البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مراجعة كتاب: الفلسفة وقضايا اللغة، قراءة في التصور التحليلي

الباحث :  ادارة التحرير
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  37
السنة :  شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 19 / 2025
عدد زيارات البحث :  259
تحميل  ( 563.210 KB )
معلومات النشر:
اسم الكتاب: الفلسفة وقضايا اللغة: قراءة في التصور التحليلي
المؤلف: بشير خليفي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون
مكان النشر: بيروت
سنة النشر: 2010
عدد الصفحات: 206

مقدمة
البحث اللغوي له دخالة في البحث الفلسفي بشكل واضح ومثمر؛ لأن علاقة الإنسان باللغة علاقة تمسّ وجوده ووعيه الذي يتمثّل بهيئة نشاط لغوي، فلا يمكن الإفصاح عن التجربة الفلسفية بعيدًا عن لبوس لغوي، ولهذا السبب بعينه انبعث النشاط الفلسفي اللغوي؛ بحيث احتل الصدارة في الفلسفة التحليلية من منطلق أن الإشكال الفلسفي يعود بالأساس إلى التباس لغوي.
وهذه القضية، أي رجوع المشاكل الفلسفية إلى سوء استخدام اللغة مما صرح به لودفيغ فتجنشتين أحد فلاسفة اللغة التحليليين، حيث استحوذ موضوع اللغة على اهتمامه في كلا مرحلتيه الفكريتين.
ومع تغيير فتجنشتين لمفهوم الفلسفة ووظيفتها، أعدم أي مبرّر لقيام الأنساق المعرفية والمذاهب الفلسفية التي كانت تفسر الطبيعة والحياة بنظرة أحادية مبنية على أساس شمولي، مضافًا إلى ذلك أخرج فتجنشتين الكثير من القضايا الفلسفية من البحث لا لكونها كاذبة، بل لكونها خالية من المعنى.

الفصل الأول: التحليل الفلسفي لقضايا اللغة
مع انتشار السفسطائيين برزت الفلسفة لكي تهتم بشكل أساسي بتوضيح المفاهيم وتعريفها، والتعريفات تبتني على الصياغات اللّفظية التي من خلالها يُبنى التعريف الجامع المانع للماهيات، وقد شكّل التعريف للفلاسفة مقصدًا مهمًا من مقاصد البحث الفلسفي.
كان سقراط يروم من خلال محاوراته التي نقلها لنا تلميذه أفلاطون للوصول إلى تعاريف تتأسّس على الخصائص الجوهرية للموضوع المعرَّف، وكذا حال أنصار الوضعية المنطقية الذين أناطوا بالفلسفة مهمة تحليل أقوال العلماء بغية توضيحها وفهمها.
إذن لقد أصبح من الواضح أن التعريفات عند الفلسفات تنطلق وتهدف إلى إزالة الغموض عن المعاني، ولكن هذه المسألة تصطدم بمشاكل أولها مشكلة فصل الذات العارفة عن موضوع المعرفة، ووفق هذا الأمر يمكن القول ‘ن العمق الفلسفي يستدعي أن يتم التعامل مع المفاهيم بكثير من الحذر؛ إذ المسألة لا تختزل في مجرد لعب بالكلمات واستبدال لشبكة مفاهيم بأخرى مغايرة.

إذا جئنا إلى مفهوم القضية، والتي تعني بأبسط تعاريفها أنها حكم لغوي قابل لأن يوصف بالصدق أو الكذب، بمعنى أنها تعبير لفظي عن حكم، في حين يعبّر عنها المناطقة المسلمون بـ«التصديق» أو «القول الجازم».
هذا كله في الجملة الخبرية التي تدخل في دائرة الصدق والكذب، بخلاف القضايا الإنشائية التي لا تحتمل الصدق أو الكذب كالأوامر والنواهي والاستفهام والتعجب.
أما مفهوم اللغة، فنجد اختلافًا فيه، حيث يعرّفها بعضهم بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، ويعرّفها آخر بأنها كل نظام الرموز والإشارات الذي يصلح لأن يكون وسيلة للتواصل، وعرّفها بعضهم بأنها المسار التواصلي للخطاب الجامع بين مرسِل ومستقبِل.

