البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التحدّيات الماثلة أمام أهم النظريات الفلسفية في الغرب حول مفهوم الحق

الباحث :  محمد حسين طالبي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  34
السنة :  ربيع 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 26 / 2024
عدد زيارات البحث :  535
تحميل  ( 401.124 KB )
الخلاصة
لقد أنجز فلاسفة الحقوق في الغرب دراسات وأبحاث موسّعة حول ماهية الحق. إن هذه التحقيقات الواسعة قد أفرزت نظريات متعددة في هذا الموضوع. واليوم من بين مجموع الآراء المتنوّعة للفلاسفة وعلماء الحقوق في الغرب، تعدّ «نظرية المصلحة / المنفعة»،[3] و«نظرية الإرادة / الاختيار»[4] من أكثر النظريات شهرة حول مفهوم الحق.
على الرغم من وجود القراءات المختلفة حول نظرية المصلحة / المنفعة، إلّا أن أتباع هذه النظرية متّفقون في قولهم: حيثما كان هناك حق، يجب على المكلف أن يعطي نوعًا من الربح والمنفعة لصاحب الحق. من خلال إظهار بعض مصاديق الحق، بما في ذلك حقوق الله، والحقوق غير المتلازمة مع التكليف، ضعف هذا الأصل الجوهري في جميع تفسيرات نظرية المصلحة / المنفعة، وأدّت إلى انهيار هذه النظرية.

إن ماهية الحق في نظرية الإرادة / الاختيار، عبارة عن: سلطة صاحب الحق على المكلّف في مورد استيفاء الحق. وعلى هذا الأساس فإنّ نظام الحقوق الجزائية وكذلك الحقوق الواجب استيفاؤها تعدّ من المصاديق التي لا تستوعبها هذه النظرية. وكذلك فإن وجود المكلف من لوازم وجود الحق في هذه النظرية. ومن هنا فإن الحقوق التكوينية لله وكذلك الحقوق غير المتلازمة مع التكليف في تقسيم هوفلد تعمل على نقض صحة واستحكام هذه النظرية.

الكلمات المفتاحية: مفهوم الحق، نظرية المصلحة / المنفعة، نظرية الإرادة / الاختيار، حق الله، الحق غير المتلازم مع التكليف.

المقدمة
إن من بين الأبحاث الجدلية في حقل علم «فلسفة الحق» البحث عن «مفهوم الحق». لقد أدّى احتدام الأبحاث المتعلّقة بمفهوم الحق في المرحلة المعاصرة إلى عدم استبعاد بحث مفهوم وماهية الحق عن أنظار الباحثين والمفكرين.
لقد عمد فلاسفة عصر التنوير ولا سيّما منهم إيمانوئيل كانط، وبعده هيجل وبينثام من بين الآخرين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد، إلى إبراز رؤيتهم بالنسبة إلى ماهية الحق. توجد الكثير من النظريات المتنوّعة في هذا الشأن والتي احتلّت جانبًا كبيرًا من الآثار العلمية لفلاسفة الحقوق الغربيين في القرن العشرين للميلاد. لقد تمّ إيراد الكثير من الإشكالات على الكمّ الهائل من النظريات المذكورة في هذا الشأن. ولا شكّ في أن بيان جميع هذه النظريات يحتاج إلى مقالة أخرى؛ ولهذا السبب سوف نقتصر في هذه المقالة على ذكر خصوص أهمّ النظريات المطروحة من قبل علماء الغرب حول مفهوم الحق، أي سوف نشير إلى «نظرية المصلحة / المنفعة» و«نظرية الإرادة / الاختيار» باختصار، ثم نعمل على نقدها وتقويمها. وفي هذه المقالة تمّ رصد أربعة إشكالات على نظرية المصلحة / المنفعة، وخمسة إشكالات على نظرية الإرادة / الاختيار بوصفها إشكالات واردة.

وفيما يلي سوف نعمل أولًا على بيان وتحليل هاتين النظريتين على النحو الآتي، لننتقل بعد ذلك إلى نقدهما وتقويمهما.
أهم نظريات فلاسفة الحقوق الغربيين حول مفهوم الحق
لم يقم أيّ واحد من فلاسفة الحقوق في الغرب بتقديم تعريف مفهومي عن مفردة الحق، بل يتم الاكتفاء من بين أنواع التعاريف ببيان نوع من التعريف المصداقي لكلمة الحق،[5] ومع ذلك فإنهم لا يتّفقون في تعاريفهم المصداقية على رأي واحد.
إن من بين أشهر النظريات الموجودة بشأن مفهوم الحق بين مختلف آراء الفلاسفة وعلماء الحقوق في الغرب نظريتان،[6] وهاتان النظريتان تعملان على تعريف مفردة الحق بخصائصها العامّة، فإن إحداهما ترى أن الحق يحتوي على نوع من الربح والمنفعة؛ ولهذا السبب فقد عُرفت هذه النظرية بـ «نظرية المنفعة»، والنظرية الأخرى اعتبرت الحق بمعنى الاختيار (القدرة على تنفيذ الإرادة)، ومن هنا فقد عُرفت هذه النظرية باسم «نظرية الإرادة، أو نظرية الاختيار».

وفيما يلي سوف نعمل على بيان وإيضاح نظرية المنفعة، ثم نعمل على تقويمها، وبعد ذلك سوف نعمل في هذه المقالة على شرح نظرية الاختيار، لننتقل بعد ذلك إلى بيان نقاط ضعفها.

1 ـ نظرية المنفعة
إن من بين النظريات المهمّة بشأن مفهوم وماهية الحق في الغرب هي نظرية المصلحة والمنفعة. وتعتبر هذه النظرية كل حق مشتملًا على نوع من الربح والمنفعة لصاحب الحق. ومن أهم المؤسسين لهذه النظرية يمكن ذكر كلٍّ من: بينثام،[7] وإيرينغ،[8] وآستين،[9] وليونز،[10] ومكورميك،[11] وروز،[12] وكرامر.[13] إن لنظرية المنفعة اتجاهين وهما الاتجاه التقليدي، والاتجاه الحديث[14].[15].[16]

لقد كان جيرمي بينثام (1748 ـ 1832 م) المنظّر التقليدي لنظرية المنفعة -الذي كان يُنكر جميع أنواع الحقوق الأخلاقية ـ يعتبر الحقوق القانونية منبثقة عن القانون. لقد كان بينثام يذهب إلى الاعتقاد بأن كل قانون يعمل في وقت واحد على إيجاد الارتباط المتبادل بين الحق والتكليف، حيث إن متعلّق التكليف على الدوام إيصال الخدمة والربح إلى شخص، فإن ذلك الشخص بسبب صلاحية الحصول على هذه المنفعة يصبح صاحب حق، وعليه إن صاحب الحق هو الذي تصل إليه منفعة من طريق تنفيذ التكليف بواسطة المكلف.[17]

أما اليوم فيذهب أكثر أتباع جيرمي بينثام ـ في إعادتهم لقراءة نظرية المنفعة وفي تقرير جديد لهذه النظرية ـ إلى التأكيد على أنه ليس كل تكليف يمكن أن يكون سببًا في إيجاد حق؛ بل إن خصوص التكليف الذي ينطوي على منفعة بالنسبة إلى أشخاص بعينهم ـ دون الأشخاص غير المتعينين ـ هو الذي يعمل على إيجاد الحق، سواء أكان هؤلاء الأشخاص المتعينين جميعهم من أفراد المجتمع أو لم يكونوا كذلك، بعبارة أخرى: إن تعيين الأشخاص لا يعني محدوديتهم، من ذلك على سبيل المثال أن قانون عدم التعرّض إلى أرواح الناس وأموالهم، يصل نفعه إلى جميع أفراد المجتمع (وليس جماعة خاصة منهم)، بمعنى أنه يعمل على صيانة الجميع من تعرّض الآخرين. وعلى هذا الأساس فإن جميع أفراد المجتمع يحظون في ضوء هذا القانون بحق الصيانة والحصانة من التعرّض لأرواحهم وأموالهم.

