الباحث : الدكتور العياشي ادراوي
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 36
السنة : خريف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : February / 13 / 2025
عدد زيارات البحث : 237
الملخّص
نروم في هذه المقالة مناقشة نظرية غْرايسْ الحوارية في مستويين اثنين؛ يتولى المستوى الأول عرض النظرية والتعريف بها وبسياق تبلورها، مع التوقف عند منطلقاتها ورهاناتها اللغوية والفلسفية استناداً إلى ما كتبه غْرايسْ نفسه أو ما كُتب عنه في هذا الموضوع، فيما يركز المستوى الثاني على نقد النظرية انطلاقًا من بعض مصادر التراث اللغوي البلاغي، والأصولي الكلامي، والفلسفي المنطقي الذي أبدعه العلماء المسلمون في هذا المجال، خصوصًا ما يتعلق بالجانب التهذيبي الذي يعد – في الممارسة التراثية العربية الإسلامية - مكونًّا أساسًا من مكونات عملية التخاطب، إنْ على مستوى بنائها وتحققها، أم على مستوى نجاحها وتأثيرها.
الكلمات المفتاحية: فلسفة اللغة – النزعة التحليلية – المعنى – اللغة العادية - التداوليات – الاستلزام التخاطبي
تقديم
يتبّوأ الفيلسوف الأمريكي ب. غرايس (1988- 1913) موقعًا مميزًا في مجال فلسفة اللغة عمومًا ومجال فلسفة اللغة العادية خصوصًا، والتي حظيت باهتمام غير عادي من قِبل الفلاسفة التحليليين المتأخّرين من أمثال أوستينْ وسورلْ ورايِلْ وستراوسِنْ ونويلْ وشميتْ وغيرهم ممن عُرفوا بفلاسفة مدرسة أوكسفورد الذين شكّلوا - كما هو معلوم- تيارًا فلسفيًا أحدث انقلابًا جذريًا على المنطلقات الرئيسية والأطروحات الأساسية التي جاءت بها الوضعية المنطقية، خاصة ما يتعلق بدعوى كون الوظيفة الأساس للغة – بل الوحيدة- هي الوصف والتقرير ليس إلّا. ومن ثمة الإقرار بنظرية «إمكانية التحقق للمعنى».
فبدلاً من هذا دافع فلاسفة أوكسفورد عن «نظرية الاستعمال للمعنى»، الأمر الذي انكشف معه أن للغة استعمالات أخرى عديدة لا يشكّل الوصف إلّا أحد وجوهها، من جهة، ومن جهة ثانية تبين أنه يتعذر الحديث عن معنى ثابت وتام ومستقل بشكل كلي عن المتكلم وسياق الكلام. بما يعني أنه لا يمكن الإجابة على سؤال المعنى – وفق هذا التصور- إلا في حدود الاستعمال اللغوي وفي إطار الشروط التي ينهض عليها.
وإذا كان هناك من تشدَّد في هذا المسعى، تنظيرًا وتقنينًا وتحليلًا، فهو غرايس الذي يُعدّ بحق فيلسوف المعنى؛ المعنى الذي لا يمكن تصوره والاهتداء إليه بمعزل عن المتكلمين ومقاصدهم. فالمتكلم في حيز اعتقاده هو المرتكز الأساس الذي ينبني عليه معنى الكلام. وعليه فإن معنى عبارة لغوية محددة يحتاج إلى تفسير ما يعنيه المتكلمون بها في مناسبات وسياقات معينة وليس في أي إطار آخر خارج عنها. كما يُستنتج من مقالته الشهيرة «المنطق والتخاطب» وغيرها من الأعمال التي لم ينحُ فيها منحى الحديث عن معاني الكلمات والجمل، وإنما سار في اتجاه النظر في الشروط المناسبة لاستعمال العبارات، بحيث بسط الأسس العامة للحوار/ التخاطب، محددا المبادئ والشروط القاعدية التي يتعين الانضباط لها أثناء التفاعل الكلامي وعلى رأسها ما أسماه ب«مبدأ التعاون»، بما يتفرع عنه من قواعد تخاطبية جزئية التي هي بمثابة ضوابط تضمن لكل مخاطبة إفادة تبلُغ الغاية في الوضوح في حالة اتباعها والتقيد بها من قبل المتخاطبين، أو تساعدهم على إجراء التأويل السليم للمقصود غير المباشر من الخطاب في حال عدم التقيد بها وخرْقها.
بَيْدَ أنه رغم ما يتميز به الطرح الغرايسي من كفاية نظرية ومعرفية، فإنه ينطوي على مكامن قصور عديدة ليس أقلها اعتناؤه فقط بالجانب التبليغي من الخطاب وإهماله الجانب التهذيبي (التعاملي) منه، والذي يعد مكونا أساسيا وحيويا في توجيه الخطابات ونجاحها. ولعل ما اجتهد في توضيحه وتقريره علماء البلاغة والأصول والكلام من المسلمين في هذا الإطار، في مجال ما يعرف بشروط الإبلاغ وآداب البحث والمناظرة ومستلزمات التخاطب، لَيُعَدّ سندًا قويًّا في كشف ضعف طرح غرايس في هذا النطاق. ومن ثمة يمكن اعتماده منطلقا أساسا لمراجعة ونقد النظرية الحوارية عند الرجل وما يرتبط بها من قضايا ذات الصلة.
ضمن هذا التصور العام ستتولَّى هذه المقالة مناقشة نظرية غرايس الحوارية في مستويين اثنين؛ المستوى الأول: يختص بعرض النظرية والتعريف بها وبسياق تبلورها، مع التوقف عند منطلقاتها ورهاناتها اللغوية والفلسفية استنادًا إلى ما كتبه غرايس نفسه أو ما كُتب عنه في هذا الموضوع.
أما المستوى الثاني؛ فيركز على نقد النظرية الغرايسية انطلاقًا من بعض مصادر التراث اللغوي البلاغي، والأصولي الكلامي، والفلسفي المنطقي الذي أبدعه العلماء المسلمون في هذا المجال، ليس من باب الإسقاط المعرفي والتعسّف العلمي، وإنما من باب «التفاعل الفكري الحضاري» الذي توجّهه قوة الحجة وصحة الدليل ومعيار الإسهام المُثْري.
وتبعًا لهذا تمت هندسة المقالة على النحو الآتي:
أولا: موقع غرايس في الفلسفة التحليلية.
ثانيا: اللغة العادية وسؤال المعنى عند غرايس.
ثالثا: النظرية الحوارية: اقتراحات وتقويمات.
رابعا: الفعل اللغوي غير المباشر عند غرايس.
خامسا: في نقد نظرية غرايس الحوارية وتقويمها.
أولا: موقع غرايس في الفلسفة التحليلية
لا يخفى أن النزعة التحليلية شديدة الارتباط بالنزعة الواقعية؛ لأن كلًّا منهما نشأت كردّ فعل مضاد للنزعات المثالية عمومًا وللتوجه الفلسفي الهيجلي خصوصًا، ولذلك شكلت الفلسفة التحليلية ثورة قادها كل من مورْ وراسلْ وفتجنشاين في كمبريدج بأنجلترا. وبلغت ذروتها أواخر القرن 20 وبداية القرن 21م على يد بعض أساتذة أوكسفورد.
تعد الفلسفة التحليلية اتجاهًا فلسفيًا معاصرًا أُطلق ليوضح الأبحاث المنتشرة في البلدان الأنجلوساكسونية التي سعت إلى إيجاد مناهج علمية في الفلسفة، متخذين من التحليل المنطقي للغة أساسًا لهذا الغرض. ويمكن التمييز في الفلسفة التحليلية بين جملة من الاتجاهات الفكرية أبرزها أتباع كارناب (1891-1970) الذين جعلوا آخر الأفكار التي انتهى إليها أستاذهم منطلَقًا لوضع تعريف دقيق للمفاهيم الأساسية للعلوم، وذلك في إطار لغة اصطلاحية صِرفة. ثم مدرسة مور (1876-1958) التي تجعل اللغة العادية أساسًا لأبحاثها فضلًا عن أتباع فيتجنشتاين (1889-1951) الموسومين اتفاقاً بالفلاسفة العلاجيين لكونهم ينظرون إلى الفلسفة على أنها ضرب من العلاج المنطقي. ويضاف إلى هؤلاء فلاسفة مدرسة أوكسفورد الذين أنفقوا جهودًا غير عادية في تحليل اللغة الطبيعية والتعاطي معها.
يحسن في هذا المقام الإشارة إلى أن فلسفة مدرسة أوكسفورد – وتسمى كذلك فلسفة اللغة العادية - هي منهج لممارسة الفلسفة أكثر من كونها مذهبًا محكومًا بعقائد محددة، كما تمثل مرحلة متطورة من مراحل الفلسفة التحليلية، لذلك فهي تشترك معها في أهم أهدافها، وهو أن تحليل المفاهيم أهم وأجدى من بناء الأنساق الفلسفية الميتافيزيقية. غير أن ما شكّل بؤرة التدافع والاختلاف بين هذه المدرسة (أوكسفورد) وباقي التيارات المحسوبة على الفلسفة التحليلية هو دراسة استعمال الكلمات في سياقها العادي غير الفلسفي، يقول غرايْسْ في هذا السياق «إن الموقف الوحيد الذي حظي بموافقة عامة من وجهة نظري، هو أن الفحص الدقيق للجوانب التفصيلية في الخطاب العادي مطلوب كأساس للتفكير الفلسفي». وقبل العودة إلى تفصيل القول في موقف غرايس هذا وتبيان المنزلة التي تحظى بها مسألة اللغة العادية في اهتماماته يحسن إبراز موقعه في السياق العام للفلسفة التحليلية ليكون أساسًا لفهم جملة من القضايا التي طرحها وتميز بها غير غيره في هذا المضمار.
إن مما عرف به غرايس في مجال فلسفة اللغة هو تحليله للمعنى عند المتكلم ومشروع علم الدلالة المبنية على القصد، بالإضافة لنظرية الاستلزام التخاطبي فضلًا عن إسهامه في فلسفة الأخلاق التي رام من خلالها تقديم أساس ميتافيزيقي للقيمة. لكن أهم عمل - بالنسبة إلينا على الأقل- الذي شكّل إضافة نوعية للمجال هو المنطق والتخاطب بما حمله من أفق نظري وعملي غير معهود، كما سنقف عليه بشيء غير قليل من التفصيل في الفقرات القادمة.
يقول هيلاري بتنام عن غرايس: «تأتي أهمية بعض الفلاسفة نتيجة لأنهم قدموا نظرية مهمة أو مقالًا مهمّاً، وتأتي أهمية بعضهم الآخر نتيجة لأنهم يملكون عقولًا تتألق بطريقة معينة بالإضافة إلى تقديم المقالات والنظريات. وغرايس فيلسوف من هذا النوع الثاني العظيم...إن ألمعيته وقدرته العقلية وتأثيره البالغ هي وسائل لنقل صورة عن الفلسفة، وهي صورة تحمل شيئًا كثيرًا يقال للفلاسفة التحليليين اليوم». ولعل ما يؤكد وجاهة هذا الحكم أن اقتراحات غرايس العميقة في مجال المعنى والتواصل تم تلقيها باهتمام غير عادي سواء من قبل اللغويين أو من لدن المعنيين بالعلم المعرفي أو من طرف الفلاسفة. من جملة هذه الاقتراحات:
أسهم بمحاولات نسقية لتوضيح المقصود بالمعنى على جهة التدقيق، وتمثلت هذه المحاولات في متوالية من التحليلات التفصيلية، بلغت الغاية في الدقة، للمعنى لدى المتكلم، ومعنى العبارة والتلفّظ.
قدم تقريرًا دقيقًا بيّن من خلاله إمكانات اختلاف ما يصرّح به المتكلم ويقوله عما يعنيه ويقصده (تواصل ضمني).
دَشّن عهدًا جديدًا في البحث التداولي- أو علم استعمال اللغة (pragmatics) - من خلال نظريته المعروفة في الاستلزام التخاطبي؛ إذ فتح مسلكًا معرفيًا جديدًا في التعاطي مع المشكلات الفلسفية على اعتبار أن نظرية الاستلزام لم تكن نظرية لغوية صرفة، بل كانت أيضًا جهازا مفاهيميا وعملا منهجيا من شأنه أن يساعد على حل العديد من المشاكل ذات الطابع الفلسفي والمنطقي.
حرصه على التميز من الناحية الفلسفية بين الدلالات والمعاني الحقيقية المباشرة للعبارات والأقوال وبين المعاني الاستعمالية التي تقتضيها السياقات والمقامات، وذلك استنادًا إلى فصل صارم بين علم الدلالة الخاص باللغة الطبيعية من جهة، والمنطق الكلاسيكي من جهة ثانية.
وإجمالًا فإن موقع غرايس في حقل الدرس الفلسفي اللغوي المعاصر وتأثيره فيه لا يخفى على ذي نظر، شأنه في ذلك شأن كبار الفلاسفة، فمفهومه عن المعنى لدى المتكلم في إطار نظرية المعنى، وتصوره المشيد بخصوص الاستلزام التخاطبي (ضمن النظرية الحوارية) يوضعان من حيث الأهمية والأثر جنبًا إلى جنب مع تمْييز فريجه بين المعنىوالإحالة، ومع نظرية الأوصاف عند برتراند راسل، ونظرية تارْسْكي في الصدق، ونحو ذلك من النظريات التي تشكل جوهر فلسفة اللغة المعاصرة وروحها.
ثانيا: اللغة العادية وسؤال المعنى عند غرايس
لعل من الملامح الأساسية المميزة للفلسفة التحليلية بشكل عام ولفلسفة غرايس تحديدًا استحضارها البعد التداولي في التحليل اللغوي، بما يعني أنها تؤسس بحوثها على تحليلات مختلفة تنبني جملة وتفصيلًا على اللغة، بحيث تسعى إلى الارتباط بها على نحو موضوعي في مقابل ابتعادها - ما أمكن – عن المعرفة والخبرة الشخصيتين، وكذا عن اللغة الخاصة بفرد ما، وذلك لأجل الاحتراز من الوقوع في التناقض من ناحية، والحرص على أقصى درجات الوضوح من ناحية أخرى، بحكم أنه لو اقترنت المعرفة بشخص ما أو بالخبرة الفردية، فإنها لا تعدو أن تكون واضحة إلا بالنسبة للعارفين بها فقط. ولعل هذا ما يؤدي بالتحليلات التي لا تقرر فيها الألفاظ بشكل واضح ومؤسس إلى أن تكون عديمة الجدوى خالية من الفائدة، غير ذات قيمة بالنسبة لأي معرفة فلسفية تهدف إلى أن تكون على قدر معتبر من الانسجام والاتساق. وعلى هذا الأساس، فإن «التحليل الذي لا يرتبط باللغة المشتركة (اللغة العادية) لابد أن يكون على أفضل الفروض- واقعًا في التناقضات، وقد يكون - على أسوأ الفروض – عديم النفع بالنسبة للعملية الفعلية للتحليل».
وعلى هذا الأساس، فإن ما يحقق النفع بالنسبة لعملية التحليل هو الاعتماد على اللغة العادية/ الجارية من حيث كونها جزءاً من التاريخ الطبيعي الإنساني، بل هي جزء من الكيان العضوي الإنساني، «فالصور الأولية – على حد تعبير فيتجنشتاين- مثل إصدار الأوامر، وطرح الأسئلة هي كالمشي والأكل والشرب واللعب». وهذا الحماس لصالح اللغة الجارية (العادية) دفع صاحب أبحاث/تحقيقات فلسفية إلى اعتبار اللغة العادية لغة صحيحة تماما، لذا لا يصح للفلسفة أن تتدخل في الاستعمال العادي للغة، وأقصى ما يمكن أن تقوم به هو أن تصف هذا الاستعمال. يقول: «لا يجوز للفلسفة أن تتدخل إطلاقا في الاستعمال الفعلي للغة، كل ما في إمكانها أن تقوم به هو أن تصفه فقط، لأنها غير قادرة على أن تعطيه أي أساس. إنها تترك في نهاية المطاف - كل شيء على حاله».
