الباحث : حميد رضا آيت اللهي
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 36
السنة : خريف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : February / 13 / 2025
عدد زيارات البحث : 112
الملخص:
بعد ظهور الفلسفات اللغوية من خلال آراء برتراند راسل وفتغنشتاين، ظهر اهتمام بمسألة مفهومية القضايا[3]. وبسبب نوع نظرتهم التجريبية، تم التشكيك بمفهومية القضايا الدينية والأخلاقية والفنية وما بعد الطبيعية. وبعد هؤلاء ذهب الوضعيون المناطقة من أمثال أيير ـ بملاك القابلية على التحقق ثم إمكانية الإبطال ـ إلى اعتبار القضايا الدينية بلا معنى (وليست كاذبة). سوف نعمل في هذه المقالة على بيان شبهة مفهومية القضايا الدينية المطروحة من قبل أنطوني فلو وأجوبة ريتشارد هير، وبازيل ميتشل، وجون هيك، ويان كرومبي. ثم سنعمل بعد ذلك على تقويم هذه الشبهة والإجابات عنها من زاوية أخرى، وفي نهاية المطاف نقدم جواباً جديداً عن هذه الشبهة من زاوية الفلسفة الإسلامية. في هذا الجواب يتمّ التعرّض إلى بحث الأفهام الخاطئة للعلاقة والصلة بين الله والعالم وصفاته التي أضحت منشأ لهذه الأنظار والأفهام والتعميم الاعتباطي للنزعة التجريبية. وفي الختام سوف نعمل على بيان الرأي الصحيح أو الذي تمّ تصحيحه في هذا الشأن.
الكلمات المفتاحية: المفهومية، إمكان التحقق، إمكان الإبطال، اللغة المعرفية، الله. المقدمة
منذ بداية القرن العشرين حيث اكتسبت مسألة اللغة دوراً محورياً في الفلسفة، صار موضوع المعنى والمفهوم وطريقة إحالته في مختلف حقول التفكير الإنساني ـ من قبيل: ما بعد الطبيعة والأخلاق والفن والدين ـ يقع في بؤرة الاهتمام. وقد اكتسب نمط مفهومية القضايا عند (فتغنشتاين الأول) أهمية أكبر من محتوياتها ومضامينها الفلسفية. إنه في تقسيم القضايا إلى الذرية والجزيئية وإحالة القضايا الجزيئية إلى القضايا الذريّة، وقيام القضايا الذرية على الحسّ، قال بخروج القضايا ـ التي لا يتسع لها هذا الإطار المفهومي ـ من هذه الدائرة[4]، وذلك لأن هذه القضايا قاصرة عن تقديم تبرير وتوجيه لطريقة إحالتها. بل إنه قد أنصف إذ أخرج فلسفته في بيان هذه الرؤية عن حقل المفهومية، وآثر في نهاية المطاف السكوت في قبال ما لا يمكن الحديث عن إحالته، واعتبر فلسفته بمثابة السلّم الذي يجب نبذه والتخلّي عنه بعد الوصول إلى ذروة هذا التفسير اللغوي من قبله[5].
وبعده صار موضوع مفهومية القضايا محوراً لاهتمام الوضعيين من المناطقة، وإنهم بدورهم تبعاً لفتغنشتاين قد اعتبروا صدق وكذب القضايا متفرّعاً عن مفهومية القضايا. وعليه لو خرجت قضية من اختبار المفهومية بنجاح، عندها يمكن الحديث عن صدقها وكذبها، وأما بعكس ذلك لو فشلت القضية في اختبار المفهومية، بحيث لم يمكن بيان صدقها وكذبها في بعض الحالات، فإنها لن تكون قضية كاذبة، وإنما سوف تكون قضية بلا معنى. إن هذه الدقة من قبل الوضعيين تعدّ نقطة جديرة بالاهتمام والملاحظة في الكثير من التنظيرات.
يقال في بعض الأمثلة الشائعة: لو أن شخصاً قد ادّعي أن كل واحد من أبعاد الأجسام الموجودة في العالم قد تضاعفت في لحظة خاصة إلى ضعفين، فإن هذا الادعاء من قبله لا يكون قابلاً للإثبات ولا قابلاً للإنكار، فلا يمكن إثبات صدقه ولا إيضاح كذبه؛ إذ إن كل معيار نأتي به لكي نجعله ميزاناً لإثبات كذبه، سوف يكون بدوره مشمولاً لهذه الزيادة في الأبعاد أيضاً. ونتيجة لذلك فإن هذه القضية لا تحتوي على قابلية إثبات الصدق ولا تحتوي على قابلية إثبات الكذب، ومن هنا تكون هذه القضية بلا معنى.
المفهومية وإمكانية الإثبات
لكي يقدّم الوضعون لكي يقدّموا معياراً لمفهومية القضايا، قالوا إن القضايا لا تكون مفهومة إلا إذا أمكن بيانها (إمكان إثباتها)[6] بنحو من الأنحاء. بمعنى أنه يجب بيان الشرائط التجريبية بحيث يمكن في تلك الشرائط إيضاح صدق القضايا المبيّنة على نحو تجريبي. من الواضح أن القضايا التي يمكن إثبات تحققها في المختبر، ستكون ـ في ضوء فهمهم للعلوم التجريبية ـ من سنخ القضايا المفهومة أو التي لها معنى وليست خاوية من المعنى[7]. وبطبيعة الحال فإن المفهومية لا تعني صحة وصوابية القضية. بل إنه بعد تعيين معنى القضية ـ وطبقاً لشروط وإن كانت افتراضية ـ فإن أول اختبار لقضية قد تجاوزت مرحلة إثبات مفهوميتها، هو أن تخضع بعد ذلك إلى اختبارات أخرى لإثبات صدقها أو إثبات كذبها، لكي يتم اعتبارها من القضايا الصحيحة والعلمية.
انطلاقًا من هذه الرؤية التي يحملها إن الوضعيون نجد أنهم قد حصروا دائرة المفهومية بالقضايا العلمية[8]. إن القضايا التي لا تندرج ضمن هذه الدائرة، من قبيل قضايا ما بعد الطبيعة، والقضايا الأخلاقية، والقضايا الدينية، حيث لا تستطيع بيان الشرائط التجريبية لتحققها، فإنها لا تكون قضايا صادقة، ولا قضايا كاذبة، وإنما هي قضايا بلا معنى، وكل سعي من أجل إثباتها أو إنكارها، سوف يكون طائشاً ولن يؤدّي إلى نتيجة منذ البداية[9].
إمكان الإبطال
لم يمض وقت طويل حتى صار ملاك الإثبات عند الوضعيين عرضة للتساؤل على أشكال مختلفة، إذ إنه قد بدا متناقضاً مع نفسه عند أول ظهور له[10]. وعلى الرغم من أن هذا الملاك لم يكن يستطيع أن يكتسب الشمولية والتعميم، ولكن لا تزال مسألة المفهومية باقية على حالها. وبعد مدّة تحوّل هذا الملاك إلى ملاك لـ (قابلية الدحض والإبطال)[11]. بدلاً من أن تكون الشرائط التجريبية لتحقق وإثبات قضية ما، دليلاً على إثباتها، تم جعل الشرائط ـ التي يمكن في ضوئها إثبات بطلانها ـ ملاكاً في البين. إن القضية إنما تكون مفهومة فيما لو أمكن بيان شروط افتراضية لو توفرت سوف تكون القضية باطلة.
لقد لعب هذا الملاك دوراً محورياً في بحث ودراسة النظريات العلمية التي تمّ بيانها من قبل بعض المفكرين. لقد اكتسبت قابلية الدحض والإبطال دوراً محورياً لا في ملاك الوضعيين بل في آراء بعض الناقدين لهم من أمثال بوبر، وعلى الرغم من أن بوبر إنما وظّف هذا الملاك في بيان النظريات العلمية فقط[12]، بيد أن هذا الملاك قد اكتسب شمولية من وجهة نظر بعضهم وتمّ تعميمه على سائر القضايا الأخرى أيضاً. لقد عمد بوبر من خلال ملاكه في قابلية الدحض والإبطال إلى إخراج بعض النظريات العلمية ـ من قبيل النظرية التاريخية للماركسيين ونظرية علم النفس عند أنصار أدلر ـ من المعادلة؛ حيث لم يكن بمقدورهم بيان شرائط إبطال ودحض نظرياتهم[13]. بيد أن استعمال هذا الملاك من قبل أيير في الحقول الأخرى من التفكير البشري ـ من قبيل: القضايا الدينية ـ قد فرض تحديات جديدة أمام أصحاب الفكر الديني[14].