وأما إذا أدّى التكليف إلى وصول منفعة قانونية إلى أشخاص غير متعينين، فإن هؤلاء الأشخاص غير المتعينين لا يُصبحون أصحاب حق، من ذلك ـ مثلًا ـ أن دفع الضرائب للدولة الذي يصل نفعه إلى جميع أفراد المجتمع، لا يجعل آحاد أفراد المجتمع أصحاب حق؛ وذلك لأن هذه المنفعة لا تصل إلى الأفراد بشكل منفصل، وإنما تتعلّق بالمجموع، ولهذا السبب لا يمكن لآحاد المواطنين في المجتمع من الناحية القانونية أن يرفعوا دعوى على المواطنين الآخرين الذين يمتنعون عن دفع الضرائب إلى الدولة.
يذهب مكورميك (1941 ـ 2009 م)، وهو من رائدي نظرية المنفعة، إلى القول في هذا الشأن: «إن الخصوصية الذاتية للقوانين التي تنتج الحقوق هي أن غايتها الخاصة عبارة عن الحفاظ على منافع أو خير الأفراد [وليس المجتمع] أو العمل على زيادة هذه المنفعة».[18]

وقد عمد ليونز في هذا الشأن بدوره إلى إعادة قراءة نظرية بينثام، وقال: «إن كل منفعة تنبثق عن تكليف لا يمكن أن تكون عبارة عن محتوى الحق، بل إن الحق إنما يتمّ التأسيس له فيما لو كان الذي يحصل على المنفعة متّصفًا بصفتين، وهما:

1 ـ أن تصل إليه المنفعة بشكل مباشر (لا على نحو غير مباشر).
2 ـ أن يكون الغرض من سنّ القانون هو إيصال المنفعة إليه (لا إلى غيره)».[19]
وقد عمد روز (1939م) في كتابه أخلاق الحرية[20] (1986م) إلى بيان نظرية المنفعة الجديدة بتقريرين:

حيث قال في التقرير الأول: «إن X إنما يكون صاحب حق ... إذا أدّت منفعته ـ التي تنطوي على سعادة له ـ إلى إيجاد تكليف على الآخرين».[21] وبعبارة أخرى: إن الحق إنما يوجد فيما لو أضحت منفعة صاحب الحق سببًا في إيجاد تكليف على الشخص المكلّف، إنه في هذا التقرير يرى أن المنفعة مبنى ودليل على وجود الحق، وأن الحق سبب في إيجاد التكليف، وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن منفعة صاحب الحق كما تكون سببًا في إثبات الحق، تكون ـ في الوقت نفسه ـ على نحو طولي سببًا في ثبوت التكليف على عاتق المكلّف أيضًا، يمكن بيان مراد روز على النحو أدناه:

منفعة صاحب الحق = ثبوت الحق = ثبوت التكليف
إن روز من خلال هذا البيان يهدف إلى أمرين، وهما:
أ ـ الردّ على نظرية بينثام بشأن العلاقة المتبادلة بين الحق والتكليف.
ب ـ الردّ على النظرية التي تعتبر التكليف مبنى ودليلًا على وجود الحق.[22]

إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، يقول: ما هو نوع المنفعة التي تؤدّي ـ من وجهة نظر روز ـ إلى إيجاد حق ويكون سببًا في وجود التكليف؟ لقد أجاب روز في تعريف الحق عن هذا السؤال قائلًا: لا تتوفّر كل منفعة على صلاحية إيجاد حق، وإنما تلك المنفعة التي تعدّ واحدة من أبعاد سعادة الإنسان (صاحب الحق) هي التي تستطيع أن تكون سببًا في إيجاد الحق (لصاحب الحق)، وتلقي التكليف (على عاتق المكلف)، وقد عرّف الأبعاد المتنوّعة للسعادة بوصفها أهم دليل على وجود الحق للإنسان.[23]

وقد ذهب جوزيف روز في موضع آخر إلى القول باعتبار أن سعادة الإنسان تعني الحياة الأفضل والرفاه الأكبر، وبعبارة أخرى: إن سعادة الإنسان من وجهة نظر روز تساوق مقدار الخير والنجاح الذي يحقّقه في هذه الحياة[24].
وفي ضوء التقرير الأول الذي يقدّمه روز لتعريف الحق، يكون كل شخص مكلفٍ مطالبًا بالقيام بعمل لصالح صاحب الحق، وهذا العمل يجب أن يكون واحدًا من أبعاد سعادة صاحب الحق.
وقد أضاف جوزيف روز في التقرير الثاني لنظرية المنفعة شرطًا إلى التقرير الأول، وقال: إن التكليف المنبثق عن الحق يجب أن يؤدّي على الدوام إلى الحفاظ على منفعة صاحب الحق، وتطويرها (زيادتها) بطريقة مهمّة[25].
إن اختلاف هذين التقريرين إنما يظهر حيث لا يستوجب امتثال التكليف بواسطة الشخص المكلّف حصول مزيد من الربح لصاحب الحق، ففي ضوء التقرير الأول يكون الحق في المورد المفترض موجودًا، في حين أنه في ضوء تقريره الثاني لا يكون هناك وجود للحق في هذا المورد؛ إذ لا تكون هناك زيادة للمنفعة في البين.

من الجدير ذكره أن نظرية بينثام أكثر تناغمًا مع التقرير الثاني؛ إذ ينبغي لصاحب الحق في نظرية بينثام أن يحصل على منفعة من تكليف المكلّف، وإذا لم يؤدّ امتثال التكليف إلى تحقيق الربح الأكبر، فإن صاحب الحق لن يجني نفعًا من هذا التكليف[26].

إشكالات نظرية المنفعة
الإشكال الأول
إذا كان الحق يعني منفعة صاحب الحق؛ فحيثما يكون هناك حق يجب أن تصل هنالك منفعة لصاحب الحق، هذا في حين لا يصل في بعض الموارد أي نفع لصاحب الحق، وإن واحدًا من الذين يكونون من أصحاب الحق قطعًا هو الله سبحانه وتعالى، فهو لكونه واجب الوجود تحتوي ذاته المقدّسة على درجات غير محدودة من الكمال بحيث لا يحتاج معها إلى أيّ نوع من أنواع الربح والمنفعة، في حين أن له الكثير من الحقوق.[27]

الإشكال الثاني
يُفهم من تقريرات المؤسسين لنظرية المنفعة أنه يجب أن يكون هناك تكليف بإزاء كل حق؛ في حين أن هناك أنواعًا من الحق لا يمكن تصوّر أيّ تكليف بإزائها، وفيما يلي سوف نشير إلى بعض هذه الموارد:
لقد عمد وسلي هوفيلد[28] ـ وهو من بين علماء الحقوق في بدايات القرن العشرين للميلاد ـ في تبويب معروف إلى تقسيم أنواع الحق إلى أربعة أنواع، وهي: حق الادعاء[29]، وحق الحرية[30]، وحق السلطة[31]، وحق الحصانة[32].[33] لقد ذهب أكثر المنظرين للحق إلى القبول بتقسيمه هذا، وهو إنما يعتبر التكليف بإزاء حق الادعاء فقط، ولا يرى سائر أنواع الحق الأخرى متناظرة مع التكليف، وعليه تكون هناك في ضوء تقسيم هوفيلد حقوق لا يمكن تصوّر أيّ تكليف بإزائها.

كذلك فإن الحق التكويني لله بإزاء خلقه للكائنات يُعدّ واحدًا من بين أنواع الحقوق التي لا يمكن تصوّر أيّ تكليف بإزائها؛ إذ قبل خلقها لم يتمّ خلق موجود بعد ليقع على عاتقه تكليف بإزاء ما عليه من حق الله، بمعنى أنه لا يوجد بعد مكلف، وبعد خلق الكائنات يكون هذا الحق بدوره (الحق التكويني لله في خلق الكائنات) قد تمّ تنفيذه[34]، بمعنى أن استيفاء هذا الحق لله لا يقوم على أداء التكليف من قبل شخص المكلف أو أشخاص المكلفين.

الإشكال الثالث
يذهب بينثام إلى الاعتقاد بأن أيّ نوع من أنواع القوانين يستوجب الإيجاد المتزامن للحق والتكليف، وعليه حيثما كان هناك قانون يكون هناك حق أيضًا؛ إذ تصل هناك منفعة لصاحب الحق.

الإشكال هو أن منفعة وضع القانون في بعض الموارد لا تصل إلى آحاد الأفراد بشكل منفصل، وإنما يصل على نحو مجموعي، وبعبارة أخرى: إن الربح يصل إلى أفراد غير متعيّنين. وفي هذه الموارد لو قصّر المكلف في القيام بتكليفه، لا يمكن لأي شخص أن يدّعي الحق؛ إذ لا أحد من الأفراد يعدّ صاحب حق بشكل محدّد. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن دفع الضرائب إلى الدولة أمر تصل منفعته إلى المجتمع، فلو لم يدفع شخص الضرائب المترتبة عليه إلى الدولة، لا يمكن لأفراد المجتمع ـ الذين ينتفعون بضرائبه ـ أن يطالبوه بأداء التكليف بوصفهم أصحاب الحق، وعليه هناك في هذا النوع من الموارد قانون (مثل قانون الضرائب)، ولكن لا يوجد أيّ حق، وعلى هذا الأساس لا يوجد أيّ صاحب حق.[35]
ولهذا السبب فإن المؤسسين الجُدُد لنظرية المنفعة، لا يرون كل منفعة مساوية للحق، وقد عمدوا إلى إصلاح النظرية التقليدية لبينثام، وأضافوا لها قيودًا ليرتفع هذا الإشكال عنها، من ذلك ـ مثلًا ـ أن ليونز قال: إن منفعة امتثال التكليف يجب أن تصل إلى أشخاص معينين بشكل مباشر. ويقول روز: إن هذه المنفعة يجب أن تمثل جانبًا من سعادة الإنسان وما إلى ذلك.

الإشكال الرابع
في بعض التقريرات الجديدة لنظرية المنفعة، من قبيل: تقرير روز، يُعدّ الحق معلولًا للمنفعة، وبعبارة أخرى: إن روز يذهب إلى الاعتقاد بأن المنفعة هي علة وجود الحق، والحق بدوره يُعدّ سببًا في إيجاد التكليف، وببيان آخر:
منفعة صاحب الحق = ثبوت الحق = ثبوت التكليف
في ضوء هذا التقرير لا يمكن القول إن الحق هو ذات المنفعة؛ إذ لازم هذا الأمر أن تكون العلة والمعلول شيئًا واحدًا، وهو محال.

