الباحث : الشيخ الدكتور محمد نمر
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 35
السنة : صيف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 21 / 2024
عدد زيارات البحث : 1730
الملخّص
تعتبر نظرية النمو المعرفي إحدى أهم نظريات علم نفس النمو التي تفسر كيفية تشكل الصورة الذهنية للعالم عند الطفل، كما تهتم بتفسير ودراسة كيفية تطور ونمو القدرات العقلية والمعرفية – خاصة عمليات التفكير والذاكرة- للفرد وفق مراحل مختلفة من الحياة. وتعتبر أيضا من أهم النظريات التي تساعدنا على فهم هذا التطور وتأثيره على السلوك والتعلم، مما يؤدي إلى تطوير العملية التعليمية بشكل كبير.
من أهم رواد هذه النظرية نجد جان بياجيه jean piage- الذي يعتبر رائد هذه النظرية والأكثر تنظيرا لها والمدافعين عنها، كما نجد أن آراءه في النمو المعرفي واستنتاجاته هي الأكثر انتشارا والأكثر تأثيرا في التربية والعمليات التعليمية والتخطيط التربوي، ومن رواد هذه المدرسة- ليف فيجوتسكي Lev Vygotsky، جيروم برونر gerome bruner، هانز وارنر henz werme، وغيرهم.
وعلى الرغم من أهمية نظرية النمو المعرفي إلا أنه يمكن أن توجه اليها انتقادات كثيرة نذكر منها : الانحياز الثقافي، انتقائية في الأبحاث، التأثير على التعليم، التبسيط المبالغ به، الافتقار إلى الدعم العلمي التجريبي، قلة المرونة، عدم القدرة على تفسير التغيرات الشخصية، اغفال الجانب الروحي والتركيز على الجانب المادي، وأخيرًا مشكلة الانطلاق من واقع المجتمعات الصناعية وتقسيم مراحل العمر على أساس هذا الواقع الوظيفي، فكل النظريات تسعى لخدمة ثقافة وتربية المجتمعات الصناعية دون أن تكون ناظرة لحياة الانسان بشكل عام.
الكلمات المفتاحية: نظرية النمو المعرفي، المراحل العمرية، التربية والتعليم.
مقدمة:
تعتبر قضية المراحل العمرية في البحوث النفسية والتربوية، واحدةً من المسائل الاساسية الَّتي تعتبر عنصراً هاما في صناعة المنهج التربوي والتعليمي، وصناعة السياسات التربوية والتعليمية، وكتابة المتون التعليمية والتربوية، وغير ذلك. إذ إنّ كلّ التأسيس المقصود للتربية، والعمليات التربوية المتنوعة، سيتم إخراجها في صيغةٍ عملية تستهدف الإنسان، الذي يمرُّ بمراحل نموٍّ جسديةٍ ظاهرية، وكذلك معرفية واجتماعية وثقافية وغير ذلك. لذلكَ، فإنّ تحديد هذه المراحل العمرية، ولكونها مضمارًا حقيقياً لكل العملية التربوية التي تشكّل جزءًا رئيساً من التنشئة الاجتماعية[2] التي تخضعُ إلى عمليات ثقافية معقّدةٍ للجماعة البشرية التي ينتمي إليها هذا الإنسان، فإنَّ التَّحديد الزَّمني للمراحل العمرية وطبيعتها، وخصائصها، والأهداف التربوية الخاصة بكلِّ مرحلةٍ، وغير ذلك، يعدُّ عملاً ضرورياً. وهو كذلك، يعبّر – من زاويةٍ تربوية- عن روح الفلسفة التربوية والأطر النظرية والمعرفية التربوية التي تؤمن بها ثقافة هذه الجماعة، وتجد أنها تلبّي احتياجاتها وأهدافها الوجودية والتي أيضاً ستكون جزءاً مكوّنا رئيسا من تصورات وبنية الفرد فيها، مع الأخذ بعين الاعتبار كذلك ذلك النموّ الجسدي المشترك بين جميع البشر في كل مكان وزمان، كعنصرٍ لا يمكنُ التدخّل فيها ثقافياً وتربويا بشكل مباشرٍ.
وبحسب الملاحظة والتجربة نجد أنّ الانسان الوليد يملك الخبرة الحسية والعمليات الإدراكية اللازمة لاكتساب المعرفة ببيئته، وعلى ذلك يبدو أنّ الحواسّ البصرية والسمعية واللمسية والشمية والتذوقية تعمل بدرجات متفاوتة في الطفولة المبكرة، وتزداد حِدَّة مع تقدُّم السن والخبرة، وفي بعض هذه العمليات الإدراكية الحسية افتراض أنّ طاقة الإثارة تزوّد الطفل بالمادة الأولية التي يقوم الطفل بتنظيمها للتعرُّف على البيئة[3].
وبعد لحاظ أنّ النموُّ المنظور إليه في علم نفس النمو هو عبارة عن عملية تستمر مدى الحياة. إذ إنّ النمو لا يقتصر على الطفولة، بل يمكن أن يحدث النمو الكمي والنوعي، في عدد من المجالات المختلفة، بمعدلات متنوعة، وفي عددٍ من الاتجاهات. كما يمكن تعديل المسار التنموي للفرد، إلى حد ما على الأقل، من خلال تعديل ظروف الحياة والخبرة، باعتبار النمو نتيجة التفاعلات بين الفرد والبيئة، وكلاهما يمكن أن يؤثر على مساره، لذلك سيكون النمو جزءًا لا يتجزأ من الثقافة والتاريخ، وإن كانت معدلات النمو تختلف باختلاف الثقافات والفترات التاريخية.
نتساءل كيف يتطور النمو المعرفي ويتطور مع العمر عند الطفل، وكيف تؤثّر هذه التغيرات النمائية في المعرفة والعمليات المعرفية، وكيف تؤثر على الأداء في عدد من الواجبات المختلفة لدى الأطفال؟
تعتبر نظرية النمو المعرفي إحدى أهم نظريات علم نفس النمو التي تفسر كيفية تشكل الصورة الذهنية للعالم عند الطفل، كما تهتم بتفسير ودراسة كيفية تطور ونمو القدرات العقلية والمعرفية – خاصة عمليات التفكير والذاكرة- للفرد وفق مراحل مختلفة من الحياة. وتعتبر أيضا من أهم النظريات التي تساعدنا على فهم هذا التطور وتأثيره على السلوك والتعلم، مما يؤدي إلى تطوير العملية التعليمية بشكل كبير.
