الباحث : حنة آرندت
اسم المجلة : الإستغراب
العدد : 4
السنة : السنة الثانية - صيف 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث : July / 12 / 2016
عدد زيارات البحث : 2283
الحقيقة والسياسة
قيم الصدق والكذب في الاجتماع السياسي
حنة آرندت[1][*]
السبب المباشر لكتابة هذه المقالة كما تبين الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت، يعود إلى الجدل الذي أثير حول مواقفها من محاكمة آيخمان في القدس. والهدف منها هو توضيح قضيتين مختلفتين وإن كانتا مترابطتين. القضية الأولى: هي ما إذا كان من الشرعي دائماً لنا أن نقول الحقيقة؟ أي هل أؤمن وبدون أي شروط مسبقة ولا قيود بصحة المقولة: «فلتتحقق الحقيقة حتى لو فني العالم»؟ أمّا القضية الثانية: فتتعلق بالمقدار المذهل من الأكاذيب حول ما كتبته من ناحية، وعن الحقائق التي أبلغت عنها من ناحية أخرى.
تحاول آرندت من خلال تأملاتها الفلسفية هذه أن تتوصّل إلى استيعاب القضيتين المذكورتين، لعلها تفيد في إعادة فهم الرواية التاريخية للمحاكمة المشار إليها، والتحقّق من موضوع فائق الأهمية أخذته ظروف شتّى إلى تلك الفجوة القائمة بين الماضي والمستقبل.
المحرر
إنّ موضوع هذه الأفكار مألوف ويكاد يكون مبتذلاً، فلا أحسب أنّ أحداً قد ساوره شك قط في أنّ العلاقة بين السياسة والحقيقة عادة ما تكون سيئة، ولا أظن أن أحداً ما قد عدَّ «الصدق» من بين الفضائل السياسيّة. بل على العكس تماماً، فلطالما أُعتبر الكذب أداة ضرورية ومبررة وليس في «صنعة» السياسي والديموغاجي فحسب، بل حتى في تعامل رجال الدولة، فما سبب ذلك؟ وما الذي يعنيه فيما يتعلق بطبيعة الصعيد السياسي وكرامته من ناحية وبالنسبة إلى طبيعة الحقيقة والصدق وكرامتهما من ناحية أخرى؟ هل لنا أن نقول أنّ من طبيعة الحقيقة أن تكون عقيمة؟ وهل لنا أن نقول أن من طبيعة السلطة أن تكون مخادعة؟ وما هو نوع الواقع الذي تمتلكه الحقيقة إذا كانت عاجزة في المحيط العام وهو المحيط الذي يشدد أكثر من أي صعيد آخر على وجود بشر عاديين يقعون ضمن دورة الحدوث والفناء ـ أي كائنات تعي تمام الوعي أنّها ظهرت من العدم وسرعان ما ستعود لتختفي في ذلك العدم مرة أخرى بعد حقبة قصيرة من الزمن؟ ـ وأخيراً وليس آخراً: ألا يمكننا القول بأنّ الحقيقة العقيمة لا تقل انحطاطاً عن السلطة التي لا تولي الحقيقة أي اهتمام؟ لا تبعث أي من هذه الأسئلة على الراحة أبداً، ولكنها تبرز بالضرورة عن قناعاتنا الحالية في هذه المسألة.
يمكننا أن نلخص ما يضفي على هذا الموضوع الشائع المألوف صدقيته من خلال المقولة اللاتينية القديمة المأثورة: «Fiat iustitia، et pereat mundus» (فلتتحقق العدالة حتى لو فني العالم)، إذ استبدلنا الحقيقة بالعدالة في هذه العبارة بحيث تصبح «فلتتحقق الحقيقة حتى لو فني العالم» فسوف تبدو لنا المقولة القديمة أكثر مصداقية، إذن فقد نتفاجأ بأنّ التضحية بالحقيقة لأجل الحفاظ على العالم قد تكون أقل جدوى من التضحية بأي مبدأ أو فضيلة أخرى! قد نرفض لبعض الوقت حتى أن نسأل أنفسنا عمّا إذا كانت الحياة في عالم محروم من مبادئ مثل العدالة والحرية تستحق أن تعاش أم لا، ولكن المثير للعجب هو أن الأمر نفسه لا ينطبق على فكرة أقل تعلقاً بالسياسة مثل الحقيقة. ما هو على المحك هو البقاء أو الثبات على الوجود، ولا أظن أنّ أيّ عالم إنساني يُقَدَّر له البقاء بعد فترات الحياة القصيرة للبشر الموجودين فيه سيتمكن من فعل ذلك بدون رجال راغبين بفعل ما قام هيرودتس بفعله بوعي وإدراك تامين للمرة الأولى في التاريخ، أعني «قول ما هو موجود»، فلا يمكننا حتى تصور دوام للوجود أو ثبات عليه دون رجال راغبين في الإدلاء بشهاداتهم حول ما هو كائن وما يظهر لهم لأنّه كائن وموجود.
إنّ الصراع بين الحقيقة والسياسة قديم ومعقد، ولن نجني فائدة كثيرة من تبسيطه أو تحويله إلى مجرد إدانة أخلاقية، كما أن «الباحثين عن الحقيقة» والشاهدين عليها عبر حقب التاريخ كانوا يعون تماماً مخاطر العمل الذي يقومون به، طالما لم تتدخل جهودهم في مسار العالم والتاريخ، فَهُم محطّ السخرية والاستهزاء، أمّا من أجبر مواطنيه على النظر إليه بجدية من خلال جهوده الحثيثة لتحريرهم من الباطل والأوهام فإنَّ الخطر يتهدد حياة شخص كهذا، وكما قال أفلاطون في الجملة الأخيرة من مثال الكهف الشهير الذي ضربه في كتابه الجمهورية: «إذا وقعت أيدي الناس على رجل كهذا... فإنّهم سيقتلونه». لا يمكن لهذه المقولة اللاتينية التي ذكرناها آنفاً أن تفسر الصراع الأفلاطوني بين قائل الحقيقة والمواطنين الآخرين، كما لا يمكن لأي نظرية لاحقة أن تبرر الكذب مع تجاوزات عديدة أخرى إمّا بشكل صريح، أو ضمنيّ خاصة إذا ما كان الحفاظ على وجود الإنسانية على المحك. فقصة أفلاطون لا تذكر وجود أي أعداء، وجموع الناس فيها يعيشون بسلام مع بعضهم بعضاً في ظلمات الكهف، ولا دور لهم يذكر إلّا التفرج على الصور المنعكسة أمامهم من على جدرانه، وهذا لا يتطلب أيّ عمل منهم وبالتالي لا يجعل أياً منهم خطراً على الآخرين، فلا مبرر لدى أعضاء مجتمع كهذا حتى ينظروا إلى الحقيقة والذين يقولونها، كأعداء لدودين