حول المضامين الفلسفية والتمفصلات اللغوية يذكر الكاتب أن الإنسان يختلف عن الحيوان في أن الأخير يحيا ويموت ولا يسأل عن معنى الحياة والموت، والحال أنّ روح هذا التساؤل في شكلها العام تعبّر عن ميلاد الفلسفة التي هي وليدة الدهشة كما يرى أفلاطون، وإذا كان الأمر كذلك، فإن الإنسان أثناء تعامله مع الآخرين إذا أراد أن ينقل أفكاره، فلا بد له من استعمال اللغة، فلا يمكن عندئذ التفلسف بعيدًا عن اللغة.
ومن هنا فإن التأمّل في موضوع اللغة ليس وليد الزمن المعاصر، بل هو قديم قدم التعليم، حيث نجد أن الحضارة الهندية القديمة على سبيل المثال اهتمّت بالدرس اللغوي من خلال شرح النصوص المقدسة، كما أن سقراط اهتم أيضًا باللغة من باب المحاورات واستعمال اللغة لإيصال المعاني والمفاهيم وتحديدها، وخاصة الذين اهتموا باللغة الخطابية في السياسة والاجتماع؛ ولذلك نجد أن اللغة عند السفسطائيين عبرت عن فلسفة ذاتية لا تبحث عن جوهر الحقيقة كغاية قصوى. ومن خلال المواجهة بين الفلاسفة اليونانيين لا سيما سقراط والسفسطائيين انطلق البحث اللغوي الفلسفي بحيث يرى الكثير من الباحثين أن الميلاد الحقيقي للاهتمام الفلسفي باللغة بدأ من خلال محاورة كراتيل الشهيرة، التي دار محور النقاش فيها حول مسألة أصل اللغة وطبيعة الأسماء.

لقد بيّنت محاورة كراتيل نظريتين متقابلتين في مسألة طبيعة اللغة: النظريّة الطبيعية التي يمثلها كراتيل والذي يقرّ بأنه يوجد بالنسبة لكل شيء اسم يوافقه موافقة طبيعية، وثانيًا النظريّة الاصطلاحية التي يمثّلها هرموجين والذي يرى أن اللغة صادرة عن تعاقد واصطلاح.
وجاء موقف أفلاطون وسطيًا في أننا لا نستعمل الكلمات بشكل اعتباطي، بل ضمن أطر تحدد أركانها قواعد اللغة والتعاقد من جهة، وكذا طبيعة الشيء المسمى من جهة أخرى، وكذلك أرسطو فإن مساهمته الأساسية تمثّلت في كتاب الأورغانون الذي يمثّل الكتاب القواعدي للفكر المنطقي.

أما بعد أرسطو، فقد تحوّل الاهتمام باللغة إلى الذاتانية والتجريبية، حيث يتميز منطقهم المرتبط باللغة بالصفة الفردية الملموسة التي تعتمد على المادة والحدث الفعلي، تماشيًا مع نظرتهم للمعرفة المؤسسة على الحس والتجريب.
كما شكّلت اللغة مدار اهتمام كثير من الفلاسفة ورجال الدين في القرون الوسطى التي تعتبر امتدادًا للأفلاطونية والأرسطية، وعلى سبيل المثال ارتبطت دراسات أوغسطين للغة بتأويل الكتابات المنزلة المشبعة بالتصور الديني، حيث يرى أن وظيفة العلامة اللغوية تتمثل في السماح للبشر باكتشاف تفكيرهم وتكوينه بشكل مؤسس، كما أثارت مسألة الكليات عناية الفلاسفة والمهتمين في فترة القرون الوسطى، وفي مقابل القائلين بالكليات ظهر المذهب الاسمي الذي يرى أن الكلي لا واقعية له، بل هو مجرد اسم أو صوت، ويرى الكاتب أن النزعة الاسمية جاءت امتدادًا للفكر الأرسطي بخلاف الفكر الافلاطوني الذي رأى وجود الكليات بما يسمى عالم المثل.

ثم إن المذهب الاسمي كانت له تجلّيات في ظهور المذهب التجريبي، حيث لم يكن لغير تتبع الجزئيات من قيمة علمية، فقد أكدوا أن الأشياء الجزئية هي التي تمثل الحقيقة، فقولي إن سقراط هو سقراط هي معرفة واضحة، بخلاف القول بأن أرسطو إنسان، فإنها جملة غامضة، ومعنى ذلك أننا إذا أردنا تفسير الوجود، فلا داعي لذلك الجهاز المفاهيمي الضخم ومن هنا جاء مفهوم «نصل أوكام» القائل بأنه لا ينبغي الإكثار من الكيانات إلى حد يتجاوز ما تدعو إليه الحاجة.
أما إذا رجعنا إلى الفكر العربي الإسلامي، فإضافة إلى حركة ترجمة الفلسفة اليونانية، فإن التعامل مع المسألة اللغوية عائد أيضًا إلى التحوّل الفكري الذي أحدثته مفاهيم الدين الإسلامي، وكذلك كلمات القرآن الكريم في البيئة العربية على مستويات متعددة تركيبية ودلالية وصوتية.

ويمكننا أن نتفحّص جهود الفارابي في معالجة المسألة اللغوية من خلال كتاب الحروف، حيث سعى للكشف عن البعد الرمزي للغة بوصفها مجموعة رموز على هيئة أصوات في حالة النطق وهي على شكل رسوم للحروف في حالة الكتابة، حيث يرى الفارابي أن اللغة تشكل جهازًا إشاريًا يعبّر عن محتويات هذا العلامات، وتقوم اللغة بنقلها إلى مجموعة من المفاهيم.

