الباحث : د. علي عبد الكاظم حميد
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 37
السنة : شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : April / 19 / 2025
عدد زيارات البحث : 261
الملخّص
تعد دراستنا محاولة نقد الفكر اللساني الغربي في إطاره النظري المعرفي، واقتصرتْ في ذلك على المفاهيم التي تشكلُّ اللّبنة الأولى، مبتعدًا عن الخوض في تفاصيله التي كَثُر الحديث عنها في الكتب اللسانية، وتتجلّى أهمية هذا الموضوع في الكشف عن المفاهيم الرئيسة التي تشكّل الفكر اللساني لديهم من جهة، ومعرفة طبيعة معرفتهم بالعقل، أمعرفة مادية أم مجردة؟ أو إنّها ذات طبيعةٍ (إبستيولوجية)، ومن جهة ثالثة معرفة مدى العمق اللغوي الذي يمارسه علماء اللسانيات في بناء النظريات اللسانية، وعدم الاكتفاء بنظريّة واحدة مقدسة وذات خطوطٍ حمراء، كما تتجلّى تلك الأهمية أيضًا في معرفة هؤلاء العلماء وتجذّرهم الفلسفي والمنطقي الذي يعد الأساس لبدء دراستهم اللسانية أو الخطوط العامة لدراسة اللّغة.
ويتناول البحث أهم الاشكالات في اللّسانيات الغربية من وجهة نظرهم إلى اللّغة والعقل، لاسيما فيما يتعلق بفكرة (النسق)، و(السلوك الآلي) و(الرمزي الرياضي) في اللسانيات البنيوية أو فكرة تطابق (الدماغ مع العقل) وبيولوجية اللّغة، وعدها عضوًا دماغيًا في اللسانيات التوليدية، أو مثلًا فكرة (جسدنة العقل)، فهذه الأفكار تعد أفكارًا رئيسة في بناء الفكر اللساني الغربي.
الكلمات المفتاحية: ثنائية العقل / الدماغ، جسدنة العقل، مادية العقل، الوجود الذهني، القواعدية.
التمهيد:
يشكّل فهم العقل واللغّة جدلًا واسعًا في الدراسات الطبيعية التجريبية والعقلية وربما في الدراسات الإنسانية، لاسيما في العصر الحديث.
إذ اختلف العلماء بين مؤيدٍ للعقل وبين مستبعدٍ له، وهذا لا يعني أنّ آليات العقل كالتفكير والتذكر والاستدلال ليست حاضرةً عند مَنْ ينكرُ وجوده معرفيًا؛ إذ إنّه مجال رَحبٌ بين علوم مختلفة متداخلة في فهمه، مستعملة مصطلحات تشيع في فضائها العلمي، وقد تشكّل المصطلحات ضمن المجال العلمي المصنوع من قبل العلماء مسارًا يسيرون بها لما تجتذبه وما تطرحه، وقد لا يتطابق ذلك مع الواقع.
كما إنّ التداخل بين العلوم المختلفة جعل من مفهوم العقل زئبقيًا لا يمكن الوقوف على مفهومٍ معينٍ له لدى مجموعةٍ أو مدرسةٍ علمية معينة، ويبدو أنّ تأثر العلوم المختلفة بعلم النفس جعل للأخيرِ عمومية على العلوم المختلفة، لاسيما اللسانيات المعاصرة التي تأثّرت بالنظريّة السلوكية في فهم طبيعة اللغة.
سنحاول البحث عن الأفكار الرئيسة التي تشكّلُّ اللبنة الأولى للفكر اللساني الغربي، سواء أكان على مستوى فهم اللّغة، أم على مستوى فهم العقل، وقد تبيّن لنا اختلاف المدارس اللسانية الكبرى التي شكّلت الفكر اللسانيّ، وهذا الاختلاف ناجم عن التجذّر الفكري وتأثّرهم بالأفكار الفلسفية والمنطقية، لا سيما التجريبية والوضعية.
وقد ترشحت لنا بعض المفاهيم والأفكار الرئيسة التي تبيّن مستوى الفهم العقلي واللغوي في بناء المعرفة الإنسانية لا سيما اللغوية منها.
فعلى مستوى العقل تبيّن لنا أنّ نظرتهم إلى العقل أبرزت مفاهيم مشبعة بعلوم أخرى كان لها الأثر في رسم معالم تفكيرهم، ومن أهم الأفكار:
ثنائية العقل / الدماغ
جسدنة العقل
مادية العقل
وأمّا على مستوى اللّغة، فقد تبنّت المدارس اللّسانية فكرةً جزئية عمّمت عبرها تلك الفكرة وسوّقتها على اللّغات كلها، لذلك تأسّس فهم تلك المدارس على نظرة أحادية لا تشمل الجهات كلها.
وهذه الأفكار تمثّل أغلب الفكر اللساني الغربي، لاسيما بعد سوسير، وليس لها في الحقيقة أصولٌ لسانيةٌ، إنّما أصولُها ومرحلة تأسيسها تربت على سلطان الفلسفة واختلاف نظراتها.
لذلك سنناقش هذه الأفكار بطريقة بيان أثرها في إنتاج معرفة يقينية من عدمها من جهة، وطرح تصور آخر (للعقل) يمكن من خلاله كما نعتقد أن يبني نظريّة لسانية متكاملة.
المبحث الأول: توصيف الفكر اللساني وموقفه تجاه المعرفة
أولًا: تجسيد العقل في الفكر الفلسفي الغربي
وربما كانت صعوبة الوصول إلى مفهوم واضحٍ ومحددٍ للعقل هي ما جعل من الفلاسفة والمنطقيين يتأوّلون مفاهيم أخرى خُيّلت لهم أنّها تتلاءم مع العمليات العقلية، وأنّها تمثّل العقل / الذهن في إنتاج المعرفة، لاسيما بعد ظهور علوم الأعصاب والدراسات التي تتعلّق بالدماغ.
وهذا أضاف فهمًا آخر للعقل؛ إذ فُسّر بأنه يمثّل الدماغ ويتماثل مع الدماغ، وهذا ما أثّر على ظهور مصطلح الثنائية المشهورة (الدماغ / العقل) التي أكثر من ذكرها تشومسكي في مباحثه حول العقل واللّغة.
وفي قبال ذلك جعلوا العقل بابًا من أبواب العلوم النفسية؛ إذ إنّ «التسمية التي غالبًا ما تطلق على دراسة اللّغة والعقل هي اللغويات النفسية»، وهذا ما زاد الوضع سوءًا؛ إذ اختلطت المفاهيم النفسية مع العقلية، والعقلية مع الأدمغة البشرية، والمشكلة الأساس هي التماثل بين العقل والدماغ، أو العقل والعمليات النفسية، أو العقل مع التجارب البشرية البصرية منها والسمعية عبر الإحساس المادي. وهذا كله يشيرُ إلى شيءٍ واحدٍ، وهو النظرة المادية للعقل، وربما لا وجود عندهم لمفهوم مستقل يسمى (العقل) في حدّ ذاته. نعم، قد نجد أن العقل عندهم يذوب في مصطلحات أخرى تعد هي ربما من وظائفه لا من حقائقه، فحقيقة الشيء شيءٌ ووظيفته شيءٌ آخر؛ لأنّ الوظيفة تشترك مع وظائف أخرى تعمل العمل نفسه مثل الشعور، والإرادة، والقصد وغيرها فهذه تشترك مع وظائف العقل، لكنّها لا تمثّل العقل نفسَه.
من جهة أخرى كان لعلم النفس أثرهُ في التعرف على العمليات العقلية والنظر إليها من زوايا مختلفة، فقد كان لمصطلحات مثل (النفس، الروح، العقل) دلالاتٌ متشابكةٌ، فلا فصل بينها أثناء البحث عن العقل والمادة، فالترادف واضح في بعض الاستعمالات، وربما كان يُعبَّر عن العقل بالنفس؛ لذلك كان يُعتقد «أن النفس الواعية متموضعةٌ في الدماغ وذلك أمر كبقية الأمور الجلية»، وإعطاء صفة الوعي للنفس يؤكد الفرضية القائلةَ بالتماثل بين العقل والروح والنفس، بل ربما لا تجد فرقًا بين تلك المصطلحات وهذا ما يؤكد مرة أخرى الأثر الشخصي للنظريات التجريبية التي ورثتها عن جون لوك (1637- 1704) وغيره من علماء التجريبية .
لذلك يعد الدماغ، سواء أكان في علم النفس أم في علم الأعصاب، المركز والمحور الذي منه تتفجر العمليات الأخرى، ومنها العمليات العقلية، فــ «بعض عمليات الدماغ يمكن أن تكون جسمية وعقلية معًا»، وهذه النظرة تمثل النظرة المادية للعقل، حيث يسيطر عليه عضوان رئيسان:
الدماغ
الجسم
بل الأمر لم يتوقفْ عند هذا الحد؛ إذ عدوا (العقل) هو الدماغ، أو إنه يذوب في الجسم؛ إذ «يمكننا القول إن الدماغ هو ببساطة الجهاز العصبي المركزي أو بدقة أقل، لكن بشكل أكثر العقل هو ببساطة الدماغ».
وربما تمثل هذه النظرة إلى العقل وذوبانها في الجهاز المركزي العصبي حالة رفض الميتافيزيقيا؛ إذ العقل لدى بعضهم جوهرٌ مستقلٌ، ولكن لا وجود له من ناحية الكيْف والماهية؛ لذلك رفضوا المثالية الروحية التي يتمثّل بها العقل ويعدّ مركزًا مهمًا لها، ولكن بعد ظهور علم الأعصاب المركزي ذهبوا مذهبَ النظريّة المادية ومركزية الدماغ، وتسمّى هذه النظريّة بـ(النظريّة المركزية)، أي مركزية الدماغ في السيطرة على الأحداث والحركات التي يقوم بها الجسم، سواء أكانت حركية أم فكرية.
والأكثر من ذلك أنهم أكّدوا على أنّ (العقل) جزءٌ من الحمض النووي، فهو يدخل في حيز الجين الوراثي، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ الخصائص العقلية وراثية، لا سيما بعد إدخال هذا المفهوم في نظريّة مندل الوراثية؛ إذ أكّد بعضهم أنّ العقل جزء من الحمض النووي.
وهذا يؤكّد على حقيقة واحدة، وهي التماثل التامّ بين العقل والدماغ، وهو ما ذكره (آرمسترونغ) في كتابه (A Materialist Theory of the Mind)، حيث جاءت عبارة (جزء من الحمض النووي) لتؤكّد على أنّ العقل هو نشاط الدماغ بل الدماغ نفسه.
ولكن إذا كان العقل جزءًا من الحمض النووي، فهذا يعني أنه يتأثّر بقضايا الوراثة والسلوك وغيرها من الأمور التي تحمل الشيفرة الوراثية، حيث إنّ تحديد الحالات العقلية «مع الحالات الفيزيائية والكيميائية للدماغ هو رهان جيد تقريبًا».
ومهما يكن من شيء، فإن الحالات العقلية تقوم بوظيفتين:
فكرة التوازي: أي الحالات العقلية توازي الحالات الفيزيائية، وكذلك الحالات الدماغية، أي إنّها تعمل بشكلٍ متواز مع حالات الفيزياء والدماغ من دون أن يكون عملها مستقلًا، فلا تتمتع بالاستقلال من حيث الكيف والماهية.
فكرة التفاعل: وتعني أنّ الحالات العقلية تعمل بشكل تفاعلي مع حالات الفيزياء؛ وإذ يمكن للحوادث العقلية فعليًا أن تسبِّب الحوادث الدماغية، وكذلك الحوادث الدماغية يمكن أن تسبّبَ الحوادث العقلية.
وفكرة التفاعل والتوازي لا تؤكدان على حقيقة (العقل) ككيانٍ مستقل ٍعن الروح أو المادة، بل تؤكدان على الجانب المادي للعقل وتفاعله وتماثله مع الأحداث المادية والجسدية.
وهذه الفكرة هي التي أنتجت فكرة (الجسدنة) العقلية؛ إذ تفترض هذه الفكرةُ أنّ مفهوم العقل هو نفسه مفهوم الجسد، الحركة، والتفاعل والأحداث، والمعارف التي تأتي عبر الجهاز البصري أو السمعي، كلها تتفاعل مع العقل لإنتاج المعرفة.
فالعقل أو الجسد وحده لا يستطيع إنتاج معرفة ما إلا من خلال التجسيد؛ إذ «يتشكّل واقعنا من خلال أنماط حركتنا الجسدية ومعالم توجّهنا المكاني والزماني وآفاق تفاعلنا مع الأشياء»، ومن الغريب جدًّا أنهم عدّوا المفاهيم (غير مجسّدة)؛ لأنّها لا تنتمي إلى الأحداث العقلية؛ إذ إنّ الجسد له السيطرة أو التحكّم بالعقل عبر الأحداث والحركات الجسدية التي تتفاعل مع العقل بطريقة غير مفهومة بل غريبة جدًا.
فالأشياء التي لها خصوصيةٌ وذاتيةُ التجسيد في النفس تعد عقلية، بينما تلك التي تتمتّع بالتجريد، فلا تعدّ عقلية، فمثلًا الصورة التي أتخيّلها لـ(الكرسي) لها خصوصية وذاتية التجسيد في النفس، فهي تعد عقلية؛ بينما مفهوم الكرسي كمفهوم تجرّدي لا يرتبط بالعقل.
ولعل السبب في ذلك هو عدم إيمانهم بـ(الميتافيزيقيا) والأشياء الروحية المجرّدة، لذلك عدّوا المجردات غير عقلية وهي بطبيعة الحال من المفارقات العجيبة التي تحدث في الفكر الغربي.
ومن ثمّ فالقول بالثنائية (الدماغ /العقل) وجسدنته وماديته تؤدي إلى أثر خطير في الفكر المعرفي واللساني خصوصًا، وهذا الأثر هو مادية المعرفة، مما يجعل تلك المعرفة ضيقةً لا تشمل المعارف كلها، وهذا ما يؤدي إلى أفول الكلّيات في النتاج المعرفي واللساني، فالجملة الآتية: القنادس تبني السدود، تشير إلى أشياء مادية تقع في الواقع الخارجي، ولكن هذه الأشياء -بحسب النظريّة المادية- انطلقت من الواقع الخارجي إلى الدماغ، فكان للدماغ أثر في فهمها وإنتاجها؛ وهذا ما يؤدي إلى أن تكون مادية تلك الأشياء ملازمة أو تكون متواجدة في الدماغ في حال إنتاجها وتركيبها، مما يؤدي إلى نتيجة خطيرة، وهي أنّ «العلم هو نفس الآثار المادية الظاهرة في المراكز الإدراكية عند الإدراك».
