البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مراجعة كتاب فلسفات تربوية معاصرة

الباحث :  ادارة التحرير
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  35
السنة :  صيف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 21 / 2024
عدد زيارات البحث :  366
تحميل  ( 319.946 KB )
معلومات النشر:
ـ اسم الكتاب: فلسفات تربوية معاصرة فلسفات تربوية معاصرة
ـ اسم الكاتب: سعيد اسماعيل علي
ـ دار النشر: سلسلة عالم المعرفة ( المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)
ـ مكان النشر: الكويت
ـ تاريخ النشر: 1995
ـ عدد الصفحات: 230

يتألف هذا الكتاب من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، أما الفصول فهي على الترتيب التالي:
الفصل الأول: المفهوم
الفصل الثاني: فلسفة التربية البراجماتية
الفصل الثالث: الاتجاه النقدي
الفصل الرابع: تربية للتحرير
الفصل الخامس: اللامدرسية

مقدمة
ويذكر الكاتب في مقدمة هذا الكتاب جدل البحث حول « فلسفة التربية» بمعنى أنه ماذا يعني أن يكون للتربية فلسفة؟ وجوابًا عن هذا السؤال يطرح أن الأصول المعمول بها في واقع التربية والتعليم تحمل في طيّاتها شحنات معرفية قد تكون مضمرة وغير ظاهرة، مثل قضية المدرسة وحضور الطالب بشكل عام في مكان مخصص لتلقي المنظومة القيمية لمجتمعه، أو مثل قضية دور الشهادات الأكاديمية في مسألة المشروعية المعرفية والعلمية للشخص، وغير ذلك حيث إن هذه الأسئلة ونظائرها تحتاج إلى تأصيل للمناشئ الفكرية العميقة التي تكمن خلفها، « لقد انشغلت التربية العربية بالاهتمام بميول الطفل واستعداداته، وضرورة أن يجيء التعلم بالعمل، وبمحاولات إغناء البيئة التربوية بالخبرة المربية الثرية، وبضرورة النشاط، وأهمية مشاركة التلاميذ في عمليتي التعليم والتعلّم..إلخ دون أن يتوقفوا أمام الأصول الفلسفية التي ما جاءت هذه الأفكار التربوية إلا محاولات لتشخيص هذه الأصول واقعًا سلوكيًا»[1]، ويظهر من هذه العبارة التي يذكرها الكاتب في المقدمة أن النظام التربوي والتعليمي يقوم على أسس وأصول فلسفية يتم تحديد الموقف من خلالها تجاه جملة من القضايا المرتبطة بالإنسان والمجتمع والعالم والوجود عمومًا، وهذه قضية جديرة بالاهتمام خاصة أنها تضيء لنا فكرة « عدم الحيادية» في أي نظام تعليمي مفترض، وهو ما سيعود إلى ذكره في الفصول اللاحقة، وغاية الأمر أن النظام التربوي والتعليمي هو تمثّل سلوكي معيّن لأفكار ورؤية للعالم والكون بحيث إن تبدل هذه الأفكار يسوق تلقائيًا إلى إحداث التبدلات في النظام التعليمي، ولا يمكن التعامل مع النظام التعليمي على أنه أداة خالية من الروح الفكرية والفلسفية.

الفصل الأول: المفهوم
يستمر الكاتب في هذا الفصل بما أسسه في الفصل السابق من بيان مفاهيم « الفلسفة» و « التربية» و « فلسفة التربية»، ويذكر في هذا السياق أن التربية تعنى بشكل أساسي بتنمية شخصية الإنسان التي تتشكل من ثلاثة مستويات:
مستوى الوعي والإدراك المعرفي
مستوى العاطفة والوجدان
مستوى الحركة والنزوع والمهارة