في القرن التاسع عشر يمكن الإشارة إلى إسهامات ديفيد هيوم بالحديث عن خصوصية نظريّة المعرفة عنده، حيث ينظر إلى تكوين المعرفة من خلال أسسها الجزئية لا الكلية؛ ولذا فهو محسوب على التيار الاسمي، فمفهوم الكلمة التي تتشكل في ذهني عن لفظ إنسان مثلًا هي نتاج حشد صور جميع الناس في الذهن، فصورة الإنسان هي صورة لإنسان ينوب عن بقية البشر، وبالمقابل لم يتوان إدموند هوسرل في معالجة موضوع اللغة، حيث رأى أن تفكير الإنسان يتجلّى بواسطة اللغة، واللغة تعبير للفكر الذي لا يمكننا فهمه إلا بوصفه معنى، ثم إن المعنى يرتبط بأمرين: الشيء في حد ذاته والقصد، فإن المعنى لا يتحصل إلا بأن يكون ممتلئًا بقصد ووعي المتكلم لما يقول ويريد. أما هايدغر فقد اهتم بالدمج بين الفكر واللغة حيث قال إن وسائل الفكر جميعها منحبسة في اللغة، وإن الذي لم يفكر أبدًا في اللغة لم يفكر أبدًا.
بعد العرض التاريخي لصيرورة البحث اللغوي في الفلسفة، يستعرض الكاتب قضية اللغة العادية واللغة المثالية، حيث تمثل اللغة العادية لغة التحادث اليومي بينما تكون اللغة الصارمة العلمية المعتمدة على المنطق والرمز هي لغة مثالية، وكانت اللغة المثالية هدفًا لبعض الفلاسفة لأجل أن يضمنوا من خلالها آلية عالمية للتفكير بغية الوصول إلى الحقيقة الأخيرة وذلك لا يكون إلا بلغة تتخلص من شوائب الإبهام والهلامية التي تشوب اللغة العادية.

من هنا تأسس المنطق الرمزي، والذي يشكل الحساب والرياضيات أساسه المحوري، حيث أعلن فيلسوف الوضعية المنطقية رودولف كارناب عن هدفه الأساسي من الفلسفة والقاضي بالسعي لتجسيد لغة صحيحة منطقيًا تأخذ من العلم صرامته. وبعبارة أخرى إن اشتمال اللغة العادية على عدة مثالب من نقص وقصور في أدائها حينما يتعلق الأمر بنقل المعرفة، جعلت أمثال فريجه يقر بعجزها في إيصال ما يتطلّب الترميز، ليقترح لغة مثالية تشترط دراية بعوالم المنطق والرياضيات وتتطلّب كفاية وتقدّمًا علميًا، فاللغة المثالية المرغوب فیها هي لغة الفكر الخالص الذي يستند على نموذج الحساب.
وعلى غرار فريجه اقتنع برتراند راسل على أنه من اللازم على الفلسفة إن هي أرادت أن تعبّر عن نتائجها بدقة أن تهتم بوسيلة التعبير من حيث مضامينها، وبالتالي لا بد من التخلي عن اللغة الجارية العادية في التعبير عن الأفكار، وكذا حال فتغنشتين في كتاب الرسالة المنطقية الفلسفية، حيث رأى أن سبب المشكلات الفلسفية عائد إلى سوء فهم منطق اللغة.
إلا أن مشروع اللغة المثالية لم يسلم من الإشكالات: ما هي أدوات هذا المشروع؟ هل اللغة المثالية عامة للإنسانية أم خاصة بفئة من الناس؟
هذا مضافًا إلى عدم توحد التمثّلات حول مضمونها وطبيعتها، وكذا اتسامها بالغموض والتعقيد؛ مما يحيل لصعوبة في متابعتها، فإن تحقّقها الميداني لم ينجح في أغلب الأحيان.

بعد هذا المبحث، يتعرّض الكاتب إلى قضية ميلاد التصور التحليلي لفلسفة اللغة، حيث يبدأ بالكلام حول الخلفيات المعرفية والأهداف الفلسفية، وبعبارة موجزة، إن الفلسفة التحليلية اتجاه فلسفي معاصر أطلق ليوضح الأبحاث المنتشرة خصوصًا في البلدان الإنجلوسكسونية، بدأ من التطور الذي طرأ على العلوم الرياضية والطبيعية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بهدف جعل الدراسة الفلسفية للقضايا المستعصية أمرًا ممكنًا، وذلك بتفكيك الكل إلى الجزء والمعقد إلى البسيط عبر الانطلاق من النتائج إلى الأسس ومن الانعكاسات إلى الأسباب.
لقد أعطت الفلسفة التحليلية للغة مكانة كبيرة؛ لأنها اعتبرت أن تحليل اللغة يمثل الوظيفة المثلى للفلسفة، بل حتى إن بعضهم اعتبر أن الغموض الفلسفي ناشئ من غموض لغوي.

