدة، تتضمن تغيّرات اجتماعية واقتصادية وثقافية كثيرة، كالتوسع في تحديد نطاق السوق، والتدمير المنهجي للترابطات الاجتماعية، وتكريس النزعة الفردية، وإعادة تعريف الدولة ومهامها، والقبول بالمركزية الثقافية للغرب.
مهمّة الليبرالية، التي هي أيديولوجيا في نهاية المطاف، تبدو مستعصية، فرغم تقدم التقنيات وتوسّع أحجام الكارتلات حافظت الدولة على صمودها وقوّتها، ولم تقم قيامة القوميّة أو اللاقوميّة العالمية، ولم تُمح الحدود وتصلّبت العصبيات في أماكن كثيرة بدلًا من تراخيها. المعولم والمحلّي عالمان مستمرّان في العيش جنبًا إلى جنب، ويتبادلان الصدارة، فيسود الميل إلى الانطواء على النفس حين تشعر الدول المهيمنة بخفوت البريق وفقدان المكانة، ويسود الانفتاح والانفراج إذا لمع نجمها.
ورغم التناقضات الظاهرة بين الاتجاهات المذكورة التي فسّرت العولمة بعوارضها التقنيّة أو بنهاية التاريخ أو بكسب السباق الحضاري، فإنها تجري في النهاية نحو مصب واحد هو تبرير الهيمنة وتكريس سيادة الغرب على العالم. وتنطوي تلك الاتجاهات على استعارتين: الأولـى من التاريخانيّة التي ترى التاريخ الإنساني نتاجًا للوعي وقابلًا للإدراك والتمثّل، ومسارًا متّصلًا يتطور باستمرار. والثانية من فلسفة القوة، التي تدعو إلى تجاهل الأخلاق إذا تعارضت مع الغايات. لكن التاريخانيّة تتناقض مع فهم المركزيّة الغربيّة للزمن الذي يمضي إلى الأمام بحسبها دون ذاكرة أو بذاكرة ضعيفة. أمّا القوة، التي أوغل الغرب فيها تضخيمًا للذات، فقد استُخدمت بمعزل عن أساسها الفلسفي الذي هو الإرادة. لقد امتلك الغرب إرادة العنف لا إرادة القوّة، ولذلك لم تكن الحرب لديه استكمالًا للسياسة، بل مراودة لآمال وأوهام فات أوان استرجاعها. لقد خسر الغرب سيطرته المطلقة على التحديث والحداثة ففقد إحساسه بالأمان، بل فقد هيئته التي أوجدت هويته، وبذلك كان هو الذي يتغيّر فيما يحاول تغيير الآخرين، كما نبيّن في الفقرة أدناه.
تهافت الرواية
يعرِّف الغرب ثقافته بأنها مجموعة مترابطة من العناصر: إعلاء مكانة العقل في العلاقة مع الطبيعة، أي اكتشاف القوانين الطبيعية بواسطة العقل العلمي التجريبي، وفكرة سيادة القانون، بمعنى أن لا يخضع المجتمع لحكم العادات والامتيازات والتمييز، بل لحكم القانون باسم العقل والسيادة الشعبية. ومن تلك العناصر أيضًا، تحرير الفرد من سطوة السلطات الأخلاقية أو الدينية أو العائليّة، لينصاع لسلطة العقل المتغلّب علــى الانفعالات، بوصف العقل سلطة اجتماعيّة وقيميّة موازية. وفي طيات الهويّة الجماعيّة المزعومة للغرب، سنعاين نسيجًا متآلفًا من الإرث الكلاسيكي الذي يتضمن الفلسفة اليونانيّة والقانون الروماني، والمسيحيّة واللغات اللاتينيّة، والمبادئ المدنية المتمثلة في فصل الدين عن الدينونة، والتشريع الوضعي، والتعددية الاجتماعية والفردية.
وباختصار يمكن تكثيف مفهوم الحداثة الغربية، في اصطلاح واحد هو العقلانية الماديّة، التي تُنسب إليها الثورة العلميّة والدولة الحديثة البيروقراطيّة، والتمحور حول الإنسان الفرد، لكن ذلك لم يلغ تمامًا العناصر التقليدية أو اللاعقلانية في المفهوم، والتي تبقى في عمق اللَّاوعي الغربي لتخرج من كمونها أوقات الأزمة.
لقد عمّق تباطؤ العولمة وبدء انحسارها من أزمة المركزيّة الغربيّة التي رأت فيها حلًّا لتصدّعات البناء الحداثوي الذي شهد تغيّرات جوهريّة أصابت عناصره المؤسّسة بالوهن:
1. ففي الغرب تتراجع مرجعية العقل، من منتج للمعرفة العموميّة والأفكار الكبرى التي ترسم مصير البشر، إلى عقل أداتي ملحقٍ بالتكنولوجيا وخاضعٍ للآلة. ومع إشاعة ثقافة الأنانية وحب الذات، نشهد انفصالًا آخر بين العقل والسلوك البشري، فهذا الأخير أُخضع لسلطة العلم الذي وضع على الضفّة المقابلة للمعارف العقليّة القبليّة. قد يكون انبثاق الفكر الانتقادي الحرّ في أوروبا قبل قرون علامة على عمق العلاقة بين الإنجازات المادية والنهضة المدنيّة للغرب، لكن تلك الانجازات تدفّقت بغزارة واضطراب، فأطاحت بالعقلانية، وقوّضت في طريقها الحسّ الجماعي السليم الذي طالما ساعد المجتمعات التقليديّة في كفاحها من أجل البقاء.
وتتوج أزمة المركزيّة الغربيّة الحاليّة مسيرة تراجع العقل الذي فقد استقلاله وقدرته على اشتقاق قوانين كليّة في النظر إلى الوجود والحياة والطبيعة البشرية، وبذلك انفصمت عُرى العلاقة بين العقل النظري والعقل العملي وبين القطبين الفكري والأخلاقي في عمارة المدنية الغربية.
2. وفي الغرب أيضًا تتخلّف القيم السياسيّة وعلى رأس ذلك الديمقراطيّة، التي كانت مبرّره في بعض الأحيان لغزو العالم. لكن الديمقراطيّة الآن تتعرّض لتهديدين، الأول يأتي من تنامي سطوة السوق التي لا تحتاج الى حدود سياسيّة فيما تحتاجها النظم السياسيّة، ولا تبالي ثقافة الأعمال بالديمقراطية، بل إنها تتعارض في صميمها مع الاختيار الحرّ. والملاحظ أنّ اقتصاد السوق أكثر دينامية من المجتمع السياسي، ويظهر نخب السوق، من رجال أعمال وتكنوقراط ومدراء ومستشارين أنفسهم في صورة جاذبة وأدعى إلى الثقة، مقارنة بنخب الديمقراطية من مثقفين ومناضلين ومؤسسات مدنيّة...
أما التهديد الثاني للديمقراطيّة، فيأتي من إضعاف الدولة القومية، لما بينها وبين الديمقراطية من صلة، فهذه الأخيرة إنما تكون ممكنة وفعّالة في مجتمعات متجانسة ثقافيًا كالدولة القومية، فيما لا تستقر المجتمعات المنقسمة على نفسها تحت حكم الأغلبية. وأكثر ما يدلّ على ذلك هو تراجع حضور القرارات المتخذة ديمقراطيًا في المجتمعات الغربية، لمصلحة القرارات التي تُتخذ خارج سلطة الإرادة الشعبيّة، وها نحن نرى كيف اضطرّت أوروبا إلى تبنّي توجّهات الإدارة الأميركيّة، على الضد من مصالح بعضها، تجاه الحرب الأوكرانيّة بدءًا من عام 2022، وفعلت الأمر نفسه على إثر الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008.
3. إنّ تموضع الغرب داخل صراع الحضارات يفترض امتلاكه هويّة تاريخيّة جامعة، وهذا ما لا يتحقق بالتمسّك بالخلفيّة التقليديّة للغرب المتمثّلة بالإرث اليوناني (في الفلسفة) والرومانيّ (في القانون والدولة)، بل يحتاج إلى مرجعيّة جوهرانيّة؛ ولذلك جرى العمل، بعد الحرب الباردة وانطواء صفحة التنافس الأيديولوجي، على تكريس الثقافة المسيحيّة/ اليهوديّة بوصفها الحيّز المشترك المزعوم للهويّة الجامعة.