وأما علاقة الفلسفة بالتربية، فقد يقال بوجود إشكالية هنا حاصلها أن النشاط الفلسفي هو أمر نظري تجريدي بالدرجة الأولى بخلاف النشاط التربوي الذي هو نشاط عملي بالدرجة الأولى، ويصل في النهاية إلى القول « إننا ننظر إلى التفلسف على أنه عملية إنسانية تصدر من إنسان لتتجه إلى بشر. تقوم بتحليل ثقافتهم بحثا عن القيم والمعتقدات الأساسية التي تقوم عليها بغية فحصها ونقدها بحثًا عن الاتساق والتناغم بين المرتكزات الفكرية للأمة. والذي يدرس المشكلات الفلسفية منذ أقدم العصور في إطارها المجتمعي سوف يستطيع ملاحظة أن هذه المشكلات كانت مرتبطة بمشكلات الصراع الثقافي والتغير الاجتماعي..كذلك فإن كثيرًا من كبار الفلاسفة عبر التاريخ، كانوا يتوسلون بالتربية لتشخيص أفكارهم الفلسفية في أرض الواقع»[2].

ومن هنا يربط الكاتب بين الفلسفة والتربية بأن التربية في الواقع نشأت كاستجابة لحاجة الفيلسوف تطبيق نظرياته ورؤاه في الواقع المسلكي والعملي الخارجي، ومن ثم فإن الفلسفة هي البنية النظرية التي تكمن خلف النظام التربوي، كما أن التربية هي المختبر الذي تختبر فيه الأفكار الفلسفية.

هذا كله في الربط بين الفلسفة بشكل عام من جهة والتربية من جهة أخرى، ولكن ما هي « فلسفة التربية»؟
يجيب الكاتب أن فلسفة التربية هي استخدام الطريقة الفلسفية في التفكير والبحث لمناقشة المسائل التربوية بمعنى أن فلسفة التربية تقوم بنقد وتحليل المفاهيم الأساسية التي تتشكل منها المنطومة التربوية مثل: الطبيعة الإنسانية- النشاط المدرسي- الخبرة- الحرية- الثقافة- المعرفة، وغير ذلك، وأيضًا فإن فلسفة التربية تسعى لمناقشة الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها نظريات التربية سواء من حيث: التعلم\ طرق التدريس\ تنظيم المناهج\ إدارة التعليم\ تخطيط التعليم\ اقتصاديات التعليم\ نظم التعليم المختلفة وهكذا.

إذا تبيّن معنى فلسفة التربية ومجال بحثها، ينتقل الباحث بعد ذلك لبيان الفوائد والإيجابيات التي يحصل عليها الشخص من اطلاعه على فلسفة التربية وهي:
التقبّل لتعدد الآراء في المسائل التربوية نظرًا للطبيعة التعددية في الآراء في فلسفة التربية
التيقن من أن الحوار هو وسيلة التعامل الأساسية في معالجة القضايا التربوية
تجعل الإنسان لا يقف على الأمور عند حدّ ما يبدو ويظهر وإنما يسعى إلى محاولة الوصول إلى الماوراء.
إدراك العلاقات القائمة بين المتفرقات بحسب الظاهر لإدراك الحقائق التربوية

من أين تبدأ فلسفة التربية؟
الأقرب للصواب – بحسب الكاتب- هو البدء من المشكلات والخبرات التربوية ومن ثم تحليلها تحليلًا عقليًا نقديًا، من خلال الاعتماد على منهج دقيق في استخدام المفاهيم أو المصطلحات، ومن حيث الاستناد إلى الخبرة في الحكم على مدى صحة الأفكار، ومن حيث الاتساق المنطقي وتوافر الدليل المنطقي ومن حيث المرونة والاستعداد للتخلي عن الفكرة إذا ثبت عدم صحتها، وهكذا مما هو معروف من أصول وقواعد الطريقة العلمية للتفكير.