حتى ما قبل فتغنشتاين وأيير كان التحدّي الأصلي الماثل أمام أصحاب الفكر الديني يكمن في إثبات قضاياهم الدينية، من قبيل: إثبات وجود الله، وإثبات حضوره وفيضه وربوبيته في العالم، ولكن بعد هذه الإشكالات، أخذ أصحاب الفكر الديني يواجهون تحدّيين: إن هؤلاء قبل إثبات القضايا الدينية يجب أن يتمكّنوا من الخروج بنجاح من اختبار مفهومية القضايا الدينية، لينتقلوا بعد ذلك في مرحلة لاحقة إلى بيان دليل يثبت قضاياهم. ومن هنا يجب عليهم قبل إثبات آرائهم أن يحددوا الشرائط التي يمكن في ضوئها إثبات إمكانية إبطال قضاياهم، لكي تصبح قضيتهم مفهومة، ليعملوا بعد ذلك على إثباتها.
مسألة مفهومية القضايا الدينية
لقد أدّت بعض تعبيرات المفكرين الدينيين عن الدين في البين إلى الاهتمام بهذا الانتقاد على نحو أشدّ عمقاً. وقد تمّ السعي في هذه المقالة إلى بيان وتحليل أنواع الهجمات التي شُنّت على مفهومية القضايا الدينية، والعمل بعد ذلك على تقويم وتوضيح الإجابات المختلفة عن هذه الإشكالات، ثم عمدنا إلى تقديم تحليل جديد عن المشكلة في إطار بيان منبثق عن نوع الرؤية الفلسفية للتفكير الإسلامي، وذلك من أجل تقديم الجواب المناسب في هذا الشأن.
صحيح أن فتغنشتاين هو أول من نبّه إلى مسألة عدم المفهومية في حقل الأخلاق والدين والفن وما بعد الطبيعة، ثم تمّ التأكيد على ذلك من قبيل حلقة فيينا والوضعيين، وحكم أيير في كتابه (الحقيقة واللغة والمنطق) بعدم مفهومية لغة الدين، بيد أن شبهة عدم مفهومية لغة الدين والقضايا الدينية إنما شكلت محور الاهتمام الجاد من قبل فلاسفة الدين من خلال المثال والإشكال الذي أورده أنطوني فلو في ندوة ضمن إطار قصصي[15]. والملفت أن المثال الذي يذكره أنطوني فلو مقتبس من تمثيل جون ويزدم الذي ذكره لبيان الاختلاف في الرؤية بين المؤمن بالله والملحد، وبيان طريقة تفكير المؤمن بالله[16]. في معرض الإجابة عن شبهة أنطوني فلو التي تمّ عرضها في إطار قصة، هناك الكثير من الإجابات المذكورة، وقد تمّ بيان أغلبها ضمن إطار قصصي أيضاً. ويمكن الإشارة هنا إلى أمثلة ريتشارد هير وبازيل ميتشل وجون هيك. وفي إطار بيان وتقويم هذه الإجابات والتعرّض لجواب يان كرومبي، سوف نعمل على تقديم جواب آخر ضمن إطار قصصي أيضاً؛ كي نعمل على توضيح نقطة غموض المفهومية الذي تجلی في الفهم الخاطئ لكيفية الارتباط بين الله والعالم، لنقوم بعد ذلك بتقديم الجواب النهائي.
أنطوني فلو وبيان شبهة مفهومية القضايا الدينية
إن قصة أنطوني فلو التي اقتبسها من حكاية ويزدم في مقالة الآلهات[17]. وسنذكر هذه الحكاية كاملة لما في تحليل أصل الحكاية من الأهمية في استنتاجنا واستنتاج أنطوني فلو:
« دخل صيادان في غابة تحتوي على أصناف الأزهار والرياحين والكثير من الأعشاب والبقول التي تنمو من تلقاء نفسها. فقال أحدهما: (يجب أن يكون هناك مُزارع يرعى هذه الغابة ويتولى أمرها). ولكن الآخر عارضه وأنكر أن يكون هناك مُزارع في البين أصلاً. وتأكيداً لرأيه اقترح أن يعملا على تسوير الغابة بأسلاك شائكة متصلة بتيار كهربائي، واتخاذ عدد من كلاب الصيد لتجوب في أطراف الغابة ارتقابًا لكشف أيّ شخص ورصد أيّ حركة؛ (وذلك لعلمهما بأن الشخص غير المرئي يمكن لمسه وشمّه، وإن لم يكن بالإمكان مشاهدته). وانتظرا يترقّبان لفترة طويلة من الزمن، ولكنهما بعد طول الانتظار لم يسمعا صرخة تكشف عن شخص متطفل نتيجة لإصابته بالصعق الكهربائي، ولم يشهدا أي حركة تظهر على الأسلاك الشائكة تدل على وجود شخص عبر من خلالها. وكلاب الصيد بدورها لم تنبح على أحد أبداً. ومع ذلك أصرّ المعتقد بوجود المُزارع على رأيه ولم يتراجع عنه، وأضاف إلى اعتقاده به قيوداً أخرى، وقال: (إن هذا المُزارع غير المرئي لا يمكن شمّ رائحته، كما هو آمنٌ من الصعقات الكهربائية، وعليه يجب أن يكون هناك وجود لمُزارع لا يُرى وليست له رائحة ولا يُحدث صوتاً، وعلى الرغم من ذلك كله فإنه يتولى مهامّه في رعاية هذه الغابة والمحافظة عليها ويقوم بتدبير شؤونها). فلم يبق أمام صاحبه المنكر لوجود مثل هذا المُزارع سوى اليأس من إقناعه، وختم النقاش معه بالقول: ولكن ما الذي يبقى من ادعائك الأول؟ وما هو الفرق بين هذا المُزارع الذي تقول إنه لا يُرى ولا يُحس ولا يمكن إدراكه إلى الأبد وبين المُزارع الموهوم، بل وحتى بينه وبين سائر الأشخاص من غير الفلاحين؟!»[18].
إن هذا المثال من أنطوني فلو ناظر في الغالب إلى تمثيل ويزدم وفهمه عن الله وحضوره في العالم. يذهب ويزدم في بيان النظم الموجود في العالم إلى القول بإمكان وجود نظريتين لهذا البيان: فإما أن يستند شخص إلى التفسيرات العلمية على أساس نظرية التطور واختيار الأصلح، ويقول بأن هذا النظم بأسره كان وليد الصدفة وليس هناك من شعور في البين أبداً، كما يمكن لشخص آخر أن يذهب إلى الاعتقاد بأن هذا النظم المعقد ـ والتحوّل الذي يسود العالم ـ خاضع لإشراف وسيطرة موجود له شعور، وهو الذي نطلق عليه اسم الله.
إنه يتحدّث في هذا المثال عن الطمأنينة والسكينة التي تحدث من نظرية عدم الإثبات بالنسبة إلى الشخص الثاني[19]. بيد أن أنطوني فلو يقول إن هذا الكلام لا ينطوي على أيّ ثمرة سوى إضافة المزيد من القيود للحفاظ على نظرية لم يبقتَ شيء منها، وكل قيد مضاف إلى النظرية يُبعدها عن المفهومية.
وفي شرح هذه المسألة يستعين أنطوني فلو بمثال سرطان الحنجرة[20]، فهو يقول لقد تمّ تعليمنا في الدين أن الله رحيم وعطوف بنا كعطف كل والد على أولاده، ونحن قد آمنا به على أنه أبونا الذي في السماء. ومن ناحية أخرى نرى أن الطفل إذا أصيب بسرطان في حنجرته ـ على سبيل المثال ـ فإن أباه الذي في الأرض سوف يفعل كل شيء من أجل علاجه من مرض السرطان. ولكن أباه الذي في السماء لا يفعل له شيئاً رغم قدرته على ذلك، ويبقى لامبالياً إلى أن يموت الطفل بعد عناء وصراع طويل مع المرض. ولو ذهبنا إلى القس وقلنا له: لقد سبق أن قلت لنا أن أبانا السماوي عطوف، ولكننا نرى الآن أنه في هذا المورد الخاص قد تخلّف عن أبينا الأرضي، ولم يقم بأيّ فعل يدلّ على عطفه؟ فسوف يقول في الجواب: إن سنخ عطف أبينا الذي في السماء يختلف عن سنخ أبينا الأرضي. فهو يمتلك نمطاً من العطف ينسجم مع جميع هذه الآلام والأوجاع. فقد تكون هذه الأوجاع والآلام وسيلة لتكامل الشخص المريض على المستوى الروحي، وإن مصلحته تكمن في أن يتحمّل هذه الآلام. وعليه فإننا نسعى في كل مورد يتمّ ذكره إلى تبريره من خلال إضافة قيد عليه (من قبيل: المصلحة، والعذاب وما إلى ذلك)[21].