لهم، ولا يقدم أفلاطون أي تفسير لمحبتهم الشاذة للخداع والباطل. إذا ما اصطنعنا مواجهة بين أفلاطون وزميل متأخر له في ممارسة التأمل الفلسفي، وأعني هنا توماس هوبز، والذي قال: «إنّ الحقيقة التي لا تتعارض مع ربح أي إنسان ولذته لهي موضع ترحيب جميع البشر» (وهي بلا شك عبارة تكاد تكون بديهية ولكن هوبز أعارها ما يكفي من الأهمية بحيث أنهى كتابه الأشهر «ليفايثان» بها)، لربما وافق أفلاطون على عدم تعارض الحقيقة مع ربح الإنسان ولذته ولكن ليس مع المقولة بأنّ ثمة نوع من الحقيقة يرحب به جميع الناس. لقد كان هوبز وليس أفلاطون هو من واسى نفسه باعتقاده بأنّ ثمة حقيقة لا يهتم بها أحد تتعلق بمواضيع «لا يبالي بها الناس» مثل الحقائق الرياضية، أو مبادئ «الخطوط والأشكال» التي «لا تتلاقى مع طموحات الناس أو مكاسبهم أو شهواتهم»، فكما كتب هوبز: «لا شك لدي بأنّه لو كان ثمة أي تعارض بين حق الإنسان في السيادة على الأشياء أو مصالح الناس الذين يمتلكون السيادة بالفعل وبين حقيقة كون مجموع زوايا المثلث تساوي مجموع زاويتين من المربع فإنّ حقيقة هذه القاعدة ستلقى نزاعاً إنّ لم نقل سيتم حرق جميع كتب الهندسة وقمعها إذا تمكنت الأطراف صاحبة المصلحة من فعل ذلك». لا شك بأنّ ثمة فرق شاسع بين قاعدة هوبز الرياضية البديهية والمعيار الحقيقي للسلوك الإنساني، الذي يفترض بالفيلسوف الذي وصفه أفلاطون أن يعود به من معراجه العقلي إلى سماء عالم المثال رغم أن أفلاطون ـ الذي اعتقد أن الحقائق الرياضية تفتح عين العقل الإنساني لرؤية حقائق جميع الأشياء ـ لم يكن يدرك ذلك. يبدو لنا المثال الذي ضربه هوبز وكأنّه لا ضرر منه، إذ إنّنا نميل إلى الافتراض بأنّ العقل الإنساني قادر دائماً على التوصل إلى عبارات بديهية، مثل القول بأنّ مجموع زوايا المثلث تساوي مجموع زاويتين من المربع، كما نفترض أنّ حرق جميع كتب الهندسة لربما لا يشكل وسيلة ولا أداة فعّالة، لكن الخطر أدهى وأمر حين يتعلق بالتعبير عن الحقائق العلمية، فلو اتخذ التاريخ منحى مختلفاً بشكل طفيف لكنّا حرمنا من كامل التطورات العلمية الحديثة بدءاً من غاليليو وانتهاء بآينشتاين ستكون الحقائق الأشد عرضة لهذا النوع من القمع والإخفاء تلك التي تتفاضل بشكل كبير في أهميتها بالنسبة إلى عامة الناس، وقطارات الأفكار الفريدة من نوعها، التي حاول من خلالها البشر ومنذ فجر الخليقة التفكير بعقلانية في الوجود ليصلوا إلى الآفاق الأبعد من حدود المعرفة الإنسانية، والتي تعد فلسفة أفلاطون مثالاً عليها.
بدءاً من أيام لايبنتس، أدرج عصرنا الحديث ـ الذي لا يتقبل الحقائق المعطاة ولا التي ينجلي عنها الحدس، والإلهام، والوحي، بل يتعامل مع الحقيقة على أنّها نتاج العقل البشري ـ الحقائق الرياضية والعلمية والفلسفية تحت مظلة مشتركة هي «الحقائق العقلية» وميزها عن الحقائق الواقعية، وسوف أستخدم هذا التمييز فقط لأنّه مريح ودون أن أجادل حول جوهر شرعيته، ولأننّا نرغب في استكشاف الضرر الذي تتسبب به السلطة السياسية على الحقيقة فنحن ننظر في هذه المسائل لأهداف سياسيّة وليس فلسفيّة ولذلك يمكننا أن نتجاوز صفحاً عن التساؤل حول ماهية الحقيقة ونرضى بأنّ نتناول الكلمة بالمعنى العام الذي يفهمه الناس. إذا فكرنا في الحقائق الواقعية ـ حقائق مثل الدور الذي لعبه رجل يدعى تروتسكي في الثورة الروسية، والذي لا يظهر في أي من كتب التاريخ السوفيتية ـ فسوف ندرك على الفور مدى هشاشة هذه الحقائق مقارنة مع جميع أنواع الحقائق العقلية الأخرى، فبما أنّ الحقائق والأحداث التي لا بدَّ وأن تنتج عن تعايش الناس مع بعضهم بعضاً تشكل النسيج الجوهري لعالم السياسة، فإنّ الحقيقة الواقعية هي التي تعنينا أكثر من غيرها في سياقنا الحاضر. إذا ما هاجمت «السيادة الإنسانية» (ونحن هنا نستعير لغة هوبز مرة أخرى) الحقيقة العقلية فإنَّها في الواقع تتجاوز مجالها دون ريب، ولكنها وبالمقابل تحارب على أرضها وبشروطها حين تزيف الحقائق الواقعية أو تكذب بشأنها، وليس أمام الحقائق الواقعية فرص نجاة كبيرة أمام زحف الهجمات السلطوية عليها إذ إنّها تتعرض على الدوام لخطر أن تطردها المناورات السياسية من العالم وليس فقط لفترة مؤقتة من الزمن بل وللأبد. إنّ الحقائق الواقعية والأحداث أكثر هشاشة بما لا يتناهى من «المقولات البديهية الأساسية»، التي تقوم عليها الحقائق العقلية والاكتشافات والنظريات العلمية حتى لو كانت تلك الأخيرة تسرح دون ضابط في عالم الخيال، إذ إنّ الحقائق العقلية نتاج العقل الإنساني، أمّا الحقائق الواقعية فتحدث في مجال شؤون الإنسان الدائمة التغير وفي تدفقها لا ثبات ولا دوام إلاّ لبنية العقل الإنساني الذي يتعامل معها، فإذا ما فقدنا هذه الحقائق فلن يتمكن أي مجهود عقلي بغض النظر عن جدِّيته في استعادتها بأي حال من الأحوال. قد لا تكون فرص استعادة الرياضيات الإقليدية أو نظرية آينشتاين النسبيّة أو حتى فلسفة أفلاطون ضئيلة عبر مرور الأزمنة إذا مُنِع مستكشفوها من تمريرها إلى الأجيال المستقبلية، ولكنها أفضل بما لا يتناهى من فرص إعادة اكتشاف حقيقة واقعية ذات أهمية تم تناسيها أو على الأرجح الكذب بشأنها.
