الباحث : حسين إبراهيم شمس الدين
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 35
السنة : صيف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 21 / 2024
عدد زيارات البحث : 84
لقضية التربية والتعليم فعالية وحيوية مستمرة على مر العصور لارتباطها الوثيق بالرؤية المتجددة للأنظمة الفكرية حول الإنسان وما يمثّل من حيث قدراته وقواه وغاياته، فلا معنى لفلسفة إنسانية أو حضارية أو حتى سياسية دون النظر إلى معنى الإنسان:
ما هو الإنسان؟
هل هناك وحدة نوعية سارية في جميع البشر ؟
هل قابليات الإنسان وقدراته واحدة أو متغيرة ونسبية؟
هل غايات البناء الفردي للإنسان تابعة لتطورات اجتماعية وثقافية أم إن التطورات الاجتماعية والثقافية معلولة للبناء الفردي وغاياته؟
أجوبة هذه الأسئلة تمثّل بنية تحتية لأية نظرة تربوية يقترحها أي باحث أو مفكر في الموضوعات الجزئية للتربية، كموضوع التدرّج في تلقي العلوم وكيفيتها، والأهداف القصوى للعملية التربوية، وكسألة العقوبة في عملية التربية، وتقنيات تلقي العلوم، أو تقسيم المعرفة وفق المراحل العمرية، فعلى سبيل المثال من يؤمن بأن الخيال الإنساني يمثل قمة البناء الفردي للإنسان، سيجعل دراسة الأدب والشعر على قمة هرم العملية التربوية، كما أن من يجعل الخيال مرؤوسًا لأمور أعلى من قبيل الدين والعقل والنظام الخُلقي الروحي، فسيكون للتربية القيمية والعقدية عنده الدور المدبّر والمربي للخيال.
في المقابل من يتبنى رؤية عبثية أو لاأدرية تجاه الإنسان والوجود والقيم سيكون عاجزًا عن تبني أية نظرية تربوية، وبالتالي البناء عليها في تأسيسه التنظيمي للعملية التربوية، ومن هنا نجد أن آباء الفلسفة الغربية الحديثة التفتوا إلى هذه القضية وصنفوا في مجال التربية، وفي القرون الأخيرة نجد أمثال برتراند راسل على سبيل المثال يقول:" التربية التي ننشدها لأطفالنا لا بد أن تتوقف على مثلنا العليا للخلق الإنساني، وعلى الدور الذي نرجو أن يكون لأطفالنا في المجتمع إذا كبروا. فالمؤمن بالسلم لن يبتغي لأولاده نفس التربية التي يستجيدها المؤمن بالحرب، ولأفكار التربوية للشيوعي لن تكون نفس نظرة القائل بحقوق الفرد"[2]، ولذا نجد أن حوارنا ونقاشنا الأساسي مع التيارات التربوية الغربية في هذه الحقبة كان نقاشًا تأصيليًا وبنيويًا وفلسفيًا، لأننا على الأقل نجد أننا أمام رؤى فلسفية حول الإنسان والدين والوجود، في مقابل رؤية نتبناها حول هذه القضايا، ولم نكن أمام تيارات أهملت هذه الجوانب في انتاجها لأفكارها حول التربية.
في زمان لاحق وفي مرحلة ثانية، بدأت العملية التربوية تدخل في إطار الأبحاث الأكاديمية من إطار التحليل والدراسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، حيث بات النظر إليها عند بعض الباحثين على أنها مؤسسة من مؤسسات النظام القائم وبالتالي يجدر دراستها من باب التأثير والتأثر الاجتماعي، وتضاءلت بكثرة عملية التفكير التأصيلي الفلسفي تجاه التربية تبعًا لتضاؤل الحركة الفلسفية الوجودية بشكل عام في الغرب، والتوجه نحو الأبحاث الإمبريقية أكثر من الرؤى القيمية والوجودية، ولذا كثرت الرؤى والأبحاث والنظريات حول المدرسة وأنظمة التعليم وغير ذلك من حيث كونها أحد أجزاء " البنية الاجتماعية" لا كما كان الأمر سابقًا حيث كانت تُدرس من أبعادها الإنسانية والفلسفية والقيمية، لذا نجد أن هناك من نظر للعملية التربوية في الواقع المعاصر نظرة سلبية، حيث اعتبرها معلولة للبناء التحتي الاجتماعي والسياسي، وفي هذا السياق كتب بيار بورديو مثلًا كتابه " إعادة الانتاج" الذي يمثل رؤية نقدية لنسق التعليم والتربية، حيث تناول فيه كيفية تأثير النظام التعليمي على إعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية والثقافية، وتناول العلاقة بين التعليم والطبقات الاجتماعية، ويطرح فكرة أن النظام التعليمي لا يعمل فقط كوسيلة للمعرفة، بل أيضًا كأداة لإعادة إنتاج القيم والمعايير الثقافية التي تعزز الفوارق بين الطبقات[3].
مرحلة ثالثة مرّ بها التعامل البحثي والمعرفي الغربي مع قضية التربية والتعليم، هي مرحلة الطفرات والثورات المتعلقة بالحركات الاجتماعية والتي تزامنت في عصرنا الحاضر مع الانبعاث الإعلامي والتكنولوجي الهائل، حيث صارت المؤسسة التعليمية – كغيرها من المؤسسات- تابعة لموجات " منطق السوق" في الأفكار، فنجد أن تيار النسوية وتيار الشذوذ الجنسي على سبيل المثال الذي شكّل طرحًا صراعيًا في أزمنة متأخرة على المستوى الإعلامي والمعرفي انعكس في غرف صياغة وصناعة المناهج التعليمية، فلم يعد الحديث اليوم كالحديث في العقود السابقة عن مفردات كالمعرفة والفردانية وجدوائية بعض المعارف وغير ذلك، بل انتقل النقاش ليكون متحورًا حول صيرورة المدرسة والعملية التعليمية والتربوية مواكبة للأحداث المتتالية التي تصيغ العالم، ففقدت بذلك العملية التعليمية والتربوية محوريتها في المجتمعات أيضًا، كلّ ذلك تزامنًا مع تحوّل الإنسان في الفكر الغربي إلى " مستهلك" للأنماط الحياتية المنتجة له إعلانيًا وإعلاميًا أكثر من وصفه " إنسان" له شخصيته وطبيعته الحقيقية التي لا بد من التعامل معها لا بمنطق الاستهلاك وسوق الأفكار.