الإشكال الخامس
لقد اعترض الفيلسوف الحقوقي الإنجليزي هارت (1907 ـ 1992 م) على نظرية المنفعة، وقال: إن المنفعة تصل أحيانًا إلى شخص آخر (الشخص الثالث) غير صاحب الحق، فمثلًا عندم يقوم البناء في عقد بين شخصين (أ وب) على أن يقوم أحدهما (أ) بدفع مقدار من النقود إلى شخص ثالث (ج)، ففي هذه الصورة لا يحصل صاحب الحق (ب) على أيّ منفعة من امتثال التكليف بواسطة الشخص المكلف (أ)؛ في حين أنه (ب) بحسب الفرض صاحب حق، وبناء على نظرية المنفعة، يجب أن يكون (ب) صاحب منفعة، لكي يمكن أن يقال له (ب) إنه صاحب حق، ومن ناحية أخرى فإن الشخص الذي يكون صاحب منفعة؛ أي الشخص الثالث (ج) لا يمكنه رفع التكليف عن كاهل المكلف (أ) أو أن يؤكّد على امتثاله؛ وذلك لأنه ليس طرفًا في العقد، وعلى هذا الأساس لا يكون هناك أيّ حق للشخص الثالث بلحاظ قانون العقود.[36]

يرى هارت أن هنا يوجد إشكالان، وهما:
إن صاحب الحق، وهو الشخص (ب) لا يحصل على أيّ منفعة، وبعبارة أخرى: إن امتثال التكليف بواسطة المكلف (أ) لا يعمل على إيصال أيّ منفعة له.
إن الشخص الذي يجني منفعة، وهو الشخص (ج) ليس له أيّ حق في هذا العقد؛ إذ لو أن المكلف (أ) لم يدفع له نقودًا، لا يحق له من الناحية القانونية أن يعترض على المكلف أبدًا.
ومن هنا يذهب هارت إلى القول بأن الحق لا يعني المنفعة، بل الحق بمعنى قوّة وإرادة (الشخص صاحب الحق، وهو ب)، حيث يمكنه رفع التكليف عن كاهل المكلف (أ) أو أن يؤكد ويصرّ على امتثال التكليف.

جواب الإشكال الخامس
في الرد والجواب على هارت يمكن القول: إن حق الادعاء والتكليف في قباله ينشأ من عقد بين صاحب الحق والمكلف، وصاحب الحق بدوره يحصل على منفعة من تنفيذ عقده مع المكلف، وإلا لم يكن هناك مبرر ليقوم بإبرام العقد بوصفه واحدًا من العقلاء، وعلى هذا الأساس لا يمكن القول إن صاحب الحق لا يجني أيّ منفعة من هذا العقد.

وفي الواقع فإنه هو الشخص الذي ينتفع بهذا العقد أولًا وبالذات، وهذا الانتفاع هو حافزه الرئيس من إبرام هذا العقد، وبطبيعة الحال فإن نوع المنفعة ومقدارها أمر يختلف باختلاف العقود، ولكن من الثابت أن المكلف بدوره حيث أبرم عقدًا مع صاحب الحق ـ وليس مع الشخص الثالث ـ ملزم بتنفيذ مفاد العقد، بمعنى أن الغاية الأصلية والدافع الرئيس لشخص المكلف هو إيصال المنفعة لصاحب الحق من طريق الالتزام بالعقد، أجل، إن الشخص الثالث بدوره ـ من خلال هذا العقد وفي ضوء منفعة صاحب الحق ـ ينتفع من تنفيذ التعهد والميثاق (العقد) بواسطة المكلف، بيد أن هذا الانتفاع إنما يتحقق في المرتبة الثانية وبالعرَض، وعليه فإن هارت لا يمكنه القول: إن الشخص الثالث في هذه الصورة هو وحده الذي يكون صاحب المنفعة فقط، ولا يكون لصاحب الحق أيّ منفعة أبدًا.

ربما بسبب ورود هذا الإشكال على كلام هارت، ظهر بعد ربع قرن شخص آخر من أنصار نظرية الإرادة / الاختيار وهو ستينر، ليعمل على إصلاح إشكال هارت على نظرية المنفعة. وهو ـ خلافًا لهارت ـ يقرّ بأن الشخص الذي يقع طرفًا في العقد يكون منتفعًا بالإضافة إلى الشخص الثالث، وبذلك فإنه يكون صاحب حق؛ في حين أن الشخص الثالث في حالة امتناع المكلف عن امتثال التكليف لا يمكنه الاعتراض عليه، وبعبارة أخرى: إن حاصل إشكال ستينر هو أن لازم نظرية المنفعة في أمثال العقود المذكورة أنه في هذا النوع من العقود يكون هناك مكلف واحد مع صاحبين للحق؛ بمعنى أن هناك صاحبين للمنفعة، وأن أحدهما على الرغم من كونه صاحب منفعة وصاحب حق، ولكنه لا يستطيع من الناحية القانونية إجبار المكلف على امتثال التكليف.[37]

إن هذا الكلام من ستينر لا يخلو بدوره من الإشكال، والجواب الذي يمكن أن نقدّمه إلى ستينر هو أنه يُفهم من مضامين عبارات المؤسسين لنظرية الربح / المنفعة، أن مدّعاهم هو أن الحق يحتوي دائمًا على منفعة بالنسبة إلى صاحب الحق، ولكن العكس ليس صحيحًا، بمعنى أنهم لا يريدون القول: حيثما تكون هناك منفعة في البين، يكون لصاحب المنفعة حق على شخص أيضًا، وبعبارة أخرى: إن النسبة المنطقية بين المنفعة والحق ـ من زاوية نظرية المنفعة ـ ليست هي التساوي، وإنما هي نسبة العموم والخصوص المطلق، وإن المنفعة أعم من الحق؛ بمعنى أن بعض مصاديق المنفعة لا تنتج أيّ حق لصاحب المنفعة.

الإشكال السادس
لقد أشكل بعض الباحثين على النظرية التقليدية للمنفعة (نظرية بينثام)، على النحو الآتي، حيث قال: إن وجود الحقوق الأخلاقية من الأمور المسلّمة التي لا يمكن إنكارها في خطاب الحق، هذا في حين أن النظرية التقليدية للمنفعة (نظرية بينثام) إنما تعتبر الحق معلولًا للقانون الوضعي فقط، وفي ضوء هذه النظرية تكون جميع الحقوق حقوقًا قانونية، وليس غير ذلك[38]، ولهذا السبب ذهب بينثام من الأساس إلى إنكار الحقوق الطبيعية والأخلاقية.

جواب الإشكال السادس
لا ربط لهذا الإشكال بمفهوم الحق، بمعنى انطواء الحق على منفعة؛ وذلك لأن الكثير من أنصار نظرية المنفعة قد قبلوا بالحق الأخلاقي، إذ قد يكون الشخص من أنصار نظرية الاختيار / الإرادة، ولكنه مع ذلك لا يرتضي الحق الأخلاقي، وعليه فإن إنكار الحق الأخلاقي لا يكون لازمه القول بنظرية المنفعة. أجل، يمكن توجيه هذا الإشكال إلى البحث عن منشأ الحق (دون مفهوم الحق) من وجهة نظر بينثام.

2 ـ نظرية الاختيار أو الإرادة
إن من بين النظريات الأخرى الواسعة الانتشار حول مفهوم وماهية الحق في الغرب، هي نظرية الاختيار أو الإرادة، ومن بين أكثر المؤسسين لهذه النظرية تأثيرًا، هم: إيمانوئيل كانط،[39] وسافيني،[40] وهارت، وكيلسن،[41] وفليمان،[42] وستينر.

تعود جذور نظرية الاختيار / الإرادة إلى كلمات فلاسفة العصور الوسطى، من أمثال: وليام الأوكامي[43] (1280 أو 1290 ـ 1349 م). وكان هؤلاء يفسّرون الحق بمعنى القدرة، بمعنى أن صاحب الحق يمتلك القدرة الأخلاقية أو القانونية على مطالبة المكلف بامتثال التكليف أو غض النظر عنه، يقول وليم الأوكامي في تعريف الحق: «إن الحق عبارة عن القدرة القانونية على الاستفادة من أمر خارجي، وهي القدرة التي لا ينبغي حرمان أيّ شخص منها إلا بسبب إساءة استغلالها أو بسبب الأسباب المعقولة الأخرى، ولو تمّ حرمان شخص من مثل هذه القدرة، أمكن له أن يترافع أمام المحكمة بالطرق القانونية، وأن يشكو ذلك الشخص أو الأشخاص الذين منعوه من ممارسة قدرته».[44]

إن لنظرية الإرادة / الاختيار اتجاهين: تقليدي وحديث[45]، إن النظرية التقليدية للإرادة \الاختيار تعود إلى الفيلسوف الألماني إيمانوئيل كانط (1724 ـ 1804 م)، لقد كان إيمانوئيل كانط يذهب إلى الاعتقاد بأن تشريع القانون يساوق أخلاقيته، وبعبارة أخرى: لا يكتسب أي قانون قيمته الأخلاقية من دون أخذ الأصول القانونية بنظر الاعتبار، وعلى هذا الأساس فإن النظام الحقوقي القائم على الإرادات البشرية، يجب أن يكون تابعًا نظاميًا عن القانون الطبيعي (الأخلاقي).[46]
يذهب إيمانوئيل كانط إلى الاعتقاد بأن حرية الإرادة تعدّ واحدة من خصائص الإنسان في كل نظام أخلاقي، وعلى هذا الأساس فإن تحديد هذه الحرية بأي طريقة كانت بما في ذلك طريقة النظام الحقوقي، يُعدّ أمرًا مخالفًا للأصل، ولكن بسبب إيجاد البيئة الآمنة بشكل كامل من أجل التكامل الأخلاقي للإنسان لا مندوحة من تنفيذ القانون والرضوخ لتقييد إرادة البشر، يقول إيمانوئيل كانط: إن وضع الحقوق والتكاليف هو الذي يُحدد مساحة محدودية إرادة الإنسان، إن لكل إنسان كامل الحرية في القيام بكل ما يحلو له، إلا إذا ألزمه حق صاحب حق بتكليف ما.

