البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المذاهب الأخلاقية للحداثة (خلفيتها التاريخية، روادها، ونظامها المعرفي)

الباحث :  عبد الحميد يوسف
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  4
السنة :  السنة الثانية - صيف 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 13 / 2016
عدد زيارات البحث :  4147
تحميل  ( 255.144 KB )
المذاهب الأخلاقية للحداثة
خلفيتها التاريخية، رُوّادها، ونظامها المعرفيّ
عبد الحميد يوسف[1][*]
ترصد هذه المقالة أبرز المذاهب والتيارات الأخلاقية التي ظهرت في أزمنة الحداثة الغربية ولا سيما تلك التي تزامنت مع ما عُرف بـ عصر التنوير. وتبعاً لما ورد فيها من عرض منهجي، فقد تبيَّن لنا ان هذه المذاهب ولدت تحت وطأة الصراع المرير بين العلمنة وسلطنة الكنيسة في أوروبا. ولعل الفرويدية والداروينية كتيارين رئيسيين معاديين للاّهوت المسيحي شكلا معاً عنوانان نموذجيان لمثل هذا الصراع، وخصوصاً في خلال الحقبة التي انتصرت فيها العلمنة على اللاهوت السياسي للكنيسة.
المحرر
يمكن القول أنَّ تأسيس النظم الأخلاقية غير الدينية وظهور الأخلاق الدنيوية أو الأرضية، من أهم خصائص العالم الغربي في القرن الثامن عشر فما بعد. فبعض النظم الأخلاقية تتصادم وتتعارض مع الأخلاق الدينية، فضلاً عن كونها نظماً علمانية. ويمكن إعطاء مثال على ذلك من الأخلاق الداروينية، فهي أخلاق توصي بسحق الضعيف من جانب القوي؛ لأنَّ ذلك يتطابق وقوانين الطبيعة الصارمة. فكل التعاليم المتضاربة مع الحركة التكاملية لبقاء الأصلح إنَّما هي تعاليم سلبية. وقد أسهب المتألِّهون في مناقشة القيمة الشرعية المنطقية للأخلاق العلمية، لا سيما الأخلاق الداروينية.
إن مطلبنا من هذا البحث هو التعرض إلى المرجعيات المؤسِّسة للمذاهب الأخلاقية التي ولدت في الغرب جراء الانقلابات ضربت الفكر الاجتماعي والفلسفي إبان عصر التنوير. ومن المفيد في هذا السياق إلقاء الضوء أولاً على ما قدَّمه الفلاسفة علماء الاجتماع الذين صرفوا قسطاً وفيراً من جهودهم في الميدان الأخلاقي. يلي ذلك عرض للسيرة التاريخية للمذاهب الأخلاقية التي رافقت صعود الحداثة.
أخلاقيو الأزمنة الحديثة
1- مونتاني وباسكال: ليس هناك من شك في أن نتاج «مونتاني» هو الذي افتتح التأمل الأخلاقي «العلماني» في العصور الحديثة.
ولا ريب أيضاً في أنّ هذه الأخلاق تنتمي ـ بأساسها الخفي إلى زمرة الأخلاق العلوية، ولكنها من التحفظ وبهجة الطابع بحيث لا يمكن اعتبارها إلاّ كمجموعة مبادئ تخص «الرجل الصالح» ذا التطلع المحدود بعض الشيء، أو كفنٍ سطحي ( لمعرفة كيفية الإستمتاع شرعاً بوجودنا ). وقد جرى التقليد على التقريب بين اسم باسكال واسم مونتاني الذى كان مصدر وحي كبير بالنسبة إليه. ولكن باسكال ليس في الواقع صاحب مذهب أخلاقي بل هو عالم ومترافع عن الدين المسيحي.وبالتالي لا يمكن تسميته «أخلاقياً» إلاّ من حيث كونه رساماً للأخلاق الممارسة ، أو بصورة أدق لما يسمى اليوم «الوضع البشري» الواقع، فقد اقتبس ـ كتاب مونتاني ـ من هذه الناحية الكثير من «الأبحاث» التي أسبغ عليها طابعاً تشاؤميّاً بهدف الإمعان في إبراز ضعف الإنسان وقابليته للعطب .. فمخيلة الإنسان تخدعه باستمرار وهو حبيس متطلبات التلاؤم من كل نوع ، ويعجز عن الحكم على نفسه بنفسه ، كما أنّه عبد لأهوائه «الترفيه» التي يحاول عن طريقها الهرب من ذاته[2].