إن أنطوني فلو بعد بيانه لمسألة الشر، وكيف يقوم أغلب المعتقدين والمؤمنين على الدوام بالتبرير والتعديل لكي يشرحوا ويبرّروا كيف يمكن لله الخيّر والقادر تماماً أن يسمح بحدوث الألم، يختم كلامه بهذا السؤال: «ما الذي يجب أن يحدث كي يثبت لك انتفاء محبة الله أو وجود الله؟»[22]. يمكن بيان مدّعى أنطوني فلو في نهاية المطاف على النحو الآتي: (إن الكلام إنما يكون مفهوماً فيما لو كان إبطاله في مختلف الأوضاع ممكناً. وحيث إن رأي المؤمنين بالله، أن القضايا الدينية ليست كذلك، ولا يمكن إبطالها تحت جميع الظروف، إذن تكون القضايا الدينية عديمة المعنى)[23].
يجب التذكير في تحليل رؤية أنطوني فلو، بعدد من النقاط على النحو الآتي:
1 ـ لقد تمّ الخلط في مثال أنطوني فلو بين أمرين، ففي جانب من نظريته يتمّ التشكيك بمفهومية وجود الله، وفي الجانب الآخر من كلامه يتمّ التشكيك في مفهومية صفات الله، من قبيل: القدرة والعلم والعطف، بسبب تعارض ذلك مع وجود الشرور في العالم. وقد تمّ التفكيك بين هذين الجانبين من قبل كرومبي بشكل مناسب.
2 ـ إن نسبة الله إلى العالم ـ من وجهة نظر أنطوني فلو ـ مثل نسبة المُزارع العطوف على مزرعته وما فيها من الأشجار. وهو المُزارع الذي إذا كان له من حضور فإنه سوف ينحصر في تنظيم وإدارة المزرعة، وليس في مسار كيفية نموّ الأشجار ووجودها.
3 ـ إن تقرير ويزدم عن حضور الله بدلاً من التأكيد على وجوده الحقيقي في العالم إنما ينظر إلى البعد الذاتي من الاعتقاد به، وما يتبع ذلك من الاطمئنان الحاصل لدى الإنسان بسبب الاعتقاد بفرضية وجود الله. وفي هذا النوع من الرؤية لا يتمّ تقديم جواب عن الوجود الواقعي لله الذي يذهب إليه المؤمنون في اعتقادهم ويتساءل عنه الملحدون.
4 ـ في مثال أنطوني فلو يقوم أسلوب فهم الله على أساس الفهم المسيحي ـ وفي الغالب على أساس الفهم المسيحي العامي عن الله ـ حيث يكون الله هو الأب السماوي للمسيحيين في هذا الفهم، والذي لا يضمر لعباده سوى الحب والخير.
5 ـ إن هذا التمثيل من قبل أنطوني فلو، يعمل على بيان مفهومية القضايا الدينية من خلال التلفيق بين مسألة الشرّ ونوع من الإجابة عنها، ولذلك قد يؤدّي فصلها عن هذه المسألة أو نوع آخر من الإجابة عن مسألة الشر، إلى تبديل مفهومية صفات الله من قالب عدم المفهومية أو قلة المفهومية إلى أرضية مفهومة.
6 ـ إن التوقّع الذي يذهب إليه أنطوني فلو عن إظهار صفات الله، عبارة عن تدخّله الاعتباطي القائم على إرادة جزافية من قبل الله سبحانه وتعالى. إن إرادة الله ـ في هذه الرؤية ـ بمعناها العامي عبارة عن: «إذا أراد فعل، وإذا لم يُرد لن يفعل». إن إرادة الله السارية والجارية دائماً في رحمته العامة، لم تكن منظورة من قبله. وإن هذا الأمر بدوره يؤدّي إلى فهم آخر منه لمسألة إرادة الله، وهي في الغالب رؤية أشعرية ومسيحية، وبذلك يكون الفهم على هذه الشاكلة.
إن خلاصة استدلال أنطوني فلو، هي أن الصياد الأول لا يذكر بكلامه قولاً محصَّلاً «إنها فرضية جريئة وجميلة» حیث «يتجه شيئاً فشيئاً نحو عرين الموت ويسقط في الموت التدريجي من خلال إضافة آلاف القيود إلى تعريفه». بناء على استدلال أنطوني فلو، إن هذا «خطر خاص يتهدد المقالة اللاهوتية، بل يعدّ الشرّ موطناً لولادتها»[24]. لو ذهب الشخص المؤمن إلى إنكار أن تكون للشرائط الفعلية أو الممكنة قادرة على إبطال تصديقاته، فإنه يكون قد قبل بشكل ضمني بأن تصديقاته (حيث لا تكون تحليلية) فهي بأجمعها مهملة وبلا معنى. إن السؤال النهائي لأنطوني فلو ـ الذي يذكر بعد بيان تمهيدي لمسألة الشرور العبثية ـ على النحو الآتي:
«ما هو الشيء الذي يجب أن يحدث، أو يجب أن يكون قد حدث، حتى يمكن له أن يوفر لك دليلاً لرفض فكر، الرحمة والحب الإلهي من خلاله، أو تدرك أن وجود الله مرفوض؟»[25].
هير وطريقة حل بليك غير المعرفية
إن جواب آر. إم. هير[26] عن هذا السؤال، يتضمن رواية حكاية أخرى[27]. لقد اعتقد شخص به مَسّ من الجنون أن جميع أساتذة الجامعة يخططون لقتله، حتى أنه لم يُعر أيّ اهتمام لعدد الأساتذة الذين تمّ التأكيد له عن مدى اتزانهم الاجتماعي وما يتحلّون به من المكانة والاحترام بين الناس، وأنهم أشخاص مثقفون ومسالمون، فقد ظل هذا المجنون يصر على اعتقاده بأنهم يرومون قتله. إنه يرى أن قد تعرّض إلى مكيدة، ولكن ما هي طبيعة هذه المكيدة التي تعرّض لها؟ لا بأس بأن نطبّق عليه اختبار أنطوني فلو. فيما نحن فيه لا يصدر عن أساتذة الجامعة أيّ سلوك عدواني بحق المجنون كي يتمكن من الاستناد إليه لإثبات رؤيته، وعلى هذا الأساس فإن نظريته لا تثبت شيئاً في هذا الخصوص، ولكن هذا الأمر لا يثبت عدم وجود أيّ اختلاف بين ما يفكر فيه بشأن أساتذة الجامعة وبين ما يفكر فيه أكثرنا في موردهم. لو كان الأمر كذلك لما كان بمقدورنا أن نعتبره مجنوناً ونرى أنفسنا عقلاء، ولما كان الأساتذة يمتلكون أي مبرّر للشعور بالاضطراب وعدم الارتياح من حضوره في مؤسسة أوكسفورد.
لنطلق على الحالة التي تجعلنا مختلفين عن هذا المجنون عنوان الأس[28] الخاص بنا. إنه يمتلك أسّاً طائشاً عن الأساتذة، في حين أننا نمتلك أسّاً عقلانياً ... لقد أثبت أنطوني فلو أن لا مكان للأس في تصديق أو في منظومة من التصديقات، ولكن على الرغم من ذلك من المهم جداً أن نحصل على أسّ صحيح[29].
في ضوء رؤية هير، يذهب أنطوني فلو مخطئاً إلى الاعتقاد بأن اللغة الإيمانية التوحيدية لغة بيانية، هذا في حين يجب علينا ـ تبعاً لهيوم ـ أن نقول: «من دون أسّ لا يكتسب أي تفسير وبيان مفهومه؛ إذ نحن إنما نستطيع تحديد ما هو الذي يكون من قسم التبيين وما لا يكون من ذلك في ضوء الأسس»[30]. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه في الوقت الذي لا يبدي فيه الصيادان في حكاية أنطوني فلو أي اهتمام بالمزرعة، فإن المجنون في حكاية هير يشعر بالقلق من ناحية أساتذة الجامعة. «لهذا السبب فإني أهتم كثيراً وأعيش حالة من القلق؛ إذ أرى ما يحدث في المزرعة التي أقطن فيها، ولا يمكن لي أن أكون في موقف الحياد واللامبالاة التي نراها عند هذين الصيادَين»[31].
بعض الملاحظات في خصوص جواب هير عن أنطوني فلو:
1 ـ إن هير يقبل بملاك القابلية على الدحض والإبطال، كما يؤمن بشكل ضمني بأن القضايا الدينية لا تقبل الدحض والإبطال.