ووفق هذا المنظور فإن سلامة وصحة استخدام الكلمات في اللغة هو طريقة استعمالنا لها في اللغة العادية، «فعندما أتكلم عن اللغة (الكلمات، الجمل) يجب أن أتكلم لغة الحياة اليومية» التي تشكل مجمل ما يستعمله علماء الطبيعة، والريفيون ورجال الشرطة والآباء، إلخ، في سياقات تواصلية محددة، ومواقف اجتماعية معينة، وبهذا تصير اللغة، بحسب هذا التصور - الغرايسي - أمرًا تحدده الشروط التواصلية «ضمن جماعة بشرية ما، يتقاسم أعضاؤها كمًّا هائلًا من الممارسات المشتركة، ويغدو استعمال الرموز على هذا الأساس، مقرونًا بالاستجابة لتوقعات السلوك وبالإجماع التحتي الذي يحكم هذه التوقعات، وتكون اللغة بذلك شأنا عموميا وليس أمرا خصوصيا».
أو لنقل إنها ظاهرة اجتماعية، وليست شأنًا فرديًا خالصًا، تخضع لقواعد الجماعة المتحدثة وضوابطها، وتتماشى مع سلوكياتهم وتصرفاتهم، كما يقول بذلك جميع فلاسفة اللغة العادية، وكل من ركب مركبهم. وما دام الأمر كذلك بالنسبة للغة فإن الشيء نفسه بالنسبة للمعنى، بحيث لا يمكن تعقّبه والكشف عنه إلا في سياق الاستعمال. وتتلخص نظرية الاستعمال هذه في العبارة المشهورة «لا تسأل عن المعنى بل اسأل عن الاستعمال». مما يعني أن الأولوية في هذا الإطار تُعطى لاستعمال المتكّلمين للعبارات، وليس للمعنى في حد ذاته. مما يجعل سؤال المعنى – كما عند غرايس- تابعًا لسؤال الاستعمال على نحو يبدو من مقالته الشهيرة «المعنى» التي شكّلت أحد المحاولات النوعية لبيان ما الذي يمكن أن يكون المعنى على جهة التدقيق، من جانب، ومن جانب آخر لتقديم تفسير مخصوص لمعنى «التعبير» في حدود ما يفعله المتكلمون به، أو على الأصح في حدود ما يعنيه المستعملون/ المتكلمون بهذا التعبير في مساقات محددة.
تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أنه إذا كان الفلاسفة المنطقيون الوضعيون قد حصروا الوظيفة الأساس للغة في التسمية أو الوصف، وبالتالي صاروا يبحثون عن قواعد التركيب أو قواعد التطبيق فإن فلاسفة اللغة العادية - خصوصًا فيتجنشتاين وغرايسْ وأوستينِ وسورلْ- سخّروا جهدهم للبحث في قواعد الاستعمال، أي القواعد التي تحكم استعمال هذه العبارة أو تلك تحت هذا الظرف المعين أو ذاك.
ومفاد هذا أن المعنى أضحى مبسوطًا – على نحو ما- في استعمال الكلمات والعبارات، ومن ثمة صار تعريف المعنى في حدود الاستعمال قاعدة منهجية علمية. ففي مقابل افتراض أن للتعبيرات معنى محددًا أو مطلقًا تامًا مستقلًا عن المتكلم والسياق يجب الإقرار- بحسب التصور الغرايسي- بأن التعبيرات لا يكون لها معنى إلا في سياق معين؛ إذ لا يتعين الالتفات إلى الموضوع الذي يشير إليه التعبير، بل النظر في المناسبة التي تمنح لاستعماله مغزى. ولهذا يقول نوويل سميث «إننا بدل التساؤل عما تعنيه العبارة (س) يتوجّب أن نسأل سؤالين اثنين: لأي غرض يتم استخدام الكلمة (س)؟ وتحت أيٍّ من الشروط يكون من الملائم استخدام هذه العبارة لهذا الغرض؟»
وعلى سبيل الإجمال هناك رأيان أساسيان يلخّصان اهتمام غرايس بالاستعمال، يقضي أولهما بأن الفكرة الأساس بخصوص المعنى هي أن المتكلم يعني شيئًا عندما يتلفّظ بقول ما في مناسبة محددة، وكل الأفكار الأخرى المتعلقة بالمعنى يجب معالجتها على أنها «مشتقّة» و«مفسَّرة» في حدود هذه الفكرة الأساسية. وعليه فمن الضروري التمييز بين الملفوظات وبين فكرة المعنى التي تتصل بمستعملي هذه الملفوظات. والفكرة غير المتصلة تكون لزومًا ملحقة بالفكرة المتصلة، ويتعين بالتالي أن تكون مفهومة في حدودها. وما تعنيه التعبيرات هو ما يعنيه الناس (المتخاطبون) بها. وأما الرأي الثاني فيقضي بأن معنى تعبير معين يمكن تحليله في حدود مقاصد المتكلم الموجّهة إلى المستمع.
ومعلوم في هذا الإطار أن صاحب «المنطق والتخاطب» انشغل كثيرًا بالدلالة التي تندرج في نطاق «القصد التواصلي» التي تشكل في نظره ما يسمى بـ«الدلالة غير الطبيعية» في مقابل الدلالة الطبيعية التي تتوقف تحديدًا على تحقق شرط القصد العلني. وهذا الصنف من الدلالة (الدلالة القصدية) عنده يقتضي حتمًا تفعيل مبدأ التعاون، كما سنوضح في الفقرات الآتية بشيء من التفصيل. إذ إن الوصول إلى تواصل ناجح بين المتخاطبين يتطلّب تعاونًا نوعيًا على مستوى العملية التخاطبية، باعتبار «أن الخطاب هو كل منطوق به موجّه نحو الغير بهدف إفهامه مقصودًا ما. كما أن الذي يحدد ماهية الكلام هو العلاقة التخاطبية، وليس العلاقة اللفظية وحدها، فلا كلام بغير تخاطب».
وغني عن البيان في هذا المقام أن مفهوم القصد يُعدّ من المفاهيم المركزية التي حظيت باهتمام بالغ في فلسفة اللغة بالنظر لأهميته في العلاقات التواصلية بين المتخاطبين، ودوره في بناء وتوجيه الممارسات الحوارية، فإذا كانت اللغة مجردة من «القصد» فهي مجرد لغو كما يقول فوسلرْ. بل إن القيمة النفسية للغة لا تظهر إلا في فعل القصد، بحكم أن «المتكلّم يريد تحقيق مسعى معين، أي أنه يقصد شيئًا بكلامه. وعندما يتعرف السامع والقارئ على مراده يكونان قد توصلا إلى فهم لغته». وإن كان هناك من يميز بين صنفين من القصد، قصد إخباري، يهدف إلى إبلاغ المتكلم معلومات معينة، وقصد تواصلي الهدف منه جعل هذه المعلومات مشتركة بين المتخاطبين.
ولا يخفى أن مفهوم القصد وإن كان من المفاهيم المهمة التي طوّرها غرايس، فإنه أخذ بُعدًا آخر مع هابرماس فيما يُعرف بـ«النظرية التواصلية» (نظرية الفعل التواصلي) عنده. فالرجل بحكم انتصاره للعقلانية التواصلية على حساب العقلانية الأداتية، جعله يخلص إلى أن ما اقترحه غرايس غير ملائم لبيان آليات تنظيم التفاعل عبر قناة اللغة؛ لأنها تحلّل فعل التفاهم تبعًا لنموذج الفعل الموجه نحو النتائج. والنظرية القصدية (كما سبقت الإشارة) تستند إلى دعوى مفادها أن فهم دلالة تعبير رمزي معين يجب أن يُردّ إلى فهم قصد المتكلم، والذي يقدّم شيئًا ما للمستمع لكي يفهمه بالاعتماد على علاقته به. لكن ضعف هذا التصور في اعتقاد هابرماس يلخصه «السؤال الآتي: ماذا سيفهم المستمع من هذا التعبير الرمزي: هل سيفهم التعبير الرمزي أم سيفهم قصد المتكلم؟».
تتضح قيمة هذا التساؤل من خلال التعبير الذي يوضحه بين الفعل من جهة، والسلوك من جهة أخرى، إن السلوك بالنسبة إليه لا يعدو أن يكون مجرد رد فعل لمثير خارجي، يكون مرتبطا بالجسد في الغالب، على النقيض من الفعل الذي يرتبط بالجسد الإنساني تحديدًا، ففي الأول تغيب المسؤولية بينما تحضر في الثاني. إن السلوك الحيواني – مثلًا- يفتقد للقصد وبالتالي فهو غير قصدي، أما السلوك الإنساني فهو فعل قصدي، ومن هنا يميز هابرماس بين السلوك والفعل استنادًا إلى مفهوم القصد. يقول: «أسمّي قصدًا سلوكًا منظّمًا بمعايير، والقواعد والمعايير ليست مجرد أحداث، بل هي سارية لمفعول في المجتمع بموجب دلالتها المعترف بها بشكل بَيْنذاتي، فالمعايير لها مضمون دلالي، أي لها معنى، بحيث إن كل ذات قادرة على الفهم. فالسلوك الذي يتأسس على هذه القواعد المتعرَّف عليها والحاملة للمعنى هي التي تسمى فعلًا، فعلًا قصديًا».
بناء على هذا التوصيف يبدو إذن أن لمفهوم القصد- على خلاف ما دافع عنه غرايس- بعداً اجتماعيًا وليس بعداً معرفيًا فقط، بما يعني أن اللغة وحدها غير كافية لإبلاغ المقاصد، وإنما لا بدّ من السياق المعياري الذي في نطاقه يُفهم القصد ويؤول.
ثالثا: النظرية الحوارية أو مستلزمات التحاور عند غرايس؛ اقتراحات وتقويمات
إن كل تخاطب كما سلفت الإشارة يستلزم وجود جانبين على الأقل يتناوبان على الكلام إلقاءً وتلقّيا، إنتاجًا وتأويلًا، بهدف إيصال كل منهما الآخر مقصوداً محدداً. ولما «كان التخاطب يقتضي اشتراك جانبين عاقلين في القيام به، لزم أن ينضبط كلام أحدهما للآخر بقواعد تحدد وجوه فائدته تسمى بـ«قواعد التبليغ»، ولزم كذلك أن ينضبط سلوك أحدهما حيال الآخر، بقواعد تحدد وجوه استقامته، تسمى بـ«قواعد التهذيب» ».
وعليه فإن غاية هذه الفقرة النظر التداولي في المبادئ والقواعد «التبليغية» و«الأخلاقية» التي هي أساس كل تخاطب/ تحاور عقلاني، باعتباره فعلًا تواصليًا منظوراً إليه من زاوية لسانية تداولية حديثة وذلك لمقارنة هذه الضوابط بما أنتجه الفكر العربي الإسلامي في تقنينه – منطقيا وأخلاقيا- للممارسة الحوارية- المناظرة، ومقارنة هذه بتلك قصد الكشف عن مفاصل الالتقاء والتداخل بين المنظورين، مما يُمَكن من بناء تصور مركب يفيد في بلورة نظرية أعمق وأقتن مما اقترحه غرايس ومن سار في ركبه في هذا المجال. أي للوقوف على جملة من الضوابط الخاصة التي تضبط ما ينبغي أن يكون عليه «السلوك الحواري التواصلي» تبعًا للسياق وموضع الكلام.
1-3- مبدأ التعاون:
أول من قدم هذا المبدأ في اللسانيات الحديثة، الفيلسوف واللساني الأمريكي «بول غرايس» في محاضرته المسماة «محاضرات في التخاطب»، ثم بعد ذلك في مقالة «المنطق والتخاطب».
لقد انطلق في ذلك من افتراض مفاده أن المتخاطبين المساهمين في محادثة مشتركة يحترمون «مبدأ التعاون». فالمتخاطِبون يتوقّعون أن يساهم كل واحد منهم في المحادثة بكيفية عقلانية ومتعاونة ليُيَسَّر تأويل أقواله. بمعنى أن مبدأ التعاون يقضي في صيغته العامة، بأن على أطراف الحوار أن تتعاون فيما بينها لتحقيق المطلوب، والهدف من الحوار الذي دخلت فيه، وقد يكون الهدف محدداً قبل الدخول في الكلام، أو يحصل تحديده أثناء الممارسة الكلامية.
فانطلاقًا من هذا المبدأ حدد الفرضية الأساسية فيما مفاده أن التفاعلات الحوارية تبلغ مقاصدها بمقتضى التعاون القائم بين أطراف الحوار. وهو ما يتطلّب أن يكشف المتحاورون عن مقاصدهم أو على الأقل عن التوجه العام لهذه المقاصد. وبذلك افترض منذ البدء وجود تعاون بين أطراف الحوار على تحقيق المطلوب. وللإشارة فإن «بول غرايس» تمكن من صياغة هذا المبدأ حينما كان يحاضر في جامعة «هارفارد» الأمريكية منذ عام (1967) في موضوعين مهمين هما:
- نظرية المعنى غير الطبيعي.
- كيف يستعمل الناس اللغة.
والموضوعان يمثلان معًا مسار «النظرية الاستلزامية التكاملية» التي يمكن صوغها على النحو الآتي:
«تقود سير التحاور -في اللغات الطبيعية- مجموعة من الافتراضات والتقديرات الكامنة في كفاية المتحاورين والناتجة عن اعتبارات عقلية مهمتها توجيه الاستعمال اللغوي الحواري الفعال نحو تحقيق أهدافه التعاونية، حيث يتّضح أن «النظرية اللغوية الحوارية» في اللغات الطبيعية لم تعد نظرية تحكمها الاعتباطية، بل هي عملية تقوم على معطيات عقلية، وخطط مضبوطة، جعلته يشتقّ منها «المبدأ التعاوني» السالف الذكر بالإضافة إلی القواعد المتفرعة عنه»..
على هذا الأساس إذن يُصاغ «مبدأ التعاون» الذي يراقب نسق القواعد المشتمل على قيود فرعية على النحو الآتي:
«اجعل خطابك حين حصوله على مقتضى القصد المحمود للوضع الذي ارتضيته».
وبعد تحديد «غرايس» للمبدأ العام، عمل على تفريعه إلى مجموعة من القواعد، حددها فيما يأتي:
قاعدة الكم: تعدّ حدًّا دلاليّا القصد منه الحيلولة دون الزيادة أو النقصان في مقدار الفائدة من قبل المتحاورين، لذلك تُلخّص في القيدين الآتيين:
قيد الفائدة «أ»: اجعل خطابك مفيداً على قدر الطلب الموضعي.
قيد الفائدة «ب»: لا تتجاوز بإفادته الحد المطلوب (أي الخطاب).
قاعدة الكيف: تتوخّى تجنّب ادعاء الكذب أو إثبات الباطل، لذلك على المتكلم ألا يورد من العبارات إلا تلك التي تأكد من صدقيتها. وقد تم تفريعها إلى:
قيد الصدق: ليكن خطابك صادقًا، ولا تقل ما تعتقد كذبه.
قيد الحجة: لتبرهن على قولك ولا تقل ما تنقصه الحجة.
- قاعدة العلاقة أو الورود والملاءمة:
القصد منها منع المتكلم من أن ينزلق إلى مقاصد أخرى مخالفة لتلك التي يستهدفها الخطاب، أي مراعاة المقال للمقام. وتُصاغ كما يأتي:
« ليكن كلامك مناسبًا وملائمًا للسياق».
- قاعدة الجهة :
ما يميزها عن القواعد السابقة كونها لا ترتبط بما قيل، وإنما بما يُراد قوله والكيفية التي يجب أن يقال بها، الهدف منها تجنّب الاضطراب والملل والإيجاز المخلّ في القول. فهي إذن ترتبط بالقاعدة الأساسية التي يعبر عنها بـ «التزم الوضوح» وتتفرع إلى أربعة قيود أساسية:
- قيد الوضوح:
لتسلك مسلك الإفهام، ولتتجنب مسلك الإبهام.
- قيد الفهم أو «التفاهم»:
افهم عن نفسك ثم رُمْ أن يفهم عنك غيرك.
- قيد الحال:
احترز الإيجاز لئلّا تخل بالفهم، واحترز الإطناب لئلّا تؤدي إلى الملل.
