البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

القصديّة في التّأويليّة الغربيّة ونقدُها -إريك هيرش والشّهيد الصّدر نموذجًا

الباحث :  الشیخ حسين جهجاه
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  37
السنة :  شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 19 / 2025
عدد زيارات البحث :  233
تحميل  ( 569.341 KB )
الملخّص:
تناولت هذه المقالة مسألةً من المسائل الأساس المطروحة عند الغرب في مجال التّأويليّة واللّسانيّات، وهي مسألة «القصديّة»، فتعرَّضَت لشرح مبنى النّظريّة لدى شخصيّتين من الشّخصيّات البارزة في اتّجاه العينيّة في التّفسير، وهما: إيريك دونالد هيرش النّاقد الأدبي الأمريكي؛ والشّهيد السّيّد محمد باقر الصّدر أحد أعلام الفكر الأصولي لدى الإماميّة. وقد بيّنتُ نظريّة هيرش ضمن خمس نقاط أساس، ونظريّة الشّهيد الصّدر ضمن أربع نقاط؛ محاولًا الإضاءة على نقاط الاشتراك والاختلاف بينهما، وذكرنا الإشكالات التي يمكن تسجيلها على نظريّة هيرش من وجهة نظر الشّهيد الصّدر، بالاستفادة من مباني الأخير وأبحاثه.

الكلمات المفتاحية: الشّهيد الصّدر، هيرش، القصديّة، العينيّة، المعنى اللّفظي، التّفسير، الحدس، الدّلالة. مقدّمة

يوجد اتّجاهان بارزان في الفلسفة هما الاتّجاه النّسبي، والاتّجاه الواقعي. ويُقصد من الأوّل الاتّجاه الذي يؤمن بوجود علاقة بين الحقائقِ في مختلف المجالات، والذّاتِ الفاعلة، أو الذّهنِ الملاحِظ لها بما يحمله من خصائص وتجارب وأحكام مسبقة، الأمر الذي يُفضي إلى نسبيّة الحقائق، وعدم معياريّتها؛ وفي مقابله يقع الاتّجاه الواقعي، الذي يؤمن بموضوعيّة الحقائق، وثباتها واستقلالها عن الذّهن البشريّ وتصوّراته وممارساته اللّغويّة. وقد اتّسع هذان الاتّجاهان ليشملا مجالات كثيرة، أهمّها المجالات: الوجوديّة، والأخلاقيّة، والمعرفيّة بمعناها العام[2]. وما يهمّنا هنا هو المجال الأخير؛ حيث يلحظ المطّلعون على المجريات الفكريّة والفلسفيّة في الغرب تلك التّوجّهات النّسبيّة في مجال عالم المعرفة، خاصّة اللّسانيّات، وفلسفة اللّغة، والهرمنوطيقا.

وفي هذا السّياق، مثّل هايدغر في كتابه الذي كتبه سنة 1927 «الكينونة والزّمان»[3] -متأثرًّا بكانط، وتحليله للمقولات الذّهنيّة، وتمييزه بين النّومن والفينومن[4]- منشأ لتياريّن فكريّين فلسفيّين في الغرب: أحدهما هو الوجوديّة، والآخر هو الهرمنوطيقا النّسبيّة، فقد بحث في كتابه هذا عن الفينومينولوجيا و»الدّازاين»، حيث درس كيف يكون التّأمّل بالوجود نفسه لا الموجودات، وانتهى إلى أنّ الطّريق الوحيد لذلك يتمثّل في تحليل الدّازاين، أيّ الوجود البشري من ناحية فينومينولوجية، فتوصّل إلى أنّه وجود فاهم، وأنّ حافّة تماس «الدّازاين» مع كلّ شيء هي حافّة الفهم، ومن ثمّ دخل إلى التّأمّل في الفهم نفسه، وطَرحَ بُنية الفهم ثلاثيّةَ الطّبقات، وبيّن دور قبليّات الفهم في حصوله، والجهّات الذّاتيّة له، وأنّه كيف لهذا العالم الذّهنيّ للدّازاين أن يتدخّل في عمليّة الفهم. ثمّ قام تلميذه غادامير بتسليط الضّوء على الجهّات الهرمنوطيقيّة، والجهّات المرتبطة بالفهم لديه، وبسط البحث فيها كثيرًا في كتابه «الحقيقة والمنهج» الذي صدر عام 1960. وهكذا نشأت الهرمنوطيقا الفلسفيّة التي مثّلت اتّجاهًا لأغلب التّفكير الفلسفي المعاصر في الغرب، وعُدّت هذه الهرمنوطيقا من داعمي الاتّجاه النّسبي في الفهم، حيث أنكرت إمكان الفهم المعتبر والثّابت، وآمنت بالتّاريخيّة وتعدّد القراءات، وبتبعيّة الفهم للأفق المعنوي لمفسّر الأثر الفنّي والأدبي. ومن ثمّ اصطُلح على هذا الاتّجاه في المجال المعرفي، ومنه الهرمنوطيقا بالاتّجاه الذّهني، أو الذّهنيّة التّفسيريّة؛[5] وذلك لاعتقاده بأنّ الفهم يبدأ من فاعِل المعرفة وقبليّاته وعالمه الذّهني، بحيث يخضع الفهم لتأثير العالم الذّهني لفاعل المعرفة، سواء تعلّقت بالطّبيعة، أو النّصّ، أو أي شيء آخر؛ وفي مقابله الاتّجاه العيني، أو العينيّة التّفسيريّة،[6] الذي يتّسم بثلاث خصوصيّات: الإيمان بالقضايا الثّابتة والمعتبرة دومًا، وإمكانيّة الوصول إليها، والتّفكيك بين الذّهن الملاحِظ وبين الموضوع الخارجي. كما تعتقد -في ما يخصّ النّظريّة التّفسيريّة للنّصّ- بواقعيّة معناه واستقلاله عن المفسّر.

من هنا، عُدّ جميع القائلين باستقلال معنى النّصّ عن المفسّر، ووجوده قبل أيّ عمليّة تفسير «عينيين»، وجميع القائلين بتبعيّة معنى النّصّ للمفسّر، وعدم وجود أيّ معنى له قبل قراءته «ذهنيّين». هذا، ويرى أغلب العينيّين أيضًا أنّ محور هذا المعنى السّابق للقراءة هو المؤلّف، وصاحب النّصّ، وبهذا ربطوا هذه الواقعيّة بقصد المؤلّف، وسمّوا لأجل ذلك بالقصديّين، وأُطلق على نظريّتهم «النّظريّة القصديّة».
وفي وقتنا الحالي، هناك أتباع كثيرون في الشّرق والغرب[7] لكِلا الاتّجاهين -الذّهنيّ والعينيّ-، ويُعدّ إريك دونالد هيرش[8] (-2017) من أبرز المدافعين في الغرب عن الاتّجاه العينيّ، ومن أشدّ المنافحين عن محوريّة المؤلّف والنّظريّة القصديّة في عمليّة تفسير النّصّ. كما أنّ النّظريّة التّفسيريّة الشّائعة بين العلماء المسلمين ترجع أيضًا إلى النّظريّة العينيّة والقصديّة، وقد كان السيّد الشّهيد الصّدر (-1980)، وهو من كبار علماء أصول الفقه لدى الإماميّة، الذين يملكون اهتمامات عميقة في ما يخصّ المباحث اللّغويّة- من الذين تنبّهوا نتيجةَ مطالعاتهم للأبحاث الغربيّة إلى تلك الأسئلة المطروحة في مجال اللّسانيّات وفهم النّصّ، وعالجها بشكلٍ مبعثر ضمن ما يُصطلح عليه بـ «مباحث الألفاظ»، كحجيّة الظّهور، ومعنى التّرادف، والاشتراك، والفرق بين الخبر والإنشاء والاستعمال، وغيرها.

لكن في هذا السّياق، ينبغي التّنبّه إلى أنّ القائلين بالقصديّة[9] قدموا تقارير مختلفة لها، وقد وجّه القائلون باللّاقصديّة[10] نقودًا عديدة للقصديّة من دون التّمييز بينها، في حين أنّ هذه النّقود تصحّ على بعضها دون الآخر. ومن بين هذه التّقارير المختلفة ما قدّمته هاتين الشّخصيّتين البارزتين.
لذا نسعى في هذه المقالة إلى رصد المباني الخاصّة بإريك هيرش حول القصديّة، والشّهيد الصّدر كذلك، والمقارنة بينهما؛ لاقتناص أوجه التّشابه، والافتراق، وتحليل أوجه الضّعف في نظريّة هيرش بحسب ما طرحه الشّهيد الصّدر. من هنا، سأبدأ أوّلًا بذكر مباني القصديّة لدى هيرش، ثمّ مباني القصديّة لدى الشّهيد الصّدر ثمّ النّتائج المقَارنة مع التّحليل؛ للخروج بنظريّة قصديّة متينة.

لكن قبل هذا أجد من الضّروري إلقاء الضّوء أكثر على تعريف موجز للـ «القصديّة» لضبط حدود المقصود منها:
تعريف القصديّة
تُعرَّف نظريّة القصديّة -أي قصديّة المعنى-[11] بنظريّة «القطع بقصد المؤلّف» أو «أيديلوجيّة المؤلّف»، ويُصطلح عليها باللّغة الفارسيّة بـ»مؤلف محورى». وهي تؤمن بأنّ المؤلّف هو مصدر المعنى في النصّ؛ لأنّه يرمي دائمًا إلى إيصال رسالته، ومراده عبر نصّه إلى الآخرين، وهو ما يُعرف بمعنى الأثر، وهو لا بدّ أن يتجلّى –ولو نسبيًّا- في النّصّ، ولا صلة له بذهنيّة القارئ، وخلفيّاته. ثمّ إنّ دور المفسّر هو الكشف عن مرادات صاحب النّصّ، لذلك يتحدّثون عن «إمكانيّة الفهم» في عمليّة التّفسير، ويعتبرون أنّ كلّ نصّ يمكن أن يُفهم -بمعنى الوصول إلى مراد المؤلّف الأصلي- وهو قابل لذلك.
وبعبارة أخرى، بعد الفراغ من فكرة أنّ المعنى أمرٌ مختلف عن اللّفظ، وهو ما يرفضه المنكرون للمعنى كجاك دريدا، ودي سوسير، يتبلور السّؤال عن ماهيّة هذا المعنى، فهل هو أمر قصدي أم لا؟ بمعنى أنّه هل هناك ربط بين المعنى، وقصد المؤلّف؟ وهل يمكن اعتبار قصد المؤلّف مصدرًا لمعنى النّصّ أم أنّ هناك مصدرًا آخر له؟ وبصياغة أخرى: هل لقصد المؤلّف، ومراده دور في تكوين، وتشكيل معنى النّصّ أم لا؟ وبعد هذا يأتي سؤالٌ آخر مفاده: هل يجب ملاحقة قصد المؤلّف لفهم معنى النّصّ، أم يمكن تجاهله، والتخلي عنه؟ وهنا، تؤمن القصديّة بأنّ مصدر المعنى هو المؤلّف، وأنّه ينبغي البحث عنه ضمن ما قصده هو نفسه.