وهذا يعني أنّ المعرفة أو العلم هو تلك الآثار المادية نفسها، وإذا كان كذلك، فإن الصفة الإبداعية التي وضعها (تشومسكي) في نظريته اللسانية التوليدية التحويلية ستكون غائبة لسبب بسيط، وهو أنّ العقل والفكر مادّيان، فلا مجال للإبداع فيهما، وكذلك ما يتعلق بإدراك المفاهيم الكلية، فهي غائبة أو صعبة الحصول في ظل تلك الفكرة.
لذلك ففهم الجملة أعلاه تتحقّق وفق الجزئيات المادية (القندس، السد)، أمّا مفاهيم تلك الأشياء، فلا تتحقق إلا بآثارها المادية.
ولم يقتصر الفهم المادي للعقل وعلاقته باللّغة في إنتاجها على الفلاسفة والمنطقيين في الغرب، بل شمل الفكر اللساني أيضًا، لكنّ الفرق بينهما أنّ الأول –أي الفكر الفلسفي- يشتمل على فكرة التجسيد والتفاعل والنظرة المادية كأصل أصيل في منظومتهم التي بنوها، أمّا في اللسانيات، فهي فكرة مستوردة من علوم أخرى، ومن ثمّ تم توظيفها في الفكر اللساني، فقد أُخذت من العلوم الطبيعية كعلم الفيزياء وعلوم الاعصاب وعلم النفس التي ترى الأحداث العقلية أحداثًا ماديةً تتموضع في الدماغ.
فالتفسير الفيزيائي للأشياء بما فيها الإنسان والآلات وغيرها هو أن هذه الأشياء أحداثٌ مادية تخضع لمبدأ التجربة، والحدث يخضع لمبدأين هما (الزمان، المكان)، وإذا تقيد بذلك فهو مادي، والأمر نفسه في علم الأعصاب إذ إنّه يفسّرُ الأمورَ الباطنية على أنّها أحداثٌ ذاتُ أثر مادي، فالدماغ بشكله ومكوّناته المادية يقوم بعدة وظائف، وهذه الوظائف عدّوها مجسّدة؛ لأنّها تؤثر على حركية الجسد على المستوى البصري والسمعي.
ثانيًا: هل فكرة تجسيد العقل تشمل اللسانيات؟
إذا ما عرفنا أنّ المفاهيم أنواعٌ مختلفة ومنها المفاهيم الخارجية التي تعبر عن حقيقة الأشياء الخارجية؛ إذ يتوجه العقل بأخذها من الواقع الخارجي مباشرة كلفظ السماء، الحجر، السيارة وغيرها، فهاهنا يبدأ تفاعل العقل مع تلك الأشياء أثناء التعبير عنها.
وعندما يريد المرء أن يعبّر عن أحداث معينة وقعت أمامه نحو: دهستِ السيارةُ الطفلَ، ففي الجملة تكون عناصرها مشيرة إلى الأشياء الخارجية (الدهس، السيارة، الطفل)، وهذه الأشياء مادية، وهنا يبرز النشاط التفاعلي بين العقل وبين الأشياء الخارجية على نحو التفاعل التلازمي أي الملازمة السببية أو المنطقية .
وفهم الجملة على هذا النحو هو الذي دعا العلماء إلى القول بمادية العقل أو وحدوية العقل والدماغ، كما فعل (تشومسكي)؛ إذ إنّه ينظر إلى اللسانيات من هذا المنظور، وهو فهم الجملة على أساس التعبير عن الأشياء الخارجية، ودليل ذلك أنّنا لو غيرنا الجملة على النحو التالي: السيارة طفل دهست، فعلى رأي تشومسكي فإنّ الجملة الأولى قواعدية، بينما الثانية ليست قواعدية، وكان ذلك على أساس فهم الجملة في التعبير عن الأشياء الخارجية وترتيبها بما يتناسب مع الفهم البشري لا على أساس ترتيب المفاهيم اللسانية كالابتداء والخبر والمفاعيل وغيرها .
أي هناك عزل بين المفاهيم العامة التي تمثل الأشياء الخارجية والتي تشترك بها العلوم كلها، وبين المفاهيم والمبادئ التي تمثل العلوم وتميزها بشكل مستقلّ، وهذا يعني أن الأشياء الخارجية والتعامل معها أمر مشترك بين العلوم، فالعالم الخارجي واحدٌ غير متكثّر وتوجّه العلوم إليه أمر واحد، مثلًا الفيزياء تتوجّه إلى العالم الخارجي لتدرس الأحداث والعلل والظواهر وتفسيرها على أنّها أحداث فيزيائية، ولكن ضمن قواعد ومبادئ الفيزياء، وهلم جرا في بقية العلوم الأخرى.
وهذا الأمر شمل اللسانيات؛ إذ هي تتعامل مع الأشياء الخارجية سواءٌ على مستوى التمثيل الذهني أم على مستوى مادية العقل واندماجه مع الدماغ وجسدنته، فاللسانيات تتعامل مع الأشياء الخارجية كما تعاملت معها العلوم الأخرى.
وهذا ما فعله تشومسكي حين عدَّ فهم الجملة وتميّزها عن غيرها وفق مبدأ القواعدية راجع إلى الفهم البشري وأكد على «أنّ هناك مبدأ فطريًا من مبادئ العقل / الدماغ يعطي القاعدة (ق س) على أنها الاحتمال الوحيد»، والمبدأ الفطري يفترض وجوده في البشر جميعهم، كما يفترض أيضًا أنّ الفهم يتّصف بالعموم ومشترك بين متكلّمي اللّغة الإنسانية، كما يفترض وجود مصطلحين أشار إليهما تشومسكي:
القبول
القابلية
إذ يتعلق الأول بالصحة القواعدية ضمن مبادئ اللّغة المعينة وترتيب الجمل وفق قواعدها، في حين يشير الثاني إلى القدرات التي يمتاز بها الإنسان والتي زُوّد بها فطريًا في فهم الجمل ومعرفتها من دون الخوض في تفاصيلها ومكوّناتها.
فالطفل الذي يتكلّم ويعرف تميّز الكلام عن غيره يتصف بالقابلية لا بالقبول؛ لأنّ القابلية صفة العموم لا الخصوص كما هو في القبول، ومن هنا اهتم تشومسكي بالقابلية على حساب القبول؛ وذلك لأنّ القبول متغير مختلف بين اللغات ذاتها، بينما القابلية تتصف بالعموم والشمول، وهو ما يناسب نظريّة تشومسكي.
وإذا كان ثمة عزل بين القبول والقابلية يمكننا افتراض شيء ما، حيث يكون القبول نتيجة ضرورية للقابلية، وهذا ما لم يفترضه تشومسكي، ومثاله الشهير يدلّ على ذلك:
الأفكار الخضراء التي لا لون لها تنام بشدة.
بشدة تنام الخضراء التي لا لون لها الأفكار.
فالجملة الأولى تتصف بالقابلية وتعتمد على الفهم العام لتميّزها عن الجملة الثانية التي لا تُعد قواعدية.
وعلى الرغم من أنّ الجملة الأولى لا معنى لها، إلا أنّه عند عرضها على متكلّم فسيختارها على حساب الثانية، والسؤال هنا: لماذا اختار المتكلّم الجملة الأولى لا الثانية؟
فالجملة الأولى خضعت لمسألة الفهم البشري؛ لذلك تتصف بالعموم، وهذا ما يراه تشومسكي، ويستدلّ بذلك على مسألة العموم في القواعدية والفهم، فهي راجعة إلى اللّغة الداخلية (القدرة اللغوية)؛ إذ إنّ «الخصائص الخاصة بالملكة اللغوية المتمثّلة للحالة الذهنية الأولى أو النحو الكلي موحّدة افتراضيًا عند الجنس البشري»، وهو أمر متناسبٌ مع مكانة اللّغة المعيّنة ويفترض نحوًا كليًا قائمًا على «الخصائص الشكلية التي تتّسم بسهولة التحديد وإفراغ الفروقات الدلالية في قوالب نحوية».
والغريب في ذلك كيف تتطابق مقولة (بيولوجية اللّغة) وإبداعيتها مع الاهتمام بالخصائص الشكلية، ومع استبعاد الفروقات الدلالية، فالقول بإبداعية اللّغة (الملكة اللغوية) لا بد أن يستدعي الاهتمام بأمور كثيرة منها:
شكلية القواعد والبنى النحوية .
إنثروبولوجية اللّغة.
الجانب الفيزيولوجي.
وهذه الأمور وغيرها لا بد أن تجتمع في النظريّة اللغوية العائدة للقدرة العقلية الدماغية أو علاقة العقل باللّغة؛
لذلك فالقول باندماج العقل مع الدماغ، والاهتمام بتموضع اللّغة في مناطق الدماغ كان من أسبابه ونتائجه عدم الاهتمام بتلك العوامل وتركيز الاهتمام على الخصائص الشكلية، ولكن لو عزلنا العقل عن الدماغ بحيث يكون لكلٍ منهما وظيفةٌ معيّنة في ضوء التفاعل بين الوظائف، فماذا يؤثّر أو يحدث في النظريّة اللسانية؟
بغض النظر عن فلسفة اللّغة ومنطقيتها سيكون هناك نتائج معينة يستطيع العقل من خلالها النظر في اللّغة من جوانبها المتعددة من دون استبعاد أيّ مكوّنٍ لغوي أو دلالي، ومن دون الاهتمام بجانب دون آخر، ومن أهم النتائج عدم تقييد العقل بالدماغ واندماجه؛ لأنّ الدماغ َ شيءٌ مادي، والعقل ليس كذلك، فكيف يتم التطابق بين المادي وغير المادي، وهذا أمرٌ محال، ولكن ننفي التفاعل وتبادل النشاط بين العقل والدماغ.
أمّا أن يسيطر الدماغ على العقل ويجسّده، فهو أمر يصعب تقبّله للغاية؛ لأنّ العقل لا كينونة له، وليست له هيئة معينة سوى الشعور بأن شيئًا ما يتجسّد.
واندماج العقل بالدماغ (كما يرى بعضهم) يؤدي إلى حالات واقعية؛ إذ إنّ هناك حالاتٍ عقلية تكون واقعية ما دامت تتفاعل مع أجسامنا، ولكن أينما كان هناك تفاعل بينهما أو تطابق، فإن النتائج ستكون غير واقعية.
وفي حقيقة الأمر إنّ القول بفكرة الثنائية أو مشكلة العقل / الدماغ واندماجهما معًا لا يشير إلى نتائج حاسمة ضمن التخصصات اللسانية والعصبية؛ لأنّ بعض التصورات والمفاهيم مجردةٌ لا تخضع لمناطق معينة في الدماغ.
وإذا ما كان يقرره هؤلاء بأنّ الدماغ «يتحكّم بالنشاط العضلي في الجسم، ومن الواضح أنّه مقرّ التفكير الواعي، كما نتفق جميعًا على أنه عندما تتكوّن لدينا فكرة ونتخذ القرار في اللاوعي بالتعبيرِ عنها لغويًا، ثم ننطق عبارةً ما بلغتنا، فإن الدماغ ضالع في كل خطوة من خطوات هذه العملية»()، فإن الوجودات والمفاهيم المجردة في اللغات المعينة لا تخضعُ لمسألةِ الدماغ؛ لأنّ أثر الدماغ مادي، ولا أعتقد بوجود مَنْ يقول إنّ الدماغ له أثرٌ مجرد على الصفة البشرية، وكما ثبت أن القدرة اللغوية لا تتبع الدماغ إنّما تتبع العقل بحسب فكرة الجوهرية العقلية والجسمية.
نعم، يمكن أن يؤثرَ الدماغ على أداء اللّغة، لكن لا على مستوى إنتاجها وتركيبها، فالتركيب والإنشاء والإبداع من صفات الفاهمة البشرية (العقل)، أمّا أن نجعل للدماغ المركزية والمحورية في أداء اللّغة والنشاط العقلي، أي الأثر المادي والمعنوي على حدٍ سواء، فهو ضرب من الخيال؛ لأنّ الدراسات التي تتعلّق بالدماغ لا ملازمة لها مع اللسان.
والنتيجة الأخرى أنّ القول بمركزية الدماغ وإضفاء الطابع العقلي ضمن النتاج الدماغي يجعل من اللغات آلات ميكانيكية تتأثّر بالعلّية السببية، فكل فعل يتطلّب ردة فعل، وهذا ما يجعل القول والأداء الكلامي نتيجة فعل عصبي من خلال شبكات الأعصاب الدماغية، ويُرد عليه أن العطب الدماغي لا يفقد القدرة اللغوية، إنّما له تأثير على أعضاءٍ تسهّل عملية التكلم لا الكلام نفسه أي أنّ الدماغ لا يؤثّر على الكلام في ذاته ومن أجل ذاته.
في حين من المفترض أن يكون للعقل المركزية والسيطرة التامة، لكن الإشراف واستلهام الأشياء يكون بمعونة الدماغ والخلايا الدماغية؛ لذلك فالعقل بمنزلة القلب من أعضاء الجسم كلها، فكما أنّ للقلب النشاط والحركية وتزويد أعضاء الجسم بما تحتاجها، كذلك العقل، فهو قوة فاهمة ومدركةٌ للأشياء.
ومما له علاقة بذلك، وهو نتيجة وأثر لاندماج العقل بالدماغ، هو أنّ الدماغ لا يزوّد المتكلّم القدرة على تعلّم المفاهيم المجردة كــ(الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث)، فالقول بالثنائية والاندماج يجعل من تلك المفاهيم عصبية مادية، في حين أنها مفاهيم مجردة لا وجود لها في الواقع الخارجي، فلا يوجد لما يسمى (التذكير والتأنيث) مثلًا كما لا يوجد (المبتدأ والخبر والفاعلية ...)، فهذه الأشياء تتحصل عن طريق عمل العقل المدرك لهذه الأشياء، فهي مفاهيم اعتبارية لا وجود لها في الواقع الخارجي، وبهذا لا يمكن للدماغ أن يتحصّل مفاهيمها، فهو ذو صبغة مادية ضيقة، ونتائجه مادية أيضًا، فلا يستطيع أن يصل إلى الحقائق الاعتبارية، لكن حصول ذلك غير محال في المجال العقلي، فـ»للعقل قدرة على المقارنة بين الأمورِ الحقيقيةِ، وكذلك بين الأمور الاعتبارية يتوصل بها إلى اقتناص مفاهيم جديدة يسمو بها علمه وييسر بها لغته».
والقول باندماج العقل بالدماغ وماديته يجعل من المفاهيم الحقيقية والاعتبارية في تداخل وخلط عجيب، فلا يفرّق بين تصور الأشياء وتمثّلها في واقعها الخارجي، وبين انتزاع مفاهيم معيّنة تؤسس علمًا معينًا، فالجملة: يشاهد الطفل توم وجيري، لها تجلّيان:
الأشياء الخارجية وهي المفاهيم الحقيقية (الطفل، توم وجيري، فعل المشاهدة)، وهذه الأشياء في -رأي الماديين من اللسانيين- تتجسّد مع الدماغ عبر التجسيد البصري والسمعي.