أمام هذه التحولات، نجد أن مسألة التربية والتعليم في الفكر الغربي على طول المراحل تم لحاظها من قبل المفكرين في سياقين ممتزجين، أحدهما سياق التنظير للعملية التربوية والتعليمية من حيث الأهداف والغايات والمنطلقات وهي ما يمكن أن نصطلح عليه بفلسفة التربية والتي بدأت في المرحلة الأولى وبدأت تبهت مع الوقت، والسياق الثاني هو التنظير لهذه العملية من حيث تقنيات التعليم ومساراتها التطبيقية مع الأخذ بعين الاعتبار التطور التقني في العصور الحاضرة، ولذا نجد أنه قد اندرجت تحت عنوان " نظريات التربية والتعليم" رؤى شاملة لآليات التعليم أكثر من كونها تبحث عن الافتراضات الفلسفية المسبقة للعملية التربوية، وقد راج هذا السياق في العقود الأخيرة حيث ضعف التنظير حول قضية الإنسان والتربية من ناحية فلسفية عميقة، وانصب الجهد على مواكبة العملية التعلّمية والتعليمية مع مسارعة التكنولوجيا في التطور وبشكل خاص في زمن الذكاء الاصطناعي الذي طرح أمام المشتغلين في ميادين العلم أسئلة تعيد تعريف مفاهيم من قبيل: الإبداع والذكاء وإنتاج المعرفة وقيمة الشهادات العلمية وغير ذلك[4] .
مقابل هذه التحولات، نجد أن المجتمعات الإسلامية كانت تتخذ موقفًا انفعاليًا تجاه قضايا المدرسة والتعليم والمراحل العمرية وغيرها من المسائل، في حين نجد أن الفكر الفلسفي ولا سيما ما يُطلق عليه " الحكمة العملية" في متون الفلسفة الإسلامية مضافًا إلى النصوص الدينية كالقرآن والروايات المشتملة على كم كبير من الإرشادات والتوجيهات تم إغفالها في الدراسات، والحال أنها تعطي الهوية والملامح الأصيلة حول الإنسان وبالتالي الرؤية التربوية، وكمثال على ذلك نجد أن المحقق الطوسي في كتاب " أخلاق ناصري" طرح فصلًا مستقلًا حول " سياسة الأولاد وتدبيرهم" ذكر فيه بعض القضايا التأسيسية، حيث قال في بعضها " عندما تتم أيام رضاعه، يجب الانشغال بتأديبه وتدريبه على الأخلاق الفاضلة قبل أن يتعوّد على الأخلاق الفاسدة، إذ يكون الطفل مستعدًا لها، وأكثر ميلًا للأخلاق الذميمة بسبب ما في طبيعته من النقصان والحاجة. وينبغي الاقتداء بالطبيعة في تهذيب أخلاقه، أي كلما ظهرت مزية أكبر من غيرها في بنية الطفل يجب الإقدام على تكميل تلك المزية"[5] .
وقد انبعث الفكر التربوي الإسلامي بشكل ضعيف محاولًا التنقيب مجددًا حول الأصول النظرية للتربية بوصفها نتاجًا اجتهاديًا إسلاميًا، يشرع من النظر إلى الفكر الأصيل الفلسفي والقيمي، وكانت هناك مساهمات عديدة تأسيسية لم تصل إلى درجة النضج الكافي، مثل محاولات الشيخ مرتضى مطهري في كتابه " التربية والتعليم في الإسلام" والعلامة الطباطبائي في "المقالات التأسيسية" على سبيل المثال لا الحصر.
ولذلك كان من الضروري التوجه نحو هذه القضية بشكل مركّز بحيث حاولنا في هذا العدد من مجلة الاستغراب رصد وتحليل ونقد أهم الرؤى التربوية في الفكر الغربي القديم والمعاصر، ووضعها من ثمّ على ميزان النقد والتمحيص، انطلاقًا من التصورات والتعريفات حول عملية التربية والتعليم حيث نجد أن عملية التعريف والفهم لأهم المفاهيم لا بد من إعادة صياغتها وفهمها ونقدها قبل الوصول إلى المسائل والقضايا، مرورًا بالقضايا الكبرى كقضايا العلمنة وأثرها في التنشئة المعاصرة، وقضية العلاقة بين فلسفة الوجود والتربية وربط " ما هو كائن" "بما ينبغي أن يكون"، وصولًا إلى معالجة بعض القضايا الجزئية مثل قضية المراحل العمرية ونظرية تعدد الذكاءات وغير ذلك.
----------------------
[1]* مدير تحرير مجلة الاستغراب.
[2]. راسل، في التربية، 14.
[3]. في باب «مراجعات الكتب» قمنا بكتابة مراجعة لهذا الكتاب مع ملاحظات نقدية.
[4]. في الرسوم البيانية التي جعلناها للنظريات التربوية والتعليمية في هذا العدد تظهر هذه القضية بوضوح.
[5]. الطوسي، أخلاق ناصري، 280.