رغم أنّ الحقائق الهامة على المستوى السياسي هي الحقائق الواقعية، إلّا أنّ الكشف عن الصراع بين الحقيقة والسياسة وتوضيحه تم للمرة الأولى بالعلاقة مع الحقيقة العقلية، فعكس الحقيقة العقلية إمّا الخطأ، أو الجهل، كما هو الحال في العلم. أمّا في مجال الفلسفة فعكسها إمّا وهم، أو مجرد رأي ظنيِّ. لا يلعب الباطل المتعمد، أي الكذب الصريح، دوراً إلّا فيما يتعلق بالحقائق الواقعية، وقد يكون من المهم لنا والغريب أيضاً أن نرى بأنّ خلال الجدل الطويل حول العداء بين الحقيقة والسياسية والذي امتد من زمن أفلاطون إلى زمن هوبز لم يعتقد أحد قط بأنّ الكذب المنظم كما نعرفه اليوم يمكن له أن يكون سلاحاً فعالاً ضد الحقيقة. فبحسب ما قاله أفلاطون «قائل الحقيقة» معرض لخطر الموت، أمّا بالنسبة إلى هوبز فإذا أصبح هذا القائل كاتباً فهو معرض لخطر حرق كتبه ولكن لم يعتقد لا أفلاطون ولا هوبز أنّ الإفك المحض مشكلة، ما يقلق أفكار أفلاطون هو الإنسان السفسطائي المنكر للحقائق المطلقة أو الجاهل غير الحافل بها وليس الكذّاب، وهو إذ يميز بين الخطأ والكذب ـ أي بين الباطل اللاإرادي والإرادي ـ فهو عادة ما يقسو على الناس «المتمرغين في الجهل كالخنازير» بدرجة أكبر من الكذّابين، فهل سبب قسوته هذه هو أن زمنه لم يكن يعرف بعد الكذب المنظم المسيطر على القطاع العام متميزاً عن «الكذب الخاص» الذي يقوم به أفراد بحسب «مهارتهم»؟ أم هل يتعلق الأمر بحقيقة لافتة وهي أن الأديان القديمة ـ باستثناء الزردشتية ـ لم تشمل الكذب من حيث هو متميز عن «شهادة الزور» ضمن خطاياها الكبرى؟ بل إنّ الحقيقة هي أن الكذب لم يعتبر تجاوزاً أخلاقياً خطيراً إلّا مع بروز الأخلاقيات البيوريتانية المتزمتة والذي تزامن مع صعود نجم العلوم المنظمة، والتي كان لا بدّ من ضمان تقدمها على أرضية صلبة من المصداقية المطلقة وتحري الحقيقة على ما هي عليه من قبل العلماء.
بغض النظر عن السبب، يقول لنا التاريخ إنّ الصراع بين الحقيقة والسياسة بدأ نتيجة طريقتي حياة متعارضتين تمام التعارض: حياة الفيلسوف كما أوَّلها بارمنيدس ومن بعده أفلاطون، وحياة المواطن العادي. فالمواطنون العاديون أصحاب آراء دائمة التغيّر حول الشؤون الإنسانية ـ والتي كانت ولا تزال تمر بتقلبات دائمة ـ وبدا ذلك للفلاسفة وكأنّه عكس الحقيقة الكامنة خلف هذه الأشياء التي ينبغي لها بطبيعتها أن تكون سرمدية ثابتة ولذلك كان من الممكن للفيلسوف أن يشتق منها المبادئ الأولى التي يمكن لها أن تجلب الاستقرار للشؤون الإنسانية. لذا قال الفلاسفة أنّ عكس الحقيقة هو محض رأي ظنيّ لا يتجاوز كونه وهماً من الأوهام، وكانت هذه النظرة الدونية إلى «الرأي» ما أضفى على الصراع حدّته السياسيّة إذ إنّ الرأي ـ وليس الحقيقة ـ هو من المستلزمات التي لا غنى عنها في جميع أنواع السلطة كما قال جيمس ماديسون: «تقوم أركان جميع أنواع الحكم على الرأي»، إذ لا يمكن لأي حاكم ولو كان أكثر الحكام استبداداً وطغياناً أن يصل إلى السلطة ناهيك عن الاحتفاظ بها دون دعم أشخاص ذوي آراء مشابهة لرأيه. وعلى القياس نفسه، فإنّ الزعم بوجود حقيقة مطلقة في مجال الشؤون الإنسانية لا تحتاج صحتها إلى أي دعم من قِبل آراء تضرب أساسات جميع أنواع السياسة، وكل أصناف الحكم. أوضح أفلاطون ذلك العداء بين الحقيقة والرأي بشكل أوضح (وخاصة في حوار «جورجياس») مفسراً إياه بأنّه عداء بين ضرب من التواصل من خلال «الحوار» ـ وهو الخطاب المناسب للحقائق الفلسفية ـ وبين «أدبيات الخطابة» التي يستخدمها أي ديموغاجي ـ كما نسميه اليوم ـ لإقناع الجماهير بموقفه واتِّباعه. يمكننا أن نجد آثار هذا الصراع حتى في المراحل الأولى من حقبتنا المعاصرة، ولكننا لا نكاد نجده في عالمنا اليوم، فعلى سبيل المثال لا نزال نجد في أعمال هوبز مقولته حول «ملكتين متضادتين» هما «التعقل المتين» من ناحية البلاغة القوية» من ناحية أخرى، فبحسب ما قاله هوبز الأولى «تضرب بجذورها في مبادئ الحقيقة أمّا الثانية فتضرب جذورها في آراء الناس وأهوائهم ومصالحهم، وتلك الأخيرة متباينة وقابلة للتغيير». بعد قرن من الزمن، أي في عصر التنوير، كادت آثار الصراع تختفي وإن لم تُزل تمام الزوال، ففي فلسفة ما قبل الحداثة نجد العبارة الرائعة التي خطها الفيلسوف الألماني لسنغ: «دع كل رجل يقول ما يعتقد أنّه الحقيقة، ودعنا نسلم بالحقيقة نفسها للإله». ما تشير إليه هذه العبارة، هو أنّ الإنسان غير قادر على الوصول إلى الحقيقة وأن جميع الحقائق التي يُتوصل إليها لا تتجاوز كونها محض آراء وإن كان قصد لسنغ نفسه هو عكس ذلك تماماً، فما عناه هو أن علينا أن نشكر الإله على كوننا لا نعرف الحقيقة كاملة. لكن بعد زوال بهجة لسنغ بوجهة نظره هذه ـ والتي تفيد بأنه وبالنسبة إلى البشر الذين يعيشون مع بعضهم بعضاً فوجود هذا الغنى غير المتناهي من وجهات النظر الإنسانية أهم وأعمق مغزى مما تقدر أي «حقيقة واحدة» أن تُكوِّنه ـ أصبح هذا الوعي بضعف العقل البشري وعيائه هو النظرة السائدة في القرن الثامن عشر، ولكن من دون أن يثير ذلك أي شكوى أو تفجع، ونجد ذروة التعبير عن هذا الضعف في كتاب كانط الأشهر: «نقد العقل المحض» الذي قاد فيه الفيلسوف الشهير العقل البشري ليتعرف على حدوده التي لا يمكنه أن يتجاوزها، كذلك نجد التعبير عنه في كلمات ماديسون الذي شدد أكثر من مرة على أن «عقل الإنسان مثل الإنسان نفسه خجول وحذر حين يترك لوحده، ولكنّه يحظى بمتانة وثقة متناسبتين طردياً مع عدد العقول التي يرتبط معها». إنّ اعتبارات كهذه ـ وليست مجرد فكرة حق الفرد في التعبير عن رأيه ـ هي ما لعب الدور الحاسم في الصراع الناجح نسبياً والذي انتهى بإعطاء الإنسان حرية الفكر سواء في كلمته المحكِّية أم المكتوبة.