إنّ تغليب العنصر الديني وابتداع الأصل الديني للحضارة الغربية، مهَّد لإشهار الإسلام بوصفه العدو والآخر (الذي هو الجحيم حسب مسرحيّة لسارتر). وهذا يتجاوز الحقائق التاريخية، التي تدلّ على أن الوئام الديني بين المسيحية والإسلام كان هو الغالب في العلاقة بين الديانتين. وأكثر ما ينطبق ذلك على المنطقة العربية التي لم تعرف حتى اليوم حروبًا دينية، بالمعنى اللَّاهوتي للكلمة، رغم ما عصف بها من صراعات.
4. سنلاحظ أيضًا في أزمة المركزيّة الغربيّة، أنها تتنازل تباعًا عن مكاسب الرأسمالية الاجتماعية في انحيازها السافر نحو الليبرالية الجديدة التي تتبنى منطق الداروينية الاجتماعية والبقاء للأقوى، وحيث تسود حتميّات رياضية صرفة، خارج أي تعاقد اجتماعي ذي مغزى أخلاقي أو معياري. ومع ذلك لم تجد الدولة مناصًا من التدخل بقوّة للتعامل مع البعد الاقتصادي في أزمة الرأسماليّة المعولمة. وبذلك وقعت النظم السياسيّة/ الاقتصاديّة في الغرب تحت طائلة التناقض بين طبيعتها الليبراليّة المفرطة، واضطرارها إلى استدعاء الدولة للتعامل مع نتائج الأزمات.
لقد كان ضمور السيادة القومية لمصلحة مفهوم غامض وهلامي هو السيادة المعولمة، لكن وجود هذه الأخيرة يحتاج إلى ثلاث أمور: (1) أن يكون دافع التعاون بين الدول أقوى من دوافع الانقسام والنزاع، (2) أن يوجد طرف موثوق وقوي بما فيه الكفاية لإدارة اللعبة الاقتصادية والسياسية بين الدول كما فعلت واشنطن ذلك لبرهة من الوقت، (3) أن تكون الدول مستعدّة لبذل بعض التضحيات من أجل تحقيق دعم النمو والاستقرار في العالم. وهذا ما نفتقر إليه؛ فالمنافسات السياسية والجيواستراتيجية تحل محل التعاون الاقتصادي الدولي، ويعاني العالم من تبعات فشل المرجعيّة الأميركيّة في ثلاثة عقود دامية شهدت أكثر من مئة حرب ضارية، و يتراجع أيضًا ميل الدول إلى التضامن فيما بينها في الأوقات الصعبة.
5. ومنذ الأزمة المالية عام 2008 عادت الحكومات إلى صدارة المشهد دافعة إلى الخلف المصارف والشركات الكبرى، وزاد حضور التجمعات العالمية التي لا تنتقص من سيادة أعضائها (مثل مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي..)، في حين تترنّح التكتلات العالمية الأخرى القائمة على تذويب السيادة الوطنية في أوعية إقليمية أوسع (منطقة اليورو). ثم جاء الانهيار المالي، وبعده أزمة جائحة كورونا ثمّ الحرب الأوكرانيّة، ليحطم أسطورة السوق المكتفية بذاتها، فالدولة لا الأسواق الحرة هي التي تنقذ البنوك، وتضخ السيولة، وتنشئ شبكات الأمان، وتضع قواعد الإشراف والرقابة، وتعيد تعريف المخاطر، حتى أنها لم تتورّع في هذا السبيل عن نقل مديونية القطاع الخاص إليها.
لم تعد دولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية قادرة على ضبط أداء النظام العالمي ولا حتى التحكم بسياساتها الخاصة، وليس لدى بيروقراطيي البنوك المركزية، التي تركّزت لديهم معظم سلطات الدولة ما يكفي من الذخائر لمواجهة المشكلات المستعصية. هذا يخلق فراغاً كبيراً لا يمكن ملؤه إلا بإعادة عقارب الساعة ربع قرن إلى الوراء. وقتها كانت الدول قادرة على رسم سياساتها بنفسها، وكان التعاون فيما بينها يقوم على قناعات مشتركة وتوزيع منصف للمكاسب والخسائر، لكن العودة إلى الوراء يقتضي تسويات وتنازلات ووعي موضوعي لحقائق العالم ومقاربات فلسفيّة جديدة تعيد ربط قاطرة المعرفة والعلوم بتأمّلاتنا الكونيّة العميقة، بدلًا من أن تنبثق تأملاتنا هذه من دفق يوميّاتنا العابرة واحتكاكنا المتشظّي مع الحياة.
6. أعطت المركزيّة الغربيّة، بما انطوت عليه من سياسات وأفكار، مكانة مقرّرة للأسواق في رسم مصائر البشر، أكثر مما أراده أربابها وبخلاف مصالحهم البعيدة. وقد انعكس ذلك على مسارات العلم الطبيعي الذي انصاع إلى متطلبات التكنولوجيا المنقادة بدورها للرغبات، وهذه الأخيرة لم تعد محصورة بإشباع الحاجة، بل باتت أكثر من أي وقت مضى تستجيب للنداءات والتحفيزات الآتية من عالم الشركات الكبرى والرساميل العابرة للحدود.
لقد عجزت العلوم الإنسانية عن كبح جماح التكنولوجيا وأخفقت في الحؤول بينها وبين التحكّم بالحياة، ولذلك صارت جزءًا من تفاعل الآلة والسوق والسلطة، على نحو لم يسلم الغرب نفسه من تحدّياته ومفاجآته. ومن الدعاوى الليبرالية التي أريد منها اختراق الغير، لكنها ترتدّ الآن على مطلقيها، هو حصر العلوم الإنسانيّة في النطاق الخاص للأفراد، وفصلها عن الثقافة التي تحمل، بالزعم الليبرالي، قيودًا جبريّة آتية من الماضي. وبذلك أُعلن عن انقياد العلوم الإنسانيّة لما يطرحه الفرد من أسئلة وما يكابده من هموم. لقد شجّع تحرير العلوم من القبليّات المجتمعيّة، على تضحيم دور العلوم الطبيعيّة التي امتلكت صلاحيّة الرد على إشكاليات إنسانيّة ووجوديّة، كتعريف الأجناس البشريّة والعلاقات بينها وتكوين الأسرة، ما أوقع الغرب في انقسامات اجتماعيّة عميقة تفتك بوحدته واستقراره.
7. بقي الغرب مِنصَة إطلاق التيارات الفنية والأدبية وعنصر تحفيز للميول الثقافية الجديدة، ومع ذلك فإن فوضى ما بعد الحداثة وعبثياتها وتفكيكياتها أضرّت به. قبل ذلك استفادت أوروبا من منابع الإلهام المتنوعة داخليًّا وخارجيًّا، فالموسيقى، على ما يذكر جورج قرم، سواء أكانت إيطالية أو فرنسية أو ألمانية أو إسبانية أو إنكليزية، «لقيت الاعتراف في عبقريتها وأنواعها الماضية في تزايدها، فمن الموشّحة المقدسة أو الدينية إلى الغنائية، ومن الأوبرا الجدية المأساوية إلى تلك الخفيفة الهزلية. بل إن الاحتكاك بالحضارات والثقافات الأخرى، زوّد أوروبا بفرصة إنتاج روائع استثنائية قامت على التبادل الثقافي، حيث عبّرت الموسيقى الأوروبية بجلال عن الذهول الذي ألمّ بالأوروبيين أمام ما اكتشفوه من ثقافات أخرى، وأنماط مختلفة من العيش عن تلك التي عهدوها»[2].
لكن هذا الرقي الجمالي قوطع بشدّة في نهاية القرن التاسع عشر، مع صعود الشعور القومي وبدء حدوث الصدامات الضارية فيما بين أمم أوروبا نفسها. لقد تفسّخت على نطاق واسع التعبيرات الثقافية، خلال حربين عالميتين (حربين غربيتين بتعبير أدق) لم يشهد التاريخ لفظائعهما مثيلًا. وأُقصيت النتاجات الكلاسيكية في الأدب والفن إلى المتاحف أو إلى الذاكرة التراثيّة، لتحلّ محلها موجات شعبيّة صاخبة تزدهر مدّة من الزمن ولا تلبث أن تتلاشى بعدها (موسيقى الروك والبوب).
وفي زمن العولمة الافتراضيّة تدنّت الذائقة الثقافية إلى أقل من ذلك بكثير لتفضّل كل ما هو مقتضب وبسيط ينبض ويخبو في زمن قصير جدًا. لقد حصل تقارب كبير بين الشروط التي تظهر على أساسها المنتجات الثقافية المحمولة على أجنحة العولمة، والمعايير والقواعد التي تعمل على أساسها أسواق الاستهلاك، ونرى كيف أنّ الرساميل الضخمة والشركات الكبرى تمكّنت من غزو عوالم جديدة وبعيدة لم تكن تحلم بالوصول إليها من قبل، فاستتبعت أعمالًا إبداعية كالرسم وأنشطة إنسانية كالرياضة لمصالحها وأهدافها.
