الباحث : د. حسن جبريل عبدالنعيم
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 37
السنة : شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : April / 19 / 2025
عدد زيارات البحث : 314
الملخّص
يُعدُّ نعوم تشومسكي أحد أبرز اللسانيين في القرن العشرين، إذ أحدث ثورة مُذهلة في الدّراسات اللّسانيَّة عبر نظريّته المعروفة باسم القواعد التّوليديَّة التحويليَّة. تقوم هذه النّظريّة على فكرة أنَّ الدّماغ البشري مُبرمجٌ بيولوجيًّا لاكتساب اللُّغة، ممَّا يجعل القدرة اللُّغويَّة فطريَّة، وبالتّالي يدعم تشومسكي مفهوم القواعد العالميَّة (UG)، التي تُمثِّل المعرفة اللّاواعيَّة التي يمتلكها الإنسان عن اللُّغة. وهكذا، كانت (النّظريّة التّشومسكيَّة) بمنزلة تحدٍّ مُباشر للسّلوكيَّة التي كانت تُسيطر على الحقل اللّسانيّ آنذاك، حيث رفض تشومسكي فكرة أنَّ تعلُّم اللُّغة يعتمد على التّحفيز والاستجابة فقط، ممَّا أدى إلى ظهور الحقل المعروف باسم علم النّفس الإدراكي؛ لذا أُطلق على هذا التّحوُّل في الحقل اللّسانيّ اسم (الثّورة التشومِسكيَّة)، لا سيَّما بعد نشر كتابه الشّهير التّراكيب النّحويّة عام 1957، عندما وضع أُسس التّحليل اللّسانيّ الحديث.
لم يقتصر تأثير تشومسكي على الحقل اللّسانيّ فقط، بل امتدّت أيضًا إلى حقول أخرى، مثل الفلسفة، علم النّفس، الذّكاء الاصطناعي، الأنثروبولوجيا، وعلم الأعصاب؛ إذ ساهمت أفكاره في تشكيل ما يُعرف بـ الثّورة الإدراكيَّة، التي غيَّرت طريقة دراسة العقل واللُّغة. ومن ثمَّ، يُركِّز هذا البحث على تحليل القواعد التّوليديَّة التّحويليَّة من منظور فلسفيّ، من خلال مُناقشة مبادئها وفرضيّاتها، إلى جانب نقدها، وتقويمها من منظور إسلامي، ممَّا يعكس مدى عمق النّظريّة التّشومِسكيَّة ومدى تأثيرها في الفكر اللّسانيّ والفلسفيّ الحديث.
الكلمات المفتاحيَّة: اللّسانيَّات، القواعد التّوليديَّة التحويليَّة، الكفاية والأداء، اللُّغة الفطريَّة، القواعد العالميَّة.
مُقدِّمة
يُعدُّ نعوم تشومسكي أحد أبرز اللّسانيّين في القرن العشرين، إذ لا يزال اليوم على رأس المشهد اللّسانيّ النّظريّ؛ ذلك نتيجة اشتهاره بفلسفته اللُّغويَّة الفريدة، فقد أحدث تشومسكي ثورة مُذهلة في الحقل اللّسانيّ من خلال نظريّته المعروفة باسم القواعد التّوليديَّة التّحويليَّة، والّتي يؤكد فيها قدرة العقل ومهارته في توليد الجُمل باستخدام المعرفة اللّغويَّة اللّاواعية، والتي أطلق عليها اسم القواعد العالميَّة؛ لذلك يؤكّد تشومسكي أنَّ القواعِد التّوليديَّة التّحويليَّة تحاول تحديد «ما يعرفه المتكلّم بالفعل»، إضافةً إلى أنَّ الدّماغ البشري عبارة عن كيانٍ مُبرمج بيولوجيًا لتعلُّم اللُّغة، وبالتّالي فإنّ القدرة الدّماغيَّة على الحديث، أو الكلام تُعدُّ فطريَّة في المقام الأوّل. ووفقًا له، فإنّ العقل يعمل على تعلُّم اللُّغة؛ إذ جعلت الآراء الفطريَّة والعقليَّة من نظريّته استثناءً لا نظير له، ممَّا وضعه في صراع مُباشر مع السّلوكيَّة التي كانت رائجة إبّان النّصف الأوّل من القرن العشرين. لقد وجَّه «تشومسكي» ضربة موجعة لهذه النّزعة بعد تخلّيه عن نظريّة التّحفيز والاستجابة في تعلُم اللُّغة؛ ممَّا أعطى زخمًا واسعًا لظهور الحقل الجديد المعروف باسم علم النّفس الإدراكي. وهكذا، أطلق «تشومسكي» على هذا التّحوُّل النّموذجي في تاريخ الحقل اللّسانيّ اسم «الثّورة التّشومِسكيَّة.
على هذا الأساس، ارتبط اسم الأمريكي ارتباطًا وثيقًا بالثّورة التشومِسكيَّة، وهي ثورة مُرتبطة بالتّحوُّل الجذري في الاهتمامات، والمنهجيَّات المتأصّلة في الحقل اللّسانيّ على مدار العقد الذي تلا نشر كتابه الشّهير التّراكيب النّحويَّة عام 1957. إلّا إنَّ هذه الأحداث لم تحدث بمعزل عن غيرها، أو أنّها قد سارت وحيدة، فقد أخذت التّطوّرات تتبلور في الحقل اللّسانيّ، بسبب الحركات الثّوريَّة التي نشأت في الحقول الأخرى، لا سيَّما في الرّياضيّات، والفلسفة، وعلم النّفس. ومن ناحيةٍ أخرى، شكَّلت الصّورة التّشومِسكيَّة للحقل اللّسانيّ، وحُججه المرتبطة بها، تطوّرات داخل الحقل نفسه، لأنّها شاركت في ثورة أخرى، وهي ثورة عالميَّة، أُطلق عليها اليوم الثّورة الإدراكيَّة. ويمكن القول إنَّ الثورة الإدراكيَّة هذه، التي يعود تاريخها أيضًا إلى خمسينات القرن العشرين، والمستمرة حتّى اليوم، نشأت بفضل حقل الذّكاء الاصطناعي، وعلم النّفس، وامتدت لتشمل تخصُّصات أخرى، مثل الفلسفة، والأنثربولوجيا، وعلوم الأعصاب، والنّقد الأدبي، فضلًا عن العديد من الأُطر غير التّشومِسكيَّة المتمايزة الأخرى في الحقل اللّسانيّ؛ لذا فإنّ جميع تواريخ هذه الثّورة تستشهد بشكلٍ بارز بتشومسكي من بين الشّخصيّات المؤسِّسة على أساس السّمات المشتركة بين نهجه المؤثّر في الحقل اللّسانيّ، وبين نموذج العقل الذي رسَّخ بقوّة لتلك الثّورة.
وحتّى لا نذهب بعيدًا، فإنّ البحث هذا يستهدف بشكلٍ مُفصَّل، تلك الثّورة التّشومسيكيَّة التي انعكس صَداها بقوّة في الإسهام التّشومسكي داخل حقل فلسفة اللُّغة بشكلٍ عام، والحقل اللّسانيّ بشكلٍ خاصّ، وبالتّالي فإنه عند الحديث عن تلك الثّورة التي أحدثها الأمريكي الشّاب آنذاك، فلا شكّ أن يكون لهذه الثّورة، القواعد التّوليديَّة التّحويليَّة، أكبر الأثر في إحداث التّحوّل النّموذجي الجذري، ليس في الحقل اللّسانيّ فحسب كما سبق وذكرنا، ليمتدّ إلى الحقول الأخرى التي حاولت بشكلٍ أو بآخر توظيف المبادئ التي تتألّف منها النّظريّة في تخصُّصاتها، وبما يتوافق مع الرّأي والصّورة التّشومِسكيَّة الرّائجة، والمعروفة، لتشمل تخصُّصات أخرى، إلى جانب الحقل اللّسانيّ المتأصّل، مثل الفلسفة، وعلم النّفس، وغيرها الكثير مثل تلك الثّورة المعروفة بالذّكاء الاصطناعي. إلّا أنَّ هذا البحث يستهدف بشكلٍ خاصّ تحليل هذه النّظريّة التّوليديَّة فلسفيَّا من خلال عرض وطرح لمبادئها وفرضيّاتها بالتّفصيل، وكذلك من خلال نقدها وتقويمها من منظور إسلامي. بناءً عليه، يطرح الباحث عدّة تساؤلات قبل البدء في هذا البحث، منها: ماذا يُقصد بالقواعد التّوليديَّة التّحويليَّة عند تشومِسكي؟ ما هي المبادئ، والفرضيَّات التي تتألّف منها هذه النّظريّة على وجه الخصوص؟ ما الأصول الفلسفيَّة التي تتألَّف منها النّظريّة التّشومسكيَّة؟، ما موقف الفلسفة الإسلاميّة بالخصوص من هذه الأصول، أو من المبادئ التي تتألّف منها النّظريّة التّشومسكيَّة؟
ومن ثمَّ، سوف يعتمد الباحث عدّة مناهج: المنهج التّاريخي، والمنهج التّحليلي، وأخيرًا المنهج النّقدي. سوف يتمّ استخدام المنهج التّاريخي بهدف عرض مفهوم اللّسانيَّات الذي نشأ عليه الحقل تاريخيًّا؛ إذ من خلال العرض التّاريخي يُمكننا فهم الطّريقة التي نشأ عليها الحقل اللّسانيّ، والحقول الفرعيّة المرتبطة به. سوف يتمّ استخدام المنهج التّحليلي أيضًا بهدف تحليل، وتبيان المبادئ، والفرضيَّات التي تتألّف منها النّظريّة التّشومِسكيَّة الثّوريَّة. وأخيرًا، سوف يتمّ استخدام المنهج النّقدي، بهدف تقويم المبادئ التّشومِسكيَّة اللّسانيَّة ونقدها من منظور إسلامي.
لذا، جاء البحث في عدّة محاور يمكن ذكرها سريعًا على النّحو الآتي:
المحور الأوّل: اللّسانيَّات التّشومِسكيَّة (النّظريّة التّوليديَّة التّحويليَّة).. المفهوم والفرضيَّات.
المحور الثّاني: الأبعاد الفلسفيَّة للنّظريّة التّشومِسكيَّة من منظور إسلامي نقدي.