إن خطاب الحق من وجهة نظر إيمانوئيل كانط وأتباعه، يقترح طريقة إقرار التناغم بين إرادتين حرّتين (لدى صاحب الحق والمكلف) فمن جهة إنما يمكن لصاحب الحق أن يطالب المكلف بمقدار حقه، ولا يكون حرًّا في أن يطلب من المكلف كل ما يريد ولو كان ما يريده زائدًا على المقدار الذي يستحقّه، ومن ناحية أخرى فإن المكلف بدوره ملزم بأداء مقدار تكليفه، أي أن يقوم لصاحب الحق بمقدار ما يستحقّه عليه من التكليف. وهو (أي المكلف) ليس حرًّا في الامتناع عن القيام بما عليه من التكليف، وبعبارة أخرى: إن النظرية التقليدية للاختيار في خطاب الحق تعمل على رسم العلاقة التبادلية بين طرفي الإرادة الحرّة لصاحب الحق والمكلّف على النحو الآتي: في حدود رعاية الشرائط الخاصّة، يجب أن تكون إرادة المكلف ورغبته في إطار القيام بالتكليف متطابقة مع إرادة صاحب الحق ورغبته، يذهب إيمانوئيل كانط إلى الاعتقاد بـ «أن الحق عبارة عن جميع الشروط التي يمكن أن يتحدّد بموازاتها اختيار الشخص (المكلف) في ضوء القانون العام لإرادة الإنسان الحرّة مع اختيار الآخر (صاحب الحق)».[47]

إن النظرية الجديدة للإرادة / الاختيار لها عدّة تقريرات، وإن أقدم وأهم هذه التقريرات يعود إلى الفيلسوف الإنجليزي إتش. إل. إي. هارت[48] (1907 ـ 1992 م)، فقد عمد في مقالة له ـ تحت عنوان «(عقيدة) بينثام حول الحقوق القانونية»[49] (1973 م) ـ إلى بيان تفسيره لنظرية الإرادة / الاختيار، وقد عمد هارت في نصّ معروف له في هذه المقالة إلى بيان العناصر الأصلية لنظرية الاختيار، وحيث إن وجود التكليف الملزم يُعدّ في ضوء نظرية الإرادة شرطًا ضروريًا للحق[50]، يذهب هارت إلى تسمية هذه العناصر بالأجزاء المؤلّفة لمفهوم السيطرة، حيث يمكن لصاحب الحق بالنسبة إلى امتثال التكليف أن يبسط سيطرته على المكلف.

«في الحقل السلوكي الذي يعمل التكليف على تغطيته يكون للشخص صاحب الحق نوع من الحاكمية المحدودة على المكلف. وإن المعيار الأكمل للسيطرة يحتوي على ثلاثة عناصر بارزة:
يمكن لصاحب الحق أن يغض الطرف عن امتثال التكليف من قبل المكلف، أو أن يترك ذلك [التكليف] على حاله.
المكلف بمسؤوليته، أمكن لصاحب الحق أن لا يتعرّض له [بأن يتركه وشأنه]، أو أن يلجأ إلى الطرق القانونية من أجل استيفاء حقه أو أن يعمل في بعض الموارد الخاصة على استصدار حكم رسمي أو أمر لازم التنفيذ [من المحكمة] للحيلولة دون الاستمرار في نقض التكليف أو الحدّ من وقوع المزيد من الخسائر.

يمكنه [أي: صاحب الحق بعد المرافعة القانونية] أن يعفي الشخص المكلف من دفع الغرامة التي فُرضت عليه بسبب عدم امتثاله للتكليف، أو أن يأخذ تلك الغرامة منه».[51]

يعمد هارت في النصّ أعلاه إلى بيان السلطة والقدرة التي يمتلكها صاحب الحق على المكلف، ولو أردنا أن نعمل على تحليل هذا النص، أمكن لنا بيان الصلاحيات التي يمتلكها صاحب الحق ـ من وجهة نظر هارت ـ بشكل مستقل ضمن الإطار أدناه:

قبل حلول وقت امتثال التكليف، ودون أن يكون هناك أي احتمال للتنصّل عن أداء التكليف:
1 ـ يمكن لصاحب الحق أن يغض الطرف عن تحقيق التكليف وأدائه.
2 ـ يحق لصاحب الحق أن يبقي التكليف على عاتق المكلّف.
بعد حلول وقت امتثال التكليف، فيما لو ترك التكليف أو قبل ذلك مع احتمال كبير في ترك التكليف:
3 ـ يمكن لصاحب الحق أن يصرف النظر عن ملاحقة المكلف من الناحية القانونية (من أجل الحيلولة دون المزيد من الخسائر في حالة ترك التكليف، أو من أجل الحيلولة دون ترك التكليف من رأس).
4 ـ يمكن لصاحب الحق أن يرفع شكواه ضدّ المكلف إلى الجهات القانونية من أجل الامتثال الكامل والصحيح للتكليف من قبل المكلّف.
في حالة الملاحقة القانونية وصدور الحكم من الجهات القضائية لصالح صاحب الحق من أجل جبران الخسائر التي تكبّدها والعمل على استيفائها من المكلف:
5 ـ يمكن لصاحب الحق أن يغض الطرف عن تنفيذ هذا الحكم.
وهناك احتمالات أخرى في البين أيضًا، حيث يمكن أن تعدّ من جملة صلاحيات صاحب الحق، بيد أن هارت لم يُشر إليها، ومن بينها الاحتمالات الآتية:
6 ـ يمكن لصاحب الحق أن يطالب بتنفيذ حكم جبران الخسارة.[52]
لو أن المكلف لم يكن ـ بعد صدور الحكم بدفع الخسارة لصاحب الحق ـ قادرًا على دفع الخسارة أو امتنع عن دفعها.
7 ـ يمكن لصاحب الحق أن يصرف النظر عن استيفاء الخسارة.
8 ـ يمكن لصاحب الحق أن يتعامل مع المكلف في ضوء ما يحكم به القانون (من قبيل: أن يطالب بصدور الحكم بالحجر عليه وما إلى ذلك).

يمكن بيان هذه الصوَر الثمانية من حدود اختيارات صاحب الحق من خلال النموذج أدناه:

اختيارات صاحب الحق
ـ الصورة الأولى (أن يصرف النظر عن إيقاع التكليف وأدائه).
ـ الصورة الثانية (أن يُبقي التكليف على عاتق المكلّف).
ـ الصورة الثالثة (أن يغض الطرف عن المتابعة القانونية ضدّ المكلف).
ـ الصورة الرابعة (أن يكون له خيار الشكوى ضد المكلف والمطالبة بإدانته قانونيًا).
ـ الصورة الخامسة (أن يغض الطرف عن تنفيذ حكم الغرامة الصادر ضدّ المكلف).
ـ الصورة السادسة (المطالبة بتنفيذ الحكم بتعويض الخسارة).
ـ الصورة السابعة (أن يغض الطرف عن أخذ الخسارة من المكلف).
ـ الصورة الثامنة (أن يتعامل مع المكلف طبقًا للقانون؛ كأن يُطالب بصدور الحكم بالحجر عليه وما إلى ذلك).
من الواضح أن بعض هذه الصوَر يقع إلى الضدّ من الصوَر الأخرى، وبذلك لا تكون هذه الصوَر المتضادة قابلة للجمع فيما بينها، إن الصوَر (1)، و(3)، و(5)، و(7) تقع على التوالي إلى الضد من الصوَر (2)، و(4)، و(6)، و(8)، ولا يمكن الجمع بينهما.

وكذلك فإن كل واحدة من هذه الصوَر لا يمكن جمعها مع ضدّها فحسب، بل ولا يمكن جمعها حتى مع لوازم ضدّها أيضًا، من ذلك على سبيل المثال أن الصورة (7) أو (8) من لوازم اختيار الصورة (6)، ومن هنا فإن هاتين الصورتين لا يمكن جمعهما مع الصورة (5).