- قيد القصد:
ليكن لكلامك قصد، واحترز التعرض لما لا دخل له في المقصود.
تستهدف هذه القواعد من وجهة نظر «غرايس» مبتغًى واحداً يتمثّل في ضبط مسار الحوار، بحيث يؤكد على أن احترام هذه القواعد بالإضافة إلى المبدأ العام، هو السبيل الكفيل بجعلنا نبلغ مقاصدنا، حيث يفضي كل خروج عنها، أو عن إحداها، إلى اختلال العملية الحوارية.
وعليه فإن ما بسطه «غرايس» في نظريته، من مبادئ وقواعد، يجعل منها نظرية مؤطرة للتخاطب بشكل عام، على اعتبار أن القواعد المقترحة ترسم للمشاركين في الحوار ما يجب عليهم أن يقوموا به لكي تتم «عملية التحاور» بالطريقة المثلى القائمة على التعاون والعقلانية والفعالية، إذ من دونها لا يستقيم تواصل عقلاني بين المتحدثين. وعليه فإن هذه القواعد «تحدد ما يجب أن يفعله المساهمون في الحديث اللغوي بأقصى طريق تعاوني عقلي كاف، إذ عليهم أن يتحدثوا بصدق ووضوح، مقدمين معلومات وافية» على حد تعبير «ليفنصنْ».
إلا أن هذا لا يعني طبعاً، أن عليهم اتباع القواعد المذكورة حرفيًا، في جميع الأحوال والأوقات، وتطبيقها تطبيقًا دقيقًا. فلِماماً ما يسير الحوار العادي على هذا النهج، وعليه فإن المقصود بذلك، أنه حتى عندما لا يجاري الحوار العادي القواعد المقترحة، يظل السامع يفترض - خلافًا للظاهر- أن المتكلم ما زال يأخذ بهذه القواعد، وإنْ على مستوى أعمق، حتى يتيسّر له التواصل إلى معنى محدد. ومن ثمة فمن دون تقدير هذه القواعد، يستحيل أن يكون التواصل الإنساني توصلًا ناجحًا.
أثارت قواعد التخاطب «الغرايسية» العديد من الانتقادات والاعتراضات، وفتحت مجالًا واسعاً في تطوير التداوليات اللغوية، حيث اقترحت جملة إضافات وأدخلت عدة تعديلات، بهدف تطويرها لتستجيب لمقتضيات أخرى. ومن جملة هذه الاقتراحات المضافة في هذا النطاق:
2-3- مبدأ التأدب والتقرب
عدّه «جوفري ليتش» في كتابه «مبادئ التداوليات» متممًا لمبدأ التعاون، من منطلق أن «الممارسة الحوارية» العقلانية والفعلية، غير متوقِّفة على المبادئ والقواعد «النوعية» فحسب، وإنما تشمل أيضًا مبادئ وضوابط أخلاقية (أخلاقيات التحاور) تستجيب لمقتضيات التخاطب الإنساني وخاصياته الطبيعية. وقد صاغ «ليتش» هذا المبدأ كما يأتي:
«كــن مؤدبــًا»
باعتباره مراقبًا لنسق القواعد المتضمن لقيود فرعية ثنائية.
قاعدة اللباقة:
احرص على جلب النفع ودفع الضرر.
(أ) - قلل خسارة الغير.
(ب)- أكثر ربح الغير.
قاعدة الكرم:
احرص على جلب النفع ودفع الضرر.
(أ) - قلل ربح النفس.
(ب)- أكثر خسارة النفس.
قاعدة الاستحسان:
رمْ الإنصاف واحترز الاستصغار.
(أ) - قلّل ذمّ الغير.
(ب)- أكثر الثناء على الغير.
قاعدة التواضع:
رُمْ الإنصاف واحترز الاستصغار.
(أ) - قلّل الثناء على النفس.
(ب)- أكثر ذم النفس.
قاعدة الاتفاق:
اطلب الحق واجتنب التعصّب.
(أ) - قلل الخلاف بين النفس والغير.
(ب)- أكثر الاتفاق بين النفس والغير.
قاعدة التعاطف:
اطلب الحق واجتنب التعصب.
(أ) - قلل التعارض بين النفس والغير.
(ب)- أكثر التعاطف بين النفس والغير.
ويذهب «ليتش» إلى أن القواعد أعلاه، بمثابة خطط تبعد كل ما يمكن أن يعيق التعاون، أو يقود إلى النزاع، بحيث يقدم «مبدأ التأدب» على «مبدأ التعاون» في حالة حدوث تعارض بينهما. لأنه أحفظ للصلة الاجتماعية التي هي شرط التعاون.
3-3- مبدأ التهذيب:
ارتبط المدأ باسم «روبين لاكوفْ»، في مقالة «منطق التهذيب» . ويقضي بأن يلتزم المتكلم والمخاطب، في تعاونهما على تحقيق الهدف الذي من أجله شرعا في الحوار، من ضوابط التهذيب بقدر ما يلتزمان به من قواعد التبليغ. ويصاغ على النحو الآتي:
«كــن مهذبــا»
وقد فرع هذا المبدأ إلى ثلاث قواعد أساسية:
- قاعدة التعفف:
لا تفرض نفسك على المخاطب.
- قاعدة التشكيك:
اجعل المخاطب يختار بنفسه.
- قاعدة التودد:
أظهر الود للمخاطب.
وقد ادعت «لاكوفْ» أن هذه القواعد تنزع نحو الشمولية والكلية بحيث تأخذ بها كل المجتمعات البشرية، كما تأخذ بها جميع الجماعات اللغوية في نطاق المجتمع الواحد. ومن ثمة فإن ما يلاحظ من اختلاف في التهذيب، ليس سوى اختلاف في ترتيب هذه القواعد بحيث يقدم بعضها على بعض.
3 -4- مبدأ التواجه:
ورد عند كل من «بروان» و«لفنصن»في عملهما المشرك « الكليات في الاستعمال اللغوي: ظاهرة التأدب». ويصاغ على النحو الآتي:
«لتصـن وجــه غيــرك»
يقوم هذا المبدأ على مفهومين مركزيين: أولهما مفهوم «الوجه»، الذي هو عبارة عن ذات الشخص التي تتحدد بها قيمته الاجتماعية. وهو على نوعين: وجه سلبي وآخر إيجابي، أما السلبي فيتحدد في دفع الاعتراض، وأما الثاني فيتمثل في جلب اعتراف الغير؛ لذا يكون الحوار هو المجال الذي يسعى فيه المتحاور إلى حفظ وجهه بحفظ وجه مخاطبه.
وبخصوص المفهوم الثاني المتعلق بـ«التهديد» يرى الباحثان أن من الأقوال التي تنزل في الممارسة التداولية منزلة الأعمال، ما يهدد الوجه تهديداً ذاتيًا، وهي الأقوال التي تعيق بطبيعتها إراده المتكلم أو المستمع في دفع الاعتراض وجلب الاعتراف، ويذكر الباحثان جملة من الخطط الحوارية للتخفيف من آثار التهديد، لا يتسع المجال للتوقّف عندها جميعًا.
ولعلّ في تركيز الباحثين على مفهوم «التواجه» (التعامل) دلالة على اهتمامهما بالجانب العملي في التخاطب. ومن ثمة تجنّب «التجريد» الذي سقطت فيه «لاكوف» قبلهما.
5-3- مبدأ التصديق:
إن مراجعة طه عبد الرحمن للمبادئ والقواعد السالفة الذكر، كشفت عن بعض الثغرات فيها، مما دفعه إلى اقتراح مبدأ سدّ هذا النقص، سماه «مبدأ التصديق واعتبار الصدق والإخلاص»، وقد صاغه على النحو الآتي:
«لا تقل لغيرك قولاً لا يصدّقه فعلك»
وقد فرّع عنه جملة قواعد بعضها مرتبط بجانب التواصل (التبليغ)، وبعضها متصل بجانب التعامل (التهذيب)، مستندًا في ذلك إلى بعض التصورات التراثية العربية الإسلامية.
- قواعد التواصل:
ينبغي أن يكون الكلام لداعٍ يدعو إليه، إما لاجتلاب نفع أو دفع ضرر.
ينبغي أن يأتي به المتكلم في موضعه ويتوخّى به إصابة فرصته.
ينبغي أن يقتصر من الكلام على قدر حاجته.
ينبغي أن يتخيّر اللفظ الذي به يتكلم.
- قواعد التعامل:
قاعدة القصد:
لتتفقد قصدك في كل قول تلقيه إلى الغير.
قاعدة الصدق:
لتكن صادقا فيما تنقله إلى غيرك.
قاعدة الإخلاص:
لتكن في تودّدك للغير متجرّدًا عن أغراضك.
وبالتدقيق في مجمل هذه القواعد المنبثقة عن مبدأ التصديق يتضح أن «القواعد التواصلية» شاملة لمبدأ التعاون «الغرايسي» والقواعد المتفرعة عنه، كما أن «القواعد التعاملية» جامعة لقواعد «التأدب» و«التواجه». وعليه فهو (مبدأ التصديق) «أكمل [تلك المبادئ] جميعا، ولا عجب أن يكون هو الأصل الذي تقرّر في الممارسة التراثية الإسلامية العربية؛ إذ معاينتها للتخاطب كانت أصدق حالاً، وأفسح مجالًا؛ ولذا لا بد أن يكون نظر أهلها في التخاطب أصحّ حكماً وأبلغ أثرًا».
رابعا: الفعل اللغوي غير المباشر عند غرايس
يمكن تحديد مرحلة الفعل اللغوي المباشر من عمل «أوستين» الذي سبق ذكره، إلى خروج مقالة غرايس (1975)، التي مثّلت البداية الحقيقية لتناول ظاهرة الفعل اللغوي غير المباشر.
فإذا كانت الدراسات التي أنجزها كل من «أوستين» و«سورل»، قد ركّزت بالأساس على الجانب المرتبط بأفعال اللغة المباشرة وغير المباشرة. فإن «غرايس» باشتغاله بأفعال اللغة غير المباشرة -كما أثارها «سورل»- يولي كل اهتمامه في الأبحاث التي قام بها- إلى أصول الحوار. ومن ثمة فبدل أن يتحدث عن معاني الكلمات والجمل، ينظر أساسًا في الشروط المناسبة لاستعمال العبارات؛ لاعتقاده أن تعدد الفعل اللغوي المباشر لا يمثل حلا لمشكل المعنى. وعليه سعى – كما سبق البيان - إلى بسط الأسس العامة التي يتعين الالتزام بها أثناء التحاور.
إلّا أنه قبل التطرق إلى هذه القواعد تلزم الإشارة إلى أن ظاهرة الفعل اللغوي المباشر تُعدّ من الظواهر التي تصدّى لها الفلاسفة التحليليون، الذين أكدوا على أن الظاهرة لا يمكن أن تهمش في إطار النظرية اللغوية، بالنظر إلى أنه يلاحظ وجود جمل تحتمل تأويلين دلاليين اثنين:
أ- تأويلً دلاليً يطفو على سطح الجملة، تؤشر عليه مؤشرات بنيوية.
ب- تأويلً دلاليً لا يطفو على سطح الجملة، ولا توجد قرائن بنيوية تدل عليه.
وبعبارة أخرى يمكن القول إننا عندما ننجز جملة ما، يمكن حسب المقام الذي أنجزت فيه أن نقوم بفعلين لغويين:
الأول: فعل لغوي مباشر (دلالة لغوية مباشرة).
الثاني: فعل لغوي غير مباشر (دلالة لغوية غير مباشرة).
مثال ذلك قوله تعالى: «رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ». فالآية الكريمة تنجز فعلين لغوبين مباشرين: الأمر والنهي. يستدل عليهما بقرائن بنيوية هي: (لا الناهية) وصيغة (إفعل). غير أن المنجز للآية في السياق القرآني الذي وردت فيه، ينجز فعلًا لغويًا غير مباشر، يتمثل في المعنى المشتق من المعنيين الأصليين، ونعني به معنى «الدعاء».
وقد سمى غرايس هذه الظاهرة «بالاستلزام التخاطبي» وأصبح يميز في نظرية «الأفعال اللغوية» بين القوة الإنجازية الحرفية، والقوة الإنجازية المستلزمة. أما الأولى فهي القوة المدركة مقاليًا، والتي يدل عليها بصيغة الفعل، كما هو الأمر بالنسبة إلى «الأمر» أو الأداة، كما هو الحال في «النهي»، أو بالتنغيم، أو بفعل إنجازي، مثل سأل، التمس، وعد، إلخ.
ويراد بالقوة الإنجازية المستلزمة، القوة الإنجازية المدرَكة مقاميًا، والتي تستلزمها الجملة في سياقات مقامية معينة. ولا قرائن بنيوية تدل عليها في صورة الجملة.
ولهذا فإن الآية السالفة الذكر، تحمل بالإضافة إلى قوتيْها الإنجازيتين الحرفيتين، قوة إنجازية مستلزمة مقاميًا، وهي «الدعاء»، ومعنى هذا أننا بصدد مستويات دلالية ثلاثة:
1. المحتوى القضوي: أي مجموع معاني المفردات التي تكون الآية.
2. القوة الإنجازية الحرفية: الأمر والنهي.
3. القوة الإنجازية المستلزمة: الدعاء.
إلا أن الإشكال الذي يفرض نفسه في هذا الإطار هو الآتي: ما هي الآليات التي يتوسل بها في الانتقال من الفعل اللغوي المباشر إلى الفعل اللغوي غير المباشر، استنادًا إلى اقتراح «غرايس» الوارد في مقالته المشار إليها سابقا والمتعلق بمبدأ التعاون وما يسنده من قواعد فرعية؟
إن هذه القواعد تستهدف من وجهة نظر «غرايس» غاية واحدة تتمثل في ضبط مسار الحوار بحيث يؤكد على أن احترام هذه القواعد، بالإضافة إلى المبدأ العام، هو السبيل الكفيل بجعلنا نبلغ مقاصدنا حيث يفضي كل خروج عنها - أو عن إحداها- إلى اختلال العملية الحوارية، وفي هذه الحالة على المحاور أن ينقل كلام مخاطبه من معناه الظاهر إلى المعنى الخفي الذي يقتضيه المقام. وهو ما تناوله تحت مفهوم «الاستلزام التخاطبي». كما تناول مسألة القصد التي اعتبرها من الخصائص الأساسية للخطاب، فكل حوار يتطلب استحضار المقاصد حتى يقوم تعاون بين المتحاورين ويفهم كل منهما الآخر.
وفي الوقت نفسه يتلاءم الملفوظ مع السياق. وعليه «يتضح أن مدلول العبارة قد يتجاوز المعنى الحرفي لمجموع ألفاظها. وقد يتولد المعنى لدى المخاطب قبل أن ينتهي المتكلم من التلفظ بالعبارة دون أن يكتمل معناها بعد لدى المخاطب، وكل هذا يكشف على أن المعنى الحرفي والمصرح به، ليس سوى جزء من المعنى. أما الجزء المتبقّي فيتوقف على كلٍّ من المتكلم والمخاطب».
وعليه فإن على المتكلم احترام جملة من الشروط المقتضاة؛ منها أن يظهر قصده للمخاطب حتى لا يفهم من القول خلاف القصد، ولهذا اتخذ مبدأ التعاون شرطًا أساسيًا لتحقيق الأهداف المطلوبة، بشكل يتطلّب تبادل المقاصد فيما بينهما، إذ المقاصد مراتب، منها ما هو عام، وما هو خاص، ومنها ما هو صريح وما هو ضمني، مما يتيح الحديث عن المقاصد وعن مقاصد المقاصد. لأجل هذا اعتمد «غرايس» على فرضية مؤدّاها أن القصد قصد مركب وانعكاسي يتمثل في سعي المتكلم إبلاغ المخاطب أمرًا بجعله يتعرّف على قصده. وعليه فالآليات التأويلية التي يستخدمها المخاطب لإدراك مدلول الخطاب الموجه إليه، تقوم على فرضية تنبني على مقاصده، إذ دونها لن يتمكّن من إعطاء تأويل ملائم لما يُوجّه إليه. وبما أن «غرايس» يعتبر القصد مركّبًا فقد عمد إلى تفريعه إلى مقاصد متداخلة حدّدها في:
-القصد الأول: قصد المتكلم إبلاغ المخاطب محتوى دلاليًا معينًا.