2 ـ إنه يسعى من خلال مثاله إلى إثبات أن عدم إمكان إبطال القضايا في مقام البيان، يختلف عن الظروف والشرائط التي تترك تأثيرها على مجمل حياتنا. إنه من خلال بيان الخصائص الاعتقادية للأس بصدد العمل على نقل حقل الاعتقادات الدينية إلى حقل الهواجس الداخلية بدلاً من بيان الواقعية الخارجية. يذهب دان ستيوارت إلى الاعتقاد، قائلاً: «ربما كانت اللغة الدينية من وجهة نظر هير، تعكس رؤية لا تقبل الدحض والإبطال من دون شك، ويكون لها في الوقت نفسه أهمية بالغة من الناحية الوجودية. إن هذا الموقف من هير يعكس ذلك الشيء الذي يمكن لنا تسميته ردّة فعل غير معرفية على التحدي المفروض من قبل أنطوني فلو»[32].
3 ـ إن هذه الرؤية من هير تمثّل نوعاً من النظرة الإيمانية التي تعتبر المعتقدات الدينية أمراً ذاتيًا. في حين أن المعتقدين بالله بالإضافة إلى الاعتقاد الداخلي، يعتقدون بالواقعية الخارجية لله أيضاً. وإن هذا المقدار من الاستدلال لا يمكن له أن يحقق نجاحاً في تبرير جميع معتقدات المؤمنين. يذهب أنطوني فلو في خصوص تصوّرات هير إلى الإعلان بأن دين هير إذا كان كل شيء باستثناء الأس، و«لم يكن متضمّناً لأي تصديق معرفي بشأن العالم في خصوص الطبيعة وأفعال الخالق المتشخّص، ففي مثل هذه الحالة لن يكون شخصاً مسيحياً بالتأكيد»[33]. يذهب آلان بي. سيل إلى الاعتقاد بأنه مضافاً إلى هذا، إذا لم يتمّ اعتبار الخطابات الدينية من قسم التصديقات، فإن الكثير من الأفعال الدينية سوف تكون مخادعة أو حمقاء[34].
مثال (الغريب والمناضل) لبازيل ميتشل وطمأنينة المواجهة
يذهب بازيل ميتشل ـ من خلال التوقف بالنسبة إلى عدم معرفية طريقة حلّ هير ـ في حكاية أخرى إلى بحث مفهومية القضايا الدينية[35].
إن حكايته تدور حول طريقة مواجهة المناضل مع شخص غريب أثناء الحرب، حيث يتأثر المناضل بمواقف هذا الشخص الغريب بشكل كبير حتى يثق به ثقة عمياء؛ إذ يؤمن بنزاهة هذا الغريب وصدقه وإخلاصه للثورة والمقاومة على نحو تام. ويبدأ بتذكير زملائه في النضال بثقته الكاملة به. يقوم هذا الغريب بتقديم المساعدة للمقاومين تارة، وفي المقابل يرفض مساعدتهم له. وتارة أخری يشاهده بعضهم وهو يرتدي بزّة المقاتلين من الأعداء، ويعمل على تسليم بعض الوطنيين إلى قوّات الاحتلال، ومع ذلك يقوم المناضل بتبرير كل واحد من هذه التصرّفات من الشخص الغريب بنحو من الأنحاء؛ وكأن الشخص الغريب يضطر أحياناً إلى التظاهر بأنه يقف في صف الأعداء كإجراء تكتيكي لتحقيق هدف استراتيجي ينتهي بتنفيذ واجبه الأخير في الدفاع عن الشعب في العدو المحتل. وفي بعض الأحيان لا يكون أمام رفاقه في حمل السلاح سوى الغضب والقول له: «حسناً، ما الذي يمكن لهذا الغريب أن يفعله لتعترف بأنك قد كنت على خطأ، وإن هذه الغريب لا ينتمي إلى صفوفنا؟». إن المناضل في هذه الحكاية لا يسمح لشيء بأن يكون ناقضاً بشكل قاطع لهذه القضية القائلة: «إن الشخص الغريب واحد من المناضلين». ويعود السبب في ذلك إلى أن المناضل قد أخذ على نفسه مسألة الاعتماد على الغريب بوصفها واجبة عليه من منطلق إيمانه المطلق بأن الغريب واحد من المقاومين.
إن حالة المناضل التبريرية عند مواجهة التصرّفات التي تصدر عن الشخص الغريب المثيرة للشك والريبة تشبه حالة المتديّن، حيث يواجه المصائب والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية، فيقول: «لقد شاءت إرادة الله ذلك، وقد تكون هناك في البين مصالح دعت إلى ذلك وهي خافية علينا»[36]. إن عضوية الشخص الغريب في المقاومة أو خيانته للمقاومة في العالم الخارجي لم يتمّ إثباتها في هذا المثال، ولكن الأمر في الواقع وفي نهاية المطاف لا يخلو؛ فإما أن يكون هذا الشخص مقاوماً أو لا. إن الشخص الغريب يعلم ما هو عليه في الواقع، وسوف تتضح شخصيته بعد أن تضع الحرب أوزارها. وهذه هي النقطة التي أشار إليها ميتشل، وأضحت لاحقاً أساساً لنظرية إمكان التحقق الأخروي لجون هيك.
يمكن القول في تحليل موقف ميتشل:
1 ـ يرفض ميتشل الرؤية غير المعرفية لهير، ويسعى في مثاله إلى بيان نمط معرفي في تفسير لغة الدين.
2 ـ وهو يرى دوراً محورياً للمواجهة الأولى التي هي الاطمئنان نفسه الناشئ عن التجربة الدينية. وهنا تكتسب لغة الدين مفهومها في هذه التجربة، وليس في إطار لغة العلم، حيث يتحقق تأييدها التجريبي من خلال تكرار التجربة.
3 ـ يفرّق ميتشل بين وصولنا إلى الواقع ونفس الأمر الذي تدعو إليه بعض الظروف والشرائط، حیث يمكن الوصول إلى تعيين الصدق والكذب مع تغيّر الظروف والشرائط، وبين تحقق عدم القابلية على الدحض والإبطال. إن الأول لا يشكك في المفهومية، في حين أن الثاني يخرج القضية من دائرة المفهومية.
4 ـ إن رأي ميتشل إذا أمكن له حلّ مسألة المفهومية، سوف يضعنا أمام مشكلة أخرى، وهي عدم إمكان نقد الآراء الدينية؛ حيث تفرز مواقف مختلفة وعقائد متنوّعة، بل وحتى متعارضة أيضاً، ولكنها تجعل المواجهة الأولية معها أمراً ثابتاً ومسلّماً لكل شخص. هذا في حين أن المؤمنين يعترفون بإمكان نقد آرائهم وجرحها وتعديلها على المستوى المعرفي.
5 ـ في خصوص تحويل الدين إلى التجربة الدينية والإشكالات الأساسية الموجودة في هذا الرأي، تمّ بيان أبحاث تفصيلية، حيث يبدو أن الكثير من انتقادات التجربة الدينية واردة على هذا الرأي الذي يقول به ميتشل أيضاً. للتعرّف على هذه الانتقادات يرجى الرجوع إلى تلك المصادر[37].
6 ـ لقد أشكل أنطوني فلو على رأي ميتشل بإشكالين. الإشكال الأول: إن تعبير ميتشل عن الدين يختلف عن التعبير الشائع والتقليدي للإيمان المسيحي إلى حدّ كبير. ومفاد الإشكال الثاني انه إذا لم تكن المدعيات الدينية مرادة بوصفها حكماً، عندها سوف تتحوّل الكثير من الأدوات والمعطيات الدينية إلى نوع من الخداع أو الحماقة[38].
نظرية إمكان التحقق الأخروي لجون هيك
في الجواب الثالث يعمد جون هيك إلى الدفاع عن موقف عُرف بعنوان إمكان التحقق الأخروي. إن موقف جون هيك موقف معرفي، وقد قام في البداية من خلال بيان خمس مقدمات لطريقة توقع التحقق، ليقوم بعد ذلك ببيان رأيه الخاص في هذا الشأن[39].
