الباحث : ادارة التحرير
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 34
السنة : ربيع 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث : June / 26 / 2024
عدد زيارات البحث : 420
معلومات النشر:
اسم الكتاب: فلسفة القانون
- الكاتب: ميشيل تروبير
- ترجمة: جورج سعد
- عدد الصفحات: 127
- لغة الكتاب الأصلية: الفرنسية
- تاريخ نشر الكتاب: 2003 م
- تاريخ نشر الترجمة: 2004 م
- دار النشر: دار الأنوار للطباعة والنشر
مقدمة عامة: أقسام الكتاب
ينقسم الكتاب الذي بين أيدينا إلى مقدمة وأربعة فصول انقسمت على النحو التالي:
- الفصل الأول: ما هي فلسفة القانون؟
- الفصل الثاني: علم القانون
- الفصل الثالث: هيكلية القانون
- الفصل الرابع: المنهج التحليلي في القانون
وفي نظرة عامة وإجمالية على فصول هذا الكتاب، نجد أن الكاتب في المقدمة يعرض تكثيفًا جيدًا من جهة بيان أهمية موضوع القانون وفلسفته، فيسأل عن الأمور التي تجعلنا نخضع لحكم القانون، وعن الأمور التي تجعل «القاعدة القانونية» قانونية بالفعل: «هل لأنها صحيحة، [أم] لأنها تنبثق عن سلطة سياسية، أو لأنها مرتبطة بعقوبات في حال المخالفة؟»[1] ليخلص إلى أن هذا النوع من الأسئلة لا يُبحث بالفعل في «علم القانون»، بل هي أسئلة تتطلّب أجوبة قبلية، وبتعبير آخر «فلسفةً للقانون» قبل علم القانون نفسه.
الفصل الأول: ما هي فلسفة القانون؟
في الفصل الأول، يتعرض إلى مسألة مهمة من حيث تاريخ «فلسفة القانون»، حيث يذكر أن هذا الفرع من الفلسفة المضافة تعرّض لانتقادات حادّة في نهاية القرن التاسع عشر بسبب طبيعته المتمحضة في التجريد، فظهرت عبارة «النظرية العامة للقانون» تحت تأثير التجريبية والوضعانية، حيث تدعو لدراسة القانون القائم كما هو، وتعني بالدقة القانون الوضعي، وهذا ما أدى إلى ظهور تيارات وضعانية تدرس القانون كتيار النظرية الخالصة للقانون ورائده «هانس كلسن» وغيره.
إلا أن فلسفة القانون ببعدها التجريدي الباحث عن أسئلة من قبيل «ما هو القانون؟ وكيف يساهم ببناء العدالة؟ وغائية القانون وأنطولوجيا القانون» وغير ذلك من الأسئلة عاد رونقها عقيب الحرب العالمية الثانية، في مقابل رواد الفلسفة التحليلية في خمسينات القرن الماضي الذين أصرّوا على «النظرية العامة للقانون».
ولكن الكاتب يطرح في النهاية أن الاستعمالين وإن كان بينهما فرق على المستوى الدقيّ إلّا أن الكتّاب سواء أستعملوا «فلسفة القانون» أو «النظرية العامة للقانون» لا يختلفون في معالجة الأسس النظرية التجريدية؛ لذا يقترح أن يتم التعامل مع الاصطلاحين تعامل الترادف.
بعد هذا التمهيد يذكر الكاتب أن فلسفة القانون تمحورت حول رؤيتين أساسيتين تعتبران عمدة النظريات الأساسية حول القانون، وهما «فلسفة القانون الطبيعي، وفلسفة القانون الوضعي»، ولكن كحال أي منظور فلسفي، فإن هذين المنظورين تشعّبا إلى منظورات متعددة، ولذا نجد أن هناك فلسفات للقانون الطبيعي كما أن هناك فلسفات للقانون الوضعي.