- القصد الثاني: قصده أن يتعرف المخاطب على القصد الأول.
- القصد الثالث: قصده أن يبلغ المخاطب أن القصد الأول يتحقق بتعرف المخاطب على القصد الثاني.
وعليه فالمقاصد تتداخل وتتعدد وتتراتب على شكل مقاصد ثلاثة تتحدد في«القصد» و«قصد القصد» و«قصد قصد القصد»؛ لهذا يذهب «غرايس» إلى أن القواعد العادية للحوار تشكل مبادئ تتم الاستجابة لها بوحي من العقل، وعن اقتناع بضرورة التشبّث بها أثناء كل مساهمة حوارية، إذ هي الضابطة للحوار في المقامات العادية. كما ارتأى أن هناك جملة من الخصائص المميزة التي تطبع عملية الحوار، وتعد قاسمًا مشتركًا بالنسبة لمجموع التعاملات ذات الصبغة التعاونية. وهي كالآتي:
- يجب أن يكون هناك هدف مشترك يجمع المشاركين في عملية التحاور.
- يجب أن تكون إسهامات المشاركين متداخلة، ومتوقفًا بعضها على بعض.
- يجب أن تستمر عملية التحاور وفق الأسلوب الملائم لها، إلا إذا تراضى الطرفان فوضعا حدًّا لها.
وقد برهن صاحب «المنطق والتخاطب» على التلاحم الحاصل بين مبدأ التعاون والقواعد المتفرعة عنه، وبين الاستلزام التخاطبي، باعتبار أن الاستلزام التخاطبي ينجم عن خرق قاعدة من القواعد الأربع مع عدم التخلّي عن مبدأ التعاون. وعليه فإن المتكلم عند تلفظه بعبارة ما، قاصدا معنى جملة أخرى، يجب أن يلتزم بالشروط الآتية لتحقيق فحوى الاستلزام:.
1. يجب ألّا يترك مجالًا للاعتقاد بأنه لم يتم احترام مبدأ التعاون.
2. يجب افتراض أن الشخص المعني بالأمر يدرك أن المعنى غير الحرفي ضروري لكي لا يقع تناقض بين المعنى الحرفي وبين ما نصّ عليه في الشرط الأول.
3. يظن المتكلّم أن المخاطب قادر على الاستنتاج والإدراك الحدسي للفكرة التي تتعلق بضرورة الانطلاق من الافتراض الوارد في الشرط الثاني.
لنطبق هذه البنود على المثال الذي ساقه «غرايس»: شخصان يتحدثان، ولنرمز إليهما بـ(س) و(ص). يسأل الأول الثاني عن صديق لهما يعمل في أحد البنوك، فيجيبه (ص) قائلًا: «إنه مازال يعمل بالبنك المذكور ولكنه لم يدخل السجن».
يمكن لـ(س) أن يستنتج داخل الظرف الملائم ما يأتي:
* يبدو أن (ص) قد خرج عن قاعدة الورود، كما أنه لم يعبأ بقاعدة من قواعد الوضوح. غير أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نفترض أنه قد امتنع عن الاستجابة لمبدأ التعاون.
* باستحضار الموقف التواصلي يمكن أن نعد قسوة ملاحظة (ص) مسألة ظاهرية ليس إلا، خاصة إذا افترضنا أن (ص) يعتبر ذلك الصديق لصًا حقيقيًا.
* يعلم (ص) أنني قادر على القيام بهذا الاستنتاج، إذن (ص) يستلزم أن ذلك الصديق يعدّ لصًا حقيقيًا.
خلاصة الأمر أن (س) استطاع أن يفهم من المعنى الحرفي وغير الحرفي، افتراضًا منه أن (ص) أثناء إنجازه للمعنى الأول كان يحترم مبدأ التعاون والقواعد المتفرعة عنه.
ويشترط «غرايس» لتحقيق الاستلزام التخاطبي أن يأخذ المتكلم بعين الاعتبار المعطيات الآتية:
- المعنى الحرفي للكلمات المستعملة، وتعريف العبارات الإحالية.
- مبدأ التعاون والقواعد المتفرّعة عنه.
- السياقان اللغوي وغير اللغوي للخطاب.
- عناصر أخرى تتصل بالخلفية المعرفية.
- يجب على المساهمين في الحوار أن يكونا على علم بالمعطيات الآنفة الذكر، وأن يصدرا أثناء عملية التحاور عن افتراض هذه المعطيات.
وبالجملة فإن الاستلزام التخاطبي ينجم عن العدول عن إحدى القواعد المتحكمة في الحوار اللغوي مع التشبّث بمبدأ التعاون.
مثال ذلك الخروج عن «قاعدة الكيف»، كأن يقول السيد لعبده: «لا تطع أمري»، يتمثّل «الخرق» في أن المساهمة الحوارية غير مطابقة لما يجول بخاطر المتكلم، ذلك أنه لا يقصد النهي عن الطاعة، لأن فعل عدم الطاعة متحقّق، وإنما يقصد معنى آخر يتلاءم والمقام الذي أنجزت فيه الجملة، وهو معنى «التهديد».
بخصوص هذه النظرية التي تحتوي على المبدأ التعاوني العام والقواعد المتفرعة عنه، يمكن تسجيل جملة ملاحظات نحصرها -تبعًا للدكتور بنعيسى أزاييط- في ملاحظتين أساسيتين: خارجية وداخلية.
* الملاحظة الخارجية:
وترتكز على الرصد الخارجي لعناصر مبدأ التعاون أساسًا، هذه العناصر التي تتشكل من الاقتضاءات الآتية:
1. الاقتضاء الكمي: ويتجلى في «المقدار» المطلوب في الحوار، والمراد المساهمة به في الحديث المتبادل. ولعل ورود هذا الاقتضاء في مبدأ التعاون يعود إلى اعتبارين أساسيين:
- الاعتبار الخطابي: في اللغة المستعملة، وهو لا يتحدد في كمّ معين من الألفاظ أو التراكيب.
- الاعتبار الثاني: يتجلى في درجات الوضوح أو الشفافية، وكلما تردد الحوار بين هذين القطبيين تأثرت المادة اللغوية في كمها ومقدارها.
2. اقتضاء الوسيلة: تقتضي الوسيلة اللغوية، من جملة ما تقتضيه، التمسك بالأداة اللغوية نفسها في مجال تحتمل فيه الألفاظ والمفردات، وحقول المعجم والدلالة ومستلزمات العبارة، واستخداماتها المقامية أو البلاغية أو غيرها.
3. اقتضاء الغاية: إن المعطى الغائي في أي حوار ضرورة لا غنى عنها، إذ هو الذي يخطط الميكانيزمية البيانية في مرتفعاتها ومنحدراتها، وفي استقامتها ومنعرجاتها. وكأن الخطاب اللغوي مسار تسود فيه هذه التضاريس، بدءا وانتهاء، افتتاحا واختتاما. ولعل من محاسن مبدأ الغاية أنه يجنّب كل حوار العبث واللغو غير المفيد، ولعله المعيار الوحيد الذي يقدم قيمة كل تحاور لغوي مقصود.
4.اقتضاء القصدية: إن القصدية بمثابة «قوة الدفع» للخطاب اللغوي بشكل عام، مهما كان تنوّعها النفسي واستراتيجياتها التداولية، ومهما كانت واضحة المعالم، أو خفية المراسم، شريطة أن تحتوي على قرائن تعاقدية التزامية لغوية بين طرفي الخطاب.
5.اقتضاء الالتزام: المقصود بالالتزام مسايرة الخطوط التي يقطعها الحوار، في تشابكها وتقاطعها، وفي تباينها واختلافها. مع المحافظة والالتزام في الوقت نفسه الميكانيزمية التشابك والتقاطع، والتباين والاختلاف، استقراءً واستنباطًا، إظهارًا وإضمارًا.
* الملاحظة الداخلية:
يشكل مبدأ التعاون والقواعد المتفرعة عنه العمود الفقري لنظرية «غرايس» الاستلزامية (1975-1978)؛ ولذلك تكتنفه مسألتان أساسيان: المسألة الأولى، تتحدد فيما يسمى«بالحوار» أو«التحاور»، وتحيل الثانية على تلك الفعاليات الحوارية، وكل فعالية حوارية تفيد القيام بمجموعتين متميزتين من الشروط يمكن تلخيصها في:
- شروط النص الاستدلالي.
- شروط التداول اللغوي.
تتعلق الشروط الأولى بالمسألة الأولى، فيما تتعلق الشروط الثانية بالمسألة الثانية.
- شروط النص الاستدلالي:
أ – النصية: كل نص هو بناء يتركّب من عدد من الجمل السليمة مرتبطة فيما بينها بعدد من العلاقات، سواء ربطًا مثنويًا أو جمعيًا أو مباشرًا، إلخ.
ب- الاقترانية: وهو ما كانت فيه عناصر النص مرتبطة فيما بينها ارتباط انسجام وتكامل.
ج – الاستدلالية: و«هي تلكم العلاقات الاستدلالية التي تسود النص الاستدلالي من صور منطقية، أو تدرج القضايا من المقدمات إلى النتائج، أو تقهقرها من النتيجة إلى المقدمات»، أو تلك العلاقات التي يتم نسجها بين المتحاورين لغويًا على سبيل الوهم، في سبيل الوصول إلى نص ثابت.
وعليه فإن النص الاستدلالي قد يكون: «من الصنف التدريجي الذي تسبق فيه المقدمات النتيجة، أو من الصنف التقهقري الذي تأتي فيه النتيجة قبل بيان المقدمات، وقد يكون من الصنف الإظهاري، إذا طويت بعض هذه الصور، واحتيج إلى ذكرها لتمام بنيته الاستدلالية».
المسألة الثانية، تتحدّد في فعالية شروط التداول اللغوي، على اعتبار أن كل مساهمة حوارية، تتطلّب مجموعة من الشروط التداولية اللغوية، التي توجه الحوار شكلًا ومضمونًا.
- شروط التداول اللغوي:
أ-النطقية: «لا يكون المحاور ناطقًا حقيقيًا إلا إذا تكلّم لسانًا طبيعيًا معينًا، وحصل تحصيلا كافيًا صيغه الصرفية وقواعده النحوية، وأوجه دلالاته وألفاظه وأساليبه في التعبير والتبليغ».
وبالإضافة إلى هذا، هناك شروط أخرى ترتبط بطبيعة المنطوق نفسه، منها:
- ألا تنفك الصور اللفظية عن مضامينها، هذه المضامين التي كلما كانت صلتها بالاعتقادات والمضامين ألصق، كأن تأثيرها في المخاطب أعمق.
- أن يكون متعدّد الوظائف، ومتداخل المستويات، تتزاوج فيه الأقوال، ويمتزج فيه الاعتقاد بالانتقاد.
- أن يكون موجّهًا توجيهًا علميًا، تتداخل فيه الوقائع مع القيم، والمعطى مع المبنىي، والمعنى مع المبنى.
- أن يكون مفتوحًا فتحًا مستمرًا، تُبنى موضوعاته بناء تدريجيا، ذلك أن هذه الموضوعات تنقلب في أحوال دلالة متعددة. تنتقل فيها من الإجمال إلى التفصيل، ومن الإشكال إلى التبيين، ومن الخفاء إلى الظهور، بالإضافة إلى ما قد يلحقها من تغيرات في قيمها الحكمية، وفي أوضاعها الاستدلالية.
وللإشارة فإن الخطاب اللغوي تتلوّن أساليبه، وتتقاطع تعابيره، فتتولد صيغ تعبيرية مختلفة متباينة فيها المركب والبسيط، والتصريحي والمكني، والخبري والإنشائي. ومن ثمة فإن الخطاب قابل للجمع بين ما هو ظاهر صريح، وما هو باطن وضمني، وما هو محكم وما هو متشابه، وما هو عام وما هو خاص، وغير هذا.
ب-الاجتماعية: إن المحاور يتوجه إلى غيره مطلعًا إياه على ما يعتقد ويعرف، ومطالبا إياه بمشاركته اعتقاداته ومعارفه، وفي هذا «الاطلاع» وهذه «المطالبة»، يكمن البعد الاجتماعي للحوارية، «فالحوارية» إذن تقوم على التعاون مع الغير في طلب الحقائق والحلول، وفي تحصل المعارف، واتخاذ القرارات وبالتوجّه بها إلى العمل.
وعليه فإن الجانب الاجتماعي في كل حوار يبقى المحدّد الأساس الذي تسير وفقه طرق الحجاج والاستدلال والاستنباط، والتأويل، التزامًا من المتحاورين إعلانًا أو إظهارًا.
ج– الإقناعية: إن هذا الشرط لا يعد ضروريا إلا إذا كان الحوار ذا طابع منطقي صِرْفٍ، وكان من أهدافه أن يؤثّر بالإقناع. أما إذا كان الخطاب الحواري لا يتوخّى هذا الهدف، فإن شرط الإقناعية ليس أساسيًا، وقد يتخذ «سِمَة صورية». فتوصّف الحوارات العادية بكونها تحتوي على خصائص استدلالية إقناعية، وإن كانت لا تهدف إلى ذلك في الأساس.
وعندما يطالب المحاور غيره بمشاركته اعتقاداته، فإن مطالبته لا تكتسي صبغة الإكراه، ولا تُدرج على منهج القمع، وإنّما تتبع في تحصيل غرضها سبلًا استدلالية متنوعة تجّر الغير جرًا إلى الاقتناع برأي المحاور. فتحصل بذلك الإقناعية الخالصة.
على هذا الأساس إذن، يُستفاد أن الخطاب يمر عبر قنوات عدة، ويستند إلى خلفيات يرتبط بعضها بالوقائع التي ينصَبُّ عليها النظر، وبعضها الآخر بعوامل منها ما هو ذاتي وما هو جماعي. الأمر الذي يتطلب استحضار عوامل ثقافية واجتماعية تقترن بالخلفيات المعرفية المشتركة بين المتحاورين، بالإضافة إلى معطيات أخرى تتضافر فيما بينها ليحصل الإقناع والاقتناع، ويتحقق الفهم والتفاهم.
د – الاعتقادية: يتعلّق هذا الشرط بجملة من الأمور التي يعتقدها المتحاورون على سبيل الإيمان بها قوة وضعفًا، يقينًا أو شكًا، فكل محاور يعتقد القضايا الضرورية والبديهية والمسلّم بها، فضلًا عن كونه يعتقد الرأي الذي يعرضه على الغير، ويعتقد صحة هذا الاعتقاد، وما يلزم عنه، وصحة الدليل الذي يقيمه على رأيه. كما أنه قد يعتقد الانتقاد الذي يوجّهه إلى الغير، ولا يعتقد برأي الغير إلا إذا اعتقد أن هذا الرأي مقبول، الأمر الذي يجعلنا نتصور الاعتيادية في الحوار حلقة تؤطر المتحاورين، بحيث يتوقّف كل طرف فيها على الطرف الآخر في شكل أدوار متناهية يصعب إيجاد نهاية لها.
وعليه فإن «شرط الاعتيادية» هو الذي يضمن التواصل الناجح بين المتحاورين. من هنا يتضح إذن، أن «خصوصية الانعكاس» هي خصيصة جوهرية للتواصل القصدي، فحتى يحصل هذا التواصل، لا يكفي أن يتم نقل المحتوى بشكل قصدي، بل لا بد بالإضافة إلى ذلك، أن يقصد أن هذا المحتوى قد أريد توصيله بشكل قصدي. ففعل التوصيل ينعكس على ذاته، ويشكل بالتالي جزءاً مما يجري توصيله.