يؤكّد جون هيك في هذه المقدمات على أن قابلية تحقق الأقوال والقضايا الواقعية ليس كإثباتها المنطقي. إن النواة المركزية لمفهوم إمكانية التحقق هي القضاء على جميع الأرضيات المناسبة لحدوث التشكيك العقلي. وكذلك من الضروري أحياناً لتحقق شرط إمكانية التحقق أن نضع أنفسنا في وضع خاص، أو أن نقوم بعمل خاص. ومن ناحية أخرى من الممكن لحكم ما أن يكون في حالة الصدق قابلاً للتحقق في الأصل، ولكن في حالة الكذب لا يكون ـ بحسب الأصول ـ قابلاً للإبطال. وقد ذكر لذلك مثالاً، حيث قال: انظر إلى هذه القضية (هناك ثلاثة أعداد لسبعات متوالي في أعداد عشرية مرتبطة بالعدد (P)). في حدود علمنا بهذا العدد، وما توصلنا إليه حتى الآن هو أنه لا يشمل مجموعة من الأعداد الثلاثة للسبعة، ولكن حيث يمكن لهذا العملية في العثور على الأرقام اللاحقة للعدد P أن تستمر إلى ما لا نهاية، يكون هناك على الدوام احتمال أن يتم الحصول على مجموعة ثلاثة من السبعة، حيث لم يتمكن شخص حتى الآن من العثور عليها في محاسباته. وعليه لو كان هذا الحكم صحيحاً فمن الممكن أن يتمّ إثباته في يوم ما، وأما إذا لم يكن صحيحاً فلا يمكن إبطاله أبداً. وقد ذهب بعد ذلك إلى اعتبار فرضية استمرار حياة الروح بعد موت القوى الجسدية من هذا النوع من القضايا. وقد عمد بدوره ـ تبعاً لمن تقدّمه ـ إلى بيان موقفه ورؤيته في إطار حكاية أيضاً[40].
هناك في حكايته رحّالتان يسافران معاً، حتى ينتهي بهما المطاف إلى طريق لا يجدان مناصاً من سلوكه؛ لأنه الطريق الوحيد المتوفّر أمامهما. وأثناء سلوك الطريق يحصل أحدهما على يقين من أن هذا الطريق ينتهي إلى مدينة سماوية، بينما الشخص الآخر يرى أن هذا الطريق لن ينتهي إلى غاية، ولكن حيث لا يكون أمامهما من خيار غير سلوك هذا الطريق، فإنهما يرضخان لسلوكه معاً. لم يسبق لأيّ واحد منهما أن سلك هذا الطريق من قبل. وعلى هذا الأساس لا يمكن لأيّ واحد منهما أن يثبت بضرس قاطع ما الذي سيحدث عند الاجتياز بالمنازل خلال هذا السفر. وخلال السفر يواجه كل واحد منهما لحظات زاخرة بالسعادة والفرح والسرور، كما يواجه في بعض المراحل لحظات من التعب والعنت والخطر. وفي جميع الحالات ينظر أحدهما إلى هذا السفر بوصفه حجاً وسفراً من أجل الوصول إلى تلك المدينة السماوية، وينظر إلى اللحظات المؤاتية والسعيدة بوصفها عاملاً مشجعاً على مواصلة الطريق وعدم النكوص، وينظر إلى الموانع والعقبات والمنغصات الماثلة في هذا الطريق بوصفها عوامل للاختبار والابتلاء المقصود، وإن تلك العقبات موضوعة من قبل سلطان تلك المدينة لتأكيد دروس العبر والثبات على المبدأ من أجل تحقيق الغاية المرتبطة بالوصول إلى تلك المدينة السماوية المنشودة؛ حتى إذا تمكّن المؤمن من اجتياز جميع الصعاب والعقبات، سوف يكون مستحِقّاً ومؤهّلاً للدخول إلى تلك المدينة الموعودة. وأما الآخر فهو لا يؤمن بأي واحد من هذه الأمور، وينظر إلى هذا السفر بوصفه طريقاً لا غاية له، ولكن لا بد له من سلوكه على أي حال، وحيث لا يكون له أيّ خيار في هذا الطريق، فإنه يجد نفسه مضطراً إلى الاستفادة من اللحظات المؤاتية والاستمتاع باللذات العابرة، وأن يتحمّل المنغصات التي قد تعترض طريقه في هذه السفر المفروض عليه. إنه لا يؤمن بوجود أيّ مدينة سماوية يرجو الوصول إليها، وإنما كل ما هنالك هو الطريق الماثل أمامه، وما إذا كان هذا الطريق يتفق مع مزاجه أو لا.
إن موضوع البحث بين هذين الرحّالتين طوال هذا السفر ليس موضوعاً تجريبياً. بمعنى أنهما لا يتوقعان شيئاً مختلفاً حول جزئيات هذا الطريق الذي يسلكانه، وإنما يختلفان في الغاية النهائية التي سيؤدي إليها هذا الطريق. وغاية ما هنالك أنه في نهاية الطريق سوف يتضح أن أحدهما كان طوال حياته ومسيرته في هذا الطريق على صواب، بينما كان الآخر على خطأ. ومن هنا فإنه على الرغم من أن موضوع بحثهما ليس موضوعاً تجريبياً، ولكنه في الوقت نفسه يُعدّ موضوعاً واقعياً للغاية[41]. إن تعبيراته المختلفة حول وضعية هذا السفر، قد أدى إلى ظهور أقوال وقضايا متعارضة ومتفاوتة حقاً، حيث تشتمل قضاياها على أوصاف ومزايا خاصة سوف تتحقق بعد تعاقب الزمن في مستقبل بعيد جداً.
لا بدّ في تحليل رؤية جون هيك من التذكير بعدد من النقاط على النحو الآتي:
1 ـ لقد ذهب جون هيك ـ من خلال الفصل بين إمكان التحقق وإمكانية الدحض والإبطال ـ إلى القول بأن القضايا الدينية غير قابلة للدحض والإبطال، ولكنها قابلة للتحقق. بيد أنه يقول إن مجرّد إثبات إمكان تحقق القضايا الدينية، يعمل على حلّ مشكلة مفهوميتها.
2 ـ على الرغم من إمكان إيراد بعض الإشكالات على رؤية جون هيك، ولكن هذه الرؤية ـ على كل حال ـ يمكن أن تشتمل في الحدّ الأدنى على استدلال لصالح مفهومية القضايا الدينية. وهذا يكفي للردّ على آراء الوضعيين وأيير وأنطوني فلو.
3 ـ لقد أورد ستيفر نقداً على رأي جون هيك، وقال إن حكاية هيك إنما تثبت وجود بديلين لا ثالث لهما؛ حيث يعمل أحدهما على إثبات المعتقدات المسيحية، بينما يذهب الرأي الآخر إلى إثبات وجهة نظر النزعة الطبيعية. في حين يُحتمل تماماً أن تكون هناك آراء أخرى في قبال الرؤية المسيحية، وإن هذه الآراء تحظى بإمكانية أكبر للإثبات[42].
4 ـ إن المشكلة الأخرى في موقف جون هيك تكمن في أنه كيف يمكن لهذا الإمكان المستقبلي أن ينفع الشخص الذي يعيش في اللحظة الراهنة؟ لقد أشار جون هيك إلى الغموض الموجود في الموقف الديني، وقد اتفق في هذا الموضوع مع أنطوني فلو، وهو أن هذا المورد ليس موضوعاً تجريباً واضحاً بالكامل. إن حكايته لا تقدم مبنى معرفياً ملحوظاً، وتشبه حكاية الأعمى والأصم، أو شرطية باسكال التي لا تعمل على تفسير ماهية الاعتقاد الديني ومحتو[43].
5 ـ على الرغم من إثبات جون هيك لإمكان تحقق القضايا الدينية بنحو من الأنحاء، وذكّر بعدم إمكان دحضها وإبطالها، بيد أن اعتقاد المؤمنين بشأن قضاياهم الدينية ناظر إلى أمور أكثر من مدّعى جون هيك. إنهم من الناحية المعرفية يعتقدون بأن قضاياهم، حتى فيما لو تمّ إبطالها، تخلق ظروفاً وشرائط أخرى، وكذلك فإن توقّعهم من رؤيتهم عبارة عن معرفة خاصة بهذا الموطن وهذه اللحظة عن الله والعلاقة والارتباط الفعلي به، وليس مجرّد مواجهة سوف تتحقق في الآخرة.
6 ـ إن المشكلة الأخرى التي تعاني منها هذه النظرية، هي أنها توحّد بين القضايا الدينية الناظرة إلى وجود الله وصفاته، وبين عدم فناء النفس والاعتقاد بوجود العالم الآخر. وعليه فلو أن شخصاً كان يعتقد بواحد من هذين الأمرين دون الآخر، لا يعود بمقدوره الاستفادة من هذا الحل.