وهكذا نرى سبينوزا ـ الذي ظل يعتقد بعصمة العقل الإنساني وكثيراً ما يمدحه لكن دون وجه حق كأحد أبطال حرية الفكر والكلمة ـ يقول: «إنّ كل إنسان وبحسب الحق الطبيعي الذي لا يمكن إلغاؤه سيد على أفكاره»، وكذلك يقول: «إنّ فهم الإنسان مسألة تعود إليه، والعقول متباينة بقدر ما الأذواق متباينة»، وهي العبارة التي استنتج منها: «من الأفضل إعطاء الإنسان ما لا يمكن حرمانه منه» وأنّ القوانين التي تحجر الفكر الحر لا يمكن لها إلاّ أن تتسبب في «تفكير الناس بشيء ما وقول شيء مختلف تماماً» وبذلك «تفسد حسن الثقة» و«تشجع... الغش». لكن سبينوزا لا يطالب بحرية الكلمة في أي من أعماله، والقول بأنّ العقل الإنساني يحتاج إلى التواصل مع العقول الأخرى وبذلك يحتاج إلى تعميم أفكاره لتلك الغاية لا معنى له في غياب حرية الكلام هذه. بل نراه يدرج حاجة الإنسان للتواصل وعدم قدرته على إخفاء أفكاره والحفاظ على صمته من بين «جوانب العجز العامة» التي لا يشاركها الفيلسوف مع غيره من الناس. لكن رأي كانط هو العكس التام لرأي سبينوزا، فقد صرح قائلاً: «إن القوة الخارجية التي تحرم الإنسان من حرية إيصال أفكاره إلى العموم تحرمه في الوقت ذاته من حرية التفكير»، وأنّ الضمانة الوحيدة لصحة تفكيرنا هو أن «نفكر ضمن مجتمع نوصل فيه أفكارنا إلى الآخرين كما يوصلون هم أفكارهم إلينا»، ولما كان عقل الإنسان عند كانط غير معصوم فلا يمكنه أن يؤدي وظيفته إلاّ إذا «استخدم في إطار عام» وينطبق هذا على الجميع سواء كانوا في حالة من «التعلّم» لأنّهم لا يزالون غير قادرين على استخدام عقولهم «دون إرشاد من الآخرين»، أو كانوا «علماء» يحتاجون إلى مشاركة «كامل الجمهور القرّاء» لتفحص نتائجهم والسيطرة عليها.
لمسألة أعداد العقول التي طرحها ماديسون وذكرناها قبل قليل ـ وكما سنبينها الآن ـ أهمية خاصة في هذا السياق، إذ إنّ الانتقال من الحقيقة العقلية إلى الرأي تتضمن الانتقال من الإنسان المنفرد إلى الإنسانية جمعاء، وهذا كما قال ماديسون يعني التحول من المجال الذي لا يهم فيه أي شيء إلاّ «متانة المنطق» التي يبنيها عقل واحد إلى عالم تتحدد فيه «قوة الرأي» من خلال اعتماد الفرد على «عدد الناس الذين يفترض أنهم يشاركوه في آراءه» ـ وهذا العدد بالمناسبة قد لا يكون محصوراً بمعاصري صاحب الرأي. احتفظ ماديسون بالتفرقة بين الحياة الجماعية التي هي حياة المواطن وحياة الفيلسوف الذي «عليه ألاّ يلتفت» إلى هذه الاعتبارات، ولكن لا نتيجة عملية لهذا التمييز بالنسبة إلى ماديسون لأنّه «من غير المتوقع قيام أمة من الفلاسفة كما لم يكن من المتوقع أن يبرز عرق الملوك الفلاسفة الذي تمنى أفلاطون قيامه». لكن علينا أن ندلي بملاحظة عابرة هنا وهي أنّ أفلاطون كان سيجد فكرة «أمة من الفلاسفة» مصطلحاً متناقضاً إذ إنّ فلسفته السياسية برمتها ـ وبما في ذلك بعض سماتها الاستبدادية الصريحة ـ كانت قائمة على قناعته بأنّ الحقيقة لا يمكن لعامة الناس أن يحظوا بها أو أن تعطى إليهم.
لقد زالت آخر بقايا العداء القديم بين الحقيقة الفلسفية والآراء «المتداولة في السوق» في زماننا المعاصر الذي نعيش فيه، فلم تعد الحقيقة التي يحتوي عليها الدين ـ والتي تعامل معها المفكرون السياسيون في القرن الثامن عشر كمصدر إزعاج كبير ـ ولا الحقيقة الفلسفية التي تنجلي للإنسان في وحدة خلوته تتداخلان مع شؤون العالم، وبالنسبة إلى الحقيقة الأولى فقد أدى الفصل بين الكنيسة والدولة إلى زوال «مصدر الإزعاج» الذي أقضّ مضاجع مفكري القرن الثامن عشر، أمّا بالنسبة إلى الحقيقة الفلسفية فقد توقفت عن الزعم ب أنّها تقدم حقائق مطلقة قبل زمن بعيد اللهم إلّا إذا اعتبرنا الأيديولوجيات الحديثة فلسفات جدية ـ وهو أمر يصعب علينا القيام به بما أن أتباع هذه الأيديولوجيات أنفسهم يقولون بصراحة أنّهم يستخدمونها كأسلحة سياسية ولا يرون في مسألة الحقيقة والصدق أهمية تذكر. إذا ما رأينا حالة الأمور الراهنة، فلربما نشعر بأنّ الصراع القديم قد وضع أوزاره أخيراً، وخاصة وأن السبب الأصلي لحصوله ـ أي الصدام بين الحقيقة العقلية والرأي الشخصي ـ قد زال عن الوجود.