بناء على ما سبق يمكن التأكيد على أن مختلف ما بسطه «غرايس» في نظريته من مبادئ وقواعد يجعل منها نظرية تؤطر الخطاب اللغوي بشكل عام، والخطاب الاستلزامي على وجه التخصيص، باعتبار أن القواعد المقترحة – كما سبقت الإشارة- ترسم للمشاركين في الحوار ما يجب عليهم أن يقوموا به لكي تتم عملية التحاور بالطريقة المثلى القائمة على التعاون والعقلانية والفعالية. إلا أن هذا لا يعني طبعًا أن عليهم اتباع القواعد المذكورة حرفيًا في جميع الأحوال والأوقات، وتطبيقها تطبيقًا مضبوطًا. فلِماماً ما يسير الحوار العادي على هذا النهج. وعليه فالمقصود من ذلك، أنه حتى عندما لا يجاري الحوار العادي الترسيمة التي تحددها القواعد المبسوطة، يظل السامع يفترض - خلافًا للظاهر- أن المتكلم مازال يأخذ بهذه القواعد، وإن على مستوى أعمق، حتى يتيسر له التوصل إلى معنى محدد. ومن ثمة فمن دون تقدير هذه القواعد يستحيل التواصل بين الناس.
إن قيمة القواعد أو القوانين المقدمة إذن تتجلّى في كونها تمكّن من استدلالات تتجاوز المحتوى الدلالي، للعبارات التي يتم التلفظ بها. ولذا يخص «غرايس» هذه الاستدلالات باسم الاستلزام التخاطبي، تمييزًا عن الاستلزام المنقي أو الاستنتاج المنطق الذي يقتصر على الاستدلالات المبنية على المضمون الدلالي فقط. فالاستلزام يعتمد بالإضافة إلى المضمون، على مطالب تتعلق بطبيعة التحاور القائمة أساساً على التعاون. وعليه فعند حدوث فشل في أي حوار، فإن علّة ذلك لا تُعزى إلى الحوار نفسه، وإنما إلى ممارسة تلك المبادئ وتطبيقها على مستوى الإنجاز. ولتوضيح هذا الأمر نورد المثال الآتي:
أ – أين زيد؟
ب- هناك سيارة صفراء أمام المكتبة.
فجواب (ب) إذا أُخذ حرفيًا لا يوافق سؤال (أ)، فهو يبدو على الأقل، أنه يخالف مقولتي الكمية والملاءمة.
لكن على الرغم من ذلك لا نعتبر أن (ب) لا يعير أي اهتمام في جوابه لما قاله (أ)، ومن ثمة يرفض مبدأ التعاون، بل لا بد من إيجاد علاقة بين «مكان زيد» و«مكان السيارة الصفراء». فإذا افْتُرض أن زيدًا يملك سيارة صفراء، استلزم الجواب أن زيدًا في المكتبة، الأمر الذي خلق «افتراضًا نقيضًا للمؤشرات السطحية التي تبرز فيها ظواهر الاستلزام في المقام الأول». وعليه يصح القول إن نظرية «غرايس» تتسم بنوع من المرونة، لكونها تُمكّن من تجاوز أو عدم التشبّث بحرفية وسطحية قوانين الحوار، إلى التأويل والاستنتاج.
ومن هنا فهذه «القوانين الحوارية ليست أعرافًا اعتباطية، لكنها أوصاف عقلية منطقية وُضعت لقيادة التعاون المتبادل في الحوار. وإذا كان هذا صحيحًا، فإمكاننا أن نتوسل بها إلى التحكّم في المظاهر السلوكية غير اللغوية كذلك. كالنزوع نحو الخصوصيات الثقافية والنفسية والحضارية».
ولعل آخر ما تجدر الإشارة إليه في هذا الإطار هو أن الاستلزام التخاطبي يجري بطريقتين مختلفتين على الأقل، وذلك تبعًا للموقف الذي يتخذه المتكلم من القواعد:
الطريقة الأولى: أن يراعي المتكلم القواعد والقوانين بشكل صريح، تاركًا مهمة توسيع وإبراز ما قيل باللجوء إلى استدلالات مباشرة، انطلاقًا من مراعاة المتكلّم للقواعد، وهو ما يمكن أن نسميه بـ«الاستلزام النموذجي».
الطريقة الثانية: أن يخلّ المتكلم عن قصد بقواعد الحوار وقوانينه، أو كما يعبر عن ذلك «غرايس» عندما يستخفّ المتكلّم بهذه القواعد؛ لذا يمكن وصف هذا النوع من الاستلزام بالاستلزام الناتج عن الإخلال بالقواعد.
وسواء أكان الاستلزام نموذجيًا أم ناتجًا عن الإخلال بقواعد الحوار، فإن سياق الكلام وتأويل المخاطب لما يستمع إليه، يبقيان محددين أساسيين في توجيه الفهم وتحديد المعنى المراد دون غيره.
خامسا: في نقد نظرية غرايس الحوارية وتقويمها.
هكذا إذن يبدو «أن الخلفية المنطقية التي توجه غرايس للتفاعل الكلامي قادته إلى الاعتماد على مبدأ التعاون بوصفه مبدأً ناظمًا لمختلف أشكال التبادل بين المتحاورين. فالخروق التي في أحد القواعد المتفرعة عن هذا المبدأ لا تؤثر فيه ولا تخرجه إلى ضده بل تفسر - فحسب- كيف يحصل استلزام معنى فرعي من معنى أصلي، كاستلزام المجاز من الحقيقة، أو استلزام معانٍ فرعية أخرى من معانٍ أصلية. وبذلك يقع الاستلزام داخل علاقة من الاشتقاق الدلالي التي ينتقل فيها الواصف من المعنى الأصلي إلى المعنى المستلزم الذي يتولد من الخرق الذي يطول واحدة أو أكثر من هذه القواعد. الأمر الذي يجعل المعنى الفرعي فائضًا معنويًاينضاف إلى المعنى الأصلي، ولا يلغيه». «وهذا يدل على أن تصور غرايس توجّهه نزعة تقعيدية واضحة ذات خلفية تداولية منطقية تسمح بردّ تعدد المعاني إلى نسق محدود من القواعد وتأويلها في ضوئه».
فمن المعلوم أن غرايس سعى إلى جعل القواعد التي حددها بمثابة ضوابط لكل عملية تخاطبية تُساق لتحقيق المطلوب وفق مسالك محددة مبنية على الصراحة والوضوح. لكن اتضح – من جملة ما اتضح- أن المتخاطبين يمكن أن ينتهكوا واحدة من القواعد أو أكثر مع احترامهم للمبدأ العام؛ ولذلك تكون المعاني في هذه الحالة ضمنية ومجازية، وتحتاج بالتالي إلى الأساليب المعمول بها في استنتاج ما هو ضمني والوصول إليه. ومن هنا فإذا كانت الاستلزامات التخاطبية – كما تبين- تتفرع إلى تلك التي تنتج عن احترام المبدأ العام والقواعد التخاطبية المتصلة به، وتلك التي تتولد عن خرق قاعدة أو قواعد محددة، فهذا يبين أن المعنى المستلزم تخاطبيًا قد ينتج عن خرق قاعدة فرعية مع الاستمرار في احترام القواعد الأخرى، فضلًا عن المبدأ العام. وقد يتولّد عن انتهاك المتكلم لواحدة من القواعد على الأقل. كما قد يتحقق وهو يحترمها كلها. وتقدم لنا الأقوال المجازية والاستعارية والتهكّم والسخرية والمفارقات شواهد دالّة في هذا الباب. هذا من جانب، ومن جانب آخر يلاحَظ أن قواعد التخاطب لا تثبت على حال، وبالتالي فهي معرضة للتداخل لا التكامل.
وإذا كان مما يُسجَّل على النموذج التخاطبي الذي اقترحه غرايس في هذا الإطار أنه لم يأخذ بعين الاعتبار العديد من السلوكات اللغوية اليومية العادية التي تتوفر على دلالة أكبر، مما جعله مدار اهتماماته، ومما يدل على أن الرجل لم يكن يهدف – حقيقة - إلى اقتراح نموذج نظري متكامل لتفاعلات الكلامية والممارسات الحوارية التي تشمل الحياة اليومية استنادا إلى مبادئ معيارية بقدر ما كان يستهدف تحديد نوع من أنواع الاستدلال المتمثل في الاستلزامات التخاطبية فقط.
من هذه الجهة يبدو أن قوانين الخطاب في هذه النظرية تستطيع أن تولّد استدلالات كامنة وراء المحتوى الدلالي للعبارات اللغوية، سواء أكانت اقتضاءات منطقية، أو لزومًا منطقيًا، أو استنتاجًا منطقيًاأو غيرها من المصطلحات التي تُستخدم - بشكل عام- للإحالة على الاستدلالات المشتقّة من المحتوى المنطقي أو الدلالي.
ولا شك أنه بالرجوع إلى الفكر اللغوي العربي القديم يجد الباحث أن ثمة عناية ملحوظة بسؤال المعنى على نحو عام، وبظاهرة الاستلزام التخاطبي بشكل خاص، بحيث قُدمت اقتراحات غاية في الأهمية لوصفها وتحليلها، سواء في علم النحو من قبل سيبويه (في الكتاب) الزمخشري (في الكشاف) – على سبيل المثال لا الحصر- أو في علم البلاغة من قبل عبد القاهر االجرجاني (في أسرار البلاغة) والسكاكي (في مفتاح العلوم) أو في علم الأصول من قبل الغزالي (في المستصفى) والشاطبي (في الموافقات). غير أن اقتراحات السكاكي فيما يبدو تمتاز عن باقي ما ورد في وصف الظاهرة بأنها تتجاوز الملاحظة الصرف وتحمل أهم بذور التحليل الملائم لها؛ أي التحليل الذي يضبط علاقة المعنى الصريح بالمعنى المستلزم مقاميًا، ويحدد بجلاء آليات الانتقال من الأول إلى الثاني بوضع قواعد استلزامية واضحة. فضلًا عن كون تقعيد السكاكي، خلافًا لغرايس- كما سيتبين-، جاء مؤطّرًا داخل وصف لغوي شامل يطمح لتناول جميع المستويات اللغوية (أصوات، صرف، نحو، معاني، بيان، إلخ).
وعليه يمكن اعتبار ما قدمه الرجل نموذجًا - للوصف العربي القديم لهذه الظاهرة - أكثر استجابة لمقتضيات الوصف اللغوي وشروطه، فبالرجوع إلى «مفتاح العلوم» نجد أن صاحبه اتجه في تأليفه اتجاهًا يروم التدقيق في مناقشة المسائل وعرضها، من جهة، والشمول من جهة ثانية. فلقد نظم عمله وفق مستويات ينْصَبّ بعضها على دراسة ومناقشة العبارات اللغوية بالنظر إلى بنيتها المكونة لها (النظر إليها من الداخل)، فيما ينصَبُّ بعضها الآخر على «الأغراض الكلامية» المترتبة عن النطق بتلك العبارات، من منطلق كون الكلام إما أن يكون مفردًا أو مركّبًا. وأن المركب يفترض فيه أن يكون مطابقا «لمقتضى الحال»، أي لما يجب أن يتكلم له. وفي هذا السياق يقول: «إن التعرض لخواص تراكيب الكلام موقوف على التعرض لتراكيبه ضرورة. لكن لا يخفى عليك حال التعرض لها منتشرة، فيجب المصير إلى إيرادها تحت الضبط بتعيين ما هو أصل لها وسابق في الاعتبار، ثم حمل ما عدا ذلك عليه شيئًا فشيئًا على موجب المساق. والسابق في الاعتبار في كلام العرب شيئان: الخبر والطلب... وما سوى ذلك نتائج امتناع إجراء الكلام على الأصل».
وهذا يعني أن السكاكي يؤمن يقينا بأن دلالة «خواص الكلام» تختلف عن دلالة «تراكيبه» ضرورة، بحكم خصيصة التركيب من جهة، وبحكم السياق الذي توظف فيه من جهة ثانية، ومن ثمة نجده يولي أهمية كبيرة لمسألة «مطابقة الكلام لتمام المراد منه»، على اعتبار أن العديد من العبارات اللغوية يتغير معناها بحسب السياق الذي تستعمل فيه، الأمر الذي يجعلها تفيد «معنى إضافيًا» جديدًا إلى الدلالة الأصلية. وعليه نجد السكاكي يحصر مهمة علم المعاني في: «تتبّع خواص تراكيب الكلام في الإفادة، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره».
إلا أن ما ينبغي أن نشير إليه في هذا الإطار هو أن عبارة «تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره» توحي بأن صاحب مفتاح العلوم يجمع بين المستوى الدلالي والمستوى التداولي في علم المعاني. وتبعا لهذا يقترح البعض أن تصاغ بنية النحو الثلاثية الأبعاد عند السكاكي على الشكل الآتي:
المستوى الصوتي والصرفي والمعجمي: وهو مستوى تؤدي فيه العبارة اللغوية فعلًا تعبيريًا، صوتيًا، صرفيًا، معجميًا؛ أي المفرد.
المستوى التركيبي الدلالي: وهو مستوى تؤدي فيه العبارة اللغوية فعلًا تعبيريًا قضويًا؛ أي المركب.
المستوى التداولي: وهو مستوى تؤدي فيه العبارة فعلًا غرضيًا تأثيريًا، أي مطابقة الكلام المركب لما يجب أن يتكلم له.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن دراسة الاستلزام التخاطبي عند السكاكي، تحتّم الاهتمام بالمستوى الثالث (المستوى التداولي)، باعتبار أنه يسعف في الكشف عن الإمكانات المتباينة لاستعمال اللغة، والكيفية التي يتم بها ذلك، من منطلق كون هذا المستوى يتشكل من علمي المعاني والبيان؛ بمعنى «أن علم المعاني يتضمن مقولات وقواعد تهم الأغراض التي تخرج إليها الأساليب، أما المقولات فمن قبيل مقولة الإفادة ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، والمعنى السابق للفهم أثناء العملية التواصلية. أما القواعد فيراد بها القواعد التي تحكم الانتقال من الغرض الأصلي إلى الغرض الفرعي».
مفاد هذا أن علم المعاني - كما حدده السكاكي- يمكّن من دراسة المعنى في علاقته بقائله أولًا، ثم بالسياق (المقام الذي ينجز فيه ثانيًا) ليتم التمييز، وفق قواعد محددة، بين «الصريح من المعنى» و«المستلزم» منه. فكيف إذن يمكن ضبط العلاقة بين هذين النوعين من المعنى؟ وما الضوابط التي تجعلنا نميز بين الدلالة الأصلية والدلالة الفرعية حسب تعبير السكاكي؟
سنحاول الإجابة من خلال استنطاق بعض نصوص «مفتاح العلوم»، بخصوص مفهومي الخبر والإنشاء، لنلاحظ التحليل الذي يقدمه السكاكي للاستلزام الحواري استنادًا إلى اقتراح جملة من القواعد.
أقسام الكلام عند السكاكي
ينقسم الكلام عند صاحب مفتاح العلوم بشكل عام، إلى خبر وإنشاء، إلا أنه يقتصر بخصوص الشق الثاني من الثنائية على «الطلب»، الذي يقابل عنده «الخبر». يقول: «السابق للاعتبار في كلام العرب شيئان: الخبر والطلب، المنحصر بحكم الاستقراء في الأبواب الخمسة التي يأتيك ذكرها». ثم يعمد إلى تفريع كل قسم إلى أصناف بسط لكل صنف منها شروطًا تتحكم في إنجازه وفق مقتضى الحال. وفي حالة إجراء الكلام على خلاف ما يقتضيه المقام، «تتولد أغراض فرعية» تناسب السياق، كما يضيف السكاكي: «متى امتنع إجراء هذه الأبواب على الأصل، تولّد منها ما ناسب المقام».
وهكذا فالخبر لا يعدو أن يكون الحكم بمفهوم لمفهوم، غير أن هذا الحكم إما أن يتم بالنظر إلى الواقع، أو بالنظر إلى اعتقاد المتكلم، بمعنى أن احتمال الخبر للصدق والكذب يتم انطلاقًا من مطابقة ذلك الحكم للواقع، أو عدم مطابقته له، أو انطلاقًا من مطابقته لاعتقاد المتكلم، أو عدم مطابقته له. كما أن للخبر استعمالات متباينة بالنظر إلى تباين مقامات ورودها. وعليه يذهب السكاكي إلى أن الخبر ثلاثة أنواع: ابتدائي، وهو الذي يلقى إلى مخاطب خالي الذهن ويقصد الإفادة، فيتم نقشه في ذهنه إما ثبوتًا أو انتفاء، مع الاستعاضة عن أدوات التأكيد.