المحور الأوّل: اللّسانيَّات التّشومِسكيَّة (النّظريّة التّوليديَّة التّحويليَّة): المفهوم والفرضيَّات
ليس ثمَّة شكّ في أنّ اللّسانيّ الأمريكيّ تشومسكي يتربّع على عرش الحقل اللّسانيّ المعاصر، إذا ما قورن بأيّ لسانيٍّ آخر. ومنذ صدور أوّل مؤلّف مهم له، التّراكيب النّحويَّة، في عام 1957، واصل التّشكيك في العقائد التّقليديَّة المتمحورة حول البحث اللُّغوي. وفي كثيرٍ من الحالات، كانت أفكاره النّاقدة تتطوّر من خلال مُلاحظات بسيطة إلى حدٍّ ما. على سبيل المثال، وعلى النّقيض من اللّسانيّين الوصفيّين، زعم تشومسكي أنّه لا يكفي أن تأخذ القواعد النّحويَّة في الاعتبار الجُمل الموجودة فقط، بل يجب أن تكون قادرة على تفسير الجُمل التي لم تُكتَب أيضًا، أو حتى التي لم تُنطَق بعد. وبالتّالي، فإنَّ ما أذهل تشومسكي في اللُّغة هو جمالها الإبداعي المتعمّق؛ أي قدرتها على توليد جُمل جديدة تمامًا وبشكلٍ لا متناهٍ، ولن يكون هذا ممكنًا إلّا إذا كان لدى المتحدّثين مجموعة من القواعد الباطنيَّة، أو قواعد نحويَّة، تُحدّد التّسلسلات اللُّغويَّة الممكنة، وبالتّالي النّحويَّة، وتلك غير الممكنة. وهكذا، فإنّ مهمّة اللّسانيّ، وفقًا لتشومسكي، تتمثّل في فهم القواعد العقليَّة، وبالتّالي اختراق أسرار العقل البشري الكامن. فالعقل في نظر تشومسكي ليس ذلك اللّوح الأملس الذي ترسم التّجربة بصماتها عليه، وتملي طبقة معيّنة من المجتمع ما تشاء عليه بما يتماشى مع مصلحتها الخاصّة، ولكن العقل – كما شبَّه الفيلسوف الألماني ليبنتز – هو مثل الكتلة الرُخاميَّة التي يمكن نحتها بأشكال مختلفة، ولكن بنية الرّخام في ذاتها تفرض بعض القيود على إبداعيَّة النّحات.
إنَّ العقل في نظر «تشومسكي» هو أسمى الأشياء التي خُلق عليها الإنسان، وهو ما يُميّزه عن غيره من الكائنات الأخرى، والسّؤال الآن – وهو لُب بحثنا الرّاهن: ماذا قصد تشومسكي بالنّظريّة التّوليديَّة التّحويليَّة؟
بادئ ذي بدء، كانت النّظريّة التّشومِسكيَّة (النّظريّة التّوليديَّة التّحويليَّة) بمنزلة ثورة على البنيويَّة في دراسة اللُّغة. وتمتاز هذه النّظريّة – من بين النّظريَّات اللّسانيَّة الأخرى – بأنّها تطوّرت في مدّة قصيرة تطوّرًا سُمح لها بتعديل رؤى مُؤسِّسها عدّة مرات، وذلك استنادًا إلى الدّراسات التي أسهمت بقوّة في هذا التّعديل. وبدلًا من أن ينطوي سُبات «تشومسكي» على نفسه، فقد تقبّل الدّراسات النّاقِدة لهذه النّظريّة، وعمل جاهدًا على إسقاط بعض المبادئ التي كان قد تبنَّاها عند وضع نظريّته، وزاد عليها مبادئ وآراء لم تكن فيها من قبل. لقد لاحظ «تشومسكي» أنَّ الإمكانات الموجودة في اللُّغات الإنسانيَّة تجعل النّاطقين بها قادرين على الإبداع. ويظهر هذا الإبداع في ابتكار جُمل وتراكيب لم يكونوا قد سمعوها بعد. وهم في الوقت نفسه، على قدرٍ كبير من الوعي اللُّغوي، قدر يجعلهم قادرين على فهم التّراكيب الجديدة التي لم يسمعوها من قبل. وقد رأى أنَّ أي نظريّة لُغويَّة تُعالج اللُّغة، لا بدّ أن تُحدِّد القابليَّة التي يمتلكها أبناء اللُّغة، وتصف هذه القابليَّة، والآليَّات التي يعمل بها، وعلى أساسها يُبنى النّظام اللُّغوي برمّته. وهكذا فإنّ مسألة الإبداع اللُّغوي ليست جديدة في ذاتها، عند أهل العلم في اللُّغة، فقد ذكرها من قبل أعلام مثل «همبولت»، و»دي سوسير» غير أنَّ الجديد الذي طرحه «تشومسكي» هو أنّه جعل النّظر في الإبداع أساسًا أصيلًا من أُسس بناء نظريّته، وركنًا من أركانها. وقد أوحى النّظر في التّفكير الإبداعي في اللُّغة الإنسانيَّة، إلى جانب «تشومسكي» بفكرة القواعد العالميَّة، وهي فكرة ظلّت تُلازم تفكيره في المراحل المختلفة، من مرحلة بناء النّظريّة وتطويرها حتّى استقرّت على ما هي عليه الآن. وقد تعمَّق «تشومسكي» في وصف العلاقة بين اللُّغة وبين العقل الإنسانيّ، من حيث إنَّ آليَّة أحدهما مُرتبطة بآليَّة الآخر. فكلاهما قائم على تصوّر الواقع، والتّعامل معه. ولَمّا كان هذا الارتباط موجودًا عند البشر جميعًا، فإنّ التّفكير بإنجاز قواعد عالميَّة، أمرٌ ضروري، ناهيك عن كونه مُمكنًا.
على هذا الأساس، لم تأتِ النّظريّة التّشومِسكيَّة دفعة واحدة، بل إنّها مرَّت بثلاث مراحل رئيسة: المرحلة الأولى، هي المرحلة التي جسّدها «تشومسكي» في كتابه المهم، والثّوري «التّراكيب النّحويَّة»، إذ إنّه أطلق على هذه النّظريّة فيما بعد اسم (النّظريّة الكلاسيكيَّة). المرحلة الثانيَّة، هي المرحلة التي ظهرت مع صدور كتاب «مظاهر من النّظريّة الترّكيبيَّة»، وهي النّظريّة التي تُعرف باسم (النّظريّة النّموذجيَّة). المرحلة الثّالثة، وهي المرحلة التي تبلورت بعد نشر «تشومسكي» ثلاثة مقالات مُختلفة حول مكانة الدّلالة، والبنية العميقة في نظريّته، والتي جمعها في كتاب يحمل عنوان «دراسات حول الدّلالة في القواعد التّوليديَّة»، حيث بات هذا الشّكل الجديد يُعرف باسم (النّظريّة النّموذجيَّة الموسَّعة)؛ ولذلك يمكن القول إنّ مُعظم أنواع القواعد التّوليديَّة التي نهتمّ بها جميعًا تعمل بهذه الطّريقة: بدءًا من الصفر (اللاشيء)، حيث تَبني القواعد النحويَّة بنية الجُملة جُزءًا جُزءًا، وتُضيف شيئًا ما في كل خطوة، حتى تكتمل بنية الجُملة. إنَّ الشيء الحاسم في هذا الأمر هو أنه بمجرد إضافة شيئًا ما إلى بنية الجُملة، يجب أن يظل هذا الشيء كما هو: لا يمكن تغييره، أو حذفه، أو نقله إلى مكان آخر.
ولفهم (النظريّة التشومِسكيَّة) على نحو أكثر تفصيلًا وتأصيلًا، علينا تناول الفرضيَّات أو الأُسس التي تقوم عليها، ذلك حتى يتسنى لنا فهم العمليَّات الفلسفيَّة التي تقف وراءها، وبالتالي نقدها من منظور إسلامي فيما بعد، إذ تتألف النظريّة التوليديَّة التحويليَّة من عناصر عديدة. انظر الشكل (1) أدناه، يمكن تناولها على النحو التالي:
الفرضيات التي تتألف منها النظريّة التوليديَّة التحويليَّة
1. التوليد
يُشير مُصطلح التوليد إلى ذلك الجانب الإبداعي من اللُّغة، أي القُدرة التي يمتلكها الإنسان لتكوين وفَهم عدد لا مُتناه من الجُمل في لُغته، بما في ذلك الجُمل التي لم يسمعها من قبل، حيث يصدُر كل هذا عن الإنسان بطريقة طبيعيَّة دون شعوره بتطبيق أية قواعد نحويَّة. وقد أولىَ «تشومسكي» هذه القدرة الإبداعيَّة اهتمامًا كبيرًا، وأكد على أن النظريّة النحويَّة لا بد أن تعكس قُدرة جميع المتكلمين ومعرفتهم باللُّغة والقواعِد التوليديَّة؛ أي أننا باتباع قواعد نحويَّة يمكننا تكوين كل الجُمل الممكنة في اللُّغة. وهكذا، يكمن المفهوم التوليدي لدى «تشومسكي» بتوليد معانٍ لا مُتناهية من جُملة تغيُّرات تركيبيَّة نحويَّة لجُملةٍ ما؛ أي قُدرة اللُّغة على الإنتاج اللامُحدود من الجُمل، وتتفاعل في هذا التحويل جميع العناصر اللُّغويَّة، حيث عملت النظريّة في مرحلتيها الأخيرة على الاعتناء بالأصوات وعلاقتها بالمعاني والربط بينهما. وفي هذا السياق يوضح «بالمر» بأن القواعد التوليديَّة تختلف عن القواعد التقليديَّة والبنيويَّة في نقطتين جوهريتين. أولًا: إنها لم تهتم بالجُمل الفعليَّة، أي الجُمل التي وردت من قبل، ولكن بالجُمل الممكنة، التي يمكن أن تكون قد وردت من قبل. وقد لجأ «تشومسكي» إلى هذا التمييز، لأن المدونة – في رأيه – مهما كان حجمها لا تضم إلا عددًا محدودًا من الجُمل. في حين أن اللُّغة تتألف من عدد لا متناه من الجُمل. ثانيًا: إنَّ القواعد التوليديَّة تُبيِّن بدقة الجُمل الممكنة في لُغة ما، ولم تترك بذلك مجالًا للشك أو المصادفة، ولم تدع أيضًا أي شيء لذكاء القارئ أو معرفته بلُغته.