لكن الغريب في الأمر أن هذه ليست هي الحقيقة، بل إنّ الصدام بين الحقيقة الواقعية والسياسة الذي نراه اليوم وعلى نطاق واسع يشبه ذلك الصراع القديم إلى حد كبير، فلربما لم يمر على البشرية زمن مثل زماننا يتسامح مع هذا الكم الهائل من الآراء الدينية والفلسفية المتباينة التي نراها اليوم، ولكننا في المقابل نرى أن الحقيقة الواقعية إذا ما تعارضت مع مكاسب مجموعة ما وسعادتها فإنّها ستقابل بمقدار أكبر من العداء من أي وقت مضى. إنّه لمن المؤكد أنّ أسرار الدول لطالما وجدت وستجد كل حكومة نفسها مضطرة لحجب أنواع معينة من المعلومات عن عامة الناس، ولطالما عومِل أولئك الذين يكشفون هذه المعلومات كخونة وليس هذا ما يعنيني هنا، «الحقائق» التي أفكر فيها ضمن هذا السياق هي معلومات مكشوفة للعموم ولكن هذا الجمهور الذي يعرفها قد ينجح ـ وكثيراً ما يكون ذلك تلقائياً ـ في جعل النقاش العام لهذه الحقائق أمراً محرماً والتعامل معها بطريقة لا تعكس حال هذه الحقائق المعروفة للعموم، أي أنّه يتعامل معها وك أنّها أسرار. تشبه طريقة التعامل مع هذه الحقائق ـ على أنّها أمر خطير ـ الطريقة التي تعاملت بها العصور السابقة مع الدعوة إلى الإلحاد أو أي هرطقة أخرى، وهذه ظاهرة غريبة بالفعل تتضخم أهميتها حين نجدها أيضاً في البلدان التي تحكمها أنظمة أيديولوجية بشكل استبدادي (حتى في ألمانيا الهتلرية وروسيا الستالينية كان الحديث عن مخيمات الاعتقال والإبادة والتي لم يكن وجودها سراً أخطر من حمل آراء مهرطقة مضادة للشيوعية أو تفوق العرق الآري). الموضوع الأشد إثارة للقلق هو أن بلاد العالم الحر تتسامح مع الحقائق الواقعية التي لا يرتاح لها الجمهور ولكن من خلال تحويلها ـ بشكل واع وغير واع ـ إلى مجرد آراء واجتهادات شخصية في الأزمنة السالفة ـ أي حقيقة أنّ ألمانيا انتخبت هتلر وساندته في حروبه حتى النهاية، أو كون فرنسا انهارت انهياراً تاماً أمام زحف الجيش الألماني سنة 1940، أو سياسات الفاتيكان خلال الحرب العالمية الثانية لم تكن «سجلات تاريخية»، بل مسألة رأي محض، ولكن لما كانت هذه الحقائق الواقعية ذات أهمية سياسية مباشرة، فإنّ ما تضعه على المحك يتجاوز التوتر الذي لا مناص منه بين طريقتي حياة متضادين تندرجان ضمن إطار الحقيقة الواقعية التي يعترف عامة الناس بها. ما على المحك هنا هو الحقيقة الواقعية العامة نفسها وهذه مشكلة سياسية من الطراز الأول، ولما كانت الحقيقة الواقعية ـ ورغم كونها أقل قابلية للجدل من الحقيقة الفلسفية، كما أنّها في متناول الجميع ـ كثيراً ما تلقى مصير الحقيقة الفلسفية ذاته إذا ما انكشفت في «الأسواق العامة»، أي أنّها لا تُواجه بالأكاذيب والتزييفات المتعمدة فحسب بل بالآراء التي تُضيِّع مغزاها والمراد منها، ولذا قد يستحق منّا السؤال القديم حول الحقيقة في وجه الرأي عناء إعادة فتح ملفه حتى لو بدا وكأنّ أهميته قد اندثرت في إطار زماننا الحاضر.
من وجهة نظر «قائل الحقيقة» لا يقل الميل لتحويل «الحقيقة الواقعية» إلى مجرد رأي –أي إضفاء هالة ضبابية على الخط الفاصل بين الواقع والرأي ـ إثارة للحيرة عن الإشكالية الأقدم التي كان يواجهها في الماضي، وأعني الإشكالية التي أشارت إليها قصة كهف أفلاطون بما لا مزيد عليها من الوضوح، والتي يجد الفيلسوف فيها نفسه بعد رحلته الأحادية إلى سماء المُثل السرمدية قد عاد إلى أرض الواقع وقد أراد أن يعبِّر عن الحقيقة التي رآها لجماهير الناس ولكن النتيجة هي أن الحقيقة سرعان ما تضيع بين كثرة وجهات النظر والآراء التي لا يرى الفيلسوف فيها إلاّ محض أوهام، فتنحط الحقيقة من سمُوِّها إلى مستوى الظنون والآراء التي لا يقين فيها ولا ثبات، ففي «الكهف» تتنكر الحقيقة نفسها في صور الكيفيات التي تظهر بها الأشياء لكل إنسان، أي بصورة الظنون والآراء التي كان الفيلسوف يأمل أنّه تركها وراء ظهره وللأبد. لكن وضعُ «مبلِّغ» الحقيقة الواقعية أسوأ حتى من وضع الفيلسوف، فهو لم يعد من أي رحلة في عوالم أبعد من عالم الشؤون الإنسانية، فلا يمكن له أن يعزي نفسه بأنه قد أصبح غريباً عن هذا العالم وما فيه، وبالطريقة ذاتها ليس لدينا الحق بأنّ نعزي أنفسنا بالفكرة القائلة بأنّ الحقيقة التي يمتلكها ذلك المبلِّغ ـ إذا ما كانت حقيقة أصلاً ـ ليست من هذا العالم، وإذا لم تَعد حتى الحقائق الواقعية المرئية بأعين رؤوسنا لا بأعين عقولنا مقبولة، فلربما ينبغي علينا أن نشك بأنّ المجال السياسي بطبيعته ينكر أو على الأقل يُحرِّف كل حقيقة عن موضعها، وكأنّ الناس لم يتمكنوا قط من التصالح مع عناد الحقيقة وصراحتها التي لا تترك مجالاً لكثير من المرونة. وإذا كان الأمر كذلك فيبدو لي أن وضع الأشياء في هذا السياق يائس حتى أكثر مما افترضه أفلاطون نفسه، فالحقيقة التي يتوصَّل إليها فيلسوف أفلاطون ويحققها في خلوته تتعالى بذاتها عن عوالم الكثرة والتفرقة أي عالم الشؤون الإنسانية (وقد نتفهم أن الفيلسوف في عزلته هذه سوف يستسلم لإغراء استخدام الحقيقة التي توصل إليها كمعيار يفرضه على عالم الشؤون الإنسانية، أي أنّه يساوي بين التعالي الجوهري في جميع الحقائق الفلسفية وبين نوع مختلف تماماً من «التعالي» الذي تنفصل فيه المساطر وأدوات القياس المعيارية الأخرى عن كثرة الأشياء التي تستخدم لقياسها. وكذلك يمكننا وبالطريقة ذاتها أن نتفهم أن الجماهير ستقاوم ذلك المعيار بما أنّه مستمد في الواقع من مجال غريب عن عالم الشؤون الإنسانية ولا يمكن تبرير ارتباطه معه إلّا من خلال التباسهما ببعضهما بعضاً). حين تتنزل الحقيقة الفلسفية إلى سوق العوام فإنّ طبيعتها ستتغير وستصبح مجرد رأي من آراء كثيرة ل أنّها لن تمر بمجرد نوع واحد من التعقل إلى نوع آخر بل من طريقة من طرائق الوجود الإنساني إلى طريقة مختلفة تمام الاختلاف.
أما الحقيقة الواقعية فتقع على طرف نقيض ذلك الأمر وتتعلق بطبيعتها دائماً مع أناس آخرين، فهي تتعلق بالأحداث وبالظروف التي حصلت فيها تلك الأحداث وعادة ما تنبني على شهادة من حضرها، ولا توجد إلاّ بقدر ما يتكلم الناس حولها حتى لو جرت في مجالات خاصة، كما أنّها سياسية بطبيعتها. رغم أنّه يجب علينا الفصل بين الحقائق الواقعية والآراء إلاّ أنهما غير متعاديتين، بل تنتميان إلى المجال ذاته.