7 ـ إن نظرية إمكان التحقق الأخروي ـ التي تعتبر ملاقاة الله في يوم البعث نوعاً من إمكانية تحقق القضايا الناظرة إلى الله ـ سوف تواجه تحدياً آخر، وهو هل سيكون هناك في ضوء رؤية جميع المؤمنين بالله تحقق لمثل هذه الرؤية وهذا اللقاء أصلاً؟ وذلك لأن بعض المؤمنين ـ مثل المسلمين ـ يمكنهم الاعتقاد بأن يوم البعث إنما سيكون يوماً يشهد مواجهة الناس لآثار وأعمالهم عواقبها فقط. وفي الأصل لو كتب التحقق لمثل هذه المواجهة، فما هو شكل ومفهوم هذه المواجهة واللقاء، وكيف سيكتب له التحقق؟ وهذا سوف يعود إلى السؤال عن النمط المفهومي للقاء الإلهي، بيد أن هذه المقالة لا تتسع للخوض في هذا البحث.
كرومبي والالتفات إلى معارضة القضايا الدينية للقواعد
إن طريقة الحل الأخرى الأكثر نضجاً، هي الطريقة التي ذكرها يان كرومبي[44]. حیث إنه من خلال دقة نظرته الثاقبة قد أشار إلى المشاكل التي تعاني منها الحلول السابقة، وقال في معارضة هير وميتشل: «إن هذه الأحكام [القضايا الدينية] يمكن أن يتمّ إبطالها (وعلى هذا الأساس يكون لها معنى على حدّ تعبير أنطوني فلو)، ولكن بطبيعة الحال مع فارق أن هذا النوع من الإبطال إنما يكون ممكناً في الأصل دون العمل، وذلك لأننا في هذا العالم لا ندرك جميع الحقائق المرتبطة بهذا الأمر»[45]. ومن خلال الفصل بين الشبهتين ـ اللتين ذكرهما أنطوني فلو، وكانت إحداهما ناظرة إلى مفهومية وجود الله، والأخرى ناظرة إلى مفهومية صفات الله (واللتين عمد أنطوني فلو إلى الخلط بينهما) ـ قد أشار إلى الخصوصية التي تميّز القضايا الدينية؛ حيث يعمل على بيان اختلاف إمكانية دحضها وإبطالها عن سائر القضايا التجريبية الأخرى. وقد تحدّث عن خروج القضايا الدينية على (خلاف القاعدة)، وفصل بين نحوين من هذا الخروج عن القواعد في القضايا الدينية. وقد سمّى أحدهما بخلاف القاعدة في ناحية الموضوع، وسمّى الآخر بخلاف القاعدة في ناحية المحمول[46]. ثم أكّد بعد ذلك على أن خصوصية القضايا الدينية تكمن في معرفيتها، وأن الحلول غير المعرفية لا تكون مناسبة. وهو يرى أن القضايا الدينية قابلة للدحض والإبطال، وشرح آلية دحضها وإبطالها سواء في ناحية الموضوع أم في ناحية المحمول. ولكن بالنظر إلى مخالفة القضايا الدينية للقواعد، لم يعتبر طريقة دحضها وإبطالها من قبيل القضايا العلمية، ولكننا نُحجِم عن الخوض في هذا الشأن بالتفصيل تجنباً للإطالة.
جواب عن مفهومية القضايا الدينية من زاوية التفكير الفلسفي الإسلامي
من خلال بيان شبهة عدم مفهومية القضايا الدينية وبعض الإجابات عنها في الدفاع عن مفهومية تلك القضايا، تمّ السعي إلى تحليل العناصر الأصلية للأسئلة والأجوبة، والعمل على تحليل وتقويم كل واحد منها.
وأما الآن فنحن بصدد بيان جواب جديد آخر عن هذه الشبهة، بحيث لا يعاني هذا الجواب من المشاكل الخاصة التي كانت الأجوبة السابقة تعاني منها، وحيث إن هذه الشبهة لم تخضع حتى الآن للتجزئة والتحليل في مجال التفكير الفلسفي الإسلامي، ولم يتمّ تقديم إجابة عنها، فسوف نسعى فيما يلي إلى تحليلها وتقويمها من الزاوية الفلسفية.
ولكن قبل بيان هذا الجواب يجب التذكير ببعض المشاكل التي أدّت إلى عروض هذه الشبهة في مثل هذا المسار:
1 ـ إن الرؤية التجريبية لبرتراند راسل / فتغنشتاين ـ والتي ترى ضرورة أخذ جميع أنواع القضايا في نهاية المطاف من صلب القضايا الذرية المقتبسة من المعطيات الحسية ـ قد ضيّقت الخناق على الكثير من حقول التفكير إلى الحدّ الذي أدّى في نهاية المطاف إلى حذف ذاتها وإلغائها أيضاً. إن هذا الافتراض قد سدّ الطريق على التفكير، بحيث إنها حتى في مواجهة المسألة التي تعمل على تنظيم معطيات الحواس، لا ترى أمامها من طريق سوى القول بعدم مفهوميتها.
2 ـ إن المشاكل العلمية في مرحلة الوضعيين كان لها من الهيمنة والسطوة الفكرية بحيث أدّت حتى بشخص مثل جون ويزدم إلى التفكير ضمن تفسير المعتقدات الدينية في إطار العلم والتجربة، وتنزل بإضفاء العلم للحجية على التعاليم الدينية في قالب ضيّق لنوعين من الفهم. وإن ذات هذا الدفاع غير المناسب عن الدين هو الذي ترك الباب مفتوحاً لتسلل الانتقادات والإشكالات المطروحة من قبل أنطوني فلو. إذا تمّ وضع وجود الله وصفاته في قواعد لعبة العلم وفي سيطرة حجية صرف العلم، لن يكون هناك من طريق سوى الرضوخ لمثل هذه الانتقادات. إن الآفة التي يعاني منها نوع النظرة الإيمانية / الذاتية إلى القضايا الناظرة إلى الله، سوف تنطوي على مثل هذه العواقب.
3 ـ إن إشكال القضايا الدينية لا يكمن في ماهيتها، بل في نوع فهمها. ولا سيما فيما يتعلق بتفسير نوع العلاقة والارتباط بين الله والعالم. وقد تمّ تصوير هذه العلاقة في مثال أنطوني فلو بأسوأ وجه؛ حيث تمّ التمثيل لها بالعلاقة بين الزارع والمزرعة، الأمر الذي يبتعد كثيراً عن التعاليم الإسلامية. كما تمّ تشبيه هذه العلاقة من ناحية أخرى في المسيحية بالعلاقة بين الأب والابن، حيث يجب الذهاب في حفظ هذا الاعتقاد إلى طريقة حلّ تكمن في العلاقة الحلولية المسيحية، لا في العلاقة الصدورية الإسلامية التي ترى فضاء التفكير الديني أبعد من هذه الأنظار. إن الإشكالات والإجابات المطروحة في الغرب في هذه المسألة تقع تماماً في فضاء الإضافة المقولية (دون الإضافة الإشراقية) بين شيئين (الله والعالم) وفي عرض بعضهما. انظر إلى أمثلة كل واحد منهم: المُزارع والغابة (أنطوني فلو)، المجنون وأساتذة الجامعة (هير)، المناضل والشخص الغريب (ميتشل)، والرحّالتان وسلطان المدينة المنشودة في نهاية الطريق (جون هيك)، حيث يتم تحليل علاقة عرضية بين شيئين مستقلين تماماً (وإن كانا مختلفين بلحاظ الشأن والمقام فقط). كما لا يكون أمام المعتقِد بالتجربة من طريق سوى تحليل هذا النوع من المسارات.
4 ـ إن التعميم الاعتباطي للقواعد المفيدة في العلم، من قبيل: إمكان التحقق، أو إمكان الدحض والإبطال، لتشمل سائر الحقول ـ بما في ذلك الدين والأخلاق والفن ـ يعدّ من الكوارث الناشئة عن قصور الرؤية الفلسفية. ليس من الواضح ما هو المسوّغ واستناداً لأي دليل، تمّ هذا التحويل للدين والأخلاق والفن إلى علم، كي يتمكّنوا بواسطة قواعده من إخراج هذه الحقول البشرية المهمة من مسرح الحياة. ومن اللافت أن التيار الفكري البشري في القرن العشرين للميلاد أخذ يشكك في إمكان توظيف هذه القواعد حتى بالنسبة إلى العلم أيضاً. إن ذات هذه التحويلات الاعتباطية هي التي دفعت فتغنشتاين في مرحلته الثانية إلى القول بنظرية الألعاب اللغوية. كما عمد كرومبي بدوره إلى توجيه أنظارنا ـ من خلال ذكره لـ «مخالفة القواعد» ـ إلى فضاء مختلف من القضايا الدينية.