وكذلك فإن اختيار الصورة (5) أو (6) من اللوازم المباشرة لاختيار الصورة (4) والصورتين (7) و(8) من اللوازم غير المباشرة لاختيار هذه الصوَر، وعلى هذا الأساس فإن الصوَر الأربعة (5) و(6) و(7) و(8) مع الصورة (3) التي هي ضدّ الصورة (4) لا تقبل الجمع، وكذلك الصورتان (3) و(4) من اللوازم المباشرة للصورة (2) والصورتان (5) و(6) من اللوازم بواسطة واحدة للصورة (2)؛ كما أن الصورتين (7) و(8) من اللوازم بواسطتين للصورة (2)، وبطبيعة الحال لا شيء من الصورة (3) أو (8) ينسجم مع النوع الأول من اختيار صاحب الحق، أي الصورة (1) التي هي ضد الصورة (2).

وفيما يلي سوف نعمل على بيان كيفية إمكان أو امتناع اجتماع كل واحد من القضايا الماثلة أمام صاحب الحق مع سائر الصور على النحو أدناه باختصار:
1 ـ لو عمد صاحب الحق إلى اختيار الصورة الأولى، بمعنى أن يغض الطرف عن إيقاع وأداء التكليف بواسطة المكلف، لا شكّ في أنه لا يستطيع جعل الصورة الثانية عملية، إذ هي تقع إلى الضدّ منها، وعلى هذا الأساس فإنه لا يستطيع أن يجعل سائر صوَر الاختيار ـ ونعني بها الصوَر من (3) إلى (8) ـ عملية أيضًا؛ وذلك لأن إعمال هذه الصوَر يتوقف على جعل الصورة الثانية عملية، وهي في حدّ ذاتها تقع إلى الضدّ من الصورة الأولى، إن صاحب الحق من خلال اختياره النوع الأول يكون قد قضى على أرضية اختيار هذه الصوَر. وبعبارة أخرى: من خلال اختيار الصورة (1)، يكون اختيار الصوَر من (3) إلى (8) منتفيًا من الناحية الموضوعية؛ وذلك لأن هذه الصوَر إنما تكون ممكنة بعد اختيار الصورة (2)؛ في حين أن الافتراض يقوم على أن صاحب الحق قد اختار الصورة (1) التي هي ضدّ الصورة (2).

2 ـ كذلك فإن صاحب الحق لو اختار تفعيل الصورة الثانية؛ بمعنى أن يُبقي التكليف على حاله، وبذلك فإنه لا يستطيع تفعيل الصورة الأولى فقط؛ وذلك لأنها ضدّها. وأما اختيار الصورة الثانية فهي تنسجم مع كل واحد من الصوَر الستة الأخرى، وهي: (3 و4 و5 و6 و7 و8)؛ لأن تفعيل كل واحد من هذه القضايا يتوقف على تفعيل الصورة (2).

3 ـ كما يُشير النموذج أعلاه فإن تفعيل الصورة (3) بعد اختيار الصورة (2) بدلًا من اختيار الصورة (1)، يكون ممكنًا. وعليه فإن الصورة (3) لا تجتمع مع الصورة (1). كما أن هذه الصورة لا تجتمع مع الصورة (4)؛ لأنها تقع إلى الضدّ منها. وعلى هذا الأساس فإن الصورة (3) لا تجتمع مع الصور من (5) إلى (8) أيضًا؛ وذلك لأن هذه الصوَر الأربعة من لوازم الصورة (4).

4 ـ من خلال اختيار القضية (4) فإن صاحب الحق يغض الطرف عن اختيار الصوَر (1) و(3). وعليه فإن هذه الصورة لا تقبل الجمع مع تلك الصورتين. وبعبارة أخرى: لو أن صاحب الحق بعد ترك المكلف للتكليف أو قبله ـ ولكن مع وجود احتمال قوي بأن المكلّف سوف يترك التكليف ـ عمد إلى رفع شكواه إلى المؤسسات القضائية الصالحة، يكون قد اختار الصورة (4). وفي هذه الحالة لا شك في أنه: 1 ـ قد غض الطرف عن أداء التكليف بواسطة المكلّف، بمعنى أنه لم يعمد إلى اختيار الصورة (1). و2 ـ أن يغض الطرف عن الرجوع إلى المؤسسات القضائية لكي يشكو المكلف، بمعنى أن لا يكون قد اختار الصورة (3) أيضًا. وعليه فإن اختيار الصورة (4) بمعنى نفي الصورتين (1) و(3) واختيار الصورة (2) وكذلك يلازم اختيار واحدة من الصورتين (5) أو (6).

5 ـ فيما لو اختار صاحب الحق الصورة (5)، فهذا يعني أنه بعد اختيار الصورة (2) [إبقاء التكليف في عهدة المكلف]، وبعد اختيار الصورة (4) [المطالبة بتنفيذ المواد القانونية وإصدار حكم من القضاء لصالح في تعويض الخسارة من قبل المكلف]، يغض الطرف عن تنفيذ حكم القضاء ضد المكلف. وعليه فإن اختيار الصورة (5) في إطار اختيار الصورتين (2) و(4)، وهذا لزومًا لا يجتمع مع الصوَر المتضادّة مع هاتين، وهما الصورتين (1) و(3). كما أن هذه الصورة لا تجتمع مع ضدّها المتمثل بالصورة (6).

6 ـ لو أن صاحب الحق قد اختار الصورة السادسة، بمعنى أن يكون قد طالب القضاء بتنفيذ الحكم بدفع الخسارة من قبل المكلف. إنه قد سبق له أن اختار الصورتين (2) و(4)؛ وذلك لأن الصورة السادسة إنما تكون ممكنة في إطار اختيار هاتين الصورتين. ومن هنا فإن اختيار الصورة السادسة، لا يمكن أن يقترن باختيار ضدّ هاتين الصورتين، ونعني بهما الصورة (1) و(3). كما أن هذه الصورة لا تنسجم مع ضدها المتمثّل بالصورة (5) أيضًا.

7 ـ إن اختيار الصورة السابعة من قبل صاحب الحق يعني غض الطرف عن تعويض الخسارة من قبل المكلف بعد صدور الحكم من الجهات القضائية بذلك، وكذلك عدم قدرة المكلف على دفعها. من الواضح أن اختيار هذه الصورة قد تمّ في إطار اختيار الصور (2)، و(4)، و(6)، وهو لزامًا لا يقبل الجمع مع الصوَر المتضادة مع هاتين الصورتين، أي أن الصوَر (1)، و(3)، و(5) لا تقبل الاجتماع. كما أن هذه الصورة لا تقبل الجمع مع ضدها المتمثّل بالصورة (8) أيضًا.

8 ـ وبالتالي فإن اختيار الصورة (8) يعني رفع اليد عن المكلف بسبب عدم وفائه بأداء التكليف. إن هذه الصورة تعني متابعة المسألة عبر الطرق القانونية، لا شك في أن الوصول إلى هذه الصورة يمكن من خلال العبور من قناة الصوَر (2)، و(4)، و(6). وعلى هذا الأساس فإن صاحب الحق من خلال اختياره لهذه الصورة يكون قد أثبت أنه لم يعمل على اختيار الصوَر التي تقع إلى الضدّ من الصوَر أعلاه، وكذلك الصورة (7) أيضًا، بمعنى أنه لم يغض الطرف عن المطالبة بأداء التكليف.

والنتيجة هي أن صاحب الحق ـ في ضوء نظرية الإرادة / الاختيار ـ يمكنه بسبب امتلاكه للحق أن يُعمل إرادته من خلال واحدة من الطرق الآتية:

اختيار الصورة (1).
اختيار الصورة (3) من طريق الصور (2): (2) – (3).
اختيار تنفيذ الصورة (5) من طريق الصوَر (2) و(4): (2) – (4) – (5).
اختيار الصورة (6) من طريق الصوَر (2) و(4): (2) – (4) – (6).
القيام باختيار الصورة (7) من طريق: (2) – (4) – (6) – (7).
تطبيق القضية (8) من طريق: (2) – (4) – (6) – (8).

إذن يمكن القول: في ضوء نظرية الإرادة / الاختيار يكون لصاحب الحق في حالة بقاء الحق وعدم غض الطرف عنه (الصورة الثانية) سيطرة أكبر على المكلف؛ وذلك لأنه في هذه الصورة يكون أمام خمسة طرق متنوّعة. وفي كل مرحلة يعمد صاحب الحق إلى غض الطرف عن حقه، تنخفض قدرته فيما يتعلق بالاختار وتنفيذ إرادته وسيطرته على المكلف. ولهذا السبب تكون صوَر اختيار صاحب الحق في الطريق الأول والثاني أقل من سائر الطرق الأخرى. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن خيارات صاحب الحق في الطريق الرابع أكثر من خياراته في الطريق الثالث؛ وذلك لأنه بواسطة اختيار الصورة (5) في الطريق الثالث يكون قد غض الطرف عن استيفاء حقه، ولكن في حالة اختيار الصورة (6) يبقى هذا الخيار لصاحب الحق فيما لو كان المكلف عاجزًا عن دفع الغرامة، أمكن له (صاحب الحق) أن يعفو عن المكلف أو أن يتعامل معه طبقًا للقانون. إن هذا الخيار ليس موجودًا في الطريق الثالث، ولكنه موجود في الطريق الرابع. وعليه فإن امتلاك الحق في هذه النظرية يعدّ بمعنى امتلاك القدرة على الاختيار وتنفيذ الإرادة.