لكن علينا أن نتساءل هنا: هل توجد الحقائق الواقعية أصلاً باستقلال عن الآراء والتفاسير؟ ألم تُظهر أجيال من علماء وفلاسفة التاريخ استحالة الوصول إلى اليقين حول الحقائق الواقعية دون تأويلها بشكل أو بآخر لأنّه علينا في الواقع أن ننتقيها من فوضى الأحداث (ومبادئ «الاختيار» ليست بيانات حقيقية بكل تأكيد) ومن بعد ذلك أن نجد لها مكاناً مناسباً ضمن قصة لا يمكننا روايتها إلاّ من زاوية نظر معينة قد لا يَكون له أي علاقة مع الحدث الحقيقي الأصلي؟ لا شكّ بأنّ هذه النقطة والكثيرات غيرها في العلوم التاريخية مثيرة للحيرة كما أنّها جميعهاحقيقيّة، ولكنها ليست نقاطاً جدلية تنافي وجود الحقيقة الواقعية، ولا يمكن لها أن تلعب دور المبرر لتمييع الخطوط الفاصلة بين الواقع والرأي والتفسير، أو دور العذر بالنسبة إلى المؤرخ كي يتلاعب بالحقائق كما يحلو له، وحتى لو اعترفنا أن لكل جيل الحق في أن يكتب تاريخه الخاص به فهذا لا يعني إلّا أن يكون له الحق في أن يعيد ترتيب الحقائق الواقعية بما يتلائم مع منظوره الخاص لها، لا أن يغيّر هذه الحقائق نفسها. سأضرب مثالاً يُبين هذه النقطة ـ ويقدم لي العذر حتى لا أتابع الجدل فيها: خلال عشرينيات القرن الماضي وجد كليمانصو ـ وكان هذا قبل وفاته بفترة قصيرة نفسه يدخل في نقاش ودي مع أحد ممثلي جمهورية فايمار الألمانية حول مسألة الطرف الذي يتحمل ذنب اندلاع الحرب العالمية الأولى، فسأله كليمانصو: «برأيك، ماذا سيقول مؤرخو المستقبل حول هذه القضية المشكلة والمثيرة للجدل؟» فأجابه محاوره الألماني قائلاً: «لست أدري ولكني على يقين بأنهم لن يقولوا إنّ بلجيكا غزت ألمانيا!». نحن نهتم هنا ببيانات بسيطة أولية لا رحمة في بساطتها، ووقائع نتعامل معها وبسبب عدم قابليتها للتخريب على أنّها من المسلمات حتى بالنسبة إلى أكثر المؤمنين بالتاريخانية تطرفاً وتطوراً.
من الصحيح أنّه يلزمنا أكثر من مجرد أهواء المؤرخين حتى نمحو من سجلات التاريخ حقيقة أن الجيش الألماني بدأ باجتياح حدود بلجيكا في ليلة 4 آب 1914، بل هذا لا يتطلب أقل من الاحتكار الكامل للسلطة على العالم المتحضر، ولكن الاحتكار السلطوي هذا ليس من المستحيلات العقلية، وليس من الصعب علينا تخيل مصير الحقيقة الواقعية إذا ما كان للمصالح السلطوية القومية أو الاجتماعية القول الأخير في هذه القضايا. يعيدنا هذا إلى نقطتنا الأساسية وهي شكوكنا في أنّ المحيط السياسي بطبيعته لا بد وأن يكون في حالة حرب مع الحقيقة في سائر أشكالها وبالتالي إلى التساؤل عن سبب النظر إلى الالتزام بالحقيقة الواقعيّة على أنّها مسلك معاد للسياسة.
حين أقول الحقيقة الواقعية ـ وبعكس الحقيقة العقلية ـ ليست على عداء مع الرأي فأنا لا أعبر إلاّ عن نصف الحقيقة، فجميع الحقائق، أي ليس الحقيقة العقلية بجميع أنواعها فحسب بل الحقيقة الواقعية أيضاً، تتعارض مع الرأي من الوجه الذي تفرض فيه نفسها على أنّها صحيحة، الحقيقة تحمل في ذاتها طابعاً من القسر، فلا تعود إذن الميول الطغيانية المكروهة في وضوحها والتي لا ننفتأ عن رؤيتها بين محترفي قول الحقيقة إلى عيوب في شخصياتهم بقدر ما ترجع إلى ضغط اعتياد العيش تحت قسر الحقيقة، فتختلف عبارات مثل «مجموع زوايا المثلث تساوي مجموع زاويتين من المربع» و«الأرض تدور حول الشمس» و«تحمل الظلم خير لك من أن تكون أنت ظالماً» و«في آب 1914، قامت ألمانيا بغزو بلجيكا» في الطرائق التي يتم التوصل إليها، ولكنها وفي اللحظة التي نراها فيها على أنّها الحقيقة ونعترف بها على هذا الأساس تشترك جميعها عندئذ في أنّها تصبح منزهة عن الاتفاق، والخلاف، والرأي، والقبول، وبالنسبة إلى الذين قبلوا أن عبارات كهذه هي الحقيقة لا يتغير الأمر بازدياد عدد من وافقهم أونقصانه، إذ إنّ محتوى هذه العبارات ليست «إقناعياً»، بل إنّه في الواقع «قسري» (وهكذا نرى أنّ أفلاطون في حوار «طيماوس» يرسم حدوداً واضحة بين الناس القادرين على إدراك الحقيقة نفسها والناس الذين لا يتجاوز إدراكهم «حمل الآراء الصحيحة»، ففي الحالة الأولى، يتم إيقاظ «عضو إدراك الحقيقة» من خلال التعليم والإرشاد، مما يوحي بالطبع باللامساواة وبوجود عنصر من القسر والقهر في عملية «الإيقاظ» هذه، أمّا في الحالة الثانية، فلا يتجاوز إدارك الناس كونهم قد تم إقناعهم برأي يطابق الحقيقة، فآراء الفريق الأول راسخة وغير قابلة للتغيير، أمّا الفريق الثاني، فقد يتم إقناعه بوجهة نظر مختلفة تمام الاختلاف)، وقد قال عالم الاقتصاد ميرسييه دو لا ريفيير: «إقليدس طاغية بكل معنى الكلمة، والحقائق الهندسية التي بثها إلينا كلها هي قوانين طغيانية بكل معنى الكلمة»، وهي عبارة تنطبق على جميع أنواع الحقائق، وبالطريقة ذاتها قال غروتيوس ـ الذي كان يود أن يحد من سلطة السلاطين قبل دو لا ريفيير بقرن من الزمن ـ: «حتى أنت لا يمكنك أن تجعل حاصل ضرب اثنين في اثنين لا يساوي أربعة»، وعبارته هذه تبرز قهر قوة الحقيقة أمام السلطة السياسية. تعكس هاتان العبارتان كيف تبدو الحقيقة من وجهة النظر السياسية المحضة، أو من وجهة النظر السلطوية، كما تعكسان التساؤل عمَّ إذا كان من الممكن أو حتى الواجب على السلطة السياسية ألا تكون مقيدة فقط بالدستور وشرعة حقوق كما هو الحال في نظام القيود والتوزنات الذي تقوم فيه «السلطة بالحد من السلطة» بعبارة مونتسيكيو ـ أي من خلال عوامل تبرز ضمن عالم السلطة السياسية وتنتمي إليه ـ بل أن تتقيد بشيء يبرز من خارج عالم السلطة السياسية وتضرب جذوره في محيط مختلف تمام الاختلاف عن ذلك العالم، ويكون مستقلاً عن رغبات وأماني المواطنين أنفسهم بقدر ما هو مستقل عن إرادة أبشع الطغاة استبداداً.
