البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الوضعية المنطقيّة وهاجس توليد المَعنَى: من لغة الميتافيزيقا المُفرَغة إلى لغة الفيزيقا المُشبَعة دراسة تحليلية نقدية

الباحث :  د. شـهـرزاد حـمـدي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  36
السنة :  خريف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 13 / 2025
عدد زيارات البحث :  464
تحميل  ( 487.853 KB )
الملخّص
تُـمثّـل الوضعية الـمنطقيّة إحـدى أهمّ الـمدارس والتيارات الإبستمولوجية والـمنطقيّة فـي النِّصف الأوّل من الـقرن الـعشريـن، تـميّـزت بـمواقفها وآرائـها ومنهجها، والـهدف الـرئيسـي الذي أعلنت عنه وسـخّـرت له العِلم والـمنطق. فـي إطار سَعّيـها الـحَـثيث لـتوليد الـمَـعْـنـَى انتقدت الـميتافـيزيقا بشِدّة وعبّـرت عن رفضِها لعباراتـها وقضاياها. ما دَفَع بِنا من خِلال تـحريـر هـذه الـورقـة الـبحثيّة إلـى مُـحاولـة صياغة دِراسة تـحليليّة نقدية لـهذا الـتوجّه. إنّ الـغرضّ الأساسـي لنا فـي هذا الـصدّد الـبـحـثـي هو عرض الـمُـبـرّرات الـتـي استندت إليـها الوضعية الـمنطقيّة للدِّفاع عن موقفـها الـمُعارِض للـميتافيزيقا، وتـبـيـيـن مَـدَى إمـكانِـها الفِعّـلي فـي تـحقيق استبعادها. مع تقديـم مُـنَاقَشَـتــيـن فـي ضوء الإبستمولوجية الغـربية «كـارل بـوبـر» وفـي ضوء الفلسفة الإسلامية «ابن إسـحـاق الـكنـدي». ولقد اعتـمدنا علـى الـمنهج النقدي وأساليب التـحليل والـتـركيب والـمُقاربة والاستنتاج.

الـكَـلِـمَـات الـمَـفـَاتـيـح: الوضعية الـمنطقيّة، الـميتافيزيقا، الـمَعْـنـَى، معيار القابلـيّة للـتحقيق، معيار القابلـيّة للــتكذيب، بُـرهـان الـخلف الـريـاضـي.

مُــقــدّمــة:
لقد شكّلت الـميتافيزيقا على مَدَار التاريخ الفلسفي، مـحورًا بـحثيًا مُهِمًا، أثار العديد من الرؤى والـمواقف، نَظَـرًا لطبيعة مفاهيمها وعباراتـها التـي توصَف دائِمًا بأنـها تتعالـى علـى الفيزيقا. ثـمّ إنّ الـميتافيزيقا ذاتـها هي الفلسفة، بـحسب أسئلة العقل الفلسفي القلِقة والـمُتعلّقة باعتبارات وجودية كبـرى، مثل: الـمصيـر، الروح، الأنا، الشعور، الوعي وغيـر ذلك، مِـمّا وضع الـميتافيزيقا موضع النِّقاش واختلاف الـمنظورات حولـها، بيـن مُعتـرف بضرورة الانكباب مُدارسة لـمفاهيمها، وبيـن من رأى فيها الفراغ من كلّ دلالة، بالتالـي فهـي عَصيّة عن التقدّم بالعقل، ولا تورث سِوى الانـحباس في أسوار الـجدل العقيم. ومن بيـن أبرز النِّقاشات الـمُتنوّعة حول الـخطاب الـميتافيزيقي نـجد مبحث فلسفة العِلم، الذي يُـعدّ أحد أهمّ الـمباحث الـخـِصبة الـمَفْتوحة علـى جدلية الفلسفة والعِلم. وفي إطار التجاذُبات النَشِطَة بيـن الدرب الفلسفي والدرب العِلمي، طرح لنا النصف الأول من القرن العشرين تيارًا ومدرسة عُرِفَت بـموقفها الـمُعارض من العبارات الـميتافيزيقية، بـحيث ساهَـمَت بشكلٍ واضح في خلق أزمتها، والـحديث إنـّمَا يتعلّق بـمدرسة الوضعية الـمنطقيّة التـي كان لـها أثر وجيه علـى الـمَسَارات الـحاسـِمة لفلسفة العِلم والتفكـيـر الإبستمولوجي الـمُعاصـر.

وعليه نتساءل: ماهي مُبـرّرات استبعاد الوضعية المنطقيّة للـميتافيزيقا؟ وهلّ تـمـكّـنـت بالفِعل من ذلك؟ وكيف كان موقف التيارات الإبستيمية الغربيّة اللاحِقة؟ وكيف نَظَرت الفلسفة الإسلاميّة إلـى الـميتافيزيقا؟

وتأتي أهـمية الـموضوع، فـي الـنِقاط التالية:
يُسلّط الضوء علـى تيار مُهِمّ في فلسفة العِلم والإبستمولوجية الـمُعاصرة كالوضعية الـمنطقيّة وجُهودها في إنشاء فلسفة عِلميّة.
يُعالـج أهمّ الـمواقف الـمُسجّلة من الـميتافيزيقا، بوصفِها مَدَار جدل، خاصّة في حقل فلسفة العِلم.
يطرح إشكال مَـدَى إسهام تيارات فلسفة العِلم الـمُعاصر في إحداث تولـيفة بيـن الفلسفة والعِلم أو علـى النَـقيض من ذلك رَسَم مَسَافة بينهُمَا.

التعرّف علـى رؤية الفلسفة الإسلامية للـميتافيزيقا.

أولاً: في ماهية الوضعية المنطقيّة
إنّ مـاهـيّـة الـشـيء جوهره وكُـنهه، وما يـرتبِط به من خُصوصيات دلالـيّة، تاريـخيّة، الأشخاصّ والأفكار ونـحو ذلك. والـمـاهيّة فـي الفلـسـفة اشتغال بـحثـي مـخصوصّ، يتّسِم بالتَعْميق والتَدْقيق. ثـمّ إنه ضـرورة مـنهجيّة ومنه مـعرفـيّة إذا ما تعلّق الأمـر بفكرة ما تـتجسّد فـي مُـصطلح أو مـدرسة يُراد بَـيـَان موقِـفها مـن قضيّة مُـعيّنة. وهكذا سـيكون الشأن مع مـحور البـحث «الوضعية الـمنـطـقيّة».

1. نشأتها وتسّمياتها المُتعدّدة
«الوضعية الـمنطقيّة، وتُسمّـى أحيانًا بالوضعية الـجديدة أو بالتجريبية الـمنطقيّة. تُشيـر الوضعية إلـى مـجموعة الفلاسِفة والـمَنَاطِقة الـمُتحلّقيـن في ثلاثينيات القرن الــــ 20 فـي حلقة فـيينا». إنـها شكل آخر من الوضعيّة الـكلاسيكيّة، تطوّرت وتـميّـزت عنها رُغم وجود خيطٍ ناظِم بينهُمَا، وهو الاعتداد بالاتـجاه الـحِسّي. ويـتحدّد هذا الـتميّـز فـي ارتباطِها بالـمنطق وفـي جذبِـها للـمَنْطِقـييـن، مـع وجود الفلاسِفة كـقيـمة تـحلـيليّة نقديّة رافِدة، وحركة فلسفية سُـمّـيت فـي بِداياتـها بدائرة فيينا التـي أشرقت عام 1924م، بعدها سُـمّــيت بأسـماء مُتنوّعة، مثل: التجريبية الـمُـتّسِقة أو التجريبية الـمنطقيّة، وسُـمـّيت بالوضعية الـمنطقيّة بدءًا من عام 1931م. وقد كان «مورتس شليك» (1882-1936م) يتـرأّس الـمدرسة. الـتجريب والاتّساق والـنزعة الوضعيّة والـمنطق هـي الـركائِز الأساسيّة الـمُكوّنة لـتـيّار الوضعية الـمنطقيّة؛ إذ تـجمـع بيـن الـمنطق والـرياضيات. هذا وقد عُرفت دائرة فـيينا أيضًا بالتجريبية العِلمية وحركة وحدة العُلوم والتجريبية الـحديثة والفلسفة التحليلية. حمّت هذه الدائرة جـماعة من الباحثيـن والباحثات فـي الفلسفة والعُلوم الطبيعية والعُلوم الإنسانية والرياضيات والـمنطق. تأتـي دائرة أو حلقة فـيينا كمُلتقـى بـحـثـي يضـمّ العديد من الـتخصّصات تَتَحاور وتَـتَنَاقَش فـي اتّفاق حول الإقرار بـمبادئ مـُحدّدة.

2- فلاسِفتها
ضَمّـت الوضعية الـمنطقيّة مـجموعة من الأعضاء البارزين هُم: «شليك»، «رودولف كارناب» (1891-1970م)، «أوتو نويراث» (1882-1945م)، وكان الداعِم الـمُنتصِر لـهذه الـحركة في عالَـم الناطقيـن بالإنـجليزية هو «أ.ج. آير» (1910-1989م) الذي نشر كتابه الشهيـر: اللغة والـحقيقة والـمنطق، عقِب زيارته لفيينا سنة 1933م كطالب مُتخرّج فـي طور النشأة. بالإضافة إلـى «أرنست ماخ» (1838-1916م) و«هانز ريشنباخ» (1891-1953م).