8. لا بدّ من التوقّف استطرادًا عند تأثيرات ثورة المعلومات على الفضاءَ الثقافي. ففي عصر الإنترنت فائق السرعة والانتشار، صارت الرموز السريّة لولوج بوابات نشر المعارف والثقافات في أيدي تقنيي المعلومات ومصمّمي البرامج والتطبيقات، الذين باتوا يتحكّمون بنوافذ النشر وأشكاله، وكذلك بالطريقة التي يتفاعل فيها منتجو المواد الثقافية مع مستهلكيها. لقد باتت وسوم الإعجاب والمشاركة صندوقة الاقتراع الجديدة التي تعطي حقوقًا متساوية وبطاقات انتساب موحّدة لغارسيا ماركيز وأمارتيا سن وبابلو كاويلو من ناحية وجيوش من السياسيين والفنّانين والممثّلين ومراهقي التيك توك، والناشطين المؤثرين الذين أقصى ما يبذلونه من جهد هو الضرب ببضعة كلمات أو أسطر على الأوتار المشدودة للجمهور الواسع.
صار البحث عن الجماهيريّة هو الهدف الأسمى لمنتجي المواد الثقافية ومروّجيها، ولم تعد تكتسب قيمتها من ذاتها، وهذا وضع الكاتب والموسيقي والفنان تحت رقابة المجتمع الافتراضي الفورية والصارمة. وإذا كان توق أي «ناشط ثقافي» على الشبكة هو الحصول على مزيد من المعجبين، فإن التفاعل في العالم الافتراضي سيعيد إنتاج الموادّ الثقافية وتكوين مهارات منتجيها باستمرار لتتوافق مع ذائقة التيار الرئيسي الجارف داخل الشبكة، هذا التيار المكوّن من متصفّحين يبحث معظمهم عن المتع والمسرّات والتسلية، يشمل خليطًا فسيفسائيًا ومتذبذبًا وغير محترف من المستهلكين والمتلقّين. ومن شأن ذلك إخضاع المواد الثقافية الراقية لآليات السوق الافتراضي الشبيهة بآليات العرض والطلب في أسواق البيع والشراء العادية.
9. وما يلفت في المنتجات الافتراضيّة أنها في الغالب ذات طبيعة ثقافية وفنيّة، لكن بمواصفات منخفضة تتناسب مع قدرات الجمهور الافتراضي الواسع في إنتاجها أو استهلاكها. هنا سنشهد تعارضًا من حيث الوظيفة بين الثقافة والعلم، فالثقافة يُعبّر عنها بالرموز والكلمات والصور والفنون والتي كلما زادت بساطة وسطحية ودهاء زادت قدرتها على إطلاق الاتجاهات (التراند) وإحداث التأثير. أمّا وظيفة العلوم في عالم الشبكات، فهي الضبط والتقييد وزيادة الدقة في الوصول إلى الفئات الافتراضيّة المستهدفة وتحويل الكمّ الهائل من البيانات والمعلومات، من خلال التحليل والربط والانتقاء، إلى معرفة. وفي وقتٍ تطّرد فيه أمام أعيننا المواد البصريّة والسمعيّة واللغويّة المختزلة والتي سرعان ما تطردها الذاكرة، يعبّر العلم عن نفسه من خلال نصوص قانونية محكمة (في خانة الأحكام الشروط Terms and conditions) وسياسات الخصوصيّة (Privacy policy) وقواعد جمع المعلومات وإتاحتها واستخدامها، وصلاحيات ضبط المحتوى والرقابة عليه (من دون أي تفويض اجتماعي أو سياسي لفعل ذلك) ورسم خرائط المواقف والاتجاهات بحسب المكان والزمان والعرق واللون والثقافة والدين والانتماء. بقول آخر، زادت ثورة المعلومات وما تفرع منها من ثورات (وآخرها ثورة الذكاء الاصطناعي) من قدرة الناس العاديين على إنتاج المحتوى الثقافي وتعميمه، وأعادته إلى صدارة الاهتمام العام، لكن تحقيق ذلك كان مشروطًا بأن يكون هذا المحتوى عاديًّا وبسيطًا حتى ينافس المواد غير الثقافية، وأن يكون أيضًا قابلًا للضبط إمّا من خلال القيود التي تضعها التطبيقات الإلكترونيّة الناجحة، أو من عبر حصر الاستفادة منه بفئات معيّنة، وهذا الحصر الذي يجري خلسة يعزّز ظاهرة التحيّز الفكري ويغلق دوائر التفاعل بين الناس على نفسها.
10. تُوصف القيم السياسيّة بأنها أساس منظومة الحقوق السياسيّة في الغرب، لكنها مع ذلك تتخلّف عن تقديم مساهمة جوهريّة في تشكيل المجال السياسي العام مقارنة بما تفعله الصراعات والتسويات. ومردّ ذلك إلى أن تلك القيم تصبّ اهتمامها على التمكين من ممارسة الحقّ لا بمضمونه، وعلى سبيل المثال ليس مهمًا ما الذي تقوله، بل المهم قدرتك على ممارسة فعل القول وقت تشاء؛ ولذلك يبرز التعارض في الغرب، أكثر من ذي قبل، بين القيم السياسيّة والأخلاق، فيُسمح لحقّ التعبير في أن ينتهك الخصوصيّة، وتُجرَّد حريّة الاعتقاد من معيار احترام المعتقدات والحقوق المعنويّة للغير، وتُرسَم حدود ضيّقة للكرامة الإنسانية التي يحميها بالقانون.
ولا يخلو مفهوم الحريّة الفردية من الغموض. ففي أدبيات تيار التحررية، تتجسّد الحرية الفردية حصراً في الحرية السلبية[3]، التي تعني عدم وجود موانع للقيام بعمل ما، فيما الصعوبة في عصرنا الراهن تكمن في الحريّة الإيجابيّة التي تعني قدرة الفرد أو المجتمع على الاستفادة من الحريّة المتاحة له، فالشخص الغارق في الفقر فاقد للحرية الإيجابية بسبب فقره. ومع ذلك لا تتردّد المركزيّة الغربية في التبجّح بأنها تعطي الناس حرياتهم السلبيّة، متغافلةً عن أنّها تسلبهم دائمًا حريّاتهم الإيجابيّة من خلال نزع التمكين عنهم ونشر الظلم الاجتماعي بينهم.
يفضي هذا النقاش إلى الاستطراد الآتي: إنّ ثورة المعلومات والاستهلاك تهدّد في آن معًا البعدين السلبي والإيجابي للحرية. في الظاهر تمنحنا تلك الثورة مروحة أوسع من الخيارات، ولكنها تسلبنا في واقع الحال القدرة على الاختيار. إنّ الإبهار البصري واللامساواة والرسملة الهائلة للإعلانات وتمجيد العلامات التجارية الكبرى والنطق الحصري باسم الجودة، كلّ ذلك يجعلنا عاجزين عن اتخاذ قرارات صائبة ودقيقة تتوافق مع حاجاتنا ورغباتنا وميولنا الحقيقية وتتناسب مع قدراتنا وإمكاناتنا. وبذلك تنتهك ثقافة الاستهلاك في عالمنا العربي والإسلامي خصوصاً حرياتنا السلبية والإيجابية في الوقت نفسه.
11. وما يسري على الحريّة ينطبق على التعدديّة والتسامح[4] اللذين يربطهما الخطابُ النيوليبرالي بالجوانب البيولوجية والحسيّة حصرًا، فهذا الخطاب يرفض التفرقة على أساس العرق واللون والجنس والميول الجسدية، فيما يشيح النظر عن أشكال أخرى من التمييز الثقافي والطبقي والاجتماعي والجغرافي، الذي ينشر القهر والاحتقان في المجتمعات الغربيّة قبل غيرها. وفي الخطاب نفسه لا تُعدّ العدالة قِيمة فطرية مستقلّة وغير تعاقديّة، ويجري التغاضي عن جوهرها الروحي وجذورها الإنسانية، فيُزعم مثلًا أنّ المساواة السياسية قادرة على إنتاج نُظمٍ ماديّة من شأنها إدامة مبدأ العدالة وتعميقه وإعادة إنتاجه. لقد أثبتت التجربة عقم ذلك، سواء في الاقتصاد الذي تعمّه التفاوتات الهائلة أو في السياسة، حيث تتراجع جدوى الديمقراطية الليبرالية وفعاليتها أمام تغيّر طبيعة الدولة وخروجها من طورها السابق دون الدخول إلى طور جديد.