الفصل الثاني: فلسفة التربية البراجماتية
يبدأ الكاتب عند حديثه عن فلسفة التربية البراجماتية برصد الأوضاع الاجتماعية التي كانت موجودة في القارة الأميركية وولدت الفكر الأميركي البراجماتي، وأصل القضية يرجع إلى أن المهاجرين الأوروبيين الذين استوطنوا أميركا بدؤوا بصراع مع الطبيعة لأجل تسخيرها وبناء مستوطناتهم ودولتهم بروح تقدس العمل والنجاح المادي الملموس، ومن هذه الروح نشأت الفلسفة البراجماتية وهي الروح التي تعبر في عمقها عن هذه الحمولة والشحنة من التاريخ الاجتماعي الذي شكّل الروح الأميركية.
وهذا التقديس للعمل والانتاج الماديين أفرز نوعًا من التقديس للجماعات والسكان، فالأسر التي تعتمد على نفسها والتي تعمل بجدية أصبحت هي القاعدة والأساس، أما العاطلون والجامدون فلم يكن لهم حاضنة في المجتمع الأميركي الحديث النشأة، لذلك استولت الروح «البراجماتية التي تعتقد أن التفكير يرتبط ارتباطًا ملازمًا بالعمل، وأن النظريات والمذاهب إنما هي فروض للعمل تمتحن بما ينتج عنها في المواقف الفعلية في الحياة، وأن المثل الأخلاقية فارغة عقيمة إذا انفصلت عن وسائل تحققها، وأن الحقيقة ليست ثابتة، وليست نظامًا كاملًا، بل الحقيقة عملية جارية في تغير مستمر»[3].

ثم إن المذهب البراجماتي في القرن التاسع عشر ظهر كرد فعل لموجات الفلسفة المثالية التي كانت تطغى على الفكر الأميركي والتي جاءت إليه من أوروبا، وعلى وجه التحديد من ألمانيا، ومن هنا شعر جماعة من خريجي هارفرد بضرورة التوجه الجديد نحو العمل والفعل والمستقبل وعدم الاغراق في المثالية وعالم الافكار والتحليلات والتأملات، وكان يربطهم بشكل وثيق الايمان بالمنهج التجريبي.
وكنموذج على الفكر البراجماتي فيما يهم الكاتب في فلسفات التربية، يأخذ المفكر البراجماتي بيرس الذي يقول أن « المدلول العقلي لكلمة من الكلمات أو عبارة من العبارات، إنما يكون فقط في تأثيرها المقصود في مجرى الحياة، ولذلك فإن الشيء إذا لم يكن ناجمًا من التجربة، فلا يمكن أن يكون له تأثير مباشر في السلوك»[4]، ومن ثم جاء ويليام جيمس ليزيد طابع « النفعية» على المسار التجريبي للفكر وأضاف أن الفكرة الصائبة هي الفكرة التي تصمد أمام الاشكالات، فالصدق هو النافع القائم في مواجهة الاشكالات.