المفاهيم الاعتبارية (الفعلية، الفاعلية، المفعولية)، وهذه المفاهيم لا تحقُّقَ لها في الوجود الخارجي.
فالتجلّيان أو المفهومان لا يمكن للدماغ أن يؤثّر بهما إلا في حالة أداء الكلام، إذ العطب الدماغي يؤثر على الأداء لا القدرة وهذا الأمر لا يقع باستمرار.
فإذا كان الدماغُ لا يؤثّرُ بهما، فما المؤثِر أو المنتِج أو المركِب؟ وما الشيء المدرك لتلك المفاهيم؟
ومن خلال هذين التساؤلين يترشّح إشكال وهو أنّه هل الدماغ -إذا قلنا بالثنائية- يؤثّر على اللّغة كألفاظ ومعانٍ وأحداث خارجية، أو أنه يؤثّر على اللّغة كمفاهيم أو قدرة إبداعية؟
أو بتعبير آخر هل يدرك الدماغ الأشياء الخارجية من دون معونة أشياء أخرى؟ وهل إدراكه لها ذاتي؟ أو إنه يتمتع بالذاتية، وهل يدرك المفاهيم والكليات المجردة أو لا؟
وعلى الرغم من البحوث التي تناولت وذكرت تأثير الدماغ على إنتاج اللّغة، إلّا أنّ هذا الأمر يبقى مجرد افتراض، فلا تأثير يوجد على اللّغة وإنتاج المفاهيم وإبداعيتها، كما إنّه لا يتمتّع بصفة الإدراك، فالمثال: زيد إنسان، تتكوّن من مفهوم (زيد)، وهو وجود خارجي له كيانه ووجوده، و( إنسان) مفهوم اعتباري غير حقيقي، وتصور هذه الجملة على هذا النحو لا يمكن للدماغ أن يعمل بها أو يؤثّر بها، فلا يستطيع تصوّر خصائص (زيد) بأنّ له جسمًا أو وزنًا أو وجودًا، كما أنّه لا يستطيع أن يتصور معنى (إنسان) .
لذلك تبقى مسألة فهم الجملة وتصوّرها بالمفهومين أعلاه من قبل العقل فقط وبمعونة ومساعدة الأشياء الأخرى.
فالجملة تتألّف من مفهومين:
جزئي (زيد)
كلي (إنسان)
فلا يستطيع الدماغ أن يدركَ الانتقال من الجزئي إلى الكلي، إلّا أنّ ذلك ممكن للعقل؛ لأنّ «العقل التحليلي بعد طيّه للمرحلة الأولى -وهي انتزاع وفرز بالذات- عليه الشروع بمرحلةٍ ثانية، وهي الإفراز المترافق مع الانتقال والصعود المعرفي؛ ولذا فهناك عقلية خاصة في البين تُطلق عليها اسم الإدراك الكلي».
فالمفاهيم الاعتبارية والكليات لا يمكن للدماغ أن يدركها أو يؤثر عليها؛ لأنه لا سلطة له عليها، وهذا الأمر لم يشِر إليه علماء الأعصاب واللسانيون فهم يبنون مفاهيمهم على الافتراض، فلا يوجد ما يؤكد حقيقة عمل الدماغ في إنتاج اللّغة على الأقل في التعامل مع الواقع الخارجي، وحينئذٍ لا يدرك الدماغ المفاهيم سواء أكانت ماهوية أو اعتبارية أو منطقية؛ لأنّ تلك المفاهيم لا تعمل وفق العصبونات والشبكات العصبية التي أكدها بعض العلماء، وكذلك لا تمثل ردة فعل منعكسة.
وربما ما هو معلومٌ لديهم أنّ وظيفة الدماغ الذي اشترك فيه الإنسان وغيره هي النشاط الحركي الذي يثيره المنعكس الشرطي، وأقصى ما «يمكننا فهم الجهاز العصبي على وجه أفضل إذا ما بدأنا بأبسط شكل من سلوك الإنسان ويُعرف هذا الضرب من السلوك بالأفعال المنعكسة».
فالدماغ يقتصر عمله على مسألة الإثارة والتنبيه، لا إنتاج الأشياء، فهو يؤثّر على الأشياء الأخرى وفق الشبكة العصبونية وبعض الإفرازات كي تحدث الحركة والنشاط، وهذا ما يؤكّد حقيقة معيّنة، وهي أنّ عمل الدماغ حسي فقط، فهو يتعامل بشكل مادي مع الأشياء المادية فقط.
وما يُشاع عن وجود مناطق للغة في الفص الأيمن أو الأيسر للدماغ هي أيضًا لا تخلو من الأثر الحسي، ونتائجه حسية، فتلك المناطق إنّما تؤثر على أعضاء النطق، لا النطق نفسه، أو بتعبير آخر هي تضيّق الخناق عبر الأعضاء الحسية المادية (الحنجرة، اللسان وغيرها) على نطق اللّغة، أمّا إنتاجها وفهمها فلا يوجد أثر للدماغ عليها.
وهذا دليل على أنّ الثنائية (العقل / الدماغ) التي ذكرها تشومسكي تخلط بين ما هو مادي وما هو معنوي، فإذا ما عرفنا أنّ مفاهيم اللّغة اعتبارية، وكذلك تنظيمها للعلامة اللغوية بين اللّفظ والمعنى أو ما يتعلق باللّغة الداخلية، فهي تخضع للاعتبار أيضًا، فإنّ ذلك يؤدي إلى حقيقةٍ مفادها أنّ اللّغة ليست دماغية ولا أثر للدماغ عليها على مستوى مفاهيمها، وتنظيمها، وتركيبها.
وهذا الأمر يؤكد أيضًا الخطأ الذي وقع به تشومسكي الذي طابق بين الدماغ والعقل؛ إذ يؤدي هذا الأمر إلى أنّ فهم اللّغة وفهم وظائفها، سواءٌ أكان على مستوى القواعدية أم المفاهيم العرفنية، فكل ذلك يؤدي إلى الفهم المادي للغة، مع العلم بأنها ليست من قَبيل المادة، بل هي مفاهيم اعتبارية.
فلا وجود للّغة الواقع الخارجي من خلال وظائفها ومفاهيمها الكلية، أمّا ما يُقال من أنّ أجزاء تركيب الجملة لها تحقق خارجي، فقد قلنا آنفًا أن تلك الأشياء الخارجية كـ(النار، الأرض، السماء وغيرها) ممّا تشترك فيه العلوم كلها، فهي لا تمثل اللّغة وحدها، أو قل لا تُكوّن اللّغة، بل اللّغة تقوم بانتزاع المفاهيم وتركيبها بوساطة القوة الذهنية.
فالمقابلة بين اللّغة والدماغ كالمقابلة بين الهضم والمعدة، فكلاهما موجودان، ولكن أحدهما مادي والآخر مجرد، لكن يمثّل حقيقة معينة، حيث يمثّلُ الهضم المفهوم الاعتباري الذي لا وجود خارجي له، بينما المعدة تمثل وجودًا خارجيًا.
لذلك يمكن أنْ يُقال إنّ تأثير الدماغ يكون وظيفيًا فمثلًا حركة اليد أو التنقل وغيرها، فهذه من وظائف الدماغ عبر الأعصاب، وكذلك بقية أعضاء الجسم، فإذا قائل قالَ: الدماغ يؤثر على الكلام ونطق اللّغة ويفقد المنحى التواصلي للغة، يُردُّ على ذلك أن تأثير الدماغ لا يكون على اللّغة في ذاتها، وكذلك لا يؤثر على القدرة اللغوية ذاتها، بل يؤثر على أعضاء النطق التي تقوم وظيفيًا بنقل الكلام وإخراجه للوجود.
لذك اندماج العقل مع الدماغ يؤثر بشكل رئيس على عدم فهم بعض المفاهيم إن لم نقل بخلطها، وعدم وضع التعريف بها بشكل صحيح؛ مما ينتج أفكارًا خاطئة، كالقول بتأثير العطب الدماغي على اللّغة، وفي الحقيقة فإنّه ليس للغة أدنى علاقة بذلك، إنّما هو تأثير وظيفي على أعضاء النطق.
وكذلك من الآثار الخاطئة في النظريات اللسانية:
فطرية اللّغة
بيولوجية اللّغة
اللّغة عضو مادي.
ولا ندري ماذا يقصد بفطرية اللّغة، هل هي هبة إلهية؟ أم هي مما جُبِل عليها الإنسان من مفاهيم وقضايا ومنها اللّغة؟
ولكن قد يُفهم من الفطرية اللغوية أنّ اللّغة قد زُوِد بها الإنسان، أو هي مما يتصف بها الجنس البشري، ولكن هذا الافتراض في حد ذاته يؤدي إلى فرضية التطابق اللغوي بين اللغات كلها، سواءٌ أكان على مستوى القدرة أم على مستوى القواعدية وتركيب مفاهيم اللّغة.
وهذا الرأي منافٍ لما هو في الواقع اللغوي؛ إذ اللغات تختلف فيما بينها، بل يبدو الاختلاف واقعًا حتى بين اللّغة نفسها، وهذا إن دلّ فإنما يدلّ على أنّ هناك أشياء أُخرى تعمل معًا لخلق مزيد من الاختلافات اللغوية، وربما ترجع تلك الأشياء إلى البيئة أو اختلاف (فكّ) الإنسان في البيئات المختلفة.
فهل ما يُقصد بالفطرية هو «أنّ اللّغة أُوحيَتْ إلى الإنسان دفعة واحدة بطرق غير مفهومة»، إذا كان كذلك فإنّ ذلك يعني أن الإنسان أو الفرد المعين على علم بقواعد لغته، أو قل بالقواعد النحوية التي تتمركز -كما ذُكر سابقًا- في القابلية اللغوية، أي القدرة اللغوية، وهو مذهب تشومسكي.
فالقول بالقواعدية العالمية يؤكد على أنّ اللّغة عضوٌ دماغي أو إنها تتمتّع على الأقل بالصفة البيولوجية، إلا أنّنا لم «نجد أحدًا أزعج نفسه بأنْ يقررَ بوضوح قواعد النحو العالمي، ولم يكتشف علماء الوراثة جين -أو جينات- النحو العالمي الافتراضي، ولا يوجد أي سبب لتوقّع هذه الاكتشافات».
والقواعدية هي نتاج القول باندماج العقل مع الدماغ، وهو أمر لا يتناسب مع الواقع اللغوي، حيث كل لغة لها ترتيب خاص بها، وإذا كان كذلك، فكيف يستطيع الإنسان أنْ يعرف القواعدية ويفهمها من دون معرفة ترتيب لغة معينة؟
وقد نوقشت القواعدية في الصفحات السابقة، وعرفنا أن اختيار الفرد جملة ما لا يتوقف على الفهم العام أو الكلي فقط، بل هناك عوامل اجتمعت وأعانت على هذا الاختيار.
ومن جهة ثانية فالدماغ لا يمكنه إدراك المفاهيم الكلية، فإذا ما اتفقنا على تأثيره واندماج العقل معه فعمله حينئذٍ لا يقتصر على الأداء الكلامي أو إنتاج اللّغة فحسب، بل هو المحرّك الرئيس لأعضاء الجسم كلها عن طريق العصبونات؛ لذلك تكون وظيفته عامة لا خاصة باللّغة، في حين يقوم عمل العقل على الفهم وإدراك المفاهيم الكلية؛ لذلك فهو يختلف عن الدماغ.
فالعقل يقوم بوظيفة إدراك الأشياء الكلية والجزئية معًا، وهذا هو الطريق الوحيد ربما في الفرق بين العقل والوعي أو التذكّر أو التفكير، مما هو عالق مع العقل في المفهوم، فتلك الأشياء تنحصر وظيفتها بفهم الجزئيات لا الكليات، إذ تُقدِّم للعقل المادة الأساسية للوصول إلى فهم الكليات.
لذلك من أهم النتائج المترتبة على القول بفرضية (العقل المادي) أو ما يتعلّق بها امتناع مسألة التصديق والإذعان لإدراك النسبة دفعة واحدة، حيث يتوقّف الإذعان على معرفة مفردات التصديق وإدراك النسبة بين الطرفين بشكل تلقائي.
وهذا القول يمتنع تحقّقه مع القول بمادية العقل؛ إذ المادية لا تُذعن إلى إدراك مفردات التصديق دفعة واحدة (الموضوع، المحمول) كمثل جملة (زيد كريم)؛ لذلك «فإنّ الصور المادية في الدماغ وما يحتويه كلّما نتصور تتبدل إلى أمرٍ آخر، أو إلى أمر يشاكلها، فإذا تصوّرنا موضوع القضية واتجه الذهن إلى تصور محمولها، ثم عاد إلى موضوعها ليحمل المحمول عليه، يجده متحوِّلًا إلى شيءٍ آخر قبل أن يتّصف بشيء أو يحمَلَ عليه المحمول».
وهذا يعني أن القول بالمادية العقلية (الدماغ) يقتضي إدراك الأشياء كمثل جملة (زيد كريم)، بحيث يكون هناك تحولٌ وتغير في العملية الدماغية، فتأثير الدماغ يقع أولًا على إدراك الجزئي الموضوع (زيد)، ثم يذهب إلى إدراك المحمول (كريم) ومرحلة ثالثة هي إدراك النسبة بين الطرفين، ولكن أثناء هذه العملية ربما يقتضي تغير أو اتصاف (زيد) بصفات قبل أن يتّصفَ بصفة الكرم.
فإدراك الأشياء المادية يحدث مرتين بتأثير الدماغ، وهذا يؤدي إلى صعوبة الوصول إلى المفاهيم العامة وتفكيكها وعدم القدرة على الربط بين المادي والمجرد؛ لأن كلًّا منهما يتصف بخصائص غير متطابقة.
وكذلك يؤدي إلى صعوبة التركيب بين الأشياء عبر مفاهيمها، فتركيب الأشياء ربما أمر سهل بالنسبة للدماغ عبر إدراك الأشياء المادية، فتصور (شجرة، سماء، أرض) أمر سهل للدماغ، ولكن الإشكالية تقع في تصوّرها أو في عملية التصور، حيث يؤدي ذلك إلى التطابق بين الوجود الخارجي والوجود الداخلي (الدماغ)، إذا قلنا بالتصور المادي؛ لأنّ المادي لا ينتج مجرّدًا .
كما أن قيام النظريّة اللسانية على الأثر الدماغي المادي الذي يُحْدِثه في الإنسان كان من نتائجه نفي قيام المفاهيم اللسانية؛ لأنها ليست مادية أو انتزاعية في وظيفتها، بل هي اعتبارية لا وجود لها، وتعد هذه من أهم الآثار المترتبة على القول بـ(مادية الدماغ / العقل) وجسدنته .