وليس ما يتفرد به باسكال الاستنتاج اللاهوتي هو طرائقه التي يبغي بواسطتها اقناع قارئه، وذلك انطلاقاً من مبدأ ينص على أن لكل مجال منهجاً خاصاً به، وبالتالي فإنّه يجب على العقل المتفوق القوة في مجال الرياضيات أن يخضع في مجال اللاهوت إلى سلطة السُنة الموروثة أو تلك الفكرة «العميقة» التي قوامها: إنّ إرادة الإيمان تقود إلى الإيمان، اذ لا يمكن في الغالب الإنضمام إلى مذهب إلاّ عن طريق الأفعال (حتى غير الصادقة منها في البدء ) فهي التي تولِّد - دونما شعور ـ القناعة ووحدة السلوك.
2- ديكارت ومالبرانش: كان «ديكارت» ميتافيزيائياً عظيم الطاقة («وهو يهيمن على تطور الفلسفة المعاصرة بمجموعها «كما يصفه «بوترو»)، ولكنه لم يكن أخلاقياً مجدداً، وذلك على الأقل فيما يتعلق بقواعد الحياة التي اقترحها علينا... والتي نجدها معروضة في مقالة المنهج (الجزء الثالث) التي وضعها عام1637. فهذه القواعد مزيج من البراغماتية التقليدية [إطاعة قوانين واعراف بلادي... إلخ] والوحي الرواقي (الثبات في الآراء ما أن يتم تبنيها وحتى لو لم تكن «مؤكدة» بشكل كامل.. و[أن أحاول دائماً تغيير رغباتي بالأحرى عوضاً عن تغيير نظام العالم]..).
غير أن هذه القواعد لم تتصد لأن تكون أكثر من أقوال أخلاقية ميّتة بإنتظار الأخلاق النهائية التي كان ديكارت يأمل استنتاجها من علمه ومن ميتافيزيائه بعد اكتمالها ، ولكن هذه الأخلاق التتويجية ( التي لم يتح له سوى رسم خطوطها البدائيّة في مراسلاته وفي كتاب الأهواء) تلتقي بشكل متطابق تقريبا مع تعاليم «مقالة المنهج» سوى أنّها تستند هذه المرة إلى مفهوم عقلي عن الإنسان.
نتيجة لذلك، فإنّّ الأخلاق، هي ليست فن القضاء على «الأهواء» كالإعجاب والحب والحقد، بل فنّ استخدامها لأجل تدعيم الأفكار والسلوكيات الملائمة للفرد تجد نفسها أي الأخلاق أمام طريقين: ـ التأثير على «الأهواء» عن طريق الجسد (نظراً لوجود تفاعل) وهذا مصدر الأهمية الأخلاقية للطب. ـ التأثير عليها عن طريق الإرادة [«فإما أن تركز هذه اهتمام العقل على الأشياء المغايرة لتلك التي تولد الأهواء التي ينبغي القضاء عليها، أو أن تجعل الجسد يتخذ مواقف تتنافر مع الهوى السيء، أو أن تفيد من تداعي الأفكار لكي تحمل الهوى على تغيير موضوعه» كما قال «برييه»]، فتكون هذه الممارسة الحرة للإرادة في الواقع أنقى الينابيع طراً «للإكتفاء» شريطة أن تتم الممارسة وفقا «للعقل»... هذا العقل الذى يجب تعريفه ( وهذه بالطبع مسَلمة ديكارتية) بأنّه: اتجاه نحو وعي يزداد وضوحاً بإستمرار للمحل الذى يشغله الفرد في «الكل» ( الوطن، الإنسانية، الكون، الإله ) ونحو عاطفة حب وطاعة للنظام الإلهي تزداد عقلانية بإستمرار ، وهذا مصدر سلوك «الكرم» (بحسب تعبير ديكارت ) الذى يقوم على هجر كل مصلحة شخصية والخضوع الفعال بحبور «للعلوية الكاملة» التي يتوقف عليها العالم بأجمعه، ويتفق ذلك فعلياً ولكن بصورة عقلانية هذه المرة مع وجهة نظر الرواقية ومفهوم «التقبل» لديها[3].