أما جون ديوي الذي هو ثالث فرسان البراجماتية بعد بيرس وجيمس، فيذهب إلى البراجماتية بمعنى الذرائعية والوسائلية، أي إن التصورات الذهنية والأفكار ليست سوى أدوات ووسائل لتشكيل مستقبل بطريقة محددة، ولا قيمة مستقلة لهذه الاداة لمجرد كونها « فكرة».
فالحاصل من جميع هذه الأفكار البراجماتية عند بيرس وجيمس وديوي، أن البراجماتية ظهرت في فضاء المعنى عند بيرس الذي اعتبر أن المعنى إنما يُكتسب من السلوك والاستعمال وأما جيمس فقد ذهب إلى نظرية الصدق المستقاة من المنفعة بينما ديوي ذهب إلى الأداتية للأفكار.
هذه البراجماتيات بمجملها أثرت في تشكيل النظم التربوية المتعددة القائمة على الفكر التجريبي البراجماتي، فقد صار الفكر في نفسه فاقدًا للقيمة وصارت النظم التربوية تعطي المعلومة لا لأجل أنها « حقيقة ينشدها الإنسان» بحكم فطرته بل إن الفطرة والغاية التي ينشدها الإنسان هي العمل والمنفعة في إطارها المادي ومن ثم يتوسل بالفكر لهذه المنفعة، فالنظم التعليمية صارت أداتية للوظيفة والعمل وتحصيل المنافع.
ولا يكون العلم والفكر محكومًا بالمنفعة فقط، بل القيم أيضًا خاضعة لمبدأ البراجماتية، « فإذا كانت الاشياء والأعمال تستمد قيمتها من النتائج التي تترتب عليها من خبرة الأفراد والجماعات، فإن ما يؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها هو شر، فالمصدر النهائي للقيم يقع في نطاق الخبرة الحسية بالرغبات والارتياح الناشئ عن تحقيقها»[5].
ومن الآثار المترتبة على الفكر البراجماتي في النطاق التربوي أن جون ديوي على سبيل المثال رأى ضرورة تخلي المدرسة عن صورتها التقليدية حيث كانت معدّة لصب المعلومات في أذهان التلاميذ وأن المدرسة لا بد أن تنتقل لتصبح ذات أسلوب أداتي في التعليم أي أن تكون المدرسة مثل ورشة عمل بحيث يرى الطلاب مباشرة الأفكار في ميدان العمل.

الفصل الثالث: الاتجاه النقدي
المقصود من الاتجاه النقدي التوجه الذي يتناول فيه المفكر والباحث من خلاله مجموعة قضايا تشكّل إطارًا نظريًا لنقد النظام الاجتماعي القائم أو الكشف عن تناقضاته، بتعبير آخر إن النظرية النقدية تحاول استكشاف مواطن التناقض بهدف إيجاد تكامل جديد.
وتعتبر مدرسة « فرانكفورت» من أهم من رفع لواء الاتجاه النقدي اليساري في مقابل المجتمع الرأسمالي الجديد، حيث تركز نقدها على الطبيعة البرجوازية للمجتمع الرأسمالي، ومن هنا انطلق بعض أصحاب الاتجاه النقدي إلى فلسفة التربية والتعليم من باب نقد النظام العالمي الرأسمالي الذي يقسم الدول إلى دول المركز ودول الأطراف، بحيث تكون دول المركز هي تلك الدول الرأسمالية المتقدمة التي يقوم اقتصادها على ثقافة الاستهلاك وأما دول الاطراف فهي المحيطة بالمركز وهي الدول النامية التي اندمجت في النظام العالمي دون أن تتحول إلى دول مركز، ويقوم اقتصادها على الاستخراج والتصدير وتملك واستهلاك منتجات وصناعات دول المركز.
وبتعبير الكاتب « لهذا التقسيم الدولي للعمل نتائج تربوية، إذ ينعكس التقسيم العالمي للعمل على النظم التعليمية في شكل تقسيم متخصص في التربية فيدور التعليم في دول المركز حول المعارف الانتاجية، أي المعارف ذات الأهمية الوظيفية في الانتاج، بينما نجد التعليم في دول الأطراف التابعة يدور حول المعرفة الاستهلاكية، أي المعرفة ذات الأهمية الوظيفية في الاستهلاك»[6].
وبحسب الكاتب فإن الاتجاه النقدي اليساري يرى أن التعليم في دول العالم الثالث تأثر بسبب القوى الاستعمارية بأن صار التعليم بصدد إعداد شعوب هذا العالم الثالث لتحافظ على ارتباطها بدول المركز المستعمرة ويأتي في هذا السياق طرح النموذج الغربي للحياة.