أما الملامح العامة للفلسفة التحليلية، فيمكن جعلها ضمن العناوين التالية:
اعترافها بدور اللغة الفعّال في الفلسفة
النظرة التجزيئية للإشكالات والقضايا الفلسفية
التركيز على الطابع المعرفي وبالاتجاه نحو الكشف عن العالم الخارجي والتمسك بمرتكزات المنطق والعلم
المعالجة المشتركة بين الذوات لعملية التحليل لا التركيز على اللغة الخاصة والشخصية.
ويمكن ملاحظة الحيّز الذي شغلته اللغة في بعض جوانبها عند أقطاب الفلسفة التحليلية مور وراسل وفتغنشتين، والذين يعود لهم الفضل في قيام حركة التحليل المعاصر، أما مور فقد اهتمّ بالحس المشترك، وأقرّ أن دور الفلسفة يتمثّل في التعبير عن هذا الحس من خلال لغة محدّدة، أما راسل فقد أكد على الاختلاف الوارد بين الصور المنطقية والصور النحوية، حيث يمكن لهذه الأخيرة أن تضللنا وتجرّنا بالتالي إلى أفكار ميتافيزيقية باطلة، في حين هدف لودفيغ فتغنشتين الذي يُقسّم تفكيره الفلسفي إلى مرحلتين، إلى فهم بنية التفكير وحدوده من خلال دراسة بنية اللغة وحدودها، وذلك بضبط الخطوط الفاصلة التي تفرّق المعنى عن اللامعنى.

الفصل الثاني: الخلفية الفلسفية لمفهوم القضية حسب تصوّر فتجنشتين
يبحث الكاتب في المبحث الأول من هذا الفصل المسار الحياتي والفكري لفتغنشتين بما لا نورده هنا؛ لأن ما نريده هو المراجعة الفكرية للكتاب، ولكن ما نذكره هو التعريف بكتاب فتغنشتين الأول أي الرسالة المنطقية الفلسفية والذي يمثّل نتاج المرحلة الأولى من فكره، حيث يرصد الكاتب الخلفيات المعرفية التي انطلق منها فتغنشتين في هذا الكتاب، مثل تأثّره بأفكار كانط وفريجه وراسل.
وبخصوص التحليل عند فتغنشتين في هذه المرحلة، فإن التحليل بحسب ما يذكر لا يضيف إلى معرفتنا الجديد، بل هو مجرد طريقة لتوضيح ما نقوله لكي يتبيّن ما له معنى من كلامنا وما لا معنى له من خلال تناول اللغة بشكل عام بغض النظر عن نوعها، وهذا ما يعطي ميزة أساسية للفلسفة عنده بقيامها على تحليل اللغة كوسيلة لفض المشكلات الفلسفية، وكذا اكتشاف العالم.
وليس المقصود من اللغة عند فتغنشتين معناها الشائع عند الناس، بل تعني المجموع الكلي للقضايا المفيدة، ويلخّص مراده بالقول إنّ المنهج الصحيح في الفلسفة يتمثّل في عدم قول شيء باستثناء ما يمكن قوله، وما يمكن قوله هو قضايا العلم الطبيعي.
ولذا فوظيفة الفلسفة عنده ليست سوى تحليل اللغة عبر تحليل العبارات والقضايا المركّبة إلى ما هو أبسط منها بغرض التجلية والفهم، وعليه فالفلسفة لا تنتج أفكارًا، بل هي فاعلية هدفها توضيح الأفكار، ومن دون الفلسفة تبقى الأفكار مضطربة وغامضة.

إذا جئنا إلى معنى القضية عند فتغنشتين، فإنها عبارة تحمل معنى، تكون صادقة عندما تعبّر عن الواقع الخارجي وتكون كاذبة عندما لا يكون لها ما يقابلها في الخارج.

وقسم القضايا وفق الشكل التالي:
الفصل الثالث: الخصوصية الفلسفية لمفهوم القضية عند فتجنشّتين
إن العالم في نظر فتغنشتين ینحلّ إلى وقائع تعبّر عن الحالة التي تكون عليها الأشياء، فقولي السماء ممطرة تجعل من الحالة الفعلية الحقيقية التي تكون عليها السماء مرتكزًا للصدق أو الكذب الذي يعبّر عن الواقعة.
فاللغة تنحلّ إلى قضايا والقضايا بدورها تنحلّ إلى قضايا أولية، والقضية الأولية بحسب فتغنشتين بسيطة من منطلق أنّها لا تتكون من قضايا أخرى. فإذا كانت الواقعة الذرية هي نتاج أشياء مترابطة، فإن القضية الأولية هي نتاج ارتباط أسماء، فكل اسم يقابله شيء، وترتبط هذه الأسماء ببعضها بعضًا لتشكّل رسمًا يشهد على وجود واقعة فعلية.