أما «مالبرانش» فقد اراد في كتاب «بحث في الأخلاق» عام 1684 إكمال أخلاقية ديكارت عن طريق البرهان على صحة مسلمته القائلة بوجود «استعمال حسن» للإرادة. ترتبط أخلاق مالبرانش كل الإرتباط بمجموع فلسفته المتمحورة حول فكرة توقفنا على الله (توقف كلي شامل). هكذا ـ بحسب مالبرانش ـ فإنّّه عندما «تعتقد» ملكة الفهم لدينا أن لديها تمثلات عقلية فالواقع أن الله هو الذى يؤثر فينا بواسطة عقله الخالد.
3- سبينوزا - تبدو لنا فلسفة سبينوزا (المتوفي عام 1677) من العديد من الزوايا كإشتقاق مستنبط من الديكارتية، وكإفقار لها في الحين نفسه. فمن ناحية أولى في الواقع نجد أن «ثنوية» ديكارت تتحول فيها إلى «واحدية» شمولية الألوهية، وعلى ذلك فليس الجسد والروح سوى مظهرين (لا يبدوان متميزين إلاّ من وجهة نظرنا الإنسانية، البدائية والمحدودة معا) تتجلى بواسطتهما حقيقة واقعية واحدة هي وحدها الحقيقة الأصلية (نستطيع تسميتها الإله، أو الطبيعة، أو الجوهر اللامتناهي، أو الخ..)، وهي تتجلى تلقائيا وبالضرورة تحت ضغط «ميل توسعي» خاص بها. ومن ناحية أخرى فإنّّ الأخلاقية السبينوزية الشهيرة ليست أي شيء آخر سوى التطور المنهجي لفكرة كانت على درجة ثانوية من الأهمية في الأخلاق الديكارتية، وهي فكرة أن الفرد متوقف بصورة كاملة على النظام الإلهي[4].
4-لايبنيتز- كان «لايبنيتز» (المتوفى عام 1716) أقل إخلاصاً بدوره للديكارتية التي حولها إلى تعددية مثالية : فكل كائن - بالنسبة إليه - وحدة روحية خالصة (أو «مونادة»).. هي مجموعة من الإدراكات الحسية التي يشوبها بعض الإبهام والتي تعكس بصورة شبه شاملة كل الإدراكات الحسية الأخرى، وهذه المجموعة ذات ميل داخلي تلقائي لجعل «النظرة إلى العالم» المتشكلة منها تزداد وضوحاً إستمراراً. وعلى هذا فإنّ طريق الكمال الأخلاقي والعقلاني هو: تأييد هذا الإنتقال إلى إدراكات حسية أشد تميزاً، لأن كل «مونادة» حين تزداد معرفة بنفسها إنما تكتشف بجلاء أكبر تماثلها مع المونادات الأخرى، والروابط التي تشدها إليها، والمخطط العام (أو «الأحادي»، أو كون الذرات الروحية).
مضى القرن الثامن عشر الذى كان تجريبيا بصورة أساسية وميالاً بالتالي إلى الأخلاقيات «الطبيعية»، فعادت أخلاقيات العلوية إلى الإنتشار، ولا سيما في ألمانيا. وكان مصدروحيها الفلسفات «الرومانطيقية» الواسعة التي نمت وتطورت في حقبة أعوام 1830، وهي فلسفات مزجت بين ميتافيزياء «كانط» وميتافيزياء «سبينوزا»، (بعد أن عدلتهما تعديلاً عميقاً).. فقد تصور «كانط» أنّ العالم المحسوس الذى نعيش فيه هو نتيجة عمل بنياني، نفذته بعضا «الصور» الخاصة بالروح في «مادة» غامضة لا يمكن معرفتها إلى الأبد، بحد ذاتها. أمّا خلفاء
“كانط» فقد أزالوا هذه الإزدواجية ولم يقبلوا إلاّ بواقع واحد، هو الفاعلية البناءة في الروح، هذه الروح التي هي الخالق بشكل كامل لكل هذه المظاهر التي ندعوها «الأشياء”.