هذا ممّا يُجمع عليه أغلب القائلين بالقصديّة؛ لكن مرجع اختلافاتهم هو في تقرير ذلك، أو فلنقل التّنظير له.
القصديّة عند إريك هيرش[12]
هو ناقد أدبي، ومنظّر أمريكي معاصر، وُلد عام 1928 وتوفي عام 2017. يُعتبر من المدافعين الشّرسين عن الاتّجاه العيني في فهم النّصوص، ومن النّاقدين اللّاذعين للهرمنوطيقا الفلسفيّة، تأثّر بدلتاي، وشلايرماخر، وإدموند هوسرل، ودرس أفكار هايدغر، وغادمير، وناقشها[13]. له كتاب في مجال الهرمنوطيقا، أهمّها كتاب «صحّة التّفسير»[14] الذي صدر عام 1967[15]، أي بعد سبع سنوات من نشر كتاب «الحقيقة والمنهج» لغادامير، طَرحَ فيه نظريّته حول القصديّة التّفسيريّة، ونقد فيه الهرمنوطيقا الفلسفيّة من زاوية تاريخيّتها ونسبيتها، مؤكّدًا من خلال ذلك على محوريّة المؤلّف، وفهم قصده، وضرورة تحديد المعايير والضّوابط المعيّنة لذلك. كما يعتقد أنّ هناك أمرين مستقلّين عن بعضهما بعضًا يمكن تحصيلهما في عمليّة تفسير النّصّ، هما: المعاني المتحصّلة من ألفاظ النّصّ؛ والثّاني هو الشّواهد القائمة على تلك المعاني في زمن تفسيره.

يركز هيرش على النّيّة، أو القصد في تفسير أيّ نصّ، بمعنى أنّ المعنى الحقيقي للنّصّ يرجع إلى مقصود المؤلّف وقت كتابته؛ لذا لا بدّ لتحقيق الفهم الصّحيح من الرّجوع لنيّة الكاتب الأصليّة، وهذا لا يكون إلّا بفهم السّياق التّاريخي والثّقافي والاجتماعي للنّصّ. ومن ثمّ فللنّصّ معنى مستقلٌّ؛ غير أنّه يميّز بين هذا المعنى وبين الدّلالة في خطوة لاحقة، فيعتبر أنّ الدّلالة أوسع من الفهم، وهي تشمل تأويلات مختلفة.

ولإيضاح نظريّته أكثر، فإننا سنعمد إلى تلخيصها ضمن النّقاط الآتية:
يرى هيرش -بعد اعتقاده بإمكانيّة الفهم- أنّه لا يكفي دراسة المعنى الحرفي للنّصّ لتحقّقه، لأنّ الألفاظ لا معنى لها من دون قصد ووعي، بل هي لا تعدو كونها مجموعة أصوات لا دلالة لها فيما لو لم تقترن بالقصد،[16] ومن ثمّ لا تكون الألفاظ علامات صالحة للدّلالة إلّا إذا صدرت من متكلّمٍ واع وقاصد؛ فالمعنى لا يرتبط بالألفاظ بحدّ ذاتها، بل بالوعي؛ إذ إنّ المعنى هو مهمّة الوعي لا مهمّة الكلمات، وقد استفاد ذلك من الفيسلوف الظّاهراتي الألماني إدموند هوسرل (-1938) الذي يصرّح بأنّ المعنى هو متعلّق الوعي، وذلك في كتابه المترجم إلى العربيّة تحت عنوان «أفكار ممهّدة لعلم الظّاهريّات الخالص وللفلسفة الظّاهراتيّة»[17]. وبهذا تمّ الرّبط لدى هيرش بين المعنى وبين قصد المؤلّف، فالنّصّ يعني ما عناه المؤلّف[18]. والملاحظ أنّ هذه الفكرة قريبة من نظريّة التّعهّد المطروحة لدى علماء الأصول لدى الإماميّة، والّتي تبنّتها مدرسة السّيّد الخوئي (-1992)، وهي إحدى النّظريات المطروحة في مجال تفسير العلاقة بين اللّفظ والمعنى، والتي تُبحث عادةً ضمن مبحث «حقيقة الوضع» في بدايات مباحث الألفاظ في الكتب الأصوليّة، وتُفيد هذه النّظريّة بأنّ الدّلالة -أي المعنى- متوقّفة دائمًا على التّعهّد، والالتزام من قِبل المتكلّم على الإتيان باللّفظ عند قصد تفهيم المعنى[19]. وهذا التباني، والالتزام هو منشأ العلقة الوضعيّة، ومن ثمّ تكون الدّلالة الوضعيّة دلالة قصديّة، أمّا الألفاظ الصّادرة غفلة، ومن دون هذا التّعهّد، فهي خالية من الدّلالة والمعنى، وما يحصل من تصوّر في الذّهن عند سماعها لا يعدو كونه من قبيل تداعي المعاني؛ للأنس والألفة بين اللّفظ، وهذا المعنى المخصوص.
وبهذا، فقد استدل هيرش على أنّ معنى النّصّ هو ما قصده المؤلّف[20]، وأنّ الفهم لا يتحقّق إلّا بالوصول إلى هذا المعنى، بالفكرة التي تُفيد أنّ كلّ معنى متعلّق بالقصد، ومن دون هذا القصد لا معنى أصلًا.

من خلال ربط معنى النّصّ بما قصده المؤلّف، يصبح الاهتمام بما يُطلق عليه هيرش «السّياق»، أي حياة المؤلّف، وزمنه، وظروفه المعاشة وأفقه المعرفي مُسَوَّغًا تمامًا بل لازم أيضًا. فبعد أن كان النّصّ أهمّ من المؤلّف، وهو الذي يوصلني إلى فهم ما يريد المؤلّف، كما في الهرمنوطيقا الكلاسيكيّة التي كانت تكتفي بدراسة القواعد اللّغويّة، والنّحويّة لفهم النّصّ، والوصول إلى مراد صاحبه، صار النّفوذ أولًا إلى نفسيّة المؤلّف، والإلمام باهتماماته وهواجسه وظروفه الزّمانيّة والمكانيّة أهم لفهم دافعه من الكتابة؛ لأنّه دون معرفة هذا الدّافع لا يمكن تفسير النّصّ. من هنا، يصرّح هيرش بأنّ لكلّ نصّ معنى واحدًا، ودلالة واحدة، بمعنى أنّه كلٌّ متكامل، ويستحيل أن يكون على غير ذلك؛ لأنّ وحدته ترجع إلى قصد المؤلّف المتجلّي في النّصّ برمته،[21] وأنّه لا بدّ من الاعتماد على المهارات الفنّيّة[22] للكشف عن معنى النّصّ، ويقصد من تلك المهارات مجموعة الألفاظ، والمفردات نفسها التي يستعملها المؤلّف في نصّه؛ ولهذا يؤكّد على أهمّيّة معرفة تاريخ المؤلّف وفضائه المعرفي؛ بمعنى أنّه يلزم لتحديد مراد المؤلّف من الألفاظ التي يستعلمها أن يعمد المفسّر إلى دراسة المؤلّف، والإلمام بكلّ ما يرتبط بتحديد ذلك. وهذا ما جعله قريبًا من الهرمنوطيقا الرّومانسيّة لدى شلايرماخر، الذي تحدّث عن نفسيّة المؤلّف، وضرورة إعادة توليد النّصّ التي تتمّ من خلال معرفة ظروف النّصّ، وذهنيّة المؤلّف حين الكتابة؛ وإنّ كان لهيرش أفكاره الخاصّة في هذا الإطار. وبعبارة أوضح، تذهب الهرمنوطيقا الكلاسيكية إلى أنّ دراسة القواعد اللّغويّة والنّحويّة، والاهتمام بخصائص اللّغة وأساليب التّحاور كافية لتحقيق الفهم الكامل للنّصّ، ومن ثمّ يقتصر دور الهرمنوطيقا على تدوين هذه القواعد، وهذا بخلاف شلايرماخر الذي يرى أنّه لا ينبغي الاكتفاء بذلك؛ لاحتمال أن يكون المؤلّف قد لاحظ بعض المعاني ولم يُحسن بيانها بدقّة، ولهذا ينبغي النّفوذ إلى نفسيّة المؤلّف من خلال التّعرّف على حياته وزمانه؛ لذا فإنّ المعنى الأصلي للنّصّ لدى شلايرماخر لا يقتصر على مراد المؤلّف الذي نصل إليه بمجرد تطبيق القواعد اللّغويّة والنّحويّة بنحو صحيح كما في الهرمنوطيقا الكلاسيكيّة، بل يرتبط بـ «كامل حياة المؤلّف» التي تمدّني عبر النّصّ بمعانٍ لم يلتفت الكاتب إليها أصلًا. لكن هيرش وإن كان يتّفق مع شلايرماخر بضرورة دراسة حياة المؤلّف، إلّا أنّه لا يتّفق معه في مسألة اعتبار تلك المعاني التي لم يلتفت إليها صاحب النّصّ جزءًا من المعنى الأصلي له، بل هو ما أراده المؤلّف فقط. واقتناص هذا المراد متوقّف عل معرفة ظروف النّصّ وذهنيّة المؤلّف حين الكتابة، فهل كان مثلًا متأثّرًا بعالم الفلسفة مثلًا حين كتب نصّه، أو بعالم السّياسة، أو الاجتماع، أو غير ذلك؟ وما هي دوافعه النّفسيّة التي دفعته للكتابة؟ وما هي السّمات التي تطبع أسلوبه في الكتابة والتّعبير؟ ينبغي الإجابة عن هذه الأسئلة، وغيرها لتحديد مقصوده، ومراده ممّا كتبه في نصّه، فلربما استعمل بعض الاستعارات، والتّشابيه الخاصّة به، أو استعمل كلمة بمعنى صحيح غير مألوف، وهكذا. ومن ثمّ يعتبر هيرش أنّه ينبغي تفسير النّصّ ضمن الظّرف الذي صدر فيه، وضمن إطاره التّاريخي الذي ينفع في فهم الكلمات والعبائر المستعملة في النّصّ؛ وذلك للوصول إلى مراد المؤلّف.