ويرتبط معنى الاسم في نظر فتغنشتين بدلالته؛ حيث يشير إلى الشيء، ولا تكون له دلالة إلا إذا وُجد له مقابل في الوجود الخارجي.
كما ينبغي الإشارة إلى أن الاسم لا يدل على شيء موجود في العالم الخارجي إلا في حالة وجوده في قضية، ومن ثم فإن المجموعة المفكّكة من الأسماء ليس لها معنى.

وخلاصة ما يبيّنه فتغنشتين في رسالته المنطقية أن الوجود هو المنطلق لتفسير الأفكار وتمثّلاته، حيث وضع العالم تحت مجهر التحليل المنطقي ليكشف المكونات النهائية التي يرتدّ إليها، وعبر منهج التحليل قام متأثّرًا بنظريّة الذرية المنطقية لراسل بإبراز فكرة مفادها أن العالم ينحلّ إلى وقائع، ووفق هذا التصور تمثّل الواقعة الوحدة الأولى التي ينتهي إليها تحليل العالم، وكل واقعة تنحلّ بدورها إلى أشياء، إلا أن هذه الأخيرة ليست آخر ما ينحلّ إليه العالم، بحجة أن الشيء لا يوجد منفصلًا وليس له وجود مستقلّ عن غيره من الأشياء، فكل شيء هو جزء مندمج في حالة الأشياء. فالشيء كما الاسم لا يتّصف بأي صفة إلّا إذا دخل في تكوين الواقعة.

المبحث الثاني في هذا الفصل يحكي عن القضايا ذات المعنى، وهي قضايا العلم الطبيعي؛ لأنها عبارات قابلة للتحقق طالما تمتلك احتمالية الصدق والكذب من خلال دلالتها على ما يوجد في العالم الخارجي.
ومن خصائص القضية العلمية أنها ليست أولية أو تحليلية، بل هي مركبة بحاجة إلى تجربة واقعية تؤكد الصدق أو الكذب.
كما نقد فتغنشتين الاستقراء والتجربة؛ وذلك لعدم إمكانية استنتاج حكم الكل من الجزء، واعتبر أن التجربة لا تملك أي أساس منطقي، بل له أساس نفسي فقط، كما أن فتغنشتين لم يختلف عن هيوم في نظرته للسببية، من خلال نفي التلازم بين السبب والنتيجة.

في المبحث الثالث يقع الكلام على القضايا الخالية من المعنى، فقد جعل فتغنشتين وجود الواقعة أساسًا لصحة القضية المرتبطة بحضور المعنى، إذ القضية التي لا تصوّر واقعة ستكون إما كاذبة أو فارغة من المعنى.
ويرى فتغنشتين في الرسالة المنطقية، أي في مرحلته الأولى، أن اللغة هي تصوير منطقي للوقائع خصوصًا، وأنه يربط بين المنطق واللغة والفكر من زاوية عمل الفلسفة المتمثّل في الإيضاح الدقيق للأفكار؛ وذلك بالتمييز بين القضايا ذات المعنى والأخرى التي لا تحمل أي معنى.
فالقضية بحسب فتغنشتين لا تكون رسمًا للواقع إلا إذا كان بناؤها واضحًا من الناحية المنطقية، ومن هنا لا بد من التفريق بين البعد النحوي للقضية وبين البعد المنطقي، فقد تكون القضية من حيث القواعد النحوية صحيحة كما في قولنا (طار الفيل وحده)، ولكنها خاطئة منطقيًا.
وإن المنطق حسب تصور فتغنشتين مرتبط بالرموز والقواعد فقط، ولا يرتبط بالواقع الخارجي، كما لا يخبرنا عن طبيعة الأشياء المادية؛ بل هو عبارة عن مجموعة من الرموز والعلامات الاتفاقية التي تهتم بصورة الفكر، ثم إن قضايا المنطق بحسبه هي تحصيل حاصل؛ لأنها لا تشير إلى واقعة فعلية موجودة، بل هي مجرد تحليل لما نعرفه بالفعل، ولهذا السبب يصفها بأنها قضايا تحليلية لا تضيف شيئًا إلى معارفنا ولا تقدم شيئًا عينيًا يمكن أن نحكم عليه بالصدق أو الكذب.

ومن اللافت أيضًا أن فتغنشتين يقول إن القضية المنطقية لا يمكن إثباتها تجريبيًا؛ لأنها لا تدل على واقعة يمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب.