إشكالات نظرية الاختيار أو الإرادة
أ ـ الإشكال المشترك
إن من بين لوازم نظرية الإرادة / الاختيار بشأن الحق، هي أنه لا بدّ أن يكون ثمّة تكليف بإزاء كل حق، وإلا فإن صاحب الحق لن تكون له سلطة على المكلف ليتمكّن من استيفاء حقه منه، هذا في حين لا يمكن دائمًا تصوّر التكليف بإزاء أيّ حق، وذلك من قبيل: الحق التكويني لله، وكذلك مثل: حق الحرية، وحق القدرة، وحق الحصانة في تقسيمات هوفيلد، إن هذا الإشكال يرد على نظرية المنفعة أيضًا. ومن هنا فقد أطلقنا على هذا الإشكال تسمية الإشكال المشترك.

ويمكن تقسيم الإشكالات الواردة على نظرية الإرادة / الاختيار، إلى قسمين وهما:
1 ـ الإشكالات المفهومية[53].
2 ـ الإشكالات الأخلاقية[54].[55]

ب ـ الإشكالات المفهومية
الإشكال الأول
إن نظرية الإرادة / الاختيار بشأن الحق القانوني، إنما تكون مبرّرة وقابلة للتوجيه في الحقل الخاص والمدني[56] فقط؛ إذ هناك على أساس هذه النظرية في حقل الحقوق الخاصة والمدنية صاحب حق يمكنه غض الطرف عن أداء التكاليف، كأن يعمد صاحب دَين إلى غض الطرف عن استيفاء دينه، أو الشخص الذي تعرّض لخسارة بسبب شخص آخر يغض الطرف عن تعويض خسارته.

وأما في حقل الحقوق والقوانين الجزائية[57] فلا يمكن لأي شخص أن يتجاهل جريمة شخص مجرم من الناحية الجزائية، وعليه لا يمكن لشخص ـ في ضوء نظرية الإرادة / الاختيار ـ أن يدّعي الحق هنا؛ إذ لا يمكن لأحد أن يغض الطرف عن تكليف الشخص المكلّف.

في ضوء المعيار الذي تقدّمه نظرية الإرادة / الاختيار، لا يحق لأيّ شخص ـ بما في ذلك المسؤولين في الدولة ـ أن يعفو عن المجرم في حقل الحقوق والقوانين الجزائية، إن الذي يضرب الموازين الاجتماعية كأن يتصرّف بشكل مخالف لما عليه العفّة العامّة، أو ينتهك قوانين المرور (كأن يتجاوز الإشارة الضوئية الحمراء في تقاطع الطرقات) حتى دون أن يدهس أحدًا أو يضرّ به، ودون أن يكون هناك من يشكوه على المستوى الشخصي، يجب أن يُعاقب، وحتى إذا كان ذلك المجرم يستحق العفو، لا يمكن لأيّ أحد حتى المسؤولين في الدولة أن يرفع اشتغال ذمّة الآخرين عن واجب رعاية القوانين؛ كأن يسمح للسارق بأن يسرق أو يأذن للسائقين باجتياز الإشارات المرورية الحمراء.[58]

وعليه يمكن القول: في هذا النوع من الموارد تواجه نظرية الإرادة / الاختيار إشكالًا؛ إذ لا يمكن لأحد أن يرفع واجب رعاية القوانين الجزائية عن كاهل الشخص المكلف. هذا في حين أنه يجب ـ بالنظر إلى المعيار الموجود في نظرية الإرادة / الاختيار ـ أن يكون بمقدور صاحب الحق أن يغض الطرف عن أداء التكليف بواسطة المكلف.
من الجدير ذكره أن هذا الإشكال لا يرِد على نظرية المنفعة؛ إذ يوجد في حقل الحقوق الجزائية صاحب حق بناء على تلك النظرية. وعلى الرغم من وجود الاختلاف في التفسيرات الخاصّة بنظرية المعرفة، بيد أن المقدار الثابت هو أن صاحب الحق ـ في ضوء جميع تلك التفاسير ـ هو الذي تصل إليه بموجب القانون منفعة من جهة المكلف.

الإشكال الثاني
في ضوء نظرية الإرادة / الاختيار، تعدّ قدرة صاحب الحق على إسقاط حقّه من اللوازم الثابتة والتي لا يمكن إنكارها لوجود الحق، وإلا ففي غير هذه الصورة؛ إذا لم يمتلك صاحب الحق القدرة على غض الطرف عن حقه، فإن هذه النظرية سوف تفقد هويتها.

هذا في حين أن بعض حقوق الأشخاص لا تقبل الإسقاط أو النقل بأيّ وجه من الوجوه[59]، من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن حق الحياة ولوازمه الشامل لحقوق من قبيل: حق الأمن على الأنفس، وحق الصحّة الفردية، وحق الغذاء وما إلى ذلك من الحقوق، لا تقبل الإسقاط بأي نحو من الأنحاء، إن حق الحرية هو من بين الحقوق التي لا يمكن للأشخاص تفويضها إلى الآخرين وجعل أنفسهم عبيدًا لدى الآخرين[60]، وكذلك فإن حقوقًا من قبيل: حقّ الأبوّة، وحقّ الولاية، وحق الرقابة والوصاية، وحق الحضانة، هي من بين الحقوق التي لا تقبل الإسقاط ولا تقبل النقل أبدًا.[61]

ج ـ الإشكالات الأخلاقية
كما تمّ إيراد إشكالين آخرين على نظرية الإرادة / الاختيار أيضًا، وقد أطلق ستينر (وهو من بين المؤسسين لهذه النظرية) على هذين الإشكالين عنوان الإشكالات الأخلاقية.[62]

الإشكال الأول
إن صاحب الحق ـ في ضوء النظرية المذكورة ـ يجب أن يكون موجودًا يمتلك إرادة ويمتلك قدرة على الاختيار؛ وذلك لأنه يقف على مفترق طريقين ليختار واحدًا من هذين الخيارين، وهما:

ـ المطالبة بأداء التكليف من قبل المكلّف.
ـ غض الطرف عن أداء التكليف من قبل المكلّف.
وعليه فلو لم يمتلك الشخص أيّ إرادة أو قدرة على الاختيار، لا يمكنه أن يكون صاحب حقّ بأيّ وجه من الوجوه، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يكون للجنين في بطن أمّه، والأطفال، والمجانين، والأموات بالموت السريري أو الموت المطلق، والأجيال القادمة التي لم تولد بعد، وكذلك الحيوانات، لا يمكن لأيّ واحد منها أن يكون صاحب حق.

هذا في حين أن لجميع هذه الموارد المذكورة أعلاه نوعًا من الحقوق الثابتة قطعًا، من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الأطفال، والمجانين، والأموات بالموت السريري، لهم الحق في عدم أخذهم رهائن أو دروعًا بشرية[63]، كما أن للأجنة البشريين حق السلامة والتغذية من طريق توفير سُبُل السلامة والتغذية للأم، والكثير من الأموات لهم حق الحرمة والذكر الحسن، وبالتالي فإن الأجيال القادمة لها حق الاستفادة من المصادر الطبيعية التي وضعها الله تحت تصرّفنا؛ فيتعيّن علينا لذلك أن لا نقوم بإهدارها والإسراف في استهلاكها.

ومن الجدير ذكره أن بعض العلماء والمفكرين قد عمد إلى حلّ هذا الإشكال بالنسبة إلى تلك الطائفة من أصحاب الحقوق الذين يمكن أن يكون لهم من يمثّلهم؛ إذ يقولون إنه على الرغم من أن أصحاب هذه الحقوق لا يمتلكون القدرة على اختيار صورة إلزام المكلّف أو غض الطرف عن التكليف، ولكن يمكن تحقيق ذلك من خلال من ينوب عنهم ويمثّلهم في الدفاع عن حقوق أصحاب هذه الحقوق[64] سواء أكان هذا الممثل هو ولي صاحب الحق، من قبيل: أن يكون الجنين أو الطفل أو المعاق ذهنيًا صاحب حق، أم وصيّه، كما لو كان صاحب الحق قد فارق الحياة، أم كان من يمثله من الأشخاص أو المؤسسات التي تضطلع المؤسسات أو الأفراد من قبل الدولة بمسؤولية الدفاع عن صاحب الحق أو يتمّ نقله إليه، كما في حالة الحجر حيث يكون المحجور عليه صاحب حق، وينقل القانون الإذن في التصرّف في أمواله إلى شخص آخر، أو حيث يكون الحيوان صاحب حق، ويتمّ تخويل المسؤولية في الدفاع عن حقوقه إلى بعض المؤسسات الحكومية.