ثـانـيًـا: مبادئ الوضعية المنطقيّة والخِصام مع الميتافيزيقا
عُـرِفت الوضعيّة الـمنطقيّة بعَدائـِها الـعَلَنـي للـميتافيزيقا؛ إذ أنكرت قضايا بـمُوجب مُبـرّرات هـي بـمَثابة مـبادئ لـهـا. وهذا راجع إلـى نزعتها الوضعيّة الـتـي اتّسَمَت بـها، واعتمادها علـى الـمنطق، وإلـى الـحاجة الـتـي شكّلت مُناسَبَة تأسيسها. فَــفِـيمَ تَــتَمثّل هذه الـمبادئ؟ وما مضمونـها الـمُعارِض للـميتافيزيقا؟

1. منهج القابلية للتحقيق، نـظرية في الـمَعْـنَـى
«نظرية فـي الـمعـنـى التـي تقوم علـى مبدأ التحقيق ، ويُـقرّر كلّ مـعـنـى القضية فـي تـحقيقها سواء بطريقة مُباشرة أو غيـر مُباشرة». يُـعدّ منهج القابلية للتحقيق الذي يُؤسِّس لنظرية فـي الـمـعنـى أهمّ مـبادئ الوضعية الـمنطقيّة؛ إذ يـَحْسِم فـي الإقرار بـمـعنـى القضية انطلاقًا من معيار تـحقّقـها بصيغة مُباشرة أو العكسّ. وبالتالـي فإذا لـم تكُن قابِلة للـتحقّق كانت قضية فارغة تَـمَامًا من الـمـعـنـى، قِـياسًا علـى ربّط كلّ معـنـاها بالـتحقيق. إنه الـمبدأ الذي اتّـخذه الوضعيون الـمَنَاطِقة مِقياسًا للـمعـنـى، لـم يُسْتَخَدم على نـحو تـحديد الصدق أو الكذب الواقعي لقضية ما، إنّـمَا استُخدِم علـى نـحو تـحديد الشرط الضروري للبحث فـي الصدق؛ أيّ الشرط الضروري الذي يـمنـح للقضية مـعـنـى. بصيغة أخرى كانت النتيجة الـمُراد التحصيلها من صِياغة هذا الـمبدأ هـي إحداث تـمييز حاسِم بين استخدامات اللغة ذات الـمعنـى من عدمه، ولقد تـمّ اعتماده كسلاح ضِدّ الـميتافيزيقا بُـغية استبعادها. لقد انتـهى هذا التّيار إلـى أن الـمُشكِل الرئيسّ لـلفلسفة علـى مَدَار تاريـخـها إنّـمَا هو مُشكِل لُغوي؛ أيّ استخدامها لألفاظ ومُصطلحات غامِضة لا نَظـيـر لـها فـي الـواقع، فأين لـنا أن نـجد صورة عن الأنا، الـروح، الشّعور، الـعدم. هـي كلِـمات لا تـمنح للقضية مـعـنـى من حيث لا يـُمكن تـحقيقها، لـيكون مُـبـرِّرًا من أجل إنكار الـميتافيزيقا. ولقد كان للفيلسوف الـنمساوي «لودفيج فتغنشتين»(1889-1951م) أثر فـي تكوّن أفكار ومواقف الوضعية الـمنطقيّة، التـي إذا كانت مُستقاة من الـحُجج التـي طرحها فـي كتابه: «رسالة منطقيّة فلسفية»، يُـمكن رَبَط تطوّر الفلسفة الـتحليليّة بـمَا أقامه «فتغنشتين» من مُـراجَـعَات وتطوّرات لفلسفته الأوليّة من ناحية، وبالاقتـراحات التـي ألّفها، ومُـعالـجتها فـيمَا بعد من طرف الـمُفكّرين الـآخرين من ناحية ثانية، فـفلسفة «فتغنشتين» الـمُتأخّرة تعتمِد الأدوات نفسها التـي يعتمدها الوضعيون الـجُدّد – الـتحليل الـمنطقـي والـمنهج العِلمـي، غيـر أنـها ركّـزت بدلاً من ذلك علـى الأهداف والسياقات الـحقيقية الـمُختلِفة من استخدام اللغة. يـحتفِظ التاريخ بـجُهود «فتغنشتين» فـي إطار الفلسفة التحليلية وكذلك فـي تطوّر أفكار ومُناقَشَات الوضعية الـمنطقيّة، ولا يـَخْفَى أن هُناك «فتغنشتين» الـمُبكِّر و«فتغنشتين» الـمُتأخِّر، موجد فرقٌ فـي بعض الـمواقِف. إنّ تـحديد كلّ مـعـنـى القضية فـي تـحقيقها منهج تعسّفي؛ إذ إنّ الـمـعـنـى معانٍ، ثـمّ إن للقضية مـعناها الـمَحْفوظ، حـتـى وإنّ لـم تكُن قابِلة للتحقّق. مِن الـجديـر بالاعتـراف أن إبـراز الـمُشكِل الـلغوي فـي الفلسفة لـه أهـميّته وثَـمْرتِه، إذا كانت غايته تصويب الـعَمَل الفلسفي وليس تـضييق نِطاقه من حيث الـتـبـرير بالـفوضـى اللغويّة الـفارِغة من الـمعـنـى أو غـيـر مُـتاحة للـتحقيق. لـكن النَظَر من زاوية مُـغايـرة، يُـقِـرّ أن قضية اللغة فـي الفلسفة هـي إحدى نِقاط تفكّرها وإشكالاتـها؛ أي من جُـملة ما يطرحُه الـفيلسوف ويُـنَاقِشُه مِثل: نـحت الـمفاهيم وعـلاقة اللغة والفكر. وهذا ما شَكّل دائِرة نِـقَاشيّة فـي إطار الفلسفة التحليليّة والوضعيّة الـمنطقيّة الـتـي استفادت من رؤاهـا وطوّرت ما صَنَعَ صَـنيعتـها الـمنهجيّة والـمعرفيّة الـخاصّة.

2- رفض الميتافيزيقا بتبرير خُلوّها من المعنـى
خِلال النصف الثانـي من القرن التاسع عشر اشتدّ هُجوم الـخِطاب الوضعي على الـخِطاب الـميتافيزيقي باعتباره مـجرّد هذر بلا فائدة. وأقـرّ هذا الـخِطاب الوضعي أن العِلم يـجب أن يهتمّ بالـحوادث وبالعلاقات التـي تربطها بعضِها ببعض، يقوم منهجه علـى الـمُلاحظة والتجربة، تاركًا الأسئلة الـجوفاء حول «الكائن» والنّزاعات حول مُصطلحات جوفاء. ولقد وَصَفَ «أوغست كونت»(1798-1857م) الذهن الـميتافيزيقي بالـمُرض الـمُزمن. لـم يـتـردّد الـخِطاب الوضعـي فـي الـهُجوم علـى الـميتافيزيقا ولـم يُـخفِ غايته فـي استبعادها والتأسيس للخِطاب العِلّمـي. ويتّضِح أن تّـيار الوضعيّة الـكونـتيّة وتطوّر إلـى حيث الوضعية الـمنطقيّة حافَظ علـى دعوى الاستقرائـييـن من صِنف «فرنسيس بيكون» (1561-1626م) الــتـي يُـمكِن تسميتُها بالعِلميّة النفّعية تبـحث عن كلّ ما له مصلـحة كجعل الإنسان سيّدًا علـى الطبيعة، الـمعرفة قوّة، تسخيـر العِلم لـتحقيق رَفَاه إنسانـي، ومنه جاء النِّداء برفضّ العبارات الـميتافيزيقيّة بوصفِهـا من دون نَـجَـاعَة. وفـي مطلع القرن ذهب فريق من الـعُلماء من فيينا مُتجمّعيـن حول «شليك» بعيدًا في النقد بنشرها بَيَانًا ضِدّ الـميتافيزيقا. كانت مدرسة فيينا قد أبانت عن هدف واضِح وصَريح تـمثّل في رَسَمّ خطّ فاصل بيـن الـخِطابات الـميتافيزيقية التأمّليّة الفارغة التي لا يتوفّر فيها أيّ فائدة، والـمقولات العِلمية الـمُتّصِلة بالعِلم الـحقيقي التي تكون قابلة من هذا الـمنظور لأنْ تُثبِتها الأحداث أو تنفيها. إنّ من أهمّ مبادئ الوضعية الـمنطقيّة «إنكار الـميتافيزيقا والاعتقاد أن عَمَل الفلسفة هو توضيح الأفكار والقضايا، وليس إقامة نظريات فلسفية». من هذا الـمُنطَلَق؛ أيْ مُـنطَلَق الفائِدة، تـمّ الاتّفاق بيـن جـماعة حلقة فيينا بإقصاء الـميتافيزيقا، ولأنّ الـمُشكِلة علـى حَسَب تقديرهم هـي مُشكِلة غُموض لُغوي، واعتمادًا علـى منهج الـتحليل الـمنطقـي للغة، تُصبِح مـهمّة الفلسفة هـي مـهمّة توضيحيّة تـمييزيّة للأفكار والقضايا، وليس بِناء الـنظريات الفلسفية كمَا يُسجِّل تاريـخـها. أن تتولّـى الفلسفة دور الإيضاح له عوائِده الـقيّمة من حيث تـحصيل الدِقّة، وإزالة الالتباس الدّلالـي، ولـكن مع الإبقاء علـى دورها فـي تشييد النظريات الفلسفية، لأنّ سحب هذه الـمهمّة من نِطاق عَمَلِها فيه نوع من الاختزال الـمُضِرّ بـها وبالعِلم، فقبل النظريات العِلميّة هُناك رؤى فلسفيّة، ثـمّ إنّه إذا توقّفت الفلسفة عن إقامة النظريات، من سيتولّـى ذلك؟ أم أن الأمـر جاء لإلـغائِه تَـمَامًا؟