لذلك، فإنَّ المفهوم التوليديّ يقوم على تنظيم العناصر اللُّغويَّة تنظيمًا رياضيًا، وهو مبدأ الربط أو الارتباط، فالعناصر اللُّغويَّة ترتبط ارتباطًا ماديًا ومعنويًا في مُجمل تركيبها، فتُغيّر عنصر مكان آخر من ثم تُغيّر المعنى المترتب بذلك التركيب؛ لأننا من وجهة نظر القواعد التوليديَّة يمكن أن نقوم بتوليد جميع الجُمل في اللُّغة ونكوّنها بحسب الحاجة، فالعقل البشري باستطاعته توليد جُمل لا متناهيَّة عند الحاجة لإثبات أمرٍ ما، سواء أكانت تلك الجُمل مقصودة التحضير أو مُرتجلة، ففي بعض الأحيان يكون المعنى هو المتسلّط على تلك الجُمل، ويتضح ذلك من خلال توليد بعض الجُمل نحو قولنا، مثلًا: (ضرب الرجل الكرة، وأخذ الرجل الكرة، وحمل الرجل الكرة)، فهذه الجُمل ناتجة عن التوليد بشكل يجعل منها نموذجًا تُقاس عليه بقية الأمثلة في أي لُغة. ففي كل مرة يتم تغيير موضع العناصر اللُّغويَّة للجُملة، يتم تغيير المعنى بتغيير تلك العناصر أيضًا، إذًا فالسمة الإبداعيَّة للمُنشيء هي السبب الرئيس لذلك، وقد أشار إليه «تشومسكي» بالكفاية والأداء أو الإنجاز الفطري الوراثي. فالإبداعيَّة، هي التي تضمن استعمال نظام اللُّغة استعمالًا ابتكاريًا، فهي القدرة على إنتاج عدد لا محدود من الجُمل انطلاقًا من عدد محدود من الكلمات والقواعد بحيث يتم الإنتاج بشكل ابتكاري غير مُكرَّر.
ووفقًا لتشومسكي، فإن اللسانيّ وصاحب اللُّغة يتمتعان بقُدرة لُغويَّة مُتمثّلة في الحدس تمكّنهما من معرفة الجُمل من حيث استحالتها واستقامتها. ومن هنا، ذهب «تشومسكي» في كتاب «التراكيب النحويَّة» إلى أن الجُمل التي يولِّدها النحو لا بد أن تكون مقبولة من قِبل اللساني أو صاحب اللُّغة، وفيما يتعلّق بمكانة الحدس في القواعد التوليديَّة، يقول «ليونز»: «إنَّ تشومسكي قدَّم حدس صاحب اللُّغة على أساس أنه دليلٌ مستقر، ولكن الشرح الذي يقدمه هذا الحدس عدَّه دليلًا ثانويًا للمهمة الأساسيَّة لتوليد الجُمل. ولكن في عمله الأخير، اعتبر تشومسكي حدس أبناء اللُّغة جزءًا من المادة اللُّغوية data التي تقوم القواعد بدراستها، وأصبح الآن يعتمد على صحة هذا الحدس أكثر من ذي قبل عندما كان مهتمًا باختباره بوساطة تقنيات عملية مُرضية». والسؤال الآن هو: هل ثمَّة علاقة بين المفهوم التوليدي التشومسكي وبين المدرسة التوليديَّة؟
إذا ما قارنا المفهوم التوليدي والمدرسة التوليديَّة، فسنرى أنَّ المدرسة التوليديَّة عبارة عن نظريات لسانيَّة امتدّ تأثيرها ليشمل (بجانب الحقل اللسانيّ) مَجالاتٍ أخرى مثل: الفلسفة، وعلم النفس، حيث تعتمد هذه المدرسة في مناهجها على استخدام ما يُعرف بالقواعد التوليديَّة، والتي بلغ تأثيرها في النظريَّات النحويَّة حدًّا يمكن معه القول إنَّ القواعد التوليديَّة عبارة عن قواعد سائدة في الدراسات اللسانيَّة إبان الأربعين سنة الأخيرة. وهكذا، شاع وصف العام 1957 بأنه نقطة تحوّل في لسانيَّات القرن العشرين، غير أنه من الإنصاف القول: إنَّ بعض اللسانيين يرون أنَّ عام 1959 هو العام الأكثر أهميَّة، ذلك عندما رفض «تشومسكي» النهج السلوكيّ في استخدام اللُّغة بوصفه نتاجًا غير مقبول للتجريبيَّة الصارمة في المدرسة السلوكيَّة البلومفيلديَّة. وبالتالي، تكمن الفكرة الأساسيَّة التي توجِّه المنهج التوليديّ في سمة الإنتاجيَّة في اللُّغة التي بمقتضاها يستطيع المتكلم أن يؤلِّف، ويفهم جُملًا جديدة لا متناهيَّة لم يسبق له أن سمعها من قبل، وهي السمة التي تُميِّز الإنسان عن الآلات والحيوانات. فإذا كان الأطفال قادرين على استخدام جُمل جديدة يعدّها الكبار سليمة في صياغتها، فذلك يعني أن ثمَّة شيئًا آخر يتجاوز مُجرد محاكاة الجُمل التي سمعوها من الكبار، وهو أنهم يولَدون بقدرة لُّغويَّة تمكنهم من فعل ذلك. فإذا كان الأمر كذلك، فعلينا أن ندرس تلك القدرة التي تُمكِّن المتكلّم من إحداث جُمل جديدة وفهمها، بدلًا من أن نوجّه اهتمامنا إلى جمع المادة اللُغويَّة من أفواه المتكلمين؛ لأنه مهما توسّعنا في جمع المادة اللُغويَّة، فإننا سنعجز عن تغطية كل المادة التي نحتاجها، بل ربما حتى القدر الكافي منها.
إذن نجد أنَّ المدرسة التوليديَّة ما هي إلا مذهب أو نزعة تضم إلى جانب الحقل اللسانيّ عدة حقول أخرى، كالفلسفة وعلم النفس، تتشارك جميعًا في مناهج تستخدم قواعد توليديَّة، وبالتالي ليس ثمَّة اختلاف بين الاصطلاحين، فبينما يُمثِّل المفهوم التوليدي تنظيم العناصر اللُغويَّة التي تتجسَّد في مبدأ الارتباط (ماديًا ومعنويًا)، فإن المدرسة التوليديَّة بحقولها قائمة بشكلٍ جوهري على تلك القواعد التوليديَّة.
2. التحويل
لا رَيب في أن التحويل يحتلّ المكانة الرئيسيَّة والثوريَّة في النظريّة اللسانيَّة التشومِسكيَّة، إذ تكمن مهمة النظريّة في تحويل البنى العميقة إلى بنى متوسّطة سطحيَّة. وبعبارةٍ أخرى، فإنها تربط البنى العميقة بالبنى السطحيَّة، أمّا إذا ما اقتضى الأمر تطبيق أكثر من عملية تحويليَّة، فإن البنى المتوسطة يقوم بتوليدها عدد من التحويلات حتى يتم تكوين البنية السطحيَّة. وإذا ما تتبّعنا تاريخ المفهوم التحويلي، فسنرى أن «زيلج هاريس» (1909- 1992)، هو أول من نادى بالمصطلح قبل أن يتناوله «تشومسكي» على نحوٍ مُفصَّل. وقد ذهب «هاريس» إلى أنَّ التحويل يجري باشتقاق جُملة أو عدد من الجمل تُسمى nonkernel sentences من جملة تُسمى «الجملة النواة».
يقول «تشومسكي»:
«عندما نُسمي التحويلات الإلزاميَّة فقط في توليد الجُملة، نُسمي الجُملة الناتجة بجُملة النواة. تظهر أيضًا دراسة الجزء الخاص ببنية العبارة والجزء الخاص بالقواعد المورفوفونيميَّة من نظام القواعد، أن نستخلص مجموعة أساسيَّة من القواعد الإلزاميَّة التي يجب أن تُطبَّق كلما وصلنا إليها في عملية توليد الجُمل..».
ومن أمثلة الجملة النواة: (فَهِمَ زيد الدرس)، وهذه الجُملة مُثبتة مبنيَّة للمعلوم، لكن عند تحويلها إلى جُملة مبني فعلها إلى المجهول، تصبح (فُهِمَ الدرس). ويكون التحويل قد حدث على النحو الآتي:
الفعل + مورفيم البناء للمعلوم + اسم + اسم: (فهم زيد الدرس).
الفعل + مورفيم البناء للمجهول + اسم: (فهم الدرس).
وبشكلٍ عام، فإن الطريقة المتّبعة هي أنه بعد تطبيق القواعد التركيبيَّة تُطبَّق مُباشرة القواعد التحويليَّة على السلسلة النهائيَّة المستعملة بكثرة في حقل الرياضيات:
الحذف أ + ب ب
الإحلال أ ب
التوسّع أ ب + ج
الاختصار أ + ب ج
الزيادة أ ب + ج
إعادة الترتيب أ + ب ب + أ
إذًا، يمكن تلخيص مبدأ التحويل التشومِسكي في أن اللسانيّين قادرون على تحويل الجُملة الواحدة إلى عدد لا متناه من الجُمل. فإذا أخذنا الجملة التي تقول: (عَزفت الفرقة الموسيقيَّة لحن الرجوع الأخير)، وأجرينا عليها تحويلات، انتهينا إلى اشتقاق جُمل كثيرة، وذلك كما هو مُبيَّن فيما هو آتٍ:
عزفت الموسيقى لحن الرجوع الأخير (بالبناء إلى المجهول)
عُزف لحن الرجوع الأخير (بالبناء إلى المجهول والحذف)
عزفت الفرقة لحن الرجوع الأخير (بحذف كلمة الموسيقى)
الفرقة الموسيقيَّة عزفت لحن الرجوع الأخير (بالتقديم والتأخير)
الفرقة عزفت لحن الرجوع الأخير (بالتقديم والتأخير، والحذف)
وهكذا، يصبح التحويل عند «تشومسكي» بابًا مفتوحًا على مصراعيه للنفي، والتأكيد، والبناء للمجهول، والعطف، والزيادة، والحذف، والتقديم، وغير ذلك من الموضوعات. وهو يستعمل التحويل ليُحدِّد به أصناف القواعد التي تقوم بالعمل بعد التوصّل إلى المكوِّن الخاص بــ «بنية العبارة»، وهو المكوِّن الذي ينتج البنية الأساسيَّة للجُملة؛ إذ إنَّ هناك مستويين من التحليل لتمثيل بنية الجُمل في النحو التحويلي؛ مستوى أوَّل يتعلّق بالبنية التركيبيَّة الأساسيَّة للعبارة، ومستوى ثانٍ له علاقة بالقواعد التحويليَّة التي يمكن في إطار تحويلات مضبوطة اشتقاق جُمل معينة من الجُمل الأساسيَّة؛ لذا حقَّق مفهوم التحويل تقدّمًا هائلًا في فَهم هذه الرؤى المتعلّقة بترابط الجُمل. وفي الوقت نفسه، جعل التحويل من القواعد النحويَّة دراسة مُعقدة للغاية، ربما كان هذا الأمر مُعقدًا عندما بدأ اللسانيون يرون التغييرات تحدث في كل اتجاه، ونتيجة لهذا أصبح المفهوم مزعجًا. واليوم، قام «تشومسكي» بتبسيط التحويل وتقليص العمليات إلى عدد محدود من العمليات الأساسيَّة، ولكنه يظل مفهومًا خصبًا في حقل اللسانيَّات المعاصرة.
