الباحث : د. حميد رضا شاكرين
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 37
السنة : شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : April / 19 / 2025
عدد زيارات البحث : 231
الملخّص:
لقد اكتسبت الأبحاث المنهجية في المرحلة المعاصرة موقعًا بارزًا بين المفكّرين في مختلف العلوم، ومن بينهم المحقّقون في العلوم الدينية، ومن بين هذه الأمور المرتبطة على هذا النحو بشكل جاد مسألة لغة العلم. هناك نظريات لغوية متعددة في مورد القضايا الإلهية، حيث يمكن تقسيمها إلى اتجاهين، وهما: “المفهومية[3] المعرفية”، و”المفهومية غير المعرفية”. وإن أصحاب الاتجاه الثاني ينقسمون في مورد القضايا التي تتحدّث عن الله إلى مجموعتين، وهما: “القائلون بعدم الحقيقة” و”المؤمنون بالحقيقة”. نسعى في هذه المقالة من خلال الاتجاه الأول إلى بحث نظريّة “الألعاب اللغوية” لفيتغنشتاين المتأخر، ومن خلال الاتجاه الثاني إلى بحث نظريّة “اللغة الأساطيرية” لجون هيك من القائلين بعدم الحقيقة، و”اللغة المجرّدة” لألستون، و”الاشتراك المعنوي والتشكيك الوجودي” لصدر المتألهين من المؤمنين بوجود الحقيقة. وضمن إظهار معطيات المنهج المعرفي من وجهة نظر صدر المتألهين، نصل إلى هذه النتيجة، وهي أن النظريّة الوحيدة الناجعة في حقل لغة الإلهيات إنما هي نظريّة صدر المتألهين.
الكلمات المفتاحية: معرفة اللغة، والمعتقدات الدينية، ومعرفة الأساليب، النسق الاجتماعي، واللغة الأساطيرية، واللغة المجرّدة، والاشتراك المعنوي.
المقدمة
إن من بين الأبحاث المهمّة فيما يتعلق بالعقائد الدينية، المبحث المرتبط بمعرفة لغتها. إن البحث عن كيفية المفاهيم المستعملة في القضايا الاعتقادية، وكيف يمكن بيان معناها، وهل ما يُعرف بوصفه من القضايا الاعتقادية هو من القضايا بالمعنى الواقعي والحقيق أو من أشباه القضايا الخالية من المعنى، وعلى افتراض المفهومية، فهل هي ذات مضمون معرفي ومعبّر عن الواقع أم لها وظيفة أخرى؟ من جملة الأبحاث التي يتمّ تداولها في هذا الحقل.
وفيما يلي نسعى إلى تناول أهم هذه الأبحاث والآراء الشائعة حولها في حقلي المفاهيم والقضايا الاعتقادية. من الجدير ذكره أن أهم أبحاث المعرفة اللغوية والمعرفة المفهومية ما يرتبط بالقضايا الاعتقادية حول محور قضايا المعرفة الإلهية. إن سرّ المطلب عبارة عن المشاكل التي ظهرت في هذا الحقل، وسائر الأبحاث الاعتقادية المتحرّرة من الكثير من المشاكل المرتبطة بتعاليم المعرفة الإلهية؛ لا جرم أن سائر الأبحاث الاعتقادية - مع حلّ هذه المسألة في دائرة المعرفة الإلهية- لا تواجه مشكلة اللغة المعرفية والمعرفة المفهومية كثيرًا.
خصائص القضايا الاعتقادية
إن من بين الأبحاث المهمّة المرتبطة بلغة العقائد الدينية ما يتعلّق بكيفية بناء قضاياها، حيث إن هذه المسألة قابلة للبحث من مختلف الزوايا، بيد أن اللافت للانتباه هنا أكثر من أيّ شيء آخر عبارة عن مسألة معرفة مفهوم/ معنى القضايا الاعتقادية التي تختصّ بأهمية خاصة في الأبحاث المعاصرة والمستقبلية. في الرؤية الأولى تظهر مشكلتان أساسيتان في البحث عن لغة العقائد الدينية، وهما:
1 مشكلة المعنى: التي يُبحث فيها أصل مفهومية أو عدم مفهومية لغة العقائد الدينية.
2 مشكلة المعرفة: التي تحلّ فيها كيفيّة كون هذه القضايا داخلة في دائرة التحقيق والاستدلال. إن هذا هو المحور الذي نبحث عنه هنا.
إن معرفة معنى القضايا الإلهية تعمل على تغطية معطيات تمتاز فيما بينها من جهات مختلفة. في تقسيم كلي يمكن تقسيمها إلى مجموعتين، وهما: مجموعة المفاهيم غير المعرفية، ومجموعة المفاهيم المعرفية، وفيما يلي سوف نواصل بحث المسألة على هذا الأساس، ونحقق في نتائج ومعطيات الأسلوب المعرفي لكل واحد منها.
1. المفهومية غير المعرفية
إن المفهومية غير المعرفية، أو النظريّة العملانية والنفعية، تقول إن لغة العقائد الدينية ليست معرفية أو ناظرة إلى الواقع ولا تتحدّث عن العالم العيني، بل تقع على عاتقها مهمّة أخرى، من قبيل: التحفيز وبيان العواطف والأحاسيس وإيجاد التعهّد والالتزام. لقد عمد وليم ب. ألستون إلى تقسيم العملانية للغة الإلهيات إلى أربعة اتجاهات رئيسة، وهي: نظريّة آلية الأحاسيس، والنظريّة الرمزية، والنظريّة الأسطورية، والنظريّة الدينية.
إن من بين آراء عدم معرفية لغة العقائد الدينية تلك النظريّة الموسومة بـ “الألعاب اللغوية” لفيتغنشتاين المتأخر، فقد ذهب في كتاب “تحقيقات فلسفية” إلى تخطئة رأيه السابق المتمثّل بنظريّة تصويرية المعنى، وقال إن اللغة لا تمثّل عالم الواقع، وليس لها مهمّة وماهية واحدة، بل لها آلية تشبه اللعبة، فهي مثل الألعاب المختلفة تشتمل على أنواع ومهام وماهيات مختلفة، حيث تكون لكل واحدة منها معاييرها الخاصّة.
إن اللغة تقبل الاتساع بشكل غير محدود، وليس هناك من وجود لنقطة ارتكاز خارج الألعاب اللغوية، لكي يتمّ التمكن بواسطتها من تقييم النسبة بين اللغة والواقعية.
إن كلًا من الفلسفة والدين والعلم والفن والعرفان ونظائرها، تعكس تعلّقات مختلفة، وإن كل واحد من هذه الحقول تستعمل التوجيه واللغة التي تراها هي الأنسب لتلبية مقاصدها. لا جرم أن لكل حقل لغته الخاصة وآليته المنطقية المتميّزة؛ ونتيجة لذلك لا يمكن لشخص أن يبدي رأيه حول لعبة لغوية، إلا إذا كان في صلبها نوع من المعيشة. من ذلك على سبيل المثال لا يمكن الحديث عن الدين بلغة العلم أو المنطق، والعكس صحيح أيضًا.