وأخيرًا يشير فتغنشتين إلى أن قضايا تحصيل الحاصل وقضايا التناقض لا تمثلان لغوًا مطلقًا، أي قضايا خالية تمامًا من المعنى، بل يمكن استخدامهما في الجهاز الرمزي الموظَّف في اللغة، وبذلك تتحصلان على جزء من المعنى، وقد شبّه وظيفة تحصيل الحاصل، وكذا وظيفة التناقض بالصفر في الحساب.
أما أشباه القضايا من قبيل قضايا الخير والجمال، فهي قضايا معيارية تصف ما ينبغي أن يكون، ولا تصف ما هو قائم وموجود بالفعل، وأكد بناء على ذلك خلوها من المعنى، فهي لا تشير إلى وقائع معينة ومحددة، بل نحن الذين نوجدها ونضفي عليها القيمة بحكم أحكامنا المعيارية.
أما القضايا الميتافيزيقية فهي الأخرى لا تحمل أي معنى بحسب فتغنشتاين والتي تحتوي على المعنى هي القضايا التي تعبر عن العلم الطبيعي. فالعبارات الميتافيزيقية لا تخبرنا عن شيء مجسد ولا تشير إلى واقعة فعلية موجودة في العالم الخارجي، ولا يمكن ربط الكلمات الميتافيزيقية بمعانٍ تؤدي إلى منح إثباتات وصفية. فيبقى المجال الوحيد المتروك للفلسفة هو المجال المرتبط بالتحليل والتوضيح.

الفصل الرابع: القضية عند فتجنشتين أطروحات نقدية
يمكن تسجيل حضور فتغنشتين بشكل أساسي وواضح في فلسفة الوضعية المنطقية وحلقة فيينا، فإن هذه الحلقة في الحقيقة تعبر عن روح الفلسفة التي ركزت في جوهرها على المنطق واللغة، وتمثّل الهدف في عملية التفلسف عندهم في السعي لتحويل الفلسفة إلى معرفة دقيقة وصارمة إضافة إلى استبعاد الميتافيزيقا.
والواقع أن للميتافيزيقا خصوم كثيرون عمدوا إلى إبطال قضاياها، بالتالي شكّكوا في مصداقيتها بحجج متعددة، أهمها أن تعاليمها غير قابلة للمشاهدة الحسية ولا إلى التحقيق الإمبريقي.
وقد استفادت الوضعية المنطقية على وجه التحديد من تصور فتغنشتين للقضية، خصوصًا أن الوضعيين المناطقة فسّروا كتاب الرسالة الذي ألّفه فتغنشتين من منطلق وصفه المصدر الأساس لأفكارهم.
بالنسبة لمفهوم القضية واللغة الفلسفية، فبعد أن كانت اللغة وسيلة للمعرفة الفلسفية أصبح التفلسف قائمًا في اللغة نفسها، فلا إمكانية للتفلسف بعيدًا عن لغة نطرح بها الأسئلة والفروض ونقدّم بها أسلوب المحاججة والنتائج، فلغة الفيلسوف بناء على ذلك تتشكّل وفق محاولة يتبنّاها الكاتب في الفلسفة من أجل تكوين الألفاظ المستعملة الدالة، كما يمكن للقضايا الفلسفية أن تنفتح وتتقاطع مع مساقات معرفية متعدّدة، وذلك يرتبط بالمواضيع المبحوثة أيضًا، مضافًا إلى ذلك، فإن اللغة التي يستعملها الفيلسوف أثناء تجسيده لقضايا اللغة الفلسفية قد تتقاطع مع طبيعة التكوين المعرفي للفيلسوف.

وحول مراحل تغییر فتغنشتین ذكر الكاتب أنه يمكن تلخيص أبجديات المرحلة الثانية في القول بأن فتغنشتين تخلّى عن نظريّة الذرية المنطقية وعن مختلف النتائج التي ترتّبت عنها، خصوصًا نظرته إلى اللغة بوصفها نتاجًا لقضايا تعبر عن الواقع الخارجي؛ ولهذا السبب لم تعد القضية المحور الأساسي الذي يبني عليه فتغنشتين فهمه للواقع. لقد استنتج فكرة مفادها أن تعميم النتائج والانطلاق من تصورات كلية مسألة غير مقنعة طالما لا تعطي للتفاصيل قيمة كبيرة، ولا تركز على خصائص الواقع المادي الذي يتمظهر بأشكال مختلفة لا نستطيع توقعها في أحايين كثيرة.
والمرحلة الثانية من فكر فتغنشتين تمثّلت في كتاب التحقيقات الفلسفية، حيث ركز على اللغة العادية، وهي التي أثارت اهتمامه، وهي اللغة التي يتكلمها الرجل العادي في حياته اليومية؛ وبذلك يكون قد انتقل من الاهتمام باللغة التي تمتلك وظيفة تصويرية للواقع إلى اللغة التي تظهر وظيفتها في التواصل والتفاهم، وذلك من خلال إعطاء اللغة بعدًا اجتماعيًا كان غائبًا في المرحلة الأولى.