وأما بالنسبة لـ « سبينوزا» فقد احتفظ هؤلاء منه بتصورة العام، ولكن بعد أن بثوا فيه «حيوية” ذلك المفهوم الذى كان الفكرة الكبرى في تلك الحقبة، أي مفهوم «الصيرورة الكلية». وهكذا فقد حددوا «الجوهر- الإله» السبينوزي بصورة أقل استاتيكية، فهو يبدو لهم تطوريا وخاضعا لقانون داخلي فيه يفرض عليه التقدم نحو انتاجات تتزايد ثراء وتعقيدا دونما توقف.
يرى «فيخته» (المتوفي عام 1814) والذي «قلب السبينوزية على وجهها الآخر» بحسب تعبير «جانيه» و»سيايّ» أنّه ليس هناك سوى حقيقة وحيدة وأولية هي الـ «أنا»، تلك الروح الكلية التي ماهيتها هي كونها فاعليّة، وإرادة تهدف باستمرار لتجاوز الحدود الذاتية لها..
وقد استنبط “فيخته” من نظرته هذه أخلاقيّة عملية تعتبر أنّ “الكثرة” - أو التعدد- ليست إلاّ الوسيلة التي تتيح للـ “أنا” التقدم، ويجب أن تهدف الفضيلة إلى العمل على تحقيق الكمال لدى الآخرين بقدر ما يفعله المرء بالنسبة لنفسه بالذات، كما يجب أن تهدف إلى تنمية انسجام المجموعة وتنمية الحرية الفردية لكل عضو من أعضائها في الوقت نفسه. وهذا مصدر مثله السياسي الأعلى القائم الإشتراكية الجامعة (على طريقة «برودون” حوالي1840)، التي تخص الدولة بدور وحيد هو حماية التفاهمات بين الأشخاص[5].
5-هيغل وشيلنغ: ذهب «هيغل» (المتوفى عام 1831) و «شيلنغ» (المتوفي عام 1854) إلى اعتبار الأخلاق كمرحلة من تلك الصيرورة الضرورية التي يتشكل منها الكون يصورة اساسية، وبالنسبة لهيغل فإنّ الكائن الماهوي هو الفكرة الخالصة (اللا واعية لنفسها في البدء) التي تخرج إلى الطبيعة، وهي تنمي بهذه العملية شيئا فشيئا ذخائرها الذاتية (الكامنة فيها كطاقة في مطلع الأمر).
وأما شيلنغ فإنّنا نجد لديه استلهاما شبيها بالسابق، ولكنه يتخذ شكلاً أقل «عقلنة» بكثير. فهو يتصور «المطلق» بصورة رومانطيقية جداً على أنّه «دينامية» مقتدرة ومبهمة تتطور بصورة متناظرة في الطبيعة (التي هي نوع من «الذاتية» لها).
ولا تتمثل الأخلاق في فلسفة شيلنغ (أو فلسفاته بالأحرى، لأنّه عرض عدداً من الفلسفات المتوالية التي تزداد نسبة الصوفية والشاعرية فيها أكثر فأكثر) ، لا تتمثل مختلفة عن كونها عملاً من أعمال الحركة التطورية الخلاقة. و«زمنا» من أزمنتها.
6- شوبنهاور يتصف فكر شوبنهاور (المتوفى عام 1860) بطابع خاص أشدّ بروزاً، مع أنّه يماثل في رومانطيقيته فكر شيلنغ، ويخالف بشكل واضح التفاؤل الذى اتصف به معاصروه، (الذين اعتبروا أن الصيرورة هي ماهوياً تقدم). فهو يرى من ناحية أخرى أنّ خُلق الفرد ثابت لا يتغير، وبالتالي فإنّ التبشير بأية أخلاق أمر لا فائدة منه مطلقاً. فالأخلاق علم نظري ليس له مفعول واقعي ولا دور له سوى أن يصنف، بحسب نظام تقييمي منطقي، الأنماط المختلفة الممكنة للحياة. فالأخلاقية الوحيدة التي يمكن تبريرها في هذه الظروف وبعد تحليل تخميني هي الرحمة، التي تهدف إلى نكران الذات بشكل كلي وإلى المساهمة الكلية في الألم العام.