لقد منح فيتغنشتاين الأصالة لاستعمال اللغة في الحياة، وتارة يعدّ اللغة محملًا للتفكير، وتارة أخرى يعتبر معنى الكلمة عبارة عن استعمالها في اللغة. وإن الشعار الذي يحمله للدلالة على طريقة تفكيره، يقول: “لا تسأل عن معنى قضية ما، وإنما عليك أن تدرك توظيفها واستخدامها”؛ وذلك لأن المعنى إنما هو تابع للاستعمال في سياق معيّن، واللغة التي بلا معنى حيث لا يكون لها استعمال خاص وأرضية معيّنة.
إن المراد من الأرضيات والسياقات المختلفة، هي الأنحاء المتنوّعة من الحياة التي تصبح منشأ لظهور مختلف الألعاب اللغوية. إن كل طريقة من طرق الحياة لها لغتها الخاصّة؛ بمعنى أنها تعمل على إيجاد الأفكار والمفاهيم الخاصة في ذهن الشخص الذي يعيش هذه الحياة، وإن هذه التصوّرات هي التي تعمل في نهاية المطاف على بيان كيفية التعامل مع العالم الخارجي بالنسبة له. إن الفضاء الذهني للفيلسوف يختلف عن عالم الفنان، وتبعًا لذلك تكون لغتهما مختلفة أيضًا. وعلى هذا الأساس فإن لغة كل شخص تعمل على بيان عالمه الخاص. إن بيان الحياة الدينية ولغتها تقول إن الكافر حتى إذا امتلك كنوز قارون، فسوف تكون له في الحياة معيشة ضنكًا، وإن المؤمن الحقيقي حتى لو ابتلي بمثل ما ابتلي به النبي أيوب وتنكّرت له الدنيا، يبقى يعيش في عالمه (الداخلي) حياة هادئة ومستقرة. إن ربط القضايا الدينية بالواقعيات العينية في ضوء هذا الرأي وتوقّع التطابق معها أمر خاطئ وليس دينيًا أبدًا؛ وذلك لأن القضايا الدينية غير ناظرة إلى أيّ نوع من أنواع الواقعية التجريبية أو المتعالية، ولا تدّعي أيّ معرفة في هذا الشأن.
إن الإنسان الذي يؤمن بالآخرة لا يستخدم العبارات الإخبارية التي تحكي عن وصف واقعية والإخبار عنها، بل إن تعهده والتزامه النفساني البحت هو الذي يتمّ العمل على إظهاره. إن هذا التصوّر القائل بأن الدين يعمل على إظهار وبيان واقعيات العالم لنا، أو يظهر مساحة أوسع من الوجود بالقياس إلى الحياة الراهنة لنا على الكرة الأرضية، يعتبر من الأخطاء الجوهرية.
يقول يان رامسي في هذا الشأن: “إن الدور البارز للغة الدينية يمثل تذكيرًا بالتعهّد. وإن قاعدتها المنطقية شبيهة بالقضايا المتعلقة بوفاء الشخص المفعم بالحماسة، ومن قبيل حب الشخص لشعبه، وتعلق القبطان بسفينته، وهيام الزوج بزوجته. إن الميثاق الديني أجمع من ذلك، وهو ممتزج بالرموز والصوَر المؤثرة التي نشعر بالحساسية تجاهها. إن الالتزام والتعهد الديني ميثاق جامع في مقابل الوجود، وهو الشيء الذي لا يكون للبحث والبرهان دور كبير بالقياس إليه، ووظيفته الحديث عن حكايات تعمل على تحفيز البصيرة والتميّز لدى الإنسان، وإن التعهد بمنزلة الاستجابة لهذا الحافز، في حين أن الله يمثّل بالنسبة إلى الإنسان المتديّن كلمة مفتاحية، وكنزًا لا يفنى، وتفسيرًا وبيانًا لاحقًا، حيث يحكي عن التعهّد”.
النقد
يمكن نقد آراء لودفيغ فيتغنشتاين بأشكال مختلفة. وإن بعض الإشكالات الواردة على هذا التصوّر باختصار عبارة عن:
1. التنصّل عن جوهر اللغة
إن من بين الإشكالات الأساسية التي تعاني منها رؤية لودفيغ فيتغنشتاين كما أشار إلى ذلك جون سيرل بدوره أيضًا، عبارة عن الإعراض عن خصوصة البيان والإظهار الذي يمثل الجوهر الأصلي للغة والمحور الرئيس في كل لعبة لغوية. ليس المراد من هذا الإشكال هو إنكار المهام الأخرى للغة بالمطلق، بل يمكن القول إن الصفة أو الشأن الجوهري الأهم والأخطر للعبارات والجُمل التي تكون إخبارية من الناحية النحوية، هو الشأن التعبيري، وإن كان يمكن أن يكون لها في الوقت نفسه أو في ضمن ذلك مهام أخرى أيضًا. وعليه يمكن من خلال توظيف بعض القرائن استعمال هذه العبارات في المعاني الإنشائية أحيانًا.
2 . مخالفة ارتكاز المتديّنين
يذهب المتدينون في حقل العقائد الدينية إلى الاعتقاد بأن القضايا الاعتقادية لا تحتوي على مفهوم معرفي وتحكي عن الواقع فحسب، بل وهي في الواقع صادقة أيضًا. وهم إنما يشاركون في اللعبة اللغوية، لاعتقادهم بأن هناك خارج اللعبة اللغوية واقعية أخرى تضفي عليها المفهوم وتجعلها هادفة وقاصدة، وأن هناك خارج دائرة اللغة إلهًا يتحدّثون عنه.
وعلى هذا الأساس، فإن نفي أو تجاهل بيانية القضايا الاعتقادية وواقعيتها، يتنافى مع ارتكاز ومراد الناطقين بها.
3. انعدام الدليل
على الرغم من اختلافه العلم والدين في اللغة أحيانًا، إلّا أنهما يشتركان في البحث عن الحقيقة والشوق الغامر إلى المعرفة. صحيح أن الأسئلة التي يتم طرحها في كلا هذين الحقلين، ولكنهما يحملان هاجس البحث عن المعرفة، ولهما أصالة واقعية وحقيقية في القصد والتعاطي المعرفي. ومن ناحية أخرى ليس هناك من دليل على أن الماهية المنطقية للقضايا الدينية، ولا سيّما القضايا الاعتقادية بغض النظر عن مراد المستخدمين، غير إخبارية ولها مهام مختلفة تمامًا.