أما منظومات القانون الطبيعي، فهي تجتمع في الإقرار بخصوصية مشتركة حول القانون ألا وهي «وجود التناظر بين القانون النابع من طبيعة الأشياء والإنسان والقانون الذي يشكّل القواعد الآمرة والناهية في الدولة أو المجتمع»، بخلاف القانون الوضعي الذي ينفي «عينية القانون الطبيعي»، فلا تقرّ الفلسفات الوضعية للقانون بأن على الباحث أن يجد الترابطات الواقعية بين الأشياء والتي تنعكس على هيئة قوانين اعتبارية، نعم، إن فلسفة القانون الطبيعي المتأخرة، تميّزت عن الفلسفة الكلاسيكية للقانون الطبيعي بإنكارها «الكليات» أو ما يسمّى بتبنّيها «المذهب الإسماني»، ولكنّها احتفظت بالطبيعة الواحدة للإنسان، واعتبرت أن العقل بإمكانه أن يشرّع القوانين بمجرّد تحليل طبيعة الإنسان[2]، وهذا ما كان أساس نظرية حقوق الإنسان.
والصراع بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي اتّخذ أشكالًا متعدّدة، ومستويات متفاوتة من الجدال، حيث نجد تارة أن بعض فلاسفة القانون يعتبرون أن التناقض وصل إلى درجة لا يمكن الجمع بين قبولهما معًا، وتارة أخرى نجد أن بعض فلاسفة القانون حاولوا الجمع بينهما بالقول إن القانون الطبيعي هو صورة «ما يجب أن يكون عليه القانون الوضعي»، وأما القانون الوضعي فهو «أفضل ما هو ممكن وكائن».
وكيف كان، فالنقد الأساسي والمركزي الذي يوجّهه الوضعانيون لفلاسفة القانون الطبيعي، هو أن فلسفة القانون الطبيعي ترتكز على قضية «الإدراكية الأخلاقية» أي المقولة «التي تقول بوجود قيم موضوعية وقابلة للمعرفة. غالبية الوضعانيين يعتبرون على العكس أن قيمًا كهذه هي غير موجودة»[3]، وفي الأساس الوضعية تنظر نظرًا «هيوميًا وكانطيًا» إلى القانون واستناده إلى حقائق القيم والأخلاق، وبالتالي «العدالة [مثلًا] بالنسبة للوضعانيين هي إذًا مفهوم ذاتي ليس إلا، وبالتالي نسبي»[4].
الوضعية القانونية، كانت ذات فروع وتشعبات، فبعض الوضعيين القانونيين جعلوا أساس القانون – بعد استبعاد النظرية الطبيعية للقانون - هي السلطة السياسية التي تضع القانون وتكتسب القاعدة القانونية بسبب القدرة السياسية للسلطة على المعاقبة والتجريم على مخالفتها معناها وقانونيتها، مضافًا إلى أن جملة من القانونيين الوضعيين طرحوا ضرورة التفريق بين القانون والأخلاق، واعتبروا أن قانونية القانون ليس بالضرورة أن ترجع إلى أخلاقيته، فالقانون له نظامه الخاص كما أن للأخلاق – لو قلنا بعلم خاص للأخلاق - نظامه الخاص، ولا ينبغي الخلط بينهما.
الفصل الثاني: علم القانون
في الفصل الثاني، وهو تحت عنوان «علم القانون» يطرح الكاتب الرأي الرافض لأصل وجود علم قانوني، باعتبار أن القانون إنما هو ممارسة عملانية خارجية، وليس أمرًا نظريًا له علم مستقلّ، خصوصًا عند الذين أنكروا الإدراكية الأخلاقية كما تقدّم، ثم يخلص إلى أنه بالإمكان تعميم علم القانون ليكون علمًا وصفيًا للمنظومة القانونية دون خوض في «معايير القانون»، مراعاةً للرافضين للإدراكية الأخلاقية.