ثم إن الاتجاه النقدي أيضًا ظهر مع بورديو وباسرون حيث رأوا أنه لا يمكن فهم أي ظاهرة تعليمية كتمثيل للفئات الاجتماعية المختلفة في مراحل التعليم أو تمثيل الجنسين أو نسبة المتخرجين..إلخ ما لم توضع هذه الظاهرة ضمن « أنظمة العلاقات التي تتعلق بها» وبشكل عام ما لم يتم إرجاعها إلى « نظام التعليم وبنية العلاقات الطبقية».
ومن هذا الإطار النقدي تم نقد النظم التعليمية المنتشرة في العالم بما تشتمل على شهادات أكاديمية وطرق الاختبار والامتحان وغير ذلك، إذ اعتبر بعض النقّاد أن الشهادات الاكاديمية لها طابع عنفي أو اقصائي حيث لا يتم الاعتراف بالمعرفة سوى تلك التي تختارها الجامعات والدولة من وراءها، وكأن الحاصلين على الشهادات هم الذين حصّلوا العلم « المشروع» وما سوى ذلك ليس إلا علمًا زائفًا، والأمر نفسه ينجرّ إلى سبل الاختبار والامتحانات، وسيأتي في الفصل الأخير عند الحديث عن اللامدرسية أن بعض المنادين بإلغاء المأسسة للتعليم والتربية كانوا يرتكزون إلى مثل هذه الاشكالات أيضًا.

وأخيرًا إن مفهوم « الايديولوجيا» يرافقنا مادمنا نتكلم عن الفكر الماركسي أو اليساري عمومًا، حيث يذكر النقاد للأنظمة التربوية والتعليمية أن الصراع في المجال الفكري والسياسي والقيمي والاخلاقي من خلال الاجهزة الايديولوجية وفي مقدمتها أجهزة التعليم هدفها أن تحقق السيطرة الايديولوجية .

الفصل الرابع: تربية للتحرير
في الفصل السابق ركز الكاتب على نقد الرأسمالية وتجلياتها في تهميش التعليم في دول العالم الثالث، وأما في هذا الفصل فيريد الكاتب أن يبيّن المساهمات ما بعد الاستعمارية لدول العالم الثالث، ويبدأ الفصل بعنوان « العالم الثالث يضيف إلى الفكر التربوي»، فيذكر أنه قد أتيح لواحد من مفكري العالم الثالث أن يحصل على مكانة مرموقة في عالم الفكر التربوي وهو المربي البرازيلي « باولو فرير» ومن ثم يشرع الكاتب بتفصيل رؤيته.

يذكر فرير أن العالم الثالث بما فيه من مقهورين يمارسون ثقافة الصمت، ومن مظاهر ثقافة الصمت ما نجده في النظم التعليمية والتربوية حيث إنها مكرّسة لخدمة هذه الثقافة، ولما أدرك هذه الحقيقة وجه اهتمامه إلى مجال التعليم وبدأ العمل فيه وقدّم أفكارًا إبداعية في هذا المجال.
الفكرة المحورية التي ينطلق منها باولو فرير أن ما هو شائع بين التربويين من أن النظام التعليمي والتربوي هو الذي يغير المجتمع غير صحيح بل إن النظام التعليمي والتربوي ليس إلا ظهورًا للمجتمع وأن المجتمع هو الذي يفرز نظامًا تعليميًا وتربويًا معيّنًا لا العكس ويكون النظام التعليمي منظمًا وفقا لمصالح أولئك الذين يمسكون بزمام السلطة، وعليه فإن تغيير النظام التربوي تغييرًا جذريًا مرهون بتغيير النظام الاجتماعي في مرتبة سابقة.
ومن هنا يبدأ فرير بتحليل البذور التربوية للقهر وثقافة الصمت، حيث وجد أنه يجري تعليم الطفل منذ نعومة أظفاره بطريقة تلقينية من خلال علاقة تسلطية، وهذه العلاقة اللاعقلانية تعزز النظرة الانفعالية للعالم، لأنها تمنع الطالب من التمرّس بالسيطرة على شؤونه ومصيره وهذه حلقة من حلقات القهر.
وأما آليات القاهرين في تربية المقهورين فهي:
الاستلاب وعدم الايمان بالحوار

فرق تسد
الاستغلال
الغزو الثقافي
وينتقد بشدة ما يسمى « التعليم المحايد» وبحسب الكاتب « عندما لا يكون ثمة مناص من الاختيار بين التعليم كعملية للتأهيل والتعليم كعملية للتحرر، فإننا نبحث عن سبيل ثالث لا وجود له أصلًا، إننا نعلن أن التعليم عملية محايدة تستهدف نفسها وكأنها ليست ضرورة إنسانية، وكأن الإنسان لم يكن مخلوقًا بشريا له جذور في التاريخ..فالتعليم المحايد لا يمكن في الحقيقة أن يوجد»[7].