3- منطق العُلوم كمَجَال وحيد للفلسفة
يتعيـّن الـمَجَال الوحيد الـمَشْروع للفلسفة في منطق العُلوم أو فلسفة العُلوم، ويـُعنـى به أن الأفكار والقضايا التـي يُـحلّلونـها هي قضايا العِلم الطبيعي، لا من ناحية مُـحتواها، فذلك شأن عُلماء الطبيعة، بل من ناحية صورتـها، وهي دِراسة تركيب النظرية العِلميّة وارتباطها بالوقائع، إلـى جانب دِراسة الـمناهج العِلميّة وإيضاح تصوّرات الـمعنــى والصدق والاحتمال؛ أي الاشتغال بالعِلم فقط، بالـتحديد بقضايا العِلم الـطبيعي خارجيًا أو لـنقُل شكلانيًا. إذًا، بـهذه الكـيّفية يـضـع العِلم الـمُحتوى، فـي حيـن تُـعنـى الفلسفة بـطابع أو غِلاف الـمُحتوى. مـرة ثانيّة نلمَسُ نُزوع الـتفكيـر الوضعي الـمنطقـي إلـى الاخـتـزال، فـي حصر عَمَل الفلسفة فـي الإيـضاح وفـي ربـطِهـا بـمجال بعيّنه حُـدِّد فـي منطق العُلوم والعِناية بقَضايا العِلم الطبيعـي. إنّ مُشكلات الفلسفة من منظور «فتغنشتين»، هي مُشكلات ناجِـمـة عن سوء فهم مـنطق اللغة، فالـمنهج الصَحيح فـي الفلسفة سيكون حقًا هكذا: ألّا نقول شيئًا إلّا ما يُـمكن قوله: أي قضايا العِلم الطبيعـي، ويُقصد منه أيّ شيء لا علاقة له بالفلسفة، وبعد ذلك تُبـرهن دائـِمًا إذا رغـِب شخص آخر فـي أن يقول شيئًا ميتافيزيقيًا، تُـبـرهن له أنه لـم يُعطِ أيّ معنـى لعلامات مُعيّنة في قضاياه. يـتجـلّـى الإصّـرار الشّديد علـى توليد الـمعنـى، وكأن الـمـعـنـى حياة أو عالَـم تتحقّق فـيه الذوات الـبشريّة تفكيـرًا ولغة وفِعلاً. إضافة إلـى أن الـمـعـنـى لا يتولّد أحيانًا إلّا من خِلال اللّامعنـى، كالـعدم بالـنِسبة للوجود، والـمِثال بالـنِسبة للواقع.

4- صِنفان من العُلوم فقط
تـحت تأثيـر «ديفيد هيوم»(1711-1776م) يضع الوضعيون الـمناطِقة تـمييزًا فاصِلاً بيـن عُلوم الـمنطق والرياضيات الصورية فـي ناحية، والعُلوم الإمبـريقية في ناحية ثانية، ولكلّ ناحية حيّز مهمة داخِل نِطاق الـمعرفة العِلميّة. قضايا العُلوم الأولـى تـحليليّة قبليةوقضايا العُلوم الثانية تركيبية بعدية وأيّ دعاوى تُفيد بأنّنا نـحصُل على معرفة تركيبية قبلية مثل تِلك التـي نعثُـر عند «إيـمانـويـل كانـط»(1724-1804م) وآخرين يـجب أن تُرفض. هُـمَا صِنفان لا ثالث لـهُـمَا، ولا مـعرفة تـركيبية قبلية لمـحمولاتِـها غـيـر مُتضمِّنة فـي موضوعاتِـها وغـيـر مُشتقّة من الـتجربة كمَا وضع «كانـط».

5- اعـتمـاد لُغة الفيزياء لتـحقيق وحدة العِلم
إنّ اللغة الـمُختارة بـهدف تأسيس حركة وحدة العِلم القائِمة علـى وحدة اللغة، هـي اللغة الفيزيائيّة الـمُتّصِلة بقوّة بأطروحة وحدة العِلم. إذا كان بالإمكان ترجـمة كلّ جُـمـلة إلـى اللغة الفيزيائية، فإنّ هذه اللغة هي لغة شامـلة، لغة عالَـمية للعِلم. ومـع ذلك فإنّ وجود نِظام لغة واحدة يتـمّ فيه احتضان كلّ حدّ عِلمـي، يدلّ علـى أن هذه الـحُـدود من أنواع الارتباط الـمنطقـي، أنه لا يُـمكن أن يكون هُناك تقسيم أساسي بين فُروع العِلم الـمُـختلِفة. لقد تـم اختيار لغة الفيزياء لتحقيق حركة وحدة العِلم بـمَا هي حركة وحدة اللغة، ويبدو أن هذا الاختيار راجِع إلـى كون لغة الفيزياء لغة كمّية شيئيّة تُـمكِّن من تـحصيل الدِقّة ولا تفتح الـمجال لتضارُب العِبارات. إلّا أن هذا الـطرح اختزالـي لبقيّة اللغات ولبقيّة الارتباطات من غيـر الـمنطقيّة.

6- مَـشْروع الفلسفة العِلميّة
إنّ الـهدف من تـبـنّـي منهج القابليّة للـتحقيق، ونقد الـميتافيزيقا، وحصّر الفلسفة فـي مـجال منطق العُلوم، وتـحديد نوعين من العُلوم فقط، مـع اعتـماد لُغة الفيزياء بُغية تـحقيق وحدة العِلم، مِثلَمَا ركّـزت عليه الوضعية الـمنطقيّة يتجلّى في تأسيس ما يُسْـمّى بالفلسفة العِلمية التـي يأتـي تاريـخها كقصّة تطوّر مُشكلات. ولا تـحلّ الـمُشكلات بواسِطة تعميمات غامِضة، أو عن طريق أوصاف بـرّاقة للعلاقة بين الإنسان والعالَـم، بل من خِلال مُـمَارسَة العَمَل الفنّـي الـمُتخصّص. إنه مَـشْروع الفلسفة العِلميّة، الذي رَنَا إليه كلّ وضعـي منطقي، وقد جاءت الـمبادئ الـمَنْصوص عليـها بِـمَا فيـها استبعاد الـخِطاب الـميتافيزيقي سَعيًا لـتحقيقه. وتاريخ الفلسفية العِلميّة هو تاريخ تطوّر الـمُشكلات الـتـي تـُحلّ بواسِطة إجراء العَمَل الفنّـي الدَقيق والـمُتخصِّص بعيدًا عن مَسَالِك التعميم الغامِضة وعن اللغة الشاعِريّة الـرنّانة في توصيف العلاقة بـيـن الدارِس والـمَدْروس. تُـحاول الفلسفة العِلمية الابتعاد عن النزعة التاريـخيّة والاعتماد علـى التحليل الـمنطقـي من أجل التوصّل إلـى نتائج تبلُغ من الدِقّة والإحكام والصِدق ما تبلُغه نتائج العِلم في عصرنا هذا. كمَا تُؤكِّد علـى ضرورة إثارة مُشكلة الـحقيقة فـي الفلسفة بالـمعنـى ذاته الذي تُـثار به في العُلوم. وهـي لا تزعُم أنـها تـمـلك حقيقة مُطلقة؛ حيث تُنكِر أن تكون للـمعرفة التجريبيّة حقيقة من هذا اللون. تُريد الفلسفة العِلميّة أن تـحذو حذو العِلم فـي الـمنهج والتعامُل مع الـموضوعات، هـي تبتعِد عن النزعة التاريـخيّة الشُّمولـيّة، ولا تُثـيـر مُشكلة الـحقيقة، وهـي تدعّـي أنـها تُـمْسِك بـها فـي مُطلقيـتها، بل تنظُر إليـها من زاوية نِسبيّة مفتوحـة علـى النِقاش العِلمـي والـمُراجعة العلمية.