ويؤكّد أن من أهم الصعوبات التي واجهت التجريبيين الوضعيين في تأسيسهم لعلم قانون هو أن التجريبية كمنهج ومبدأ معرفي إنما تصلح لدراسة الوقائع الموجودة، والحال أن القانون ليس من جملة الوقائع التي يمكن دراستها بطريقة تجريبية[5]، وأمّا القول بأن علم القانون يرتكز على دراسة القيم لا الوقائع فهو ارتداد إلى فلسفة القانون الطبيعي وخروج عن الوضعية، وفي هذا السياق جاء اقتراح فيلسوف القانون هانس كلسن باعتبار أن الذي يبحث عنه علم القانون ليس الوقائع الحادثة، بل الوقائع التي يجب أن تقع بحسب ما يقرّه القانون، فكان لاقتراحه بعد «وقائعي» دون الخوض في القيم والمعايير الأخلاقية، ولكن هذه الرؤية اعتبرت من قبل الوضعانيين الجدد ليست إلا مراوغة أعادت كلسن إلى أن يكون فيلسوف قانون طبيعي.
في المقابل طرح ألف روس افتراضًا آخر لإدخال علم القانون ضمن العلوم التجريبية، وهو دراسة القانون ضمن سلوك القضاة، فالبحث عن القانون ليس إلا بحثًا عن وقائع خارجية هي ما يطبقه القاضي فعلًا، وبالتالي يسمح علم القانون بالتنبّؤ بسلوك القضاة، وأهم نقض وُجّه لهذا الافتراض هو أن ذلك يجعل القانون موضوعًا من موضوعات السوسيولوجيا أو السيكولوجيا وليس علمًا قائمًا برأسه، لأن التنبّؤ بما يفعله القاضي يجعلنا ندرس فضاءه النفسي والاجتماعي الذي أصدر حكمه في ظله.
ثم يتعرض الكاتب لمحاولات أخرى، وكل ذلك ضمن إطار «البحث عن مخرج لمعضلة إدخال علم القانون ضمن العلوم التجريبية».
ومن المعضلات الأخرى التي طرحها الكاتب أمام «علمية علم القانون» هو أن علم القانون لو أريد له أن يكون علمًا تجريبيًا، فلا بد أن يكون له صبغة سببية على غرار العلوم التجريبية، فكما أننا نقول إذا بلغ الماء درجة 100، فإنه يصل إلى مرحلة الغليان، فلا بد أن تتوفر هذه الخاصية في علم القانون، والحال أن هذا الأمر مفقود، إذ يمكن أن يسرق شخص ولكن لا يتم سجنه[6].
الفصل الثالث: هيكلية القانون
الفصل الثالث من هذا الكتاب، وهو تحت عنوان «هيكلية القانون»، يشرع بالبحث عن ماهية القواعد القانونية، ويطرح في هذا السياق نظرية رونالد دوركين في التمييز بين المبدأ والقاعدة القانونية، حيث يقول إن المبدأ هو أمر أخلاقي وليس أمرًا منصوصًا من قبل السلطة، والمبدأ قد يستند إليه القاضي ليعلّق الحكم طبق قاعدة قانونية كمبدأ الاستفادة من الضرر الذي أصيب به الغير لتحصيل منافع معينة.
وفي الحقيقة إن طروحات دوركين جاءت مقابل ما قد يشاهد من استنسابية عند القاضي في المحاكم عند الحكم في قضية غير منصوصة القاعدة، وعند دوركين المبادئ ليست غير أمور يتم اكتشافها من القانون وأنها أشبه ببنى تحتية بنيت عليها القواعد القانونية.
ومن الأبحاث التي طُرحت في هذا الفصل، بحث «مصادر القانون» والتي ذكر ضمنها النقاش حول كون العرف أو اجتهاد القضاة من المصادر المتّبعة في خلق القانون، وكذا بحث «العلاقة بين الدولة والقانون» وأن الدولة هل هي وليدة القانون أم أنها مصدر القانون؟
الفصل الرابع: المنهج التحليلي في القانون
في الفصل الرابع، وتحت عنوان «المنهج التحليلي في القانون» يسأل الكاتب، عن آليات العقل المستخدمة في تفسير وتحليل القانون، وطرح بحثًا مهمًا وهو العلاقة بين المنطق والقانون، وسأل إذا كان بالإمكان استخدام «المنطق» كآلية تحليلية للقانون، وعمق الإشكالية في ذلك هي أن المنطق يعالج قضايا خبرية يصحّ وصفها بالصدق أو بالكذب، بينما القوانين عبارة عن إنشاءات كالأوامر والنواهي والتي لا توصف بالصدق أو بالكذب.