3 . الكفاية والأداء
يَرى «تشومسكي» أنَّ اللُّغة لها وجهان، أحدهما ذهني محض، وسماه الكفاية، وآخر عملي منطوق مسموع، سماه الأداء. عرفَّ «تشومسكي» الكفاية بأنها القدرة على بناء أنموذج لُغوي ذهني مُشترك بين المرسِل والمستقبِل، وعلى أساسه تتمثَّل القواعد اللُّغويَّة. وقد ظهر هذان المفهومان لأول مرة بطريقة جليَّة في كتاب «مظاهر من النظريّة التركيبيَّة» عام 1965، بمفهومي «اللُغة» و»الكلام» اللذين استحدثهما السويسري «دي سوسير»، إلا أن «تشومسكي» رفض فكرته القائلة بأنَّ «اللُّغة» عبارة عن كتلة من المادة، أو قائمة من المفردات، التي ينتقي منها الشخص الكلام، ولكنه ذهب إلى التمييز بين مُصطلح الكفاية التي تتمثّل في المعرفة اللغويَّة الباطنيَّة للفرد؛ أي مجموعة القواعد التي تعلَّمها. وكذلك مُصطلح الأداء، وهو الاستعمال الفعلي للُّغة في المواقف الحقيقيَّة. إذًا فالكفاية هي نظام عقلي تحتي قابع خلف السلوك الفعلي، وبالتالي لا يقبل الدراسة التجريبيَّة المباشرة؛ لذا فإن الوسيلة للوصول إلى هذا النظام ودراسته هو الاستبطان؛ حيث يُساعد الاستبطان على إصدار أحكام على كل الجُمل من حيث صحّتها النحويَّة ومدى مقبوليتها.
وبالتالي، فإنَّ الكفاية اللغويَّة تتضمن مهاراتٍ ذهنيَّة مُتعددة من أهمها: التصوُّر، ثم التنظيم الذي يجعل كلامنا منظّمًا، ثم التتابع الذي يجعل المهارات الذهنيَّة قادرة على البقاء والاستمرار، ثم الاستدعاء الذي يجعل اللُّغة مطواعًا للحضور في المواقف الحياتيَّة، ثم الاختيار الذي يجعلنا قادرين على انتقاء التعبير المناسب لكل موقف، ثم التقويم الذي يجعلنا نحكم على سلامة لُغتنا أو خطئها.
لذا، تتضمن الكفاية قدرات يمكن ذكرها على النحو التالي:
إنتاج عدد لا مُحدود من الجُمل، وإدراك الناحية النظريّة.
تمييز الجُمل الصحيحة نحويًا من غير الصحيحة.
فهم تركيب الجُمل، ومعرفة دِلالاتها ووظائفها.
تمييز الجمل التي يكون بعضها صياغة جديدة للبعض الآخر.
استبانة الغموض في الُجمل.
أمّا الأداء، فإنَّ أدق وصف له هو ذلك الذي يجعل اللُّغة واقعًا حيًا في المنطوق والمسموع، بحيث يتّحد الأداء الصوتي مع المضمون الدِلالي. وبذلك يكون الأداء هو الصورة الواعية التي تُمثِّل الصورة المعقولة من اللُّغة. بالتالي، يظهر لنا أنَّ الكفاية اللُّغويَّة هي ملكة ذاتيَّة خاصة بمتكلم اللُّغة الذي نشأ بصورة طبيعيَّة في البيئة التي يتكلم بلُغتها، وقد أشار «ابن خلدون» إلى هذه الملكة قائلًا: «اعلم أنَّ اللُّغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها.. وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أنَّ اللُّغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى، التي أخذت عنهم، ولم يأخذوها عن غيرهم»، ثم تابع، قائلًا: «إنَّ صناعة العربيَّة إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة».
4. البنية العميقة والبنية السطحية
ارتبطت الفرضيات الثلاث السابقة في (النظريّة التشومِسكيَّة) بفرضيتين أخريين أيضًا، هما: البنية العميقة، والبنية السطحية. إنَّ البنية السطحيَّة هي البنية الظاهريَّة الماديَّة المتمثّلة بتتابع الكلمات التي ينطُق بها المتكلم، وهي بنية ناتجة عن استخدام القواعد اللُّغويَّة في لُغة معينة. وتشمل هذه البنية جميع المظاهر والعناصر اللّفظيَّة التي تتألف منها الجُملة، وهي تظهر نتيجة تحويل البنية العميقة والتمثيل الصوتي لها. أما البنية العميقة فهي «الأساس البنائي المجرد الذي يُحدِّد المحتوى للجُملة، وهو مُجرد في الذهن حين تُرسَل الجُملة أو تتلقَى»، أو هي الأساس الذهني المجرد لمعنى معين يوجد في الذهن ويرتبط بتركيب جُملي أصولي، ويكون هذا التركيب رمزًا لذاك المعنى وتجسيدًا له، وهو النواة التي لا بد منها لفهم الجُملة ولتحديد معناها الدِلالي، فمثلًا في القول: (يشرح المدرس الدرس بطبشورة يكتب بها على السبورة) نجد أنَّ هذه الجملة تتألف من ثلاث جُمل أصوليَّة (نواة) تُجسِّد كل واحدة منها مَعنى عقليًا في ذهن المتكلم، وهذه الجُمل هي:
يشرح المدرس الدرس.
يكتب المدرس بالطبشورة.
يكتب المدرس على السبورة.
فالجُمل الثلاث أعلاه تجسَّد في مجموعها علاقة بين عناصر رئيسة (المدرِّس، والدَرس، والسبورة، والطبشورة)، هذه هي (البنية العميقة) التي يأتي طور تجسيدها بكلمات مُتتابعة منطوقة في (البنية السطحيَّة)؛ إذ تأتي البنية السطحيَّة هذه متآلفة من الجُمل النواة الثلاث لتكون جُملة تحويليَّة مُعبِّرة عن العلاقة بين الكلمات السابقة كما يلي: «يشرح المدرس الدرس بطبشورة يكتب بها على السبورة». وهكذا، نرى أن «تشومسكي» سعى إلى تعزيز المصطلحين «عميق» و»سطحي» بحيث يُشير اليوم إلى البني: العميقة والسطحيَّة، بهدف تجنّب بعض الإيحاءات المحتملة لكلمات «عسير» أو «معقّد» في كلمة «عميق»، وكلمات «ظاهر» أو «واضح» في كلمة «سطحي».
إذًا، من الأشياء التي أدركها «تشومسكي» سريعًا هي إمكانية مُلاحظة أنَّ مُجرد وصف البنية السطحيَّة للجُمل لا يكفي لتحقيق هذا الغرض، فإذا كان لدينا اثنتين من الجُمل، مثل: (جون حريص على الإرضاء) و(جون من السهل إرضاؤه)، نجد أن لهما البنية السطحيَّة نفسها، ولكنهما جُملتان مختلفتان تمامًا. ففي الأولى، نرى جون هو الشخص الذي يقوم بالإرضاء، بينما الثانية، نراه هو الشخص الذي يتم إرضاؤه. وهكذا، من الواضح أن ثمَّة علاقات بنيويَّة مُختلفة كامنة وراء هذا الوصف البسيط لأشكالها السطحيَّة. ولقد دفعت مثل هذه الملاحظات «تشومسكي» إلى افتراض وجود المستويين السابقين من البنى: العميقة والسطحيَّة. ويُعني هذا أنه بدلًا من وجود قاعدة نحويَّة واحدة فقط، وسيكون هناك مستويان: الأول يتألّف من قواعد لدمج المكوّنات والتحكّم في مُدخلات البنية العميقة، بينما تُحدِّد الثانية القواعد التي يتم من خلالها اشتقاق البنية السطحيَّة؛ وقد أطلق «تشومسكي» على هذا النمط من القواعد اسم القواعد التحويليَّة.
وبالانتقال بإيجاز إلى الجُملتين السابقتين، يُدعى «تشومسكي» أنهما مُشتقّتان من بنيتين عميقتين مُختلفتين، وهو ما يمكن (وفقًا لاتفاقيات طريقة التمثيل المعروفة بالشكل المنطقي) التعبير عنها بالطريقة التالية:
جون حريص على الإرضاء.
يكون (جون، حريص على) + الإرضاء (جون، شخص ما)
جون من السهل إرضاءه.
يكون (جون، من السهل) + إرضاءه (شخص ما، جون)
بناءً على الطريقتين أعلاه، نجد أنّ الفرق بين الجُملتين يكمن في الشق أو الجزء الثاني لكل منهما. ففي الجملة الثانيَّة، نرى أن جون هو المفعول به للإرضاء (وهو ما يشير إليه موضعه بين قوسين)، بينما نرى في الجُملة الأولى أنَّ جون هو الفاعل. ولذلك، فإن القواعِد التحويليَّة في الإنجليزيَّة تسمح لكل جُملة بالدمج بُطرق ينتج عنها البنية السطحيَّة نفسها. ومع ذلك، فإن معرفتنا البديهيَّة لبنيتيهما العميقتين المختلفتين تسمح لنا بتفسيرهما بشكل صحيح.
وعلى هذا الأساس، ثبت أنَّ التمييز بين البنيتين: العميقة والسطحيَّة مفيد في تقديم تفسير لعدد من الخصائص اللُّغويَّة التي لا يستطيع البحث اللسانيّ الوصفيّ وحده أن يوفرها. فالغموض، على سبيل المثال، خاصيَّة مُتكرّرة ومُشتركة في اللُّغة، لا يتم الكشف عنها من خلال الشكل السطحي وحده. على سبيل المثال، الجُملة التي تقول: (لقد ألقت الشرطة القبض على عصابة جوس في سيارتهم الباندا)، حيث يمكن أن يكون الجزء (في سيارتهم الباندا) مُقيّدًا، إمّا للشرطة أو لعصابة جوس. ولكن باستخدام النهج التحويلي يمكننا أنَّ نرى أن ثمَّة بنيتين عميقتين مُختلفتين مُحتملتين لهذه الجُملة: بنية سطحية مُشتركة؛ ومن ناحيةٍ أخرى، من الممكن أن يكون العكس صحيحًا أيضًا، أي أنَّ البنى السطحيَّة المختلفة يمكن أن يكون لها البنية العميقة نفسها، على سبيل المثال، الجُمل التي تقول (القط عضّ الكلب) و(الكلب عضه القط)، عبارة عن نُسخ نشطة وسلبيَّة من البنيَّة الأساسيَّة نفسها.
لم يبق إلا أن نذكر الأبعاد الفلسفيَّة التي تنبثق من هذه المبادئ التشومِسكيَّة؛ إذ إنَّ لهذه المبادئ أصولًا جوهريَّة يمكن ذكرها في المحور التالي والأخير.