7- هل استطاعت الوضعية الـمنطقيّة التـخلّص مـن الـميتافيزيقا فِعلاً؟ - مُـنَـاقَشَة نَقْديّة -
من بيـن ما يُـمكن نقد به الوضعية الـمنطقيّة، بالتـحديد فـي قولـها بأن الـمـعـنـى هو قابلية الـتحقيق، أنـها تُواجه الصعوبة ذاتـها التـي تُواجهها نظرية الـحقيقة عند البـراغماتييـن. لـنفتـرِض أنّنا تـمكّنا من إيـجاد طريقة ما للـتحقّق من صِحّة قضية، فإذا قُمـنا بتقديـم عرض وصـفـي لـهذا الإجراء، يـحقّ لـنا أن نـتساءل عن مـعنـى هذا العـرض ذاته. ويـتـرتّب عن هذا فـورًا تسلّسُل لا نـهاية له للـمعـانـي الـتـي يـجـب تـحقيقها فـي حال عـدم اعتـرافنا فـي مرحـلة ما بأن مـعـنـى القضية بَـبـَسَاطَة واضِح وضوحًا تامًـا. بـيـد أنه إذا حَصَل واعـتـرفنـا بذلـك كان مـعـناه القَضَاء علـى الـمبدأ الأصلـي، وكان من حقّنا عندئِذٍ أن نُسلِّم بأنه بـِمَقْدورنا إدراك الـمعانـي مُـباشرة علـى الفور. يـُـصبِح مبدأ القابلية للـتحقيق الـمُولِّد لـمعنـى القضية بـهـذا الـردّ الـنقدي فــي الـحالـة الأولـى دُخولًا فـي دوّامـة مـن الـمعـانـي لا حـصّـر لـها، وبالـتالـي يضيع مِـنّـا الـهدف الـمُعْلَن عنه وهو تـحقيق الـمـعـنـى، ومُـجرّد تـحصيل حاصِل فـي الـحالة الثانية إذا تـمـكّـنا من القبض علـى الـمـعـنـى من الـبِداية. كـمَا يـصْطدِم الـموقف الوضعــي بصُعوبة أخرى هـي إنكار كلّ تأمّل فلسفي بوصّفه لغوًا. وتنـبع هذه الصُعوبة فـي كون نظرية قابلية التحقيق هـي نفسها نظرية فلسفية. إذًا یبدو، وكأن الأمـر يتعلّق بنفي صِفة هـي الأساس والأصل لذلك الذي يُـمارِسُ الـنّـفـي والإنـكـار. يُـضَاف أنّ ما تصوّره الوضعيون من نوع مُـتطرّف وصارِم من التجريبية لـم يـكُن قابِلاً للدِفاع عنه. فاللغة، بـمَا فيها اللغة العِلميّة، لا تقبل التحقّق أمام الـمُلاحظة بطريقة التوافُق الـمُباشر الواحد للواحد؛ حيث من غيـر الـمعقول أن يتـمّ تـخصيص لكلّ عبارة مُلاحظة تتميّز بالإحكام والدِقّة، أو جُـملة من الـمُلاحظات تُثبِت حقيقتها أو زيفها إثباتًا قاطِعًا. وينتُج عن ذلك أنه إذا كان كلّ ما يتـجاوز الـمُلاحظات الـمُباشرة يُصنّفه بـحَسبه «مـيتافيزيقا»، فسيكون هُناك نِسبة كبيـرة من الـميتافيزيقا فـي العالَـم الطبيعـي. لا يـُواجِه العالِـم العالَـم بـقياس كلّ عـبارة مُـفردة وِفق نـتائج الـمُلاحظات، إنـّمَا ينشُر نِظامًا مـُفصّلاً عن القضايا. وقد يُدوّن الـمُلاحظات مُباشرة، غـيـر أن بعضهم الـآخر أكثر تـجريدًا أو عُمـوميّة أو تـجريدًا وعُمـوميّة مـعًا من أن يكون قابِلاً للتحقّق. بإيـجاز إنّ موقِف الوضعية موقِف مُـنْـحَاز ومُبالغ فيه لدرجة لا يُـمكن تـحقيقه، والأسُـس الـتـي ينطلِق منـها ويـعْـمَل بـها من غـيـر الـمعقول والواقعـي تـجسيدها حَـرفـيًا. «واليوم من شأن الفلاسِفة الكثيـرين أن يـحاجّوا أن أيّ نِظام فكري يـجب أن يكون له في مـركزه بعض الـمبادئ أو الافتـراضات الـجوهرية غـيـر القابِلة للتحقّق مُباشرة أمام التجربة، ويـجب أن تكون لكلّ نِظام مـيتافيزيقاه. هكذا يبدو أن للوضعييـن علـى الـرغم من استئصالـهم الـمزعوم لكلّ الـمزاعم الـميتافيزيقية قد اتّكلوا فـي الـحقيقة علـى مذهب ميتافيزيقي مـركزي واحد، هو مبدأ قابلية التحقيق نفسه». إنـهـا الـميتافـيزيقا الـتـي تأبـى الاختفاء أو الرّضوخ لدعوات الاستبعاد؛ لأنـها هـي ذاتـها الفلسفة، وهذه التّيارات الوضعية بـمَا فيـها الوضعية الـمنطقيّة فلسفة.

8- نَـتَائِج الإعلان عن قَطيعة مع الـخِطاب الـميتافيزيقي
نـلـحظُ دومًـا أن الـفكرة التـي أُريد لـها الغياب وتكـثّفت ضِدّهـا الـآراء والـمواقِف بـحُـمولاتـها الـحِجاجيّة، تُعيد الـظُهور والـحُضور فـي أكثر الـحالات بشكلٍ أبرز من ذي قبل، وهُنَا يـحـِق أن نتساءل: هل حـقًا غابت هذه الفكرة بصِفة تطلّبت إعادة توليدها واستحضارها؟ أم أن غيابـها كان مُـجرّد إعلان مَـكّن له تكالُب عِدّة رؤى وطُروحات؟ هذا بـالضَبطْ كان الشأن بالـنِسبة للـميتافيزيقا الـتـي حاول خِطاب الوضعية الـمنطقيّة استبعادها بوصفها عبارات جوفاء من الـمعـنـى وغـيـر قابِلة للتحقّق، وجَـرت الدِراسات الناقِدة لـهـذا الـموقِف إلـى أنـها أسَّسَت للـميتافيزيقا من حيث أرادت نفيّها، وقَـدّمت مـعيار القابلية للتحقيق حُجّة علـى ذلك. ومَـهـمَا يـكُن فإنّه قد كُـتِـبَ للـمـيتافيزيقا عـودة مَـشْهود لـها عَـقِـب الـنقد الشديد الذي تعـرّضت لـه من طرف تـيار الوضعية الـمنطقيّة؛ إذ يُـمكِن أن يُفـتَـرض أنّ انـهيار هذا التيار قد فَسَح الـمَـجَال أمام انبعاث الأفكار العقلانيّة. ومن الـثابِت أن كلـمة «الـمـيتافيزيقا» لـم تعد بـغيضة بيـن الفلاسِفة الـمُـعاصرين، وإن سُـجِّل غيـر ذلك، فلن يكون هُناك عدد كبيـر يستبعِد نظرية فلسفية مُـسبَقًا بداعي أنـها تـجاوزت حُدود ماهو قابِل للـمُلاحظة الصارِمة. وحَصَل لـها نوع من الاحتضان الفلسفي وحتـى العِلمي (الفيزياء الـمُعاصرة) فـي الـفكر الغربـي الـمُعاصر، وأيضًا من قِبل الفلسفة الإسلامية كما سَـنـَرى ذلك فـي فَـقَـرات لاحِـقة.

ثـالـثًـا: ضِدّ استبعاد الـميتافيزيقا
فـي مُقابِل الـحملة النقديّة الـمُعارِضة الـتـي شنّتـها الوضعية الـمنطقيّة إنكـارًا للـميتافيزيقا، وعلـى نـحو ما تبيـّن معنا لـم تتـمكّن من الـتخلّـص منـها، تولّدت مواقِف إبستـيمولوجيّة غربيّة مُضادّة، أقرّت بالـميتافـيزيقا وِفق مـعاييـر جديدة بإمكانِـها احتواء عباراتـها وقضاياها بِـمَا يـَتَمَشّـى وطبيعتـها. وحديثًا عن الـفكر الفلسفي الإسلامـي بـحُمولاتـه الـمنهجية والـمعرفية والعقدية فـي تناوله للعديد من القضايا الفلسفية نَـسلاً منـها الـميتافيزيقا، بـمُوجب رؤية مُـتميّـزة ألّفَتْ بينـها وبيـن العِلـمي كمَا سيتّضِح بـَيـَانًا وتأكيدًا مـع أنـموذج مَـخْصوص.

1. مُنَاقَشَـة كارل بوبـر
«كارل بوبـر» (1902-1994م)، الـفيلسوف والإبستمولوجـي الـنمساوي، عُـرِف بآرائِه العِلميّة القيّمة وبـموقِفه النقدي من مبادئ الوضعية الـمنطقيّة، بالـتحديد فـيـمَا تعلّق بالـميتافيزيقا. فـكيف أسّـهَـم فـي إعادة الأهـمية إليـها؟

1-1 نـقـد الوضعية الـمنطقيّة
يُوجّه «كارل بوبر» نقدًا واضِحًا وصَريـحًـا لفلسفة الوضعية الـمنطقيّة فـي العديد من الـمَنَاحي التـي اتّـخذتـهـا؛ حيث انتقدهم فـي مَـسلكِهـم اللغوي علـى أساس أن الـجُهود الـمُكثّفَة بـهدف تـمييز الـكلمات ليست من إنشاء الوضعية الـمنطقيّة أصالة، بل كانت موجودة ومُنذ اللحظة الفلسفية اليونانيّة «أفلاطون» (427-347 ق.م). وأمّا عن منْحاهم الـتحليلي، فلا يـُمكن حصر الفلسفة فـي مـنهج واحِد، وإنّ الـمَـنْحَـى الأهمّ هو الـمَـنْحَـى الـميتافيزيقي. فالاهـتـمام بالـجانب اللغوي كان موجودًا مُـنذ عُصور سالِفة فـي العصر اليونانـي بالـتدقيق، ولا يـخفـى إلّا علـى من يأبـى الاعتـراف أن الـعِناية باللغة ومنه ما شكّل فلسفة اللغة كان حاضِرًا فـي السياق الإسلامـي علـى غِـرار جُهود «ابن حزم» (994-1064م) فـي كتابه: «التقريب لـحدّ الـمنطق والـمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية». وأمّا عن الفلسفة فلهـا علاقة وثيقة الـمَرْبَطْ بالـمنهج وتاريـخ عـريق بـه، فالـمنهج أداة للـتعبيـر عن رؤاهـا وطريـقة للـتفكّـر والـتحليل والنقد والـتفكيك والبناء فـي الإنسان والعالَـم مـعرفيًا ووجوديًا وقـيميًا. ولذلك فإنّ النقد الـبوبـري فـي هذا الـصدد، تـمحور حول سَلَبْ التأصيل من اشتغال الوضعية الـمنطقيّة بالـمَسلك اللغوي والاعتـراض علـى تقييدها للفلسفة بـمنهج واحد، والإقـرار بالأهـمية والأفضليّة للاتّـجاه الـميتافيزيقي.