5 ـ إن من بين الآفات التي تعاني منها النظريات المذكورة آنفاً، توظيفها لعنصر التمثيل، وفي التمثيل وتطبيقه المباشر على المسألة مورد البحث، تغيب الكثير من الاختلافات عن أنظارنا. صحيح أن الأمثلة تقرّبنا من الوصول إلى الغرض المنشود من جهة، ولكن من شأنها ـ في الوقت نفسه ـ أن تبعدنا عن الغرض من جهة أخرى. وإن توظيف الأمثلة في مسألتنا الابتلائية يُعد من هذا القبيل. لا سيّما وأن المقارنات تعدّ من القياس مع الفارق إلى حدّ كبير.
ولكن من أجل تحليل بحث مفهومية القضايا الدينية الناظرة إلى الله سبحانه وتعالى، لكي تتضح مشكلة الأمثلة أيضاً، سوف نعمل على بيان موقفنا على نحو الإجمال في إطار مثال لكي نتعرّف بذلك على مشاكل الأمثلة السابقة. من الواضح أننا ندرك هذه المسألة بداهة، وهي أن مهمة البرهان لا تقع كلها على عاتق المثال، ويمكن للأمثلة أن تنطوي على الكثير من نقاط الضعف، حيث يجب التغلّب على هذه النقاط من الضعف في التحليل العقلي. وسوف نسعى إلى بيان مثالنا في إطار حكاية أنطوني فلو، كي نلتفت إلى موارد الاختلافات في هذا الشأن:
لك أن تتصور في عالم الخيال ثلاثة من الصيادين. إن اختلاف هؤلاء الصيادين الثلاثة عن الصيادَين في حكاية أنطوني فلو، يكمن في أن الصيادَين في مثال أنطوني فلو يوجدان في العالم الواقعي الخارجي، في حين أن هؤلاء الصيادين الثلاثة إنما يستوطنون في ذهنك وفي عالم الخيال. وذات يوم صادف هؤلاء الصيادون الثلاثة أرضاً بلا شجر (في عالمك الذهني) في غابة. لقد كانت هذه الأرض تشتمل على الكثير من الأزهار والنباتات والأعشاب التي تنمو من تلقائها. يقول واحد من هؤلاء الصيادين الثلاثة: «يجب أن يكون هناك مُزارع يتولى الاهتمام بشؤون هذه القطعة من الأرض»، ويعترض الصياد الثاني عليه ويقول: «ليس هناك من وجود لأيّ مُزارع أبداً»، وعلى هذا الأساس عمدوا إلى تسوير الغابة بالأسلاك الشائكة المربوطة بالتيار الكهربائي، وقاموا برفقة كلاب الصيد بجولات سيارة حول هذه الغابة (إذ إنهم يعتقدون بأن الشخص غير المرئي لـ (إتش. جي. ويلز) يمكن لمسه وشمّ رائحته، وإن كان لا يمكن رؤيته). ولكن لا يتمّ سماع أيّ صراخ أو نداء استغاثة يدل على تعرّض شخص متطفل للصعق الكهربائي. ولم تحدث أيّ حركة في الأسلاك الشائكة تدل على وجود شخص قد تسوّرها. ولم يصدر أي نباح عن كلاب الصيد أبداً. ومع ذلك لم يتنازل الصياد المؤمن عن اعتقاده، ويقول: «ولكن يبقى هناك وجود للمزارع غير المرئي وغير المحسوس والذي يكون محمياً من خطر الصعق بالتيار الكهربائي، والذي لا تصدر عنه رائحة ولا يُحدث صوتاً، ويعمل في الوقت نفسه على إدارة شؤون الغابة ويقوم بالإشراف عليها». وعندها لا يبقى أمام صاحبه المنكر لوجود مثل هذا المُزارع سوى اليأس من إقناعه، والقول له: «ولكن ما الذي يبقى من ادعائك الأول؟ وما هو الفرق بين هذا المُزارع الذي تقول إنه لا يُرى ولا يُحسّ ولا يمكن إدراكه إلى الأبد، وبين الفلاح الموهوم، بل وحتى بينه وبين سائر الأشخاص الآخرين من غير الفلاحين؟!».
وهنا يتدخّل الصياد الثالث بينهما، ويعتبر جميع جهودهما لإثبات منشأ الغابة خاطئة. فهو يقول: «إن هذه الغابة وجميع ما فيها من الأشجار بجميع تحوّلاتها قد نشأت عن إنسان هذا العالم الخيالي في ذهنه. وهو الذي يفكر في كل لحظة في منشأ وجود الغابة والأشجار وجميع القوانين التي تحكم نموّ النباتات فيها، ويمنحها الوجود، ولولاه لما بقى هناك من وجود للغابة، بل وحتى لبقائنا نحن الثلاثة بحيث نستطيع التحاور فيما بيننا في هذا الشأن. ولو أنه قطع صلته واهتمامه لحظة واحدة بكل واحد من هذه الموجودات وما يحدث فيها من التحوّلات، فسوف يصبح الوجود عدماً وقاعاً صفصاً، ولن يكون هناك غابة ولا مُزارع». فيقول الصياد الثاني: «كيف يمكن لي الاستعانة بوسائل من قبيل التيار الكهربائي والأسلاك الشائكة وكلاب الصيد، كي أتمكن من التحقق والتثبّت من وجود هذا العامل. وكيف يمكن إبطال هذا الشخص الذي تقول إنه تصوّرنا في خياله. هل لك أن تمنحني شروطاً يمكن لي في ضوئها أن أبطل فرضية وجود مثل هذا الشخص». يقول الصياد الثالث في الجواب عنه: «هذا هو مكمن خطئك؛ إذ تريد تعميم شرائط إمكان إبطال القضايا التجريبية في عالمنا (وهو ذات العالم الخيالي) على منشأ الوجود التدريجي لحظة بعد لحظة لمجموع هذا العالم، وليس من المفهوم عندي لماذا يتعيّن عليّ أن أقوم بتوظيف قاعدتك في إمكان التحقق بشأن صدق وجود هذا الموجود. ولو لم أقم بذلك لا أكون قد عملت على بيان شرائط إبطاله، ولذلك فإن كلامي حول هذا الموجود سوف يكون بلا معنى بالمرّة. وإن الظروف الوحيدة التي سوف تتحقق بإبطال فرضية وجود هذا الشخص هو اضمحلال وزوال هذه الغابة بما فيها من أشجار وأعشاب وما يحكمها من القواعد والقوانين، وحتى نحن الثلاثة في نهاية المطاف أيضاً. وفي الأساس فإني أتساءل: لو كانت فرضيتي صحيحة، فهل سوف يكون هناك من طريق تجريبي لإثباتها؟ وفيما لو كانت فرضيتي صحيحة، فكيف يمكن لي إثبات وجود مثل هذا الموجود؟ لا شك في أن هذا الموجود سوف يكون مختلفاً عن المزارع وصاحبنا الأول من الأساس. إن الطريق الوحيد في إثبات إمكان إبطال فرضيتي هو اعتبار انعدام وزوال جميع عالمنا، وإن الطريق الوحيد لإثبات مثل هذا الموجود ليس طريقاً تجريبياً بل هو طريق عقلي. نحن نتوصّل من خلال تحليلنا العقلي في وجودنا إلى إدراك إمكاننا الذاتي وحاجتنا الذاتية إلى إفاضة الوجود المتواصل والمستمر، حيث يعمل على جعل وجوده مبرهناً بالنسبة لنا».
إن هذا البيان يشير إلى إثبات عدد من النقاط، نذكرها على النحو الآتي:
1 ـ إن علاقة الله وارتباطه بالعالم، ليست من قبيل العلاقة والارتباط القائم بين المُزارع والمزرعة. بل إن هذه العلاقة أشبه بعلاقتنا وارتباطنا بصورنا الخيالية.
2 ـ إن ملاكات مفهومية القضايا ـ من قبيل: إمكان التحقق أو إمكان الدحض والإبطال ـ إنما تكون قابلة للبحث في دائرة العلوم التجريبية فقط، وليس في جميع المجالات.
3 ـ إن الاعتقاد بوجود الله ليس مجرّد أسّ. إن طرق الحل الموضوعية وغير المعرفية في مورد وجود الله وصفاته تختلف عن نوع نظرتنا إلى محتوى هذه القضايا. فنحن إنما نتحدّث عن الكيفية المعرفية عن الوجود الأسمى الواقعي لله واعتقادنا بوجوده الخارجي، وليس مجرّد حالة نفسية. وإن هذا الوجود بدوره ناظر إلى وجوده في هذا المكان وهذا الزمان وفي اللحظة الراهنة، وليس ناظراً إلى وجوده الأخروي والمستقبلي (كما هو الحال في رؤية جون هيك).