تشابك الاقتصاد والثقافة[5]
ثمّة رؤية تكمن خلف السلوك الاقتصادي المعولم تتمثل في سعي الرأسماليّة لحلّ مشاكلها وأزماتها بطرق ثقافية ومعياريّة، وليس بطرق اقتصادية، أي أنّها تريد التأثير على تصورات الناس عما هو مهم وغير مهم في عيشهم، عوضًا عن توسيع قدراتهم وزيادة إمكاناتهم وحلّ مشاكلهم الحقيقيّة.
إنّ مزج مبدأ الحرية الاقتصادية مع ثقافة الاستهلاك يعين الرأسمالية النيوليبرالية على استيعاب النتائج المترتّبة على سياساتها. فهي على سبيل المثال تكرّس اللامساواة الاقتصادية، لكنها في الوقت نفسه تقدّم خيارات استهلاكية للطبقات الدنيا تشعرها بالإشباع الوهمي. إنّ التلاعب بالتقدير النفسي والذهني للمنفعة، يسمح بتقليص المنافع الحقيقيّة والملحّة للأفراد المتاحة للناس، وتعويضهم عنها بمنافع ثانوية مضخّمة لكنها أقل جدوًى وشأنًا. إنَّ رفع منفعة الاتصال بالشبكة العنكبوتية مثلاً إلى مصافّ المنافع المستمدة من خدمات التعليم والصحة والسكن والسلع، وغيرها من الخدمات كالمياه والكهرباء والطاقة والمواصلات، يسمح للاحتكارات الكبرى بالسيطرة على الموارد الحيوية وزيادة كلفتها، أي خفض إمداد الفقراء بها، وتعويض الحرمان المترتب على ذلك بدفق متواصل من مواد التسلية والترفيه ذات المواصفات المبتذلة والرخيصة في أحيان كثيرة، وبتوسيع القدرة المتاحة لهم للنفاذ إلى الفضاء الافتراضي من خلال تقنيات وتطبيقات متناسلة. وقد شاهدنا في أزمات لبنان مثلًا، كيف كانت ردود فعل الناس عالية القوة عندما جرى المسّ بحقوقهم الافتراضية في الاتصال والتواصل (زيادة الضريبة على خدمة الواتساب عام 2019)، بالمقارنة مع ردود فعل أقل فعاليّة وقوة عندما افتئت بعد ذلك على حقوقهم الأساسية في الغذاء والدواء والتعليم والنقل والطاقة...
وإذا كانت النسخة الأصليّة لثقافة الاستهلاك ترتبط أيديولوجيًا بالرأسمالية الكلاسيكية، فإن مجتمع الاستهلاك المعولم وما بعد الحداثي ينتمي إلى الرأسمالية النيوليبرالية. إن تخلّص ثقافة الاستهلاك من ترميزاتها الطبقية والفئوية، التي ألصقتها بالمجموعات الثرية والأكثر ثراء، وتخفّفها كذلك من الانتماء الصريح بالنسخة الغربية للعصرنة والتحديث، جعلها قادرة على التمدد والانتشار دون أن تلقى الممانعة نفسها التي لقيها غيرها من الظواهر الحداثوية. وهي لذلك تسعى إلى اختراق كل الطبقات والثقافات بما فيها المعزولة والمنطوية على نفسها دون أن تستفز هوياتها ومعتقداتها. وهذا يضعنا في مواجهة هجوم مراوغ يعيد تشكيل المركزية الثقافية والسياسية للغرب ولا يستثير المناعة المجتمعيّة.
وبقولٍ موجز، إنّ الموجة الحالية لثقافة الاستهلاك الملتصقة بثورة المعلومات والاتصالات، تميّز على نحو ذكي وبارع بين القيم الأساسية والمكونات الجوهرية للهوية من ناحية، وبين عناصر السلوك اليومي الثانوية من ناحية ثانية، فتتحاشى الاصطدام بالأولى، فيما تعتمد بالنسبة إلى الثانية سبيل التكيّف والتكييف المتبادلين.
ولا تدخل الحرية في حسابات النفعيين، بل إن تعظيم شأن العميق للحرية الفردية. فعلى سبيل المثال، تؤدّي السياسات النيوليبرالية إلى تكريس اللامساواة الاقتصادية، واستمرار هذه الأخيرة مدة طويلة من الزمن يجعل من هم في أسفل السلّم الاجتماعي يتقبّلون واقعهم بهدوء، فيعيدون تكييف حاجاتهم ورغباتهم على هذا الأساس. أيّ أن ظروف اللَّامساواة تؤدّي إلى تشويه التقدير النفسي والذهني للمنفعة. ثم إنَّ قبض أقلية من الشركات والدول على ناصية التسويق والترويج[6] كفيل بالمسّ بجوهر فكرة حرية الاختيار الفردي.
في كتابه «الاقتصاد علم أخلاقي» يضع «أمارتيا سن» مفهومًا للأخلاق الاجتماعية تقع الحريّة في صلبه. يتعارض هذا المفهوم مع المنظورات الأخرى التي تتخذ من الاحتساب النفعي للرغبات والمتع والمسرّات ركيزة للسياسات الاجتماعية. وبخلاف ذلك ينظر «سن» إلى الحريّة على أنها مسؤولية اجتماعية طالما أن للعديد من المعضلات الأخلاقية طابعًا اقتصاديًّا برأيه. يروي في هذا السياق تجربتين شخصيتين عاشهما في طفولته في البنغال، المجاعة عام 1943 التي لم يحسّ بوقعها في نطاقه الاجتماعي، إلى أن رأى جموع الباحثين عن الطعام تجتاح القرية التي كان يقطن فيها[7]. في دراساته اللاحقة التي كرّسها لهذه المجاعة، تبين لـ»سن» أن الكمية الإجمالية للطعام المتاج حينها في البنغال كان مقبولاً، وهذا يعني أنّ الذين ماتوا جوعًا لم يقضوا بسبب قلّة كميّات الغذاء، بل لعدم امتلاكهم القدرة الشرائية اللازمة للوصول إلى المحاصيل المحيطة بهم. أما التجربة الثانية فتتعلق برجل مسلم، اضطر إلى البحث عن العمل لإطعام عائلته في منطقة هندوسية، وقد تعرّض نتيجة ذلك للطعن على خلفيّة طائفية، وفارق الحياة دون أن تنجح محاولة والد «سن» لإسعافه».
من المعرفة العَالمِة إلى المعرفة المشتركة
والسؤال الذي يطرح نفسه هو الآتي: هل ينحصر تأثير ثقافة الاستهلاك بالسلوك اليومي ومظاهر العيش الثانوية فحسب؟ هل يتسرّب هذا التأثير إلى القيم الأساسية فيغيرها أو يعيد صياغة فهمنا لها؟
لقد انطلقنا من القول إنّ السلوك الاقتصادي المصاحب للرأسماليّة المعولمة يملك في الأساس ملامح أيديولوجية، لكنه يتحوّل في نسخته ما بعد الحداثوية إلى ما يُدعى معرفة مشتركة. يأتي ذلك في سياق التمييز السوسيولوجي بين نوعين من المنظومات الثقافية: المنظومات العالمِة التي تُلقّن بطرق منهجية، وتعتمد على معارف وعلوم يمتلك ناصيتها الصفوة من العلماء والدارسين والمتخصصين، وبين المعرفة المشتركة، التي يتعلمها الفرد كما يلقن لغته الأم، شفهيًّا من الاستماع، واجتماعيًّا من خلال الاحتكاك بمحيطه والتفاعل معه. وكي تعدّ المعرفة مشتركة يجب أن تكون بالغة الوضوح والسهولة وتنتمي إلى المحيط الاجتماعي وتكاد في عفويتها أن تكون فطريّة وغنيّة عن البيان.
لكن ليس من فاصل نهائي بين المعرفة المشتركة والأيديولوجيا، فهذه تتحوّل إلى تلك ضمن أواليات يتعهدها مثقفون ومناضلون يبسّطون المعارف الأيديولوجية قبل وضعها في متناول الجمهور. تحصل عملية الانتقال على مراحل، تبدأ بالمألوف السابق والموروث، ثم تكون القطيعة التي يتخللها ظهور الأيديولوجيا وتبنيها، وأخيراً تندمج الأيديولوجيا بالحياة اليومية وتتحوّل إلى شأن روتيني ومألوف، أي أنها تتحوّل إلى معرفة مشتركة جديدة.