أمّا تركيب المفاهيم بين تلك الأشياء، فهو أمرٌ صعب أنْ يقوم به الدماغ؛ لذلك لا بدّ من إيجاد مفهوم آخر يقوم بوظيفة التركيب والتحليل والتفسير وإدراك المفاهيم الكلية والجزئية الفلسفية منها والمنطقية واللغوية.
وإذا ما علمنا أنّ المفاهيم اللغوية اعتبارية لا انطباق لها في الواقع الخارجي، صار لزامًا تصور وإيجاد فاهمة بشرية غير الدماغ أو غير القول بمادية الدماغ أو جسدنته أو تفاعله أو توازيه لها من الصفات ومن الخصائص التي تمكّنها من إدراك الأشياء وترتيب مفاهيمها، وهذه الفاهمة البشرية تسمى (العقل / الذهن) ولا يكفي القول بوجودها، بل كان لزامًا القول بوجودها الذاتي واستقلالها.
المبحث الثاني: الوجود الذهني
لو فرضنا وقلنا بعزل العقل عن الدماغ والجسم واستقلاليته فماذا يحدث؟
هذه الفكرة تكون بمنزلة فكرة في قبال فكرة المادية العقلية وما يتعلّق بها، وتسمى هذه الفكرة بـ(الوجود الذهني)، فما طبيعته وحقيقته؟ وما الآثار المترتّبة على القول به على المعارف الإنسانية، لاسيما اللسانيات؟
الوجود الذهني واللسانيات:
ليس المهم في الفكر اللساني الغربي العناية والاهتمام بخاصية (العقل /الذهن) وطبيعته وماهيته، وكذلك ليس المهم لديهم (أي اللسانيات القائلة بوظيفة الدماغ – العقل – الذهن) أنْ تكوّن لهم معرفة يقينية، إنّما المهم لديهم هو كيف يتم إنتاج اللّغة؟ إذا قلنا باللّغة (عضو دماغي)، أو إنّ العقل هو الدماغ نفسه، وكذلك كيف تعالج اللّغة اذا كانت متموضعة في الدماغ.
لذلك نجد تداخلَ علوم متعددة في بناء النظريّة اللسانية، فالاكتفاء باللّغة في ذاتها ومن أجل ذاتها قد كُسِر حاجزه، وبدأت اللّغة تمدّ أذرعها للعلوم التي لها شأن في إنتاجها أو معالجتها، وهذا ما دعا عالمًا كبيرًا مثل (تشومسكي) إلى أنْ يؤكّد على أنّ «نظريّة اللّغة ببساطة هي ذلك الجزء من علم النفس البشري الذي يهتم بعضو ذهني واحد هو اللّغة البشرية».
فهو يخلط بين أمرين:
اللّغة جزء من علم النفس، فلا تتجرد أو تستقل كما ذهب البنيويون، وقد توهموا ذلك من خلال الاهتمام ببناء المفاهيم المجردة.
الذهن عضوٌ مادي كبقية الأعضاءِ الأخرى، وهو ما يدعى بتجسيد الذهن وماديته، وهذا الأمر أكّده تشومسكي في مواضع تم ذكرها في مواضعها.
والقول بعضوية (الذهن) وعلاقته بالدماغ أو التفاعل بينهما، وذوبان شيء اسمه (العقل) قد يكون مجرّدَ افتراضٍ غيرِ خاضع للتجريب، ولكن «بتقدّم العلم قد يجيء وقتٌ نعرف فيه شيئًا عن التمثيل المادي للقواعد والملكة اللغوية».
ولكن ما التمثيل المادي؟ وما حقيقته وطبيعته؟ لم يبيّن تشومسكي ذلك، فهل يقصد بذلك:
التمثيل الذهني (مادي)
إنتاج الكلام يمثل تمثيلًا ماديًا
والأول هو الأقرب لمفهوم تشومسكي؛ لأنه ببساطة يمنح القواعدية صفة الذهنية أو القابلية الذهنية.
وإلى جانب ذلك نجد اختلاط بعض المفاهيم بالذهن، فمثلًا الوعي أو الإدراك أو الشعور هل هي من الصفات العقلية (الذهنية)؟ أم أنّها مادية تُخْتزل مع العقل، فالتعبير عن الوعي هو تعبير عن الذهن، أي ترادف بين مصطلحاتها.
وربما بلغت المادية مبلغها على يد سيرل حينما أكّد على أنه «لدنيا أفكار ومشاعر واعية، وسبب هذه الأفكار والمشاعر عمليات نيروبيولوجية في الدماغ، وتوجد كصفات بيولوجية في الجهاز الدماغي»؛ وإذ كان للدماغ أثرٌ كبير في إنتاج اللّغة وبناء النظريّة اللسانية، لاسيما بعد ظهور محورية الدماغ ومركزيته منذ بدء فجر نظريّة تشومسكي بالظهور، والقول بفطرية اللّغة وتموضعها في مناطق الدماغ، وبلغت الذروة الكبيرة لمركزية الدماغ في الدراسات اللسانية ما بعد تشومسكي.
وإذا كان للتمثيل الذهني -سواء أكان على يد فلاسفة اللّغة أم اللسانيين- ذلك الأثر المادي الذي يثيره الدماغ تجاه الأشياء الخارجية كي يتحقق التمثيل الذهني، وكان ذلك التمثيل ذاتيًّا أم غير ذاتي، فإن الأثر لازال باقيًا، وهو الأثر المادي النابع من محورية الدماغ.
فقد كان للدماغ ذلك الأثُر الكبير في إنتاج المعرفة، أو قل سبب ظهور المعرفة بما فيها المعرفة اللغوية، وهذا ما وجدناه في الدراسات التي بدأها تشومسكي وما بعده، حيث عدوا اللّغة عضوًا بيولوجيًا متموضعًا في الدماغ، وما نصُّ تشومسكي الأخير في كتابهِ (تأمّلات في اللّغة) إلّا تأكيدٌ على دماغية اللّغة، وإنّ العقل متماهٍ مع الدماغ، فعندما تفكّر فبأثر الدماغ لا العقل، وكذلك عندما نريد أن نعبّر أو نصرّح، فإن ذلك يحدث من خلال الدماغ، إضافة الى ذلك ما أنتجته نظريات العقل المادية التي ذكرناها، فإنّها تؤكّد محورية الدماغ، وما ذلك إلّا لتصرّف العلم الحديث والنظريات الحديثة في بناء المعرفة؛ إذ ذهبت تلك النظريات إلى أنّ «الإنسان إذا استعمل إحدى حواسه، بأن أطلَّ بنظره على الموجودات، أو لمس بيده شيئًا، أو استمع الى مقال قائل، وهكذا ... يحدث بنتيجة ذلك أثر مادي في الأعصاب والخلايا الدماغية».
فإذا كان الأمر كذلك في الفكر اللساني الغربي من نظرة مادية للفكر والمعرفة، فإنّ القاعدة الأساسية التي ينطلق منها هي إنّه «يستطيع الفكر أن يعرف الطبيعة تمام المعرفة؛ لأنه جزء منها، لأنه نتاجها وتعبيرها الأعلى؛ إذ تعي الطبيعة ذاتها في وعي الإنسان».
وهذه حقيقة عامة تفرّعت منها جزئيات عديدة وترسّخت أسئلة عدة منها، فما هو المؤثّر في المعرفة لجهة إنتاجها؟ وهل الأثر المادي يتبع المعرفة؟ أو إنّ المعرفة شيءٌ غير الأثر المادي؟
من هذه التساؤلات يمكننا أن نطرح فكرة أو رأيًا في قبال الفكرة القائلة بـ(محورية الدماغ) في إنتاج المعرفة اللغوية، وهذه الفكرة تتأسّس على فكرة أنّ للذهن (العقل) وجودًا يختلف عن غيره ذاتًا وفعلًا، فمن حيثُ الذات يختلف وجوده عن وجود (الدماغ) وبقية الأعضاء الأخرى، فذاته موجودة لنفسه وحده فقط لا أثر لغيره عليه أو تسلط عليه كما إنّه لا يتماهى مع غيره، وكذلك من حيث (الفعل) فعله ووظيفته يمتاز بها عن غيره فهو من حيث الوظيفة له المحورية على إنتاج المعارف العامة مع الاستفادة من الحواس الأخرى، فالحواس لها خاصية الانعكاس للواقع الخارجي وهذا ما يفقده الذهن (العقل) إذ لا يمتاز بخاصية الانعكاس بل يقوم بمهمة الفهم والتحليل والإنتاج.
إذ الحواس لاسيما (السمع والبصر) لها خاصية (الاستقبال)، أي استقبال المعلومات وإدخالها ضمن عملية معقّدة جدًا، لكن لا أثر لها في إنتاج المعرفة، إنّما المنتج مع الاستفادة من الحواس هو (العقل الذهني).
واقع خارجي البصر مدخلات العقل
متكلّم سامع (السمع) العقل
فهذه الأشياء ليست هي في ذاتها معرفة إنسانية أو لغوية، ولكن العقل هو المحور الأساس في إنتاج المعرفة، فالحواس لا تنتج لنا معرفة أو قضية معينة من دون معونه العقل، فهو المدبر الأول في إنتاج المعارف وتفكيكها وتفسيرها، بخلاف الفكر المقابل (الفكر الغربي) الذي يؤمن بمسألة التجريب الحسي، فعنده «تكون القضية ذات معنى معرفي اذا أمكن ترجمتها إلى قضية عن الأحاسيس».
وحينئذ يكون الإدراك حسّيًا، أي يخضع للتجربة، فالمادة هي جزء أساسي في تقريب المعرفة وإمكانياتها، بل حتى في طبيعتها وما ينتج عنها من مفاهيم تعدّ مادية؛ لأنها سببها ببساطة ذو أثر مادي (الدماغ) أو (التجريب)، والأمر الآخر وسيلة إنتاجه الحواس فقط.
لذلك فالوجود الذهني وجود مستقلّ عن الأشياء المادية، فهو «عبارة عن مجموعة المفاهيم الذهنية الحاكية عن مصاديقها في عالم نفس الأمر».
وعليه فإن الوجود الذهني لا بدّ له من مقدمات وأصول ينبني عليها، وتتمثّل هذه الأصول في التالي:
النفس هي الجوهر المجرّد عن المادة ذاتًا المتعلّق بها فعلًا:
وهذا خلاف للفكر الآخر الذي يوحّد التسمية بين الذات والنفس، وأنها مرتبطة بالجسم أو الدماغ، حيث يؤكد تشارلز على «أنّ تموضع النفس في الدماغ ينطبق مع كل ما نعرفه عن وظائف أعضائنا»، في حين يعبّر كارل بوبر أن مصطلح (النفس الخالصة) عبارة مغلوطة، ويذهب إلى أن النفس شطر منها نتاج الفطرة، والشطر الآخر نتاج الخبرة.
لذلك من لوازم الوجود الذهني القول بتجرّد النفس، لكن لا على أساسِ الإطلاق أو الوصول إلى الذاتية المطلقة، بل هي تتعلّق بأشياء أخرى ربما بالفطرة والخبرة وغيرها حتى تكون واعية.
الصور الحسية والخيالية قائمة في النفس قيامًا صدوريًا:
ويعني ذلك أنّ الصور الحسية المتحصّلة من الحواس التي هي من مصادر المعرفة، وكذلك الخيالية، ليس لها وجود تموضعي في النفس، أي ليست حالّة في النفس، إنما هي صادرة منها من غير حلول فيها.
فالنفس بحسب تكيّفها لها القدرة والقابلية على صدور مثل تلك الصور، فلا ملازمة ذاتية أو حلولية بين النفس والصور الحسية.
اتحاد العاقل بالمعقول أو علاقة الذات العارفة بالموضوع:
ويعملُ هذا المبدأ على كشف حقائق العلم، وهو من أهمّ الأصول التي يقوم عليها الوجود الذهني، فهو يمثّل نقطة خلاف كبيرة بين مذهبين رئيسين (التجريبي) و(العقلي).
إذ يعُدّ هذا المبدأ مخالفًا لما سار عليه الفكر الغربي اللساني الذي اهتمّ بفكرة أساسية، وهي (البنية) التي لا تمثّل مظهرًا علميًا لكثير من المدارس اللسانية فحسب، بل هي مصدر إبستيمي في بناء المعرفة لا سيما اللسانيات.
والتأكيد على البنية في الفكر الغربي بشكلٍ عام ومنها اللسانيات يؤكّد على حقيقة الموضوعية في العلم، فكلُّ المفاهيم إذا لم ترجع إلى البنية، فهي مفاهيم مستبعدة وذاتية ولا تتصف بالعلمية؛ إذ «إنّ كل عبارة علمية يمكن مبدئيًا أن تُحوَّل، بحيث تغدو مجرد عبارة بنيوية».
وقد شمل هذا الأمر اللسانيات بشكل عام، إذ اهتمّت بالبنية، وهي محور المفاهيم اللسانية، لكنها استبعدت المفاهيم الذاتية، حيث قامت اللسانيات بـ»عزل اللّغة كموضوع علمي عن المتحدّث».
وعزل اللسانيات عن المتحدِّث يعدّ استبعادًا للذاتية، ويتمّ معه بناء المعرفة اللغوية بعيدًا عن الذات الإنسانية التي تتأثر بالتغييرات السيكولوجية؛ لذلك قدم «سوسير اللسانيات بطريقة جديدةٍ في النظرِ إلى اللّغة كنظامٍ عوضًا عن اعتبار اللّغة ككائنٍ عضوي اشتقّت فيه كلية اللّغة من إحدى الخصائص الروحية المتعالية».
وقد أكّد بوبر «أنّ الخبرة الذاتية، أو الشعور بالاقتناع، لن يبرر قضية علمية، ومن ثم لن يؤدّي دورًا في العلم ...».
وكل ذلك يؤكّد على استبعاد النزعة الذاتية، وبناء المعرفة بشكل موضوعي بعيدًا عن المتحدّث أو الذات العارفة، كما أنّ الاهتمام بالبنية أفرز في الفكر اللساني الغربي، لا سيما عند سوسير، بعض المفاهيم التي انبنت تحت وطأة البنية، ومن هذه المفاهيم:
اللّغة - الكلام
الفكر - الشكل
التزامني - الزمني
المحايثة (فصل النص عن أيّ شيءٍ يتعلّق به سوى ذاته)
الطبيعة الأكسيوماتيكة (البديهية)
لذلك فالنزعة الإنسانية في بناء النظريّة اللسانية عندهم تؤدّي إلى أن تكون تلك اللسانيات «غامضة وذاتية، ميتافيزيقية وذات منحى جمالي»، فهذه الأمور ليس للفرد دخل في إنتاجها، وإنّما جعلوا علم اللّغة بنية مفهومية وموضوعية، حيث أسقطوا عليه بعض الاعتبارات التي لا تمثّله أحيانًا، فمثلًا مسألة التعبير عن الأشياء التي تحيط بالفرد (المتغيّر البيئي، الزمان، المكان) قد استبعدت عن اللّغة.