وعلى هذا، فإنّ سلوك الحكيم يقوم على الإفلات من هذه الدائرة الجهنمية... وذلك عن طريق الفن أولاً، فالفن هو تأمل العالم بصورة مجردة عن الغرض. ولكن الطريق الأجدر بالإعتبار هو الرحمة، فهي التخلي عن الذات، أو بتعبير آخر ادراك التطابق العميق للكائنات، هذا الإدراك الذى يأذن بفهم ما تتصف به الأنانية من جنون... فحينما يدرك الإنسان أن الآخرين هم هو بالذات، وحينما يجعل من الألم الكلي ألمه الشخصي، فإنّ إرادته تتنازل عن مكانها، وهذا هو التخلي عن «إرادة الحياة» والذي لو عمّ لقاد الإنسانية إلى الخلاص (الـ «النيرفانا» البوذيّة) أو بالأحرى إلى الغناء ـ السعيد ـ للنوع.
ظهور المذاهب الأخلاقية
نستطيع القول من بعض النواحي أن الكانطية تمثل انعكاس مفهوم الإرادة الإلهية هذا على صعيد الأخلاقية الإنسانية.. أمّا المنابع الحقيقية للاكانطية فنجدها في نتاج «روسو» وفي مذهب «التقوى» الجرماني الذي ظهر في حقبة 1750 (ويقوم على تفسير اللوثرية بالمعنى الفردي، والمنادات بالتالي بأولوية الشعور والضمير الشخصي على جميع المذاهب).
مذهب كانط
تشكل فلسفة «كانط» بمجموعها (كما عرّفها هو ذاته) ثورة شبيهة بتلك التي قام بها «كوبرنيك» في مجال الفلك حين جعل الكواكب تدور حول الشمس، بينما كان علم الفلك القديم يتصور ان الشمس هي التي تدور، ومعها الكواكب حول الأرض.
وفي الواقع، لو درسنا المعطى الأخلاقي.. أي تلك الأفعال التي يتّفق الناس على اعتبارها «صالحة».. لاتّضح لنا أنّ ما يأذن لنا بوصف فعل ما بأنّه «فاضل» ليس على الاطلاق انطباقه على قاعدة ميتافيزيائية ما (أو نفعيه، أو علمية أو الخ..) ولكن بنيانه الصوري فحسب، المستقل كل الاستقلال عن التحقق المادي لهذا الفعل.
لقد اتّجه «كانط» في سبيل تحقيق غرضه السابق إلى الأخلاق الحية (كما فعل «روسو»، أي إلى «الفلسفة الأخلاقية الشعبية» واعتقد أنّها تنطوي على مبدأ يستطيع استخلاصه منها، وهو مبدأ خالص بشكل مطلق، وداخلي بالنسبة لأي سلوك نحكم عليه بأنه أخلاقي، ومستقل عن أي عنصر ذاتي محسوس... هذا المبدأ هو الواجب، أي إطاعة القانون لا لسبب آخر الا احترام القانون فحسب، وبمعزل عن أي اعتبار آخر حتى ما كان نبيلاً (كالمودة تجاه الآخرين أو الرغبة في اكمال المرء نفسه بنفسه إلخ..) فضلاً عن أي دافع مصلحي (كالكبرياء والمنفعة…) وقد أطلق «كانط» على هذا المبدأ العمدي الذي يقوم على جعل التمثل العقلي لـ«القاعدة» ـ والتمثل وحده لا أثر الفعل ـ محرك الإرادة، أطلق عليه إسم «الإرادة الحسنة»[6].