والأيديولوجيا إذ تصير معرفة مشتركة، فإنها تفقد دلالاتها الدقيقة وجزءًا من مرجعيّاتها الفكرية وبقدر ما تنتشر تصبح أكثر تراخيًا في اتصالها بأصولها المرجعيّة، وتغدو أكثر مرونة وتقبّلًا للميول التقليدية التي يعتادها الناس.
بوسعنا تطبيق هذا المنهج على ثقافة الاستهلاك التي تسم السلوك الاقتصادي للمركزيّة الغربيّة المعولمة. في المرحلة الأولى لدينا أنماط الحياة التقليدية، ولا سيما في الريف والمناطق الشعبية، المتناسبة مع المجمع الاجتماعي المكوّن من أصول وعادات وتقاليد موروثة وراسخة.
تخترق ثقافة الاستهلاك لاحقًا هذا البناء التقليدي، ويكون ذلك في البداية مشبعًا بخلفيات ثقافية كثيفة قريبة من الأيديولوجيا. فالسلوك الحداثوي في الإنفاق لا يمكن أن ينمو إلا في بيئات ونطاقات اجتماعية لديها قناعات متقاربة وسلوكيات متجانسة وتقبّل عالٍ للتغريب. وهكذا تبدأ القطيعة مع الموروث ويكون الانخراط في ثقافة الاستهلاك محصوراً بطبقات معيّنة، مستعدة للتخلِّي عن جزء من التصوّرات الحياتية ذات الصلة بالهويّات الجامعة.
يتولّى النموذج ما بعد الحداثوي مهمة دمج ثقافة الاستهلاك بالثقافة الشعبية، ونشرها على أوسع نطاق ممكن، محوّلاً إياها إلى ما يشبه المعرفة المشتركة، التي لا تعود ثقافة الاستهلاك معها حِكرًا على طبقات بعينها، ولا تتضمّن بذاتها وعلى نحو صريح دعوة للتغريب أو التخلي عن الموروث. وبدلًا من محاولة ضمّ الناس من خلال الاستهلاك إلى ثقافة حياتية محددة ومغايرة للبيئة الاجتماعية يُكتفى بالدعوة إلى تبنّي هويّة استهلاكية محايدة ظاهريًا تجاه القيم، لكنها تتفاعل مع الثقافة المحلية وتتبادل معها التأثر والتأثير، وهذا ما يكون بدرجات متفاوتة ومتأرجحة، فيزداد التغريب حضورًا كلما تعلق الأمر بقيم ثانوية ويقلّ حضوره الظاهري فيما خص القيم الجوهرية والثابتة.
تكررت الإشارة في حالة الحداثة إلى نشوء ثنائية اجتماعية وثقافية، بين نخبة معولمة لديها رأس مال ثقافي عال ونخبة محلية ذات رأس مال ثقافي خفيض. لكن حدّة هذا التمييز تتراجع مع اكتساب ثقافة الاستهلاك ما بعد الحداثوي خصائص شعبية عابرة للطبقات والفئات. ودلالة على ذلك نلاحظ أن الحواضن الأساسية للقيم الاجتماعية تبدو حتى الآن صامدة أمام اختبار ثقافة الاستهلاك المعلومة في العالم الإسلامي، وربما في العالم. والمقصود هنا على نحو خاص الدين والعائلة.
تُبدي العائلة صمودًا في مواجهة الضغوط الناشئة عن الثورة التكنولوجية، لكن مع تغيّر في طبيعة العلاقات داخلها. هي ما زالت الحاضنة لقيم المجتمع الأساسية وضمانة انتقالها من جيل إلى جيل، ولا سيما في الأزمات[8]. لكن الأجيال الجديدة في العالم الإسلامي تكتسب هوامش أوسع من ذي قبل للحريات الأسريّة، مستفيدة من انحسار تدريجي ومتفاوت القوة للطابع الأبوي- الذكوري عن مجتمعاتنا، وهذا ما يضعها على الحدّ الخطِر الفاصل بين التغريب والتدويل من ناحية والأصالة والهويّة من ناحية ثانية.
إنّ الدين هو العنصر الأكثر حضورًا في الاجتماع العربي والإسلامي، كان الإسلام هو الملجأ الذي تحصّنت فيه شعوب منطقتنا في وجه أشكال الغزو الصلب والناعم، وبفضل حيويته التشريعية وغناه الروحي وتعدّده الاجتهادي، أفلح في استيعاب التحوّلات التاريخية والعلمية والفكرية داخل منظومته المعرفية، مانحًا المسلمين قدرة على الاندماج بالعصر دون أن يتخلّوا عن إيمانهم وهوياتهم. وكاد المسلمون أن يسبقوا الغرب إلى الثورة العلمية لولا أزمة السياسة التي مروا بها في القرون السابقة وبطؤهم في اكتشاف فكرة المؤسسة.
في المقابل أصابت ثقافة الاستهلاك المعولمة وما بعد الحداثية في الصميم التوازن الحرج بين العمل والإنتاج من ناحية والتسلية والاستمتاع من ناحية ثانية. حصل ذلك في العالم مع انهيار المعسكر الاشتراكي ويحصل ذلك حاليًا وباطّراد في العالم الإسلامي مدفوعًا بالفشل الاقتصادي والعجز السياسي عن بناء أنظمة ضبط ورقابة معقولة ومقنعة وقوية بالمعنى العميق للكلمة. وعلى ما يذكر نزيه ن. الأيوبي في كتابه الموسوعي «تضخيم الدولة العربيّة»[9] «كثيرًا ما تلجأ الدولة (العربيّة) إلى القسر الفجّ في سبيل المحافظة على نفسها، لكنها (مع ذلك) ليست دولة قوية لأنّها: (أ) تفتقر -بدرجات متفاونة- إلى قوة البنية التحتية التي تمكّن الدول من النفاذ في المجتمع بشكل فعّال من خلال آليات على شاكلة الضرائب مثلاً. و(ب) تفتقر إلى الهيمنة الأيديولوجية بالمعنى الغرامشاني التي من شأنها أن تجعلها قادرة على تشكيل كتلة اجتماعية تاريخية تتقبل شرعية الطبقة الحاكمة».
ونستخلص من الإحصاءات والمسوحات العالميّة عن القيم[10]، أن القيم الجوهرية ولا سيما منها العائلة والدين ما زالت محصّنة أمام تدفق مواد الاستهلاك وانتشار ثقافته، فيما انصبّ تأثير هذه الثقافة على القيم التي تُعدّ ثانوية أو غير الجوهرية، كالعمل الذي تراجعت أهميته والتسلية التي ارتفعت مكانتها[11]. مع بروز استثنائي للبنان الذي احتل مكاناً متأرجحاً على الصعيد القيمي بين النسقين العربي/ الإسلامي والأميركي/ الأوروبي.
لكن الفصل بين القيم الثانوية والقيم الجوهرية يبدو مضلّلًا. فالتغيّرات التي تصيب القيم السطحية الماثلة على غلاف المجتمع لا تلبث أن تتسرّب إلى طبقاته الداخلية، وخصوصًا في الأزمات (كما نلاحظ في الإحصاءات الخاصة بالعراق قبل الاحتلال الأميركي وبعده)، إذ تبدأ التغيرات السطحية والمؤقتة بالتحوّل إلى تغيرات دائمة وعميقة، ضمن ما يمكن تسميته بالأثر اللاتزامني لثقافة الاستهلاك واقتصاده المعولم.
إن تأثر القيم الجوهرية لا يحدث دفعة واحدة بل تدريجيًا وعلى مراحل. في المراحل الأولى يُعَاد تعريف القيمة نفسها، كإعادة تعريف الدين بحيث تغلب عليه مثلاً الأبعاد الهوياتية والشعائرية والجماعاتية على حساب جوانبه الاعتقادية والروحية والقيميّة، مع ما يستتبعه ذلك من تضييق مساحة التسامح وتوسيع مساحات التعصب والانفلات والتشدد. كما يحصل ذلك أيضًا في إعادة تحديد معنى الأسرة التي صارت ذات خطوط سلطة متراخية وضعيفة، وتفتقر لأدوات الضبط والرقابة التي تحصِّنها وتحفظ تماسكها.