لا تعتبر هذه النظرية أنّ الذكاء سمة ثابتة وموروثة، ويختلف ذكاء الأطفال عن ذكاء البالغين في الكيف وليس في الكم، وهذا يعني أنّ الأطفال يفكرون بشكل مختلف عن الكبار ويرون العالم بطرق مختلفة. فالنمو المعرفي عملية تحدث بسبب النضج البيولوجي (الحيوي) والتفاعل مع البيئة، ويمر الأطفال خلال هذه العملية بسلسلة من المراحل يمكن تعميمها على جميع الأطفال بمختلف ثقافاتهم ومناطقهم، بنفس الترتيب الثابت للمراحل ولكن ليس بالضرورة بنفس المعدل أو العمر. كما يشارك الأطفال في تكوين معرفتهم حول العالم، فهم ليسوا مخلوقات سلبية تنتظر من يملأ رؤوسهم بالمعرفة. لذلك ستكون أفضل طريقة لفهم تفكير الأطفال هي رؤية الأشياء من وجهة نظرهم.[4]
لا تهتم هذه النظرية بالنواتج التعليمية ولا بقياس مدى قدرة الأطفال على العد أو التهجئة أو حل المشكلات، ولا تعتبر هذه العمليات مؤشرا على مدى ذكاء الطفل، بل تهتم هذه النظرية بالطريقة التي ظهرت عليها المفاهيم الأساسية مثل فكرة العدد والشعور بالزمن والكم وإدراك السببية وما إلى ذلك.
من أهم رواد هذه النظرية نجد جان بياجيه jean piage- الذي يعتبر رائد هذه النظرية والأكثر تنظيرا لها والمدافعين عنها، كما نجد أن آراءه في النمو المعرفي واستنتاجاته هي الأكثر انتشارا والأكثر تأثيرا في التربية والعمليات التعليمية والتخطيط التربوي، ومن رواد هذه المدرسة- ليف فيجوتسكي Lev Vygotsky، جيروم برونر gerome bruner، هانز وارنر henz werme، وغيرهم.
لذلك سنقوم باستعراض أهم ما جاء في هذه النظرية ورؤيتها لتقسيم مراحل النمو المعرفي معتمدين على تقسيم جان بياجيه للمراحل العمرية باعتباره التقسيم الرائج والأكثر تداولا في الأوساط التربوية، بالإضافة إلى أهم الملاحظات والانتقادات حول هذه النظرية.
المراحل العمرية (Lifespan Development)
هناك اتفاق أولي بين المنظرين التربويين والنفسيين على مصطلح النموّ بين الباحثين بأنه عبارة عن «نمط التغيير الذي يبدأ عند الحمل ويستمر طوال العمر»[5]، على الرغم من أن هذا المسار من التغيير يشمل النمو، إلا أنه ينطوي أيضًا على التراجع الذي يحدث بسبب الشيخوخة والمرض والحوادث المتنوعة والوفاة. بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر النمو على مراحل معينة في الحياة كما كان يُعتقد سابقًا (لأنه أكثر بروزًا خلال العقدين الأولين من الحياة)، بل يشمل عمليات مستمرة حيث ينتقل الإنسان من مرحلة إلى أخرى في الحياة. وقد ظهر هذا التغيير في الافتراضات المحيطة بالتنمية نتيجة لزيادة متوسط العمر المتوقع، ويرجع ذلك أساسًا إلى التحسينات في الطب والصرف الصحي والتغذية.[6]
إنَّ العمليَّات المرتبطة بمجالات النمو الجسدية والمعرفية والاجتماعية والعاطفية تولّد تغييرات ومعالم محددة عبر فترات مختلفة من الحياة. ومن أجل فهم طبيعة ومسار هذه التغييرات بشكل أفضل، حدد علماء نفس النمو عددًا من المراحل (المعروفة أيضًا باسم فترات النمو) التي تغطي مجموعة من السنوات في حياة الشخص التي يحدث خلالها النمو. من المهم أن نلاحظ أنّ بعض المراحل تغطي فترة واحدة من الحياة (على سبيل المثال، فترة ما قبل الولادة)، في حين يمكن تقسيم البعض الآخر إلى فترات أقصر (على سبيل المثال، يمكن تقسيم مرحلة الطفولة إلى مرحلة الطفولة المبكرة والمتوسطة). وبالمثل، يمكن أيضًا تقسيم مرحلة حياة البلوغ إلى مرحلة البلوغ المبكرة والمتوسطة والمتأخرة). وتخضع كل مرحلة أيضًا لمتطلبات ومعالم وصراعات معينة، ويعتبر تحقيقها بنجاح وحلها أمرًا بالغ الأهمية للانتقال السلس من مرحلة إلى أخرى.
فعندما يتقن الأطفال ما هو مطلوب منهم في مرحلة معينة، فإنه يضع الأساس للقدرات التي يمكنهم اكتسابها في المرحلة التالية، ثم يتم استيعاب المهارات والقدرات المكتسبة حديثًا مع التعلمات السابقة، لذلك يعتبر مفهوم المراحل مفهوماً تجميعياً، فالمرحلة السابقة ال تلغي سابقتها و إنما تحتويها و تطور فيها[7].
وعلى الرغم من أنّ الأبحاث قد سلطت الضوء على ظهور معالم معينة خلال أطر زمنية محددة، فمن المهم الاعتراف بدور الفروق الفردية والتأثيرات السياقية/البيئية في لعب دور وسيط حاسم، بسبب الاختلافات في بعض الظروف البيولوجية أو التغذية أو التمارين الرياضية أو عوامل أخرى محتملة كالوراثة، وهكذا[8].