حاول «كانط» البرهان على أنّ هذا «الآمر ليس طاغية يتحكم بشكل لا منطقي (وكان ذلك إحدى النقاط الضعيفة في بنائه).. فقد أكّد أنّه إذا كنّا نحسّ بإلزامية الواجب فذلك لأننا نشعر بأنّه يفرض نفسه بصورة واحدة متشابهة على كل كائن عاقل موجود في نفس ظروفنا. وهذا ما يعني بتعبير آخر أنّه يمكن تعريف «صورة» الأخلاقية ب أنّها «مبدأ كليّة»، أي فعلاً يمكن تصنيفه حالاً كـ«خيّر» أو «شرير» تبعاً لقابليته أو عدم قابليته لأن يصبح كلياً. وليس هذا المبدأ الصانع للكلية، أي تلك البنية الفطرية في كل روح، سوى ماهية «العقل العملي» (وهذا هو الاسم الذي يطلقه «كانط» على العقل الإنساني من حيث اشرافه على الممارسة العملية للسلوكات ومقابل «العقل المحض» الذي هو العقل الإنساني من حيث بحثه عن معرفة العالم)... وهكذا يصبح بإمكاننا وضع صيغة عامة وعقلانية تأذن بتوجيه الفاعلية تلقائياً وفي كل لحظة: «تصرف بحيث تستطيع جعل دافع فعلك قاعدة كلية».. (ويصبح الفعل مداناً في اللحظة التي نجعله فيها كليّاً مما يقودنا إلى تناقض منطقي: فتعميم مبدأ الكذب من شأنه بحدّ ذاته أن يُدمر هذا المبدأ.. إذ إنّه لن يبق هناك من ينخدع بأي شخص آخر)[7].
وقد استخلص «كانط» من هذه القاعدة قاعدتين أخريتين (ليستا في الواقع سوى مظهرين مختلفين لها):
أ-يجب احترام فكرة الكلية، فهي القاعدة لكل أخلاقية حينما وجدت.. أي لدى كل كائن إنساني. وهذا ما يؤدي إلى قاعدة وجوب اعتبار الإنسان دائماً «كنهاية بحد ذاته»، أي كـ«مطلق» (لكونه يحمل مبدءاً مطلقاً)، وتجنب اعتباره أبداً كوسيلة… وينتج عن ذلك إدانة الفسق مثلاً ولاسترقاق لأنهما يعنيان جعل المرأة أو الرجل أداة للملذّات أو للعمل.
ب ـ يجب على كل كائن بشري: أن يتصرف بحيث يشعر بنفسه «كموضوع ومشرع» في الوقت نفسه. ذلك أنّه بالنظر لكون الإنسان مطلق، فهو لا يستطيع الخضوع في سلوكه لأية قاعدة خارجية، بل يخضع للقواعد النابعة عن إرادته الذاتية فحسب ولكن يجب على هذه الإرادة أن تتذكر أنّ الاشخاص الآخرين هم أيضاً مطلقون، فلا يستطيعون بالتالي الشعور بالإلتزام تجاه قانون أخلاقي إلاّ إذا كان صانعه ذاته ـ وهو المساوي لهم ـ يشعر بالخضوع له[8].
مذاهب ما بعد كانط
ولبيان جدل الإنقطاع والتحولات التي تقلَّب فيها الغرب سنعرض بعض المذاهب التي تخللت العقل الأخلاقي الغربي بعد كانط. وهي على الجملة ذهبت إلى النظر في الأخلاق بوصفها معطىً وضعياً ومجتمعياً. وهي على الوجه التالي:
1- المذهب الانفعالي: يمثله الفيلسوف الإنكليزي التجريبي ديفيد هيوم (1711 ـ 1776) وهو يرى أنّ المعارف الحقيقية هي المعارف التي يكتسبها الإنسان عن طريق الحس، يعني أن القيم واللزوميات الأخلاقية منشؤها الانفعالات الداخليّة عند الأفراد لا أن منشأها واقعي وعيني. ويعدّ المذهب الإنفعالي واحداً من المذاهب الأخلاقية غير التوصيفية. ويتفق هذا المذهب مع المذهب الأشعري (لدى المسلمين) في أنَّه لا يرى إلى أنَّ للأحكام الأخلاقية منشأً واقعياً.
2- المذهب الإجتماعي: مؤسسه إميل دوركهايم ( Emile Durkhiem) (1858 - 1919)، معتقده الأخلاقي على أربعة أحياز:
أ ـ لا وجود للأخلاق من دون المجتمع.
ب ـ المجتمع يملك شخصية مستقلة عن الأفراد.