في مراحل لاحقة يتحوّل التمسّك بالشعائر الدينية المنتشرة على نطاق واسع إلى معرفة مشتركة، كما في «روتنة» الحجاب، ما يضعف صِلتها بمرجعياتها العقائدية ويدمجها بالفضاء الاجتماعي العام. وبذلك تكتسب مرونة وتكيّفًا يضعانها خارج سلطة المختصين من شرعيين وفقهاء ومتخصصين في حقول الكلام والفلسفة والتبليغ. والمشكلة ليست في المرونة ودمج الدين بالبيئة الاجتماعية، فالدين الخالص النقي من شوائب الثقافة الشعبية ينطوي برأي بعضهم على التشدّد، بل تكمن المشكلة في أن تحويل الدين إلى مجرد معرفة مشتركة بالمعنى المذكور أعلاه يفسح المجال أمام جعله معرفة مشتركة مبتوتة الصلة بالأصل، كما في بعض أشكال الحجاب الليبرالي، الذي يغلّب مواصفات الأناقة والجمال على القيم المحافظة التي فُرض من أجلها. إن بروز عارضات للزيّ الإسلامي مثلًا، وتبنّي دُوْر الموضة العالمية لبعض تصاميمه مثال بارز على أن تيار الاستهلاك الجماهيري ما بعد الحداثوي من جهة وتيار التديّن الشعبي من جهة ثانية يلتقيان عند نقطة محدّدة، تنبثق عندها معرفة مشتركة تبدو واهية الصِلة بالأصول الأيديولوجية للمرجعيات الذهنية والفكرية التي قامت عليها.
إن الحكم على أثر اقتصاد الاستهلاك على الأسر ينتظر مزيدًا من التفكير والمراقبة والرصد، بل مزيداً من الوقت؛ إذ إننا واقعون فيما يمكن تسميته فجوة التكيّف، حيث تعجز أنظمة الضبط والرقابة الاجتماعية والفكرية والمؤسساتية عن استيعاب التحوّلات المتسارعة في زمن العولمة التي تعمل في داخلها موجات هائلة من الحراك الاقتصادي والسياسي والثقافي، وتصدّعات موازية في العلاقات بين البشر، بدءًا بالمجتمعات والشعوب والدول وانتهاءً بالوحدات الصغرى كالعائلة والأسرة وصولًا إلى الفرد نفسه الذي لم يعد بوسعه الاختيار بين الاندماج في مجتمعه أو العزلة عنه. ولا يبتعد ذلك بحال عن أزمة العلم الذي يواجه في الحقول الاجتماعية والإنسانية صعوبات بالغة في استنباط مبادئ وقوانين تلجم سطوة التكنولوجيا المندمجة بالسوق، والتي تسخّر علوم الإنسان لمصلحتها (انظر مثلًا العلاقة بين علم النفس والتسويق)، وما تمدُّد مجتمع الاستهلاك وتعاظمه إلّا وجه من وجوه هذا العجز ومثال صارخ على ذلك الاندماج غير المحمود.
علاقة لا تزامنيّة
إن انعكاس العَولمة الاقتصادية على الثقافة هو محل انقسام واسع بين رأيين: الأول يراها مؤاتية لانبعاث الثقافة والفنون، والثاني لا يراها كذلك. يزعم أنصار الرأي الأول[12] أنّ التفاعل بين العولمة الاقتصادية والثقافية يؤمن أحد شروط نجاح الإبداع الفني: القرب من السوق. فالتجارة توسّع الفرص أمام المبدعين وتمهد الطريق للثورات الفنية كما في الموسيقى الكوبية التي وُجدت خصّيصًا من أجل السيّاح الأميركيين الذين كانوا يرتادون الملاهي الليلية في كوبا في الخمسينيات. والسجّاد العجمي الذي صار ينتج بكميّات كبيرة استجابة لتنامي طلب المشترين الأوروبيين في القرن التاسع عشر[13]. إنّ ازدهار الأدب العالمي وانتشار أسواق الكتب والصحافة هو بحسب هذا الرأي ثمرة التجارة التي جعلت العالم أكثر إبداعًا وأعطت المتذوّقين فرصة الاستفادة من منتجات فنية ثقافية متنوعة.
لكن تفاعل هذه المنتجات مع ثقافات أخرى غير ثقافتها الأصلية يعيد إنتاجها من جديد. فالطعام الهندي التقليدي مثلًا ليس له نفس الطعم في بومباي وباريس. ويذهب الناس إلى عالم ديزني بالقرب من باريس لاختبار ما يعتقدونه تنوعًا يجمع بين ثقافات متعددة فرنسية ألمانية ودنماركية وغيرها[14]. لكن هذا المزيج يولّد، في الرأي الثاني، ثقافة مركبّة ومصطنعة وتبتعد بصورة متزايدة عن نسختها الأصلية الموثوقة. وأكثر من ذلك، إنّ التماثل أو الاختلاف لا يتعلقان بجمالية المنتج أو طعمه، بل بالشروط المحيطة بتقديمه، فأهميّة الماكدونالد، وهو أحد «معابد» النيوليبراليّة، لا تنبع من الطعام الذي يقدمه، بل من الطريقة التي يُقدّم بها والتي يُراد لها الاتساق مع إيقاع الحياة العصرية السريع.
ولا يمكن النظر إلى العلاقة بين العولمة الاقتصادية والثقافة من زاوية ضيقة، ففي واقع الحال هناك القليل من الثقافات المعزولة، والتفاعل الثقافي المرتبط بالحراك الإنساني، الاقتصادي والتجاري والعسكري، يحدث منذ آلاف السنين. وسنلمس دورًا مبهرًا للتجارة في إنتاج ثقافات عالمية النزعة والانتشار، وذلك على نحو هادئ وخلّاق ومتواضع. يصحّ ذلك على التجار الفينيقيين والأغريق وعلى تجارة الحرير الصيني في القرون الوسطى، وسنجد بصمات لا يمكن طمسها للأساليب الآتية من الشرق الأقصى الآسيوي على الفن الأوروبي والأميركي في القرن التاسع عشر. ولا يمكننا أن ننسى بطبيعة الحال الأثر المعروف الذي خلّفه التجار المسلمون على الثقافة والعمران واللغة وطرق العيش في الأماكن التي وطئوها من المغرب إلى الصين ومن وسط أوروبا إلى أسفل إفريقيا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا نُظر إلى التفاعل والتبادل الثقافيين بين الأمم في التاريخ على أنه علامة إيجابية لسيرها نحو الاستقرار والنضج، فيما يُنظر بسلبية إلى مظاهره المعاصرة، كانتشار الأفلام الأميركية والإيقاع السريع للحياة العصرية وولادة منتجات وآراء وتقاليد لا مكانية قادرة على عبور الحدود بسهولة ويسر؟
تكمن المشكلة في ثنائيّة المسارات الاجتماعية وعدم اتّساقها. فالتغيير القوي والمتسارع في العادات والسلوكيات والقيم اليومية، التي يراها الناس ظاهرية وعابرة، يقابله الجمود أو التغيّر البطيء في القيم والسلوكيات الأخرى التي يراها الناس جوهرية وأساسية. إن هذا الدفع والجذب الناتج عن التفاوت بين الحراك السريع لنمط الحياة المعولم من ناحية واستقرار الهويات والمعتقدات والنظرة إلى الحياة من ناحية ثانية، هو أحد العوامل الأساسية التي تجعل استقرار المركزيّة الغربيّة في مساحات ثقافيّة واجتماعيّة ليست لها أمرًا صعبًا ومحفوفًا بالأزمات والتوترات والتناقضات.
لكن هذا الفصل بين ما هو ظاهري وما هو جوهري مضلل تمامًا، فبعد مرور مدة زمنية كافية على اجتياز المجتمع طورًا جديدًا من أطوار الثورات التكنولوجية واحتكاكه بمنتجاتها تبدأ التغيرات السطحية والمؤقتة بالتحوّل إلى تغيّرات دائمة وعميقة. وهذا ما يمكن أن نسميه بـالأثر اللاتزامني للعولمة.
فعلى سبيل المثال، لم تظهِر المجتمعات ردة فعل ساخطة على امتلاك المراهقين واليافعين هواتف ذكية تسهل ولوجهم إلى العالم الافتراضي، ولم ترَ فيه تحدّيًا لقواعد السلوك الاجتماعي المقبول. بيد أن المجتمعات ستكتشف في وقت قريب أن هذا التحوّل العابر لن يبقى عابرًا، بل سيحدث التواءات وانزياحات في الفضاء الاجتماعي، تمس على سبيل المثال لا الحصر، نظم الرقابة والضبط، ونظرة الأجيال الجديدة إلى دور المؤسسات التقليدية كالأسرة والعائلة الممتدة والمدرسة، وموقفها من السلّم الاجتماعي القائم، والعلاقات والروابط المنبثقة عنه.