1-2 إنـصـاف الـمـيـتـافـيـزيـقا
فـي مقالٍ له بعُنوان: «طبيعة الـمُشكلات الفلسفية وجُذورها فـي العِلم» أفاد بأن الـمشاكل الفلسفية الـميتافيزيقية حقيقية، لـها دومًـا جُذور عِلميّة واجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة. وهـي لا تَسْقُط ولا تُصبِح مشاكل زائِفة ولغوًا، إلّا فـي حال إنكار تِلك الـجُذور، أو اقتلاعِها منها. ويُركِّز «بوبر» فـي هذا الـمقال علـى الـجُذور العِلميّة، ويُسهِب فـي التفصيل، وهو يُثبِتُ دعواه بشُروح وافِـرة لأمثِلة عديدة من أخصّ خصائِص الـمشاكل الفلسفية، علـى مِـنوال الـمِـثال: الـمُثل الأفلاطونـيّة، الذرّية الديـمُقراطية، الأعداد الفيثاغورية والـمقولات الكانطيّة، لـيُؤكّد جُذورها العِلميّة فـي حُدود عِلم عصرها. امّا دعوى الوضعية الـمنطقيّة الـتـي مفادُها أن القضايا والـمُشكلات الـميتافيزيقية زائِفة بـتبـريـر طال تكراره وهو فراغِـها من الـمـعـنـى، فتنهار حيـنمَا يردّ «بوبـر» علـيـها بأنـها حقيقية ذلك أنـها تـمتلِك دائِـمًا أصولًا مُـختلِفة، تَـمْنَعُ القول بُبطلانِـها ما عدا حال نـفـي تِلك الأصول. والقصد أن الـمُشكلات الـميتافيزيقية ليست من صِنف الأوهام أو من صِنف الـتـرف الفكري وتـمضية أوقات الـفـراغ، بل إنـهـا حقيقية. وكمَا جـرت الإشارة فإنّ «بوبـر» فـي مقاله الـمذكور أعلاه، ركّـز علـى الأصول أو الـجُذور العِلميّة، والأمثِلة الـوارِدة فلسفية ميتافيزيقية لـها جُذور عِلميّة الرياضية والفيزيائية بالـتحديد.
ترتكز نظرية العِلم عند «بوبر» علـى تصوّر مـيتافيزيقي مُـحَدِّد للطبيعة يتّسِم باطّرادات أساسيّة، ذلك أنّ الطبيعة تـحتوي علـى قضايا كُلّية صادِقة، وهذه القضايا هـي ما يُـناظِر وقائع الطبيعة ورُغم هذا لا تضْمَن لنا عُموميّة الوقائع أن تكون القضايا الكلّية صادِقة، ومن ثـمّ فإنه بـيـنَمَا نـحن نعلَم من ميتافيزيقا «بوبر» أنه توجد قضايا كلّية صادِقة، فإنه ينبغي أن لا نأمل فـي إقامة نظرية عِلميّة صادِقة حقًا، ولكن نأمل حقًا فـي حذف النظريات الكاذِبة. إذن، نفهم من خِلال التصوّر الـميتافيزيقي الذي يُدعـم كأساس لـنظـرية الـعِلم الـبوبرية أن الأهمّ والأنسَب أن نَـهُـمّ باستبعاد النظريات الكاذبة وليس البحث عن نظريات صادِقة صِدقًا كُلّيًا؛ أي الـمطلوب هو الكشف عن الكذب ورفضِه وليس الصِدق الـتّام الذي لا تضمنه عُمومية الواقع. وهذا نقد مُباشـر لـمعيار القابلية للتحقيق الذي كان يبـحث عن الشرط الضروري لصِدق القضية. يُصـرّح «بوبـر»: «وفـي مُقابل هذه الدعوة الـمُضادّة للميتافيزيقا فإنّ مُهمّتـي الأساسيّة كمَا أراها، لا تتمثّل فـي رفض الـميتافيزيقا، إنّـمَا بالأحرى تتّجِه إلـى صياغة السِّمة الأساسيّة الـمُلائِمة للعِلم الأمبـريقي، أو لتعريف تصوّرات العِلم الأمبـريقي والـميتافيزيقا بطريقة تـجعلنا قادرين علی أن نُـقدّم نَسَقًا من القضايا أوثق قُربًا من دِراسة العِلم الأمبـريقي». وكأنّ ما قدّمته الوضعية الـمنطقيّة لـم يكُن مُلائِمًا للعِلم الأمبـريقـي، فجاء «بوبــر» ليُعلِن أنه ليس ضِدّ الـميتافيزيقا، وأنه يهـدِف إلـى تقديـم الـخاصّية الرئيسيّة الـمُناسِبة للعِلم الأمبـريقـي. ما يهُمّ أن الـميتافيزيقا لـم تعد تِلك الكلمة الثقيلة علـى مَسَامِع الفلاسِفة والإبستمولوجييـن الـمُعاصرين، ما بعد الوضعية الـمنطقيّة.

1-3 مـعـيـار الـقـابـلـيـة لـلـتـكـذيـب
مبدأ القابلية للتكذيب أو للخطأ، الـمبدأ الذي تبنّاه «بوبر» للتمييز بيـن العِلم واللاعِلم. «فَلَمّا كان من الـمُستحيل أن نعرف شيئًا بيقيـن، فليس ثَـمّة ما نـجنيه من البحث عن اليقيـن، أمّا البحث عن الحقيقة فهو أمر مُسْـتَحَقْ، نـحن نقوم بذلك، فـي الـمَقَام الأوّل، بالبحث عن الأخطاء حتـى يـُمكننا إصلاحها». يُـفيد مبدأ القابلية للتكذيب أنه من أجل التمييـز بيـن الـمعرفة العِلميّة والـمعرفة اللاعِلميّة يـجب أن يكون عملنا هو البحث عن الأخطاء من ثـمّ نستطيع إصلاحهـا. لا يُـمكن أن نُدرِك اليقيـن وليس هُناك من فائدة من البحث عنه، فـي حيـن البحث عن الـحقيقة يستحِق الاجتهاد. إذا أردنا أن نَتَفَادى خطأ الوضعييـن فـي إقصاء الأنساق النظرية للعِلم الطبيعي من خِلال مـعيارنا للتمييـز، ينبغي إذن أن نـختـار مـعيارًا يُـتيـح لـنا إمـكانیة بأن نُضيف القضايا التـي لا يُـمكن تـحقيقها إلـى مـيدان العِلم الأمبـريـقي. ويُضيف شَـرْحًا «بوبر» بأنه وبكلّ يقيـن سَيَسْمَح بأن يكون النَسَقْ إمـبـريقـيًا أو عِلمـيًا فقط إذا كانت لـه القابلية للاختبار عن طريق الـخـبـرة. وتَقْتَـرح علينا هذه الاعتبارات أنه ليست قابلية الـتحقيق بل قابلية تكذيب النَسَقْ هـي ما يُـمـكن أن نتّخِذه مـعيارًا للتمييـز. وبصيغة أخرى، فإنه لـن يطلُب من النَسَقْ العِلمي أن يكون مُـتاحًا للإشارة إليه بـمَـعْـنَـى إيـجـابـي، بل سيطلُب أن تكون صورته الـمنطقيّة قابِلة للإشارة إليها عن طريق الاختبارات الـمنطقيّة بـمَـعْـنَـى سـلـبـي. ينبغـي أن يكون النَسَقْ الأمبـريقـي العِلمـي مُـمـكِنًا لأن يُـرفَض بالـخـبـرة. يُـريد «بوبر» إعطاء الـفُرصة وفسحّ الـمجال أمام القضايا الـتـي لا تُتـيح تـحقيـقها إلـى العِلم الأمبـريقـي، وهُنَا يتعـزّز الـطرح السالِف الذكـر بأنه يـتّجه إلـى صياغة السِّمة الأساسيّة الـمُلائِمة لـهذا العِلم. إذن، ليس مـعنـاه أنه إذا كانت تِلك القضايا «الـميتافيزيقية» غيـر قابِلة للخُضوع لـمعيار التحقيق يتمّ استبعادها وإنكـارها، بل يـجب أن نضع معيارًا جديدًا يُـمكِّن من إضافتـها إلـى العِلم الأمبـريقـي، وهو بالـطبع معيار القابلية للتكذيب الذي يُصبِح هو الـمعيار الذي نتبنّاه من أجل عَمَلية الـتمييـز. فـي خضمّ هذا الـمعيار التكذيبـي سيكون الـمطلوب من النَسَقْ العِلمـي أن يُوفِّـر الإمكـان لاختباره منطقيًّا بدلالة سلبيّة مفادُها رفضِه عن طريق الـخبـرة.
بـهذه الأفكار الـمُقدّمة، يتّضِح لنا كيف عمِلت الـمواقف الإبستيميّة الغربية ما بعد الوضعية الـمنطقيّة مـُمَثّلة فـي مُنَاقَشَة «كارل بوبـر» علـى إعادة الاعتبار إلـى الـميتافيزيقا، وذلك بتغييـر معيار الـتمييز وتوجيه الاهتمام، يـتمثّـل الأول فـي القابلية للتكذيب والثانـي فـي الإشارة إلـى النَسَقْ العِلمي بـمَعْنَـى سلبـي.