وعلى هذا الأساس فإن نفي المعنى المعرفي لها يفتقر إلى أيّ دليل أو دعامة منطقية.
4 . الإبهام
ما هو مفهوم “أساليب الحياة” التي تشكّل مبنى وأساسًا للغات المختلفة وغير المحدودة للودفيغ فيتغنشتاين؟ وما هو معيار فصل وتفكيك أساليب الحياة عن بعضها؟ لقد تحدّث لودفيغ فيتغنشتاين عن هذا المصطلح في خمسة مواضع من كتابه (تحقيقات فلسفية)، دون أن يقدّم توضيحًا حول مفهوم هذا المصطلح أو أن يبيّن حدوده وثغوره. كما أن تفسير تلاميذه لهذا المصطلح بالقول: “إنه عبارة عن أساليب الحياة الشاملة للأطر الثقافية والفكرية للإنسان”، أو بقولهم: «إنه النسيج الثقافي والاجتماعي الذي يعيش الإنسان فيه، ويعمل على بلورة أسلوب حياته»، لا يقدّم بدوره فهمًا دقيقًا لهذا المصطلح أيضًا. من ذلك على سبيل المثال: هل الأديان المختلفة تعتبر حياة واحدة، أم لكل دين وحتى لكل مذهب من المذاهب ضمن الدين الواحد، حياة مستقلة وخاصة به؟
5 . التناقض والتهافت
إن رأي لودفيغ فيتغنشتاين في حقل لغة الدين ينطوي على تناقض من عدّة جهات:
أ الادعاء القائل إن حقول العلم والدين والفن والأخلاق والفلسفة وما إلى ذلك منفصلة عن بعضها، ولا يمكن لأيّ واحد منها أن يصدر حكمًا على الحقول الأخرى، ألا يُعتبر هذا الادعاء بدوره نوعًا من الأحكام التي تطلق حول العلم والدين ونظائرهما؟ وبذلك يتبلور هذا السؤال القائل: ألا يكون هذا النوع من الأحكام الخارجية العامة نقضًا للقول باستحالة إصدار الأحكام على العلوم من خارجها؟
ب إن هذا الرأي القائل بأن القضايا الدينية غير ناظرة إلى أيّ نوع من الواقعيات والحقائق التجريبية أو المتعالية، ولا تنطوي على ادعاء معرفي، يمثل في حدّ ذاته نوعًا من هذه الأحكام، يصدر من قبل لودفيغ فيتغنشتاين.
ج من ناحية أخرى هل يمكن اعتبار هذا الرأي من لودفيغ فيتغنشتاين حكمًا إيمانيًا؟ وبعبارة أخرى: ألا يمكن اعتباره حكمًا صادرًا ضمن لعبة اللغة الدينية؟ أو هو حكم من خارج هذه اللعبة؟ الحقيقة أولًا هي أن هذا الحكم لا ينسجم مع فهم ومراد المتدينين. وثانيًا: إن لودفيغ فيتغنشتاين لا يعتبر المفاهيم الدينية غير منطقية فحسب، بل ويراها غبية وحمقاء أيضًا. وهذا موقف متنصل من الدين تمامًا، ولذلك لا يمكن اعتباره حكمًا صادرًا من داخل اللعبة اللغوية الدينية أبدًا.
6 . النزعة النسبية والتشكيكية
إن العمل على نفي وإنكار جميع أنواع المعايير والمباني الخارجية المشتركة لما يعتبر من أساليب الحياة وأنماطها، من قبيل: العلم والدين والفلسفة ونظائر ذلك؛ يعني أن لا شيء من هذه الأمور يستند إلى أسس ودعائم راسخة، ولا يمكن تأييدها أو إثباتها عقلانيًا؛ وذلك لأن الاحتواء على المبنى والأساس في هذا التصوّر، والاستدلال، والواقعية وعدم الواقعية، تعدّ بدورها لعبة لغوية ناشئة عن أسلوب ونمط خاص من الحياة، وإنه ليس لدينا لغة خارج أساليب الحياة وأنماطها، بحيث تكون مستقلة لكي نتمكن من تقويم هذه الأساليب والأنماط من الحياة ولغاتها مع بعضها. بل إن لودفيغ فيتغنشتاين يذهب حتى إلى الاعتقاد بأن المؤمن عندما يقول: “إن الله موجود”، وفي المقابل، عندما يقول الملحد: “إن الله غير موجود”، لا يكون هناك تناقض في هاتين العبارتين؛ وذلك لأن المؤمن والكافر لا يمتلكان لغة مشتركة، وليس لديهما فهم مشترك لهاتين العبارتين، ولا يمكن لأي واحد منهما أن يفهم كلام الآخر. ألن يكون لازم هذا الشيء شيئًا آخر غير النزعة النسبية والتشكيكية؟ واللافت للانتباه أن أحد تلاميذ لودفيغ فيتغنشتاين وهو بيتر وينتش، يقول: حتى حدود الواقعية واللاواقعية بدورها تدور مدار اللغة وطرق الحياة الخاصة، وفي الأساس فإن واقعية ولاواقعية تطابق نظريّة ما مع الواقع، إنما تكون ناشئة من أسلوب حياة خاصّة؛ بمعنى أنه ليس هناك معيار مستقل للفصل بين الواقعية واللاواقعية، وإن كل أسلوب من أساليب الحياة اللغوية المنبثقة عنها تعمل على الفصل والتفكيك الخاص بين الواقعية واللاواقعية، وتعمل على بيان مسألة تطابق النظريات والمفاهيم مع العالم الخارجي على نحو خاص. وقد ذهب في كتابه “رؤية علم اجتماعي” إلى القول بأن المنطق ذاته لا يمتلك معيارًا مستقلًا للاستنتاج. وإنما نقول في أسلوب حياة خاصة: إن هذه القضايا تُستنتج من هذه القضايا؛ ولذلك فإنه لا يقبل بهذا الادعاء القائل بأن مجموع التقويمات والقضايا المنطقية ليست من الأمور الثابتة، ويقول إن هذا الادعاء ينبثق عن نمط من الحياة الخاصة.
7 . التعارض مع الأسلوب العقلائي
إن دراسة أساليب وطرق الناس في مختلف المجتمعات، تثبت أن كل شخص يعمل قبل كل شيء، من أجل الدخول في نمط وأسلوب من أساليب الحياة، على تقويمها بالمعايير العقلية والمنطقية، ويسعى إلى التعرّف عليها قبل الدخول إليها، حتى إذا وجدها متطابقة مع المعايير العقلية وكانت نافعة له، فسوف يقبل بها، وأما في غير هذه الحالة سوف يعرض عنها.