المحور الثاني: ملاحظات نقدية على اللسانيات التشومسكية
إنَّ الأفكار والنظريَّات التي طرحها «تشومسكي» تستند في جوهرها إلى أُسس فلسفيَّة عقليَّة، إذ لا يضع «تشومسكي» تمييزًا صارمًا بين الفلسفة والعلم، ويستشهد ببعض الفلاسفة الذين تعتمد أفكارهم على أصول علميَّة، مثل ديكارت وهيوم، ويرى أنَّ دراسة اللُّغة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بدراسة الفكر أو العقل، إن لم تكن الدراستان دراسة واحدة أصلًا. وبعد أن أثبت «تشومسكي» إخفاق المذهب التجريبي والمذهب السلوكي اللذين ارتكزت عليهما اللسانيَّات البنيويَّة، طفق هو يبحث عن مبادئ أخرى، حتى وجد ضالّته في المذهب العقلي عند ديكارت وليبنتز وهمبولت وأنصار منطق بور رويال. وهكذا، يمكن القول إنَّ هذه الأفكار والنظريَّات تتضمن مجموعة من الأُسس التي يمكن تحليل مبادئها، وبالتالي نقدها، وتتمثل بما يلي:
5. الفِطرة اللُغَويَّة
تُعدُّ فكرة الفِطرة اللُّغويَّة في ذهن الإنسان من الأُسس الجوهريَّة للنظريّة التشومِسكيَّة؛ إذ بالمقارنة بين الإنسان والحيوان، نجد أنَّ الإنسان غير السوي –فضلًا عن الطبيعي– يستطيع إنتاج الجُمل والتعبير عمَّا في نفسه، في حين لا تستطيع أذكى الحيوانات فعل ذلك؛ لأن الكلام أو الحديث هو سمة إنسانيَّة، ولا يمكن أن يتم بالترويض أو التدريب كما يجري مع الحيوانات. بالتالي، يرفض «تشومسكي» رأي المدرسة السلوكيَّة، ولا سيَّما المدرسة البلومفيلديَّة التي ترى أنه لا يوجد أي اختلاف جوهري بين لُغة الإنسان وبين التنظيم الاتصالي لدى الحيوان، فالاستجابة الكلاميَّة للمُثيرات المختلفة عند الإنسان مُماثلة لاستجابة الحيوان للحوافز؛ ولذلك رفض «تشومسكي» التسليم بهذا الرأي، فاللُّغة الإنسانيَّة تختلف اختلافًا جوهريًا عن أي تنظيم اتصالي لدى الحيوان، وما جعله يتشبَّث بفكرته هو تدُّرج الطفل في الكلام؛ إذ يبدأ بإنتاج الجُمل في سن (عامين أو ثلاثة)، وما إن يصل إلى سن أخرى (السادسة مثلًا)، حتى يكون قادرًا على التعبير عمَّا في داخله بجُمل كثيرة لم يسمعها من قبل، حيث يستطيع التمييز بين الجُمل السليمة وغير السليمة.
على هذا الأساس، قام «تشومسكي» بدحض المزاعم التي تذهب إلى أنَّ دارس اللُّغة طفلًا كان أم راشدًا يبدأ بتعلُّم تلك اللُّغة ويكون ذهنه كصفحة بيضاء يُنقش عليها النماذج اللُّغويَّة التي يتعلَّمها، وعند الحاجة يلجأ إلى ما لديه من مخزون ويختار النماذج التي تُناسب المقام. ولقد أثبت أنَّ الطفل يكتسب لُغته الأم عن وعي وإدراك حتى في سنه المبكر للغاية، وأنه عند استيعابه القواعد المختلفة التي تعتمد عليها اللُّغة، تتكون عنده القدرة على تركيب الجُمل المختلفة التي يريدها في الوقت والظرف المناسبين دون أن يكون بالضرورة قد سَمِع تلك الجُمل أو حفظها ممَّن حوله، وذهب إلى أبعد من ذلك، فذكر أنَّ الطفل لا يولد وذهنه صفحة بيضاء، بل يُولد ولديه قُدرة فطريَّة على تعلُّم أي لُغة من لُغات العالم، وهو لا يكتسب اللُّغة عن طريق السماع والمحاكاة والحفظ فقط، بل إنه يحاول أن يضع ما يسمعه من كلام اللُّغة التي يعيش بين أهلها في القوالب العامة لجميع اللُّغات التي وُلِدَ بها. كما أنَّ اللُّغة عند «تشومسكي» هي بمنزلة اللحظة الفارقة في تاريخ الكون بأكمله، فهي التي تُميّز الإنسان عن الكائنات الأخرى التي تعيش معه في هذه الأرض وداخل إطار الطبيعة، ولكنها مع ذلك ليس لها الفطرة اللُّغويَّة. ولُغة البشر مختلفة جوهريًا عن لُغات الحيوانات وطرائق التواصل بينها؛ لذلك فإن «تشومسكي» يتحدَّث هنا عن «مُعجزة اللُّغة» التي فيها يُكوَّن المجمتع وتتقدَّم الحضارة ويَظهر الفكر.
وكدليلٍ على رؤية «تشومسكي» (الثورية التوليديَّة) للُّغة بُحسبانها مفطورة في العقل، فإنه يُشير إلى الزمن الذي يقضيه الطفل (الذكور منهم والإناث، الأذكياء منهم والأغبياء) في تعلُّم لُغته الإنسانيَّة، فهذا الطفل يتعلَّم لُغته بسرعة وبلا جهد وبكفاءة عالية خلال عام (وهو وقت أقصر من الوقت الذي يستغرقه بعض الرجال في تعلُّم قيادة سيارة)، مع أن وصف قواعد أي لُغة قد يستغرق عدة سنوات من الباحثين. ومن ثمَّ، يصل الطفل إلى مرحلة امتلاك اللُّغة بين سن الخامسة والسادسة، أي أنه يمتلك ناصية نظام لُغوي مُتكامل، مُكوَّن من مجموعة هائلة ومُركَّبة من القواعد، ويتطلَّب استخدامه كثيرًا من قواعد المنطق (الاستقراء والقياس) وقواعد التحويل وقواعد الترتيب التي لو تعلّمها الطفل عن طريق الاكتساب لاستغرق ذلك عشرات السنين. وبالتالي، فإن اللُّغة الإنسانيَّة أفضل مرآة تعكس قدرة العقل، وبالتالي ثمَّة تماثل بين بنيتي العقل واللُّغة، أي أنَّ اللُّغة هي بمنزلة البناء السطحي لبنية أكثر عمقًا هي العقل الإنساني الفريد.
غيرُ أنَّ المضايقات النقديَّة التي وُجِهت للنظريّة التوليديَّة مُتّهمة إياها بإهمال الشق الدِلالي في اللُّغة دفعت «تشومسكي» إلى مُراجعة منوالاته للإقرار بأهمية الدّلالة في تحقيق الفَهم الأكمل للعملية اللُّغوية، لا سيَّما في حيّزها الذهني، إلا أنه يُعارض اعتبار المكوّن الدِلالي ناتجًا عن ضرب من الاكتساب والتواضع، ويذهب إلى أنَّ الدّلالة جزءٌ من الفطرة اللُّغوية التي تنمو بنمو الوظائف اللُّغوية في الدماغ. وقد حاول باحثون كثيرون إثبات حقيقة الأُسس العصبيَّة للُّغة من خلال عديدٍ من المعطيات الاختبارية (التجارب) التي يوفرها حقل علم النفس العصبي وعلم الأحياء البيولوجي. في حين يؤكد باحثون آخرون نسبيَّة هذه النتائج على غرار ما يذهب إليه «ملنر» في كتابه: مُقدمة لعلم اللُّغة، معتبرًا أنَّ القول بفطريّة اللُّغة قولٌ فلسفيٌ استدلالي محض لا تثبته التجربة ولا يُقرّه الاعتبار العلمي.
ولكن ما ذكره تشومسكي من الفطرة اللغوية يستند إلى مبدأ تحليلي ذكره، وهو مرتكز على قضية الإبداع في اللغة، فأرجع الإبداع إلى مسألة دماغية حيوية، وأن غريزة اللغة من خصائص الإنسان.
ولكن لا يخلو هذا الاستنتاج والتحليل من الخلط بين الحيثيات؛ إذ يمكن تفسير الإبداع في اللغة دون الرجوع إلى مسألة الفطرة اللغوية، وذلك أن اللغة التي تتمثّل بالجمل والتراكيب المختلفة تتألف من حيثيتين:
المادة اللغوية
الهيئة
«المراد من هيئات الجمل هي الكيفيّات التي تتميّز بها أنواع الجمل، كالجمل الإنشائيّة والجمل الخبريّة والجمل التامّة والجمل الناقصة وغيرها، وكلّ نوع من أنواع هذه الجمل وُضع بوضع خاصّ، ووضعها من سنخ وضع المعاني الحرفيّة. لاحظ ما ذكرناه تحت عنوان الجمل التامّة والناقصة والجمل الإنشائيّة والخبريّة».
فأمّا المواد اللغوية التي تمثّل البسائط التي تتركّب منها التراكيب المختلفة مأخوذة على نحو التعليم والحاجة الاجتماعية للتفهيم، وليست من الأمور الفطرية، فلا يمكن للطفل مثلًا أن يستخدم كلمة لم يسمعها ويحفظها لتفهيم معنى من المعاني، بل كل المخزون اللغوي مأخوذ من التعليم والتعلم والتكسّب بحسب المعاشرة.
أما بالنسبة للهيئات، وصيغ التركيبات، سواء أكانت هيئات صرفية لمادة لغوية واحدة أو تركيبات جملية، كالتركيب من الفعل والفاعل وغيرها، فيكون شأنها التعلم والتكسّب أيضًا، غاية الأمر أن الطفل أو أيّ متعلِّم لأيّ لغة قد يأخذ مادة تعلَّمَها ويضعها في تركيب وهيئة تعلَّمَها أيضًا، وإن لم تكن المادة بهذه الهيئة مما سمعه وحفظه، ومثال ذلك أن يكون للطفل مخزون من كلمة الأسد والجدار والركض والقفز والإنسان، وقد سمع هذه المواد ضمن تراكيب مثل « قفز الإنسان على الجدار» و» ركض الأسد»، ثم يأتي الطفل فيستعمل هذه الكلمات في تراكيب أخرى أيضًا قد تعلَّمها سابقًا، فينشئ جملة «قفز الأسد على الجدار» و» ركض الإنسان»، فهذا ليس إبداعًا، بل تبديل للهيئات والمواد المخزونة.