يستعمل هيرش في كتاباته ثلاثة مصطلحات ينبغي التّمييز بينها؛ المصطلح الأوّل هو «المعنى الحرفي»، ويقصد به ما تنتجه الكلمات من معنى متبادر لدى أبناء اللّغة بحسب القواعد النّحويّة والبلاغيّة، وأساليب المحاورة، بصرف النّظر عن أنّ المتكلّم قصده، أو لم يقصده، وهذا المعنى لا قيمة له في تحقيق فهم النّصّ، فصحيح أنّ النّصّ بإمكانه إيصال دلالاتٍ وتصوّراتٍ من خلال ألفاظه، غير أنّ المعنى المطلوب لا يكون مستقلًّا عن قصد المؤلّف، بل ليس للألفاظ معنى مستقلٌ عن قصده. وبهذا يقف في وجه فكرة «الاستقلال المعنائي»[23] للنّصّ، أي إقصاء قصد المؤلّف، والالتفات فقط إلى ألفاظ النّصّ، التي تُعتبر مستقلّة من ناحية المعنى[24]. ويصطلح على المعنى الذي قصده المؤلّف بالمعنى اللّفظي،[25] ويُعبَّر عنه أحيانًا بـ «المعنى»[26]. يمثّل هذا المعنى ما يُفهم من منطوق النّصّ بعد تحليل بنيته اللّغويّة في سياقها التّاريخي والثّقافي التي صدرت فيه؛ ويقول في تعريفه، هو: «كلّ ما قَصَدَ الشّخص نقله بواسطة سلسلةٍ من العلامات اللّغويّة، ويمكن نقله للآخرين، أو الاشتراك فيه من خلال تلك العلامات اللّغوية»[27]. لكن ما ينبغي الإشارة له أنّ هذا المعنى اللّفظي يشمل أيضًا تلك المعاني العميقة والمقاصد المضمرة للألفاظ، حيث بإمكان المؤلّف أن يعني أكثر ممّا يعي؛ لأنّ الشّيء الذي يعنيه دون وعي هو شيء مقصود على أي حال، فليس من الضّروري أن تكون جميع المداليل الالتزاميّة والضّمنيّة محطّ التفات وقصد واعٍ للمؤلّف، غير أنّها جميعها دخيلة ضمن المعنى اللّفظي. ثمّ إنّ هذا المعنى اللّفظي هو المحقّق للفهم، وهو معيار التّفسير الصّحيح، والّذي ينبغي ملاحقته؛ لأنّه ينتمي إلى قصد المؤلّف ووعيه، ولا يتربط بما يدور في وعي المفسّر. أمّا المصطلح الأخير فهو «المعنى الضّمني»، أو «المعنى بالنّسبة إلى»، أو «المعنى لأجل»،[28] وهو ما طرحه هيرش أثناء تمييزه بين المعنى والدّلالة، حيث قصد بالدّلالة[29] «المعنى الضّمني» نفسه، وعلاقةَ المعنى اللّفظي بأمور أخرى،[30] كالمعتقدات، واستجابات القارئ، أو البيئة الثّقافيّة السّائدة في زمن القارئ، أو قيمه ومفاهيمه، أو قلّ هو ما يرتبط بتلقّي النّصّ ضمن سياقات مختلفة، بمعنى أنّ هذه السّياقات ستفرض نفسها لا محالة على النّصّ، حيث تضع المعنى في علاقة مع وضعيات متنوّعة، ومن ثمّ سينعكس هذا على كيفيّة تلقّيه. وبعبارة أخرى، المعنى اللّفظي هو المعنى الأصلي للنّصّ الّذي قصده المؤلّف عند الكتابة، والمعنى الضّمني هو الدّلالة التي يراها القارئ بشكلٍ مختلف بناءً على تجربته الشّخصيّة، والّتي يمكن أن يكتسبها النّصّ لاحقًا أثناء تلقّي القارئ،[31] وذلك عبر طرح أسئلة على النّصّ تكمن وراء النّصّ نفسه؛ فهي تتعلّق بالمعاني المختلفة التي يمكن أن يحملها النّصّ بشكلٍ عام؛ ولهذا سيكون للنّصّ دلالات أوسع، بحيث يشمل تأويلات مختلفة؛ إذ بتبع ارتباط معنى النّصّ بالسّياق الخارج عنه ستتولّد دلالات جديدة، بحيث تكون هذه الدّلالات نتاج المعنى الأصلي للنّصّ وانصهاره بذهنٍ فردٍ آخر وأفق آخر وزمن آخر، أو ملاحظته مع نظام قيم آخر، وظروف أخرى؛ فالمعنى اللّفظي هو نتاج قراءة النّصّ في عصر الكاتب، والدّلالة عن قراءته في عصر القارئ؛ فإذا قرأنا نصًّا أدبيًا، ففهم هذا النّصّ سيكون حول ما كان يقصده الكاتب عند الكتابة، أمّا الدّلالة فقد يراها القارئ بشكلٍ مختلف بحسب تجربته وظرفه. على سبيل المثال، في جملة «الحياة قصيرة»، المعنى اللّفظي هو أنّ مدّة الحياة محدودة، لكنّ الدّلالة تتضمن معاني أعمق مثل ضرورة الاستفادة من الوقت، أو التّركيز على الأمور المهمّة في الحياة، وهذه الدّلالات يستفيدها كلّ مفسّر بحسب سياقه وتجربته؛ أو مثلًا إذا أخذنا جملة مثل «الوقت كالسّيف إن لم تقطعه قطعك»، فالمعنى اللّفظي هو ما يقصده الكاتب، وهو أنّ الوقت ثمين، أمّا الدّلالة ففي سياق معين قد ترتبط بأهمّيّة استثمار الوقت في الحياة، وفي سياق آخر قد تُشير إلى كيفية إدارة الحياة بذكاء، وليس الوقت بمعناه الحرفي؛ أو مثلًا في الآية القرآنيّة (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[32]، الفهم هنا يرتبط بما قصده الله تعالى، أمّا المفسّر -بحسب هيرش- فقد يراها تشجيعًا على طلب العلم، ويراها آخر بوصفها تذكيرًا بضرورة التّواضع أمام عظمة الله، فكلّ شخص يستوحي معنى مختلفًا من الآية ذاتها بناءً على خلفيّته وتجربته، فتكون معاني بالنّسبة له.

وهكذا يتضح أنّ هيرش يتّفق مع غادامير في أنّ النّصّ كلّما انتقل من سياق تاريخي، أو ثقافي إلى آخر، أمكن انتزاع معانٍ جديدة منه، والتّخلّي عن معانٍ أخرى، لكن هذا يرجع إلى فضاء دلالة النّصّ لا إلى معناه[33].

ينتج من تقرير هيرش للقصديّة، وربطها بالمعنى اللّفظي أنّ معنى النّصّ أمر متعيّن وثابت وغير متغيّر؛ وذلك لأنّه يتمثّل في قصد المؤلّف الذي لا يكون إلّا مرّة واحدة، وللأبد، فلّما كان ما قصده أمرًا ثابتًا ومتعيّنًا، فمعنى النّصّ مثله. ولذلك؛ يصرّح بأنّ «المعنى ثابت لا يقبل التّغيير؛ لأنّه الفعل القصدي لفردٍ ما عند لحظة محدّدة من الزّمن»[34]. وهو من ثمّ لا يتأثّر بذهنيّات المتلقّين وتغيّر الظّروف. وفي إطار دفاعه عن هذه الفكرة يؤكّد على أنّ ادّعاء كلّ متلقٍّ أنّ فهمه هو الصّائب لا يبدّل من القضيّة شيئًا، ولا يعني عدم ثبات المعنى اللّفظي، بل يعني في الواقع خطأ هذه الفهوم، بحيث تكون صوابيّتها بمقدار ما تقترب من المعنى اللّفظي، أي المعنى الذي أراده صاحب النّصّ. وبهذا يتّضح وجه كون هيرش من القائلين بالعينيّة؛ لأنّ افتراضه يقوم على وجود حقيقة موضوعيّة للنّصّ بعينها، أي معنى صحيح واحد. وهذا ما خولّه الحديث أيضًا عن معياريّة الفهم، بمعنى توفّر معيار موضوعي لقياس الفهوم المختلفة للنّصّ التي ينتجها المفسرون، وهذا المعيار هو مراد المؤلّف نفسه، ولا بدّ لجميع الفهوم أن تقاس بالنّسبة إلى هذا المعيار، لمعرفة الصّحيح من السّقيم منها،[35] فما كان مطابقًا لما أراده المؤلّف كان صحيحًا، وإلا فهو خاطئ؛ لذا يتحدّث أيضًا عن ضوابط وموازين لفظيّة وغير لفظيّة لتشخيص المعنى الصّحيح؛ هذا بخلاف القائلين بـ»التّصوّر النّفسي للمعنى» الذين يربطون بين إدراك المفسّر، وفهم النّصّ، أي يُرجعون فهم النّصّ إلى العمليّة الذّهنيّة الّتي تنشط لدى المفسّر حين مواجهته للنّصّ، والّتي تتأثّر بقبليّاته المعرفيّة، وخلفيّاته الثّقافيّة؛ فهؤلاء يتحدّثون عن فهوم متعدّدة، ومتبدّلة للنّصّ، ولا يتعقّلون وجود تفسير معياري لها، وهو معنى النّسبيّة الّتي تحدّث عنها أتباع الهرمنوطيقا الفلسفيّة، وعلى رأسهم هايدغر وغادامير، حيث ذهبوا إلى عدم إمكان فهم النّصّ فهمًّا خالصًا؛ لأنّ «الفهم» هو نحو وجود الإنسان، ولا يمكن أن ينفصل عنه، فأيّ فهم من هذا الإنسان للآخرين لا يمكن أن يبتعد عن تأثيرات فَهم نفسه. فلا يصلح بعد هذا أن نفتّش عن فهم الآخر، ومعرفته بشكل موضوعي، ومستقلٍّ، بعيدًا من نفس الإنسان الفاهم. بمعنى أنّه لا يتمثّل الغرض من النّصّ بفهم مراد المتكلّم، بل بفهم النّصّ نفسه؛ لنتسّع وجوديًا؛ باعتبار أنّنا فهم أيضًا. وبالتّالي، من الأجدى أن لا نجعل من التّفسير الحقّ هدفًا لنا، فنسعى دومًا للوصول إليه، ونجعل «قصد المؤلّف» معيارًا لفرز الفهوم بين صائب، وباطل. وعليه، لا يوجد معيار يمكن لنا أن نركن إليه، يثبت أنّ ما فهمناه كان هو مراد صاحب النّصّ، وبالتّالي لا داعي لأن نُجهد أنفسنا في ملاحقة مراد المؤلّف، بل يجدر بنا أن نهتمّ بما نفهمه في هذه اللّحظة. ومن خلال مناقشة هيرش لنسبيّة الفهم يتّضح أنّه يقّر بإمكان التّخلّص من القبليّات المسبقة، والرّغبات، والمسلّمات[36] الّتي تحدّثت عنها أيضًا الهرمنوطيقا الفلسفيّة؛ وإلّا لو كان يعترف بعدم إمكان ذلك لاستلزم ذلك القول بنسبيّة الفهم كما يدّعيها هؤلاء.
هذا بالنّسبة إلى المعنى اللّفظي، أمّا المعنى الضّمني فهو متغيّر دائمًا؛ وذلك لأنّه تابع للسّياقات الخارجيّة كما ذكرنا، وطالما أنّ هذه السّياقات متبدّلة بتبدّل الزّمن، والأفراد، لزم أن يكون المعنى الضّمني متبدّلًا أيضًا، فهو حقيقة تتغيّر بتبع تغيّر الظّروف والمخاطبين؛ ولذلك، لا يمكن الحديث هنا عن ضوابط محدّدة للتّمييز بين التّفسير الصّحيح وغير الصّحيح؛[37] لأنّ المعنى في هذه المرحلة سيّال وغير ثابت؛[38] ويمثّل هيرش لذلك بالطّاولة الخارجيّة التي ينظر إليها أفراد عديدون ويتعاملون معها، فالمعنى اللّفظي هو تلك الطّاولة، وهذا المعنى هو الذي يتمتّع بالثّبات والوحدة، والّذي يشكّل موضوعًا لوعي المفسّرين، ويستطيعون حكايته وشرحه بطرق مختلفة، وإعادة بنائه مرّات عديدة، وعلى مرّ الزّمن. ولنمثّل لذلك بمثال قرآني؛ فعلى سبيل المثال في قوله تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾،[39] المعنى اللّفظي هو أنّ الله خلق الزّوجات من الجنس نفسه، أمّا الدّلالة فقد يعتبر بعضٌ أنّها تشير إلى أهمّيّة العلاقات الأسريّة، والاستقرار العاطفي في المجتمع، أو قدّ يعتبرها بعض دعوة إلى المساواة بين الرّجل والمرأة في العلاقات الزّوجيّة؛ فهي تفسيرات تعكس وجهات نظر معاصرة، وقد تختلف فيما بينها.