ومن المهم هنا إلفات النظر إلى الاعتبارات المختلفة التي يتم النظر فيها إلى المراحل العمرية، خصوصا عندما نقوم بالتفرقة بين Chronological age vs developmental age العمر الزمني مقابل عمر النمو، إذ العمر الزمني للطفل هو العمر بناءً على تاريخ ميلاده. عمر نمو الطفل هو العمر الذي يعمل فيه على المستوى الاجتماعي والجسدي والفكري والثقافي والعاطفي. إذ قد يظهر الطفل أصغر أو أكبر من عمره الزمني في أي من هذه المجالات. ويرتبط هذا أحيانًا بالحاجة إلى التكيف مع تجارب الحياة المبكرة التي كانت صعبة وتتطلب من الطفل التكيف. إذ ربما يطور بعض الأطفال القدرة على التطلع إلى الأمام وتحديد ما يتعين عليهم القيام به للبقاء على قيد الحياة في العالم. وهذا يمكن أن يجعل الطفل يبدو أكبر بكثير من عمره الزمني، في حين أنّ مجالات أخرى مثل العمر الاجتماعي أو العاطفي قد تكون متخلفة مما تجعله يبدو أصغر سنًّا.
لذلك يمكن البحث حول مجالات متعددة للنمو، قد تكون مورد اهتمام علم من العلوم أو أكثر، كالعمر الجسدي والفكري والثقافي والعاطفي وغيرها[9]..
نظرية النّموّ المعرفي
تتمثل إحدى النقاط الرئيسية في نظرية النمو المعرفي في أن تكوين المعرفة والذكاء عملية نشطة بطبيعتها. ساعدت هذه النظرية في زيادة فهم التطور الفكري للأطفال، كما شددت على أن الأطفال ليسوا مجرد متلقين سلبيين للمعرفة. بدلاً من ذلك، يقوم الأطفال بالتقصّي والتجريب باستمرار خلال عملية بناء فهمهم لكيفية عمل العالم من حولهم. ويعتقد بياجيه أنّ الأطفال يلعبون دوراً نشطاً في عملية التعلم، ويتصرفون مثل العلماء الصغار أثناء قيامهم بإجراء التجارب والملاحظة والتعرف على العالم. وعندما يتفاعل الأطفال مع العالم من حولهم، فإنهم يضيفون باستمرار معرفة جديدة، ويبنون على أساس المعرفة الموجودة، ويكيّفون الأفكار السابقة لاستيعاب المعلومات الجديدة.
ويتفق المنظِّرون للنمو المعرفي على الافتراضات الأساسية الآتية حول اكتساب المعرفة أو النّموّ المعرفي:
«يتضمَّن اكتساب المعرفة وجود متعلّم نشط يعمل مع وجود استجابة للبيئة، وتنتج المعرفة من تفاعل متطلبات البيئة مع قدرات المتعلّم.
يطَّرد النّموّ من استجابات منعكسة بدائية، غالبًا ما تكون مرتبطة بمثيرٍ إلى مستويات متزايدة من التمثيل والتجريد.
يحدث النّموّ بطريقة مرحلية هرمية تسيطر فيها المرحلة العليا التالية على المراحل السابقة لها، ولكنها في نفس الوقت تعتمد على هذه المراحل.
للسلوك بعض السوابق البيولوجية التي لا يمكن تحقيقها دون إثارة بيئة مناسبة لها»[10].
مراحل النّموّ المعرفي عند بياجيه
هناك اختلاف بين العلماء في تقسيم مراحل النمو المعرفي لدى الأطفال، ويمكن ارجاع هذا الاخلاف إلى المعايير المعرفية التي اعتمدوها، كالسياق الثقافي وتأثير البيئة والعنصر البيولوجي، ويبقى التقسيم الأكثر شهرة وانتشارا تقسيم جان بياجيه، فبعد سنوات من الرصد والملاحظة صاغ بياجيه نظرية التطور المعرفي، حيث لاحظ أن الطفل في رحلة تطوره المعرفي يمر بأربع مراحل، هي:
المرحلة الحسية الحركية (Sensorimotor stage): من الولادة إلى السنتين.
مرحلة ما قبل العمليات (Preoperational stage): من 2 إلى 7 سنوات.
مرحلة العمليات الملموسة (Concrete operational stage): من سن 7 إلى 11.
مرحلة العمليات الرسمية / المجردة (Formal operational stage): من سن 12 وما فوق.
يعتقد بياجيه أنَّ التعلم ينطلق من خلال تفاعل الاستيعاب، أي تعديل التجارب الجديدة لتناسب المفاهيم السابقة، والتكيف والذي يعني به تعديل المفاهيم لتناسب التجارب الجديدة، ولا يؤدي الاتجاه المتبادل بين هاتين العمليتين إلى التعلم على المدى القصير فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى التغيير التنموي طويل المدى، فالتطورات طويلة المدى هي في الحقيقة المحور الرئيسي لنظرية بياجيه المعرفية. بعد مراقبة الأطفال عن كثب، اقترح بياجيه أنَّ الإدراك تطوّر عبر مراحل متميزة من الولادة وحتى نهاية المراهقة، وتحدث المراحل دائمًا بنفس الترتيب دون تخطي أي مرحلةوكل مرحلة هي تحول كبير في المرحلة التي تسبقها وتضمنت كل مرحلة لاحقة المراحل السابقة نفسها.
وفيما يلي شرح لهذه المراحل[11]:
المرحلة الحسية الحركية: وتبدأ من الولادة وتمتد إلى بلوغ الطفل سنتين
الخصائص الرئيسية والتغيرات التطورية (النمائية) خلال هذه المرحلة:
سميت بهذا الاسم لأنّ الطفل يتعرف فيها على العالم عبر حركته وإحساسه، ومن خلال أدواته الأساسية مثل: النظر والاستماع والإمساك والمص.
يدرك الطفل أنه كائن منفصل عن الناس والأشياء من حوله، وأن حركاته يمكن أن تحدث شيئاً في العالم من حوله.
تتميز هذه المرحلة بأنها قصيرة نسبياً، ومع ذلك فهي تشهد حدوث تغيرات عظيمة في النّموّ المعرفي للطفل، ففي هذه المرحلة يتعلم الطفل اللغة والحركة والزحف والمشي.
يدرك الطفل أن الأشخاص والأشياء يستمرون في الوجود بالرغم من عدم دوام رؤيتهم. (دوام الأشياء/Object Permanence)
خلال المرحلة الحسية الحركية (المرحلة الأولى من مراحل النّموّ المعرفي للطفل)، يمر الأطفال بفترة من النّموّ والتعلم هائلين. بينما يتفاعل الأطفال مع بيئتهم، فإنهم يقومون باستمرار باكتشافات جديدة حول كيفية عمل العالم.