1-4 ملاحظات نقدية على مناقشة بوبر
قدّم كارل بوبر مناقشته للوضعية المنطقية وما تحمله من رؤى حول اللغة الميتافيزيقية والعبارات غير القابلة للتحقق الأمبريقي، ولكنه لم يقدم معالجة تامّة، حيث جعل المحاولة محصورة بفكرة الدحض والقابلية للتكذيب، ولذا لم يعتن كثيرًا في فلسفته بمقول الحق والصدق والمطابقة للواقع، وهنا يأتي النقص في نظريته.

إن القابلية للتكذيب ليست إلا فرارًا من محاولات الوضعيين حصر القضايا المعرفية بتلك التي تخضع للتحقيق الأمبريقي، ولكن ما ينبغي أن يقال في قبالهم ليس فقط التوسع في القضايا العلمية من جهة القابلية للدحض والتكذيب، وأن تاريخ العلم ليس سوى تاريخ أخطاء العلم التي تم كشفها أو تعديلها، بل لا بد من تقديم معالجة أخرى تعالج أصل نظرية التحقق عند الوضعيين، وهي أن التحقق المحصور بالبعد الأمبريقي هو تضييق غير مبرر، وأن التحقق الميتافيزيقي من العبارات أوسع بكثير من التحقق الأمبريقي، وأن حصر التحقق والصدق بالبعدِ الأمبريقي حول خروج عن طبيعة العلم والعرفة في نفسها أيًا كان سنخها.
بعبارة أخرى، لو لم نقل بإمكان التحقق من قضايا غير تجريبية أمبريقية، لانهدم أصل البناء العلمي القائم على المنهجية الأمبريقية، وبيان ذلك أن التجربة في نفسها عملية مبنية على قضايا متجاوزة للتجربة ومتعالية عليها؛ إذ هي الإطار الحاكم على حصول شرائطها، وهذه القضايا لا بد أن تكون غير مسبوقة بتجربة؛ ولذا عدها المناطقة من البديهيات، مثل قضية أن الاتفاقي لا يكون دائميًا ولا أكثريًا، ومثل قضية أن القسري لا يدوم، وغيرها.

2. مُنَاقَشَات خاصّة فـي ضوء الفلسفة الإسلامية
لقد جَـرى الـحديث عن الفلسفة الإسلامية حديث الأصالة والتبعيّة، أي صِلتـها بالفلسفة اليونانيّة من حيث الانفتاح علـى أفكار فلاسِفتـها بـترجـمـتها وشرّحِهـا. وذهب مذهب التأصيل إلـى الارتكاز علـى عِلم الكلام والتصوّف كدليل علـى الأصالة دون شكّ. وما هو قارّ أن للفلسفة الإسلامية روّادها الـمُتَفَلسِفَة، إشكالاتـها ومناهجهـا ورؤيـتها الـخاصّة، بِـمَا فـي ذلك رؤيـتها حول الـميتافيزيقا، وهذا ما سيتقرّر من خِلال الأنـموذج الفلسفي الإسلامـي الذي وقع اختياره استحقاقًا، نقْصِد بـه «ابن إسـحـاق» (185-256ه / 801-873م).

2-1 مُـنَـاقَـشَـة ابن إسـحـاق
يُعدّ «أبو يوسف يعقوب ابن إسحاق الـكندي» أوّل فيلسوف مُعـتـَرف به فـي سياق التُـراث العربـي. اشتغل رُفقة مـجـموعة من الـمُتـرجـميـن الذين نقلوا أعمـال «أرسطو» (384-322 ق.م) والأفلاطونيون الـجُددّ وعُـلـماء الـيونان فـي العُـلوم والرياضيات. من إنـتاجاته: فـي الفلسفة الأولـى، فـي العقل، القول فـي النفس، فـي الإبانة عن العِلّة الفاعِلة القريـبة للكون والفساد، فـي إبانة سُـجود الـجرم الأقصـى، فـي البصريات. اشتغالات من نوع الانـهمام بِـمَا بعد الطبيعة والـطبيعة.
فـي البدء، يـنبـغي الإقرار بأنّ الـعِلـمـي والـمـيتافيزيـقـي فـي فلسفة «الكندي» يُشكِّلان وحدة تنتفـي معها القول بالانفصاليّـة بـينهُـمَا، هذه الدعوى الـتـمييزيّة تعتـرِض سَبيلها دعوى نَقيضة مضمونـها أن العِلم والـمـيتافيزيقا فـي تاريخ العِلم والفلسفة أسّـسَا لوحدة فلسفية تُعبّـر عن هُـموم الإنسان واهتـماماته، ما سيتقرّر فـي موقِف «الكندي» ومُناقَشَة . إنّ إشكال العلاقة بـيـن ماهو مـيتافيزيقي وفيزيقي من بيـن الإشكالات الـتـي طُرِحت فـي سياق العلاقة بيـن العالِـم والفيلسوف، بيـن الـمرئـي واللاّمرئـي، بـيـن الكائنـي والـكيانـي، وتَشَكّلَت رؤيـتـان مُـضادتان، رؤية الانفصال ورؤية الاتّصال، وإنّ الرؤية الثانية أحقّ بدليل تطوّرات الـمعرفة الإنسانية فـي جـميع مـجالاتـها، بالأخـصّ الـمجال الـمعرفـي. وتأتـي أطروحة «الكندي» كواحدة من أبـرز الأطروحات الـعربية الإسلامية الـتـي تُصنّف فـي خانـة الرؤية الاتّـصاليّة. فما هـي تـفاصيل رؤيته ومواقفه وطبيعة الـمنهج الذي اعتمده إثباتًا لوحدة العِلمي والـميتافيزيقي؟

أ- أهـمـيـة الـفـلـسـفـة والـتـألـيـف بـيــن مـا بـعـد الـطـبـيـعـيـات والإلـهـيـات:
إنّ الفلسفة عند «الكندي» هي شرف علـى جـميع العُلوم، والشرف الأعلـى علـى فُـروع الفلسفة هو الفلسفة الأولـى التـي يُعرِّفها بأنـها عِلم الـحقّ الأوّل الذي هو عِلّة كلّ حقّ. ولَـمّا كان حاصِل شرف العِلم من شرف موضوعه؛ حيث يكون العِلم بالـعِلّة أشرف من العِلم بالـمَعْلول، وكانت الفلسفة الأولـى هي عِلم الـحقّ الأوّل أو الـعِلّة الأولـى، فلا بُـدّ أن يـجعلها أعلـى الـعُلوم الفلسفية مَـنْزِلة، وأن يتمثّل له الفيلسوف التّام رجلاً مُـحيطة بـهذا العِلم الأشرف. للفلسفة أهـمية خاصّة عند «الكندي»، برُتبة الشرف، فـهـي أشرف العُلوم لأنـها أعلـى شرف منـهُم وشرف عليـهم. وفـي الفلسفة ذاتـها عِدّة فُـروع، لكن يوجد من له الشرف الأعلـى عليهم جـميعًا، والـقصد الفلسفة الأولـى الـتـي تُـفيد بأنـها العِلّة الأولـى؛ أيّ مُسبِّب الأسباب والـحقّ الأوّل الذي هو سبب لكلّ حقّ. ولـمّا نتـحدّث عن العِلّة، الفلسفة الأولـى، فإنّ الـحديث هُنا ما بعد طبيعي، ولـمّا نتحدّث عن الـحقّ الأوّل الذي هو عِلّة كلّ حقّ، فإنّ الـحديث يُشيـر إلـى الإلـهـي، والـنتيجة تـحقّق تآلُـف ما بعد الطبيعيات والإلـهيات.