وتقوم عملية الإتحاد على ثلاثة وجوه:
أن يتحد موجود بموجود آخر حتى يصير الوجودان لشيئين وجودًا واحدًا، وهذا مستحيل تحقّقه، مثل وجود (الشجرة) وجود (الإنسان) يستحيل أن يتّحدا فيكونان وجودًا واحدًا.
أن يصبح مفهوم من المفهومات أو ماهية من الماهيات عين مفهوم آخر، وهو أمر يستحيل تحقّقه.
صيرورة موجود بحيث يصدق عليه مفهوم أو ماهية كلية، وهذا أمر ممكن؛ حيثُ إن جميع المعاني التي وُجدت متفرّقة في الجمادات والنباتات وغيرها توجد مجتمعة في الإنسان.
ما نريد إثباته هنا في هذا المبدأ هو ما يخالف فكرة البنية التي أبعدت النزعة الإنسانية في بناء النظريّة اللسانية، إذ يؤكد هذا المبدأ على محورية الذات في بناء المعرفة مع الإفادة من موضوعية العلم واستقلاله بمفاهيمه وأفكاره، وذلك عبر اتحاد العالم بالمعلوم أو الذات العارفة بالموضوع.
فهذه الأصول الثلاثة التي ارتكز عليها الوجود الذهني والتي اتّسمت بالتعدد والتغاير في الماهية والوجود تستلزم الاتحاد فيما بينها لتكوين المعرفة الإنسانية.
فالنظريّة اللسانية التي تخضع لفكرة البنية لا يوجد فيها اتحاد بين الذات العارفة والموضوع، أي لا يوجد ما يسمى بـ (الصور الإدراكية المجردة)، وإنّما توجد افتراضات وقوانين أُخذت بعيدًا عن الواقع اللغوي، وكذلك تفترض الخلط بين ما هو مادي وما هو مجرد، في حين فكرة الاتحاد لا تحصل بين شيئين مادييَن أو مجرّدين بالذات والفعل.
وفكرة الثنائية السوسيرية تخلط بين أمرين هما من نفس المرتبة في الماهية والوجود، وهما (اللّغة، الكلام)، فعلى أيّ أساس علمي أو لغوي استطاع سوسير أن يفرّق بينهما؟
فهل كان ذلك على أساس الماهية أو الوجود؟ كما أنّ القول بأنّ اللّغة وجودٌ ذهني أو دماغي يؤدي إلى وحدوية اللّغة والكلام.
ثم إذا افترضنا أن المقصود باللّغة العامة هي (النسق)، فهو مفهوم مجرد غير مادي، والمجرد لا يخضع لحيثية المكان والزمان، وهذا يعدّ تناقضًا في فكرة الثنائية، إذ لا ملازمة بين التجرّد، وهو مفهوم لا مادي، وبين ثنائية (التزامني - التعاقبي)، ثم هل يعني أنّ النسق حالٌّ في التزامني أو التعاقبي، وإذا كان الحال فهما ليسا من رتبةٍ واحدةٍ، إذ لا اتحاد بين المجرد والمادي إلّا في الماهية أي الصور الإدراكية.
ومن جهة أخرى، فقد تبنّت البنيوية واللسانيات بشكل عام الكليات اللغوية، ومن وجهة نظر بنيوية فإن هذه «القوانين والكيانات والخصائص -على المستوى العام- متطابقة إلى حدّ ما في جميع اللغات البشرية ..».
وتلك القوانين التي أشرنا إليها من قبل (الثنائيات وغيرها) ينبغي أن تكون في اللغات كلها متطابقة، وهذه من وجهة نظر استقرائية ناقصة؛ إذ ليس من الممكن تطبيق قواعد عامة على اللغات كلها.
والسؤال هنا من أينَ جاؤوا بالقوانين والكيانات والخصائص؟ هل جاؤوا بها من لغة واحدة أو معيّنة وطبّقوها على اللغات كلها؟ أو أنّ تأثير العلم الحديث لا سيما علم النفس والاجتماع اللذَيْن تبنّيا وجهة نظر عامة.
ويبدو أنّ تأثر دي سوسير وما بعده بالعلوم الأخرى جعلهم يتوهّمون أنّهم بنوا قواعد كلية للغة، علمًا أنّ الكلية ليس من الضروري أن يتمّ تطبيقها على اللغات، بل من الممكن أنْ تشمل مصاديق اللّغة نفسها أو اللّغة الواحدة.
والكلية هي ما يمكن تطبيقها على مصاديق كثيرةٍ، ويكون ذلك في العلم نفسه أو في المجال نفسه؛ لذلك يمكن أن نجد كليات في اللّغة الواحدة أو المعينة، مثل الفاعلية والمفعولية وحركة إعرابها، وكذلك مثل القواعد التي يتم تعلّمها مثل (كل اسم معرفة يقع في بداية الجملة يُعرَب مبتدأً).
وبحسب هذا المفهوم، فالكليات في النظريّة اللسانية الغربية لا تعدو أن تكون مفاهيم عامة يمكن تطبيقها على اللغات الأخرى؛ وذلك لأسباب منها:
الاختلاف البيئي بين اللغات أو بين متكلّمي اللغات، فكل متكلّم يتأثّر بما في البيئة من مؤثّرات بصرية أو سمعية تجعل مفاهيم اللغة مختلفةً عن غيرها من اللغات، أو قل يكون للغة خصوصية من حيث مفاهيمها وخصائصها وكيانها يختلف عن غيرها.
أسباب بيولوجية: وهذه الأسباب تختلف من فرد إلى آخر أو بين مجموعة كلامية وأخرى، فلا يوجد تشابه بيولوجي أو أساس بيولوجي بين الأفراد، بل هناك مؤثّرات خارجية تتفاعل معًا من أجلِ بيان أو توضيح سِمة الكلام الصادر من الفرد.
كما أن الاقتصار على القول بـ(فطرية اللّغة) وحدها من دون الاعتبارات الأخرى يؤدي إلى أنّ الكلام يكون ذا طبيعةٍ واحدةٍ، أي أنّ الكلام فطري، فهو يتفاعل مع المتغيرات التي تحدث للأفراد، وهذا بدوره يؤدي إلى الرتابة في الكلام وعدم القدرة على الإبداع.
وحينئذٍ يكون الفرد كالقرص الصلب لتخزين المعلومات فقط مع العلم أن التخزين في النظريّة اللسانية أو الرؤية الاخرى لا يعبر عن مصطلح (الذهن / العقل ) أو الأشياء الأخرى، بل يكون التخزين في النظريّة اللسانية الغربية ذا طبيعة عصبية (دماغي)؛ إذ تنطلق النظريّة اللسانية الغربية من أنّ شعورنا وفكرنا -مهما ظهر لنا أنّهما متعاليان- ليسا سوى نتاج عضوي مادي جسدي هو الدماغ.
ويؤدي القول بـ(فطرية اللّغة) إلى أن تكون الحقائق الفعلية التي يمكن للفرد أن يعبّرَ عنها مدركةً فطريًا أو معلومة فطريًا، وهو ما يؤدي بدوره إلى الرتابة؛ لذلك «إذا كانت القدرةُ على المعرفة هي الانطباع الطبيعي (الفطري) المدافع عنه، فإن كل حقيقة من الحقائق التي يصل الإنسان إلى معرفتها في أي وقت ستكون وفقًا لهذا الشرح فطريةً، وهذه الإشارة الكبيرة لا تساوي أكثر من طريقة خاطئة في الكلام ... لأنه لم ينكر أحدٌ كما أعتقد أنّ الذهن قادر على معرفة بعض الحقائق».
وبعد ذكر الأصول التي ينبني عليها الوجود الذهني الذي يمثل مرحلة ً جديدةً في تفسير المعرفة البشرية بعدما كان تفسير ذلك الوجود منحصرًا بالمادية أو اختلاط المفاهيم بأخرى، ويبدو مردّ ذلك إلى تبنّي المذاهب الفلسفية التي كانت تعُدّ الذهن أو العقل هو الدماغ أو العضو المادي أو الصنوبري.
وهذا أمر جعل نتائج البحث المعرفي في نظريّة المعرفة (إبستيمولوجيا) يتطابق مع ما ذهب إليه هؤلاء الحسيّون «حين زعموا أنّ دور العقل أو الذهن يشبه دور آلة التصوير؛ ولهذا لم يتمكّنوا من التقدم خطوة واحدة نحو حل المسألة، وعجزوا عن تحديد مصدر الصور والمعاني الأخرى في الذهن التي لم ترد بالحواس...».
ومصدر هذا القلق وعدم الاستقرار في تفسير الكثير من الظواهر التي لا وجود لها على المستوى الخارجي هو النظرة المادية للعقل / الذهن، وإن العقل يخضع للمصادر المعرفية التي تزوّده به الحواس فقط.
إضافة إلى لما سبق، فإن ما ذهب إليه اللسانيون الإدراكيون فيما يتعلّق بتجسيد العقل وإخضاع تفسيره إلى الخبرات البصرية والسمعية، زادت في تعقيد المسألة واقتصار عمل العقل / الذهن في تفسير تلك الخبرات، في حين الخبرات المذكورة ليست مصدرًا معرفيًا؛ لأنّ تلك الخبرات تُكْتسب بعد إجراء وتسليط العقل عليها أو الفكر، وكذلك هي تقتضي معرفةً سابقةً تحدث أولًا لحدوث الخبرات والتجارب؛ لذلك فهي نتيجة، وليست مصدرًا لتفسير وبيان عمل العقل، نعم علّة حدوث الخبرات هو الذهن الذي يمتلك صفة الاستقلال وجودي وذاتي لها.
لذلك ذهب هؤلاء في تفسيرهم للصور الذهنية إلى أنها تخضع لعاملين:
الظروف الزمانية والمكانية المحيطة بالمدرَك: وتتمثّل هذه الظروف بالخبرات والتجارب الشخصية التي تحيط بالفرد، فهي تؤثّرُ إيجابًا على تفكيره وتفسيره للأشياء الخارجية.
الجهاز العصبي: وتَمثّلَ هذا الشيء بالنظريات التي فسّرت الدماغ / العقل على أساس التماهي أو التطابق أو التفاعل.
المعرفة، لا سيما المعرفة اللغوية، هي منتج اللّغة في منطقة تسمى (بروكا)، واستدلوا على ذلك بأنه حين يحصل عطب دماغي، فإن المتكلم يفقدُ الكلام وهو عندهم دليل على تأثير الدماغ على إنتاج اللّغة وتفسير الصور المنعكسة من الواقع الخارجي.
ولا يعد هذا الأمر مسألة ترفٍ علمي، بل هو نظريّة فسروا من خلالها الكثير من الظواهر على أساس آلي؛ لذلك عدوا «الصور أو الإدراك الحسي انعكاسًا للواقع الموضوعي في الجهاز العصبي انعكاسًا آليًا».
والنظريّة الآلية أو المادية للدماغ/ العقل قَيّدت عمل العقل / الدماغ في انعكاس الواقع الحسي، فلا يستقلّ العقل بنفسه ويكون فعّالًا نشطًا لذاته.
لذلك فالرؤية الأخرى المتمثّلة بالوجود الذهني أعطت العقل مساحة وجودية واسعةً، وصفة متعالية على الحواس أو الأثر الحسي في حصول الصور الذهنية أو المعاني المدرَكة؛ لذلك جعلوا للعقل حركية في تفسير الظواهر والأشياء الخارجية من أجل بناء المعرفة البشرية؛ لذلك أعطوه أدوارًا رئيسة يقوم بها، ومن تلك المهام:
في نطاق المفاهيم
المفاهيم الكلية (الصناعة والإدراك)
وصناعة المفاهيم الكلية من أبرز ما يقوم به العقل الإنساني، فالعقل يصل من خلال معطيات معينة إلى صناعة المفاهيم وإدراكها، وتلك الصناعة لا تحصل بشكل تلقائي أو ذاتي، بل لا بدّ أن يكون هناك أشياء وظواهر أخرى من خلالها يصل العقل إلى إدراك المفاهيم الكلية وصناعتها.
وعلى الرغم من اختلاف الفلاسفة في كيفية إدراك الكلي من قِبل العقل، إلاّ أن للإدراك مراحل متنوعة:
نشأة في قوة الحواس.
نشأة في قوة الخيال.
نشأة في قوة العقل.
وصناعة المفاهيم الكلية أو إدراكها تنطلق من صورة مجردة من قبل الحواس، ثم تتدرّجُ إلى صورة أخرى في الخيال، وهي صور ذهنية أيضًا، ثم يكون الحكم الكلي وانتزاعه من قِبَل العقل، فالعقل لا يكتفي بإدراك المفاهيم بل يقوم بصناعتها أيضًا؛ إذ «من عمليات العقل صنع مفاهيم ليس لها في الخارج مصداق تنطبق عليه، وإن كان العقلُ لا يستغني عن لحاظ الخارج في صنعها»، فالمفاهيم الكلية صفات مجردة في الذهن، وإدراك كليات المفاهيم «لا يتأتّى من خلال التجزئة أو الاختزال»، فالاستعارات والمفاهيم النحوية أو قل المفاهيم اللغوية يمكن أن تكون مفاهيم كلية، ولكن إدراك الكلي لا يعني إدراك القاعدة، فمثلًا القاعدة النحوية المتعلقة بنصب المفاعيل أو قاعدة رفع المبتدأ وغيرها، فهذه قاعدة نحوية قائمة على أساس الاستقراء، وتمثل المرحلة الأولى في السير المفهومي (قوة الحواس)؛ إذ من خلال الحواس نستشهد للقاعدة النحوية وإمكان صناعتها، لكن هذا يختلف عن الكلي، حيث يمكن للذهن من خلال الأجزاء أو الجزئيات انتزاع أمر الكليات المجردة.
والأمر نفسه ينطبق على (المعنى)، فهو لا يتعلق بالكلي أيضًا، حيث إنّ المعنى يتعلّق بالجزئيات، وربما أيضًا يتعلق بالمعنى الدلالي الذي يُفْهم من السياق، وهذا يعني أنه ليس مفهومًا كليًا.
فالمفهوم الكلي قائم على أساس تكثير الواحد أو تكثير المفاهيم وقابلية المصداق، بغض النظر عن الظروف المحيطة والمقيّدات الزمنية.
فلو قمنا بقياس المفاهيم اللسانية الكلية -بحسب زعمهم- بالمفهوم الكلي وفق رؤية الوجود الذهني لرأينا أن الكليَّ اللسانيَّ لا يتمتّع بخصائص المفهوم الكلي.