يحدث التطور المعرفي خلال هذه الفترة في فترة زمنية قصيرة نسبياً وينطوي على قدر كبير من النمو. لا يتعلم الأطفال كيفية أداء الأعمال الجسدية مثل الزحف والمشي فقط، بل يتعلمون أيضاً قدراً كبيراً عن اللغة من الأشخاص الذين يتفاعلون معهم.
من خلال تعلم أن الأشياء كيانات منفصلة ومتميزة وأن لها وجود خاص بها خارج الإدراك الفردي، يمكن للأطفال بعد ذلك البدء في إرفاق الأسماء والكلمات بالأشياء.
المرحلة ما قبل العملية: مرحلة التفكير التصويري وتبدأ هذه المرحلة من عمر السنتين حتى السبع سنوات
فيستمر الطفل في هذه المرحلة في تطوير طرق تجريدية للتفكير، ويشمل ذلك تطوير مهاراته اللغوية واستخدام الكلمات والسلوكيات لتمثيل الأحداث التي مر بها سابقًا. ويعرض الطفل في هذه المرحلة خمس سلوكياتٍ رئيسيةٍ هي:
التقليد: إذ يبدأ الطفل في هذه المرحلة تقليد سلوكيات الأشخاص حتى إن لم يكن الشخص الذي يقلده الطفل موجودًا أمامه.
الترميز: يبدأ الطفل باستخدام الكائنات كرموزٍ وإسقاط خصائص كائن على آخر، مثل قيام الطفل بتمثيل العصا على أنها سيف.
الرسم: ينطوي على كلّ من التقليد والترميز، فيبدأ الطفل بتطوير مهاراته التجريدية بدقةٍ أكبرٍ.
التصوير الذهني: يمكن للطفل تصور العديد من الكائنات في عقله بالإضافة إلى ربط هذه الأشياء مع أسمائها.
التوصيف اللفظي للأحداث: يمكن للطفل استخدام اللغة لوصف وتمثيل الأحداث أو الأشخاص أو الكائنات.
الخصائص الرئيسية والتغيّرات النمائية خلال هذه المرحلة:
البدء في التفكير بشكل رمزي وتعلم استخدام الكلمات والصور لتمثيل الأشياء.
الميل إلى التمركز حول الذات والكفاح لرؤية الأشياء من منظور الآخرين.
التحسن في اللغة والتفكير، ولكن يبقى الميل إلى التفكير بشكل ملموس للغاية.
في المرحلة الثانية من مراحل النّموّ المعرفي للطفل، يتعلم الأطفال من خلال اللعب التظاهري (pretend play) ولكنهم يظلون يواجهون صعوبة مع المنطق وتبني وجهة نظر الآخرين.[12]
المرحلة العملية المادية: تبدأ هذه المرحلة من عمر 7حتى 11 سنة
وتعتبر هذه المرحلة نقطة التحول الرئيسية في مراحل النّموّ المعرفي للطفل، ويصبح فيها الطفل أقل أنانيةً وأكثر عقلانيةً.
يكتسب الطفل في هذه المرحلة القدرة على تطوير وتطبيق قواعدٍ منطقيةٍ وملموسةٍ على الكائنات، ويشمل ذلك القدرة على تصنيف الكائنات في مجموعاتٍ ومجموعاتٍ فرعية، بالإضافة إلى القدرة على فهم الأمور المنطقية كالطول والوزن والفهم والحفظ.
تعد هذه المرحلة من أهم مراحل التطور العقلي للطفل حسب نظرية بياجيه، حيث تشهد تطور آليات التفكير المنطقي لدى الطفل.
يمكن للطفل في هذه المرحلة أن يستقرأ الأحداث والأشياء المادية لاستنتاج مبدأ عام على طريقة المنطق الاستقرائي.
يقل شعور الأنانية لدى الطفل ويبدأ الطفل في النظر إلى الآخرين نظرة مختلفة عن المرحلة السابقة.
في حين أن تفكير الأطفال لا يزال ملموساً وحرفياً في هذه المرحلة من التطور، إلا أنهم يصبحون أكثر مهارة في استخدام المنطق. تبدأ النزعة الأنانية في المرحلة السابقة بالاختفاء عندما يصبح الأطفال أفضل في التفكير في كيفية رؤية الآخرين للموقف.
خلال هذه المرحلة الثالثة من مراحل النّموّ المعرفي للطفل، يصبح الأطفال أيضاً أقل تمركزاً حول الذات ويبدأون في التفكير في الطريقة التي قد يفكر بها الآخرون ويشعرون بها. يبدأ الأطفال في مرحلة العمليات الملموسة أيضاً في فهم أن أفكارهم فريدة بالنسبة لهم وأنه ليس بالضرورة أن يشاركهم الجميع أفكارهم، مشاعرهم وآراءهم.
المرحلة العملية المجردة: هي المرحلة الممتدة من 11 عامًا إلى آخر المراهقة
ويتعلم الأطفال فيها استخدام المنطق وخلق النظريات وتعتبر المرحلة النهائية من التطور المعرفي، ويتعلم فيها الطفل قواعد أكثر تطورًا من المنطق تمكنه من استخدام أدوارٍ منطقيةٍ لفهم المواضيع المجردة وحل المشاكل، كما يصبح قادرًا على تحليل البيئة ويتجاوز حدود فهم الأشياء والحقائق ليصل إلى البحث عن حلولٍ للمشاكل. في هذه المرحلة يدخل الطفل مرحلة المراهقة، وتتطور لديه آليات التفكير المجرد، الأمر الذي يعد علامة على النّموّ المعرفي والنضج العقلي.
يميل المراهق إلى التفكير النظري في القضايا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفلسفية. تتطور لدى المراهقين القدرة على الاستنباط، عبر تطبيق المبادئ الكلية على الجزئيات.
خصائص نظرية النّموّ المعرفي
يمكن تحديد نظرية النّموّ المعرفي من خلال الخصائص الآتية:
تعتمد النظرية على التطور التدريجي والمعتمد على المراحل فالنموّ المعرفي يحدث عبر مراحل متسلسلة، حيث يتجاوز الطفل مرحلة معينة ليدخل في مرحلة أخرى. كل مرحلة تمثل مستوى معينًا من التفكير.