ومن هنا قد يأتي السؤال عن اختصاص الإنسان باللغة، فهذا الأمر يمكن القول بأنه يرجع إلى خاصية الاعتبار والاجتماع التي يتميز بها الإنسان، حيث إن اضطرار الإنسان للاجتماع بسبب الحاجات التي ترجع لا يمكن إنجازها إلا بالاجتماع وبناء الروابط، مما أدى إلى نشوء ما يسمّى الاعتبارات الاجتماعية، منها وضع القوانين، ومنها وضع اللغة، وقد نصّ الكثير من الأصوليين على ذلك، ومنهم العلامة الطباطبائي، حيث قال: «لا ريب أن انفهام المعنى من اللّفظ أعني المعنى الخاصّ من اللّفظ الخاصّ بحسب أي لغة من اللغات، ثم دوام ذلك واستمراره بعدم التخلّف والاختلاف، يكشف عن نسبة بينهما وارتباط لأحدهما بالآخر أو لا، وعن كون هذه النسبة ثابتة غير متغيرة ثانيًا، لكن النسبة الثابتة بينهما بحسب لغةٍ وعند قومٍ مغفول عنها أو مجهول بحسب لغة أخرى وعند قوم آخرين، ولو كانت نسبة خارجية حقيقية لم يختلف في إثباته ونفيه الإفهام على ما هو الشأن في الأمور الخارجية الحقيقية، فإذن النسبة الثابتة بين اللّفظ والمعنى الاعتبارية غير حقيقية هذا.[...]
ثم انا إذا تأمّلنا في حال الإنسان، بل كثيرًا من الأنواع الحيوانية، وجدنا مسألة تفهيم ما في الضمير من الضروريات التي تمسها الحاجة الأولية من حيث الاجتماع والتقارن الذي بينهم، فهو من الاعتبارات العامة الأولية يتلو اعتبار الاجتماع [...] ويتبين بذلك كله أن وضع جل الألفاظ باستثناء الأعلام الشخصية وضع تعيني لا تعييني وإنما هو الإنسان مفطور على ذلك بفطرته الاجتماعية».
فبناء على هذا الأمر الذي طرحه العلامة الطباطبائي، يمكن التمييز بين فطرتين:
الفطرة الطبيعية
الفطرة الاجتماعية
فأما الفطرة الطبيعية في ما تقتضيه أصل الخلقة بالنسبة لكل فرد فرد على حدة من دون نظر إلى الاجتماع ومقتضياته، وهذه الفطرة من قبيل فطرة حب الكمال أو فطرة حب العلم والاستطلاع وغير ذلك، بحيث إن الفرد بنفسه ولو خلي وطبعه الإنساني يشتاق ويحب ويطلب هذه الأمور، وليست مرتبطة بحقيقة أنه فرد ضمن مجتمع أو أسرة أو وطن وغير ذلك.
وأما الفطرة الاجتماعية، فالمقصود منها أن الإنسان بحكم كونه في عالم الطبيعة لا تتم حياته البدنية إلا بالتعاون والاستخدام والاجتماع، فإنه يقوم اضطرارًا لإنتاج منظومة الاعتبار والتي تنشأ في شكل القوانين واللغة وغيرها، فهذه الفطرة الاجتماعية ليست فطرة ترجع إلى عوامل بيولوجية أو عقلية أو غريزية.
6. العَقل واللُّغَة
إنَّ النظريّة التشومِسكيَّة (التوليديَّة التحويليَّة) تسعى إلى مُعالجة اللُّغة من مُنطلق أنها مكوّن أساسي من مكونات العقل الإنساني ونتاج عقليٌ خاص بالإنسان. وتعتبر أنَّ قواعد اللُّغة قائمة بشكلٍ أو بآخر في عقل الإنسان كتنظيم يُخصّص الخصائص الصوتيَّة والتركيبيَّة والدِلاليَّة لمجموعة لا متناهيَّة من الجُمل الممكنة. وهذه القواعد قائمة بشكلٍ ضمني في الملَكة اللسانيَّة (أو الكفاية اللُّغويَّة) العائدة إلى مُتكلِّم اللُّغة، وبالتالي هي مُمثَّلة في عقول مُتكلّميها. وتُحدّد اللُّغات بواسطة هذه القواعد الضمنيَّة، ويكون بإمكان متكلمي اللُّغة التواصل فيما بينهم بمقدار ما تكون اللُّغات المخصَّصة بهذه القواعد القائمة في عقولهم، متشابهة. وكون اللُّغة نتاجًا عقليًا، الإقرار بوجود بنيَّة فطريَّة مُختصة ولازمة لتكوين اللُّغات الإنسانيَّة؛ وذلك لأنه حين يكون بالإمكان من خلال مُعطيات مُحدَّدة وغير منظّمة اكتساب تنظيم إدراكي غنيّ ومعقّد في مدة زمنيَّة قصيرة نسبيًا، وبشكل منتظم ومتماثل (كما هو الحال بالنسبة لاكتساب التنظيم اللُّغوي من خلال الكلام الذي يسمعه الطفل من حوله)، يكون بالإمكان، في الواقع، افتراض أنَّ وراء هذا الاكتساب (جهازٌ عقليٌ) خاص ينبغي على الباحث أن يحاول تحديد طبيعته وخصائصه، وتعيين المجال الإدراكي المرتبط به، والعلاقات القائمة بينه وبين تنظيمات أخرى عائدة إلى البنية العامة للفكر.
وفي هذا الصدد، يقول «تشومسكي»: «... من الجلي أنَّ كل لُغة هي نتيجة لتفاعل عاملين: الحالة البدئيَّة وسيرورة الخبرة. يُمكننا التفكير بالحالة البدئيَّة بوصفها (جهاز اكتساب اللُّغة) الذي يأخذ الخبرة كــ (مَدخل) ويعطي اللُّغة كـ (مخرج) يتم تمثيله في العقل أو الدماغ».
بالتالي، يتضح أنَّ المنطلقات الأساسيَّة التي طبعت النظريّة التشومِسكيَّة بطابعها الخاص هي مُنطلقات عقلانيَّة. ويستند المنحنى العقلاني هذا في هذه النظريّة، إلى الدراسة المتعمقة التي تناولت قضايا اللُّغة وعملية اكتسابها ومظاهر أدائها. ويتفق في ذلك مجددًا مع المذاهب والآراء العقلانيَّة التي من أبرزها في مجال اللُّغة، مذهب الفرنسي «ديكارت» وآراء الألماني «همبولد». ويفترض المنحنى العقلاني فعلًا، وجود حقيقة عقليَّة تكمن ضمن السلوك الكلامي. فكل أداء كلامي إنما يصدر عن معرفة ضمنيَّة بقواعد معينة. فالفعل الكلامي هو فعل عقلي في المقام الأول، وإن يكن مرتبطًا بالتبادل بالفعل الفيزيائي، غير أنَّه فعل مختلف نوعيًا؛ إذ لا يمكن اعتبار النشاط اللُّغوي مقتصرًا على النشاط الفيزيائي، فمقدرة التكلّم قائمة بالذات على وجود آليَّة عقليَّة بالغة التعقيد ضمنها، مما يُتيح لنا القول إنَّ اللُّغة، من هذا المنظور، هي انعكاسٌ للعقل الإنساني.
إذًا، يكمن إبداع «تشومسكي» (والثورة البنيوية التوليديَّة ككل) في عملية النظر إلى البناء التحتي لا بحُسبانه بناءً موضوعيًا ماديًا مُصمتًا مُغلقًا، وإنما بحُسبانه علاقات وأفكارًا كامنة في العقل ذاته، تُعبِّر عن نفسها من خلال أشكال وظواهر كثيرة. والعقل الإنساني – وفقًا لتشومسكي – هو أعمق البنى. وهذا العقل ليس عقلًا سلبيًا ولا صفحة بيضاء، ولا يكتسب أفكاره تدريجيًا (تراكميًا) من البيئة المحيطة به، ويدور في أنساق مُغلقة مُصمتة اختزاليَّة، كما يرى السلوكيون، وإنما هو عقلٌ نشطٌ فعّال يمتلك إمكانات إبداعيَّة وملكات مفطورة كامنة فيه هي في الواقع أشكال وبنى قبليَّة تتبع قواعد معينة ذات مقدرة توليديَّة تؤدي دورًا أساسيًا في عملية اكتساب المعرفة. وهذا يُعني أنَّ الإنسان لا تتحكّم فيه الدوافع الخارجيَّة أو البيئة، وأنَّ قدراته الإبداعيَّة التوليديَّة تمنحه قدرًا كبيرًا من الاستقلاليَّة والحريَّة، وأنه يدور في إطار أنساق مركّبة مفتوحة تختلف عن الأنساق الطبيعية المغلقة.
ولهذا نجد أن نُقطة الانطلاق عند «تشومسكي» عقلانيَّة جوانيَّة استدلاليَّة، وليست تجريبيَّة برانيَّة استقرائيَّة، فهو يبدأ من العام والبنية والنمط ومن المعطيات القبليَّة الكامنة في عقل الإنسان.
وهنا تكمن إشكالية أخرى في الفكر اللساني عند تشومسكي ترجع إلى نظريّة المعرفة عنده، وهي أنه لا يبالي بالبعد العقلي المجرد من البحث، ويعتبر أن كل ظاهرة لا بد من تفسيرها ببعدها التجريبي الإمبريقي، وبالتالي فهو يصل إلى طريق مسدود في تتميم نظريته اللسانية خاصة فيما يتعلق بالبينة التحتية، وأما إذا رجعنا إلى التحليل الإبستمولوجي الذي يوسع الواقع ليشمل المادة والمجرد عن المادة وبالتالي عدم حصر المعرفة بالمعرفة ذات البعد الإمبريقي، بل تشمل حتى الفكر الفلسفي المجرد، فإن الباب ينفتح أمام تحليل البنية التحتية والمصدر العلمي والفكري لأي كلام ودلالة لفظية، وهذه المسألة تعتبر من ضروريات البحث الفلسفي فيما لو أخذنا الفلسفة في دائرة العالم الإسلامي، حيث نجد إقرارًا بأسبقية العلم والتعقّل المجرد على التلفظ وإنشاء الدلالات اللغوية، ويمكن بيان هذا الأمر بأن التلفظ والفعل اللغوي الإنساني هو من الأفعال الإرادية، وكل فعل إرادي فلا بدّ له من مراحل يمر بها حتى ينتج، وهذه المراحل هي:
العلم
الإرادة
القدرة البدنية
يذكر صدر المتألهين هذه النقطة حيث يقول: «كل حركة اختيارية منبعثة عن قوة شوقية هي قبل القوة المباشرة للتحريك والشوق لا ينبعث إلا عن إدراك من قوة تخيلية أو قوة فكرية، فالمبدأ الأبعد للحركة إما مبدأ الفكر أو مبدأ التخيل، إلا أنه ليس ولا واحد منهما واجب الحصول بعينه».
وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من تخصيص علمي لاستعمال القدرة التلفظية في الإنسان، ومن دون هذا التخصيص يقع الفعل دون علة غائية، وهو ممتنع. وبعبارة أخرى، إن التلفّظ بأي كلام فعل إنساني اختياري، وكل فعل اختياري لا بد له من علل أربعة هي العلة المادية والصورية والفاعلية والغائية، والعلة الغائية تتمثّل في أن الفاعل إذا أراد أن يستعمل قدرته على النطق فلا بد من مرجّح غير الكلام والألفاظ لترجيح كلام على آخر، فإن قال القائل «أريد ماءً» فإنه لا يقع الفعل التلفظي منه دون الإجابة عن سؤال: لماذا قلت هذا القول ولم تقل قولّا آخر مثل « أريد طعامًا»؟ ولا ينقطع السؤال إلا بطرح مرجّح غائي يرجع إلى أمر عقلي أو فكري خارج عن إطار النظم اللغوي؛ ولذا لا بد أن تكون البنية التحتية للكلام والدلالات بنية غير مادية بل فكرية عقلية، وعليه لا بد من فصل واضح بين العقل واللغة وفق هذا الأمر.
وقد اعتمد الشيخ الرئيس ابن سينا هذه الطريقة في التحليل لإثبات أولى قضايا الفكر، وهي قضية استحالة اجتماع النقيضين، حيث قال في الشفاء: «إنك إذا تكلّمت فلا يخلو إما أن تقصد بلفظك نحو شيء من الأشياء بعينه، أو لا تقصد، فإن قال إذا تكلمت لم أفهم شيئًا، فقد خرج هذا من جملة المسترشدين المتحيّرين، وناقض الحال في نفسه، وليس الكلام معه هذا الضرب من الكلام.
و إن قال: إذا تكلمت فهمت باللّفظ كل شيء فقد خرج عن الاسترشاد.
فإن قال: إذا تكلمت فهمت به شيئًا بعينه، أو أشياء كثيرة محدودة. فعلى كل حال فقد جعل للفظ دلالة على أشياء بأعينها لا يدخل في تلك الدّلالة غيرها.
فإن كانت تلك الكثرة تتفق في معنى واحد، فقد دلّ أيضًا على معنى واحد، وإن لم يكن كذلك فالاسم مشترك، ويمكن لا محالة أن يفرد لكل واحد من تلك الجملة اسمًا، فهذا يسلمه من قام مقام المسترشدين المتحيرين. وإذا كان الاسم دليلًا على شيء واحد كالإنسان مثلًا فاللاإنسان، أعني ما هو مباين للإنسان، لا يدل عليه ذلك الاسم بوجه من الوجوه. فالذي يدل عليه اسم الإنسان لا يكون الذي يدل عليه اسم اللاإنسان، فإن كان الإنسان يدل على اللاإنسان، فيكون لا محالة الإنسان، والحجر، والزورق، والفيل شيئًا واحدًا، بل يدل على الأبيض، والأسود، والثقيل، والخفيف، وجميع ما هو خارج مما دل عليه اسم الإنسان. وكذلك حال المفهوم من الألفاظ هذه، فيلزم من هذا أن يكون كل شيء وأن يكون ولا شيء من الأشياء نفسه، وأن لا يكون للكلام مفهوم. ثم لا يخلو إما أن يكون هذا حكم كل لفظ، وحكم كل مدلول عليه باللّفظ، أو يكون بعض هذه الأشياء بهذه الصفة، وبعضها بخلافها. فإن كان هذا في كل شيء، فقد عرض أن لا خطاب ولا كلام، بل لا شبهة ولا حجة أيضًا».
7. القواعد العالميَّة
تُعرف القواعد العالميَّة بأنها نظام بيولوجي يستهدف تفسير القواعد النحويَّة الفردانيَّة المختلفة. ولا ينبغي الخلط بين القواعد العالميَّة والنظريّة النحويَّة نفسها؛ إذ إنَّ القواعد العالميَّة تمثل موضوعًا للدراسة ضمن النظريّة النحويَّة. وتاريخيًا، اكتسب اصطلاح القواعد العالميَّة في القرن العشرين معنى ضيقًا في الحقل اللسانيّ، لا سيَّما في نظريّة الأساس الجيني أو الوراثي لاكتساب اللُّغة. ومع ذلك، فإن الغرض من تأسيس هذا المشروع (القواعد العالميَّة) في سياقه الفلسفي يدعونا إلى النظر فيه أيضًا بمعناه الأكثر عموميَّة وتقليديَّة. وبهذا، فإنَّ مُصطلح القواعد العالميَّة، الذي يعود تاريخه إلى البدايات الأولى للتأمّل العلمي البشري هو نحو «عام» أو «فلسفي»، لا يُشكِّل في حدّ ذاته نحوًا إلزاميًا بقدر ما يُنظر إليه على أنه نمط علمي. إنه يهدف إلى تجاوز مرحلة الوصف للوصول إلى مرحلة التفسير العقلانيَّة للظواهر اللسانيَّة. وهناك فرضية فطريَّة في اللسانيَّات تزعم وجود مبادئ قبليَّة تُشكِّل ما يُسمى بالملكة اللُغويَّة أو القواعد العالميَّة المستبطنة داخل الدماغ، وهدف النظريّة اللسانيَّة هو صورنة هذه القوانين العالميَّة في شكل قواعد واضحة وصريحة، بهدف الوصول إلى ما يُسمى بالكفاية التفسيريَّة.
والسؤال الآن هو: كيف يمكن تفسير وجهة النظر التشومِسكيَّة للقواعد العالميَّة؟
تفترض النظريّة التشومِسكيَّة أنَّ الطفل يُولَد وهو مُزوَّدٌ بمعرفة لُغويَّة أو قواعد عالميَّة هي عبارة عن مبادئ عامة تتداخل في تحديد الأنحاء الخاصة بالألسنة. ففي لحظة الولادة، يكون الطفل المزود بالقواعد العالميَّة في مرحلته الأولى أو المرحلة المصدر، والتي يُشار إليها عادةً في كتابات التوليديين بالرمز S0، وهو اختصار لمفهوم المرحلة الصفر (state 0). ولكن قبل الوصول إلى مرحلة المعرفة باللسان، أي امتلاك القدرة اللسانيَّة، يكون الطفل قد مر بمرحلة وسطيَّة تُعرف باسم مرحلة التجربة أو الاحتكاك ببيئة لسانيَّة معينة، حيث يتحدَّد دور هذه المرحلة في تخصيص ما كان عامًا في المرحلة الأولى بناءً على ما توفره التجربة المحدودة جدًا. ومن ثمَّ، تُسمى مرحلة المعرفة باللسان باسم المرحلة النهائيَّة أو المرحلة الهدف.
وهكذا يتعيَّن على اللساني أو عالِم اللُّغة أن يقوم بمهمتين: الأولى هي وصف قدرة المتكلّم وحصيلة هذا الوصف هو النحو الخاص بكل لُغة، والثانية هي وصف المعرفة اللُغويَّة الفطريَّة لدى المتكلم، أي وصف المبادئ المشتركة في جميع اللُّغات التي تُشكِّل ما يُسمى باسم القواعد الكليَّة أو العالميَّة.
على هذا الأساس، تصوَّر «تشومسكي» أنَّ البشر يقتسمون، بطبيعتهم، بنية معرفيَّة تؤهّلهم جميعًا لأن يكتسبوا هذا اللسان أو ذاك، هذه البنية المشتركة والفطريَّة في نفس الوقت هي ما يُسميه قواعد عالميَّة. وباختصار، فإن «تشومسكي» يتصوَّر القواعد العالميَّة بمنزلة نظريّة غنيَّة ومنسجمة بما فيه الكفاية هدفها هو:
استنباط فرضيَّات حول النشاط اللُّغوي العام.
بناء أنحاء خاصة بالألسن.
ولم يتردَّد «تشومسكي»، وهو يعلن عن نظريته العامة، في أن يُقرّر أنَّ معيار الجديَّة في الطرح اللساني هو اعتماد التصورات التي تخدم فرضية القواعد العالميَّة، حتى إنه فضَّل الأنحاء التقليدية على اللسانيَّات البنيويَّة حينما نعت الأولى بأنها «تقترب من القواعد التوليديَّة لكونها تأخذ بفكرة ضرورة ربط البحث اللُّغوي بالتركيب أولًا، وبما هو مشترك بين الألسن ثانيًا؛ أي بفكرة تأسيس قواعد عالميَّة أو فلسفيَّة. وهي، بذلك، تتفوق على اللسانيَّات البنيويَّة التي تركز على ما يفرق بين الألسن.. إذ إنَّ القدماء انتبهوا إلى فكرة أنَّ ما يمثل اشتراكًا بين الألسن هو خاصيتها الإبداعيَّة». وبهذا المعنى، فإن القواعد العالميَّة، هي المسؤولة الأولى عما يتوصّل إليه المتكلمون من معارف تتعلق بألسنتهم. كما يمثل الجهاز الأمثل لتمكين اللساني والطفل على السواء من التنبؤ بطبقة الأنحاء الممكنة، حيث إنَّ مبادئه تتميز بالانفتاح على مجموع البارامترات التي تُشكِّل كل الاختيارات الممكنة لتحسين تلك المبادئ.
هذا المبدأ أو الأصل الفلسفي للنظريّة اللسانية التشومسكية فيه خلط بين الاعتبار والحقيقة، وبين البعد التجريدي للنفس الإنسانية والبعد المادي؛ ولذا فإذا أردنا أن نضع هذا الأصل تحت ضوء الأصول الفلسفية، فإن القول بوجود قواعد عالمية لسانية بيولوجية غير صحيح تمامًا.
إن أصل اللغة من حيث النشوء كما ذكرنا سابقًا ترجع إلى الفطرة الاجتماعية والتي نشأت من بنية الاعتبار الذي كان نتيجة الحاجة والاضطرار الاجتماعي، وبالتالي لو فرضنا استغناء الفرد الإنساني عن الاجتماع، فإن اللغة لم تكن لتنشأ أصلًا، فأي حاجة للتكلّم لو سلّمنا أن فردًا لا يحقق أي غاية من غايات كماله بالكلام؟ وهذا ما يشهد له غايات الكلام والتي تنحصر بقضية التواصل بين الأفراد، وعندما نتكلّم ههنا عن اللغة، فإننا نقصد اللغة الفعلية التي تتألّف من تراكيب بغاية إيصال المعلومات للآخرين.