إن هذه السيرة العملية مورد قبول جميع عقلاء العالم، وليس هناك من يشكّك أو يتردّد في صحتها. بيد أن هذا الأمر ليس ممكنًا من وجهة نظر لودفيغ فيتغنشتاين، ولا يمكن بحثه قبل الدخول في نمط من أنماط الحياة، ولا يعود هناك معنى للاختيار والترجيح، وإن الطريق الوحيد للدخول إلى أيّ لعبة أو أسلوب من أساليب الحياة عبارة عن التقدّم الأعمى والأصم والعمل بلا وعي وخوض مجازفة غير مضمونة النتائج لا أكثر.
8 . التعارض مع أسلوب الدعوة إلى الدين
إن أسلوب ونمط الدعوة الدينية ناقض عينيّ ومحسوس لادعاء الألعاب اللغوية.
إن أسلوب الأنبياء خلافًا لأسلوب المسيحية المحرّفة الراهنة هو الدعوة على أساس البصيرة والعقل واختيار الأحسن. إن هذه المسألة شديدة الوضوح في الدين الإسلامي الحنيف. من ذلك أن القرآن الكريم يدعو الناس إلى توظيف العقل في تكوين معتقداتهم وآرائهم بعيدًا عن جميع أنواع الضغط والإكراه، ونهى عن التبعية العمياء وغير المدروسة للدين، قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.
9 . اللوازم الذاتية المتعارضة
إن نظريّة الألعاب اللغوية تنطوي على لوازم تتعارض مع أساس هذه النظريّة ذاتها ولا تنسجم معها. إن القول بأن القضايا الدينية هي مجرّد إظهار التعهّد والالتزام النفساني للشخص المتديّن، إنما يقوم من الناحية المنطقية على مدعيات خاصّة بالنسبة إلى الحقيقة والواقعية. إن التعهّد والالتزام بأيّ أسلوب من أساليب الحياة يشتمل على هذا المعنى، وهو أن وجود العالم ونظام الوجود بحيث يتلاءم ويتناسب مع هذا النمط والأسلوب من الحياة. وهذا الكلام في حدّ ذاته يمثل ادعاءً معرفيًا ونافيًا لهذا التصوّر القائل بأن القضايا الاعتقادية والدينية غير ناظرة إلى أيّ نوع من أنواع الواقعية التجربية أو المتعالية ولا تحتوي على ادّعاء معرفي.
نتائج منهجية
بغض النظر عمّا تقدّم ذكره في نقد نظريّة الألعاب اللغوية، فإن المسألة المهمّة الأخرى عبارة عن نتائج ومخرجات الأسلوب المعرفي لها في فهم القضايا الاعتقادية والدينية واستنباطها. وثمة مجموعة من النتائج المعرفيّة التي تترتّب على هذا التصوّر، نشير إلى بعضها على النحو الآتي:
أ. إنها ترى أنّ أي نوع من الجهود الفكرية والعقلية في باب معرفة الحقائق الدينية فاشلة، ولا تقدّم أي منهج وراء اللغة في هذا الشأن؛ إذ ليس هناك في الأساس حقائق يمكن التعرّف عليها وراء ما يقع ويتمّ بيانه في القوالب اللغوية، وليس هناك أيّ قضية إلهية تحكي عن واقعية خارجية. لا شكّ في أن جميع أدوات ومصادر المعرفة وأساليب اكتشاف الحقائق، لا صلة لها في هذا الحقل وسوف لن تكون مجدية، وتكون مضللة.
ب. إنه الأسلوب الوحيد في فهم التحليل المضموني للنصوص الدينية من طريق ترجمتها إلى اللغة غير المعرفية. إن النقطة الأساسية جدًا في هذا الحقل، أنه في البحث عن فهم النص يتمّ تعطيل جميع الأصول العقلائية لفهم وتفسير النص، من قبيل: أصالة الظهور، والدلالات اللّفظية السائدة، ويجب استبدالها بأساليب جديدة من الترجمة، حيث لم يتمّ بعدُ إنتاج وتدوين منطقها وأصولها وقواعدها.
ج. بالنظر إلى عدم معرفية لغة العقائد الدينية، يكون الكلام عن المعايير والأساليب لاختبار صحة القضايا الاعتقادية بمعنى كشف مقدار وحجم تطابقها مع الواقعية العينية، في غير محله ومن قبيل السالبة بانتفاء الموضوع. إن الشيء الوحيد الذي يمكن الحديث عنه من الناحية المنطقية عبارة عن معايير صوابية اختبار الفهم والتفسير غير المعرفي لهذا السنخ من القضايا. إن هذه المسألة بدورها ليست متاحة في الحالة الراهنة، حيث تعطّل المنطق العام لفهم النص في هذا المجال، ولم يتم تدوين منطق جديد، ويحكم نوع من فوضوية الفهم والتفسير على القضايا الاعتقادية.
2 . المفهومية المعرفية
إن المفهومية المعرفية تقوم على أساس أن لغة العقائد الدينية إخبارية وناظرة إلى الواقعية العينية، ومن هنا فإنها تكون قابلة للاتصاف بالصدق والكذب. وفي الوقت نفسه بالنظر إلى أن القضايا الإلهية تتحدّث بشكل رئيس عن الله، وإن الله حقيقة لامتناهية، فإنها تكون متعالية، وعلى حدّ تعبير بعض المفكرين: ترنسدنتالي. ومن ناحية أخرى فإن اللغة البشرية لغة محدودة، وبعبارة أخرى: إن المحمولات والأوصاف التي تستعمل في هذه اللغة، ناظرة إلى الحقائق والحدود الإنسانية والعالم المحيط بالإنسان. وعلى هذا الأساس كيف سيكون حمل مفاهيم، من قبيل: الوجود، والقدرة، والعلم، وما إلى ذلك في مورد الله سبحانه وتعالى؟ وهل هذه المفاهيم والقضايا المنبثقة عنها تحتوي على معان حقيقية أو غير حقيقية؟ لقد ظهرت في هذا الشأن آراء مختلفة، وسوف نبحث من بين آراء القائلين بالمعاني غير الحقيقية رأي جون هيك، ومن بين آراء القائلين الغربيين بالمعاني الحقيقية رأي ألستون، ومن بين آراء العلماء المسلمين رأي صدر المتألهين.
1 . اللغة الأسطورية لجون هيك
هناك من المفكرين من ذهب إلى القول بأن لغة الإلهيات بالإضافة إلى كونها لغة معرفية تُعدّ لغة أسطورية أيضًا. وفي الوقت نفسه فإنهم يختلفون فيما بينهم حول المعنى المنشود من الأسطورة ومساحة القول بالأسطورة، بيد أن المجال لا يتسع هنا إلى ذكرها. ومن بين القائلين بالمعرفة الأسطورية في حقل اللغة الإلهية فيلسوف الدين المعاصر جون هيك. فهو يُسمّي بعض التعاليم المسيحية من قبيل: مفهوم الحلول والتجسد بالمفاهيم الأسطورية. وفي كتابه “أسطورة حلول الله” يعتبر الأسطورة رواية تعمل على توجيه السامع إلى حقيقة تفوق معانيها اللّفظية. وعلى هذا الأساس فإن الأسطورة شيء لا يمكن أن يشتمل على مفهوم حقيقي على أساس ظواهر الألفاظ، ويجب العمل على تأويله إلى معنى آخر.