الفصل الخامس: اللامدرسية
يمكن القول إن التيار الذي يرفع لواء إخراج التعليم من إطار المؤسسات ليس حديثًا بل يرجع إلى القرن الثامن عشر مع جان جاك روسو الذي صب هجومه على المدرسة حيث رأى أن التعليم النظامي الذي تقدمه معاهد التعليم يفسد الأطفال بما يبثه من قيم اجتماعية هي في معظمها لا تشكل صفاء الحياة الاجتماعية[8].

ولكن هذا التيار أخذ مؤخرًا بالتصاعد في القرن العشرين والمقصود بالدقة من اللامدرسية هو أن تصبح المجتمعات بلا مدارس مع الأخذ بعين الاعتبار أن المقصود من المدارس كل مؤسسة تعليمية نظامية أقامها المجتمع سواء أسميت (مدرسة) أو ( معهدًا) أو (كلية) أو (جامعة) أو غير ذلك.
وفي الحقيقة أن فكرة ( التعليم الإلزامي) التي نجدها في بعض المجتمعات وتعتبر لدى البعض أنها علامة التقدم، كانت بالنسبة لهؤلاء موضع هجوم لما لهذا الأمر من إكراه وإرغام، ولذا تطل الليبرالية من أكمام بعض المنادين باللامدرسية لتتمثل في عالم التربية والتعليم في صورة حرية الفرد في أن يقرر بنفسه هو متى وأين وكيف يتعلم.

ويبرز الكاتب نوعًا من الميل تجاه هذا الاتجاه حيث يقول « ربما لا يجد الإنسان مفرًا من التسليم مع النقاد للمدارس بعدد غير قليل من النقود، في مقدمتها الطابع التكراري النمطي الممل للحياة المدرسية، من توزيع منتظم لساعات الدروس، ومن خطة دراسية محددة سلفًا..ومن وظائف إجبارية ومن درجات مدرسية من شأنها أن تحيي من جديد ضروب الذل التي فرضت من قبل الشهادات التي ترسل إلى أولياء الأمور لتخبرهم بنتائج تحصيل أبنائهم ومن إعداد للامتحانات بكل ما تحمله من مظاهر القلق والخوف والتوتر»[9].
ويمكن اعتبار إيفان إيلتش هو الشخصية البارزة في تيار اللامدرسية وذكر أن المقصود بالدقة بالشيء الذي يدعو إليه عدم الاعتماد على المؤسسات التعليمية النظام في القيام بمهمة التربية والتعليم واستثمار كافة القوى والمؤسسات التي يمكن أن يكون لها دور في تربية الإنسان، وتعتبر هذه «لامدرسية معتدلة» مقابل لامدرسية متطرفة تدعو الى إلغاء المؤسسة النظامية ليكون المجتمع كله هو المدرسة الكبرى للجميع.
ولم تقف اللامدرسية بتوجيه سهام النقد بما يرتبط بالأبعاد التعليمية والنفسية للطلاب، بل ذكرت أن المدرسة الإلزامية لم تقم تاريخيًا لأجل خير الأطفال، بل قامت بسبب الظروف الاقتصادية التي سادت في الغرب إذ استلزم العصر الصناعي الذي بدا في القرن التاسع عشر انطلاقة تجعل المواطنين قادرين على تلبية المطالب التقنية والتكنولوجية المتزايدة، لكن دون ان يبلغوا مستوى عاليًا من التأهيل. وما كان التعليم قد عمم هذه الغاية وحدها، فمن الطبيعي ألا يكون وسيلة للمساواة الاجتماعية الحقة، ومن هنا كان فشله صارخًا.[10].