وطرح في إطار الإجابة على هذا السؤال مذهب هانس كلسن، وهي أن المنطق لا يجري في القانون لا من حيث هو أوامر ونواهي، بل من حيث هو معبّر عن إرادة المشرّع والإرادة ليست خاضعة للقوانين المنطقية.
وفي المقابل هناك وجهة نظر تقول إن الإشكالية شكلية، إذ بالإمكان تحويل القضايا القانونية إلى قضايا خبرية وبالتالي يجري فيه القياس والقواعد المنطقية، فقول القانون «عاقبوا السارقين» هو بمعنى: «معاقبة السارقين أمر واجب»، وهذا معنى خبري، ولكن الكاتب يعرّض هذه المناقشة للنقد.
نقاط نقدية
يلاحظ في هذا الكتاب إغراق الكاتب في بيان آراء هانس كلسن القانونية سواء من الناحية الإيجابية -تأييد النظرية - أو السلبية – نقدها -، والحال أن في هذا الأمر إغفال لنظريات أخرى مهمة طُرحت في مجال القانون وفلسفته.
إن الكثير من الإشكاليات التي طُرحت في هذا الكتاب، والتي شكّلت بحسب الكاتب معضلات أمام تأسيس علم قانون وضعي، تم بحثها بعد التسليم ببطلان نظرية القانون الطبيعي، وبعبارة أخرى، عندما طرح مثلًا فكرة العلاقة بين الأخلاق والقانون، والمبادئ والقانون – عند رونالد دوركين - تم البحث أن الوضعانية القانونية هل تسمح بما ذكره دوركين من استناد القواعد القانونية إلى مبادئ أخلاقية دون «الابتلاء» بالنظرية الطبيعية للقانون أم لا؟ فالكاتب يغفل عن أن هذه الأسئلة بعينها لها مجال في البحث عند فلاسفة القانون الطبيعيين أو الذين يقولون بالحقائق العينية التي ينطلق منها القانون، فمثلًا القانون والشريعة الإسلامية، طرحت «القانون الإلهي» الذي له مبادئ حقيقية وله استناد ما إلى الواقع التكويني للوجود، وفي الوقت نفسه جرى البحث عند الإسلاميين حول الحدود الفاصلة بين المنظومة القانونية والمنظومة الأخلاقية، وأن الأخلاق هل هي «أوامر إلزامية» على حد «الأوامر الإلزامية القانونية» أم لا؟ فكان من الإنصاف في هذا الكتاب طرح الإشكاليات الأساسية وإعطاء مجال للآراء الواردة حول الإجابات عن هذه الأسئلة عند كلّ من فلاسفة القانون الوضعي وفلاسفة القانون الطبيعي على حد سواء، لا حصر المسألة عند فلاسفة القانون الوضعي.