نتائج منهجية
يبدو من فحوى كلام جون هيك أنه يرى في موارد لزوم المحذور العقلي من حملها على المعنى الظاهري ضرورة التأويل والحمل على غير المعنى الظاهر من اللّفظ. وعلى هذا الأساس، يجب من حيث الأسلوب المعرفي أن يقوم الأصل الأولي على حقيقية لغة الإلهيات، ما لم يكن هناك محذور عقلي في البين، ولا جرَم أنه في الموارد العادية يتم فهم وتفسير النصوص المشتملة على المفاهيم الاعتقادية على أساس الظواهر والقواعد العامّة للدلالة؛ وأما في حالة الوقوع في المحذور العقلي، فيجب العمل على تأويلها وغض الطرف عن المعنى الظاهري.
إن نتيجة الرأي أعلاه عبارة عن إقحام العقل والفهم البشري في حقل إدراك المفاهيم الاعتقادية واستنباطها وتقويمها، بحيث لو تعارض ظاهر الدليل المتني مع حكم العقل، كان العقل هو المتقدم، ويتمّ فهم وتأويل النصّ الديني في ضوئه. إن هذا الرأي وإن كان مقبولًا في حدّ ذاته، ولكنه يعاني في الوقت ذاته من عدّة مشاكل:
1 . إن كلام جون هيك لا يحتوي على بيان لكيفية تطبيق اللغة الحقيقية وحل مشاكلها النظريّة في تحديد مفهوم النصوص الاعتقادية الدينية.
2 . إن حدود وثغور تطبيق اللغة الأسطورية في رؤية جون هيك غير واضحة بشكل دقيق. فهو إنما أشار إلى موارد معيّنة ولم يقدّم قاعدة عامة يمكن على أساسها التعرّف على الموارد الأخرى. هذا في حين أن لهذه المسألة وضوحًا أكبر في التراث الفكري للعلماء العقليين من المسلمين، ولا سيّما في المنظومة الفكرية لصدر المتألهين. ففي رؤية أغلب العقلانيين من المسلمين يستحيل التعارض بين النصوص القطعية الصدور والقطعية الدّلالة وبين المدركات العقلية القطعية القائمة على أساس الأدلة العقلية الثابتة. وعلى هذا الأساس، فإن التعارض إنما يقع فيما لو كان أحد طرفي التعارض في الحدّ الأدنى دليلًا ظنيًا، وعلى هذا الأساس لا يكون هناك تعارض بين الدليلين القطعيين أبدًا. وبطبيعة الحال، فإن هذا الشيء إنما ينطبق على الدين الذي تكون حقيقته الإلهية ثابتة ومحفوظة، وأما الدين الذي تعرّضت قواعده للتحريف البشري، فلا يمكن أن يخضع لمثل هذه القواعد.
2 . نظريّة اللغة المجرّدة لألستون
يقرّ وليم ب. ألستون (1921 م) بأن لغتنا قاصرة عن الحديث عن الله سبحانه وتعالى. إن بناء هذه اللغة (أي: بناء الموضوع / المحمول) يقوم على افتراض التمايز بين العين/الذات وصفاتها؛ وعلى هذا الأساس، فإنه بعد حمل المحمول على الموضوع، يتمّ التعرّف على الموضوع بوصفه موجودًا متمايزًا عن سائر أنواع الموجودات الأخرى، بيد أن الله سبحانه وتعالى هو صرف الوجود، ولا يتطرّق إلى وجوده أيّ تمايز أو تكثّر، ولذلك لا تكون لغتنا متناسبة جدًا للحديث عن الله.
عندما ننسب العلم إلى الله يكون الأمر كما لو أن هناك تمايزًا بين الله وصفة العلم. نظير التمايز الموجود بين الإنسان وعلمه؛ في حين أن هذا التمايز بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى لا يكون تمايزًا واقعيًا. في ضوء استدلال ألستون كذلك يمكن القول بأن الألفاظ البشرية ليست قاصرة عن بيان مضامينها الخاصّة. بمعنى أنه قد تكون هناك واقعية أصيلة بحيث تكون مفردات لغتنا ناظرة إليها. وقد ذكر أن لغتنا قد تنطوي على بعض النواقص في طريقة الدّلالة، ولكن على الرغم من ذلك يمكن أن تكون هناك قدرة على توظيف هذه اللغة لتوصيف بعض الأمور. قد يمكن لنا تجريد المفاهيم التي هي من قبيل: العلم والقدرة وتنقيتها من جميع خصائص المخلوقات (الممكنات) المتناسبة مع الزمانية والجسمانية ونظائر ذلك، وإن نبقي نواة من المعنى بحيث تكون قابلة للإطلاق على الله سبحانه وتعالى. يمكن إطلاق هذا النوع من الألفاظ المجرّدة من الشوائب على نحو الحقيقة على الله سبحانه وتعالى، وأن نصنع منها قضايا صادقة على الله تعالى. وبذلك يمكن لنا الحديث عن الله عزّ وجل على نحو الحقيقة، وأن نطلق المفاهيم المجرّدة من الشوائب على الوجود الإلهي. نحن نستطيع أن ندرك بأن الواقعية التي يتمّ فهمها من وراء هذه المفاهيم، ترتبط بالوجود الإلهي بنحو من الأنحاء. من ذلك أننا على سبيل المثال نستطيع أن ندرك أن الله سبحانه وتعالى يُحب، ولكن لا نستطيع أن ندرك كيفية حبّه بشكل كامل، ولكن هذا لا يعني أن الله لا يحبّ، أو أنْ تصدر عنه صفات متعارضة مع الحب (من قبيل: البغض والعداوة)؛ إن هذا الكلام يعني أننا قد أدركنا أن الصوَر المخلوقة للتكلّم والتفكير لا تستطيع أن تحيط بالواقعية التي نتكلم عنها إحاطة كاملة.
وبذلك يتضح أن الكلام غير المثالي في باب الإله ينقسم إلى مسألتين مرتبطتين ببعضهما، وهما: مسألة معرفة الوجود، والمسألة اللغوية.
أ . إن مسألة معرفة الوجود ترتبط ببناء الوجود الإلهي؛ بمعنى: ما هو الشيء الذي يشبهه الله بوصفه من غير المخلوقات؟
ب. كما أن المسألة اللغوية ترتبط بأمرين، وهما أولًا: صورة لغتنا، وثانيًا: حدود هذه اللغة للتكلّم عن الوجود الإلهي.