ولم يكن هجوم إيلتش على المدرسة يستهدف المؤسسة التعليمية فحسب، بل إنما انطلق في الحقيقة من نقد لفكرة « المأسسة» بما تحمله من صيغة صناعية غربية لا تلائم حقيقة الاجتماع في سائر العالم بحيث تقدّم المأسسة والانخراط في المؤسسة على حساب القيمة.

مراجعة نقدية
يمثل هذا الكتاب كما رأينا فيما تقدم من عرض مختصر لما جاء فيه رصدًا لا بأس به لأهم التيارات التي أبدت وجهة نظرها في النظم التعليمية، ويتميز بصفة إيجابية أنه لم يعرض وجهات نظر العالم الغربي فقط، بل تعرض أيضًا للاتجاه اليساري في التربية والتعليم والذي تمثل في الاتجاه النقدي وأيضًا تعرض للاتجاه التحرري في التربية والتعليم الذي نشأ في العالم الثالث والدول النامية كرد فعل على الاستعمار، ويكن اعتبار هذا الاتجاه من امتدادات ما بعد الاستعمار الذي تجلى في ميادين متعددة كعلم الاجتماع والسياسة وغير ذلك، وأخيرًا تعرض للامدرسية بأشكالها المتعددة والبارزة.
باختصار إن هذا الكتاب يمتلك من الإيجابية ونقاط القوة ما لا يخفى، ولكن أيضًا لا يمكننا أن نُغفل وجود بعض الأمور التي لا بد من التعليق عليها، سواء أكان هذا التعليق نقديًا لما ذكره الكاتب في المتن أم إنها إضافات نجد أنها من الجيد الالتفات إليها لتتميم الفائدة.

إن عنوان الكتاب هو « فلسفات التربية» لا النظريات التربوية بالخصوص، ولذا فإن الكاتب لأجل التمييز بين هذين الميدانين طرح في المقدمة والفصل الأول الفرق بينهما والموضوعات التي يختص بها البحث في فلسفة التربية، وكانت على رأس هذه المسائل والموضوعات المنظومة القيمية والفلسفية في النظر إلى حقيقة الانسان وشخصيته وموقعه في الوجود، ولذا كان لا بد عند البحث عن فلسفة للتربية والتعليم من رصد التفاوتات الفلسفية بين المدارس المختلفة في نظرتها للإنسان: هل هو إنسان معنوي وله بعد روحي؟ أم هو إنسان لا يعدو كونه محاطًا في عالم مادي محسوس؟ وإذا وضعنا هذا الأمر نصب أعيننا فلا يقتصر الأمر في عرض ما جاء به الكاتب بمجرد الاتجاه النقدي أو التحرري أو اللامدرسية أو غير ذلك، بل لا بد أن نلجأ إلى الفلسفات الأولى المتفاوتة فيما بينها في نظرتها للإنسان ومراتبه ومن ثم نفرّق بين الاتجاهات الفلسفية التربوية.