فقرة ختاميّة: الخروج من عالم الأشياء
تعاني المركزيّة الغربيّة من أزمة متعددة الوجود، فكريًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وكان لانحسار حقبة العولمة الاقتصادية وتراخي السياسات الداعمة لها، أثر بالغ على قدرة الغرب على جعل العالم متمحورًا حوله، فيما هو يحاول الآن مقاومة قدر انحلال مركزيّته من خلال تجنيد التكنولوجيا وشبكات الاتصال والتحكّم بسلاسل الإنتاج وممرات التبادل لمصلحته واستتباع الثقافة والعلم للاقتصاد والسوق.
وفي حين يرتكز الغرب في الدفاع عن هيمنته إلى عالم الأشياء، يتحصّن مناوئوهم في عالم المُثل والمعنى. كان الإسلام هو الملجأ الذي تحصّنت فيه الشعوب العربية والإسلامية في وجه أشكال الغزو المختلفة. أوجد هذا الدين بغناه الإيماني والروحي وحيويّته التشريعية والجهاديّة وقدرته على استيعاب التحوّلات التاريخية في نظام معرفي قابل للتجديد قاعدةً قوية لاندماج المسلمين في العصر دون التنازل عن إيمانهم وهوياتهم، وكان للعلماء المسلمين ورموزهم دور رائد في مواجهة الاستعمار وتحقيق الاستقلال.
وفي وقت ما من التاريخ كاد المسلمون أن يسبقوا الغرب إلى إطلاق الثورة العلميّة والتقنيّة التي غيّرت وجه العالم، لكن فشلهم في تحقيق ذلك يستبطن عوامل بنيوية يتصل بعضها بسوسيولوجيا المجمّعات العلمية، ومن هذه العوامل على سبيل العرض لا الحصر: عدم توصّلهم إلى فكرة المؤسسة التي تسمح بنقل التجارب ومراكمة الرأسمال المادي والاجتماعي والعلمي وتطوير عملية اتخاذ القرار، وعلاقتهم بالعلم التي اقتصرت على اكتساب المعرفة النظرية لا العمليّة ما حال بينهم وبين اكتشاف الآلة، وأفضى إهمالهم علم السياسة إلى بطء تطور الدولة، فظلّت قاصرة عن السير في ركاب نهضتهم الحضارية وانتشارهم الجغرافي. بل إن الدولة السلطانية مع ما تتضمّنه من ميل إلى الغلبة وإعمال السيف والجري وراء الغنيمة، كانت من أسباب الانتكاسات التي أصابتهم، ومنعتهم من تحقيق المراكمة الاقتصادية اللازمة لإحداث الطفرة التاريخية المطلوبة.
وإذا كان من استنتاج ذي دلالة من ذلك، فهو أنّ مقاومة المركزيّة الغربيّة والوقوف في وجهها هو فعل معنوي تعبّر عنه قوة الإرادة (لا إرادة العنف) وروح التضحيّة والرؤية الخلاصيّة للعالم، لكنه أيضًا وبموازاة ذلك، فعلٌ أرضي يبحث عن التقدّم والوفرة ودمج المعرفة العلميّة في الإيقاع اليومي للحياة. وهذا هو جوهر الإنسانية/ العابدة التي يمكنها أن تكون مثالًا لله سبحانه وتعالى، وأن تحفظ شعلة الحضارة والإيمان من الإنطفاء، دون أن تفرّط بأي عنصر من عناصر البناء الحضاري: المادة والروح، الإرادة والمثال، أو بتعبير مالك بن نبي الإنسان والتراب والوقت، تلك التي يجمعها الوازع الديني ويقوّي عضدها خفوت الأنانيّة وسموّ القيم ودفء العلاقة بين الناس.
لائحة المصادر والمراجع
الأيوبي، نزيه ن، «تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط – ترجمة: أمجد حسين»؛ بيروت: المنظمة العربية للترجمة؛ الطبعة الأولى؛ كانون الأول/ ديسمبر 2010.
توملينسون، جون، العولمة والثقافة، تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان؛ ترجمة: د. إيهاب عبد الرحيم محمد، عالم المعرفة 354 أغسطس 2008.
سعدون، عبد الصمد عبد الله، إبستمولوجيا النظام الرأسمالي: في اختلال المبادئ القيمية ما بين الطروحات النظرية والبناء التطبيقي لاقتصاديات السوق؛ القاهرة: بحوث اقتصادية عربية، شتاء 2008.
فضل الله، عبد الحليم، العلم والعولمة..قراءة في الأزمة من منظور اقتصادي ومعرفي، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكرالإسلامي، 2022.
قرم، جورج، تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب، ترجمة: د.رولى ذبيان؛ بيروت: دار الفارابي، الطبعة الأولى، 2011.
مارتين، بيتر وشومان، هارالد؛ فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، ترجمة: عدنان عباس علي، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 238، 1998.
Sen. Amartya; L’economie est une science morale; Paris: La Decouverte, 2003.
Berggren. Niclas and Nilsson. Threse; Globalization and the Transmission of Social Values: The Case of Tolerances; Sweden: Research Institute of Industrial Economics, IFN working Paper No 1007, 2014.
Swadzba. Urzula; the Impact of Globalization on the Traditional Value System; in the Scale of Globalization; Osrtava: University of Ostrava.
http://www.worldvaluessurvey.org/WVSDocumentationWV6.jsp.
Craig J. Thompson; the politics of Consumer Identity work; Journal of Consumer Research, Vol.40, No5 (February 2014), PP. III-VII. Publishd by: Oxford University Press, Dol: 10.1086/673381 Stable URl (http: www.JSTOR. org/stable/ 10.1086/673381).
.Grazia la Spada. Maria; Globalization and its Effects on Diversity: Some Economic Aspects, Messina: University of Messina, (Global Challenge Series), April 2010.
Marwan M. Kraidy; Globalization of Culture Through the Media; Pennsylvania: University of Pennsylvanian; (Kraidy, M. (2002), Globalization of Culture through the Media. In J.R. Schemart (Ed); Encyclopedia of Communication and Information (Vol. 2). New York, NY: Macmillan, Retrived from hltp// Repository Upenn. Edu/ asc- Papers/325
Globalization and Culture, Cato Policy Report, May/ June 2003.
What is Gone Wrong with Democracy; The Economist; March 1st 7th 2014.
---------------------------------
[1][*]- أستاذ جامعي ورئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق.
[2]- للمزيد أنظر: د.كرم، جورج؛ تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب، ص194-198.
[3]- للمزيد عن التمييز بين الحريّة السلبية والحريّة الإيجابيّة انظر:
Amartya Sen; L’economie est une science morale; Paris: La Decouverte, 2003.
[4]- لا يمكن حسم الجدل بسهولة بشأن انعكاس العولمة على قيم التنوّع والتعدديّة والتسامح. فلو صنّفنا المجتمعات الغربية على أنها المثال الأقوى على صعود ثقافة الاستهلاك وتحكّمها بمصائر المجتمعات، فإن هذا الصعود صاحبه وهنٌ شديد في الأداء الديمقراطي. ترصد مجلة الايكونويست انحدارًا تاريخيًا في انخراط المجتمعات الغربية في العملية الديمقراطية. تتراجع نسبة المهتمين بممارسة حق الانتخاب (من أكثر من ثمانين بالمئة في السبعينيات إلى ما دون الستين بالمئة في فرنسا مثلًا)، ويتقلّص الفارق بين اليمين واليسار، وتسيطر سياسات الهويّة ولا سيما في أميركا على برامج الأحزاب الكبرى، على الرغم من اعتقاد فوكوياما في مقال له نشر مؤخرًا بأنّ البُعد الطبقي عاد ليكون في أساس الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة الأميركية. من دلالات صعود اليمين المتطرف في الغرب، وانتشار ظاهرة «الخواف من الإسلام» (الإسلاموفوبيا)، والتعبيرات الفجّة التي يدلي بها سياسيون كبار بشأن هويّة أوروبا، إنَّ اشتراك مجتمعات الأرض في الولاء للماركات التجارية نفسها، واستهلاك أصناف موحدة من السلع، واتباعهم الأساليب ذاتها في السفر والإقامة والثياب وعقد المؤتمرات وتبادل الهدايا وإحياء المناسبات، لم يؤد الى تقبّل التعدديّة والتنوّع. لا تزال السياسات القومية والفئوية هي المهيمنة على عقول صانعي السياسيات، ومطلقي الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ومع ذلك قد يكون لوجوه العولمة الأخرى، التي لا تتصل حصرًا بالاستهلاك والتبادل النفعي انعكاس إيجابي وموضعي على بعض القيم الليبرالية المقبولة كالتسامح. كما بيّنت ذلك دراسة استعملت معطيات عائدة إلى ستة وستين بلدًا. وأظهرت علاقة إيجابية بين التربية على التسامح والعولمة، التي تعزز الرغبة بنقل هذه القيمة عبر الأجيال. تصحّ هذه النتيجة، بحسب الدراسة على حالتي العولمة الاجتماعية والاقتصادية وليس على العولمة السياسية. وبدت العوامل الثقافية أكثر تأثيرًا من غيرها على تعزيز التسامح بين الشعوب، كما يؤدّي الانفتاح التجاري دورًا مماثلًا على الصعيد الاقتصادي. استخدمت الدراسة KOF Index لقياس العولمة (Dreher& al. 2008) والذي يغطي المدة 1970-2012. للمزيد انظر:
- What is Gone Wrong with Democracy; The Economist; March 1st 7th 2014.