يرى ألستون أنه على الرغم من أن الله يختلف عن المخلوقات من جهات مهمّة، ولكن لا يُستفاد من هذه المقدّمة أن لغة الإنسان عاجزة عن التكلم عن الله تعالى بشكل كامل. إنه يرى أن الله صرف الوجود، ولكنه لا يعتبر لغة الدين مثالية ورمزية بالكامل. ويرى أننا في الحديث عن الله يجب أن نعمل على تنقية مفاهيم لغتنا حتى الإمكان، وأن لا نسمح لصوَر لغتنا أن تعمل على تضليلنا.
نتائج منهجية
إن الأسلوب الأصلي المنبثق عن رؤية ألستون في باب فهم القضايا الكلامية الأصيلة وتفسيرها، عبارة عن أسلوب التجريد والتنقية من الشوائب. كما سبق أن ذكرنا، فإن ألستون يقول: قد يمكن لنا تنقية المفاهيم وتجريدها، ومنها تلك التي هي من قبيل: العلم والقدرة، وأن نخلّصها من جميع شوائب المخلوقات (الممكنات) التي تتناسب مع الزمانية والجسمانية وغير ذلك، وأن نبقي نواة من المعنى بحيث تكون قابلة للإطلاق على الله سبحانه وتعالى، ويمكن إطلاق هذا النوع من الألفاظ المجرّدة من الشوائب على نحو الحقيقة على الله سبحانه وتعالى. إن هذا الكلام من ألستون يقرّب رؤيته من نظريّة “المشترك المعنوي التشكيكي” لصدر المتألهين إلى حدّ كبير، وإن لم يقل هذا الكلام بشكل واضح. وعلى كل حال فإن ألستون يقف أمام خيارين، وهما:
أ. أن يقول بالاشتراك المعنوي، وأن لا يعتبر الخصائص التي هي من قبيل الزمانية والجسمانية وما إلى ذلك داخلة فيما وضعت له المحمولات؛ وفي هذه الحالة سوف يكون متّفقًا مع المفكرين المسلمين، ومع مقتضيات أسلوبهم المعرفي.
ب. أن يقول بالاشتراك المعنوي وأن يعتبر الخصائص التي هي من قبيل الزمانية والجسمانية وما إلى ذلك داخلة فيما وضعت له المحمولات؛ وفي هذه الحالة لا بد من أخذ تابعين بنظر الاعتبار، وهما:
1. إن نفي هذه الخصائص وتجريد اللّفظ من هذه المعاني سوف يؤدّي إلى الاستعمال المجازي وليس الحقيقي لهذه الألفاظ في مورد الله سبحانه وتعالى، وسوف يحوّل لغة الإلهيات إلى لغة مجازية.
2. إن النواة التي تبقى من المعنى يجب أن تكون قابلة للإطلاق على الله وعلى غير الله أيضًا، وهذا نوع من الاشتراك المعنوي. وعلى هذا الأساس يكون حلّ مسألة المحمولات في المعرفة الإلهية من دون القول بأصل الاشتراك المعنوي مستحيلًا.
3 . نظريّة الاشتراك المعنوي لصدر المتألهين
يذهب أغلب المفكرين المسلمين إلى الاعتقاد بأن لغة الإلهيات والعقائد الدينية لغة حقيقية في الجملة. وإن هذه المسألة قد اكتسبت في نظريّة “الاشتراك المعنوي والتشكيك الوجودي” لصدر المتألهين، بيانًا أوضح وأدق. وفي ضوء هذا الرأي، أولًا: يكون الحديث عن الله سبحانه وتعالى بشكل إيجابي ممكنًا، ولا ضرورة لأن يكون مقصودنا من الصفات الوجودية مفهومًا سلبيًا. وثانيًا: إن المفاهيم والأوصاف المشتركة بين الله والإنسان لا تشترك في اللّفظ فقط، وإنما تشترك في المعنى أيضًا. وعلى هذا الأساس، لا يكون معنى الوجود والعلم والحياة والقدرة وما إلى ذلك مختلفًا في مورد الله والمخلوقات. وإذا كان هناك من اختلاف، فإنما هو في خصائص المصداق، وإن ما يؤدي إلى التشبيه إنما هو تصور الاتحاد المصداقي، وليس الاتحاد المفهومي.
يرى صدر المتألهين الشيرازي أن مفتاح حل هذه المسألة يكمن في فهم أصالة الوجود ومراتبها التشكيكية. وإن رأيه في ذلك على النحو الآتي:
أ. إن الذي له عينية في الخارج، ويكون منشأ للأثر إنما هو «الوجود».
ب. ليس هناك خلاف في أصل الوجود بين الكائنات المتمايزة والمتكثّرة في الخارج، وكلها متحدة من هذه الجهة.
ج. إن مفهوم الوجود يُحمل على جميع الموجودات المتكثّرة في الخارج بمعنى واحد. وبعبارة أخرى: إن مفهوم الوجود يحكي عن حيثية واحدة ومشتركة بينها، وهي ذات العينية ومنشأية الأثر وطرد العدم.
د. إن الموجودات الخارجية في عين الاشتراك في أصل الوجود والخارجية، تحتوي على نوع من الاختلاف التشكيكي الذي يكون فيه “ما به الاختلاف عين ما به الاشتراك”.
هـ. إن جميع الكمالات الحقيقية، من قبيل: العلم والقدرة والحياة وما إلى ذلك، إنما هي من شؤون الوجود. وعلى هذا الأساس، كلما كانت المرتبة الوجودية لموجود ما أكمل، سوف تكون في هذه الصفات أكمل وأشد. وعليه تكون ذات واجب الوجود التي هي أعلى مرتبة في الوجود مشتملة على جميع الأوصاف على النحو الأعلى والأتم.
و. إن جميع المفاهيم الكمالية المذكورة قابلة للإطلاق على الله وعلى المخلوقات على نحو الاشتراك المعنوي. وعلى هذا الأساس، لو كان هناك من اختلاف، فإنما هو في الرتبة وفي كيفية الاتصاف. وبعبارة أخرى: إن اتصاف المخلوقات بهذه الصفات يكون في المرتبة النازلة ومقرونًا بالمحدوديات والقيود، وتارة يكون على شكل التركيب وزائدًا على الذات. وأما في مورد الله فهي من أعلى مراتب الكمال، ولا حدود ولا نهاية لها، وإن كيفية اتصاف الله بها من أشدّ أنواع الاتصاف أيضًا؛ بمعنى أنه ذاتي وعلى نحو البساطة وعدم الزيادة على الذات.