وطلبي؛ هو ذلكم الخبر الذي يلقى إلى مخاطب طالب للمعلومة التي يحملها الخبر، كي يزول تردده، ويتعين على المخاطب استعمال أدوات لتقوية الخبر، نحو:
لعمرو فاهم.
إن عمراً عارف.
ثم إنكاري؛ أي الخبر الذي يلقى إلى مخاطب معترض على ذلك الحكم. الأمر الذي يحتّم توظيف أدوات تأكيدية لترسيخ ذلك الحكم. نحو:
إني لمُحِق.
والله إني لمحق.
وعلى الإجمال فالجري على هذا المنهج، والسير على تلك الطريق في الأضرب الثلاثة، يسمى إخراج الكلام على «مقتضى الظاهر»، إلا أنه قد تأتي مقامات تفرض إخراج الكلام على «خلاف مقتضى الظاهر»، ومن ثمة تتولّد أغراض مختلفة نحو:
التوبيخ: ﴿إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
الإرشاد: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾.
التهديد: ﴿لَإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾.
من واضح، أن الآيات كلها تحمل أخبارًا محددة، إلّا أن الذي جعلها تفيد ما تمت الإشارة إليه من معان، هو المقامات التي وردت فيها.
أما بالنسبة للطلب فإنه لا يختلف عن الخبر في الاستعمال إلا من حيث كونه لا يحتمل الصدق والكذب، وعليه نجد صاحب المفتاح يركز على أبوابه، وكيفية «توليدها لأغراض فرعية» تناسب المقامات التي تُنجز فيها. في هذا السياق يقول: «لقد سبق أن حقيقة الطلب حقيقة معلومة مستغنية عن التحديد، فلا نتكلم هناك، وإنما نتكلم في مقدمة يستند عليها المقام، من بيان ما لا بدّ للطلب ومن تنوعه، والتنبيه على أبوابه في الكلام. وكيفية توليدها لما سوى أصلها».
وتعميقًا لتحديد مفهوم الطلب، عمد الرجل إلى تعريفه بما هو وبما ليس هو. يقول: «وأما في الطلب فلأن كل أحد يتمنى ويستفهم ويأمر وينهى وينادي، يوجِد كلًّا من ذلك في موضع نفسه عن علم. وكل واحد من ذلك طلب مخصوص... ثم إن الطلب والخبر بعد افتراقهما بحقيقتهما، يفترقان باللازم المشهور، وهو احتمال الصدق والكذب».
ويرتكز الطلب عند السكاكي على العناصر الآتية: [التصور-المطلوب- مطلوب غير حاصل وقت الطلب]، وترتبط بها شروط تكون نسقًا من الضوابط التي يتم وفقها إجراء معاني الطلب على أصلها. وقد حصرها السكاكي في خمسة بوصفها «أغراضا أصلية» وهي: الاستفهام والنهي والأمر والتمني والنداء. ويمكن جرد تلك الشروط التي تضبط إجراء المعنى على أصله من خلال النص الآتي: «والطلب إذا تأملت نوعان: نوع لا يستدعي في مطلوبه إمكان الحصول، ونوع يستدعي فيه إمكان الحصول. والمطلوب بالنظر إلى أن لا واسطة بين الثبوت والانتفاء يستلزم انحصاره في قسمين: حصول ثبوت متصور، وحصول انتفاء. وبالنظر إلى كون الحصول ذهنيا وخارجيا، يستلزم انقساما إلى أربعة أقسام: حصولين في الذهن، وحصولين في الخارج».
يُستنتَج مما سبق إذن، أنه عند إجراء معاني الطلب الخمسة على أصلها، فإن العبارة اللغوية تحمل المعنى الذي تدلّ عليه صيغتها الصورية من نداء واستفهام وغيرهما. أما عندما يتعذر ذلك، أي حين تُؤدَى المعاني السالفة في نطاق شروط لا تنضبط لمبدأ «الإجراء على الأصل»، فإنها تخرج إلى معان فرعية أو «إضافية» يسميها السكاكي «أغراضًا فرعية».
ومن أمثلة هذا الصنف من المعاني ما يأتي:
إذا قلت لمن همك همه: «ليتك تحدّثني» امتنع إجراء التمني، والحال ما ذكر على أصله، فتطلّب الحديث من صاحبك غير مطموع في حصوله، وولد بمعونة قرائن الأحوال معنى السؤال.
إذا قلت لمن تراه لا ينزل: «ألا تنزل فتصيب خيرًا؟» امتنع أن يكون المطلوب بالاستفهام التصديق بحال نزول صاحبك لكونه حاصلًا، ويوجه بمعونة قرينة الحال إلى نحو: «ألا تحب النزول مع محبتنا إياه؟ وولّد معنى العرض.
إذا قلت لمن يدّعي أمرًا ليس في وسعه: افعله. امتنع أن يكون المطلوب بالأمر حصول ذلك الأمر في الخارج بحكمك عليه بامتناعه، وتوجه إلى مطلوب ممكن الحصول، مثل: بيان عجزه، وتولد التعجيز والتحدي.
وتبعًا لذلك فإن عملية الانتقال هذه من المعنى الأول إلى معنى ثانٍ، أو من المعنى الصريح إلى المعنى المستلزم، تتم في مرحلتين متلازمتين:
المرحلة الأولى: يؤدي عدم مطابقة المقام إلى خرم أحد شروط إجراء المعنى الأصلي، فيمتنع إجراؤه.
المرحلة الثانية: يتولّد عن الإخلال بشرط المعنى الأصلي، ومن ثمة امتناع إجرائه على معنى آخر يناسب المقام.
من المعنى الأصلي إلى المعنى الفرعي
لقد سبق أن أشرنا أعلاه إلى أن السكاكي يؤمن بوجود معان أو «أغراض فرعية» في مقابل المعنى أو «المعاني الأصلية»، وأن الذي يؤطّر الانتقال من المعنى الأصلي إلى المعنى الفرعي هو شروط أداء العبارات الطلبية في مقامات غير مطابقة، وعليه فإن الإخلال بمبدأ شروط الإجراء على الأصل، هو المتحكّم الأساس في ظاهرة الاستلزام التخاطبي. يقول السكاكي معلّقًا على المعاني السالف ذكرها: «نقول متى امتنع إجراء هذه المعاني على الأصل، تولّد منها ما يناسب المقام».
ولعل هذا التوافق الذي يبديه السكاكي بين المعنى الأصلي والمعنى الفرعي، يقابل التقابل البنيوي بين «التركيب» و«خاصية التركيب»، باعتبار أن الأول يرتبط بأصل المعنى، فيما تقوم خاصية التركيب بمطابقة الكلام للغرض منه. فإذا نحن رجعنا إلى الاستفهام نجد أن شروط إجرائه على الأصل هي: «طلب الحصول»، «في الذهن»، لغير حاصل «ممكن الحصول». يقول السكاكي: «والاستفهام لطلب حصول في الذهن، والمطلوب حصوله في الذهن إما أن يكون بحكم شيء على شيء أو لا يكون. والفرق بين الطلب في الاستفهام وبين الطلب في الأمر والنهي والنداء واضح، فإنك في الاستفهام تطلب ما هو في الخارج ليحصل في ذهنك نقش مطابق له، وفيما سواه تنقش في ذهنك ثم تطلب أن يحصل له في الخارج مطابق. فنقش الذهن في الأول تابع وفي الثاني متبوع».
مفاد هذا أنه إذا ما استوفت «جملة الاستفهام» هذه الشروط جميعها، فإن الاستفهام يكون أصليًا، أما إذا لم تنضبط للشروط المذكورة، فإننا نكون بصدد معنى آخر جديد، غير المعنى الأصلي المستفاد من دلالة جملة الاستفهام الظاهرة. بمعنى أن المحدد في مثل هذه الحالات ليست الصيغة وإنما المقام، باعتبار أن الصيغة لا تستوعب المقام في كثير من الأحيان، فيما المقام يستوعبها.
ومن الأمثلة التي تبين كيف يخرج الاستفهام إلى معانٍ أخرى، تبعًا للمقام الذي يرد فيه، نذكر ما يأتي:
إذا قلت: «هل لي من شفيع؟»، في مقام لا يسع إمكان التصديق بوجود الشفيع امتنع إجراء الاستفهام على أصله، وولّد بمعونة قرائن الأحوال معنى التمني.
إذا قلت لمن تراه يؤذي الأب: «أتفعل هذا؟»، امتنع توجه الاستفهام إلى فعل الأذى، لعلمك بحاله، وتوجّه إلى ما لا تعلم، مما يلابسه، من مثل: أتستحسن؟ وولد الإنكار والزجر.
إذا قلت لمن يهجو أباه، مع حكمك بأن هجو الأب ليس شيئًا آخر غير هجو النفس: «هل تهجو إلا نفسك؟» امتنع منك إجراء الاستفهام على ظاهره، لاستدعائه أن يكون الهجو احتمل عندك، توجه إلى غيره وتولّد منه بمعونة القرينة الإنكار والتوبيخ.
إذا قلت لمن جاءك: «أجئتني؟» امتنع الاستفهام عن المجيء، وولد بمعونة القرينة التقرير.
وأما بخصوص الأمر والنهي والمعاني المتولدة عنهما نجد السكاكي يسير في الخط نفسه الذي اتّبعه في تحليله للاستفهام باعتبار أنهما يندرجان تحت ما سماه بالطلب. إلا أن مقارنة بسيطة تقود إلى نتيجة مفادها أن ما يفرق بين الاستفهام من جهة، والأمر والنهي من جهة ثانية، أكثر مما يجمع بينهما.
ففيما يخص الأمر، نجد السكاكي يؤكد أن للأمر تحقّقات مختلفة منها صيغة «اِفعل» «ليفعل» «فعال» المصدر، اسم الفعل الجامد (صه-إيه-آمين...وغيرها). يؤلف بينها شرط الاستعلاء، وعليه فإن الصيغ السابقة الذكر إذا أُجريت على أصلها واستُعملت على سبيل الاستعلاء، كانت أمرًا، وبذلك تنتفي سائر المعاني من التماس ودعاء وتهديد وغيرها، التي ترتبط أساسا بقرائن الأحوال. يقول السكاكي: «والأمر في لغة العرب عبارة عن استعمالها. أعني استعمال نحو: لينزل، وانزل ونزال، وصه، على سبيل الاستعلاء. وأما أن هذه الصور والتي هي من قبيلها، هل هي موضوعة لتستعمل على سبيل الاستعلاء أم لا؟ فالأظهر أنها موضوعة لذلك...ولا شبهة في أن طلب المتصور على سبيل الاستعلاء، يورث إيجاب الإتيان على المطلوب منه. ثم إذا كان الاستعلاء ممن هو أعلى رتبة من المأمور استتبع إيجابه وجوب الفعل بحسب جهات مختلفة، وإلا لم يستتبعه. فإذا صادفت هذه أصل الاستعمال بالشرط المذكور، أفادت الوجوب، وإلا لم تفد غير الطلب، ثم إنها حينئذ تولّد بحسب قرائن الأحوال ما ناسب المقام».
ما يستفاد من كلام السكاكي أن توفر شرط الاستعلاء ينجم عنه وجوب إنجاز الفعل، إلا أن الإخلال به يترتب عنه مجرد طلب الفعل، وتبعًا لهذا يمكن تقديم الشروط التي يكون وفقها الأمر أمرًا، على النحو الآتي:
طلب الحصول في الخارج.. ب- مطلوب غير حاصل.
ج- ممكن الحصول..د- الطالب مستعل على المطلوب منه.
وهذا الصنف من الطلب عندما يجرى على غير أصله، يخرج إلى معان تناسب المقامات التي تؤدى فيها. وهذه بعض الأمثلة على ذلك.
إذا استعمل على سبيل التضرع كقولنا: «اللهم اغفر وارحم»، تولّد معنى الدعاء.
وإن استعمل على سبيل التلطف: كقول أحد لمن يساويه في المرتبة: «افعل» دون استعلاء، ولّد الالتماس.
وإن استُعمل في مقام الإذن كقولنا: «جالس الحسن أو ابن سيرين» لمن يستأذن في ذلك بلسانه أو بلسان حاله، ولدت الإباحة.
وإن استُعمل في مقام تسخط المأمور به، تولّد التهديد.
أما النهي، فهو حسب تعبير صاحب مفتاح العلوم: «محذو به حذو الأمر في أن أصل استعمال (لا تفعل)، أن يكون على سبيل الاستعلاء بالشرط المذكور، فإن صادف ذلك أفاد الوجوب، وإلا أفاد طلب الترك فحسب».
بمعنى أن النهي من حيث كونه نوعًا من أنواع الطلب ومعنى من معانيه الأصلية، يؤدّى بواسطة (لا) الجازمة الداخلة على الفعل المضارع. ويساير الأمر في توجيه الخطاب على جهة الاستعلاء. فإن التزم بهذا الشرط نتج عن ذلك وجوب ترك الفعل، وإلا ترتّب مجرد طلب ترك الفعل. هذا بالإضافة إلى الشروط الأخرى التي تمت الإشارة إليها في تحليل السكاكي، وهي:
أ. طلب الحصول في الخارج.
ب. مطلوب غير حاصل.
ج. ممكن الحصول.
أي أن النهي لكي يكون نهيا، ينبغي الالتزام بالشروط المشار إليها أعلاه، وإلّا تولّدت معان أخرى فرعية تناسب المقامات المتباينة نحو:
إذا قلت لعبد لا يمتثل أمرك: «لا تمتثل أمري»، امتنع طلب ترك الامتثال لكونه حاصلًا، وتوجّه إلى غير حاصل، مثل: «لا تكترث لأمري ولا تبال به»، وتولّد منه التهديد.
يخرج النهي إلى الدعاء إذا استعمل على سبيل التضرع والابتهال، كقول المبتهل إلى الله: «لا تكلني إلى نفسي».
فمن الملاحظ أن «مبدأ الخروج» عن الأصل يشكل أساس عملية الاستلزام التي تقوم في منظور السكاكي على ركيزتين اثنتين:
المقام الذي يؤدى فيه الكلام، وهو ليس قارًّا على كل حال.
شروط الإجراء على الأصل.
وعلى الإجمال، فإن ما بسطه السكاكي بخصوص الاستلزام الحواري يمكن تلخيصه في السؤالين الآتيين:
1-كيف تحصل عملية الاستلزام الحواري؟ وهو إشكال أجاب عنه صاحب «المفتاح» في أكثر من موضع من الكتاب، مؤكّدا أنها تتولّد عن خرم لأحد شروط إجراء المعنى على أصله بالنظر إلى المقامات التي تؤدى فيها.
2- كيف يمكن التنبّؤ بالمعنى الذي تستلزمه العبارة حواريًّا؟ يكتفي السكاكي في هذا الإطار بتعداد «الأغراض الفرعية» المتفرعة عن معاني الطلب الأصلية: زجر، تهديد، وعيد، توبيخ، تعجيز، تحقير، وهلم جرا. ثم إعطائها أوصافًا عامة نحو: «ما يتولّد بمعونة قرائن الأحوال»، «ما يناسب المقام». وهذا يدل على أن الرجل كان على وعي كبير بأن مفهوم الاستلزام التخاطبي لا يمكن أن توضع له ضوابط وقواعد محددة، باعتبار أن الكلام يتغير بتغير السياق الذي يؤدّى فيه، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بلحظة الخطاب.
ومن ثمة فإن ما طرحه السكاكي بخصوص الاستلزام الحواري، استند إلى مميزات الكلام وخصائصه، ولم يستند إلى إسقاطات وتأويلات بعيدة تخرج به إلى مساقات غير مناسبة.