ب- الـدِفـاع عـن الـفـلـسـفـة وتـوسـيـع نِـطـاق اشـتـغـالِــهـا: نــحـو نـقـدّ مُـسّـبَـقْ لأطـروحـة الـفـلـسـفـة إيـضـاح الأفـكـار والقـضـايـا، مـجـالــهـا الـوحـيـد مـنـطـق الـعُـلـوم:
إنّ الفلسفة بـمُـقْـتَـضَـى تعريفه، «عِلم الأشياء بـحقائِـقـها، عِلم الربوبيّة وعِلم الوحدانيّة وعِلم الفضيلة، وباقتصار عِلم كلّ نافع والسبيل إليه، والبُعد عن كلّ ضارّ والاحتـراس منه، واقتناء هذه جـميعًا هو الذي أتت به الرسل الصادِقة عن الله، جلّ ثناؤه». إنه تعريفه واسِع يـجعل من الفلسفة ضرورة للنَظَر فـي كلّ شيء، بـما هـي عِلم الـماهيات، عِلم الإلـهيات والتوحـيد والأخلاق الفاضِلة، ومنهجًا ترشيدي وإصلاحـي، يـجلِب الـمصلحة ويدفع الضّرر. هذا ما جاءت به الرسل الصادِقة عن الله سبحانه.
إنّ الـبيـّن أن «الكندي» يُدافِع عن الفلسفة ويوسّع نِطاق اشتغالـها، ولا يـحصرها فـي دائرة تـمييـز وإيضاح الأفكار وفـي مـجال منطق العُلوم فقط كمَا سيحدُث لاحِقًا بقُرون مع الفلسفة التـحليليّة والوضعية الـمنطقيّة. ثـمّ يـجتهِد فـي إلـزام خُـصومه بأن يعتـرفوا بوجوب اقتناء عِلم الفلسفة، هُـمّ إمّـا أن يقولوا إنّ طلبهـا واجب، فـيجب عليهم إذن أن يطلُـبوهـا، وإمّا أن يقولوا إنّ طلبـها ليس واجبًا، فـيلزُم عليهم تقديـم الدليل علـى رأيـهم، ويـتأتّـى دليلهم وجوبًا من الفلسفة التـي هي عِلم الأشياء بـحقائِـقها. فـي كِلتَا الـحالـتـيـن سيتمّ طلب الفلسفة والـخوض فيـها، سواء من ناحية تأكيد وجوب طلبـها أو من ناحية نفـي ذلك. ويَــبْـتـغـي «الكندي» من تأليف كتابـه إقامة الـحُجّة علـى وجود الله الواحد الـحقّ بـمجموعة من الأدلّة تُبطِل كُفر الـجاحدين وتقّـمعه، يُـدافع عن أصول العقيدة الإسلاميّة فـي مُـكافَحة أمام التيارات الإنكاريّة الـمُعادية. وكذلك أمام العقول الـجامِدة والـخامِلة التـي ترفُض العُلوم العقلية وتـدّعـي أنـها تُدافِع عن الدين. يقتـرِب كثيـرًا بـهذا السّعـي عامّـة من منـهج عِلم الكلام الدفاعي بالأدلّة العقلية عن العقائد الإيـمانيّة الإسلامية، وخاصّة من الـمُعتزلة الـتـي ناصَرت الاجتـهاد وإعـمال العقل تدبّـرًا وتفكّرًا.

ت- مـوضـوع مـا بـعـد الـطـبـيـعـة ومـنـهـج الـبـحـث فـيـه:
يـتحدّد موضوعـها فـي كونه غيـر هـيولانـي، غيـر مادي، لا يرتبِط بالـمادة وليس له مثال فـي النفس، يُدْرَك عن طريق الأبـحاث العقلية. وأمّا منهج هذا الـموضوع، فيتحدّث عن الـخطأ الـمنْهـجي الذي تَـمَـكّن من بعض الناظريـن فـيمَا وراء الطبيعة، الذين تـمثّلوا موضوعاتـها فـي النفس، مع أنّ الأمر واضِح تَـمَامًا، يـتـجـلّـى بذاته فـي العقل. وقـِياسًا علـى فكرة «الكندي» الأساسيّة التـي مفادُها أنه لكلّ موضوع منهجًا خاصًّا به، نلحظ أنه يُوضِّح أيضًا خطأ الباحثيـن فـي الطبيعة مَنْ استخدم الطريقة الرياضية فالـمنهج الرياضي لا يـختصّ بـما هو هـيولـي، وكأنه يُريد أن يصِل إلـى أن الـمنهج الرياضي يصلُح للبحث فيـمَا بعد الطبيعة. ولَـمّا كان عِلم الطبيعة هو عِلم الأشياء الـمُتحرّكة ينتهـي«الكندي» إلـى أن ما بعد الطبيعة – كأنه يُقيـم ذلك علـى منهجِها وموضوعها – هي عِلم ما لا يـتحرّك. يُـؤلِّف بِداية بيـن الـميتافـيزيقـي والعقلي علـى أساس أن موضوع ما بعد الطبيعة غـيـر هيولانـي وليس مادٍ، يتطلّب بـحثه عقليًا، كمَا يُـؤلّف بيـن الـميتافـيزيقـي والعقلي الرياضي العِلمي، وبالتالـي لـم يـتمّ إنكار الـميتافيزيقا لصالـح العقلي والعِلمي، بل خِلاف ذلك تـمّ اعتماد العقلي والعِلمي فـي بـحث الـميتافيزيقـي.
«إذن كلّ طبيعي فذو هيولـي، فإذا لـم يُـمكن أن يستعمل فـي وجود الأشياء الطبيعية الفحص الرياضي، إذ هو خاصّة ما لا هيولـي له، فإذن هو كذلك فـي الفحص به علـى ما ليس بطبيعي، فمِن استعمله فـي الـبحث عن الطبيعيات حاد وعُدِم الـحقّ». فالـمنهج الرياضي لا يصلُح للبحث فـي الطبيعي الـهيولـي، لأنّ صاحبه سيحيد عن الـحقّ وسيبطِلُه، إنّـمَا يصلُح للبحث فـي ما بعد الطبيعي غـيـر الـهيولـي.

ث – استثماره لـبُـرهان الـخُلف الرياضـي فـي مُعَالَـجَة قضية ميتافيزيقية:
لقد عَـمِـلَ «الكندي» علـى توظيف بُرهان الـخُلف أكثـر من خـمسيـن مرّة، وهو استعمال كثيـر فـي رسالة صفحاتـها قليلة. ويُلاحَـظ أنه لـم يُقدّم تعريفًا لـبُـرهان الـخُلف قبل أن يُـبـرهـن به، إنّـمَا استعـمـله مُـباشـرة. تـوجد مُلاحَظة مـفادُها أنه استعمل عـبارة: «هذا خلف لا يُـمكن» وعـبارة: «هذا مُـحال لا يُـمكن». فإذا كانت الـعبارة الثانية «مُـحال» مُـنْـتَشِـرة فـي أعْـمَـال الأصولييـن والـمُتكلّميـن قبله، فإنّ عـبارة «هذا الـخُلف» بـحُـمولاتـها الـمنطقيّة الـيونانيّة الـثَقيلة لـم تـكُن مَـعْروفـَة، وهذا قدّ يعنـي أن «الكندي» هو من أدخلـها إلـى الدائرة الكلاميّة والأصوليّة عِلاوة عن الدائرة الفلسفيّة. لقد اهتدى إلـى كون بُـرهان الـخُلف الرياضي هو الأصلح والأنسب فـي مُعالـجة قضايا مُـختلِفة، ما يهمُنا فـي هذا الـمَقَام القضية الـميتافيزيقية «مـفهوم الأزلـي ومُـمـيّـزاتـه» كعيّنة، وما يـثـبُت من هذا الاهتـمام أن هذه القضية مُشْبعة بالـمعنـى، وليست فارغة مِثلَـمَا ستتّهِم به الوضعية الـمنطقيّة فـيمَا بعد بكونـها مُفْرغة.

مـفـهـوم الأزلـي ومُـمـيّـزاتـه:
«إنّ الأزلـي هو الذي لـم يـكُن هو مُطلقًا، فالأزلـي لا قبل كونـيًا لـهُويّـته، فالأزلـي هو لا قوامه من غـيـره، فالأزلـي لا عِـلّـة له، فالأزلـي لا موضوع له، ولا مـحـمول، ولا فاعل، ولا سبب – أعنـي ما من أجله كان – لأنّ العِللّ الـمُقدّمة ليست غيـر هذه». «فالأزلـي لا جنس له، لأنه إنّ كان له جنس فهو نوع، والنوع مُـركّب من جنسه العامـي له ولغيره ومن فصل ليس في غيـره، فله موضوع هو الـجنس القابل لصورته وصورة غيـره، ومـحـمول هو الصورة الـخاصّة له دون غـيـره، فله موضوع ومـحمول». إذن، يُـبـرهِـنُ «الكندي» علـى أن الأزلـي لا جنس له، فيفتـرِض أن له جنسًا. إن كان له جنس، وهي مُقدِّمة يعـتـريـها الشكّ. وكلّ جنس له نوع، وهي مُقدّمة صادِقة يتّفِق حولـها الـمنطقيّون، وبالتالـي إذا كان للأزلـي جنس، كان له نوع، فله موضوع ومـحمول. وهذا نَـقيض صِفات الأزلـي الذي لا موضوع ولا مـحمول له، لذلك من الـمُسْتحيل أن يكون له جنس. يـفتـرِض وجود شيء ثـمّ ينفيه انطلاقًا من ما ذكره من صِفات مـفهومية له. أيضًا، «فالأزلـي لا يفسد، لأنّ الفَسَاد إنّـمَا هو تبدّل الـمَحْمول لا الـحامل الأوّل، فـأمّا الـحامل الأوّل الذي هو الأيّس فليس يتبدّل، لأنّ الفاسد ليس فساده بتأييس أيسيّته. وكلّ مُتبدّل فإنّـمَا تبدّله بضدّه الأقرب – أعنـي الذي معه فـي جنس واحد، كالـحرارة الـمُتبدِّلة بالـبُـرودة، لا بالأبعد، من الـمُقابلة كالـحرارة باليـبس أو بالـحلاوة أو بالطول، أو ما كان كذلك، والأضداد الـمُتقاربة هي جنس واحد، فالفاسِد جنس، فإنّ فسد الأزلـي فله جنس، وهو لا جنس له – هذا خلف لا يُـمكن، فالأزلـي لا يُـمكن أن يفسد». إنّ النـتيجة واضِحة وهـي اعتـماد «الكندي» لـبُـرهان الـخلف الـرياضـي فـي مُـعَالَـجَة قضية مـيتافيزيقـية «الأزلـي» من حيث الـمفهوم والـمُـمَـيّـزات.