عند البحث عن «نظريات تفسير القانون» قارب الكاتب عدة افتراضات ونظريات في هذا المجال، من قبيل التفسير الرمزي واللغوي للنص القانوني، والتفسير الجيني الذي يرتكز على الإرادة الفعلية لصاحب النص، أو التفسير الغائي للنص بالقياس إلى الغاية التي لأجلها تم وضع القانون، واللافت أن الكاتب جعل هذه الأساليب متقابلة ومتضادة في بعض الأحيان، ولم يعر اهتمامًا للبحث عن «الإرادة الجدية» لواضع القانون، واعتبر أيضًا أن البحث عن إرادة واضع القانون يحتّم إصباغ القانون صبغة أيديولوجية ترجع إلى آراء واضعيه وهو غير صحيح، والحال أن هذه القضية محل تأمل، خاصة إذا أخذنا بعض المبادئ التي يبحث عنها مثلًا في التشريع والاجتهاد الإسلامي، إذ إن اللغة القانونية بحد نفسها ليست سوى تعبير عن إرادة واضع القانون، وبالتالي هي مرآة تعكس إرادة واضع القانون التشريعية، وإن القبول بالقانون كلغة وبيانات وأوامر وإيعازات وفي الوقت نفسه غض النظر عن إرادة واضع القانون ليس إلا قبولًا سفسطائيًا للقانون، أو بتعبير آخر هو حفظ للشكل دون المحتوى، وبذلك يتحوّل التفسير القانوني أمرًا نسبيًا، ويقرب في ذلك أن يكون «موتًا لمؤلف القانون وواضعه»، وهذا ما يقرّه الكاتب نفسه حيث يقول: «إن البحث عن نية صاحب النص أو عدم الاكتراث لهذا الأمر هما موقفان مرتبطان بالآراء الأيديولوجية....يفهم من هذا أن مناهج التفسير لا يمكن أن تؤدي إلى نتيجة واحد وأكيدة، لسبب بسيط وهو أن المعنى الحقيقي هو غير موجود، وأن المناهج تعطي نتائج مختلفة بحسب طريقة ترتيب (تراتبية) الحجج»[7].
اعتبر الكاتب عند حديثه عن العلاقة بين المنطق والقانون، أن ههنا إشكالية مهمة، وهي أن المنطق ينظّم الفكر الصحيح، وبتعبيره «المنطق لا يتناول إلا بيانات صحيحة، فيما القواعد [القانونية] ليست قابلة لأن تكون صحيحة أو خاطئة»[8]. ويظهر من هذه العبارة أن الكاتب ينظر بشكل أساسي للقانون الوضعي، فيعتبره عبارة عن منظومة ذات إيعازات وأوامر ونواهٍ، وبالتالي ليس جملًا خبرية بحيث يصح وصفها بالصدق أو بالكذب، بل هي – بالتعبير اللغوي - جمل إنشائية، لا يصح وصفها بالصدق أو بالكذب، وكلامه صحيح للوهلة الأولى، وهو أن ضوابط القياس في المنطق وآليات الاحتجاج تقوم على القضايا التي هي بيانات خبرية، ولكن مما ينبغي التنبيه إليه هو أن هذه الإشكالية قد ترد على القانون الوضعي، بخلاف القانون الطبيعي أو القانون الاجتهادي الذي منشؤه الاستنباط من النصوص الدينية، وذلك لأن القانون الطبيعي يسلّم برجوع كل القواعد الإنشائية القانونية إلى قضايا خبرية وبيانات تتصف بالصحّة أو الخطأ، وذلك لما تقدّم من أن القانون الطبيعي يفترق عن القانون الوضعي بوجود روابط تكوينية ناشئة من طبيعة الأشياء هي الاساس للتشريع، نعم، الكاتب أشار في خاتمة كتابه لهذا الفرق إجمالًا.