ج ـ لا بد من اتباع المجتمع في الأخلاق فهو الذي يحدد معادلة الحسن والقبيح.
د ـ معرفة الأعمال الحسنة والقبيحة تكون بالرجوع إلى أخلاقيات المجتمع وآدابه وتقاليده.(...)
3- مذهب المنفعة: تبنّاه الفيلسوف جرمي بنتام 1848 ـ 1832 ( Jerme Benthams) وجون ستيوارت ميل 1806 ـ 1873 (Jhon Stuart Mill) وليس هذا المذهب سوى نسخة معدَّلة من الأبيقورية « فاللذة عند بنتام هي الخير الوحيد والألم هو الشر الأوحد « ويقول جون ستيوارت مل: « اللذة هي المبتغى الأوحد». فهما يشتركان مع أبيقور في القول ، بأنَّ السعادة هي الخير بالذات ، والسعادة ليست سوى اللذة. ولقد رأى هذان الفيلسوفان أنَّ المشكلة الأساس في الأبيقورية، هي كونها تهتم بالفرد ومصالحه، وتغفل المنفعة العامة(...) على أنَّ الفيلسوفين يختلفان حول كون المنفعة العامة هدفاً أو وسيلة ، رغم اتفاقهما على كونها مطلوبة، وخيراً أخلاقياً. «بنتام» يعتقد أنَّها وسيلة للوصول إلى السعادة الشخصية. أمّا ستيوارت مل فيعتقد بكونها هدفاً ومطلوباً أصلياً.(...)[9]
4- المذهب العاطفي: جاء هذا المذهب كتعديل لمذهب المنفعة العامة، حيث يؤمن العاطفيون عموماً بأنَّ الأفعال التي لها صفة فردية من جميع الجهات لا تقع ضمن دائرة التقييم الأخلاقي(...) من أبرز ممثلي هذا المذهب: آدم سميث (1723-1790) (Adam Smith) الاقتصادي وفيلسوف الأخلاق الإنكليزي المعروف، والألماني آرثر شوبنهاور (1798-1860) (Arthur Senopenhauer) والفرنسي أوغست كونت) (1798-1857) Augeste Compt).
5- مذهب القوَّة: يعدّ هذا المذهب ـ الذي دعا إليه الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه (1844 ـ 1900) ـ ردَّة فعل على الأخلاق المسيحية التي تستند إلى المذهب الأخلاقي الرواقي هذا التأثر بالرواقية أدَّى إلى اتجاهات أخلاقية سلبية تدعو الناس إلى الاستسلام للقضاء والقدر، ومن هنا، شعر نيتشه بأنَّ من يتربّى على هذا المذهب، سوف يكون إنساناً خاملاً مستعداً لتحمل الظلم، فانبرى لمواجهة هذا المذهب الأخلاقي ، وثار في وجه الأخلاقيات المسيحية:» اعتراض نيتشه على المسيحية، هو أنّها تدعو إلى روحية العبودية في نفوس أتباعها» وتربِّي إنساناً خاملاً وذليلاً، وهذه الأخلاقيات غير مقبولة ، وعلى المذهب الأخلاقي أن يربِّي إنساناً فاعلاً ومؤثِّراً. وهو يقول عن المسيحية: «أنا أدين المسيحية وأحكم عليها بأقسى حكم أصدره مدَّعٍ حتى الآن، وأرى فيها أبشع صور التدمير أذمُّها وأعدُّها لعنة عظيمة، فهي ليست سوى ذل البشرية الخالدة».
يرى نيتشه أنَّ « القوّة» و «السلطة» أساس الأخلاق الفاضلة كلّها. وفي شرحه لنظريته الأخلاقية يرى أنَّ كل موجود حي يحب حياته، ويريد المحافظة عليها، وهذا الأمر يحتاج إلى القوة. لذا فإنَّّ الإنسان الضعيف محكوم بالهزيمة والفناء.(...)