وبناء على ذلك كانت القواعد اللغوية التي تحكم الكلام واللغة هي قواعد لم تقم لأجل ذاتها بل لغاية، وهي غاية التفهيم، فكان وضع قاعدة من القواعد لأجل رفع الاشتباهات التي يمكن أن تنشأ لو لم تكن هذه القاعدة، إذا أردنا أن نعطي مثالًا على ذلك فإن قاعدة رفع الفاعل وعلامته الضمة ونصب المفعول به وعلامته الفتحة، كان لأجل رفع الاشتباهات في اختلاط الفاعل بالمفعول به مما يؤدي إلى نقض غرض التفهيم، فقولك (ضرب عليٌ حسنًا) وقولك (ضرب عليًا حسنٌ) لا يختلف بحسب ترتيب مواد الكلمات إلا بحسب الرفع والنصب، ولكننا نجد في الوقت الذي تتحقّق كلمتان لا تظهر عليهما الحركات الإعرابية، نكون أمام مشكلة في تمييز الفاعل من المفعول به كقولك (ضرب موسى عيسى)، ففي هذه الحالة قد تفهم الجملة بأن عيسى هو الفاعل أو أن عيسى هو المفعول به، ففي هذه الحالة وضع العرب قاعدة أن الأصل تقدّم الفاعل على المفعول به، فإنما لجأ العرب إلى وضع هذه القاعدة لأننا أصبحنا أمام حاجة للتفاهم، ولو فرضنا عدم وجود كلمة في اللغة العربية لا تظهر عليها الحركات الإعرابية لما كانت هناك ضرورة لوضع هكذا قاعدة، فالقواعد تابعة للحاجة.
قال العلامة الطباطبائي: «لذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات التي تنبّه لها الإنسان في حياته الحاضرة؛ ولذلك أيضًا كانت اللغات لا تزال تزيد وتتسع بحسب تقدّم الاجتماع في صراطه، وتكثر الحوائج الإنسانية في حياته الاجتماعية».
أما القواعد الكلية الكونية، فهي نابعة من الاشتراك في الحاجات التعبيرية بين جميع أصناف المجتمعات.
خاتمة
إنَّ البحث في الحقل اللسانيّ ليس بالمهمة السهلة على الإطلاق؛ وذلك للأهميَّة التي تُحيط بالإنسان من كل جانب، سواء كمُتلقي للُغة أو مُتكلم بها؛ ولذلك يُعدّ الحقل اللسانيّ من الحقول المهمة التي ظهرت بقوة في بداية القرن العشرين إلى جانب فلسفة اللُّغة. ولا شكَّ في أنَّ هذا الحقل مرَ بالعديد من التغييرات والتعديلات التي بدأت في العصور القديمة في الهند والصين وبلاد ما بين النهرين واليونان أيضًا؛ إذ إنَّ لكل فترة من هذه الفترات فلسفة تدور حول البحث اللسانيّ، الذي انبثق نتيجة البحث الدؤوب في أحوال اللُّغة من كل جانب. وهكذا، لا يمكن إهمال دور العصور القديمة التي بدورها أرست لُبّ ما نراه اليوم في الحقل اللسانيّ.
أمَّا اليوم، فنرى العديد من الإسهامات اللسانيَّة التي انبثقت عن اللسانيين المعاصرين في أوروبا، ذلك نتيجة لظهور العديد من المدارس التي تبنّت آراء تعكس أحوال مُفكريها وظروفهم. وحتى لا نذهب بعيدًا، فإنَّ الثورة التشومِسكيَّة التي قادها الأمريكي نعوم تشومسكي أدّت دورًا رمزيًا لا يمكن لأحد إنكاره على الإطلاق. فقد ساهمت النظريّة التوليديَّة التحويليَّة في فهم الطريقة التي ينتج من خلالها الأشخاص الجُمل بشكلٍ لا متناه وغير محدود، وهذه الجُمل، بحسب تشومسكي، لها بنية نحويَّة مُشتركة بين الجميع عند ولادتهم، والتي يُطلق عليها قواعد عالميَّة أو كليَّة.
لذلك، تتباين تلك المبادئ الفلسفيَّة التي تنعكس بدورها في عناصر أساسيَّة مثل اللُّغة الفطريَّة، والقواعد العالميَّة مع ما جاء في الفكر الفلسفي الإسلامي، ابتداء بفطرية اللغة، ومرورًا بالعلاقة بين اللغة والعقل، وصولًا إلى ما يسمى بالقواعد العالمية للغة.
المصادر
ابنسينا، الحسين بن عبدالله، الإلهيّات مِن الشفاء، شرح: إبراهيم مدكور، قم، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1404هـ.
استيتية سمير، شريف، اللسانيَّات.. المجال، والوظيفة، والمنهج، إربد، عالم الكتب الحديث، ط2، 2008م.
إسماعيل، صلاح، فلسفة اللُّغة، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 2017م.
إفيتش، ميلكا، اتجاهات البحث اللساني، ترجمة: سعد عبد العزيز، وفاء كامل، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ط2، 2000م.
البار، ابتهال محمد علي، «تعليم اللُّغة في ضوء نظريّة النحو التوليدي التحويلي»، ضمن المؤتمر الدولي الأول لمركز البحوث والاستشارات الاجتماعية (لندن) حول موضوعات العلوم الاجتماعية والإنسانية في العالم الإسلامي، 2012م.
بحراني، محمد صنقور علي، المعجم الأصولى، 2جلد، ايران - قم، منشورات الطيار، ط2، 1428 ه.ق
بن علي، سعدون بن أحمد، الروضات الحُسان في حقلي اللُّغة واللسان، بيروت، دار الكتب العلميَّة، 2016م.
بن عيسى، عبد الحليم، القواعد التحويليَّة في الجُملة العربية، بيروت، دار الكتب العلمية، 2011م.
بن مقبل المقبل، هاني، التعددية اللغوية والثقافية في المنظمات اللغوية، في: تاريخ اللغة العربية في منظمة الأمم المتحدة، تحرير: بندر بن عبد العزيز، الرياض، مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، ط1، 2023م.
تشومسكي، نعوم، آفاق جديدة في دراسة اللغة والعقل، ترجمة: عدنان حسن، اللاذقية، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1، 2009م.
ـــــــــــــ، البني النحوية، ترجمة: يؤيل يوسف عزيز، مراجعة: مجيد الماشطة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 1987م.
حسين، حكمت فياض، الفطرة في الإسلام، بيروت، دار الكتب العلمية، 2008م.
زكريا، عبد الوهاب، وأحمد مجدي مت صالح، «ظاهرة الحذف في ضوء نظريّة النحو التوليدي التحويلي، دراسة تحليلية في القرآن الكريم»، بحوث ودراسات، التجديد، العدد 22، 2007م.
زكريا، ميشال، قضايا ألسُنيَّة تطبيقيَّة.. دراسات لغويَّة اجتماعيَّة نفسيَّ مع مُقارنة تراثيَّة، بيروت، دار العلم للملايين، ط1، 1993م.
الشاهري، معد صالح، موقف المفكرين المسلمين من التعددية السياسية، عمان، دار المعتز للنشر والتوزيع، ط1، 2017م.
الشيرازي، صدر المتألهين، الحاشية على إلهيات الشفاء، قم، نشر بيدار، بدون تاريخ.
طباطبائي، محمدحسين، حاشية الكفاية، 2جلد، ايران- قم، بنياد علمى وفكرى علامه طباطبايى.
عابد، نجيبة، الفِطرَة وعلاقتها بأصول التشريع الإسلامي، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 2024م.
عبد المطلب، فاطمة محمد، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة، عمان، دار الجنان للنشر والتوزيع، 2017م.
العبيدي، ليلى، اللغة الداخليَّة، دون دار نشر.
عكاشة، محمود، علم اللُّغة، مدخل نظري في اللغة العربية، القاهرة، دار النشر للجامعات، ط1، 2007م.
علي، عبد الكريم عثمان، معالم الرحمة بين الإسلام والتعددية الثقافية، الجزء السادس، الرياض، جامعة الملك سعود، كلية التربية، 2016م.
العمري، محمد، الأسس الإبستمولوجية للنظريّة اللسانيَّة، عمان، دار أسامة للنشر والتوزيع، 2011م.
فيشر، ستيفن روجر، تاريخ اللُّغة، ترجمة: فايز الجولاني، مركز أبو ظبي للغة، 2022م.
فيصل، غازي، ثنائَّية اللّفظ والمعنى في الدرس اللساني الحديث، بيروت، دار الكتب العلمية، 2022م.
القرني، مكين، اللسانيَّات.. قضايا وتطبيقات، عمان، مركز الكتاب الأكاديمي، 2020م.
المسيري، عبد الوهاب، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر.. سيرة غير ذاتية غير موضوعية، القاهرة، سلسلة مطبوعات الهيئة، ط1، 2000م.
المنظمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم: المعجم الموحّد لمصطلح اللسانيَّات، مكتب تنسيق التعريب، الدار البيضاء، 2002م.
مؤمن، أحمد، اللسانيَّات.. النشأة والتطور، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، ط2، 2015م.
يونس، محمد، مدخل إلى اللسانيَّات، بنغازي، دار الكتب المتحدة، ط1، 2004م.
Barman, Binoy. “The Linguistic Philosophy of Noam Chomsky.” Philosophy and Progress 51, no.1–2 (2012): 103–22. https://doi.org/10.3329/pp.v51i1-2.17681.
Bussmann, Hadumod. Routledge Dictionary of Language and Linguistics. Translated and edited by Gregory Trauth and Kerstin Kazzazi. London: Routledge, 1996.
Dąbrowska, Ewa. “What Exactly Is Universal Grammar, and Has Anyone Seen It?” Frontiers in Psychology 6 (2015): Article 852. https://doi.org/10.3389/fpsyg.2015.00852.
Finch, Geoffrey. Linguistic Terms and Concepts. London: Palgrave Macmillan, 2000.
Hamp, Eric P., and John Lyons. “Linguistics.” In Encyclopædia Britannica. Accessed January 14, 2025. https://www.britannica.com/science/linguistics.
Harris, Randy Allen. “Chomsky’s Other Revolution.” In Chomskyan (R)evolutions, edited by Douglas A. Kibbee. Amsterdam: John Benjamins Publishing Company, 2010. https://doi.org/10.1075/z.154.08har.
Hinzen, Wolfram. “Universal Grammar and Philosophy of Mind.” In The Oxford Handbook of Universal Grammar, edited by Ian Roberts. Oxford: Oxford University Press, 2017.
Ludlow, Peter. “Universal Grammar and Philosophy of Language.” In The Oxford Handbook of Universal Grammar, edited by Ian Roberts. Oxford: Oxford University Press, 2017.
Newmeyer, Frederick J. “Has There Been a Chomskyan Revolution in Linguistics?” Language 62, no. 1 (1986): 1–18. https://doi.org/10.2307/414662.
Ryding, Karin C. Arabic: A Linguistic Introduction. Cambridge: Cambridge University Press, 2014.
Trask, R. L. Language and Linguistics: The Key Concepts. 2nd ed. London: Routledge, 2007.