ولا أريد في هذه المقايسة التوصّل إلى نسبية اللسانيات وفق المفهوم الكلي، ولكن نريد من ذلك أنّ الكلي اللساني يميل إلى تجسيد العقل وعدم إعطائه الدور الذي يقوم بإنتاج المعرفة، إذ لا زال القول بمادية العقل / الذهن يتسرّب إلى اللسانيات، لا سيما لسانيات تشومسكي وما بعده، سواء أكان ذلك يتعلّق بالمعرفة اللغوية ومصادرها أم كان ذلك يتعلق بالقواعدية التي جعلها تشومسكي من الكليات اللسانية التي يمكن أن توجد في اللغات كلها.
وعندما يطرح تشومسكي مسألة الصفة البيولوجية للغة ربما هو من خلال ذلك يطرح فكرة كلية الوجود اللغوي وتعاليه على العقل / الذهن، هذا إذا كان للعقل أثرٌ في الاستعمالِ اللغوي عند تشومسكي، إلاّ أن للدماغ ذلك الأثر، حيث يكون عندهم هو المسؤول عن إنتاج اللّغة، وهذا ما ذكرناه سابقًا في نصوص كثيرة عندهم.
ولعل مرد كلية القواعدية في المفهوم التشومسكي إلى أمرين:
نقد فكرة المعرفة بوصفها موجودة في شيءٍ من قَبيل الحدوسِ المعطاة للعقل
نقد فكرة بنية العقل وإنه يفرضُ قيودًا عامة على المعرفة، وتقديم مفاهيم ضرورية، والمقصود من ذلك أنّ المفاهيم ليست ثابتة بل متغيرة.
فالمفاهيم اللسانية يمكن أن تخضع للنقد؛ لأنها لم تقم على أساس برهاني علمي يمكن أن يشمل كل َّ ما في اللّغة، وكذلك لا يوجد ما يسمى بـ(القواعد العالمية) التي تنطبق على اللغات كلها؛ لأن مسألة التشابه والاختلاف بين اللغات استقراء غير تام، فلا إمكانية للتطبيق بحيث يشمل اللغات كلها؛ لذلك فالمفهوم الكلي الذي توهم اللسانيون في صناعته لا يعدّ كليًا، حيث إنه اللّغة المعينة فقط.
وقد وصل الأمر ببعض اللسانيين أن يعد الكلّيات اللغوية عاملًا جينيًا، وهذا ما يفهم من بعض أقوال تشومسكي الذي يميل إلى أنْ «يزوّد الطفل حدسيًا وبدهيًّا عند ولادته بمجموعة من المبادئ التي تعُد أساسًا (داخلية / فطرية)».
وفي هذا الأمر مخالفة علمية، فلا يقبل منهج العلم بفطرية القواعد الكلية التي يُزوّد بها الإنسان، وكذلك فيه تناقض عجيب بين ما يقول به تشومسكي فيما يخص (الدماغ / العقل) الذي لا يرى حرجًا في تطابقهما وبين القول بالقواعد الفطرية التي تتهيأ للطفل في حالة الولادة.
ثم كيف يزود الطفل بالكليات من دون معرفة الأشياء الخارجية أو ما توصل الحواس للذهن؟ ثم إذا كان الطفل كذلك، فلا معنى حينئذٍ لتعدّد اللغات واختلافها.
وكذا الأمر لو كان الطفل مزودًا بالكليات، لكان يعرف النصب والرفع وغير ذلك من القواعد من دون معرفة الجزئيات، وهو في حقيقة الأمر وهم كبير.
ويمكن أنْ نربط بين أمرين قال بهما تشومسكي وهما:
اللّغة عضو بيولوجي، الدماغ هو المسؤول عن إنتاجها.
القواعدية أو الكليات اللغوية فطرية داخلية.
ومن خلال هذين الأمرين يمكن فهم الكليات على أنها مادية في إنتاجها وبطبيعتها؛ لأنّ الدماغ مادي، فالكليات مادية أيضًا، وهو ما يخالف السير المفهومي والعلمي للنظريّة (الإبستيمولوجية)، فهي من جانب لا ترى بأن الإنسان مزود بأمورٍ بديهية قبل حدوث التجربة، ومن جانب آخر فإن التجربة هي المحور الرئيس الذي تدور حوله قضايا العلم.
لذلك فالكليات اللغوية في مفهوم تشومسكي لا دخل للعقل / الذهن في انتزاعها أو صناعتها، بل هي موجودة في الأصل، وهو ما يؤدي إلى إبعاد العقل في عملية الكليات ودوره في الملكة اللغوية.
فاللّغة مزودة بحسب وجودها الفطري بتلك الكليات، وهذا ما يعني «بأن اللّغة تتضمن استعمالًا لا محدودًا لوسائل محدودة، بمعنى أن الذهن محدود بشكل واضح».
والأمر الآخر الذي يمكن التوصل إليه هو أنّه إذا كانت اللّغة محدودة ً وراثيًا أو جينيًا، فيكون تشابهها وإنتاج كليات لغوية مشتركة أمرًا صعب المنال؛ لأن العامل الجيني يتأثّر بأشياء معقّدة جدًا، وحينئذٍ يكون لكل شخص سلوكه اللغوي خاص به.
ثم لا نعلم ماذا يُقْصد بـ(العامل الجيني) في الكليات اللغوية؟ أي هل اللّغة الواحدة أو المعينة تخضع للعامل الجيني، أم أن اللّغة بشكل عام هي ما تخضع لذلك العامل؟
وإذا كانت الكليات اللغوية جينيةً أو وراثيةً، فإن ذلك يؤدي إلى أن اللغات لا تختلف عن غيرها حتى في اللّغة الواحدة؛ لأن العامل الجيني يختلف من فرد إلى آخر، ثم إنه يتأثر بعوامل خارجية، وهذا ما يؤدي إلى اختلاف الأفراد في السلوك اللغوي.
ومن المفاهيم الكلية اللسانية هو معرفة المتكلّم بنْية الجملة أو ترتيب الجمل في لغته، ولكن المفهوم الكلي لا يتعلّق ببنية الجمل في اللّغة، وإنما يتعلّق بمعرفة المتكلّم بنية الجمل في اللغة التي يتكلّم بها.
لذلك أطقوا على هذه المسألة تسمية (النحو الكلي)، ويُعتقد أن هذا النحو موجود في الدماغ البشري، فكل البشر لديهم قدرة مزودون بها في معرفة ترتيب الجمل.
وهذا المفهوم من مفاهيم اللسانيات التوليدية المهمة، بل هو أساسُ قيام اللسانيات التوليدية، والذي ينطلق من «محاولة تجريد مبادئ وخصائص عامة للأنظمة القواعدية واعتبارها خصائص الملكة اللغوية نفسها ...». فالنحو الكلي أو العام ينطلق من بنية ذهنية يُزوَّد بها الإنسان بها منذ ولادته، وهذا المفهوم يُعد من الكليات والعموميات لدى الفرد، ولكن يُردّ عليه بأنّه إذا عزلنا طفلًا عن بيئته، فهل يملك الطفل تلك القدرة؟ وإذا كانت الكليات النحوية تمثلُّ القدرة أو القابلية التي هي من خصائص الإنسان أو الفرد، فإن تلك القدرة لا تمّثل بالضرورة الملازمة اللغوية، بل ملازمة للوجود الذهني المستقل فالذهن هو ما يمثل تلك القدرة والتصرف بها في توليد الجمل.
ومن الأمثلة التي تبيّن القواعد الكلية التي تبنّاها تشومسكي في نظريته (المبادئ والوسائط) هو(الفاعل الفارغ)؛ إذ هناك لغات يكون فيها الفاعل مستترًا، وبعضها يكون ظاهرًا دائمًا فلا يستتر، خذ مثلًا:
يحبُّ جون جسيكا تحبُّ جسيكا جون
ففي اللّغة الإنكليزية لا بد أن يكون الفاعل ظاهرًا، ولا ينبغي أن يكون مستترًا، وقد يعبَّر عنه باسم ظاهر أو ضمير، وظهور الفاعل في الإنكليزية يعدّ من شروط بناء العبارة التلفّظية، ولا يجوز أن يكون مستترًا، بينما في غيرها من اللغات مثل العربية لا نجد هذا القيد، فيمكن أن نقول:
يحبُّ جسيكا
تحبّ جون
فالفاعل هنا مستتر، وهذا ما يسمّى بـ( الفاعل الفارغ)، أي هناك اختلاف بين اللغات ببعض أنماطها، ولكن هذا الاختلاف أمر يعرفه المتكلم بشكل تلقائي أو فطري، «فإن الطفل بمعنى من المعاني يعرف منذ ولادته أن اللّغة التي سيتعرّض إليها في محيطه ستكون إمّا لغة فاعل غير فارغ أو لغة فاعل فارغ» .
ثم ما الذي يجعل الطفل َعارفًا بأن تلك اللّغة فاعلها فارغ أو غير فارغ؟ فإذا كان ذلك دليلًا على الكلية في اللسانيات، فتلك الكلية لا بدّ من ارتباطها باللّغة المعينة، فمعرفة الطفل بلغته بأنها ذات فاعل فارغ أو لا يؤكد اختلاف اللغات لا كلّياتها.
ومن ثمَّ فالمعرفة التي يتم بها معرفة الطفل في مرحلة الاكتساب لا تمكنه أن يعرفَ تفاصيل اللّغة، بل يفهم ما يناسبه ولا دخل للغة في ذلك.
إذا كان معنى الكلية في المفهوم اللغوي يعني (المعرفة)، أي معرفة كل إنسان منذ الصغر بلغته، أهي لغة فاعلها فارغ أم لا؟ فهذا الأمر لا يرجع إلى النظريّة اللسانية ذاتها، بل يرجع إلى الفاهمة البشرية التي تعُد صفة مشتركة عند بني البشر كلهم، فهي لا تختص باللسانيات فقط، بل الفاهمة البشرية عمومية ولها أبعاد متنوعة.
ويتعلّق الأمر كذلك بمقولة (الفطرية)، فإذا كانت معرفة الطفل بلغته أنها ذات فاعل فارغ أو لا فطرية أو داخلية، فهذا الأمر يقتضي بأن تكون معرفة اللّغة غير متدرّجة أو متطوّرة، أو بتعبير أدقّ غير هرميّة في نموّها، فهي كلٌ واحد، متى شاء الطفل أن يستعمل لغته استعملها من دون عناء، ويستطيع أن يعبّر عن كل شيء دون توقّف، وإذا كان كذلك، فهو أمر يخالف الواقع اللغوي أو النظام اللغوي للطفل.
والمفاهيم الكلية لا تتعلّق بالفطرية أو معرفة الإنسان بقاعدة معينة، فهي أمور منتزعة من خلال التحليل والتي يدركها الذهن البشري، لذلك فهي من أجناس المعقولات.
لذلك فالمفهوم الكلي يختلف عن الاستقراء الذي ربما تكون نتيجته عامة، أو من خلاله يمكن وضع قاعدة عامة، فهو يتحدّد بالجزئيات المتحقّقة فعلًا، في حين أنّ المفاهيم الكلية لا تتحدّد بالجزئيات المتحقّقة فحسب، بل تشمل أيضًا العدميات والقضايا التي يستحيل تحقّقها، فهي صورة ذهنية لا تتعلق من جهة الوجود بالخارج بل تتعلّق بالخارج على نحو السير المفهومي التكاملي، وكذلك فإنها تتصف بالتجرد الزماني والمكاني، أي ليست آنية، وهذا على النقيض فيما يتعلّق بالمادية التي تتصف بالمشخّصات الزمانية والمكانية.
ومن المفاهيم الأخرى التي يظنّ اللسانيون الغربيون أنّها من الكلّيات هو الوصف والتفسير الذي يعتمد على البنية، وينطلق هذا المبدأ من أنّ «جانبًا من قدراتك هو القدرة على الحكم فيما إذا كانت سلسلة معينة من الكلمات تشكل جزءًا من اللّغة التي تتكلم بها أم لا ...»، وهذه القدرة على الحكم تتمثّل بالاعتماد على بنية اللّغة، أي أن الفرد لديه قدرة في تحويل بنية اللّغة لتفسير المعنى أو إنشاء قواعد أخرى.
وتسمح هذه القدرة للمتكلّم التنوّع في إنتاج القواعد، مثل الجملة الخبرية والإنشائية، ومعرفة التفسير الذي يطارد بنية الجملة، فتحريك أبنية الجمل هو الذي يسمح بالتنوّع في إنتاج الجملة:
(الوكيل غادر البناية).
فعندما نريد أن نحوِّل الجملة الخبرية إلى جملة في اللّغة الإنكليزية إلى استفهامية، فلا بد أن نعتمد على بنية الجملة نفسها أي نغير ببنيتها وفق قواعد معينة وخاصة باللّغة الإنكليزية، ومن هذه القواعد:
انقل الكلمة الثالثة إلى بداية الجملة
انقل الفعل المساعد إلى بداية الجملة
ووفق هاتين القاعدتين اللتين تعتمدان على بنية الجملة نفسها نستطيع أن نحوّل الجملة أعلاه إلى استفهامية.
هل غادر الوكيل البناية
الرجل هنا
هل الرجل هنا
فمن خلال الجملتين نعرف أنّ المتكلم يُفترض أن يكون على علم بهاتين القاعدتين، وهذا يسمّى بـ(قواعد كلية)، و «وهي جزء من موهوباتنا الموروثة المشتركة كبشر».
وهذا ما يعني معرفة تلك القواعد وغيرها من القواعد التي يشترك بها البشر كمتكلمي اللّغة، وهذا أمر من الصعب التكهّن بكونه كليًا؛ إذ إنّ للغات طرائق مختلفة في تحويل الجملة الخبرية إلى استفهامية، فمثلًا اللّغة العربية لا تعتمدُ على بنية الجملة كالإنكليزية؛ إذ هناك أدوات خاصة بوسع المرء أن يعرفها عن طريق التعلّم، ولا تعدّ كلية تشمل اللغات كلها، بل لها خصوصية الاستعمال في اللّغة ذاتها.
محمد ناجح أمحمد ناجح ؟ هل محمد ناجح؟
فطريقة تحويل الخبر إلى استفهام في العربية لا تعتمد على بنية الجملة نفسها، كما هي في اللّغة الإنكليزية، فهذه اللّغة تعتمد طريقة (النقل) أمّا العربية تعتمد طريقة (الإضافة)، والحال نفسه في اللّغة اليابانية، حيث يتم وضع لفظ (KaDi) لتحويل الخبر إلى استفهام، وكذلك في اللّغة العبرية، حيث تتم إضافة أدوات الاستفهام.
وهذا إن دل على شيء، فإنّما يدل على أنّ المفهوم الكلي الذي يتحدّث به اللسانيون لا تشمل اللغات كلها، بل تشمل اللّغة المعينة أو اللّغة الواحدة أو التي كانت جزءًا من لغة واحدة أصلية تفرّعت عنها لهجات.