إذا ما نظرنا إلى الحقيقة من وجهة نظر السياسة فالحقيقة تحمل بذاتها طابعاً استبدادياً ولذلك يكرهها الطغاة ـ الذين يحق لهم أن يخشوا منافسة قوة قاهرة لا يمكنهم أن يحتكروها ـ من ناحية، كما تحمل وضعاً مزعزعاً في أعين الحكومات التي تقوم على الوفاق وبالتالي تنفر من القسر والقهر. تقع الحقائق الواقعية ضمن مساحة إدراكية في الإنسان خلف ما الاتفاق، والخلاف، والقبول والرفض، وجميع الحوارات حولها –أي عمليات تبادل الآراء المبنية على معلومات صحيحة عنها ـ لا تساهم بأي شيء يذكر في بنائها أو زحزحة استقرارها، إذا يمكننا أن نجادل في «الآراء» التي لا تروق لنا، يمكننا أيضاً أن نرفضها أو حتى أن نصل إلى تسوية مع حامليها، ولكن «الحقائق» التي لا تروق لنا تحمل عناداً يؤجج الغضب فينا ولكن لا يمكننا إزاحتها إلاّ بمحض الأكاذيب! إشكالية الحقيقة الواقعية هي أنّها وكما هو الحال في جميع الحقائق تفرض الاعتراف بها وبشكل قاطع كما أنّها تمنع أي نقاش حول صحتها، والجدل يشكل جوهر الحياة السياسية. إذا ما نظرنا إلى الأطوار الفكرية والتواصلية التي تتعامل مع الحقيقة من المنظور السياسي فسنراها وبالضرورة هي المهيمنة على ما سواها دون أن تأخذ في حسبانها آراء الناس، وأخذ هذه الآراء في الحسبان هو علامة مميزة في الفكر السياسي المحض.
يقوم الفكر السياسي على التمثيل، أنا أبني آرائي من خلال تناول قضية ما من وجهات نظر مختلفة، من خلال جعل مواقف أشخاص غائبين حاضرة في ذهني، أو بكلمات أخرى: أنا أمثلهم. إنّ عملية التمثيل هذه لا تتبنى دون تحميص آراء أشخاص آخرين أصحاب مواقف مختلفة وينظرون إلى العوالم من منظور مختلف، ولا تتعلق المسألة لا بالتعاطف ـ أي أن أحاول أن أكون أو أشعر مثل شخص آخر ـ ولا أن أعدَّ الأصوات وأنضم إلى الغالبية، بل هو أن أكون ضمن هويتي وأن أفكر في إطارها في المحال التي لا أكون فيها، وكلّما كانت وجهات النظر الحاضرة في ذهني تشمل عدداً أكبر من الناس بينما أفكر في مسألة ما كلّما كنت قادراً على تخيل نفسي في مكانهم بشكل أكبر في فكري ومشاعري، وبالتالي ستكون قدرتي على التفكير التمثيلي أقوى وأفضل وستكون النتائج والخلاصات التي أصل إليها، أو آرائي، أصحُّ وأشمل (إن هذه القدرة على «العقلية المتضخمة» هي التي تجعل الناس قادرين على الحكم، وقد كان كانط أول من توصل إلى هذه الفكرة في نقده لإصدار الأحكام، ولكنّه لم يميز المضامين السياسية والأخلاقية لاكتشافه هذا). إنّ عملية تكوين الرأي هذه تتحدد من قبل الأشخاص الذين يقوم شخص ما بإعمال عقله بالنيابة عنهم، والشرط الوحيد لإعمال الخيال هذا هو الموضوعيّة، أي أن يكون الشخص الممثل أو النائب عن الآخرين قادراً على التحرر من مصالحه الفردية الخاصة.
ما ثمة رأي بديهي، وبالنسبة إلى مجال الآراء فهو المساحة التي يكون فيها تفكيرنا استطرادياً بحتاً، فنراه ينتقل من مكان إلى آخر ومن جزء من العالم إلى آخر وعبر وجهات نظر متباينة ومتضادة عن جميع الأنواع حتى يسمو من هذه الجزئيات إلى ضرب ما في العموميات الموضوعيّة. إذا ما قارنا هذه العملية التي نُجبر فيها قضية جزئية على الانفتاح على العموم بحيث تُظهر نفسها من جميع الزوايا فتغمرها أنوار الفهم الإنساني من جميع زواياها حتى تصبح شفافة بالكامل، فإنّ العبارة التي تُعبِّر عن الحقيقة تحمل طابعاً غريباً من اللاشفافية. لا شكّ بأنّ الحقيقة العقلية تنير الفهم الإنساني، وأن الحقيقة الواقعية لا بدَّ وأن ترفد الآراء بالبيانات والمعلومات، ولكن رغم أنّ هذه الحقائق ليست مبهمة بأي شكل من الأشكال، وتأبى بطبيعتها أي مجهود لمزيد توضيحها كما هو الحال في النور الذي لا يمكن له بطبيعته أن يستنير.
تَظهر حالة الشفافية بأجلى صُورها وأكثرها إزعاجاً حين نواجه الحقائق الواقعية ووقائع الأحداث، لأنّه لا يوجد سبب جلي ونهائي يمكن لنا أن نعزي له الحقائق، ودائماً عندما نشعر أنّه كان من الممكن لهذه الوقائع أن تتخذ منحاً مختلفاً تمام الاختلاف، كما أنّ الاحتمالات التي يحملها كل حدث من الأحداث تكاد لا تتناهى، ولكن لا يتمخض عنها إلاّ مسار واحد دون أن نفهم سبب ذلك فنعزوها للصُدف، وهذه الحالة هي ما دفعت فلسفة ما قبل الحديثة إلى رفض اتخاذ الشؤون الإنسانية المشبعة بـ«الحقائق الواقعية» على محمل الجد، أو حتى الاعتقاد بأنه من الممكن لنا أن نكتشف أي حقيقة ذات مغزى عميق في «التصادفية الكئيبة» (بحسب عبارة كانط) التي يسير بها تسلسل الأحداث الذي شكل مسار العالم وصولاً إلى يومنا هذا. لكن وبالمقابل لم تتمكن أي فلسفة تاريخ حديثة من التصالح مع عناد الحقائق الواقعية المحضة في استعصاءها ولامنطقيتها، كما لجأ الفلاسفة المحدثون إلى أنواع مختلفة من «الضرورات» بدءاً من الاقتضاء الضروري، والجدلي الديالكتيكي لروح كليّة عالميّة (هيغل)، أو للأوضاع المادية (ماركس)، وصولاً إلى مقتضيات ضرورية لـ«طبيعة إنسانية» زعم منظروها أنّها معلومة، وثابتة، وراسخة، بحيث يستحيل تغييرها (علم النفس التحليلي)، وكل ذلك في محاولة لتطهير آخر مظاهر المقولة الاعتباطية بأنّ الأمور «كان يمكن لها أن تتخذ منحى آخر» (وهو ثمن الحرية) من آخر المساحات التي لا يزال فيها الإنسان حراً بحق، فرغم أنّنا إذا نظرنا بأثر رجعي، أي من منظور تاريخي، فسيبدو لنا كل تسلسل أحداث تاريخي وكأنّه لم يكن من الممكن له أن يجري في غير المسار الذي اتخذه في الواقع، ولكن هذا وهم بصري، أو بالأحرى وهم وجودي: لا يمكن لأي شيء أن يحصل أبداً ما لم يقتل الواقع ـ وبتعريفه ـ جميع الإمكانيات الأخرى التي تحملها أي حالة ضمنها وبطبيعتها.