تركز النظرية على كيفية تمكّن الأطفال من بناء المعرفة، وكيف تتشكل هذه المعرفة، وتتطوّر بمرور الوقت، وتعتبر أنّ التطور الأكثر تأثيراً على فهم وتقدم البشرية يكمن في التطور والنّموّ المعرفي، والذي عرّفه على أنّه جميع العمليات المتعلقة بالتفكير والمعرفة، بما في ذلك الإدراك والتفسير والاستدلال والتذكر واستخدام اللغة.
أشارت النظرية إلى أنّ الأطفال يطورون طرقاً أكثر تعقيداً في التفكير مع تقدمهم في السن نتيجة للنضج. ويعدّ الفهم والتعلّم محوران مهمان فيما يتعلق بالمفاهيم التي يمتلكها كلّ فرد وكيفية تطورها. وفقًا لبياجيه، فإنَّ الطريقة التي يمكن للأفراد من خلالها تشكيل المفاهيم والتعامل معها تتغير طوال فترة الطفولة حتى المراهقة، ويشرح ذلك من خلال عملية تسمى التنظيم الذاتي حيث يتعلم الطفل من خلال الاستكشاف النشط للبيئة، والنمو المعرفي يحدث نتيجة لتفاعل الطفل مع العالم من حوله[13].
التطوّر المعرفي يكون من خلال سعي الفرد للوصول إلى مرحلة التوازن باستخدام الموائمة والتمثّل، والتوازن يشير إلى كيفية تنظيم العقل للمعلومات واستيعاب التغيرات، وعندما يواجه الطفل معلومات جديدة لا تتوافق مع ما يعرفه، يمر بمرحلة من عدم التوازن، فيحتاج إلى الموائمة والتمثل ليعيد التوازن من جديد.
لاحظ بياجيه أنَّ الأطفال يؤثرون على بيئتهم باستجابات انعكاسية في فترة الطفولة المبكرة، ثم باستجابات أكثر تعقيدًا تنبعث من تلك التفاعلات المبكرة. ويرى بياجيه أن التفاعل المتبادل بين التركيب العضوي والبيئة عملية ذات اتجاهين، أحدهما: هو المواءمة accomilation, والآخر: هو الاستيعاب “التمثل” assimilation. وفي حالة المواءمة نجد أن معرفة الطفل بالبيئة تتعدل لتستوعب أشياء أو خبرات جديدة، والمؤاءمة هي سمة التملُّك العرفي الذي يتكشَّف مع المتطلبات المعرفية العديدة التي تفرضها البيئة. وفي الاستيعاب يدمج الطفل شيئًا أو خبرة جديدة في تكوين قائم، أي: إن الطفل يتواءم مع معرفة سبق له اكتسابها. وعملية التواؤم أو مطابقة خبرات أو أشياء جديدة في تكوينات موجودة من قبل يندر أن تكون أمينة مع الصفات الفعلية للأشياء.
هناك اختلاف بين المنظرين للنمو المعرفي حول أنّ الطريقة التي يفكر بها الشخص تتأثَّر بالخبرات الحكمية والتصويرية المبكرة التي قد تكون انتقالًا ثقافيًّا. ومهما يكن من أمر، فإن أهم العوامل حسمًا من حيث الطريقة التي يفكّر بها الشخص هي اللغة بحسب برونر. إنه من الواضح أن اللغة دالة ثقافية، وبالعكس، فإنّ بياجيه يشدّد على تكافؤ كل اللغات كوسائل تبادلية لتوصيل المعرفة التي تكوَّنت منذ زمنٍ سابق على التفاعل اللفظي للطفل مع العالم، ويتفق هذا الموقف مع إصرار بياجيه على تفاعل اللغات والثقافات في مجال النمو المعرفي.
اهتمَّ بياجيه بالكيفية التي تتغيِّر بها العمليات السلوكية استجابةً لمتطلبات المعرفة في تحديد الخواص النوعية لهذه التغيرات، وهو يدرس الخواص التكوينية للسلوك في ظروف مختلفة، ومع أطفال في مختلف مستويات النمو، وبذلك يستطيع أن يستخلص «خريطة» للخواص التكوينية للواجبات التي يؤديها أطفالٌ من مختلف الأعمار.
على الرغم من أن بياجيه ركز في الأساس على التطور الفردي للطفل، إلا أنه أقرّ بأن التفاعل الثقافي والاجتماعي له دور في تطوير الفهم المعرفي، لكنه لم يكن العنصر الرئيسي في نظريته كما هو الحال عند آخرين مثل فيجوتسكي.
فقد ركز بياجيه على التفاعل بين الطفل والبيئة كعامل رئيسي في النمو المعرفي، بينما ركز فيجوتسكي على الدور الحاسم للثقافة والتفاعل الاجتماعي في تشكيل المعرفة. وعلى عكس بياجيه الذي يرى أن الأطفال يمرون بمراحل محددة بشكل عالمي، يرى فيجوتسكي أن التعلم عملية اجتماعية تعتمد بشكل كبير على اللغة والتفاعل مع الآخرين. وفقًا لنظريته، لا يتعلم الأطفال بمفردهم، بل يتعلمون من خلال التفاعل مع أشخاص أكثر خبرة، وهو ما يسمى «منطقة التطور الأقرب» (Zone of Proximal Development).
أما جيروم برونر، فقد انتقد أيضًا بعض جوانب نظرية بياجيه، مشيرًا إلى أن التعلم لا يحدث فقط من خلال المراحل المتسلسلة كما افترض بياجيه، بل يمكن أن يحدث في أي وقت إذا تم توفير الدعم المناسب. برونر شدد على أهمية استخدام الأدوات الثقافية، مثل اللغة والتعليم الرسمي، في تسهيل التعلم. وبهذا، فإن كلا من فيجوتسكي وبرونر قدما رؤية أكثر مرونة وتركز على السياق الثقافي والاجتماعي للنمو المعرفي[14].
كل مرحلة من مراحل النمو المعرفي لها حدود فيما يتعلق بقدرة الطفل على التفكير. الأطفال في المراحل الدنيا لا يستطيعون تنفيذ عمليات فكرية معقدة مثل التفكير المجرد أو حل المسائل متعددة الأبعاد.