يؤكّد هيرش على ضرورة التّمييز بين أربعة مصطلحات، ويعتبر أنّ الخلط بينها أدّى إلى الكثير من التشويش، والمغالطات لدى الهرمنوطيقا الفلسفيّة؛[40] وهذه المصطلحات هي: الفهم، والتّفسير، والحكم، والنقد. وقبل شرح المقصود منها ينبغي الإلفات إلى أنّ المتلقي -باعتقاد هيرش- يبتني تعامله مع النّصّ حين مواجهته له على إحدى هذه المصطلحات المذكورة، فهو إمّا أن يسعى إلى فهم النصّ أو تفسيره، أو محاكمته، أو نقده، بحيث يكون الهدف من كلّ واحد منها مغايرًا للآخر، فتارةً يهدف إلى الكشف عمّا يعطيه هذا النّصّ من معانٍ، وإدراك ما يبتغي نقله إلى المتلقّي؛ وتارةً يهدف إلى تبيين تلك المعاني إلى الآخرين؛ وأخرى إلى توجيه الأسئلة له؛ أو إلى نقده وتقويمه. من هنا لا بدّ من التّفكيك بين هذه الأقسام أثناء التّعامل مع النّصّ، وباختصار، يتمتّع القارئ بأربع شخصيّات مختلفة حين مواجهته للنّصّ، فهو إمّا فاهم، أو مفسّر، أو حاكم، أو ناقد.
وهو يقصد من «الفهم»[41] الذي يُطلق عليه المهارات الفنّيّة،[42] عمليّة الوصول إلى معنى النّصّ، أي مراد المؤلّف بالاستناد إلى العلامات والقواعد اللّغويّة، والسّياق[43] الذي تشكّلَ فيه النّصّ، فالفهم هو معرفة ما هي الرّسائل التي أراد المؤلّف نقلها إلى الطّرف الآخر من خلال الاستفادة من ألفاظ النّصّ نفسها، وبهذا يرتبط الفهم بالمعنى اللّفظي. وبعبارة أخرى، عندما يتمكّن القارئ من إعادة بناء المعنى اللّفظي وتوليده من جديد يكون بذلك محقّقًا للفهم؛ ومن المؤكّد أنه يتحدّث ضمن هذا الإطار عن فكرة «الحدس» أو «التّخمين» أيضًا، ويقصد عجزنا عن معرفة ما يريده المؤلّف في نصّه على وجه قطعي؛ لذا يُستعاض عن ذلك غالبًا بتقديم تخمين علمي، وهذا أفضل الممكن، شأننا شأن معظم العلوم الإنسانيّة[44]. فهو يتحدّث عن عن عدم إمكانيّة الكشف عن مراد المؤلّف بصورة حتميّة، وعلى القارئ أن يعتمد على القرائن المتّصلة بالنّصّ لترجيح أحد المعاني له، واختيار الأقرب منها، وهو ما يسمّى بالتّأييد،[45] أي تأييد القارئ المعنى الذي حدس به بالشّواهد والقرائن لترجيحه واختياره.

أمّا «التّفسير»[46] فهو عمليّة مستقلّة عن الفهم ويأتي بعده، ولا يتمثّل دور المتلقّي فيها بالكش،ف بل في تبيين المعنى الذي حصّله في المرحلة السّابقة، وشرحِه ونقلِه للآخرين بلغتهم، فيحقّ له في هذه العمليّة أن يستعمل جميع المصطلحات التي تخدمه في هذا إطار، وإن لم يستعملها المؤلّف، كما له استخدام أيّ منهج يراه مناسبًا لهذه الغاية؛ ويُطلق على هذه العمليّة «المهارات التّوضيحيّة» أي شروع القارئ بتوضيح ما فهمه من النّصّ للآخرين[47]. كيف كان، يتّضح من ذلك ارتباط الفهم بالمعنى اللّفظي، وكذلك التّفسير، إلّا أنّ الفهم هو عمليّة ثابتة ومتعيّنة واقعًا، والتّفسير عمليّة متبدّلة وغير ثابتة، حيث يمكن أن يختار مفسران اثنان منهجين مختلفين مثلًا في نقل المعنى إلى الآخرين. علمًا أنّ المفسّر قد يدمج أحيانًا تبيين المعنى مع الحكم عليه، ونقده أو العكس، كما يلاحظ كثيرًا في تفاسيرهم، فقد يقدّم المفسّر تقويمًا نقديًا للنّصّ، وقد يقدّم النّاقد تحليلًا عميقًا وتفسيرًا له.
ثمّ بعد إدراك المعنى اللّفظي، والفراغ من جميع ما يرتبط به، يأتي دور «الحكم»[48] و»النقد»،[49] وهما يرتبطان بالمعنى الضّمني أي الدّلالة[50]. ويُقصد من الحكم قياس معنى النّصّ الذي تحصّل في المرتبة الأولى، ومقارنته مع أي شيء وراء النّصّ من خلال طرح الأسئلة عليه، والنّظر في أجوبته، أي قياسه مع أيّ مجال لم يتعرّض له النّصّ مباشرةً، كقياس قصيدة الشّاعر بالنّسبة إلى قصائده الأخرى، أو قصائد غيره، ومقارنة السّور المكّيّة بالسّور المدنيّة من ناحية خصوصيّاتها ومواضيعها البلاغيّة؛[51] كما يُقصد من النّقد قياس معنى النّصّ بالنّسبة إلى معايير تقويميّة خاصّة، بمعنى قيام النّاقد بتقويم النّصّ وتحليله وفق مجموعة من المعايير التّقويميّة، كالجودة الأدبيّة، والقيمة الفنّيّة، والمضمون، والأساليب.

ولا شكّ في أنّه لا ينبغي أن نغفل عن أنّ هناك تداخلًا قد يحصل بين هذه الأقسام الأربعة، بمعنى أنّ تؤثّر وتتأثّر فيما بينها؛ على سبيل المثال، كلّما كان فهم النّصّ أعمق وأدقّ، كلما أمكن نقده، وتقويمه بصورة أفضل. والتّمييز بينها يكون بالهدف والوظيفة كما ذكرنا.
يمكننا القول من خلال هذه النّقاط إنّ النّصّ بالنّسبة لهيرش موضوع قصدي يرتبط بفاعلٍ واعٍ، ولا يكون له معنى إلّا بحدود ما قصده هذا الفاعل، الذي سيتمثّل بشكلٍ طبيعي بصاحب النّصّ. ومن ثمّ فللنّصّ معنى متعيّن يرتيط بمراد المؤلّف، وهو ما يسمّى بالمعنى اللّفظي، الذي يمثّل المعيار السّليم لتمييز الفهوم. وعلى القارئ أن يتعرّف إلى حياة المؤلف بدقّة ليضمن اقترابه ممّا يريد من ألفاظه، فكلّما اقترب منه كان فهمه أصحّ. وبعد عمليّة الفهم هذه، يأتي دور التّفسير، الذي يعني شرح المعنى اللّفظي للآخرين. ثمّ تلي بعد ذلك مرحلتان، هما: النّقد والحكم، وهما ترتبطان بالمعنى الضّمني.
بعد هذا، نصل لعرض نظريّة الشّهيد الصّدر بنحوٍ مقارن مع نظريّة هيرش، لتقويمها ونقدها وفق ما طرحه الصّدر؛ إلّا أنّه من الضّروري الإشارة إلى أنّ الشّهيد الصّدر، وعلى الرّغم من أنّه تنبّه ضمن أبحاثه لجملة من المسائل الهرمنوطيقيّة، كإمكان فهم النّصّ، والحوار بين المفسّر والنصّ؛ لكن ثمّة مسائل أخرى لم يتعرّض لها بصورة مباشرة، فحاولت شرح ما يرتبط منها بالقصديّة على ضوء مبانيه وأبحاثه المطروحة في الحلقات، وفي تقريرات بحوث الخارج في الأصول.

قصديّة الشّهيد الصّدر ونقد قصدية هيرش
يمكننا في مقام بيان مباني الشّهيد الصّدر في فهم النّصّ أن نذكر النّقاط الآتية:
يعتقد الشّهيد الصّدر بأنّ الفهم، والظّهور للّغة أمرٌ واقعي قائم بنفسه، وثابت بالنّظام اللّغوي العامّ نفسه الذي يقوم عليه مبدأ التّحاور والتّفاهمات، حيث يقول: «إنّ هذا الظّهور أمر واقعي لا يختلف من شخص لآخر ثابت بثبوت تلك اللّغة العرفيّة، وقوانينها، ونظمها، فقوانين اللّغة دائمًا تقتضي معنى معينًا، أو أحد معان متعدّدة عند الإجمال من دون أن يختلف الحال باختلاف الأشخاص»،[52] كما يرى إمكانيّة تحقّق الفهم، وهي إشكاليّة كانت وما زالت موضع نقاش بين الإماميّة؛ فقد اختلف الأعلام في إمكانيّة فهم النّصّ القرآني،[53] حيث ذهبت جماعة إلى تعذّر ذلك؛ إمّا لعدم انعقاد ظهور للآيات القرآنيّة، أو لعدم حجّيّتها؛[54] أو لاختصاص الفهم بالمخاطبين[55]. وقد اتّفق علماء الأصول على إمكانيّة ذلك، ومن جملتهم الشّهيد الصّدر، فقد صرّح بصحّة الاستناد إلى الآيات القرآنيّة وفهمها، وإمكانيّة استخراج النّظريات منها، بل لزوم اعتماده كمصدر لكلّ الحياة؛ واستدلّ على ذلك بأدلّة عديدة، كروايات التّدبّر، وروايات العرض على القرآن، وأيضًا الغاية من إنزال القرآن؛[56] يقول في كتابه المدرسة القرآنيّة: «يجب على المفسّر أن يدرس القرآن ويفسّره بذهنيّة إسلاميّة، أي الإطار الإسلامي للتّفكير، فيقيم بحوثه دائمًا على أساس أنّ القرآن كتاب إلهي أُنزل للهداية، وبناء الإنسانيّة بأفضل طريقة ممكنة (..)، فإنّ هذا الأساس هو الأساس الوحيد لإمكان فهم القرآن، وتفسير ظواهره بطريقة صحيحة»[57]. ويقول في كتاب آخر: «إنّ منطق الشّريعة الخالدة الكاملة يقتضي تأمين الوصول إلى فهم القرآن ومعرفة تفسيره، وفقه أحكامه»[58]. وهو ما يُفهم أيضًا من عنونة كتابه الذي تحدّث فيه عن الإسلام والقرآن: «الإسلام يقود الحياة»، حيث صرّح فيه بأنّ القرآن يحلّ مشاكل المجتمع، ويأخذ بيد في طريق الحياة[59].

بعد الفراغ من إمكانيّة الفهم يصرّح السّيّد الشّهيد بأنّ المهمّ في عمليّة فهمِ النّصّ، وتفسيرِه الوصولُ إلى مراد صاحبه لا غير، وهو موضوع ثابت غير متغيّر، حيث ذكر أنّ المراد من «الحجيّة»، واعتبارِ الظّواهر في حجّيّة الظّهور الكشفُ عن المراد الجدّي للمتكلّم[60]؛ ولهذا يقول في البحوث: «لا إشكال عند الجميع في أنّ المقصود من أصالة الظّهور[61] إنمّا هو التّوصّل إلى إثبات المراد الجدّي للمتكلّم»[62]. وبعبارة أوضح، يعتقد الصّدر -كجلّ علماء الأصول لدى الإماميّة- بوجود ثلاث دلالات للكلام؛[63] الدّلالة التّصوريّة، والدّلالة التصديقيّة الأولى وتُسمى الاستعماليّة، والدّلالة التّصديقيّة الثّانية وتُسمى الجدّيّة. ويعني بالأولى الدّلالة المؤدّية لتصوّر المعنى بمجرد سماع اللّفظ، أي المسبّبة لانتقالِ الذّهن بشكل عفوي إلى معنى خاص عند سماع اللّفظ للعالم باللّغة؛ ويعني بالثّانية الدّلالة التي تكشف عن إرادة المتكلّم أو المستعمل إخطار تلك المعاني التي يدلّ عليها اللّفظ عند نطقه في ذهن السّامع؛ أمّا الأخيرة فهي الدّلالة الكاشفة عن إرادة المتكلّم الإخبار عن الواقع[64].