وقال صدر المتألهين في بيان هذه المسألة على أساس نظريّة أصالة الوجود:
«إن الوجود هو الأصل في الموجودية، وهو ممّا يتفاوت كمالًا ونقصًا وشدّة وضعفًا، وكلما كان الوجود أكمل وأقوى، كان مصداقًا لمعانٍ ونعوتٍ كمالية أكثر، ومبدأً لآثار وأفاعيل أكثر، بل كلما كان أكمل وأشرف كان مع أكثرية صفاته ونعوته أشدّ بساطة وفردانية، وكلما كان أنقص وأضعف كان أقل نعوتًا وأوصافًا».
وقد ذهب صدر المتألهين إلى تقسيم الاشتراك، إلى أربعة أقسام، وهي:
الاشتراك اللّفظي.
الاشتراك على نحو الحقيقة والمجاز.
الاشتراك المعنوي المتواطئ.
الاشتراك المعنوي المشكك.
ثم قال إن مكمن الخطأ الذي وقع فيه المتقدّمون في تصور تلازم الاشتراك المعنوي والنزعة التشبيهية، يعود إلى عدم معرفتهم بالقسم الرابع الذي هو الاشتراك المعنوي التشكيكي، وقال في ذلك:
«واعلم أن كثيرًا من الناس لم يتصوّروا الواسطة بين كون الاسم المطلق على كثيرين مشتركًا لفظيًا بينها، كاسم العين الواقع على الأشياء المتخالفة حقيقة ومجازًا، كوقوع اسم الأسد على الشجاع والسبع، وبين كونه متواطئًا واقعًا على الكل بمعنى واحد من غير تفاوت في كمالية وشدّة في نفس المعاني مشتركة، ولم يعلموا أن ههنا قسمًا آخر من الكلي المشترك كالوجود بالنسبة إلى الوجودات، والنور بالنسبة إلى الأنوار، والعلم بالنسبة إلى العلوم ... فهكذا القياس في الأسماء المشتركة بين الحق والخلق».
ويبدو أن الطريق الوحيد من بين الآراء الموجودة، والذي على أساسه يمكن الخلاص من محذور التعطيل والتشبيه، والوصول إلى المعاني المعقولة من الصفات الإلهية المذكورة في النصوص الدينية هي هذه النظريّة. إن هذا التصوّر بالإضافة إلى تمهيد الطريق أمام فهم التعابير المستعملة في النصوص الدينية في الصفات الإلهية، فإنه يعمل في الوقت نفسه على بيان المعنى الحاصل منها وخصائصها وحدودها وثغورها إلى حدّ ما أيضًا.
إن المسألة الأخرى التي يجب الالتفات إليها هي: هل يشمل الرأي أعلاه جميع التعبيرات والأوصاف المستعملة في مورد الحق تعالى، أم هناك أوصاف خاصة يتم تفسيرها بهذا المعنى؟
في الجواب عن هذا السؤال، يذهب صدر المتألهين إلى القول بأن المعقولات الأولية أو المفاهيم الماهوية والتصوّرات المأخوذة من الخارج بواسطة الحواس الظاهرية أو الباطنية، لا تقبل الإطلاق على الله بأيّ شكل من الأشكال؛ إذ تمّ أخذ الحدود والنقص والخلق في جوهر هذه المفاهيم. ولكن هناك سنخ آخر من المفاهيم، ونعني بها المعقولات الفلسفية الثانية، من قبيل: الوجود، والفعلية، والعلم، والحياة، مما هو عام وكلي ومشترك وقابل للتشكيك، ولم تؤخذ في ذاته المحدودية والمخلوقية. إن هذا النوع من المفاهيم يمكن أن يُطلق على الخالق وعلى المخلوقات أيضًا. في ضوء هذا الأمر لا يكون الرأي المذكور شاملًا للأوصاف الخبرية، وللعبارات التي هي من قبيل: الوجه واليد وما إلى ذلك. يضاف إلى ذلك أن هذا الرأي لا يمكن أن يسري إلى المفاهيم التي تبيّن في المخلوقات الحالات النفسانية الانفعالية، مثل الغضب والرضى وما إلى ذلك. وعليه ليس هناك من حل في هذا النوع من الموارد سوى التأويل.
نتائج منهجية
1. إن الأصل الأولي بلحاظ المنهج المعرفي في نظريّة الاشتراك المعنوي لصدر المتألهين عبارة عن حقيقية لغة الإلهيات، ما لم يقع محذور عقلي، ولا محالة فإنه يتمّ فهم النصوص المشتملة على المفاهيم العقائدية وتفسيرها على أساس الظواهر والقواعد العامّة للدلالة؛ وأما في حالة الوقوع في المحذور العقلي، فيجب العمل على تأويلها والتخلّي عن المعنى الظاهري. لا جرَم أن هذا الرأي يؤدّي إلى الابتعاد عن التأويل وتعقيد لغة الإلهيات في الحديث عن الله والحفاظ على قرابة ذلك من اللغة الطبيعية والعرفية.
2. إن هذه النظريّة من بين سائر التصوّرات هي الطريقة الوحيدة لمعرفة الله تعالى وفهم القضايا الإلهية؛ في حين أن سائر النظريات السابقة إما أن تغلق الطريق أمام معرفة الله أو تؤدي إلى السقوط في مأزق التشبيه، وغالبًا ما تكون مرتبطة بالاشتراك المعنوي بنحو من الأنحاء، بيد أن الاشتراك المعنوي المذكور يحرّر من فخ تعطيل المعرفة، كما يشيد بتنزيه الحق تعالى، ويؤدّي إلى بيان إدراك متعال عن الأوصاف الإلهية والابتعاد عن السقوط في مستنقع التشبيه الباطل.
3. إن من نتائج هذا الرأي، إقحام العقل البشري في حقل فهم واستنباط وتقويم التعاليم الاعتقادية، إلى الحدّ الذي لو وقع التعارض بين الظاهر الظني لدليل نصّ ما وبين حكم العقل القطعي، كان العقل هو المتقدّم، ويتم فهم وتأويل النص الديني في ضوئه.
4. إن من بين خصائص هذا الرأي أنه على خلاف تصوّر جون هيك قد ذكر بيانًا عقلانيًا عن كيفية توظيف واستعمال اللغة الحقيقية وحل المشاكل النظريّة لها في معرفة مفاهيم النصوص الدينية. كما حدد الموارد القابلة للتأويل على نحو معياري، وتضمّن أصولًا وقواعد لكيفية التأويل.
5. إن رأي صدر المتألهين خلافًا للنظريّة التصويرية لمونتغمري واط لا يتضمّن بُعدًا يفوق اللغة ولا يقبل الفهم في قضايا المعرفة الإلهية. إن هذا لا يعني إمكان المعرفة الإلهية الكاملة والتامّة في ضوء هذه النظريّة؛ بل المراد هو أن الألفاظ الناظرة إلى الأوصاف الكمالية، تدلّ بلحاظ المعنى المعرفي على ذات المعنى وحقيقته، وإن الخصائص الخاصة للمصاديق، خارجة عن دائرة مفهوم اللّفظ ومدلوله.