نقد وتقويم:
هناك تباين بين واضعي نظريات النمو حيث ينتمون إلى توجهات متباينة: دينامية، وسلوكية، ومعرفية، لغوية..، مما يصعب عملية المقارنة بينها لذلك نجد في كلّ فترة من القرن الماضي كان هناك تبنٍ لاتجاه معين الى أن يغلب الاتجاه الآخر، ولا يوجد حسم إلى الآن حول مدى صوابية أي نظرية بالمطلق. كما أنّ اختلاف المنطلقات الفلسفية والنفسية والمعرفية أدى إلى تشويش في نتائج علم نفس النّموّ بالنسبة للمراحل العمريّة وعدم توافق على نسق معين، مما يصعب مهمة تحديد أي نظرية أكثر دقة في تحديد المراحل العمريّة.
فبعض النظريات لم تأخذ في الاعتبار ديناميات التفاعل بين الطفل والظروف البيئية، واعتبرت الطفل كائنًا سلبيًّا يتقبَّل فقط ما يقع عليه من آثار، كما نظرت إلى التغير في السلوك على أنه مجرد زيادة كمية، وليس عملية تنظيمية. بينما المدخلين الدينامي والمعرفي اعتبرا الطفل بكائنًا ديناميًّا يتفاعل ككل مع الظروف البيئية، وأظهرت أن التغيُّر الذي يعتري سلوكه بناءً على ذلك إنما يتمّ على أساس مرحلي ذي نظام معين، تعتمد فيه كلّ مرحلة على ما قبلها، وتؤثر فيما بعدها. “ ورغم أن المدخلين الدينامي والمعرفي قد وضعا مراحل محددة للنمو، فإنَّ النظريات المنبثقة عن كلا المدخلين لا تتفق فيما بينها حول هذه المراحل، إلا أنّ معظم النظريات النمائية قد أجمعت على أهمية السنوات المبكِّرة من عمر الطفل، خاصة مرحلتي المهد والطفولة المبكرة بالنسبة لتكوين الشخصية.
كما نجد أنّ هناك بعض النظريات اهتمت بالفروقات بين الجنسين، أمَّا أصحاب نظرية التعلُّم، والنظرية المعرفية، وعلى رأسهم بياجيه، فإنهم يعترفون بأنَّه لا توجد اختلافات جنسية أساسية في دراستهم للنمو بصفة عامة، وأصحاب هذه النظريات يعتبرون أن الذَّكَرَ والأنثى يستخدمان إجراءات عقلية متساوية، ولكن من الناحية النفسية فإنَّ لهما ملكات مختلفة، ومن الناحية الاجتماعية فهما متساويان بقدر ما تسمح به العوامل الثقافية[15].
وعلى الرغم من أهمية نظرية النمو المعرفي إلا أنه يمكن أن توجه اليها انتقادات كثيرة نذكر منها:
الانحياز الثقافي: حيث تعتمد هذه النظرية على الانسان الغربي كمعيار للنمو المعرفي، دون الاطلاع على النّموّ المعرفي لدى الشعوب الأخرى والثقافات المتنوعة التي قد تؤثر على النّموّ المعرفي بشكل مختلف.
انتقائية في الأبحاث: البحوث في مجال النّموّ المعرفي تنصب بشكل كبير على الأفراد الذين يتمتعون بمستويات عالية من الذكاء والقدرات العقلية، مما يجعل النتائج غير قابلة للعمومية وقد تكون غير قابلة للتطبيق على الجمي، حيث لم تبين النظريات الفروق الفردية والاجتماعية وتأثيرها على عمليات النّموّ والتطور الذهني.
التأثير على التعليم: يمكن أن يؤدي التركيز الكبير على النّموّ المعرفي إلى تقديم منهج تعليمي يضع الضغط على الأداء الأكاديمي والاختبارات القياسية والأهداف السلوكية بدلا من التطوير الشامل للفرد والجوانب الأخرى للنمو البشري مثل التطوير الاجتماعي والعاطفي.
التبسيط المبالغ به: تُنتقد هذه النظريات لتبسيطها للعمليات العقلية والسلوك البشري، وعدم مراعاة التعقيد الحقيقي للعمليات الذهنية والسلوك، وقد تبسط نظريات المراحل العمريّة عملية النّموّ البشرية بشكل زائد، وتعتمد على فرضيات جامدة تجاه ما يمكن أن يحدث في كلّ مرحلة دون مراعاة التنوع الفردي والثقافي.
الافتقار إلى الدعم العلمي التجريبي: بعض النظريات المعرفية تفتقر إلى دعم علمي كافي وقد تعتمد على افتراضات وتقديرات. وبالرغم من أن عينات دراسات علماء نفس النّموّ محدودة إلا أنهم عمموا النتائج بشكل قطعي وصارم دون التطرق لكثير من الأمور التي يمكن أن تشكل نقدا على نظرياتهم، فمن مشكلة التطرف في النزعة العقلانية التي تعتبر العقل الإنساني واحدا لدى الجميع في جميع أحواله، إلى مشكلة استبعاد الاختلافات الفردية والميول والمؤثرات في مدركات العقل، رغم أنّ أبحاثهم منطلقة من التجريبيات وليست فلسفية بحتة.
قلة المرونة: تُنتقد بعض النظريات لقلة مرونتها وصعوبة تكييفها مع الظروف الفردية المتنوع، وبعض هذه النظريات تفترض ترتيبًا زمنيًا صارمًا لمراحل التطور، مما لا يعكس الواقع دائمًا. قد يحدث تأخر أو تقدم في تحقيق بعض المهام التنموية.
عدم القدرة على تفسير التغيرات الشخصية: في بعض الأحيان، تفتقر هذه النظريات إلى القدرة على تفسير التغيرات الشخصية الكبيرة والتطورات عبر الحياة، فقد يكون هناك تنوع كبير في تجارب الأفراد حتى داخل نفس المرحلة، مما يغير نمط النّموّ المعرفي والنفسي والثقافة وتطوره.