-Niclas Berggren and Threse Nilsson; Globalization and the Transmission of Social Values: The Case of Tolerances; Sweden: Research Institute of Industrial Economics, IFN working Paper No 1007, 2014, P. 28 -29.
[5]- للمزيد عن هذه الفقرة انظر: فضل الله، عبد الحليم، العلم والعولمة.. قراءة في الأزمة من منظور اقتصادي ومعرفي، ص263-315.
[6]- تعود ملكية 172 شركة من أصل 200 شركة تروج لمنتجاتها عالميًا، إلى خمس قوى عالمية هي الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، وفرنسا، واليابان وألمانيا. للمزيد عن هذه النقطة انظر:
عبد الله، عبد الصمد سعدون، إبستمولوجيا النظام الرأسمالي: في اختلال المبادئ القيمية ما بين الطروحات النظرية والبناء التطبيقي لاقتصاديات السوق، ص126-127.
راجع أيضًا: مارتين، بيتر، شومان، هارالد، فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، ص245.
[7]- Amartya Sen; L’economie est une science morale ; Paris: La Decouverte, 2003, P 43- 45.
[8]- ترصد إحدى الدراسات التداعيات الناتجة عن الانتقال السريع من العصر الأيديولوجي المتقشّف إلى العصر النيوليبرالي الاستهلاكي. تتناول الدراسة المجتمع التقليدي في منطقة سيليزيا البولندية التي كانت في كنف المعسكر الاشتراكي قبل سقوطه. كانت آثار هذا السقوط كبيرة على القيم الأساسية لمجتمع بقي عقودًا عدة خاضعًا لهندسة عقائدية واجتماعية وسياسية متشدّدة. برزت ثلاثة تحدّيات كبرى مع الانتقال إلى الرأسمالية. يرتبط التحدي الأول بالتحوّل من مركزية قيم العمل وأخلاقياته إلى مركزية قيم الاستهلاك، والتحدي الثاني يتعلق بالعائلة التقليدية، التي كانت في الحقبة الاشتراكية توفر الإحساس بالأمان في مواجهة القهر، والتحدي الثاني موجّه إلى الدين الذي أدى في الحقبة نفسها دور الحاضنة للهوية المهدّدة بنظر أصحابها. للمزيد أنظر:
Urzula Swadzba; the Impact of Globalization on the Traditional Value System; in the Scale of Globalization; Osrtava: University of Ostrava; pp:332- 337; p:332.
[9]- الأيوبي، نزيه ن، تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ص36.
[10]- http://www.worldvaluessurvey.org/WVSDocumentationWV6.jsp.
[11]- تقدم دراسة لكريغ تومبسون عن الهويّة وسياسات الاستهلاك، شواهد على معقولية هذا التصور ولا سيما في المجتمعات الإسلامية، التي يعرض فيها نتائج خمسة أبحاث قائمة في هذا المجال. فيما تبيّن في دراسة إيزبرك بلغن، كيف أن مزيجًا تاريخيًّا من الأيديولوجيات الدينية والسياسية شجّعت المستهلكين الأتراك المنتمين إلى الطبقات الشعبية والفقيرة على نبذ الأصناف والماركات العالمية (الغربية خصوصًا). للمزيد انظر:
See: Craig J. Thompson; the politics of Consumer Identity work; Journal of Consumer Research, Vol.40, No5 (February 2014), PP. III-VII. Publishd by: Oxford University Press, Dol: 10.1086/673381 Stable URl (http: www.JSTOR. org/stable/ 10.1086/ 673381).
[12]- Globalization and Culture, Cato Policy Report, May/ June 2003.
[13]- تقلّل العولمة ولا شك من الفروق الظاهرية وتعطي انطباعًا بالمجانسة الثقافية بين المجتمعات. لكن ذلك لا ينطبق على جميع الحالات، إذ يحيا أفراد متباعدون ومتباغضون ومتباينون في شرانق استهلاكية متشابهة. والمشكلة أن التنوع يعبر عن نفسه من خلال القيم السلبية النابذة وليس بالقيم الإيجابية المتكاملة.
ويمكن الأخذ بالتمييز الذي يعتمده بعض الباحثين بين العولمة Globalization والتدويل Internationalization، الأولى تعني التواصل اللصيق الذي يُبقي على التنوع داخل دائرة فاضلة في حين ينحو التدويل نحو حجب التمايزات. هذه الدائرة تضمن الإبقاء على ديناميات التنوّع الثقافي مع «هدم خلّاق» يخضعه لتحوّلات إيجابية متواصلة تُعَدّ ضرورية للتنمية.
يخلص القائلون بالمجانسة الثقافيّة إلى أن الآثار السلبية للعولمة الاقتصادية على التنوع الثقافي مرتبطة بالتدويل أكثر منها بالعولمة. يعبّر التدويل عن نفسه خصوصًا من خلال «النص» الأساسي الذي تعمّمه الشركات متعدّدة الجنسيات التي تنشر ثقافة استهلاك قائمة على تنميط طرق العيش والقيم وتساهم في استنزاف الموارد الطبيعية.
للمزيد عن العولمة والتدويل والمجانسة الثقافية انطر:
- Maria Grazia la Spada; Globalization and its Effects on Diversity: Some Economic Aspects, Messina: University of Messina, (Global Challenge Series), April 2010, P. 6- 7.
- توملينسون، جون، العولمة والثقافة، تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان؛ ص15.
[14]- يدافع الناقد الثقافي المكسيكي- الأرجنتيني غارسيا غويديني عن فكرة الهجانة الثقافية التي تعدّ معها العولمة قوة تجانس والنزعة المحلية قوة مناهضة لها. ينظر غويديني إلى ثقافة أميركا اللاتينية على أنها ثقافات هجينة، منطلقًا في ذلك من تحليل واسع النطاق للعمليات الثقافية المختلفة: المتاحف، الأفلام التلفزيونية، الجامعات، أفلام الكرتون والغرافيتي والفنون البصرية. في هذه الثقافة الهجينة تمتزج أنظمة ثقافية كانت منفصلة في السابق مثل فنون النخبة (الأوبرا) والفنون الشعبية. وجه آخر للهجانة هو «لامكانية» العمليات الثقافية، التي تُنتَزع من محيطها المادي وتوضع في سياقات أجنبية. ونشوء أنواع غير صافية للمنتجات والسلع الفنية/الثقافية، كأن يقوم حِرَفي من الريف المكسيكي بحياكة رسوم لرسامين أوروبيين، مولدًا بذلك أشكالًا فنية غير صافية الجودة، تخلط بين أعمال راقية وفنون حِرَفية عاديّة.
فالعولمة في عالم الميديا الواسعة هي عملية تلاحم وتجزئة في آن واحد. وفي هذا السياق يورد أنطوني غيدنز مصطلحًا إضافيًّا هو اللاتضمين الذي يعني اقتلاع العلاقات الاجتماعية من السياقات المحلية للتفاعل وإعادة تشكيلها في نطاقات غير محددة من الزمان- المكان. وهذا برأيه أمر مهم لفهم الطبيعة المعولمة للحداثة. وتعدّ وسائل الإعلام أبرز الأمثلة على آليات اللاتضمين. إن تداخل هذا الاخير مع أمر آخر هو اللاتوطين، أي تفكيك العلاقة بين الثقافة والمكان، ينتج أشكالًا هجينة ومعقدة وجديدة من الثقافة. للمزيد انظر:
Marwan M. Kraidy; Globalization of Culture Through the Media; Pennsylvania: University of Pennsylvanian; (Kraidy, M. (2002), Globalization of Culture through the Media. In J.R. Schemart (Ed); Encyclopedia of Communication and Information (Vol. 2, PP 359- 363). New York, NY: Macmillan, Retrived from hltp// Repository Upenn. Edu/ asc- Papers /325.