في المرحلة الثانية اهتم فتغنشتين بنظريّة ألعاب اللغة، والمقصود وصف اللغة كلعبة مثلها مثل بقية الألعاب، ومن المعروف أن الألعاب ليست ثابتة بالمطلق، فليس لألعاب اللغة قانون واحد مشترك.
لقد تفطّن فتغنشتين إلى المأزق الذي احتوته الرسالة، ففي الوقت الذي يطلب منّا أن نصمت عن القضايا التي ليس لها مقابل في الوجود الخارجي والمتمثّلة أساسًا في قضايا الفلسفة والميتافيزيقيا، يقوم بالتعبير عن قضاياه داخل إطار الفلسفة وبلغتها. ولأنه كان ملتفتًا إلى هذا الإشكال؛ فإنه ذكر في نهاية الرسالة أن الفلسفة كالسلم الذي نصعده لنتخلّى عنه في النهاية.
ولكن ما يجب الالتفات إليه أن فتغنشتين أثناء معالجته لأنماط القضايا في كتاب الرسالة لم يقصد من وراء التركيز على العلم الطبيعي إلغاء الميتافيزيقيا من منظومته المعرفية ككل، إنه يقرّ بأن العبارات الميتافيزيقية لا تملك مبررات واقعية لكي تثبت شيئًا يمكن الحكم عليه بالصدق أو الكذب، كما أنها تخلو من المعنى وما لا معنى له لا ينبغي قوله.
وفي الحقيقة إن كتاب الرسالة على الرغم من اعتباره العبارات الميتافيزيقية مجرد لغو، إلّا أن حضورها كان باديًا؛ لأن أول عبارة في الرسالة تحدّثت عن مبحث الوجود، كما أن فكرة الذرية المنطقية التي تقرّ بأن العالم في تصوّرنا له مكوّن من وقائع بسيطة مستقلّة ومنفصلة عن بعضها، وهي فكرة ميتافيزيقية في الأساس.

ملاحظات نقدية
يتناول هذا الكتاب مجموعة من القضايا المتعلّقة بالعلاقة بين اللغة والفلسفة، بعضها قضايا ترجع إلى تاريخ هذه العلاقة في الفكر البشري لا سيما الممتد في الغرب، وبعضها يركّز على هذه العلاقة عند فلاسفة التحليل اللغوي لا سيما فتغنشتين، ولكن هناك بعض الأفكار تشتمل على نقص صريح من جهات متعددة:

أولًا: دلالة الاسم على الأشياء، والفرق بين المعقولات الأولية والمعقولات الثانوية:
من القضايا التي تتردّد بين اللسانيين الغربيين وفلاسفة اللغة أن الأسماء إنما تقع مقابل الأشياء، على الأقل فإن بعض التيارات التي فكّكت حقيقة اللغة وبيّنت دلالاتها، ذكرت أن الأسماء التي تنحلّ إليها التراكيب اللغوية، تشير في الحقيقة إلى أشياء في الخارج، وبالتالي فإن التراكيب اللغوية التي لا تنحل هكذا بحيث يكون بإزاء كل اسم شيئًا في الخارج يحكيه تكون خالية من المعنى، وهذا الأمر لا يوافق عليه الفلاسفة المدقّقون في العالم الإسلامي، لأن الواقعيات ليست بالضرورة أمورًا موجودة بشكل منحاز في الخارج، بل هناك أمور حقيقية وواقعية تمثّل حيثيات للخارج، وهذه هي التي تسمى بالمعقولات الثانية الفلسفية، والتي تكون حيثيات لواقعيات، مثل حيثية الوحدة والكثرة، وحيثية العلية والمعلولية، وحيثية القوة والفعل وغيرها، ولهذه الحيثيات جنبة واقعية وتمثل أساس البحث الميتافيزيقي.

ثانيًا: ارتباط الكليات بالقول بالمثل الأفلاطونية:
من الاشتباهات الكبيرة الموجودة في هذا الكتاب، هي قضية الكليات التي كان الكاتب يبيّنها مقابل المذهب الاسمي الذي ينكر وجود الكليات، حيث ربط الكاتب الكليات ببحث المثل الأفلاطونية، ومضافًا إلى هذا الاشتباه الكبير هناك اشتباه آخر، حيث عدّ المذهب الاسمي امتدادًا للمذهب الأرسطي، فقال: «النزعة الاسمية جاءت امتدادًا للفكر الأرسطي بخلاف الفكر الأفلاطوني الذي رأى وجود الكليات بما يسمى عالم المثل».
ومحل الاشتباه هو أن المذهب المشائي الأرسطي يقول بالكليات، بل هو أصلًا في منطقه وحكمته الطبيعية والميتافيزيقية قائم على القول بالكليات، فالمعنى الكلي للإنسان مثلًا حقيقة متحقّقة بوصف العموم والإطلاق في الذهن وعلى نحو الطبيعة في الخارج، ففي زيد إنسانية وفي بكر إنسانية كما أن في الذهن إنسانية كلية بشرط العموم، وليس صحيحًا أبدًا القول بالمذهب الاسمي عند الأرسطيين، ومضافًا إلى ذلك، فإن القول بالكليات الأرسطية التي لها وصف الذهنية لا دخل لها بالقول بالمثل، بل إن نفس أرسطو ومن بعده ابن سينا مثلًا كانوا يرفضون القول بالمثل الأفلاطونية في عين قولهم بالكليات.