ثمّ، يميّز الشّهيد الصّدر بين حالين؛ الحال التي تتطابق فيها الإرادة الجدّيّة مع الإرادة الاستعماليّة، والحال التي لا يحصل فيها هذا التّطابق؛ ويعزو ذلك إلى أنّه قد تقوم قرائن محدّدة تمنع من هذا التّطابق أحيانًا، وتدلّ على إرادة المتكلّم لمعنى آخر مخالف للمعنى المستفاد من الدّلالة الاستعماليّة[65]. ولهذا يجب على السّامع، ليفهم مراد المتكلّم الأصلي، أن يفحص هذه القرائن ويلحظها.
إذن، نلاحظ أنّ في عدم اكتفاء الصّدر والأصوليّين بالدّلالة الاستعماليّة للكلام، وطرحهم الدّلالة الجدّية، وتمييزهم بين حالتَي: التّطابق بين الدّلالات وعدم التّطابق أيضًا، وذكرهم ضرورة رصد القرائن لفحص ذلك؛ كل هذا يتضمّن دلالة واضحة على أنّ المهم عندهم هو الوصول إلى مراد المؤلّف ومقصوده، وإلاّ لكان الأجدى الاكتفاء بالدّلالة الاستعماليّة، وعدم الاشتغال بفحص التّطابق وغيره.

ولتوضيح الفكرة أضرب هذا المثال، لو قال المتكلّم: «أكرم كلّ العلماء»، فهنا توجد دلالة استعماليّة في العموم، فلو كان المهم عند الأصوليّين هو المعنى المستعمَل فيه اللّفظ (أو الكلام) فقط، لتحقّقت الغاية عند هذا الحدّ، بيد أنّا لا نراهم يتوقّفون هنا، بل يضيفون خطوة أخرى، ويتساءلون: هل أراد المتكلّم العموم –حقًا-؟ وهل يحتمل أنّه خصّص هذا العموم؟ ولذلك يفتّشون عن المخصّصات، ويهتمّون بها؛ بُغية ضمان المطابقة بين الدّلالتين الاستعماليّة والجدّيّة، ولا يقولون بالحجّيّة إلّا بعد الفحص عن المخصّصات والمقيّدات والقرائن بشكلّ عام.
فمن خلال هذا التّقسيم، نفهم أنّ المقصد الأصلي في فهم النّصوص والخطابات لديهم هو إحراز المراد الجدّي للمتكلّم، وهو معنى القصديّة.

كما بالإمكان أن يُفهم هذا من ربط الشّهيد الصّدر بين إرادة المولى وبين لزوم طاعته، حيث يذكر أنّ الباعث للتّحرّك نحو الشّيء أو عنه، هو إحراز المكلّف أنّ المولى يريده أو يريد تركه[66]، يعني أنّ المكلّف إنّما يتحرّك -انبعاثًا وانزجارًا- بسبب اطّلاعه على أنّ هذا الفعل يحبّه المولى ويريده، أو يبغضه ويريد من المكلّف تركه. فإذا أحرز المكلف حبّ المولى وإرادته له –والمفروض أنّه يلزم طاعته بحكم العقل، من باب حقّ الطّاعة، أو وجوب الشّكر، أو دفعًا للضّرر، أو غيرها- يتحرّك لتحقيق تلك الإرادة. يقول السّيّد الشّهيد في نصّ مهمٍّ مشيرًا إلى ذلك: «(..) وإذا تمّ هذا الإبراز من المولى أصبح من حقّه على العبد قضاء لحقّ مولويّته الإتيان بالفعل، وانتزع العقل عن إبراز المولى لإرادته الصّادر منه بقصد التّوصّل إلى مراده عناوين متعدّدة، من قبيل البعث والتّحريك ونحوه»[67].
ولذلك إذا اطّلع المكلّف على إرادة المولى لأمرٍ ما عن طريق غيبيّ، حكم العقل بلزوم إتيانه، وكذلك لو علم أنّ المولى لا يريده، وإنْ طلبه لفظًا –فرَضًا- لا يتحرّك.

على هذا، فموضوع لزوم الإطاعة هو إرادة المولى وحبّه، وعند إحراز ذلك يتحقّق الموضوع.
والآن، يوجد احتمالان: إمّا أن نقف عند الدّلالة الاستعماليّة للخطابات ونعمل بها، أو أن نعمل بالدّلالة الجدّيّة. وبعبارة أخرى، إمّا أن يكون موضوع حجّيّة الظّهور هو الإرادة الاستعماليّة، أو الجدّيّة.
لكن إن توقّفنا عند الدّلالة الاستعماليّة، بمعنى أنّنا اكتفينا بكون اللّفظ قد استعمل بهذا المعنى–سواء أراده المولى أو لم يرده-، فهذا يعني أننا لم نهتم بأنّه أراده أم لا، بل كان المهم عندنا هو كونه قد استعمله فقط. لو قلنا بذلك، فلن يتحقّق موضوع لزوم الإطاعة عقلًا؛ إذ المكلّف لا يُحرز أنّ المولى يريده، ويحبه، بل ما يحرزه هو أنّه استعمله، أي استعمل اللّفظ في هذا المعنى فقط، وهو ليس موضوعَ حكم العقل بلزوم الإطاعة. وهذا بخلافه فيما لو أحرزنا الدّلالة الجدّيّة، فإنّ المكلف سيحرز الموضوع، ومن ثمّ يحكم العقل بلزوم الإطاعة، فيتحرّك.

فلا بدّ، من أنّ يكون موضوع الحجّيّة هو المراد الجدّي.
بناء على هذا، يُفهم أنّ ملاك حجّيّة الظّهور لدى الأصوليّين؛ هو كوننا نحرز من خلاله أنّ هذا ما يريده المولى ويحبّه، لا لكون هذا اللّفظ أو التّركيب ظاهرًا بهذا، والمولى استعمله به.
هذا كلّه، مضافًا إلى أنّ الذي يتّضح من تعريف الشّهيد الصّدر للاستعمال[68] أنّ الغاية، والهدف من عمليّة الكتابة والتّأليف هو إيصال الرّسالة التي يُراد نقلها إلى الطّرف الآخر؛ وهو ما يظهر أيضًا من حديثه عن مناط حجّيّة الظّهور، أي ظهور حال المتكلّم في كونه في مقام الإفهام والتّفهيم، وهذا لا ينسجم إلّا مع كون المهمّ في التّفسير هو معرفة مراد المتكلّم.

بعد بيان هاتين النّقطتين، يتّضح لنا أمران، أمرٌ اتّفق عليه الشّهيد الصّدر مع هيرش، وأمر اختلفا به؛ أمّا الأمر الأوّل، فقد اتّفق الاثنان على كون الفهم حقيقة موضوعيّة ثابتة ومتعيّنة، وأنّه يمكن تحقّقه؛ كما اتّفقا على أنّ الغرض من هذه العمليّة -أي عمليّة الفهم- يتمثّل بالوصول إلى مقصود المؤلّف والكشف عمّا أراده؛ وذلك لأنّ موضوع الفهم عند هيرش هو المعنى اللّفظي، وهو ذاته قصد المؤلّف، الذي يعبّر عنه الصّدر بالمدلول التّصديقي الجدّي، أو المراد الجدّي، أي المراد الذي يُحمل عليه الكلام جدًّا، وقد أسلفنا أنّ هيرش كان قد أقّر بذلك، بل كان من أشدّ المنتقدين للهرمنوطيقا الفلسفيّة، خاصّة لأفكار هايدغر وغادامير في مناداتهم بالاستقلال المعنائي، ومحوريّة النّصّ، وتعذّر الوصول إلى ما أراده المؤلّف، وكذلك الشّهيد الصّدر في مناقشته للأخباريّة، أو القائلين باختصاص الفهم بالمخاطبين.

أمّا الأمر الثّاني الذي اختلفا فيه، والذي يمكن أن يُسجّل إشكالًا على قصديّة هيرش، فهو خلطه بين مقامي الوضع والاستعمال، بمعنى عجزه عن تصوير «المدلول التّصوري» للألفاظ، والّذي تحدّث عنه الصّدر أثناء تقسيم الدّلالات كما ذكرنا. فمن الواضح أنّ للّفظ من ناحية المعنى مرحلتين هما الوضع والاستعمال، فهو قد يكشف حين سماعه -فيما لو صدر عن شخص واعٍ- عن إرادة كامنة لدى المتكلّم، أو المؤلّف، سواء أكان متعلّق هذه الإرادة هو الإخطار أم الإخبار أو غير ذلك. لكن هناك دلالة أخرى لا تُعتبر كاشفة عن أي شيء، بل هي مسبّبة لشيء ما، وهو تصوّر المعنى الخاصّ باللّفظ؛ وذلك لأنّ العلاقة القائمة بين اللّفظ والمعنى في هذه المرحلة ليست علاقة الكاشفيّة التي تنشأ عن ظهور حال المتكلّم بكونه متكلّمًا حكيمًا وواعيًا يريد الإفهام والتّفهيم، بل العلاقة هنا هي علاقة السّبب والسّببيّة النّاتجة من نشوء علقة وضعيّة بين اللّفظ والمعنى، بسبب الاقتران الأكيد الحاصل في الذّهن، وهو المبنى الذي اختاره السّيّد الشّهيد في تفسير الوضع[69]. وهذا ما يفسّر لنا عمليّة انتقال الذّهن مباشرة، وبصورةٍ عفويّة إلى تصوّر المعنى حين تصوّر اللّفظ بصرف النّظر عن صدوره من متكلّم واعٍ، أو عن غيره، بل حتّى لو صدر من اصطكاك حجرين، أو رفيف جناح الطّير، فمثلًا، نحن نجد وجدانًا أنّ ذهننا ينتقل تلقائيًا إلى معنى لفظ «الماء» إذا طرق أسماعنا، حتّى لو صدر من النّائم غير القاصد، أو من الحيوان فضلًا عن الإنسان، أو حصل نتيجة نقش طفل صغير له دون قصد أو وعي. ومن ثمّ، فهذه الدّلالة غير مرتبطة بإرادة المتكلّم أو المؤلّف قصده ووعيه، بل هي دلالة أوليّة ساذجة تحصّل بمنتهى العفوية، ولا تتوقّف إلّا على تحقّق العلقة الوضعيّة لدى العالم باللّغة. وعلى هذا، فإصرار هيرش على ربط المعنى بوعي المؤلّف وقصده، وعلى أنّه لا يوجد معنى من دون قصد، وأنّه ينعدم بانعدامه، غير صحيح.

هذا مضافًا، إلى وجود إشكالٍ آخر في المقام، وهو أنّ حديث هيرش عن أنّ المعنى هو نتاج وعي المؤلّف وقصده وأنّه لا يتحقّق إلّا به يُفضي إلى كونه بحقيقته أمرًا شخصيًّا منفردًا، ويجعله غير قابلٍ للفهم المشترك بين النّاس؛ ومن ثمّ تلغو عمليّة نقله إلى الآخرين عبر الكلام، أو الكتابة، التي يرتبط الهدف منها عند جميع العقلاء بنقل المرادات، والمقاصد؛ وبعبارة أخرى، إذا كان المعنى وليد وعي المؤلّف، فهو أمر شخصي غير قابل للعمليّة التّشاركيّة بالفهم، بحيث يفهم القراء المعنى مصادفةً بشكل مشترك،[70] فلا معنى حينئذ من ممارسة الكتابة التي تهدف إلى نقل رسائل المؤلّف إلى الآخرين، ولأجل أن تؤدّي عمليّة الكتابة غرضها، ولا تكون عمليّة عبثيّة، ينبغي أن يتحقّق عنصر مشترك بين القارئ والمؤلّف يكون جسر الصّلة بينهما في نقل المرادات، وليس هو إلّا الوضع أو الدّلالة التّصوريّة، وهو ما ينكره هيرش. وهذا ما يؤيّد صحّة كلام الشّهيد الصّدر عن كون اللّغة أمرًا واقعيًّا قائمًا بذاته؛ إذ لولا هذا الأمر الواقع لما أمكن تحقّق التّفاهم بين العقلاء أساسًا، ولانتفى الغرض من الكلام والكتابة.