الإشكال الثاني
حيث إن ماهية نظرية الإرادة / الاختيار عبارة عن منح صاحب الحق القدرة على الاختيار، يكون صاحب الحق من الناحية المنطقية حرية الاختيار بين صورتين أو أكثر، وإن كانت الصورة التي يتمّ اختيارها أقل قيمة من الناحية الأخلاقية من تلك الصوَر التي لم يتمّ اختيارها، إن هذا الأمر يُعدّ من نقاط ضعف هذه النظرية؛ إذ لازمها ترجيح الأمر الأخلاقي القبيح على الفعل الأخلاقي الحسن[65]، وبعبارة أخرى: إن لازم هذا الأمر ترجيح المرجوح الأخلاقي على الراجح الأخلاقي، وإذا لم يكن هذا الترجيح محالًا عقلًا، فهو قبيح في الحدّ الأدنى.
من ذلك لو كان هناك ـ على سبيل المثال ـ شخص يمارس صيد السمك في نهر أو بحر على قارب قد استعاره، وفي الوقت نفسه كان هناك شخص يغرق، من الواضح أن هذا الصياد يمتلك حقًا، أي أنه حرّ في ضوء نظرية الإرادة / الاختيار، ليختار واحدًا من الصوَر أدناه:

ـ إنقاذ الغريق.
ـ مواصلة الصيد.
ـ أن يقوم بأمر آخر أقل قيمة وأهمية.
وبعبارة أخرى: إن هذه النظرية تسمح لصاحب الحق (راكب القارب) بدلًا من القيام بالأمور الأخلاقية البالغة الأهمية، من قبيل: إنقاذ الغريق، أن يقوم بأمور أخرى أقل قيمة، من قبيل: الصيد وغيره؛ وذلك لأنه صاحب حق، ويمكنه في ضوء هذا الحق (حق الاستفادة من القارب الذي وضع تحت تصرّفه) أن يعمد إلى ترك الفعل الذي يكون مطلوبًا جدًا من الناحية الأخلاقية، وأن يقوم بدلًا من ذلك بما هو أقل قيمة.

إن هذا الإشكال لا يرد على نظرية المنفعة؛ وذلك لأن صاحب الحق في ضوء نظرية المنفعة إنما يكون له حق فيما لو كانت هناك منفعة مهمّة في البين. وفي المثال أعلاه يكون مقدار منفعة صيد السمك أو فعل آخر في قبال مقدار منفعة إنقاذ الغريق قليلة جدًا. وعلى هذا الأساس لا يحق لراكب القارب ـ في ضوء نظرة المنفعة ـ أن يقوم في ظل تلك الظروف المذكورة بفعل آخر غير إنقاذ الغريق من الموت.

يذهب ستينر إلى الاعتقاد بأن هذا الإشكال لا يكون واردًا ـ في حقل الحقوق القانونية (دون الحقوق الأخلاقية) ـ على نظرية الإرادة / الاختيار؛ وذلك لأن الحقوق القانونية[66] تعمل في كل حال على الدفاع عن الأفعال ذات القيمة الأخلاقية الأقل لصاحب الحق[67]، وبعبارة أخرى: إنه يرى تقدّم الحق القانوني على الحق الأخلاقي[68]، وذلك لأن الحق القانوني ـ خلافًا للحق الأخلاقي ـ يمتلك ضمانة تنفيذية خارجية (من قبيل: الشرطة وما إلى ذلك).

النتيجة
لقد هدفت هذه المقالة إلى رصد أمرين، وهما:
1 ـ تقديم شرح مختصر لبيان أهم خصائص النظريات الخاصة بماهية الحقوق في الغرب، ونعني بذلك: نظرية المنفعة، ونظرية الإرادة / الاختيار.

2 ـ بيان نقاط ضعف كل واحدة من هاتين النظريتين.
من خلال نقد وبحث أهم النظريات المرتبطة بماهية الحق في هذه المقالة، وبيان نقاط ضعف هاتين النظريتين، يمكن إيصال هذه الرسالة إلى المفكرين المسلمين، وهي أن نظام التفكير الفلسفي / الحقوقي في الغرب، على الرغم من سعة دائرة البحث في موضوع مفهوم ومضمون الحق، إلا أنه لا يمتلك الاستحكام الكافي في هذا الموضوع. على أمل أن يعمل الفلاسفة والحقوقيون المسلمون في هذا المجال على تزويد عالم العلم والمعرفة بنظريات جديدة محكمة تقوم على الأصول العقلية والفلسفية الصحيحة.

قائمة المصادر والمراجع:
أ ـ المصادر العربية والفارسية
1 ـ الإصفهاني، محمد حسين، حاشية كتاب المكاسب (1349 هـ)، تحقيق: عباس محمد آل سباع القطيفي، ج 1، المحقق، قم، 1418 هـ ش.
2 ـ كاتوزيان، ناصر، فلسفه حقوق، ج 3، شركت سهامي انتشار، ط 1، طهران، 1377 هـ ش.
3 ـ نبويان، سيد محمود، ماهيت حق (أطروحة على مستوى الدكتوراه)، مؤسسه آموزشي وپژوهشي امام خميني، قم، 1386 هـ ش.

ب ـ المصادر اللاتينية
4 - Ao, C; "Definition", in Encyclopedia Britannica, USA: William Benton, 1971, pp. 173 – 174.
5 - Bentham, Jeremy; Of Laws in General, in H. L. A. Hart ed., London: Athlone Press, 1970.
6 - Campbell, Tom; Rights, A Critical Introduction, London and New York: Routledge, 2006.
7 - Finnis, John; Natural Law and Natural Rights, Oxford: Clarendon Press, 1980.
8 - Gewirth, Alan; "Rights", in Encyclopedia of Ethics, 2nd ed. Vol. III, in Lawrence Becker and Charlott Becker eds., New York and London: Routledge, 2001, pp. 1506 – 12. 2001: 1506 – 1512.
9 - Hart, H. L. A. Essays on Bentham, Oxford: Clarendon Press, 1982.
10 - Hohfeld, Wesley; Fundamental Legal Conceptions, New Haven: Yale University Press, 1919.
11 - Jones, Peter; Rights, Houndmills and New York: Palgrave, 1994.
12 - Kamm, F. M; "Rights", in The Oxford Handbook of Jurisprudence and Philosophy of Law, in J. Coleman and S. Shapiro eds., Oxford: Oxford University Press, 2002: pp. 476 – 513.
13 - Kant, Immanuel; The Metaphysics of Morals (1797), in Mary Gregor trans., Cambridge: Cambridge University Press, 1991.
14 - Lyons, David; "Rights, Claimants and Beneficiaries", American Philosophical Quarterly, 6, 1969: p. 176; and in Theories of Rights (2006), in C. L. Ten ed., Gower House: Ashgate, pp. 79 – 91.
15 - MacCormick, Neil; "Rights in Legislation", in Law, Morality and Society: Essays in Honour of H. L. A. Hart, in P. Hacker and J. Raz eds., Oxford: Oxford University Press, 1977: pp. 189 - 209.
16 - MacCormick, Neil; "Rights in Legislation", Oxford: Oxford University Press, 1982: pp. 113 - 232.
17 - Raz, Joseph; The Morality of Freedom, Oxford: Clarendon Press, 1986.
18 - Simmonds, N. E; "Rights at the Cutting Edge", in A Debate Over Rights, Oxford: Clarendon Press, 1998: pp. 113 - 232.
19 – Steiner, Hillel; "Working Rights", in A Debate Over Rights, Oxford: Clarendon Press, 1998, p. 233 – 301.
20 - Steiner, Hillel; "Moral Rights". In The Oxford Handbook of Ethical Theory, in David Coop ed., Oxford and New York: Oxford University Press, 2006: pp. 459 – 479.
21 - Tuck, Richard; Natural Rights Theories, Cambridge, New York and Melbourne: Cambridge University Press, 1979.