ثالثًا: الكلي والخيال المنتشر
يقول الكاتب أثناء شرحه لبعض مذاهب اللغويين في الغرب: «فقولي إن سقراط هو سقراط هي معرفة واضحة، بخلاف القول بأن أرسطو إنسان، فإنها جملة غامضة [...] فمفهوم الكلمة التي تتشكّل في ذهني عن لفظ إنسان مثلًا هي نتاج حشد صور جميع الناس في الذهن».

هذا الكلام أيضًا خالٍ من التحقيق العلمي الفلسفي، فإن ادعاء أن سقراط هو سقراط يستبطن ادعاءً مسبقًا بأن سقراط إنسان، وإلا فما معنى معرفة أن سقراط هو سقراط دون معرفة أن جزءًا من حقيقة سقراط أنه إنسان، وبعبارة أخرى معرفة أن سقراط هو سقراط يعني أن سقراط هو ذاك الإنسان الخاص الذي لديه صفات خاصة.
أما قضية أن لفظ إنسان عبارة عن حشد صور جميع الناس، فهذا مجافٍ للحقيقة؛ لأن الإنسان الكلي هو معنى الإنسانية دون أخذ الصفات الخاصة للأفراد، والذي ذكره من صور جميع الناس هو الذي يسميه الحكماء بالخيال المنتشر وليس هو الكلي.

رابعًا: قضايا تحصيل الحاصل
ذكر في الكتاب أن من ضمن تقسيم القضايا عند بعض فلاسفة اللغة قضايا المنطق التي هي تحصيل حاصل؛ لأنها لا تشير إلى واقعة فعلية موجودة، ولا تقدم شيئًا عينيًا يمكن أن نحكم عليه بالصدق أو الكذب.
وهذه الفكرة أيضًا فيها الكثير من البعد عن الواقع فلسفيًا، ويمكن إرجاع الشبهة في ذلك إلى أنهم حصروا الصدق والكذب في المطابقة وعدم المطابقة للواقعيات الخارجية الوجودية، مع أنه قد ذكر في مباحث الفلسفة الإسلامية أن المطابَق ليس بالضرورة أن يكون وجوديًا، بل واقعيته بمطابقته لنفس الأمر، وقد ذكروا أن المطابقة لنفس الأمر أعم من المطابقة للخارج، قال العلامة الطباطبائي: «إن ثبوت كل شيء - أي نحو من الثبوت فرض - إنما هو لوجود هناك خارجي يطرد العدم لذاته. فللتصديقات النفس الأمرية - التي لا مطابق لها في خارج ولا في ذهن - مطابق ثابت نحو من الثبوت التبعي بتبع الموجودات الحقيقية.

توضيح ذلك: أن من التصديقات الحقّة ما له مطابق في الخارج، نحو (الإنسان موجود) و(الإنسان كاتب). ومنها ما له مطابق في الذهن، نحو (الإنسان نوع) و(الحيوان جنس)، ومنها ما له مطابق يطابقه، لكنه غير موجود في الخارج ولا في الذهن، كما في قولنا: (عدم العلة علة لعدم المعلول) و(العدم باطل الذات)؛ إذ العدم لا تحقق له في خارج ولا في ذهن، ولا لأحكامه وآثاره. وهذا النوع من القضايا تعتبر مطابقته لنفس الأمر، فإن العقل إذا صدق كون وجود العلة علة لوجود المعلول اضطر إلى تصديق أنه ينتفي إذا انتفت علّته، وهو كون عدمها علة لعدمه، ولا مصداق محقق للعدم في خارج ولا في ذهن، إذ كل ما حلّ في واحد منهما فله وجود.

والذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى الأبحاث السابقة أن الأصيل هو الوجود الحقيقي، وهو الوجود وله كل حكم حقيقي. ثم لما كانت الماهيات ظهورات الوجود للأذهان توسّع العقل توسّعًا اضطراريًا باعتبار الوجود لها وحمله عليها، وصار مفهوم الوجود والثبوت يحمل على الوجود والماهية وأحكامهما جميعًا. ثمّ توسّع العقل توسّعًا اضطراريًا ثانيًا بحمل مطلق الثبوت والتحقّق على كل مفهوم يضطر إلى اعتباره بتبع الوجود أو الماهية كمفهوم العدم والماهية والقوة والفعل ثم التصديق بأحكامها.
فالظرف الذي يفرضه العقل لمطلق الثبوت والتحقق - بهذا المعنى الأخير - هو الذي نسمّيه (نفس الأمر) ويسع الصوادق من القضايا الذهنية والخارجية وما يصدّقه العقل ولا مطابق له في ذهن أو خارج، غير أن الأمور النفس الأمرية لوازم عقلية للماهيات متقرّرة بتقرّرها»[1].

-----------------------------
[1]. الطباطبائي، نهاية الحكمة، 20-21.