ويبدو أنّ اللسانيين يخلطون بين أمرين، بين المفهوم والقواعد، وهذا الخلط أدى إلى القول بأن القواعد الكلية، كالأمثلة التي ذُكرت آنفًا، ذهنية أو قل فطرية يعلم بها الطفل منذ ولادته، وهي تابعة للملكة اللغوية التي توصف بأنها دماغية أو داخلية، بالرغم من الاختلاف بين اللغات التي شاهدنا أمثلةً منها في كيفية تحويل الخبر إلى الاستفهام، كيف إنّها تختلف كلّيًا، فالاستفهام مثلًا كمفهوم هو كلي ذهني اعتباري لا وجود له في الخارج، وهو يمثّل المفهوم لا القاعدة، أمّا القواعد التي يسير عليها الاستفهام في اللّغة الواحدة أو اللغات المشابهة لها، فلا تمثّل الكلي، بل تمثّل الجزئيات التي تكوّن العموم، وهو يختلف عن الكلي، وهذا ما جعل اللسانيين يقعون في مأزق التفريق بين العموم والكلي، أو أنّ نظرتهم للذهن المادية هي التي أدّت إلى اختلاط المفهومين معًا، فعندهم الكلي ليس وجودًا ذهنيًا مستقلًا، بل تؤثّر عليه الملكة اللغوية أو القواعد الكلية.
وقد بيّن (جفري بول) في كتابه (النظريّة النحوية) حجّتين تبيّنان مفهوم الكلية، وهما:
الحجج المفهومية، وهذه الحجج تنطلق من العموم إلى الخصوص، أي الانتقال من القواعد الكلية إلى لغة معينة.
الحجج التجريبية الانتقال من لغة معينة نحو القواعد الكلية.
واذا كانت القواعد الكلية فطرية في موروثات الإنسان جميعًا، فلا معنى لوجود الحجج التجريبية، حيث لا معنى للانتقال من التجريبي إلى الكلي، فالقواعد الكلية في مفهومهم ارتكزت بشكل فطري وبوصفها قوالب جاهزة، حيث يمكن أن تنمو مع مرور الزمن. وإذا كانت كذلك، فالحجة الثانية لا أصل لها وفق ذلك المفهوم، فهل الحجة الثانية تمثّل صدق القواعد الكلية؟
وإذا أردنا أن نصحح ذلك التدّرج، فينبغي أن يكون السلّم بالشكل التالي:
الحجج التجريبية القواعد الكلية
أي القواعد الكلية لا بدّ لها من صور حسية تنطلق منها أو جزئيات، وهذه الجزئيات تتمثل بالحجج التجريبية.
ولا نريد بقولنا (صورة حسية) أنها حسية، بل هي ذهنية مجرّدة تتعلّق بالوجود الذهني الذي هو مستقلّ عن الخارج ذاتًا وماهية؛ لذلك فالكلية في المفهوم اللساني سواء عند البنيويين أم غيرهم تعني الكلية العددية أو المخصوصة، وهي قائمة على أساس الاستقراء، فلها تعلّق بجزئياتها، وأن نفي الكلية العددية ينفي الجزئي أيضًا، وهذا النوع من الكليات يعدّ وصلًا بين القضايا المخصوصة لزمن كافٍ معطى، ومن ثم يمكن أو يستطيع المرء أن يحصي كل عناصر لغته المتناهية المعينة.
في حين أنّ الكليات الأخرى التي يسميها (بوبر) الكليات الدقيقة والكليات الوجودية «ليست محدودة في زمن ومكان ... وهذا هو السبب الذي من أجله لم تكن القضايا الوجودية الدقيقة ليست قابلة للتكذيب».
وسبب عدم القابلية للتكذيب وقابلة للتحقق في القضايا الكلية؛ لأنها تشير إلى الوجود الذهني، فهي ذهنية وكذلك لا تعلُّقَ لها من جهة الوجود الخارجي بالأشياء أو الوجودات الخارجية، وإنما تعلّقها بالصور الذهنية المجردة.
لذلك ما أنتجه اللسانيون على مستوى العقل أو على مستوى اللّغة لا ينتج كليات عقلية أو ذهنية، وإنما التفسير المادي هو المهيمن على ما أنتجه هؤلاء؛ ولهذا ظن هولاء أنهم أسسوا نظريات كلية تتصف بالعموم المطلق الذي يشمل اللغات كلها، ولكن الواقع غير ذلك، فهناك وسائط مختلفة ومتنوعة لها تعلق باللّغة المعينة.
من جهة أخرى، ربما ظن أو توهّم به اللسانيون في نتاجهم اللساني، وأنّ نتاجهم عابرٌ للألسن، ربما هو لا يتجاوز الأنماطية المخصوصة، وغير قابل لأن يكون من الكليا ؛ لأنه من الصعب أن ننتج كليات لسانية؛ لأن ذلك يحتاج إلى عملُ دؤوب، وكذلك يحتاج إلى معرفة اللّغة ومتكلّمها بشكل واسع ودقيق.
وتنطلق الأنماطية من «أن التحليل النحوي القائم على لسان واحد أو عدد قليل من الالسن لن يكون كافيًا للكشف عن الكليات اللسانية، فالدراسة الاختبارية النسقية وحدها يمكنها تحقيق ذلك».
وهذا ما يؤكد على أن الكليات اللسانية غير قابلة للتحقق، نعم إنها تعميمات تخصّ لسانًا معيّنًا أو لغة معينة، ويمكن تعميم قاعدة ما في تلك اللّغة، وربما تشترك معها بعض اللغات التي هي من صنف واحد كاللغات الجرمانية واللغات السامية.
والأمر نفسه في اللّغة الفرنسية، فلها طرق متعددة في التعريف والتنكير، فمن أدواتها (une, un , les, la,le).
فهذه الأدوات تختلف تمامًا عن أدوات التعريف والتنكير في اللّغة الإنكليزية، وكذلك الحال في العربية والعبرية وغيرها من اللغات الأخرى، فهل أدوات التعريف والتنكير فطرية؟ وهل هي جزء من القدرة اللغوية المركوزة في دماغ المتكلّم؟ أم أن اختلافها لا يعطي سببًا كافيًا للجوء إلى الفطرية.
وهذا الاختلاف بين اللغات في بنيتها النحوية يؤكد أن الكليات في النظريّة اللسانية أمر يصعب تحقيقه؛ وذلك لأسباب عدّة منها ما هو بيولوجي ومنها ما هو اجتماعي بيئي، حيث إن المتكلّم يعبّر عما هو موجود في بيئته، هذا إذا قلنا بأفول الثنائية السوسيرية، لا سيما ما يتعلق بالزمن والتزامن، فإن الآنية في الثنائية تقصي الكلية اللسانية؛ لأنّ ذلك محدود وفق متغيرات زمانية ومكانية.
واذا كان ثمة تشابه بين لغتين أو أكثر في نمط نحوي أو ظاهرة نحوية معينة، فلا يعطي ذلك تبريرًا لنشوء الكليات اللسانية، بل يعطي صفة الأنماطية التي هي جزء من التحليل النحوي أو المستوى النحوي، كذلك جزء من النواحي الأخرى للمستويات الأخرى، غير أن ثمة فرقًا بين من يقول بالأنماطية التي من نتائجها التعميمات «التي يكشف عنها بفحص أكثر من لسان واحد في الوقت نفسه... إذ إن معرفة المتكلّم بلسانه تنطوي على معرفة خصائص كونية وخصائص لسان معين في الآن نفسه»، وبين الكليات القواعدية التي تنطلق من مسلَّمة أساسية، وهي أنّ «الطفل يولد ولديه معرفة تامّة بالقواعد العمومية أي لديه تخطيط محدّد وثابت...».
فالتنظيمات في الأنماطية تنطلق أو تخلق من قبل النظريّة اللغوية، أي من خلال ملاحظة اللساني الظواهر المشتركة بين اللغات، ويتم تعميم الظاهرة أو غيابها، أي المتكلم ليس لديه معرفة فطرية في معرفة القواعد المشتركة التي تفترضها النظريّة التوليدية.
وإنّه من المحال أن يكون لدى المتكلّم تلك المعرفة التامة قبل أن يلاحظ الظواهر المشتركة، وإذا كانت لديه تلك القابلية، فهي لا ترجع إلى ما يحدّد أو له علاقة باللّغة، بل هو الوجود الذهني المستقلّ الذي يؤثّر بشكل مستقلّ عن الظواهر الملاحظة.
التقسيم كوظيفة للعقل
التقسيم من الوظائف الأخرى للعقل، ووفق رؤية الوجود الذهني هو قابلية العقل على التقسيم، وتصنيف الموجودات من أجل الوصول إلى المعرفة؛ حيث إنّه من خلال تقسيم الموجودات والأشياء الخارجية المجهولة يقوم العقلُ بوظيفتهِ تلك من أجلِ الوصول إلى التصورات والتصديقات.
ومهمة هذا التقسيم أو التصنيف الذي يقوم به العقل هو الكشف عن حقائق الأشياء وعدم الخلطِ بينها في اكتساب المعرفة، وهذا ما يعني أنّ المعرفةَ وفق هذه الوظيفة هرميةٌ، فالتصنيف حينئذٍ يقوم بجمع «المختلفاتِ تحت مفهوم واحد».
فالتصنيف والتقسيم لا يقع من أجلِ ذاته، أي من أجل تكثير الواحد، بل يقع ذلك من أجل فصل الأشياء المختلفة والمتفقةِ من جهة معينة لمعرفة ذواتها ومفهوماتها، وكذلك لا يقع من أجل التقسيم ذاته وفصل الأشياء، بل مهمته الأساسية تكون «بدمج مفهومين في الذهن للحصول على ماهية تامة كالإنسان».
لذلك فإنّ يمكن التساؤل حول ما قام به اللسانيون من تقسيمات وتفريعات سواءٌ أكانوا بنيويين أم توليديين، فهل هذا التقسيم أو التصنيف كان من أجل معرفة حدود الأشياء وذواتها؟ فهل كانت ثنائيات سوسير مثلًا تقسيمات معرفية أو مجرد تقسيمات وتكثير مصطلحات؟
الكلام اللّغة
الزمني التزامني
الشكل الصورة
فهذه الثنائيات لم تحصل بدمج مفهومين للحصول على معرفة معينة، أي لم تحصل بدمج مفهوم الكلام مع اللّغة أو الشكل مع الصورة للحصول على معرفة أفضل للسانيات، وإنّما كانت قائمة على حدود وحدوية أو آحادية، فاللّغة والتزامن والشكل هي ما تدخل تحت مفهوم اللسانيات كعلم مستقلٍ قياسًا على معرفة خارجة عن المفهوم اللغوي كمعرفة الأشياء في علم الاجتماع أو الشكل في علم النفس جشطالت.
في حين أنّ ما يقوم به العقلُ وفق هذه الرؤية هو تقسيم الكلي (اللسانيات) إلى أجزاء الكلام، الشكل، الصورة وغيرها، من أجلِ الوصول إلى معرفة تامة بالكلي، لا من أجلِ حذف بعضها، فعدم دخول بعض الحدود (الكلام، الزمني، الشكل) في المفهوم اللساني يعني أننا سنحصلُ على معرفةٍ غير تامة.
فعدم الاهتمام أو عزل الكلام عن النظريّة اللسانية كما فعل البنيويون (كما هو الحال عند سوسير) يجعل اللّغة قائمة على التجريد التام وعدم المعرفة ببعض الحقائق اللسانية التي تخصّ المتكلم. والكلام في النظريّة اللسانية يُعَدّ الأرضية الخصبةُ لنشوء الثنائي الثاني (اللّغة).
الإنتزاع أو التجريد والتعميم
يُعد هذا المبدأ أو الوظيفة محلّ خلافٍ بين الفلاسفة أنفسِهِم، وكذلك بين مذهبين متجذرين في العمقِ الفكري، ومكمن هذا الخلاف يقع في (مادية المعرفة أو تجرّدها) ومن ثمَّ في مادية العقل أو تجرّده واستقلاله.
وحينما نقول بمادية العقل أو تجسّده، فإن ذلك يعني مادية المعرفة وعدم تجردها، فالمعرفة بحسب نظريّة المعرفة (الإبستيمولوجيا) تستبعد كلَّ ما هو ميتافيزيقي / ذاتي له علاقة بالإنسان؛ لذلك عدّوا «التجربة بصفة عامة خطوة ضرورية وأساسية في المنهج العلمي، لا يمكن للعلم أن يستغني عنها من أجل بلوغ الحقيقة التي ينشدها».
والعقل وفق التصور المادي لا محورية له في نشوء المعرفة البشرية، ومنها المعرفة اللسانية؛ إذ التجربة المكمن الوحيد للوصول إلى المعرفة، لكن ضمن رؤية الوجود الذهني، فالعقل ربما لا يستبعد التجربة، بل هي عامل مساعد وفق رؤية الوجود الذهني.
إذ يلاحظ العقلُ الأشياء وينتزع من تلك الأشياء خواصها وعوارضها المادية؛ لأنّ «الشيء المادي المتحقّق خارجًا يوجد في الخارج مع عوارضه ولا ينفصلان عن بعضهما»، فالعقل حينئذٍ لا يعكس الأشياء المادية، إنّما يقوم بانتزاع تلك الأشياء ويجرّدها من خواصها، ثم يقوم بتعميم الفكرة.
والوجود الذهني يتحصل بوساطة الجانب الحسي الذي يمثّل الأشياء المادية، والجانب الخيالي يمثّل الصورة الخيالية للأشياء، والجانب العقلي الذي له القابلية على تجريد الأفكار وإصدار تعميم أو تصديق لها.
والمتحصّل من ذلك هو امتناع (الصفة الكلية) للأشياء المادية وموضوعات العلوم المختلفة، ومن ضمنها اللسانيات للقائلين بمحورية المادة وتصدّرها المشهد العلمي في النظريات؛ وذلك لأنّ «الموجود المادي موجود شخصي وله من الشرائط (كالزمان والمكان) حظه الوافر، والمقيد بقيود الزمان والمكان، ويستحيل أن يصدق على مصاديق مختلفة ...».
وكذلك يتعلّق الأمر بالقائلين بأن اللّغة وجود دماغي، فالدماغ مادي كيف يستطيع أن يجرّد الأفكار والمفاهيم اللسانية، وعندما نقول إنّ الدماغ مادي في معرفته اللسانية، فذلك يعني أن الكليات اللسانية تصبح في مرحلة الأفول، إذ كيف ما هو يضيق زمانيًا ومكانيًا يستطيع أن ينتزع صفةً كليةً تنطبق على الكثير من المصاديق وتكون عابرة الزمان والمكان وممكن انطباقها على الظروف بغض النظر عن الزمان والمكان.