اغفال الجانب الروحي والتركيز على الجانب المادي: من الواضح أن أغلب علماء نفس النّموّ الغربيين اعتمدوا على تقسيمات واضحة وصريحة للمراحل العمريّة، رغم الاختلافات في تحديد هذه المراحل بحسب المنطلقات التي انطلق كلّ عالم منها، إلا أنّ الملاحظ على هذه النظريات أنها اقتصرت على البعد المادي للإنسان بحسب النظرة الفلسفية الغربية ولم تتطرق إلى الجانب الروحي وتأثيراته في النّموّ المعرفي والعقلي. فبالنسبة للعديد من المجتمعات والثقافات، لا يُعتبر النمو المعرفي عملية مادية فقط، بل يشمل أيضًا تطور القيم الأخلاقية والروحية. يمكن أن يكون للفلسفة الدينية والقيم الثقافية تأثير كبير على تطور تفكير الأطفال، وهذا الجانب لم يحظَ باهتمام كافٍ في نظرية النمو المعرفي.
مشكلة الانطلاق من واقع المجتمعات الصناعية وتقسيم مراحل العمر على أساس هذا الواقع الوظيفي، فكل النظريات تسعى لخدمة ثقافة وتربية المجتمعات الصناعية دون أن تكون ناظرة لحياة الانسان بشكل عام.
كما أنّ أكثر النظريات تعتبر التفكير الرياضي هو نموذج الفكر الإنساني الأعلى، لذلك اعتبرت هذه النظريات الذكاء واحدا عاما ويوجد بنفس الشكل لدى الجميع، لذلك كان هذه النظريات عرضة للانتقاد من قبل كثير من علماء النفس. فغاردنر مثلا في نظريتيه (الذكاءات المتعددة) حاول نقد نظرية بياجيه وتطوير نظرية تعلم تختلف عن توجهاته، فبياجيه - بحسب غاردنر- لم يركز في دراسته للنمو سوى على جانب واحد هو النّموّ العقلي معتبرا أن كلّ «الأطفال علميين» بالضرورة، وهذا معناه أن بياجيه، داخل هذا النموذج النمائي، لم يعط ما يكفي من الأهمية والاهتمام للسياقات الثقافية الأخرى غير الغربية ولم ينتبه إلى المجتمعات الأمية والبدائية، بل من المحتمل أن يكون هذا النموذج النمائي غير منطبق إلا على أقلية في المجتمع الغربي نفسه. فالبنائية التطورية تعتبر التشابهات البيولوجية بين الجنس البشري والكائنات الحية الأخرى وتفسيرها كما لو أنها تشير دائمًا إلى سلوك مشابه. هذا قد يغفل عن التنوع الكبير والتفاوت في السلوك والثقافات بين مجتمعات مختلفة. أضف إلى ذلك أنّ بياجيه (وغيره) أهملوا دراسة كفاءات ذهنية أخرى (غير الكفاءات العلمية: الرياضية – المنطقية) كتلك المتعلقة بالفن والمحاماة والرياضة والزعامة السياسية[16].
من الملاحظ أيضا أن علماء نفس النّموّ الأوائل يركزون بشكل كبير على مرحلة الطفولة والمراهقة دون البحث عن تأثيرات التطور والنّموّ في مراحل ما بعد المراهقة، كما تغفل أغلب النظريات قدرة الفرد على التغلب على المؤثرات الوراثية والبيئية، مما جعل هذه المؤثرات حتمية وصارمة وفق الفكر التطوري المعرفي البنائي المقتبس من النظرة البيولوجية للإنسان الذي يغفل الجوانب الثقافية والاجتماعية، بدلا من البحث عن الحرية والارادة الإنسانيّة والاختيار كعوامل تحدد سلوك الانسان وتجعله يتجاوز كثيرا من المؤثرات الخارجية اذا ما تم تنميتها بشكل سليم، مما يؤدي إلى تبسيط قدرات الأطفال وعدم إعطاءها حقها في هذه النظريات، خاصة التقليل من قدرة الأطفال على التفكير والفهم وحل المشكلات في مراحل مبكرة.
كما لم تستطع النظريات تفسير كيفية تطور الفهم المتدرج والتغييرات التدريجية في التفكير، كما أنّ قدرات الطفل التي تمكنه من اكتساب المعرفة والمهارات اللغوية لا يمكن تبريرها وتفسيرها بمساعدة نظرية التعلم فقط، فعامل التعزيز مثلا لا يبرر هذا المعدل المذهل لتطور اللغة لدى الطفل. فإذا كان تطور لغة الطفل يعتمد فقط على التعزيز، فإنَّ عدداً كبيراً من أقوال الطفل وكلماته كلها بحاجة إلى تعزيز.
يمكن القول – من باب المثال فقط- إنّ التصرفات المعرفية للطفل في الأشهر الأولى بسيطة للغاية ولها في الغالب جانب مقلد. وبمرور الوقت يتوسع هذا النّموّ ويتطور، وينقسم النّموّ المعرفي إلى مراحل مختلفة، وكل مرحلة تسبق المرحلة التي قبلها وتختلف عن المرحلة التي تليها حتى تصل إلى مرحلة النضج الفكري والعاطفي في حياته. يمكن أن تستمر هذه الدورة من التطور المعرفي والتغيرات السلوكية والفكرية حتى سن الشيخوخة. فالأمر المقبول والمفهوم لعلم النفس هو أن نمو الطفل يبدأ من النّموّ الجسدي ويتبع تدريجيًا مسار التطور المعرفي لديه. بينما لا نجد اهتماما من نظريات علم نفس النمو بالتطور المعرفي المراحل المتقدمة من العمر ولم يتم دراستها بشكل كاف وواف.
كما يؤخذ على نظريات التطور المعرفي اغفالها للفطرة السليمة عند الطفل، وإعطاء عملية التعلم الجانب الفردي دون الاجتماعي واغفال دور الأسرة والدين في تشكيل معارف الطفل.
تظهر الكثير من نظريات النّموّ أنّ الاهتمام منصب على تطور التعلم أكثر من تعلم المفاهيم، حيث أن التعلم يختلف باختلاف المراحل ويتخذ اشكالا متنوعة بحسب مراحل النّموّ المختلفة، ولا تهتم هذه النظريات كثيرا بتفسير تفكير الأطفال في المراحل الأولى، فالأطفال دون سن السابعة يمكن لهم أن يقوموا بعمليات الاستنباط والتحليل.