خلاصة واستنتاج
إن النظريات اللغوية للقضايا الإلهية تستتبع نتائج مختلفة في حقل أسلوب فهم العقائد الدينية واستنباطها، ومن إن أهم النتائج المترتبة على هذه الآراء:
1. إن نظريّة الألعاب اللغوية تعمل أولًا: على إغلاق الباب دون جميع الجهود الفكرية والعقلية في حقل معرفة الحقائق الدينية، ولا تقترح أي أسلوب خارج المتن في هذا المجال. وثانيًا: ترى أن فهم وتحليل مضمون النصوص الدينية ترجمة لها بلغة غير معرفية، دون أن تعمل على إنتاج منطقها وأصول قواعدها. وثالثًا: تعتبر أساليب صحة اختبار القضايا الاعتقادية بمعنى كشف مقدار تطابقها مع الواقعية العينية بوصفها سالبة بانتفاء الموضوع.
2. في اللغة المعرفية الأسطورية لجون هيك، أولًا: لا تكون حدود وثغور استعمال وتطبيق اللغة الأسطورية واضحة بشكل دقيق. وثانيًا: لا تحتوي على بيان لكيفية استعمال اللغة الحقيقية، وحل معضلاتها النظريّة في معرفة مفاهيم النصوص الدينية.
3. إن اللغة المجرّدة لألستون مبهمة، وبالتالي يجب أن تقبل بالمشترك المعنوي لصدر المتألهين، وفي غير هذه الصورة سوف تعمل على تحويل لغة الإلهيات إلى لغة مجازية.
4. إن النظريّة الوحيدة الناجعة في حقل لغة الإلهيات، هي نظريّة «الاشتراك المعنوي والتشكيك الوجودي» لصدر المتألهين. إن معطيات الأسلوب المعرفي لنظريّة صدر المتألهين، عبارة عن:
1. تأسيس الأصل الأولي لاستعمال القواعد العامّة للتحاور في اللغة العامة، في عين النظر إلى الاختلاف الناظر إلى الخصائص المصداقية في استعمال لغة الإلهيات وفهم القضايا الإلهية وتفسيرها.
2. إقحام العقل والفهم البشري في كشف المفاهيم الاعتقادية واستنباطها وتقويمها، مضافًا إلى تقديم حكم العقل القطعي على ظواهر النصوص.
3. إخراج الخصائص الخاصة للمصداق من دائرة مفهوم اللّفظ ومدلوله.
المصادر
باربور، إيان، علم ودين، ترجمه إلى اللغة الفارسية: بهاء الدين خرمشاهي، طهران، مركز نشر دانشگاهي، 1362 هـ ش.
پترسون، مايكل وآخرون، عقل واعتقاد ديني، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد نراقي وإبراهيم سلطاني، طهران، انتشارات طرح نو، 1376 هـ ش.
رباني گلپايگاني، علي، كلام تطبيقي، قم، مركز جهاني علوم اسلامي، 1383 هـ ش.
ساجدي، أبو الفضل، زبان دين وقرآن، قم، مؤسسه آموزشي وپژوهشي امام خميني (ره)، 1388 هـ ش.
سعيدي روشن، محمد باقر، تحليل زبان قرآن وروش شناسي فهم آن، طهران، پژوهشگاه فرهنگ وانديشه اسلامي، 1385 هـ ش.
سليماني أميري، عسكري، نقد برهان ناپذيري وجود خدا، قم، انتشارات بوستان كتاب، 1380 هـ ش.
شاكرين، حميدرضا، «مباني خداشناختي وفهم ومعرفت ديني»، فصلنامه قبسات، العدد: 49، السنة: 13، 1378 هـ ش.
الشيرازي، صدر الدين محمد (صدر المتألهين)، شرح أصول الكافي، طهران، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، 1363 هـ ش.
ــــــــــــــــــــ، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1981 م.
صادقي، هادي، إلهيات وتحقق پذيري، طهران، پژوهشگاه فرهنگ وانديشه اسلامي، 1378 هـ ش.
علي زماني، أمير عباس، زبان دين، قم، انتشارات دفتر تبليغات إسلامي قم، 1375 هـ ش.
لاريجاني، صادق، «زبان دين»، مجلة پيام حوزه، العدد: 2، 1372 هـ ش.
مگي، براين، فلاسفه بزرگ، ترجمه إلى اللغة الفارسية: عزّت الله فولادوند، طهران، انتشارات طرح نو، 1374 هـ ش.
هادسون، ويليام دونالد، لودويك ويتگنشتاين ربط فلسفه او به باور ديني، ترجمه إلى اللغة الفارسية: مصطفى ملكيان، قم، نشر گروس، 1378 هـ ش.
هارتناك، يوستوس، ويتگنشتاين، ترجمه إلى اللغة الفارسية: منوچهر بزرگمهر، طهران، انتشارات خوارزمي، 1356 هـ ش.
هكر، پيتر، ماهيت بشر از ديدگاه ويتگنشتاين، ترجمه إلى اللغة الفارسية: سهراب علوي نيا، طهران، انتشارات هرمس، 1382 هـ ش.
ويتگنشتاين، لودويگ، پژوهشهاي فلسفي، ترجمه إلى اللغة الفارسية: فريدون فاطمي، طهران، نشر مركز، 1380 هـ ش.
Alston, William P. “Being-Itself and Talk About God.” Center Journal 3, no. 3 (1984): 9–25.
ـــــــــــــــــــــ. “Functionalism and Theological Language.” In Divine Nature and Human Language: Essays in Philosophical Theology. Ithaca, NY: Cornell University Press, 1989.
Hick, John. “Jesus and the World Religions.” In The Myth of God Incarnate, edited by John Hick. London: SCM Press, 1977.
Phillips, D. Z. Religion and Wittgenstein's Legacy. Aldershot, UK: Ashgate Publishing, 2005.
------------------------------------
[1]* نشرت هذه المقالة بلغتها الفارسية الأصل تحت عنوان «زبان شناسي گزارههاي إلهياتي»، في مجلة: نشريه كلام إسلامي (الفلسفة والكلام)، العدد: 89، السنة الثالثة والعشرون، ربيع عام: 1393 هـ ش، الصفحات من 149 إلى 168.
تعريب: السيد حسن علي مطر الهاشمي
[2]. أستاذ مساعد في القسم العلمي لمنطق فهم الدين، في مركز الثقافة والفكر الإسلامي.
[3]. المقصود من المفهومية هو «وجود المعنى» مقابل خواء المعنى. (المحرر)