يـتـجلّـى لنا بـهذه الرؤية والـمنهج الـمُعتمد من طرف «الكندي» الـموقِف الـمُتميّـز الـعارِف بقيمة الـميتافيزيقا من منظوره أو من منظور الفلسفة الإسلاميّة إذا ما تـحدّثنا بالعُموم، وأن البحث فيمَا بعد الطبيعة له عوائد من الـمَعـْـنـَى وبينه وبـيـن العِلّمي توليفة حيّة.

خـاتـمـة:
فـي نِـهاية هذا البحث الذي تقرّر موضوعه فـي إبراز موقف الوضعية الـمنطقيّة من الـميتافيزيقا، بكونه موقفًا نقديًا، جاء علـى خلفية إصرارهـا الـهاجسي علـى تـوليد الـمَـعْـنـَى، الذي ربطته بالفيزيقا وسَحَبته من الـمـيتافيزيقا. حاولنا إقامة دِراسة تـحليلية نقدية لـهذا الـنّزوع، وقع لنا استنتاج مفادُه عدم إمكان الوضعية الـمنطقيّة من استبعاد الـميتافيزيقا والـتخلّص منها بصِفة نِـهائية؛ إذ أكّدت الـدِراسات أن معيارها للتحقيق ذاته ميتافيزيقي. ثـمّ كان لنا أن اعتمدنا أنـموذجًا إبستمولوجيًا غربـيًا أعاد الاعتبار إلـى القضايا الـميتافيزيقية ونقد الوضعية الـمنطقيّة تـعيّـن فـي «كـارل بـوبـر». ولـم نكتفِ بـهذا الـمَنْـحَـى العِلمي والفلسفي بـل وجّهنا الـنَظَـر إلـى الفلسفة الإسلامية توضيـحًا لرؤيتـها للـميتافيـزيقا أو ما ورد تـحـت اصطلاح مابعد الـطبيعة مع الـحالة الفلسفية الـمُخْتَارة «إسـحـاق الـكـنـدي». نَـصِل إلـى إدراك قيمة الفِعل النقدي فـي تطوّر الـمعرفة الـبشرية، العِلميّة والفلسفية منها علـى شاكِلة الـتخصيص، وأن مـبـحث الـميتافيزيقا من الـمباحث الفلسفية الـغنـيّة بالإمدادات الدّلاليّة وهـي حقل له معانيه الـمُـتـَميّـزة ليس شَرطًا أن تكون كمعانـي العِلم، وليس من الضـرورة أن تـكون علـى مَقاس مـنهجه حـتـى نُـقرّ لـها الـمَـعْـنَـى. وعن الفلسفة الإسلامية، الفلسفة الـتوحيديّة خاصّيـتها الـتكامُـل والـتـركيب، تـجمـع بـيـن الـميتافيزيقي والعِلمي، الـروحي والـجسدي، العقلي الـتأمّـلي والواقعي الـعَمَلـي، ناحِتَـة مفاهيـمها من روح الإسلام مع الاستفادة من الـتُـراث الفلسفي الـيونانـي تكييفًا ونقدًا لـمَا يـتعارَض مـع تعالـيم الـدين الإسلامـي.
يُـقتَـرح العودة الذكيّة الواعيّة للـتُـراث الفلسفي الإسلامـي كنّصوص «الكندي» مثلاً، واسـتثـمار معانـيـها ومُـحتواهـا ومنهجها بِـمَا يـَتَـنَاسَب والـراهِـن، ليس علـى نـحو السَّكَنْ فـي الـماضـي أو علـى سيـرة قِـراءة الـيوم بعقل الأمـس، إنّـمَا انـفـتاح تـحـييـنـي لاجـتهـادات سابِقة بأعيـن طرائِقيّة ورؤى معرفية مُـعاصِـرة. لأنّ الـغرب ذاتـه شَرع فـي نـهضـته وتَـمَكّـن منـها بإحياء الـتُـراث من مُـخْـتَلَفْ الـمَشَارب، نقدًا واستيعابًا وتـجاوزًا. يـُـضَاف، إلـى الـحثّ علـى تفعيل الـمُقاربات الـتكامُليّة فـي مُـناقَشَة العديد من القضايا وفـي مُناقَشَة الإنسان بـحثًا منه وفيه. والـتنّبيه الـتثقيـفي إلـى أن الـميتافيزيقا ليست هذرًا للـجُهد ولا قـفـزًا عن الواقع، ولا حـتـى هـي مدعاة لاتّـهام الـتكفـيـر، بـلّ هـي حقّ موجود لاتّـصالـهـا بأسئلة من وحـي الإنسان والعالَـم. والاشتغال بالدِراسات الإبستمولوجية الـرّصينَة بـمَا هي إجـراء نقدي دَقيق وعَميق، وبِناء من الـمُقْـتـَرحَات والـحُلول للأزمات الـتـي تـتكاثـَر مع ضَـياع بوصَلة النقد النّاضج.

قـائـمـة الـمـصـادر:

أولاً: الـكـتـب:
عبد الـحليم عطية، أحـمد، الفلسفة التحليلية: ماهيتها، مصادرها، ومُفكّروها، ط1، سلسلة مُصطلحات مُعاصرة، الـمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، العتبة العبّاسية الـمُقدّسة، بيروت، 2019م.
السيد نـفادي، مـعيار الصدق والـمـعنـى فـي العُلوم الـطبيعية والإنسانية، مبدأ التحقيق عند الوضعية الـمنطقيّة، (د.ط)، دار الـمعرفة الـجامعية، الإسكندرية، 1991م.
الكندي، رسائل الكندي الفلسفية، تـحقيق وتقـديـم وتعليق مـحمد عبد الـهادي أبو ريدة، ط2، مطبعة حـسّان، القاهرة، (د.ت).
راسل، برتراند، حكمة الغرب الفلسفة الحديثة والمُعاصرة، ج2، تر: فؤاد زكريا، (د.ط)، سلسلة عالَـم الـمعرفة، الـمجلس الوطنـي للثقافة والفنون والـآداب، الكويت، 1983م.
دورتـيـي، جون فرنسوا وآخرون، فلسفات عصرنا، تياراتها، مذاهبها، أعلامها وقضاياها، تر: إبراهيم صحراوي، ط1، الدار العربية ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت، الـجزائر، 2009م.
لشـهـب، حـمـيد، دائـرة فيينا (الوضعية الـمـنطقيّة) نشأتـها وأسُسِها الـمعرفية الـتـي قامـت عليها، ط1، سلسلة مُـصطلحات مـعاصرة، الـمركز الإسلامـي للدراسات الإستراتيجية، العـتبة العبّاسية الـمُـقدّسة، بيروت، 2019م.
بوبر، كارل، بحثًا عن عالَم أفضل، تر: أحـمد مستجيـر، (د.ط)، الـهيئة الـمصرية العامة للكتاب، مصر، 1996م.
بوبر، كارل، منطق الكشف العِلمي، تر: ماهر عبد القادر مـحمد، (د.ط)، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1986م.
فهمـي زيدان، مـحمود، مـناهج البحث الفلسفي، (د.ط)، الـهيئة العامة للكتاب، الإسكندرية، 1977م.
رايشنباخ، هـانز، نـشأة الفلسفة الـعِلميّة، تر: فؤاد زكريا، (د.ط)، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2004م.
الـخولـي، يُـمنـى طريف، فلسفة كارل بوبر، منهج العِلم ... منطق العِلم، (د.ط)، مؤسسة هنداوي، مصر، 2020م.
كوتنغهام، جون، العقلانية، تر: مـحمود منقذ الـهاشـمـي، ط1، مـركز الإنـماء الـحضاري، حـلـب، 1997م

المصادر الأجنبية
Carnap, Rudolf. Philosophy and Logical Syntax. London: Kegan Paul, Trench, Trubner & Co., 1935.
Wittgenstein, Ludwig. Tractatus Logico-Philosophicus. Translated by D. F. Pears and B. F. McGuinness, with an introduction by Bertrand Russell. Routledge Classics. London and New York: Taylor & Francis e-Library, 2002.

ثـانـيـًا: الـمـجـلاّت والـدوريـات
أدامسون، بـيـتـر، الكندي، تر: فاطمـة الشملان، موسوعة ستانفورد للفلسفة، مـجـلة الـحكمة الإلكترونـيـة، 2021م.
السهـلي، حسن، وحدة العِلمـي والـمـيتافيزيقي فـي فلسفة الكندي، دورية نـماء لعُلوم الوحي والدراسات الإنسانية، مـركز نـماء للبحوث والدراسات، بيـروت، ع 19، خريف 2022م.