وإذا كان العقل / الذهن في مرحلة الانتزاع يقطع مراحلة متعددة، وهي:
التقرر الماهوي
مرحلة الإمكان
مرحلة الاحتياج
مرحلة إيجاد العلة أي العلة تقتضي وجوب المعلول
مرحلة وجوب المعلول
مرحلة الوجود أي انتساب الشيء إلى الوجود
مرحلة الحدوث.
فإن ذلك يعني أفول الاعتباطية ضمن رؤية الوجود الذهني؛ لأن لكل شيء علةً ووجودًا متعلقًا ووسيطًا بينهما، ونفي الاعتباطية هي مسألة عقلية؛ إذ العقل في هذه المرحلة له سلطان في عملية الانتزاع والتعميم؛ ولأن القول بالاعتباطية يجعل من العلم يدخل في حيز العدميات والمجهولات، فإنّ هذا أمر لا يحقق لنا المعرفة التامّة التي تتعلق باللسانيات؛ إذ لا بدّ من المعرفة أنْ تحصل درجة تامة في اتحاد العالم بالمعلوم أو اتحاد الذات بالماهوية.
وقولهم بالاعتباطية يُفْهم منه جهلهم بالوجود والماهية، فلكل شيءٍ مرتبة ووجودٌ، فاللّفظ والمفهوم والمعنى لكلٍ منهما وجود يختلف بآثاره ومشخّصاته عن الآخر، وكذلك الأمر فيما يحصل بالماهية.
وجهلهم بهذه الأشياء جعلهم يذهبون مذهب الاعتباط دون الاعتبار، ويضاف إلى ذلك أنّ القول بالاعتباط يجعل هناك هوةً كبيرةً بين المفهوم واللّفظ، وهذا لا يخضع للمعيار العلمي الصحيح القائل بالعلية بين الأشياء.
ولذلك فحسب رؤية الوجود الذهني، فإن هناك تطابقًا بين المفهوم واللّفظ من ناحية الماهية والوجود، لكن هذا التطابق في مرحلة الوجود الذهني أي الذهن ينتزع المفهوم ويصدق عليه الماهية الخارجية؛ لذلك «إذا وجدنا ماهيةً خارجية تترتّب عليها الآثار المختصّة بها، أو وجدنا ماهية ذهنية لا تترتّب عليها تلك الآثار الخارجية، فهذا لا يعني المغايرة والتباين بين الماهيتين، بل إحداهما عين الأخرى، والتغاير إنّما يكون بين الوجودين الذهني والخارجي».
وهذا ما يؤكّد على القدرة والقابلية العقلية في اتحاد المفاهيم في الوجود الذهني، صحيح أنّ الأشياء في وجودها الخارجي متغايرة من ناحية الوجود والماهية، إلاّ أن العقل / الذهن له القابلية على جعل الأشياء متطابقة في الماهية غير المشخَّصة في وجودها الذهني.
ومع أن الوجود الذهني قد يقتضي حركة اللّغة وعملها، إلاّ أنه يعمل كمساعد في إدراك مفاهيمها، فهو لا يتدخل في عملها كنشاط ذهني واجتماعي وثقافي. وربما يفهم من أن العلاقة بين اللّغة كمفهوم إنساني والعقل هي علاقة تماهٍ أو تفاعل، ولكن لا على نحو مادي، بل على نحو مفهوماتي أو ذهني، فهو لا يسيطر عليها أو يتحكّم بها، بل يساعدها في انتزاع مفاهيمها وتجريدها بشكل صحيح.
لذلك فالعقل ضمن رؤية الوجود الذهني لا يَقرُّ عمل اللّغة كإحصاء أو تمثيلٍ حسابي مثلما ذهب تشومسكي؛ إذ إنّه يقيّض عمل اللّغة، سوى أنها حساب صوري، ومن ثَمّ يتمّ عزلها عن الأبعاد الأخرى التي لها أثر في نشوء المفاهيم اللغوية.
وكذلك الأمر فيما يتعلّق بحصر فهم اللّغة ضمن السلوك أو البنية ذات التجرد المثالي، وكذا يتعلق في فهمها رمزيًا أو رياضيًا.
لذلك يمكن فهم اللّغة وفق رؤية الوجود الذهني وضمن وظيفة الانتزاع بما يلي:
وهذا يعني أن فهم اللّغة بشكل أحادي كما هو الحال في الفكر اللساني الغربي لا يصل بنا إلى الفهم الكلي للغة وبناء علم لغوي معرفي متكامل، أي تبقى هناك فجوات في عملية الفهم، وبناءً على ذلك لا ينبغي فصل تلك المفاهيم عن بعضها إذا أردنا أن نصل إلى المفهوم الكلي للغة.
كما إن إنكار الوجود الذهني يستتبع آثارًا تجعل من المعرفة غير متكاملة ومن آثار ذلك:
وجود مانع لأي تحقيق وفحص يتعلق بالظواهر الذهنية.
اختلاط المفاهيم وعدم تمييز المعقول الأوّلي والثانوي والمنطقي والفلسفي، وكذلك اختلاط المفاهيم اللسانية، وعدم الفصل بينهما كما رأينا في الثنائيات والمفاهيم التوليدية.
زوال أي تحليل أو ابتكار أو تجريد أو تعميم يتعلق بالموضوع أو المادة العلمية
انكار الوجود الذهني واستقلاله يستلزم إنكار الكليات؛ لأن الكليات لا طريق لها سوى الوجود الذهني.
الخاتمة:
اللغة والعقل عند اللسانيين الغربيين مفهومان ماديان، إذ عدوا اللغة عضوًا بيولوجيًا له أثر في مناطق الدماغ، في حين اعتبروا أن للدماغ سلطانًا على مجموعة الأفكار لا سيما اللغة، وذوبان العقل في الدماغ سواء أكان تماهيًا أم تطابقًا وتفاعلًا، وهذا ينتج آثارًا مهمة منها:
اختلاط المفاهيم بعضها ببعض كـ(اختلاط العقل مع النفس أو الشعور أو الإرادة) في حين أنّ لكلٍ منها مفهومه الخاص به
أفول الكليات التي نادى بها اللسانيون والتي عدوها من أهم ما أنتجه الدرس اللساني؛ لأن الكليات مفاهيم لا مادية لها تعلّق بالفاهمة البشرية، والدماغ المادي قاصر عن انتزاعها أو تركيبها.
عدم التوافق أو الاتحاد بين العلم والمعلوم، إذ يقتضي التفسير المادي انعكاس المعلوم بخصائصه المادية في الدماغ وهذا أمر واهم.
عدم إنتاج معرفة لسانية يقينية لها تعلق بالواقع اللغوي.
وأمام هذا الواقع نقترح فهمًا للعقل مؤسسًا على الوجود الذهني، وما يحمل من خصائص وصفات هي غير موجودة في فهم العقل / الدماغ عند الغربيين اللسانيين منهم والفلاسفة أيضًا.
فالعقل في الوجود الذهني ينتزع أحيانًا مفاهيم جديدة غير متعارفة في البيئة الكلامية، لا سيما في النصوص الدقيقة التي تحتوي على معارف علمية.
ثم إن فهم اللغة لدى اللسانيين الغربيين ينبني على فهمٍ واحدٍ لا يستوعبُ المفاهيم الأخرى، فإمّا يكون فهمًا بنيويًا صوريًا مستبعدًا أمورًا ذات صلة باللغة كمتكلم اللغة غير الطبيعي (الأعمى، الأصم، الأبكم )، أو يكون فهمًا رمزيًا بعيدًا عن روح اللغة في استعمالها في أغراضٍ متعددةٍ، أو يكون الفهم مقتصرًا على قضايا الدماغ والبيولوجيا والفهم الخاضع لمسائل الأعصاب، وكل ذلك كان نتيجة اتباع المنهج العلمي للعلوم غير اللغوية، إذ يقتضي ذلك المنهج بحسب موضوعاته تجريدها عن مؤثرات مسبقة أو بعدية.
ومن النتائج أيضًا أن القدرة اللغوية لا تعلّقَ لها بالدماغِ، أي لا تكون متموضعة في الدماغ، إنّما تابعة إلى العقل (الفاهمة البشرية).
ولا بد من معرفة أن الاهتمام بالقدرة اللغوية فقط لتفسير اللغة وفهمها يعدّ فهمًا مؤسَّسا على جانب واحد، كما أنّ فهمها على أساس النسق المجرد كذلك بعيدًا عن حقيقة اللغة التي يتشعب فهمها على جوانبَ مختلفةٍ، تختلف وتجتمع في نتيجة واحدة.
كما نقترح فهمًا للغة يكون شاملًا للغة، بحيث يكون شاملًا للقدرة البيولوجية والفزيولوجية والاجتماعية والثقافية وغيرها من النواحي الأخرى، إذ من دون ذلك الفهم الشامل لا يسع الباحث اللساني أن يصلَ إلى فهم حقيقي للغة، فاللغة مؤسسة شاملة لها تعلقات داخليةٌ وخارجيةٌ.
المصادر
إسماعيل، صلاح، البراجماتية الجديدة فلسفة ريتشارد رورتي، دار رؤية، 2019م.
أوبلر، لورين وكريس جيرلو، اللغة والدماغ، ترجمة: محمد زياد يحيى كبة، الرياض، جامعة الملك سعود، 2008م.
بتنام، هيلاري، العقل والصدق والتاريخ، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، بيروت، لبنان، المنظمة العربية للترجمة، 2012م.
بدر، عادل محمود، إشكالية الوجود الذهني في الفلسفة الإسلامية صدر الدين الشيرازي نموذجًا، دار كنوز، ط1، 2006م.
بوبر، كارل، النفس ودماغها، ترجمة: عادل مصطفى، رؤية للنشر، 2012م.
بوبر، كارل، منطق الكشف العلمي، ترجمة، ماهر عبد القادر، دار النهضة العربية، 1986م.
بوتيبنيا، ألكساندر أفاناسيفيتش، الفكر واللغة، ترجمة: تحسين رزاق عزيز، ابن النديم للنشر، 2021م.
بونجي، ماريو، المادة والعقل بحث فلسفي، ترجمة صلاح إسماعيل، المركز القومي للترجمة.
تشومسكي، نعوم، اللسانيات التوليدية من التفسير إلى ماوراء التفسير، ترجمة محمد الرحالي، دار الكتاب الجديد، 2013م.
ــــــــــــ، اللغة ومشكلات المعرفة، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، الدار البيضاء، 1990م.
ــــــــــــ، نعوم، بنيان اللغة، ترجمة، إبراهيم الكلثم، لبنان، جداول للنشر والتوزيع والترجمة، 2017م.
ــــــــــــ، تأملات في اللغة، ترجمة مرتضى جواد باقر، عبد الجبار محمد علي، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2022م.
ــــــــــــ، علم اللغة مقابلات جيمس ما غيلفري، ترجمة داود سليمان القرنة وإبراهيم يحيى الشهابي، العبيكان للنشر، 2018م.
تيوبيرت، وولفقانق، لسانيات المدونات: مقدمات موجزة، ترجمة أفراح التميمي، دار كنوز، 2022م.
الجوادي الآملي، عبدالله، نظريّة المعرفة في القرآن، دار الإسراء، ط1، 1996م.
حسينزاده، محمد، مصادر المعرفة، تعريب، حيدر الحسيني، مؤسسة دليل، ط1، 2019م.
الحيدري، كمال، الفلسفة شرح الأسفار الأربعة، دارفراقد، 2010م.
رسن، أحمد، النحو في ضوء الغاية المعرفية، دار الفيحاء، 2013م.
السبحاني، جعفر، نظرية المعرفة: المدخل إلى العلم والفلسفة والإلهيات، الدار الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، 1424ه.
سيرل، جون، العقل مدخل موجز، ترجمة، ميشيل حنا متياس، عالم المعرفة، 2007م.
شنيار، سجاد صالح، «الوجود الذهني في فلسفة صدر الدين الشيرازي دراسة في البعد الأنطولوجي والإبستيمولوجي»، المجلة الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد (33)، مايو 2022: 7.
الصدر، محمد باقر، فلسفتنا، دار التعارف، 2009م.
الطباطبائي، محمد حسين، أصول الفلسفة، ترجمة، الشيخ جعفر السبحاني، قم المقدسة – إيران، مؤسسة الإمام الصادق (ع) للتحقيق والتأليف، ط2 ،1281ه.
ــــــــــــــــ، بداية الحكمة، مؤسسة المعارف، ط1، 2012م.
طعمة، عبدالرحمن، البناء الذهني للمفاهيم بحث في تكامل علوم اللسان وآليات العرفان، دار كنوز، 2018م.
غارودي، روجيه، النظريّة المادية في المعرفة، تعريب إبراهيم قريط، دمشق، دار دمشق للطباعة والنشر.
فيرست، تشارلز، الدماغ والفكر، ترجمة محمود سيد رصاص، دار المعرفة، 1987م.
كارناب، ردولوف، البناء المنطقي للعالم والمسائل الزائفة في الفلسفة، ترجمة يوسف تيبس، المنظمة العربية للترجمة، 2011م.
كروفت، ويليام، الأنماطية والكليات، ترجمة، سمية المكي، المركز الوطني للترجمة، 2015م.
كلارك، سايمون، أسس البنيوية، ترجمة سعيد العلمي، المركز القومي للترجمة، 2015م.
كولنج، ن. ي.، الموسوعة اللغوية، ج2، ترجمة محي الدين حميدي، عبد الله الحميدان، 1421ه.
المطهري، مرتضى، الفلسفة الإسلامية، ترجمة عبد الجبار الرفاعي، دار الإرشاد، 2017م.
موور، تيرينس، كارلنغ كريستين، فهم اللغة نحو علم اللغة لما بعد مرحلة تشومسكي، ترجمة حامد حسين الحجاج، سلمان الواسطي، دار الشؤون الثقافية العامة، 1998م.
نايت، ركس، المدخل إلى علم النفس الحديث، ترجمة نور ياسين، ط1، 2022.
هلمسلاف، لويس، حول مبادئ نظريّة اللغة، ترجمة، جمال بالعربي، 2018م.
وقيدي، محمد، ماهي الإبستمولوجيا، ، مكتبة المعارف، ط2، 1987م.
يزدان بناه، يدالله، تأملات في فلسفة الفلسفة الإسلامية، مباحث في نظريّة المعرفة والمنهج المعرفي، ترجمة أحمد وهبة، دار المعارف الحكمية، 2021م.
Armstrong, D. M. A Materialist Theory of the Mind. London: Routledge & Kegan Paul, 1993.
Johnson, Mark. The Body in the Mind: The Bodily Basis of Meaning, Imagination, and Reason. Chicago: University of Chicago Press, 1990.
Locke, John. An Essay Concerning Human Understanding. Edited by Peter H. Nidditch. Oxford: Clarendon Press, 1975.