---------------------------------
[1][*] - نُشرت هذه المقالة في نصّها الفارسي تحت عنوان (چالشي در مهم ترين نظريه هاي فلسفي غرب درباره معناي حق)، في مجلة حقوق تطبيقي، 88، ج 7 العدد: 2، سنة 1390 هـ ش، من ص 103 إلى ص 122.
[2][**] - أستاذ مساعد في حقل فلسفة الحقوق في مركز أبحاث الحوزة والجامعة.
- تعريب: السيد حسن علي مطر.
[3] - Benefit / Interest Theory.
[4] - Will / Choice Theory.
[5] - إن التعريف المصداقي يعني بدلًا من بيان مفهوم أمر ما، يتمّ اللجوء ـ من خلال الإشارة إلى مصاديقه ـ إلى ذكر بعض أبرز خصائصه. واليوم نجد من بين أكثر التعاريف الشائعة بين فلاسفة الغرب هو التعريف المصداقي (الإشاري) والذي يُسمّى بالتعريف الصوري (Ostensive Definition) أيضًا. للحصول على المزيد من الوضوح، انظر:
(Ao, C; “Definition”, in Encyclopedia Britannica, USA: William Benton, 1971, p. 174).
[6] - إن سبب اشتهار هاتين النظريتين من بين جميع النظريات المرتبطة بمحتوى الحق يعود إلى أهميتهما الأكبر، وكونهما أكثر قابلية للدفاع بالقياس إلى سائر النظريات ذات الصلة في الغرب. وقد تمّت الإشارة في بعض الآثار الخاصة بمفهوم الحق إلى هذه الشهرة أو الأهمية بشكل صريح أو ضمني.
من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن جونز (Jones)، وجيورث (Gewirth)، وكام (Kamm) عند بيان النظريات الخاصّة بالمفهوم ومحتوى الحث، قد ذكروا خصوص هاتين النظريتين الأكثر انتشارًا فقط (Jones, Peter; Rights, Houndmills and New York: Palgrave, 1994: 26; Gewirth, Alan; “Rights”, in Encyclopedia of Ethics, 2nd ed. Vol. III, in Lawrence Becker and Charlott Becker eds., New York and London: Routledge, 2001, pp. 1506 – 12. 2001: 1508; Kamm, F. M; “Rights”, in The Oxford Handbook of Jurisprudence and Philosophy of Law, in J. Coleman and S. Shapiro eds., Oxford: Oxford University Press, 2002: p. 481). إن هذا الأمر يُشير إلى أن هاتين النظريتين هما الأهم من بين سائر النظريات الأخرى في هذا الشأن.
يُضاف إلى ذلك أن بعض المؤلّفين قد أكّد على أهمية أو شهرة هاتين النظريتين. للمزيد من الاطلاع، انظر:
(Steiner, Hillel; “Moral Rights”. In The Oxford Handbook of Ethical Theory, in David Coop ed., Oxford and New York: Oxford University Press, 2006: 463); (Campbell, Tom; Rights, A Critical Introduction, London and New York: Routledge, 2006: 43).
[7] - Bentham.
[8] - Jhiring.
[9] - Austin.
[10] - Lyons.
[11] - MacCormick.
[12] - Raz.
[13] - Kramer.
[14] - Classical and Modern Benefit / Interest theory.
[15] - See: Simmonds, N. E; “Rights at the Cutting Edge”, in A Debate Over Rights, Oxford: Clarendon Press, 1998: p. 138.
[16] - على الرغم من اشتهار أن جيرمي بينثام (Jeremy Bentham) هو أول من فسّر الحق بالربح والمنفعة الناتجة عن التكليف، ولكن في الحقيقة فإن المؤسس لهذه النظرية في الغرب قبل قرن من بينثام، وهو الفيلسوف وعالم الحقوق البروتستانتي صاموئيل بوفندورف (Samuel Pufendorf) (1632 - 1694). (See: Tuck, Richard; Natural Rights Theories, Cambridge, New York and Melbourne: Cambridge University Press, 1979: p. 1).
[17] - See: Bentham, Jeremy; Of Laws in General, in H. L. A. Hart ed., London: Athlone Press, 1970: p. 220.
[18] - See: MacCormick, Neil; “Rights in Legislation”, in Law, Morality and Society: Essays in Honour of H. L. A. Hart, in P. Hacker and J. Raz eds., Oxford: Oxford University Press, 1977: p. 192.
[19] - See: Lyons, David; “Rights, Claimants and Beneficiaries”, American Philosophical Quarterly, 6, 1969: p. 176; and in Theories of Rights (2006), in C. L. Ten ed., Gower House: Ashgate, pp. 79 – 91.
[20] - The Morality of Freedom.
[21] - See: Raz, Joseph; The Morality of Freedom, Oxford: Clarendon Press, 1986: p. 166.
[22] - See: Raz, Joseph; The Morality of Freedom, Oxford: Clarendon Press, 1986: p. 170.
[23] - See: Ibid, 1986: p. 166.
[24] - See: Ibid, 1986: p. 289.
[25] - See: Ibid, 1986: p. 183.
[26] - See: Kamm, F. M; “Rights”, in The Oxford Handbook of Jurisprudence and Philosophy of Law, in J. Coleman and S. Shapiro eds., Oxford: Oxford University Press, 2002: p. 483.
[27] - لقد طرح صاحب السطور هذا الإشكال على البروفيسور روز في اتصال إلكتروني كان له معه. وكان جواب روز عن هذا الإشكال بقوله؛ أولًا: إن مرادنا من الحق هو حق الادعاء (claim right) بحسب مصطلح هوفيلد (Hohfeld). وبعبارة أخرى: إن المراد من الحق في البحث الخاص بمفهوم الحق ليس هو جميع الأنواع الأربعة للحق؛ بل خصوص نوع واحد منها فقط. وثانيًا: إن مسألة الحق والتكليف إنما ترتبط بالناس، وأما الله فلا هو صاحب حق ولا تكليف عليه. إن هذا الجواب يُثبت أولًا: أن استدلال روز على كون معنى الحق هو المنفعة إنما هو من نوع الاستدلال على أمر أخص من المدّعى؛ إذ قد صرّح بنفسه أن مراده من الحق ليس هو جميع أنواع الحقوق الأربعة بحسب مصطلح هوفيلد، هذا في حين أن عباراته عند تعريف الحق في بيان نظرية المنفعة تشمل جميع أنواع الحق. وثانيًا: إن استعمال مفردة الحق من قبل هذا الفيلسوف في حقل الحقوق ـ مثل أكثر فلاسفة الحقوق في الغرب ـ أنما يختص بالأنظمة الحقوقية للإنسان. إن هذه الأنظمة الوضعية التي ترى نفسها متحرّرة من قيود الأخلاقيات، لا شأن لها بحقوق الكائنات غير المادية (والتي يقف الله على رأسها).
[28] - Wesley Hohfeld.
[29] - claim right.
[30] - liberty right.
[31] - power right.
[32] - impunity right.
[33] - See: Hohfeld, Wesley; Fundamental Legal Conceptions, New Haven: Yale University Press, 1919: p. 36.
[34] - في بعض المراسلات الألكترونية مع أحد المؤسسين لنظرية الاختيار وهو هيلل ستينر (Hillel Steiner)، ذهب ـ ضمن تأييده لورود هذا الإشكال على نظرية المنفعة ـ إلى تسمية هذا النوع من حقوق الله بحق الحرية.
[35] - في هذا النوع من الموارد لا يمكن القول: إن للدولة حقًا؛ لأن الدولة ليست صاحبة منفعة.
[36] - See: Hart, H. L. A. Essays on Bentham, Oxford: Clarendon Press, 1982: p. 187.
[37] - See: Steiner, Hillel; “Working Rights”, in A Debate Over Rights, Oxford: Clarendon Press, 1998: p. 284.
[38] - انظر: نبويان، سيد محمود، ماهيت حق (أطروحة على مستوى الدكتوراه)، ص 120، مؤسسه آموزشي وپژوهشي امام خميني، قم، 1386 هـ ش. (مصدر فارسي).
[39] - Kant.
[40] - Savigny.
[41] - Kelsen.
[42] - Wellman.
[43] - William of Okham.
[44] - See: Finnis, John; Natural Law and Natural Rights, Oxford: Clarendon Press, 1980: p. 228 fn.
[45] - See: Simmonds, N. E; “Rights at the Cutting Edge”, in A Debate Over Rights, Oxford: Clarendon Press, 1998: p. 134.
[46] - See: Kant, Immanuel; The Metaphysics of Morals (1797), in Mary Gregor trans., Cambridge: Cambridge University Press, 1991: p. 51.
[47] - See: Kant, Immanuel; The Metaphysics of Morals (1797), in Mary Gregor trans., 1991: p. 56.
[48] - H. L. A. Hart.
[49] - وقد أعاد هارت نشر هذه المقالة “Bentham on Legal Rights” مجدّدًا ضمن مقالات أخرى في كتاب صدر له تحت عنوان (Essays on Bentham) (1982 م).
[50] - إن المراد من الحق هنا هو ذات حق الادعاء (Claim Right) في تقسيمات هوفيلد.
[51] - See: Hart, H. L. A. Essays on Bentham, Oxford: Clarendon Press, 1982: p. 183 – 184.
[52] - لقد عمد هيلل ستينر (Hillel Steiner) الذي يُعدّ حاليًا واحدًا من المؤسسين لنظرية الإرادة والاختيار في حقل الحق، أضاف هذا المورد بدوره إلى اختيارات صاحب الحق. انظر: (Steiner, Hillel; “Working Rights”, in A Debate Over Rights, 1998: p. 240).
[53] - conceptual.
[54] - moral.
[55] - See: Steiner, Hillel; “Working Rights”, in A Debate Over Rights, Oxford: Clarendon Press, 1998, p. 248.
[56] - private and civil law.
[57] - criminal law.
[58] - See: Steiner, Hillel; “Working Rights”, in A Debate Over Rights, 1998, p. 249 - 255.
[59] - See: Kamm, F. M; “Rights”, in The Oxford Handbook of Jurisprudence and Philosophy of Law, in J. Coleman and S. Shapiro eds., 2002: 482.
[60] - See: MacCormick, Neil; “Rights in Legislation”, in Law, Morality and Society: Essays in Honour of H. L. A. Hart, in P. Hacker and J. Raz eds., 1977: p. 197.
[61] - انظر: الإصفهاني، محمد حسين، حاشية كتاب المكاسب (1349 هـ)، تحقيق: عباس محمد آل سباع القطيفي، ج 1، ص 21، المحقق، قم، 1418 هـ ش؛ كاتوزيان، ناصر، فلسفه حقوق، ج 3، ص 431، شركت سهامي انتشار، ط 1، طهران، 1377 هـ ش.
[62] - See: Steiner, Hillel; “Working Rights”, in A Debate Over Rights, 1998, p. 255.
[63] - See: MacCormick, Neil; “Rights in Legislation”, Oxford: Oxford University Press, 1982: p. 154 – 166.
[64] - See: Gewirth, Alan; “Rights”, in Encyclopedia of Ethics, 2nd ed. Vol. III, in Lawrence Becker and Charlott Becker eds., 2001, pp. 1509.
[65] - See: Steiner, Hillel; “Working Rights”, in A Debate Over Rights, 1998, p. 255 - 259.
[66] - legal right.
[67] - See: Steiner, Hillel; “Working Rights”, in A Debate Over Rights, 1998, p. 255 - 256.
[68] - moral right.