وبمقارنة ما اقترحه السكاكي – على سبيل المثال لا الحصر- بما اقترحه كرايس يمكن القول إن اقترحات صاحب المفتاح تتميز بخاصيتين اثنتين؛ أولا: أنها أكثر دقة من اقتراحات غرايس. وثانيا: أنها تتّسم بقدرة تنبّؤية واضحة. فهي تمتاز بالدقة لأن الشروط المؤدِّي خرقُها إلى الانتقال من معنى إلى آخر شروط تهمّ صنفًا معينًا من الجمل هي الجمل الطلبية؛ (فهو لم يدرس الظاهرة إلا في علاقتها بالجمل الإنشائية). بل تهم كل معنى بعينه من معاني الطلب الخمسة؛ الأمر والنهي والاستفهام والتمني والنداء)، وهذه الدرجة من الدقة – فيما يظهر – لا تتوفر في اقتراحات غرايس التي ركز فيها، رغم ما تطمح إليه من عموم، على قواعد الخطاب المتعلقة بالجمل الخبرية، والتي لا تصلح بالتالي إلا لوصف الاستلزام الناتجة عن خرق قاعدة من قواعد الخطاب الإخباري.
وهي تمتاز بقدرة معينة على التنبؤ لكونها تمكّن انطلاقًا من ربط الخرق بامتناع إجراء المعنى الأصلي من الجزم بحصول الاستلزام؛ أي بحصول الانتقال القطعي من المعنى الأصلي إلى معنى آخر مناسب للمقام. وتمكّن بناء على ذلك من تجنّب إمكانية «إلغاء» الاستلزام، التي تشكل بالنسبة لغرايس إحدى خصائص الاستلزام، والتي يجب اعتبارها من قوادح التقعيد لظاهرة الاستلزام التخاطبي. وتبعًا لهذا يتبيّن أنه من المقبول جدًا اعتماد التعميمات التي تتيحها اقتراحات السكاكي في وصف هذه الظاهرة بديلًا ممكنًا للتحليلات التي حملتها نظرية غرايس الحوارية مع الأخذ في الاعتبار ضرورة استيفاء الشروط المقتضاة.
بالرجوع لمسألة «إلغاء الاستلزام» يبدو أن الدرس الأصولي قاربها من زاوية مختلفة ربما هي أكثر عمقًا مما قرره «المفتاح»، خصوصًا عند حديثهم عن «دلالة الإشارة» التي هي في عرفهم «دلالة الكلام على معنى غير مقصود أصالةً ولا تبعاً، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق الكلام لإفادته». إلّا أن الأصوليين يشترطون في التعرّف على المدلول بالإشارة قدرًا من «الجهد المعرفي» - غير المفصول عن القدرة التأويلية عند المخاطَب- الذي دلّ عليه السرخسي في أصوله بالتأمّل. يقول: «فأما الثابت بالعبارة، فهو ما كان السياق لأجله ويعلم قبل التأمّل أن ظاهر النص متناول له، والثابت بالإشارة ما لم يكن السياق لأجله، لكنه يعلم بالتأمّل في معنى اللفظ من غير زيادة فيه ولا نقصان وبه تتم البلاغة». وهذا التأمّل/الجهد يبدو متعلّقًا بالاستلزامات الممكنة للأقوال، ذلك أن الكثير من الأقوال تحمل جملة استلزامات يمكن تحديدها استنادًا إلى عاملين اثنين؛ السياق بمفهوميه الخاص والعام، والقصد بمفهوميه الجزئي والكلي، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق جهد معرفي يفترض توفّره عند متلقّي الخطاب. وهذا الأمر – كما سبق البيان- لم ينل حظه من الاهتمام في النسق التحليلي الذي عرضه غرايس. لكن ما تجب الإشارة إليه في هذا الإطار أن المتلقين/ المخاطَبين ليسوا على درجة واحدة من الكفاءة التأويلية، بحيث كل مخاطب يؤوّل حسب طاقته ووسعه وإمكاناته العلمية والمعرفية، وهو أمر من شأنه أن يفتح الدلالات المستلزمة على آفاق غير محدودة وعلى إمكانات غير متناهية قد تخرج عن مجال «القصد الأساس» للمتكلِّم.
وتزداد أهمية هذا المعطى عندما نربطه «بمبدأ التصديق» باعتباره من المبادئ الأساسية التي تضبط العملية التخاطبية وتضمن نجاحها لكونه يؤكد كما سبق التوضيح على «ربط القول بالعمل». خصوصًا وأن العمل في التراث الإسلامي يقتضي النية/القصد اقتضاءً؛ إذ لا يصح ولا يكمُل إلا بها كما في الحديث المشهور« إنما الأعمال بالنيات». مما يعني أنها مكوّن أساس للفعل والعمل، في المنظور الإسلامي على الأقل. فالنية هي ما به يتخصّص جانب من إدراك الأشياء والموجودات. يقول القرافي: «إن أثر النية إنما هو تخصيص العموميات أو تقييد المطْلقات، فإنما هي تدخل في المحتملات». وعليه فالنية هي فعل نفسي به تخرج ذواتنا ومقاصدنا إلى الاتصال بالعالم الخارجي عبر أفعال الكلام، أو هي بالأحرى الشعور النفسي الذي يصحب العمل والذي ينطوي على ثلاثة عناصر تكوينية وهي – كما هو معلوم- تصور المرء لما يفعله، وإرادة إحداثه، وإرادته بالتحديد.
تكمن قيمة هذا المبدأ المنغرسة جذوره في التراث الإسلامي كونه يتأسس على بعدين اثنين؛ بعد تبليغي يتّصل بـ«نقل القول»، وبعد تهذيبي يتصل بـ«تطبيق القول». وهو بقواعده الثلاثة المتفرّعة عنه: قاعدة القصد وقاعدة الصدق وقاعدة الإخلاص يسعى إلى ضبط أعماق العملية التواصلية وليس ظواهرها فقط، أو لنقل هو مبدأ يمس ضمائر المتخاطبين وليس لسانهم. وهو أمر لا نكاد نجد له ذكْرًا فيما اقترحه غرايس لكونه - كما تبين- اقتصر على تقنين الجانب التبليغي من التفاعلات الحوارية فقط.
فقاعدة الصدق تتعلّق بالتحلّي بالصدق في ثلاثة مستويات: «الصدق في الخبر» الذي يقضي بأن يحفظ المتكلّم لسانه عن إخبار المخاطب بشيء على خلاف ما هو عليه. و«الصدق في العمل» الذي يقضي بأن يحفظ سلوكه عن إشعار المخاطب بأوصاف هي على نقيض ما يتصف به. ثم «مطابقة القول للعمل» الذي يقضي بأن يحفظ لسانه وسلوكه عن إشعار المخاطب بوجود تباين بينهما. «ولمّا كانت قاعدة الصدق شاملة للجوانب الثلاثة؛ القول والفعل والصلة بينهما، فإنها تأتي في مبدأ التصديق الإسلامي متفرعة على الجانب التهذيبي منه، بينما تأتي في غيره متفرّعة على الجانب التبليغي، كما هو الشأن بالنسبة لقاعدة الكيف المشتقة من مبدأ التعاون لغْرايسْ، والتي اقتصرت على ضبط جانب الصدق في الخبر وحده. ثم إن شمول قاعدة الصدق هو الذي حذا بالماوردي إلى إسقاطها من قواعده التبليغية وإيرادها في باب التهذيب. ومتى تحقق المتكلم بالصدق في الخبر والصدق في العمل والصدق في مطابقة قوله لفعله، انفتح باب التواصل الصادق وبين المخاطب وتزايدت أسباب التقارب بينهما».
ويزداد هذا التقارب رسوخًا وثبوتًا عند عمل المتخاطبين» بقاعدة الإخلاص التي «تقضي بأن يقدّم المتكلم حقوق المخاطب على حقوقه»، على سبيل الإيثار الذي ينبني على التجرّد المتبادل عن أسباب التنازع كالأغراض وغيرها من جهة، وينبني من جهة أخرى على التأدّب المتبادل؛ إذ بقدر ما يرتقي أدب أحدهما يكون مدعاة للآخر للارتقاء فيه طوْراً تِلْوَ طَوْر، وحالاً بعد حالٍ. في صورة من صور «التنافس التعاوني» الذي يتجاوز مستوى الخطاب والكلام إلى آفاق القيم والأخلاق، ويتخطّى حدود «الفعل التواصلي» إلى مدارج «العمل الإنساني».
وعلى هذا فإن مبدأ التصديق الإسلامي يرتقي بالجانب التهذيبي من الممارسة الخطابية ارتقاء، ويرفعها رفعة؛ إذ بفضله يخرج هذا التهذيب من ضيق دائرة «التأدب الاجتماعي» المغرِض والذي لا يتجاوز الكياسة والمجاملة والمداراة إلى سعة «التخلّق» المخلص الذي يروم الكمال في السلوك والاستواء في التصرف. وليس أدل على ذلك من أن علماء المسلمين كلّما تحدّثوا عن هذا الجانب كلما قَرَنوه بالحديث عن «آفات الكلام» باعتبارها من أقبح مساوئ الأخلاق وأكثرها إفساداً له. وبالتالي نجدهم قد اقترحوا نسقًا من المبادئ التي تضبط سَيْر الممارسات الحوارية التي تمثل المناظرة أسماها وأرقاها. من هذه المبادئ:
المبدأ الأول: الالتزام بالقصد إلى إظهار الحق؛ إذ لا ينبغي لأي طرف من طرفي المحاورة/المناظرة أن يكون متوخّيًا من مناظرته وجلوسه لها بيان فضيلته على صاحبه وإظهارها. وعليه فإن رأس آداب المناظرة التزام طرفيها بأن الغاية منها كشف الحقيقة والوصول إليها عن طريق أي منهما. وتلك قمة من قمم الحضارة. فهذا الالتزام يعني - من بين ما يعنيه - مغالبة هوى النفس، وإذابة ما هو ذاتي فيما هو مشترك وموضوعي.
المبدأ الثاني: يجب أن تكون متدبّراً لكلام خصمك محسنًا الاستماع إليه، وتفهم معانيه على غاية الحد والاستقصاء غير غافل عن إيقافه إن هو وقع في تناقض، كأن يرجع فيما سبق أن سلم به، أو يعطي ما سبق له أن منع، اللهم إلا أن يكون ذلك لسبق لسان. ولا تكن في ذلك كله متشدداً، فلا تؤاخذ «الخصم بما تعلم أنه لا يقصده من أنواع الزلل، بل تعلم أنه يسبق اللسان ومما لا يخلو المتكلم منه».
المبدأ الثالث: لا تتكلم إلا فيما تعلم، ولا تستطرد في كلامك، واجتهد في طلب الاختصار؛ لأن «الزلل مقرون بالإكثار»، وكن مقتصداً في كلامك، «بحيث لا تورد في كل موضع من الكلام إلا قدر ما يحتاج إليه». وإن طول الخصم عليك بعبارته الطويلة، فلخّص من جميعها موضع الحاجة، ثم تكلّم فيه بما يليق.
المبدأ الرابع: على كل واحد من الطرفين ألا يبالي أقامت الحجة له أم قامت عليه، إذ الأهم هو الحجة وليس مع من كانت هذه الحجة، فالقصد من المناظرة/المحاورة الوصول إلى الحقيقة وليس كشف خطأ الخصم وتبيان عثراته، وإنما هي لاستکناه ما في عقله والوصول إلى علمه. يقول التوحيدي: «وطلب العلم مرة بدرس كتاب، ومرة بمذاكرة نظير، ومرة بخدمة عالم». وعليه إذا جاءت الحقيقة على لسان الخصم في المناظرة، فإن ذلك يستوجب أن ينصرف مناظره من الاحتجاج إلى الاعتراف له بالفضل والفوز بأنه أصاب الحقيقة. ومن «انصرف من الاحتجاج إلى الاعتراف، فقد لطف للاستعطاف، واستوجب المسامحة بعد الإنصاف». وباعتراف الأول ومسامحة الثاني له، وإنصافه دون أن يتهكّم به، يكون طَرفا المناظرة قد اشتركا في رسم الصورة الراقية لها وكشف حضارتها.
المبدأ الخامس: على كل واحد أن يليّن كلامه ولا يغلظ فيه، وليتجنّب الألفاظ العامة السخيفة.
المبدأ السادس: على كل واحد من الطرفين أن يتلقّى من صاحبه ما يصدر عنه بقبول ولطف وتحسين. بحيث يتحلّى دائمًا بالصبر والتحمّل لما يصدر عن الخصم، فتصبر «للسائل إذا كنت مجيبا حتى يفرغ من سؤاله محالاً كان أو صحيحاً، وأن تصبر للمجيب كائنًا من كان، حتى يفرغ من جوابه، وإن كان كالوسواس الذي لا يفهم. وأن يكون إفساده له، وطعنه عليه بعد استيفائه واستماعه إلى آخره، فإن اعترض السائل في جوابه أو المجيب في سؤاله قبل الفراغ منه فاحتمله وعظه، فإن لجَّ اقطع مكالمته، ولا يلتفت إلى حكم من يحكم عليه من انقطاع أو عجز ممن لا يفهم».
المبدأ السابع: ألا يكون الطرفان مناهبيْن ولا مناوبيْن فـ«ينصت المعترض للمستدلّ حتى يفرغ من تقريره للدليل، ثم المستدلّ للمعترض حتى يقرّر اعتراضه، ولا يقطع أحد منهما على الآخر كلامه في إثباته وإن فهم مقصوده من بعضه وبعض الناس يفعل تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه، وليس في ذلك فضيلة؛ إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض، وبعضها دليل على بعض، وليس ذلك علم غيب أو زجراً صادقاً أو استخراج ضمير حتى يفتخر به».
المبدأ الثامن: على كل واحد من الطرفين أن يلزم مقالته ولا ينكرها خوف الانقطاع، فإن الانقطاع خير من المكابرة والكذب. كم أن على كل واحد من الطرفين أن يقبل من صاحبه الحجة، فإنه أنبل لقدره وأعون على إدراك الحق، وسلوك سبيل الصدق.
المبدأ التاسع: الإقبال على المناظر/المحاور: يتعين على المناظر أن يستقبل خصمه ويكون مواجهًا له حتى يسمع الناس مقالته، خصوصاً المناظر له، فيكون بارزاً ظاهراً، فهذا هو الذي يحصل به مقصود المناظرة، وهو الذي جرى عليه العمل. وهذا الإقبال على المناظر، حتى يستجمع المناظر فكره، ولا ينشغل بغيره عنه. قال الباجي: «ويقبل على خصمه فإنه أحسن في الأدب»، وقال الجويني: «وعلى كل منهما أن يقبل على خصمه الذي يكلّمه بوجهه في خطابه، المتكلم في كلامه، والمستمع في استماعه».
المبدأ العاشر: الاعتدال في المزاج: ينبغي للمُناظِر ألا يناظر خصمه مع عدم اعتدال طبعه ومزاجه، لئلّا يتصوّر خلاف الحق مع تشويش الذهن، من منطلق أن «الرأي لا يتحقق إلا مع اعتدال المزاج».
- المبدأ الحادي عشر: الابتعاد عن الغضب والضجر: فالغضب يحول بين المناظر/المحاور وبين كمال معرفته الحق؛ ولذلك يذهب بلب الممارسة الحوارية. قال أبو بكر الطرطوشي: «الغضب عند المناظرة منساة للحجة»، لذا يجب على المناظر أن يحذر مهيجات الغضب كرفع الصوت والصياح، «فلا يكثر الصياح حتى يشق على نفسه؛ لأن ذلك يقطعه وينسب منه إلى الضجر».
المبدأ الثاني عشر: التريّث وعدم العجلة في البحث قبل تمام الفهم: بحيث يرتّب المعلل الدليل في نفسه ترتيبا صحيحًا، ويفكر فيه حتى يثق بأنه يوصل إلى المطلوب، ولا يهجم على الأمر هجوماً. وكذلك السائل يُمعن النظر في الأمر، ويصور في نفسه ما يتجه من البحوث على الدليل قبل أن يأخذ في الخصومة، لأن استعجال البحث قد يؤدّي إلى فساد.
المبدأ الثالث عشر: تقديم الأقوى من الحجج والأدلة: لأن الغاية الأسمى في كل محاورة/مناظرة إظهار الحق وتبيينه، من هنا فالأولى البدء بالأقوى والأوضح من الحجج حتى لا يُفتح باب المشاغبة والمخاصمة. يقول الجويني: «وإياك أن تتعلق عند الاستدلال إلا بأقوى ما في المسألة، ولا يغرنك ضعف السائل، فربما يكون في الحاضرين من يضيّق بقوته في العلم عليك الدنيا».