تحدّث الشّهيد الصّدر عن أنواع عدّة للظّهور،[71] والمهم منها هنا تمييزه بين الظّهور الذّاتي والظّهور الموضوعي. الظّهور الذّاتي هو الظّهور المنسبق إلى ذهن إنسان معيّن، وهو قد يختلف من شخص لآخر، فالمنسبق من الكلام لدى المتلقّي الأوّل قد لا يكون مطابقًا لما انسبق للمتلقّي الثّاني؛ وذلك نتيجة التّأثر بالعوامل والظّروف الشّخصيّة للذّهن، أو نتيجة التربية والعادات، فهذه العوامل قد تؤثّر أحيانًا في انسباق معنى خاص نتيجة علاقة محدّدة ناشئة بحكم هذه العوامل، بحيث يكون مغايرًا للمعنى الذي يفهمه أبناء اللّغة العرفيّين؛ أمّا الظّهور الموضوعي، فهو ذاك الظّهور الذّاتي عندما لا يكون صاحبه متأثرًا بعوامل خارجة عن أهل عرفه اللّغوي، بل يكون المعنى الظّاهر لديه ناشئًا من القوانين اللّغويّة، وأساليب التّعبير العام لدى أبناء العرف والمحاورة. والدّلالة التّصديقيّة الجدّيّة ترتبط بهذا النّوع الأخير من الظّهور؛ حيث يقول الشّهيد الصّدر: «الدّلالة التّصديقيّة النّهائيّة التي تتعيّن للكلام بلحاظ مجموع النّظم والقوانين الموجودة لدى العرف لاقتناص المراد، وإن شئت فسمّ ذلك بلغة أهل العرف في مقابل اللّغة الأصليّة»[72]؛ لذا فالظّهور الموضوعي للغة أمرٌ واقعي قائم بنفسه، ولا صلة له بذهنيّة المتكلّم أو السّامع وخلفايّتهما. وهذه الفكرة تستلزم بالضّرورة اعتقاد الصّدر إمكانيّة تجنّب الأحكام المسبقة والقبليّات والمسلّمات التي قد تشغل ذهن القارئ قبل ممارسته عمليّة الفهم، وهو ما صرّح به في مواضع عديدة من أبحاثه؛ حيث قسّم هذه القبليّات إلى قبليّات ضروريّة لا يمكن للمفسّر أن يتخلّى عنها أثناء ممارسته عمليّة التّفسير أي الفهم، وبين قبليّات مضرّة يجب عليه التّخلّي عنها، وهو يركّز في معرض كلامه عن القبليّات الضّروريّة على ضرورة عدم إخراج النّصّ عن إطاريه: التّاريخي والفكري؛ لأنّ ذلك سيُبعد المفسّر عن الفهم الصّائب للنّصّ؛ لذا يدعو إلى فهمه ضمن الظّروف التي صدر فيها، ومن ذلك «أسباب صدور النّصّ» التي يشدّد على ضرورة الاطّلاع عليها لفهم أي نصّ؛[73] لأنّه يؤثّر على فهم بعض الألفاظ والأساليب التي يستعملها النّصّ؛ وكذلك «العادات والتّقاليد السّائدة» كأحد القبليّات التّاريخيّة المهمّة لتحقّق الفهم[74]. كما يركز على أهمّيّة مراعاة الإطار الفكري الحاكم عند المؤلّف قبل ممارسة عمليّة فهم للنّصّ.

عمومًا، يضيف الشّهيد الصّدر فكرةً أخرى في هذا السّياق، مفادها أنّه ينبغي على صاحب النّصّ أن يسير وفق الظّهورات الموضوعيّة للتّعبير عن مراداته ومقاصده، أي: عليه أثناء التّعبير عن أغراضه مراعاة تلك الأساليب والقواعد العرفيّة المعتمدة لدى أبناء لغّته، فظاهر حال كلّ متكلّم -بمقتضى الطّبع العقلائي- أنّه يتكلّم وفق هذه الظّهورات النّاشئة من بُنية اللّغة؛ لكي يتيح للمفسّر أن يصل إليها عبر الكشف عن هذا الظّهور الموضوعي. ولكن هنا ينشأ سؤالٌ: من أين لنا الجزم بأنّ ظهور الكلام في زمان المفسّر هو عينه ما كان ظاهرًا لدى المتكلّم؟ وبعبارة أخرى، الظّاهرة اللّغويّة ظاهرة متبدّلة لا تقبل الاستقرار بفعل تراكم المعارف والخبرات، وتغيّر الثّقافات والأعراف، فإن توفّر لدينا نصّ قديم، فهل يمكن الادّعاء -والحال هذا- بأنّ المتبادر في زمان المفسّر هو عينه ما كان متبادرًا لدى صاحب النّصّ؟ ثمّ، كيف لي أن أقطع بأنّ ذاك الظّهور الذّاتي الفعلي الحاصل عندي هو نفسه الظّهور الموضوعي في زمن صاحب النّصّ؟

يجيب الشّهيد الصّدر بأنّ اللّغة، وإن كانت أمرًا حيويًّا ينمو ويتغيّر، ولكنّنا بالملاحظة نرى أنّ تبدّلها لا يتمّ دفعة واحدة وبسرعة، بل هو أمر بطيء يتمّ بوتيرة رتيبة جدًّا، وهذا ما يؤدّي إلى أن يخيّل للعقلاء أنّ اللّغة مستقرّة لا يطرأ عليها التّبدّل، بحيث يصير هذا مرتكزًا في أذهانهم، وهذا الارتكاز يحصل لهم بوصفها نتيجة خاطئة للتّجربة، بحيث يلحظ كلّ شخص –بحسب تجربته القصيرة زمنيًّا- عدمَ تغير اللّغة عادة. ممّا يوحي إليه أنّ هذا هو مقتضى طبيعة اللّغة. ثمّ إنّ هذا التّخيّل العقلائي يدفع العقلاء إلى أن يينوا –حين الشّكّ بالتّبدّل، وعدم إحرازه- على عدم تغيّر المعنى المتبادر اليوم عن سابقه. وقد أسمى ذلك بـ»أصالة الثّبات في اللّغة»[75]. على أساس هذا، فعندما يشكّ المفسّر بكون المعنى المتبادر لديه مطابقًا للمعنى الذي كان موجودًا عصر صاحب النّصّ، يمكنه أنّ يعتمد على هذه الأصالة ليحرز المطابقة. وهذا أمرٌ مبرّر لدى العقلاء.

يتّضح من هذا الكلام أنّ الشّهيد الصّدر يعترف بعدم إمكان القطع بالظّهور الموضوعي، بل غاية ما يمكن تحصيله هو الظّنّ به، غير أنّه ظنّ مبرّر عقلائيًّا، بمعنى أنّ العقلاء يعتمدون عليه، ويتبانون على الأخذ، والاحتجاج به، لكن هذا خاصّ بغير «النّصّ» من الظّهورات،[76] ففي بعض الأحيان قد لا يكون للكلام على المستوى التّصوّري إلّا معنى واحدًا، أو يكون له عدّة معانٍ، لكنّنا نقطع بإرادة المتكلّم هذا المعنى المخصوص نتيجة قرائن معيّنة. ففي هذه الحال من الطّبيعي أن يحصل لنا الجزم بمراد المتكلّم. وعليه فإن المتلقّي إمّا أن يقطع بالمراد أو أن لا يقطع به.

لقد تقدّم في هذه النّقطة بيان ثلاث أفكار، هي التّمييز بين الظّهور الموضوعي والظّهور الذّاتي، وقطعيّة الدّلالة أو ظنّيتها، والقبليّات أو الأحكام المسبقة وحياة المؤلّف. وفي إطار مقارنتها مع هيرش يتّضح أنّ الاثنين متّفقان على مسألة إمكان تجنّب هذه القبليّات والتخلّص منها أثناء عمليّة الفهم، فقد تقدّم أنّ هيرش كان من أشدّ المنتقدين للهرمنوطيقا الفلسفيّة بهذا الصّدد،؛ وكذلك هما متّفقان على ضرورة التعرّف على حياة المؤلّف، لكن الإنصاف أنّ بحث هيرش في هذا الصّدد كان أوسع ممّا بحثه الشّهيد الصّدر، ولعلّ السّبب في ذلك يرجع إلى اختمار هذه الفكرة في المحيط الذي كان يعيش فيه هيرش، فقد طُرحت هذه الفكرة قبله بما لا يقلّ عن قرنين من الزّمن، حيث تبلورت مع دلتاي في الهرمنوطيقا الكلاسيكيّة، ثمّ مع شلايرماخر الذي قدّم نظريّته حول الحياة النّفسيّة للمؤلّف، واستمرّت هذه الفكرة بين أخذ وردّ حتى زمان هيرش، الذي أعاد الحياة لها بعد أن تحطّمت على إثر ضربات أتباع الهرمنوطيقا الفلسفيّة، فأعاد طرحها مرّة أخرى بالنّحو الذي يرتضيه.
لكن من جانب آخر، يختلف الاثنان بخصوص الدّلالة بالمعنى الأصولي،[77] وهي من المسائل التي تفاوتت فيها الأقوال لدى أصوليّي الإماميّة أنفسهم، فالأعلام قبل العلامة الحلّي (- 726)، وإن لم يتعرّضوا -بحسب ما وصلنا- إلى قطعيّة الدّلالة وظنّيتها بشكلٍ صريح، غير أنّ العلامة كان قد ذكر قول الفخر الرّازي بأنّ الدّلالات اللّفظيّة ظنّيّة، لكنّه لم يرتضه، بل صرّح جليًّا بأنّها قطعيّة ويقينيّة، وذلك في كتابه نهاية الوصول إلى علم الأصول، ثمّ استمرّ النّقاش مع الشّيخ البهائي (- 1031 هـ) والشّيخ الاسترآبادي (- 1033) والوحيد البهبهاني (- 1205)، وهكذا مع الشّيخ الأنصاري (- 1281) والآخوند الخراساني (- 1329)، أمّا الشّهيد الصّدر فقد ظهر أنّه يعتقد بأنّها قد تكون قطعيّةً كما في النّصّ، أو ظنّيّة كما في الظّاهر؛ هذا، في حين بإمكاننا القول إنّ هيرش يذهب إلى ظنّيّة الدّلالة دائمًا، وذلك من خلال حديثه عن فكرة الحدس أو التّخمين، حيث يرى -كما ذكرنا- أنّه لا يمكننا معرفة ما أراده المؤلّف على وجه اليقين والجزم، وغاية ما بوسعنا فعله حيال فهم النّصّ هو تقديم تخمين علمي حول معناه.