من الأمور التي ذكرها الكاتب في مورد تسجيل النقد على القانون الطبيعي أن أغلب القائلين بهذه النظرية ركنوا إلى قضية «الإدراكية الأخلاقية» وأن الإنسان يمكنه أن يدرك نظامًا أخلاقيًا له ثبات وغير نسبي ومنه ينشأ القانون، في حين ذهب القائلون بالقانون الوضعي إلى أن الأخلاق أمر نسبي ولا يمكن القول بوجود منظومة قيمية أخلاقية ثابتة ومتعالية على التبدلات الزمانية والمكانية والذاتية، والحال أن هذا الأمر من القضايا التي لا يمكن الوقوف عليها بهذا الحد فقط، فإن حكماء الإسلام ومفكريه أكثروا التصنيف والكتابة لردّ شبهة نسبية الأخلاق[9]، ومن أهم ما قيل في هذا المجال أن الفلاسفة الغربيين الذين أنكروا ثبات الأخلاق ذهبوا في الحقيقة إلى ذلك نتيجة تفسيرهم لمعيار الأخلاق بأنه الميل العاطفي فقط، فالشخص الذي يحسن إلى شخص آخر ينتابه الشعور بالرضى أو اللذة النفسية وما شاكل، وهذه أمور لا معيارية لها لأنها متمحّضة بالذاتية، والحال أن الأمر ليس كذلك بل يرجع إلى معيار حكم عقلي تارة نسميه بالعقل العملي وأخرى بالحسن بالحكمة العملية، والتي لها أحكامها العقلية النابعة عن الفطرة الإنسانية الثابتة في تبدّلات العالم وليس لإنماء الإنسان الاجتماعي أو العرقي أي دخالة فيها، «مفاد هذه النظرية أن الأخلاق ملاكها العقل، لكن العقل الأمير لا الأسير، فالإنسان في رأي فلاسفة المسلمين هو القوة العاقلة المدركة. فجوهره عقله، وسعادته هي سعادة عقله، وسعادة العقل تكون بالمعارف والحقائق الإلهية»[10].
وجدير بالذكر هنا أن قضايا القانون والأخلاق في الشريعة الإسلامية تشكّل نموذجًا فريدًا من حيث ارتباطها ببعضها، وخاصة في امتزاج البيانات القانونية القرآنية، حيث نجد أن الله سبحانه وتعالى يمزج بيان القانون بما يشتمله من حقائق تكوينية وتوحيدية وأخلاقية قيمية، وبعبارة أخرى «تم بيان الأحكام الأخلاقية والحقوقية في القرآن الكريم بصورة ممتزجة سيّما في العلاقات الأسرية والشؤون الزوجية، ففي الموارد التي بيّنت فيها الأحكام الحقوقية قاطبة هناك ذكر للأحكام الأخلاقية»[11].
وهذا يشير إلى أن الهدف الأقصى للإسلام في القانون والتشريع لا ينحصر بالتنظيم الاجتماعي وبناء شخصية «المواطن الصالح» بقدر ما هي آلية ووسيلة لإيصال الإنسان إلى الصلاح الذاتي على مستوى وجوده الأخلاقي والعقلي -العقائدي، وهو المعبر عنه بالهداية النظرية والعملية.
-------------------------------
[1] - ميشيل تروبير، فلسفة القانون، ترجمة: جورج سعد، دار الأنوار للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، 2004، صفحة 6.
[2] - ميشيل تروبير، فلسفة القانون، ترجمة: جورج سعد، دار الأنوار للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، 2004، صفحة 19.
[3] - المصدر نفسه، صفحة 21.
[4] - المصدر نفسه صفحة21.
[5] - ميشيل تروبير، فلسفة القانون، ترجمة: جورج سعد، دار الأنوار للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، 2004، صفحة 39.
[6] - ميشيل تروبير، فلسفة القانون، ترجمة: جورج سعد، دار الأنوار للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، 2004، صفحة 66.
[7] - ميشيل تروبير، فلسفة القانون، ترجمة: جورج سعد، دار الأنوار للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، 2004، 106.
[8] - المصدر نفسه 113.
[9] - راجع على سبيل المثال: الشهيد مرتضى مطهري، المفهوم التوحيدي للعالم، دار التيار الجديد.
الشهيد مرتضى مطهَّري، الفكر الإسلامي وعلوم القرآن الكريم: دار الإرشاد، بيروت، ط1،ـ 2009م.
العلامة الطباطبائي، تفسير الميزان.
[10] - الشهيد مرتضى مطهري، فلسفة الأخلاق، ترجمة: وجيه المسبّح، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، لبنان – بيروت، 1421، صفحة 47.
[11] - الشيخ مصباح يزدي، الأخلاق في القرآن، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، 2004، صفحة 59.