المبدأ الرابع عشر: تجنّب حشو الكلام: الواجب على المناظر القصد إلى جوهر الحكم بأسهل وأقرب وأوجز عبارة، فلا حاجة إلى التكلف والتعمق في العبارة، وإطالة الكلام بما لا فائدة فيه لأن الزلل مقرون بالإكثار. يقول الجويني: «لا تعود نفسك الإسهاب والجدال بالباطل، والمبادرة إلى كل ما سبق إليه الخاطر واللسان».
وهكذا فإن مقارنة دقيقة بين الطرح العربي التراثي الإسلامي، كما توضحه المبادئ أعلاه، والطرح اللساني التداولـي الحديث، كما اتضح مع غرايس تحديد، بخصوص «التنظير للتفاعل الكلامي» والتقعيد للممارسات التخاطبية وتوجيهها يكشف أن الفكر العربي أنتج نظرية عامة في التواصل، قد تكون أعمق وأقوى مما أبدعه الفكر اللساني الحديث، دون الأخذ في الاعتبار المفاهيم الموظفة، والمنهجية المعتمدة. وعليه فإن الخطوط الرئيسية لنظرية التواصل/التخاطب العامة، تكاد تكون متطابقة في التصورين. كما يبدو من الخلاصات الآتية:
- إن مبادئ وضوابط التخاطب التعاملية منها والتواصلية (القولية والتهذيبية)، هي بمثابة مقاييس للتميز بين التواصل «المحمود» والتواصل «المذموم».
- إن «أخلاقيات» و«منطقيات» التحاور هي محط معرفة ضمنية بين المتحاورين، مما يضمن التواصل الفعَّال القائم فيما بينهم.
- إن المبادئ والقواعد والضوابط التي تثوي خلف كل تخاطب، تدل على أن «الأخلاق» مكون أساسي للعقلنة والتواصل معاً.
- إن مختلف قواعد التخاطب (القديمة منها والحديثة) تشكل أصولًا للحوار، بحيث تجنب الأسلوب «التهديمي» في الكلام، وتقيم صرح الأسلوب «البنائي».
- إن أخلاقيات التحاور (التناظر) -كما بسطها الأسلاف- تمثل «نسقًا قيميًا» يؤطّر مختلف التفاعلات الحوارية، وعليه فإن التدقيق فيما تم التوقف عنده من مبادئ وضوابط، يبدي أن الفعل التواصلي الحواري يقود إلى «أمثلة» العلاقات بين أطراف الحوار.
- إن المبادئ والقواعد التخاطبية، جميعها منبثقة عن «مبدأ التعاون» باعتباره الضامن للتواصل الناجح، من خلال تعاون أطراف الحوار فيما بينهم لتنميته، وعليه فهو تعاون على مستوى الكلام فقط، يهم عملية «إنتاج وتأويل الخطاب» لا غير، على عكس ما يقتضيه في الفكر العربي القديم (كما يتضح مثلًا من خلال المناظرة)، باعتباره التعاون، بالإضافة إلى ما سبق، على «إظهار الحق». لذا فهو مبدأ تواصلي أخلاقي قيمي، يجنّب المتحاور التضليل والكذب والحذلقة الكلامية التي تستوجبها السفسطة. ولن يكون من هذه الجهة، إلا مبدأ مفارقاً، أو لنقل مزدوجاً إنه: «مبدأ قولي- أخلاقي».
خاتمة:
حاصل إجالة النظر فيما تقدم أن النظرية الحوارية عند غرايس تنبني على جملة من الأسس، أو إن شئنا هي حاصل التقاء مسارات عدة؛ منها ما يتعلق بنظرية المعنى ومسألة القصد الذي على أساسه ميّز بين الدلالة الطبيعية والدلالة غير الطبيعية. ومنها ما يرتبط بالمقاربة الاستدلالية للتواصل الإنساني التي تقضي بأن الاستدلالات التي يجريها المتلقّون للخطاب لها دور أساس في القيام بتأويل العبارات تأويلًا ينسجم مع ما مقاصد المتكلمين ومن ثمة الإسهام في إنجاح عملية التواصل. ومنها ما يتصل بتقنين التحاور وتحليله استنادًا إلى مبدأ التعاون ونسق القواعد المتفرعة عنه التي على ضوئها يُهتدى لضبط عملية التخاطب من جهة، وتمييز «المعاني الأصلية» من المعاني «الاشتقاقية» من جهة أخرى. لكن رغم تعدد أسس هذه النظرية وتنوع روافدها فإنها – كما تبين – تبقى في حاجة إلى تعديلات جوهرية، خصوصًا ما له صلة بالجانب التهذيبي الذي يعد مكوّنًا أساسًا في تحقّق عملية التخاطب ونجاحها.
فكما هو معلوم أنه لا تمام لخطاب ولا كمال له – كائنا ما كان- إلا إذا نال قدرًا كافيًا من التخلّق، وحاز نصيبًا وافرًا من التهذيب، بحيث يرتقي بهما في سلّم الحسن الخطابي والجمال الكلامي درجة تِلْوَ درجة ومنزلة بعد أخرى. أما الاقتصار فيه على مظاهر التنميق المنطقي، ووجوه التزيين اللفظي؛ صياغةً وبناءً وترتيباً، فكل ذلك – رغم أهميته وقيمته- لا يُجدي نفعًا في توجيه هذا الخطاب الوجهة الصحيحة، حيث تتقبله النفس وتطمئن إليه قبل أن تتلقّاه الأذن وتستمتع به. وشتّان بين الأثر الواقع في النفس وذاك الحادث في السمع؛ إذ الأول دليل تفاعل إنساني توجهه الروح، فيما الثاني علامة ردّ فعل فيزيائي تولّده المادة (الصوت). لذا فالخطاب المهذب ثماره كثيرة تبتدئ من تحقيق الفائدة والغاية وحصول التقارب والتعاون، وتكاد لا تنتهي عند أبعد من ذلك. أما الخطاب «غير المتخلّق» فآفاته عديدة ليس أدناها ضياع الفائدة وعدم إصابة المراد، كما ليس أقصاها تعميق الخلاف وإذكاء النزاع. والمؤكَّد أنه لا قيمة لتخاطب لا تُرجى منه فائدة ولا يوصل إلى غاية، مثلما أنه لا وزن لحوار يفرِّق ولا يجمع، أو يهدم وينسف ولا يبني ويؤسس. وذلك، كما هو معلوم، أصل من أصول التخاطب الأساسية المقررة في الممارسة التراثية العربية الإسلامية التي اجتهد في إظهار والعناية بها - أيما اجتهاد- جمهرة من العلماء المسلمين، خصوصًا أولئك الذين اشتغلوا بمباحث الخلافيات وآداب البحث والتناظر.
لائحة المصادر والمراجع:
أ- العربية:
النجار، إبراهيم يوسف، «الفلسفة التحليلية من هيوم إلى راسل»، مجلة العربي المعاصر، ع 63، 1991.
الشاطبي، أبو إسحاق، الموافقـات في أصـول الشريعة، تحقيق الشيخ عبد الله دراز، المكتبة التجارية، القاهرة، د ت.
الأشعري، أبو الحسن، مجـرد مقـالات الشيـخ أبي الحسن الأشعري، تحقيـق دانيال جيماريه، دار المشرق، بيروت، لبنان، 1987.
الباجي، أبو الوليد، المنهـاج في ترتيب الحجاج، تحقيق عبد المجيد تركي، المكتبة الاستشراقية، القاهرة، مصر، 1976.
الغزالي، أبو حامد، المستصفـى في علـم الأصول، طبع وتصميم عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996.
التوحيدي، أبو حيان، الإمتـاع والمؤانسـة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، د ت.
التوحيدي، أبو حيان، البصائر والذخائر، دمشق، سوريا، مطبعة أطلس، 1966.
الإدريسي، أحمد، «تداوليات الخطاب ولسانيات السكاكي»، العلم الثقافي. العدد 844.
الحسناوي، أحمد، المناظرات اللغوية والأدبية، دار أسامة، عمان، الأردن، 1999.
العاقد، أحمد، تحليل الخطاب الصحفي: من اللغة إلى السلطة، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 2002.
المتوكل، أحمد، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1980.
مكي، أحمد، تعليق على الرسالة الموضوعة في آداب البحث، جمعية النشر والتأليف الأزهرية، القاهرة، ط5، 1935.
العياشي، ادراوي، الاستلزام الحواري في التداول اللساني، دار الأمان- المغرب، ومنشورات الاختلاف – الجزائر، 2011.
ادراوي العياشي، الحوار الاختلافي أو مسلك التناظر الكلامي. أفريقيا الشرق. الدار البيضاء. المغرب. 2012.
الأشعري، أبو الحسن، مجرد مقالات الأشعري، تحقيق دانيال جيماريه، دار المشرق، بيروت، لبنان، 1987.
الباجي، أبو الوليد، المنهاج في ترتيب الحجاج، تحقيق عبد المجيد تركي، المكتبة الاستشراقية، 1976.
التفتازني، شرح تلخيص كتاب مفتاح العلوم. تحقيق عبد الحميد هنداوي. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. ط1. 2013.
الجويني، أبو المعالي، الكافية في الجدل، تحقيق فوقية حسين محمود، مطبعة عيسى الحلبي، دمشق، سوريا، 1979.
السرخسي، أصول السرخسي، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، دار المعرف، بيروت، لبنان، 1973، ج1.
السكاكي، أبو يعقوب، مفتاح العلوم، تحقيق نعيم زرزور. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1986.
أوستين، جون، نظرية أفعال الكلام العامة، ترجمة عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 1991.
أزابيط، بنعيسى عسو، المعنى المضمر في الخطاب العربي: البنية والقيمة التنجيزية، مقاربة تداولية لسانية، أطروحة دكتوراه الدولة، كلية الآداب، مكناس، المغرب، 1998.
أزاييط، بنعيسى عسو، «نظرية كرايس والبلاغة العربية»، ضمن مداخلات لسانية؛ نماذج ومناهج، منشورات جامعة مولاي إسماعيل، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، المغرب، 2008.
موشلار، جاك وآن روبول، التداولية اليوم: علم جديد في التواصل، ترجمة سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، دار الطليعة، بيروت، 2003.
الباهي، حسان، الحوار ومنهجية التفكير النقدي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2004.
مصدق، حسن، النظرية النقدية التواصلية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2006.
الصديق، حسين، المناظـرة فـي الأدب العربي الإسلامي، مكتبة لبنان، الشركـة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، القاهرة، مصر،2000.
النقاري، حمو، منطق الكلام، من المنطق الجدلي الفلسفـي إلـى المنطــق الحجاجي الأصولي، دار الأمان، الرباط، المغرب، ط 1، 2005.
رشوان، محمد مهران، دراسات في فلسفة اللغة، دار قباء للنشر والتوزيع، الكويت: 1998.
عبد الحق، صلاح إسماعيل، التحليل اللغوي عند مدرسة أوكسفورد. دار التنوير. بيروت. لبنان. 1993.
عبد الحق، صلاح إسماعيل، نظرية المعنى في فلسفة بول جرايس. دار قباء الحديثة. القاهرة. مصر. 2007.
عبد الرحمن، طه، «مفهوم التخاطب بين مقتضى التبليغ ومقتضى التهذيب»، مجلة كلية الآداب، بني ملال، ع1، 1994.
عبد الرحمن، طه، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، 1998.
عبد الرحمن، طه، في أصـول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 2، 2000.
عبد الرحمن، طه، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، البيضاء، 2005.
أفاية، محمد نور الدين، «الآخر في التصور العربي الإسلامي، في المناظرة وآليات الحكم»، مجلة صورة، ع 2، 1999.
الجعفري، أبي البقاء صالح بن الحسين، «الرد على النصارى»، مكتبة وهبة، القاهرة، 1998.
فاخوري، عادل، «الاقتضاء في التداول اللساني»، مجلة عالم الفكر، العدد 3، أكتوبر 1989.
دراز، عبد الله، دستور الأخلاق في القرآن، تعريب وتحقيق وتعليق عبد الصابور شاهين، مؤسسة الرسالة، لبنان، ودار البحوث العلمية، الكويت، ط9، 1996.
بناني، عز العرب الحكيم، الظاهراتية وفلسفة اللغة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2003.
غازي مجهول، فيصل، تحليل اللغة في رسالة فتجنشتاين الفلسفية. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 2010.
الأشهب، محمد، فلسفة اللغة، قضايا التواصلية والتأويل والترجمة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير 2021.
الحيرش، محمد، النسق والاستعمال: من لسانيات اللغة إلى لسانيات التواصل. دار نشر فاصلة. طنجة. المغرب. 2021.
الحيرش، محمد، محاضرات في التداوليات لطلبة السنة الرابعة، الموسم الجامعي: 1997-. 1998، كلية الآداب، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان، المغرب.
العثمان، محمد بن إبراهيم، أصول الجدل والمناظرة، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ط2، 2004.
طلحة، محمد، مبادئ تداولية في تحليل الخطاب الشرعي عند الأصوليين، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2014.
رشوان، محمد مهران وعصام جميل، فلسفة اللغة، دار المسيرة، عمان، 2011.
الحداد، مصطفى، اللغة والفكر وفلسفة الذهن، منشورات جمعية الأعمال الاجتماعية والثقافية لكلية الآداب بتطوان، 1995.
القباج، مصطفى، مقاربات في الحوار والمواطنة ومجتمع المعرفة، منشورات دار ما بعد الحداثة. المغرب، 2006.
الزهري، نعيمة، الأمر والنهي في اللغة العربية، منشورات جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب والعلوم الإنسانية. الدار البيضاء، المغرب، 1997.
الاندلسي، أبی محمد ابن حزم، التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1983.
تهافت التهافت. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. 1988.
الزحيلي، وهبة، أصول الفقه الإسلامي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1986.
القرافي، شهاب الدين، الفروق، تحقيق خليل منصور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998.
الشنقيطي، محمد الأمین، آداب البحث والمناظرة، دار عالم الفوائد، جدة، 1426ه.
ب- المصادر الأجنبية:
Baker, Judith. "Grice, Herbert Paul." In Routledge Encyclopedia of Philosophy, edited by Edward Craig, vol. 4. London and New York: Routledge, 1998.
Bown, Penelope, and Stephen C. Levinson. "Universals in Language Use: Politeness Phenomena." In Questions and Politeness: Strategies in Social Interaction, edited by Esther N. Goody, 56–311. Cambridge: Cambridge University Press, 1978.
Cusset, Yves. Habermas: L'espoir de la discussion. Paris: Michalon, 2001.
Grice, H. P. "Logic and Conversation." In Syntax and Semantics, Volume 3: Speech Acts, edited by Peter Cole and Jerry L. Morgan, 41–58. New York: Academic Press, 1975.
Grice, H. P. "Reply to Richards." In Philosophical Grounds of Rationality: Intentions, Categories, Ends, edited by Richard E. Grandy and Richard Warner, 45–106. Oxford: Clarendon Press, 1986.
Habermas, Jürgen. "Signification de la pragmatique universelle." In Logique des sciences sociales et autres essais. Paris: LGSS, 1986.
Habermas, Jürgen. Sociologie et théorie du langage. Paris: Armand Colin, 1995.
Habermas, Jürgen. "L'éthique de la discussion et la question de la vérité." In Habermas: Critical Debates, edited by John B. Thompson and David Held. London, 2003.
Lakoff, Robin. "The Logic of Politeness: Or, Minding Your P's and Q's." In Papers from the Ninth Regional Meeting of the Chicago Linguistic Society, edited by Claudia Corum, T. Cedric Smith-Stark, and Ann Weiser, 292–305. Chicago: Chicago Linguistic Society, 1973.
Leech, Geoffrey N. Principles of Pragmatics. London: Longman, 1983.
Levinson, Stephen C. Pragmatics. Cambridge: Cambridge University Press, 1983.
McCarthy, Thomas. "Rationality and Relativism: Habermas's Overcoming of Hermeneutics." In Habermas: Critical Debates, edited by John B. Thompson and David Held, 56–79. London: Macmillan, 1982.
Wittgenstein, Ludwig. Philosophical Investigations. Translated by G. E. M. Anscombe. Oxford: Basil Blackwell, 1953.