4 ـ إن الطريقة الوحيدة لافتراض إمكان إبطال وجود الله هو زوال جميع العالم، وهذا خارج عن الإظهار الذي يمكن للمراقب الحيادي أن يعثر عليه. إن المنكر لوجود الله هو الذي يتعيّن عليه إيضاح كيف يريد العمل على تسرية ملاك مفهوميته التجريبية إلی عالم مثل العالم الخيالي ومنشأ تبلوره أيضاً. وهذا هو الذي عبّر عنه كرومبي بـ «مخالفة القواعد».
5 ـ إن الطريق الأصلي للوقوف على وجود موجود مثل الله، الذي تكون علاقته وصلته على غرار مثالنا، إنما هو طريق عقلي وليس طريقاً تجريبياً.
6 ـ إن من بين المشاكل في بيان وجود الله وصفاته، عبارة عن فهمه بشكل غير مناسب؛ إن العمل في بيان صفات الله على توظيف مثال الأب والابن، وفهم إرادة الله على نحو مزاجي، قد أدّى إلى تعرّض الفكر الديني لبعض المشاكل، حيث نشاهد نموذجاً لذلك في المثال المذكور أعلاه.
بالنظر إلى ما تقدّم من تقريرات تمّ بيانها عن الشبهة وجوابها، قمنا بمناقشة وبحث المشاكل الكامنة في كل واحد منها، وعمدنا في نهاية المطاف إلى بيان طريقة الحل المعبّرة عن الرؤية الفلسفية الدقيقة إلى المسألة من أجل الإجابة عن هذا السؤال.
قائمة المصادر
پوپر، كارل ريموند، منطق اكتشاف علمي، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد آرام، انتشارات سروش، طهران، 1370 هـ ش.
چالمرز، آلن اف، چيستي علم، ترجمه إلى الفارسية: سعيد زيبا كلام، انتشارات سمت، طهران، 1378 هـ ش.
علی زماني، أميرعباس ، خدا، زبان و معنا، انتشارات آية عشق، قم، 1381 هـ ش.
علی زماني، امیرعباس، زبان دين، مركز انتشارات دفتر تبليغات حوزه علميه قم، قم، 1375 هـ ش.
قائمي نيا، علي رضا، تجربه ديني و گوهر دين، انتشارات بوستان كتاب قم، قم، 1380 هـ ش.
لاكوست، ژان، فلسفه در قرن بيستم، ترجمه إلى اللغة الفارسية: د. رضا داوري اردكاني، انتشارات خوارزمي، طهران، 1375 هـ ش.
هارتناك، يوستوس، ويتگنشتاين، ترجمه إلى اللغة الفارسية: منوچهر بزرگمهر، انتشارات خوارزمي، 1356 هـ ش.
هيك، جون، فلسفه دين، ترجمه إلى اللغة الفارسية: بهرام راد، انتشارات بين المللي الهدى، طهران، 1372 هـ ش.
المصادر الأجنبية
Ayer, Alfred Jules, Language: Truth and Logic, London: V, Gollancz Ltd, 1936.
Ayer, Alfred Jules, Logical Positivism. Glencoe: Free Press, 1959.
Crombie, I. M, “The Possibility of Theological Statement.”, In The Philosophy of Religion, edited by Basil Mitchell, 23–53, Oxford: Oxford University Press, 1971.
Flew, Anthony, and Alasdair MacIntyre, eds. New Essays in Philosophical Theology, New York: MacmillanPublishing Company, 1963.
Flew, Anthony, Richard Hare, and Basil Mitchell. “Theology and Falsification.” In The Philosophy of Religion,edited by Basil Mitchell, 1–13. Oxford: Oxford University Press, 1971.
Geisler, Norman L, Philosophy of Religion, Grand Rapids, MI: Zondervan Corporation, 1974.
Hick, John, “Eschatological Verification Reconsidered.” Religious Studies 13, no. 2 (June 1977): 189–202.
Hick, John. “Theology and Verification.”, In The Philosophy of Religion, edited by Basil Mitchell, 53–72. Oxford: Oxford University Press, 1971.
Hick, John, Classical and Contemporary Readings in the Philosophy of Religion, 3rd ed. Englewood Cliffs, NJ: Prentice Hall, 1990.
Hudson, William Donald, Ludwig Wittgenstein, Richmond, VA: John Knox Press, 1968.
Mitchell, Basil, ed. Faith and Logic, London: George Allen and Unwin, 1957.
Sell, Alan P. F, The Philosophy of Religion 1875–1980, New York: Croom Helm, 1988.
Stiver, Dan R, The Philosophy of Religious Language: Sign, Symbol and Story, Oxford: Blackwell Publishers, 1996.
Wisdom, John. “Gods.”, Proceedings of the Aristotelian Society 45 (1944): 185–206.
----------------------------
[1]* نُشرت هذه الدراسة باللغة الفارسية بعنوان " رؤية فلسفية / إسلامية حول مفهومية لغة الدين" في المصدر التالي: زبان و زبانشناسی، دوره اول پاییز و زمستان 1384 شماره 2.
تعريب: السيد حسن علي مطر الهاشمي
[2]. أستاذ مساعد في حقل الفلسفة من جامعة العلامة الطباطبائي.
[3]. يستعمل عادة للإشارة إلى مصطلح « مفهومية القضايا» و عدم مفهوميتها، مصطلحات من قبيل وجود المعنى في القضية أو خواء المعنى، أو تعيّن المعنى وعدم تعيّنه، والمقصود هو أن القضايا على قسمين إما قضايا لها معنى مفهوم بغض النظر عن الصدق أو الكذب أو لا معنى لها. ( المحرر)
[4]. Hudson, Ludwig Wittgenstein, 9.
[5]. هارتناك، ويتگنشتاين، 40 ـ 68.
[6]. verifiability
[7]. لاكوست، فلسفه در قرن بيستم، 52.
[8]. أي التجريبية
[9]. Ayer, Language: Truth and Logic,10.
[10]. Geisler, Philosophy of Religion, 292.
[11]. falsification.
[12]. پوپر، منطق اكتشاف علمي، 87 ـ 90.
[13]. چالمرز، چيستي علم، 55.
[14]. Ayer, Language: Truth and Logic, 41 -114.
[15]. Flew, Hare, and Mitchell, “Theology and Falsification,” 1 -13.
[16]. Wisdom, “Gods,” 334 -49.
[17]. Sell, The Philosophy of Religion 1875–1980, 152.
[18]. Flew and McIntyre, New Essays in Philosophical Theology, 96.
[19]. Wisdom, “Gods,” 185 -206.
[20]. Hick, Classical and Contemporary Readings in the Philosophy of Religion, 368
[21]. علی زماني، زبان دين، 115.
[22]. Stiver, The Philosophy of Religious Language: Sign, Symbol and Story, 48.
[23]. علی زماني، زبان دين، 117.
[24]. Flew and MacIntyr, New Essays in Philosophical Theology, 97.
[25]. Ibid., 99.
[26]. R. M. Hare.
[27]. Hick, Classical and Contemporary Readings in the Philosophy of Religion, 372- 373.
[28]. blick
[29]. Flew and MacIntyr, New Essays in Philosophical Theology, 100.
[30]. Ibid., 151.
[31]. Ibid., 103.
[32]. Stiver, The Philosophy of Religious Language: Sign, Symbol and Story, 80.
[33]. Hick, Classical and Contemporary Readings in the Philosophy of Religion, 374.
[34]. Sell, The Philosophy of Religion 1875–1980, 153.
[35]. Mitchell, Faith and Logic, 12.
[36]. علی زماني، زبان دين، 125.
[37]. راجع: قائمينيا، تجربه ديني و گوهر دين.
[38]. Hick, Classical and Contemporary Readings in the Philosophy of Religion, 374.
[39]. هيك، فلسفه دين، 211 ـ 215.
[40]. Hick, “Eschatological Verification Reconsidered”, 189 – 203.
[41]. Hick, “Theology and Verification,” 53 -72.
[42]. Stiver, The Philosophy of Religious Language: Sign, Symbol and Story, 52.
[43]. Ibid.
[44]. Crombie, “The Possibility of Theological Statement,” 23- 53; Hick, Classical and Contemporary Readings in the Philosophy of Religion, 376.
[45]. Sell, The Philosophy of Religion, 152.
[46]. علی زماني، زبان دين، 197.