كما أنّ هناك نقطة أخرى، تُعتبر من جهّة حلقةً أساسًا في بناء نظريّة القصديّة لدى الشّهيد الصّدر، وقد أسهمت في استحكامه ومتانته، ومن جهّة أخرى مثّلت إشكالًا جديًّا على نظريّة هيرش، وترتبط هذه النّقطة بما طرحه الشّهيد الصّدر حول الظّهور الذّاتي والظّهور الموضوعي وأصالة الثّبات في إطار معالجة الإشكال الذي تقدّم ذكره. فقد استطاع الشّهيد الصّدر طرح حلّ يحرز من خلاله المطابقة بين ما أفهمه من معنى أثناء عمليّة الفهم، وبين المعنى المستعمل فيه اللّفظ زمن صدور النّصّ، ونحن سواء وافقنا على صحّة هذه الأصالة أم لا، إلا أنّه لا يمكننا أن لا نسجّل للشّهيد الصّدر -وللأعلام السّابقين له- أنّه كان ملتفتًا إلى هذه الإشكاليّة، وحاول تخطّيها؛ في حين لم يتمكّن هيرش من ذلك، بل ظلّت حلقةً فارغةً في بناء نظريّته، ولهذا واجهه بها بعض نقاده؛ وهو ما يُسمى بـ»مغالطة سندريلا»[78]، وهي الإشكال نفسه الذي عالجه الشّهيد الصّدر؛[79] حيث يقصدون منها التّالي: كيف يصل المفسّر إلى التّفسير المعتبر (سندريلا) إذا لم يكن باستطاعته تمييز «الحذاء الزّجاجي» للمعنى اللّفظي الأصلي الذي كان يريده المؤلّف؟[80] لكن هيرش في الوقت الذي سعى فيه لتفادي الوقوع في تلك المغالطة، وقع بمحذور الدّور.

يعرّف الشّهيد الصّدر في بحثه المنشور في كتاب علوم القرآن للسّيّد محمّد باقر الحكيم التّفسير بأنّه الكشف عن مدلول الكلام، وبيان المعنى الذي يشير إليه اللّفظ؛ وهو وإن قبِل أنّ التّفسير لا يرتبط بالمعاني المتبادرة الواضحة؛ كالمعاني المتبادرة من ظواهر الكلام، لكنّه خلافًا للاتّجاه السّائد بين الأصوليّين يعتقد بشموله لبعض أنواع الظّاهر كالظهور المعقّد أو المركّب؛ لاحتوائه على عنصريّ الغموض والخفاء؛ ويعرّف هذا الظّهور الأخير بأنّه الظّهور المتكوّن نتيجةً لمجموعة من الظّهورات المتفاعلة[81]. كيف كان، فهو يعتقد بأنّ التّفسير عمليّة كشف عن معنى النّصّ، أي عن المعاني التي أرادها صاحب النّصّ، ولمّا كان مراد صاحب النّصّ واحدًا، لزم أن يكون التّفسير الصّحيح لمراده واحدًا أيضًا. كما يطرح تعاملًا جديدًا مع النّصّ، أطلق عليه عنوان «الاستنطاق»، وهو يعني طرح الأسئلة على النّصّ، سعيًا للحصول على إجابات منه. كما أنّه يجدر بالمفسّر أن لا يبدأ عمله من النّصّ القرآني، بل يأتي أوّلًا إلى واقع الحياة، ويختار منها موضوعًا، ثمّ يستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني بخصوصه، وما أنتجته من أسئلة، واستفهامات. ومن ثمّ، يأتي إلى النّصّ، لا ليكون مستمعًا فحسب، بل ليحاوره ويلقي عليه ما حمله من أسئلة، فيطرحها على النّصّ، وينتظر منه الأجوبة؛ فقد ذكر في كتابه المدرسة القرآنيّة أنّه يمكن التحام القرآن بالحياة، وذكر لذلك أمثل عدّة،[82] ومن خلال هذه الفكرة طرح نظريّته في التّفسير الموضوعي.

يبدو تعريف الشّهيد الصّدر للتّفسير أكثر انسجامًا مع اتّجاه العينيّة وثبات المعنى، فهو لم يميّز بين فهم المعنى وتفسيره، بل ربط بينهما من خلال تحديده دور المفسّر بيان مفهوم النّصّ ودلالاته؛ على عكس تعريف هيرش الذي يسمح للمفسّر باستعمال أيّ بيانٍ كان من دون الالتزام بضوابط وموازين محدّدة، وإن كان هذا البيان مخالفًا لمقاصد المؤلّف، بل إنّ حديثه عن عدم ضرورة وجود معيار لتمييز التّفاسير الصّحيحة عن غيرها؛ لكونها متغيرة بتغيّر الزّمان والظروف يوقعه بورطة النّسبيّة التي سعى إلى الفرار منها، وواجه الهرمنوطيقا الفلسفيّة بسببها؛ فالتّفسير عنده، وإن كان مرتبطًا بالمعنى اللّفظي الثّابت الذي يضبط حركته، لكنّه يبقى ذا طابع متحرّك مع تغيّر آفاق القراءة؛ والاعتقاد بصحّة جميع هذه التّفاسير مردّه -شئنا أم أبينا- إلى الاعتقاد بالنّسبيّة.

هذا مضافًا، إلّا أنّ هيرش حدّد تعاملات القارئ مع النّصّ بأربعة، هي الفهم، والتّفسير، والحكم، والنّقد، غير أنّ الشّهيد الصّدر أضاف إليها الاستنطاق كما مرّ.

خاتمة
على ضوء ما تقدّم، اتّضح أنّ النّصّ بالنّسبة لهيرش موضوع قصدي يرتبط بوعي المؤلّف، ومعنى النّصّ هو ما أراده المؤلّف فقط؛ ولذلك عُدّ هذا المعنى أمرًا ثابتًا متعيّنًا يمكن الوصول إليه عبر فهم علامات النّصّ ودلالاته التي أرادها المؤلّف، ومن ثمّ لزم التحرّي عن حياة المؤلّف وتجربته النّفسيّة، مضافًا إلى السّياق. وبما أنّ هيرش دافع عن الاتّجاه العينيّ أمكنه الحديث عن معيار مصحّح للفهوم المختلفة، فالفهم الصّحيح هو الفهم القريب من المعنى اللّفظي، والذي نصل إليه من خلال الحدس، والعكس صحيح أيضًا. هذا مضافًا إلى تأكيده من جهة على التّمييز بين هذا المعنى، وبين الدّلالة، ومن جهة ثانية بين الفهم وبين العمليّات الأخرى التي ترسم علاقة القارئ بالنّصّ، وهي عبارة عن: التّفسير، والحكم، والنّقد. لكن تمّ تسجيل خمسة إشكالات -مقارنةً بمبنى الشّهيد الصّدر- على نظريّة القصديّة لديه؛ وكانت عبارة عن: مسألة الوضع، والدّلالة التّصوريّة التي لم تفسّرها تلك النّظريّة؛ وقضيّة واقعيّة اللّغة، وإمكانيّة التّفاهم المشترك؛ وعدم تمييزه بين الدّلالة القطعيّة، والظّنّيّة؛ وإشكاليّة الدّور بخصوص مغالطة سندريلا؛ وأخيرًا وقوعه بالنّسبيّة من ناحية التّفسير.

كما اتّضح انتظام السّيّد الشّهيد ضمن مسلك القصديّة، واتّجاه العينيّة أيضًا، وتحديده وظيفة المفسّر بالكشف عن معنى النّصّ، أي المراد الجديّ لصاحبه، وذلك على أساس حجّيّة الظّواهر التي تتبع الوضع اللّغوي، والأساليب العقلائيّة في التّحاور. ثم إنّه ميّز بين الدّلالات القطعيّة والظّنّيّة، بحيث قد يصل المفسّر إلى فهم يقيني للنّصّ أو ظنّي له. ثم إنّ الفاصلة الزّمنيّة بين زمن صدور النّصّ وزمن تفسيره لا تُعتبر مانعًا جدّيًّا للوصول إلى مراد المؤلّف، وذلك بالاعتماد على «أصالة ثبات اللّغة». كما يتحدّث الشّهيد الصّدر عن دور القبليّات الضّروريّة لفهم النّصّ، وضرورة التّمييز بين عمليّات مواجهة النّصّ، حيث ذكر مسألة الاستنطاق، وأهمّيّتها في ديمومة حياة النّصّ.

المصادر
القرآن الكريم
أبو زيد، نصر حامد، إشكالية بناء المعنى لدى الغرب المعاصر، بيروت، ‏المركز الثقافي العربي، ط1، 2014.
ـــــــــــــ، ‏نقد الخطاب الديني، القاهرة، ‏سينا للنشر، ط2،‏ 1994.
أحمدي، بابك، ساختار وتأويل متن، طهران، ‏نشر مركز، ط10،‏ 1388 ش.
أعرافي، عليرضا،‏ هرمنوتيك، إعداد: علي بخشي، قم، انتشارات موسسه اشراق وعرفان، ط1، 1395 ش.
إيغلتون، تيري، نظريّة الأدب، ترجمة: ثائر ديب، دمشق، ‏منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، 1995.
بريمي، علي، هرمنوتيك وتاثير آن بر فهم متون، أصفهان، آسمان نگار، ‏1392 ش.
الحائري، السّيّد كاظم،‏ مباحث الأصول، تقريرات بحوث السّيّد محمد باقر الصدر الأصولية، قم، ‏دار البشير، ط1، 1428 ه.
الحكيم، السّيّد محمد باقر،‏ علوم القرآن، قم، مجمع الفكر الإسلامي، ط3‏.
راي، وليم،‏ المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، بغداد، دار المأمون للترجمة والنشر، ط1، 1987.
رباني ‏ گلبايگاني، علي،‏ علم هرمنوتيك، قم، رائد، ط1، 1398 ش.
الرويلي، ميجان ‏ وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، لبنان، ‏المركز الثقافي العربي، ط3، 2002.
السبحاني، جعفر،‏ هرمنوتيك، قم، مؤسسة امام صادق (ع)، ط1، 1395 ش.
الصدر، السّيّد محمد باقر، المدرسة القرآنية، إعداد وتحقيق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشّهيد الصدر، قم، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، ط5، ‏1435 ه.
ــــــــــــــ، دروس في علم الأصول (الحلقات الثلاث)، الحلقة الثانية، بيروت، دار الكتب اللبناني-مكتبة المدرسة، ط2، 1406 ه.
ــــــــــــــ، نشأة الشيعة والتشيع، تحقيق: عبد الجبار شرارة، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، ط2، ‏1417 ه.
ــــــــــــــ، ومضات، إعداد وتحقيق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشّهيد الصدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، ط1، ‏1428.
الفياض، محمد إسخاق، ‏محاضرات في أصول الفقه، تقريرات أبحاث السّيّد أبو القاسم الخوئي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ط1، 1419 ه.
القمي، أبو القاسم، القوانين المحكمة في الأصول، قم، إحياء الكتب الإسلامية، ط1، ‏1430.
كوزنزهوي، ديويد، حلقه انتقادى، ترجمة: مراد فرهاد پور، انتشارات گيل، ط1، ‏1371 ش.
مصطفى، عادل،‏ فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظريّة التأويل من أفلاطون إلى جادامر، المملكة المتحدة، ‏مؤسسة هنداوي سي آي سي، 2018.
معن الطائي، «القصدية والقراءة عند هوسرل»، مقالة منشورة على الشبكة العنكبوتية، صحيفة المثقف، العدد 1360، يوم الأربعاء بتاريخ 31/3/2010.
الهاشمي، محمود ، ‏بحوث في علم الأصول: تقريرات بحوث السّيّد الصدر الأصولية‏(أ)، ‏ قمّ، إيران، ‏مؤسسة الفقه ومعارف أهل البيت عليهم السلام، ط1، 1433 ه.
الهاشمي، محمود، ‏بحوث في علم الأصول: تقريرات بحوث السّيّد الصدر الأصولية‏(ب)، قم‏، مؤسسة دائرة المعارف فقه اسلامى بر مذهب اهل بيت عليهم السلام، ط3، ‏1417.
واعظي، أحمد، نظريه تفسير متن، قم، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه، ط4، 1400 ش.
ـــــــــــــــ، ‏هرمنوتيك حقوقى، قم، مؤسسة بوستان كتاب، ط2، 1401 ش.
وفيق، سليطين، «المعنى والدّلالة: نقد أطروحة هيرش عند جابر عصفور»، مقالة منشورة على الشبكة العنكبوتية، صحيفة الرأي، يوم الجمعة بتاريخ 2/2/2007.
Hirsch, Eric D., Validity in Interpretation. New Haven and London, Yale University Press, 1967