6- مذهب العقلانية المنفتحة: مع الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (1902 ـ 1994) الذي احتلَّ موقعاً مميزاً في ثقافة القرن العشرين ويعدّ واحداً من أبرز فلاسفة العقلانية المنفتحة وفلسفة (1723-1790) العلوم، ستنتقل العقلانية الغربية إلى طور جديد كل الجدّة. وسيكون للأخلاق معنىً آخر خارج الدائرة المثالية للأفلاطونية المحدثة وكذلك خارج دائرة الديالكتيك الهيغلي. يتخذ بوبر من المجتمعات القائمة في الغرب الأوروبي والأميركي نموذجاً لمفهوم المجتمع المنفتح جاعلاً من الديمقراطية الليبرالية المثال الأعلى للنظم الاجتماعية. وبذلك يكون الوسط العلمي ما يُرجع إليه كونه نموذج النقاش العقلاني القابل لكل النظريات والاقتراحات شرط أن يتم مناقشتها وتقييمها بحسب المعايير الموضوعية للمنهج العلمي(...) ولذا فإنَّّ المسألة الأخلاقية تصبح أكثر جلاءً إذا ما وضعنا مطالبنا سلباً، أي إذا طلبنا القضاء على العذاب بدلاً من توفير السعادة»[10].
7- المذهب الأركيولوجي: في مرحلة متأخرة من رحلة العقل الفلسفي الغربي سيكون لتأويل الأخلاق بعدٌ مختلف. علماً أنَّ عمليات التأويل التي سنأتي عليها بعد قليل لم تغادر مؤثِّرات ما سبقها. إحدى أبرز محطات هذه الرحلة كانت مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. ولعلَّ كتابه «تاريخ الجنسانيّة» المؤلَّف من ثلاثة أطوار، سيعدُّه النقَّاد، الوعاء الذي يحوي في طيَّاته فلسفته الأخلاقية. والسؤال الذي نواجهه هنا هو التالي: أيّة أخلاق تلك التي تقرّب إليها فوكو في «تاريخ الجنسانيّة»؟
هناك مَن قدَّم الإجابة تبعاً لقراءته للقصد «الفوكوي» فوجد أولاً أنَّ الأخلاق ضمن هذا الحقل تريد أن تتجاوز كل الأدبيات الفلسفية التي تُطرح عادة تحت هذا العنوان. وأول ما يفعله فوكو هو تأكيد الفصل بين الأخلاق ( La Morale) وبين الإتيكا (L’éthique). وهذا الفصل يميِّز بين الأخلاق باعتبارها منظومة القيم والأوامر والنواهي التي تنتصب في مستوى الشخصية القمعية للمجتمع، وبين سلوك الأفراد الذي لا يمكن اعتباره مقدماً أنّه مندمج في الأخلاق أو خارجي عنها.
لا شك بأنّ المذاهب السبعة التي ذكرناها، تتداخل في ما بينها ويتغذى كل منها مما سبقه. إلاّ أنّ تطورات النقاش الأخلاقي في الغرب. وخصوصًا في الأحقاب الأخيرة من القرن العشرين أطلقت كمية هائلة من التأويلات يمكن القول أنّ بعضها يمكن أن يُطلق عليه مذهبًا أخلاقيًا. كالذي سوَّقته البروتستانتنية الإنجيلية في أميركا بعد صعود المحافظين الجدد.
[1] *ـ باحث في الفلسفة الغربية ـ فلسطين.
[2] - Georg Simmel، Thephilosophy of Money- philosophie des Geldes، Translated by Tom Bottomore and David Frisby (London;Boston، M.A:Routledge &Kegan Paul، 1978.
[3] - Ipid. PP. 120
[4]- راجع في هذا الصدد: الفلسفة الأخلاقية عند سبينوزا - إشراف د. أحمد عبد الحليم عطية - دار التنوير - بيروت - 2008.
[5] - عبد المنعم الحفني – موسوعة الفلسفة والفلاسفة – الجزء الأول – مكتبة مدبولي – القاهرة – 1999 – ص 109.
[6] – فرانسوا غريغوار – المذاهب الأخلاقية الكبرى – ترجمة قتيبة المعروفي – منشورات عويدات – بيروت – باريس – ط 3- 1984- ص 113.
[7] - فرنسوا غريغوار – المصدر نفسه - ص 115.
[8] – المصدر نفسه – ص 116.
[9] – المصدر نفسه.
[10]- المصدر نفسه.