ولذا نجد أنه كان من الجيد أن ينطلق الكاتب من الأنظمة الفلسفية المختلفة في أصل نظرتها للإنسان والعالم ومنها ينطلق في تشعيب وتشقيق ما يترتب على هذه الأنظمة من فلسفات تربوية مختلفة.
في المقابل أن ما طرحه الكاتب ليس فلسفة تربوية محضة، بل يشترك فيها بعض البحوث المتعلقة بالأنظمة التربوية والتعليمية، فلم نجد التركيز الكبير على الاصول الفلسفية للتربية بالشكل الشامل والكبير.
على سبيل المثال، إن الفكر الإسلامي الفلسفي والنقلي المأخوذ من النصوص الدينية القرآنية وغيرها، يشير بشكل واضح إلى أن الإنسان حقيقة مزدوجة، بمعنى أن لها بعد روحي وبعد جسماني، وفي مرتبة ثانية تقدّم البعد الروحي على البعد الجسماني في القيمة، ويعتبر الفكر الفلسفي الإسلامي أن التربية والتزكية والتعليم هي أمور في الواقع لا بد أن تصب في الغاية الأخيرة لوجود الإنسان وهي الارتقاء به في هذا المستوى الذي يشكل حقيقته وملكاته التي بها يسعد ويرتقي ويتكامل، فإذا كان الامر كذلك، فمما لا شك فيه أن للإسلام فلسفة تربوية خاصة به تنطلق من هذه الأصول سواء أوضعت ضمن إطار علمي اسمه فلسفة التربية ام لا.

وقد طرح بعض المفكرين في هذا الإطار الكثير من الافكار العميقة، فيذكر الشهيد مطهري على سبيل المثال « البحث في التعليم والتربية هو بحث في كيفية بناء شخصية الإنسان. إن الدين الذي يرسم للإنسان أهدافًا مشخصة ومقررات شاملة في جميع الجوانب الحقوقية والاقتصادية والسياسية لا يمكن أن يعدم أسلوب وطريقة للتعليم والتربية»[11].
وأيضًا هناك قضية مهمة كان لا بد من الالتفات إليها فيما يخص التربية والتعليم وفلسفتها، وهي ربطها بالمنظومة الفكرية والمعرفية الكاملة الناظمة لحياة الإنسان، فالإنسان ليس عبارة عن أجزاء متناثرة ومتفرقة بحيث لا يرتبط الجزء فيه بالآخر، أو بحيث يكون النظام التعليمي والتربوي مستقلًا عن المنظومات السلوكية والقانونية المتعلقة بالفرد والمجتمع، بل إن الإنسان هو نوع تندمج في حياته كل هذه الأبعاد، فالجدير بفلسفة التربية أن تعتني أيضًا بالربط بين المنظومة القانونية- الحقوقية من جهة والتربية والتعليممن جهة أخرى، وأيضا بين المنظومة القيمية والاعتقادية من جهة والتربية والتعليم، على سبيل المثال يقول العلامة الطباطبائي في معرض حديثه عن علاقة التربية والتعليم ببعض التشريعات الإسلامية كحرمة شرب الخمر " أقام الاسلام قواعد منهجه في التربية و التعليم‏ على أساس التعقل. و العقل هو العنصر الوحيد الذي يتميّز به الانسان على سائر الحيوانات. و من الواضح انّ المشروبات الكحولية و سائر المسكرات الأخرى هي مما يذهب بهذه الميّزة التي تعد اساس حياة الانسان، و تجعل مقاصد التربية و التعليم الدينيين هباء منثورا.
و لا يمكن أيضا التغاضي عن الجرائم المتعدّدة و التحليل و الفساد، و أشكال التخلف عن القانون، مما يقود إليه تناول المشروبات الكحولية، أو يساهم في انبثاقه- مع العوامل الأخرى- و ذلك فضلا عما تتسبّب به هذه المشروبات من أضرار صحية في البعدين الروحي و الجسمي، و ما تفضي إليه من آثار وراثية سيئة يشهدها المجتمع البشري يوميا”[12]

----------------------------
[1]. إسماعيل علي، فلسفات تربوية معاصرة، 7.
[2]. م. ن، 16- 17
[3]. م. ن، 42.
[4]. م. ن، 48.
[5]. م. ن، 78.
[6]. م. ن، 136- 137.
[7]. م. ن، 181.
[8]. م. ن، 194.
[9]. م. ن، 197.
[10]. م. ن، 199.
[11]. المطهري، التربية والتعليم في الإسلام، 11.
[12]. الطباطبايى، مقالات تأسيسية فى الفكر الإسلامى، 528.