--------------------------------------------
[1]. باحث دكتوراه في الحوزة العلمية- قم المقدسة
[2]. واعظي، هرمنوتيك حقوقى، 231-245.
[3]. Being and Time
[4]. السبحاني، هرمنوتيك، 65-66.
[5]. subjective
[6]. objectivity
[7]. مثل ريكور وسروش وفضل الرحمن ملك ونصر حامد أبو زيد، للاتجاه الأوّل؛ وبيتي وهيرش وواعظي والتيار الأصولي، للاتجاه الثاني.
[8]. سيأتي تعريف موجز به.
[9]. intentionalist
[10]. anti-intentionalists
[11]. intentional meaning
[12]. Eric Donald Hirsch
[13]. للاطلاع أكثر انظر: بريمي، هرمنوتيك وتاثير آن بر فهم متون، 210-214.
[14]. Validity in Interpretation
[15]. والثاني هو «أهداف التفسير» ()
[16]. انظر: راي، المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، 104.
[17]. يؤمن هوسرل بعدم وجود حقائق للأشياء بذاتها وراء الإدراك والوعي، ويصرّح بأنّ النص ينوجد كموضوع أنطولوجي في وعي المؤلف، الذي يسعى بصورة قصدية إلى تشكيله من خلال اللغة؛ وتتمثّل وظيفة القارئ لديه بإعادة تشكيل التجربة الشعورية للمؤلف التي يكشف عنها النص وتتطابق مع ما قصده المؤلف. انظر: م. ن، المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، 104؛ ومقالة «القصدية والقراءة عند هوسرل»، معن الطائي؛ وواعظي، نظريه تفسير متن، 94-95.
[18]. الرويلي والبازعي، دليل الناقد الأدبي، 90.
[19]. الفياض، محاضرات في أصول الفقه، 36-56.
[20]. يقول في هذا الصدد: «يجب على المفسرين أن يكونوا مطيعين لمراد المؤلِّف في فهمهم للنصّ؛ لأنّ معنى كلامه هو المعنى نفسه الذي يريد المؤلف نقلَه». انظر: كوزنزهوي، حلقه انتقادى، 103؛ وأعرافي، هرمنوتيك، 197.
[21]. إيغلتون، نظريّة الأدب، 126.
[22]. يميّز هيرش بين مصطلحي الفهم والتفسير، ويطلق على الأوّل «المهارات الفنية» وعلى الثاني «المهارات التوضيحية»؛ وسيأتي الحديث عنها لاحقًا في هذه المقالة.
[23]. semantical autonomy
[24]. وهو ما يعبّر عنه بالمعنى الدلالي (السيمونطيقي)، أي الالتفات إلى القابلات الكامنة داخل الألفاظ والنظام اللغوي فقط لفهم النص.
[25]. verbal meaning
[26]. meaning
[27]. كوزنزهوي، حلقه انتقادى، ‏86؛ وأعرافي، هرمنوتيك،‏ 198.
[28]. رباني گلبايگاني، علم هرمنوتيك، 295.
[29]. significance
[30]. من المهمّ التّأكيد على أنّ الذي يظهر من كلمات هيرش أنّ المعنى بالنّسبة له هو نفسه الدّلالة، لكنّ التّعبير يختلف بحسب اختلاف زاوية النّظر، بمعنى أنّ «الدّلالة» هي ما يمكن أن يحمله النّصّ من معانٍ مختلفة بغض النّظر عن القارئ؛ و«المعنى بالنّسبة له» هي نفس تلك المعاني المنتزعة الّتي يتلقّاها القارئ بناءً على سياقه الشّخصي. فهذه المعاني المتنوّعة هي نفسها تُسمّى دلالة بلحاظ النّصّ، وتُسمى معاني بالنّسبة له باعتبار تلقّيها من القارئ.
[31]. انظر: مقالة «المعنى والدّلالة».
[32]. فاطر: 28.
[33]. يحسن أن نذكر هنا أنّ الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد هو ممّن استفاد من تقسيم هيرش -أي التّمييز بين المعنى اللّفظي والدّلالة- ووظفه في أبحاثه ومناقشاته لفقهاء السنّة، مصرّحًا في كتبه نقد الخطاب الدّيني باقتباسه ذلك من هيرش؛ لكن الغريب في الأمر أنّ آراء هيرش هي على الضّدّ تمامًا من أفكار غادامير، بل هو يصرّح بأنّه اجترح هذا التّقسيم للردّ على مفهوم المعنائيّة لدى غادامير. هذا في حين أنّ نصر حامد أبو زيد يُعدّ من مؤيّدي غادامير، والهرمنوطيقيا الفلسفيّة، والمدافعين عنها، بل يذكر في كتابه نقد الخطاب الدّيني ذلك صراحةً، حيث يقول بأنّه تعلّم الكثير من الهرمنوطيقا الحديثة، وأنّه يراجع عندما يفسّر القرآن نظريّات هانز جورج غادامير، وكتابه الحقيقة، والمنهج؛ انظر: أبو زيد، نقد الخطاب الدّيني، 220-223. ونحن إنّ أحسنا الظّنّ بهذا الكلام، نقول إنّه أراد الجمع بين المدارس الهرمنوطيقيّة المختلفة، وإلّا فالّذي يبدو أنّه خلطٌ بين مبادئ هذه المدارس، وجمعٌ بين العناصر غير المتلائمة فيها؛ إذ من المؤكّد أنّه على عكس هيرش لا يقول بقصديّة المؤلّف، بل يرى أنّ المعنى هو المفهوم المباشر للألفاظ النّاتج عن تحليل البنية اللّغوية للنّصّ في سياقه الثّقافي النّابع منه بصرف النّظر عن كونه مقصودًا للمؤلّف أم لا.
[34]. إيغلتون، نظريّة الأدب، 126.
[35]. أحمدي، ساختار وتأويل متن، 591؛ وأعرافي، هرمنوتيك، 196.
[36]. مصطفى، فهم الفهم –مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظريّة التأويل من أفلاطون إلى جادامر، 133- 134.
[37]. الرويلي والبازعي، دليل الناقد الأدبي، ‏91.
[38]. Hirsch, Validity in Interpretation, 134 - 35.
[39]. الروم: 21.
[40]. على سبيل المثال؛ انتقد هيرش غادامير الذي لم يميز بين هذه المصطلحات، بل جعل الفهم والتفسير والتطبيق جميعها أجزاءً لعملية فهم النص.
[41]. understanding
[42]. أبو زيد، إشكالية بناء المعنى عند الغرب المعاصر، 46.
[43]. context
[44]. Hirsch, Validity in Interpretation, 207.
[45]. verification
[46]. explanation/interpretation
[47]. أبو زيد، إشكالية بناء المعنى لدى الغرب المعاصر، 46.
[48]. judgment
[49]. criticism
[50]. الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، ‏91.
[51]. واعظي، نظريه تفسير متن، 294.
[52]. الحائري، مباحث الأصول، تقريرات بحوث السّيّد محمد باقر الصدر الأصولية، القسم الثاني ، 2: 247.
[53]. وهو نقاش كبير وقديم بين الأخبارية والأصولية، يبحث عادة تحت مبحث «حجية الظهور» في كتب الأصوليين.
[54]. م. ن، 245-248، و219- 239.
[55]. القمي، القوانين المحكمة في الأصول، 2: 421.
[56]. الحائري، مباحث الأصول، تقريرات بحوث السّيّد محمد باقر الصّدر الأصوليّة، ‏216 و297؛ والهاشمي، بحوث في علم الًاصول، تقريرات بحوث السّيّد محمد باقر الصّدر الأصوليّة، 7: 333-334؛ الحكيم، علوم القرآن، 220.
[57]. الصدر، المدرسة القرآنية، 309.
[58]. الصدر، نشأة الشيعة والتشيع، 130.
[59]. الصدر، ومضات، إعداد وتحقيق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشّهيد الصدر، 405.
[60]. الصدر، دروس في علم الأصول، 2: 88.
[61]. يذكر الشّهيد الصّدر صراحةً أنّ المقصود من حجّيّة الظّهور هو أصالة الظّهور نفسها؛ لأنّها تجعل الظّهور هو الأصل لتفسير الدّليل اللّفظي. انظر: م. ن، 1: 318-319.
[62]. الهاشمي، بحوث في علم الأصول، تقريرات بحوث السّيّد الصّدر الأصوليّة (أ)، 4: 266.
[63]. طبعًا، لم يذكر في كتابه دروس في علم الأصول (الحلقات الثّلاث) سوى هذه الدّلالات الثّلاث، غير أنّه تحدّث في بحوث الخارج للأصول عن دلالة رابعة هي «الإرادة التّفهيميّة».
[64]. م. ن، 266.
[65]. الصدر، دروس في علم الأصول، 2: 184.
[66]. م. ن، 3: 75-76.
[67]. م. ن، 2: 147.
[68]. الهاشمي، بحوث في علم الأصول، تقريرات بحوث السّيّد الصدر الأصولية (أ)،‏ 1: 131.
[69]. الهاشمي، بحوث في علم الأصول، تقريرات بحوث السّيّد الصدر الأصولية (أ)،‏ 1: 81-82.
[70]. واعظي، نظريه تفسير متن، 105.
[71]. ذكر الشّهيد الصّدر عدّة أنواع للظّهور، كالظّهور التّصوري، والظّهور التّصديقي؛ والظّهور الاجتماعي، والظّهور اللّغوي؛ والظّهور الحالي، والظّهور الضّمني؛ والظّهور البسيط، والظّهور المعقد.
[72]. الصدر، مباحث الأصول، القسم الثاني، 2: 247.
[73]. الصدر، دروس في علم الأصول، 2: 229.
[74]. م. ن، 328.
[75]. الصّدر، مباحث الأصول، القسم الثاني، 1: 178-186.
[76]. بالاصطلاح الأصولي، سواء على مستوى الظّهور التّصوري أو التّصديقي.
[77]. الدّلالة عند الأصوليين هي فهم المعنى من اللّفظ عند إطلاقه بالنسبة للعالم بالوضع.
[78]. Cinderella fallacy
[79]. يتحدث هيرش عن فكرة النمط أو المعنى المشترك، الذي يقوم بمهمة الوصل بين معنى المؤلف في الماضي ومعنى المفسّر في الحاضر، وذلك من خلال الإمكانات اللغوية التي تُكتسب بالتعلم وتشترك بين أفراد الثقافة الواحدة. انظر: راي، المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، ‏105.
[80]. أعرافي، هرمنوتيك، ‏196-197.
[81]. الحكيم، علوم القرآن، ‏217-226.
[82]. الصدر، المدرسة القرآنية، 29- 36.