تختلف النظريات فيما بينها في تفسير التطور المعرفي، من تعلم المثيرات الصحيحة لتكوين المعرفة، أو أن تعلم وسيلة الإجابة الصحيحة وتطور المعرفة هو من أجل التعزيز الاجتماعي (كالمدح والثناء)، أو سببه التنظيم الذاتي للافكار، أو بسبب الدافعية لدى الطفل، أو بسبب تجارب البالغين واتخاذهم نموذجا، وسبب الاختلافات في تفسير التطور المعرفي هو الخلفيات المعرفية والفلسفية كما يرى بعض للمنظرين في علم نفس النمو.
اذاً بالرغم من الاستفادة الكبيرة من نظرية التطور المعرفي في العلوم المختلفة، إلا أنها ما زالت تواجه ثغرات على المستوى الفلسفي والمعرفي والمنهجي، كما هو الحال في كثير من النظريات المشابهة والتي اعتمدت على عامل واحد هو النمو المعرفي في تفسير التطور النمائي للإنسان، ومع خدمة هذه النظرية للواقع الاجتماعي في الغرب المعتمد على مخرجات المجتمع الصناعي والعلماني، فمن الطبيعي أن يكون مساق النظرية في خدمة هذا الواقع وإن حاول رواد هذه النظرية التعميم على باقي الشعوب والثقافات لأن الأطفال بنظرهم يسيرون في سلسلة من المراحل التي لا يختلف نظامها، وبالرغم من قبولهم بأن الأطفال متفاوتون في الوصول إلى المراحل المتقدمة في التوقيت، إلا أنهم يسيرون بنفس النظام ولا يخلّون به، وهذا يعني أن الأطفال ينمون عقليا بنفس الطريقة في مختلف الثقافات، ولا يختلفون في طيهم للمراحل وبدئهم من المرحلة الأولى إلا أن سرعة نموهم تختلف بدون إمكانية تخطي مرحلة من المراحل، أو يتبع طريقة مختلفة من النمو، وهو أمر دونه عقبات تحتاج إلى ترميم، فهو استخفاف بقدرة الأطفال على الربط والابداع ومخالف لمن يرى تعليم الأطفال الفلسفة منذ الصغر والحس النقدي وغيرها من الأمور العقلية التي تعتبر من ميزات المراحل المتقدمة .
لذلك يجب البحث عن سبل الاستفادة من هذه النظرية دون اغفال باقي الجوانب النمائية للطفل لكيلا يتم منع الأطفال ذوي القابليات المختلفة والمتنوعة من التطور ومنعهم بسبب الأنظمة التعليمية من الابداع وتجاوز بعض المراحل الدنيا التي يمكن طيها بسهول عند الأطفال المبدعين بل حتى عند الأطفال المتوسطي الذكاء إذا ما تم اعطاؤهم الكفاءات التعليمية اللازمة والتي تساعدهم على تطوير معارفهم بشكل أفضل.
المراجع والمصادر
البستاني، محمود، دراسات في علم النفس الإسلامي، لبنان، دار البلاغة للطباعة والنشر والتوزيع، 2015.
باقري، خسرو، نظرة متجددة إلى التربية الإسلامية، دار الأبحاث التربوية، لبنان، مركز الدراسات والأبحاث التربوية،2014.
شناوة، جبار، نظرية فيجوتسكي، العراق، مكتبة دجلة، 2015.
عبد المعطي، حسن مصطفى، علم نفس النمو، مصر، دار قباء للنشر والتوزيع، 2010.
غاردنر، هاوارد، «طبيعة الفكر واللغة، مواجهة بين شوموسكي وبياجيه»، ترجمة أحمد أوزي، مجلة علوم التربية، عدد 14، فبراير 1998.
كجك، محمد باقر ونمر، محمد، المراحل العمرية في التربية نظرة تأصيلية ومقارنة، دار الأبحاث التربوية، لبنان، مركز الدراسات والأبحاث التربوية، 2024.
بن رابح، أحمد، «نظرية النمو المعرفي عند جان بياجيه وأساسها المنطقي»، مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية، المجلد 11، العدد1، 2023.
بياجيه، جان، سيكولوجيا الذكاء، لبنان، دار عويدات للنشر والتوزيع، 2002.
Santrock, J. W., Life span development (17th ed.), New York: Mcgraw-hill Education, 2019.
Baltes, P.B., Lindenberger, U., & Staudinger, U, "Life-span Theory in Developmental Psychology", In w. Damon & r. Lerner (eds), Handbook of Child Psychology (6th ed.), New York: wiley, 2006.
--------------------------
[1]* أستاذ جامعي وحوزوي، باحث أساسي في مركز الأبحاث والدراسات التربوية.
[2]. Socialization
[3]. عبد المعطي، علم نفس النمو، 1: 333.
[4]. بياجيه، سيكولوجيا الذكاء، 31-34.
[5]. Santrock, Life span development, 94- 97.
[6]. Baltes, Lindenberger, & Staudinger, Life-span theory in developmental psychology, 45-48.
[7]. شناوة، نظرية فيجوتسكي، 65-67.
[8]. البستاني، دراسات في علم النفس الإسلامي، 33-35.
[9]. كجك ونمر، المراحل العمرية في التربية نظرة تأصيلية ومقارنة، 22.
[10]. عبد المعطي، علم نفس النمو، 1: 333.
[11]. كجك ونمر، المراحل العمرية في التربية نظرة تأصيلية ومقارنة، 302-314.
[12]. على سبيل المثال، قد يأخذ الباحث قطعة من الصلصال، ويقسمها إلى قطعتين متساويتين، ثم يعطي الطفل الاختيار بين قطعتين ليلعب بهما. يلف قطعة واحدة من الصلصال في شكل كرة مضغوطة بينما يحطم الأخرى لتصبح على شكل فطيرة مسطحة. نظراً لأن الشكل المسطح يبدو أكبر، فمن المحتمل أن يختار الطفل في مرحلة ما قبل العمليات تلك القطعة، على الرغم من أن القطعتين لهما نفس الحجم تماماً.
[13]. بن رابح، «نظرية النمو المعرفي عند جان بياجيه وأساسها المنطقي»، 636.
[14]. كجك، ونمر، المراحل العمرية في التربية نظرة تأصيلية ومقارنة، 302.
[15]. باقري، نظرة متجددة إلى التربية الإسلامية، 36.
[16]. غاردنر، طبيعة الفكر واللغة، 103-109.