بعبارة أخرى: ليست الحقيقة الواقعية أكثر بداهة من محض الآراء، ولعل هذا من الأسباب التي تجعل «حملة الآراء» يجدون تفريغ الحقائق الواقعية من مصداقيتها وإلباسها لبوس «مجرد رأي آخر» أمراً سهلاً. وكذلك فإنّنا عادة ما نبني الأدلة على الحقائق الواقعية من خلال وسائل كشهادات شهود العيان (والتي اشتهرت بكونها غير موثوقة) ومن خلال السجلات والوثائق والنصب التاريخية، ومن السهل التشكيك في جميع هذه الوسائل من خلال الزعم ب أنّها أدلة مزيفة. في حال وقوع أي نزاع عن حق ما لا يمكن الوصول إلى نتيجة حوله إلاّ من خلال استدعاء شهود آخرين ولكن لا يمكننا اللجوء إلى سلطة ثالثة أعلى من الطرفين المتنازعين، وعادة ما يتم التوصل إلى حل لنزاع كهذا من خلال رأي الأغلبية، أي بالطريقة ذاتها التي يتم من خلالها حل النزاعات حول الآراء، وهي عملية غير مرضية بأي حال من الأحوال، وإذ لا يوجد ما يمنع أي غالبية من الشهود من أن يكونوا شهود زور، بل الأمر على عكس ذلك تماماً: ظروف معينة قد يدفع شعور الفرد بالانتماء إلى الأغلبية به إلى تقديم شهادة زور بالفعل!
بعبارة أخرى: بقدر ما تكون الحقيقة الواقعية عرضة لعداء حملة الآراء، فإنّها تكاد تكون بذات درجة ضعف الحقيقة الفلسفية العقلانية. كنت قد لاحظت من قبل بأنّ «مخبري الحقيقة الواقعية» هم في الواقع أسوأ حالاً من الفيلسوف الذي وصفه أفلاطون لأنّ الحقيقة التي يحملونها لا ترجع إلى مصدر متعال ولا حتى تحمل بعض الصفات السامية نسبياً مثل بعض المبادئ السياسية المثالية كالحرية والعدالة والشرف والشجاعة والتي قد تلهم بعض الأفعال الإنسانية وتتجلى فيها بعد ذلك. سوف نرى الآن أن هذه العيوب في وضع قائل الحقيقة الواقعية تحمل في ثناياها تبعات أخطر مما ظننا، أي تبعات لا تنعكس على الشخص القائل للحقيقة فحسب، بل الأخطر من ذلك أنّها تنعكس حتى على فرص الحفاظ على تلك الحقيقة. قد لا تتمكن دوافع مثل «إلهام الأفعال الإنسانية ومن بعد ذلك التجلي فيها» من الصمود أمام أدلة الحقيقة، ولكنّها وكما سنرى قد تتمكن من التنافس مع النزعة الإقناعية المتأصلة ضمن الآراء، لقد استخدمت الطرح السقراطي القائل: « تحمل الظلم خير لك من أن تكون أنت ظالماً» كمثال على العبارات الفلسفية التي تتعلق بالسلوكيات الإنسانية، وبالتالي تحمل في ضمنها دلالات سياسية، أمّا أسباب إدراجي لهذه العبارة فإحداها هو أنّها تحولت لاحقاً إلى بداية الفكر الأخلاقي الغربي، أمّا الآخر فهو أنّها وبحسب علمي ظلت هي الطرح الأخلاقي الوحيد الذي يمكن لنا أن نستمده مباشرة من التجربة السياسية (يمكن لنا أن نجرد «الأمر المطلق» الذي تقدم به كانط ـ وهو المنافس الوحيد لطرح سقراط في ذلك المجال ـ من مكوناته الدينية اليهودية والمسيحية والتي جعلته «أمراً» بدلاً من «طرح»، وسنجد أن المبدأ الكامن وراءه هو «عدم التناقض»، فاللص يناقض نفسه إذإنّه وبعد أن يسرق ممتلكات الآخرين يود أن يضمن الحفاظ على ما سُرق كممتلكات له هو شخصياً، ولكن هذا المبدأ يدين بصحته للشروط ذاتها التي كان سقراط هو أول من اكتشفها). لا تنفك الحوارات الأفلاطونية عن إخبارنا مرة تلو مرة عن كم بدت العبارة السقراطية (وهي طرح وليست أمراً) متناقصة، وكم كان من السهل ردها في الأسواق العامة حيث يقف الرأي ضد الرأي الآخر، وعن مدى عجز سقراط عن إثباتها وإثبات صحتها وليس فقط لمناوئيه بل حتى لأصدقائه وتلامذته.
بالنسبة إلى الفيلسوف، بل وبالنسبة للإنسان من حيث هو كائن مفكر، لا يقل هذا الطرح الأخلاقي الدائر حول فعل الظلم وتحمله إلزاماً عن أي حقيقة رياضية، ولكن بالنسبة إلى الإنسان من حيث هو مواطن، أي كائن فاعل يهتم بالعالم وبالمصلحة العامة بدلاً من سعادته الشخصية ـ بما في ذلك مثلاً «روحه الخالدة» التي ينبغي تغليب مصلحتها على حاجات الجسد الفاني، فالعبارة السقراطية غير صحيحة أبداً، ولطالما أشار التاريخ إلى النتائج الكارثية التي حلت على المجتمعات التي ِشرعت باتباع تعاليم أخلاقية تعود إلى فرد –سواء كانت هذه التعاليم «سقراطية» أم «أفلاطونية» أم «مسيحية».
بما أنّ الحقيقة الفلسفية تهم الإنسان من حيث أنّه كائن منفرد فهي لاسياسية بطبيعتها، لكن الفيلسوف إذا أراد لحقيقته أن تسود على آراء الجماهير رغم ما ذكرناه فإنّه سيذوق مرارة الهزيمة، ولربما تؤدي به هزيمته إلى خلاصة مفادها أن الحقيقة بطبعها عقيمة ـ وهي من البديهيات التي يمكننا تمثيلها بأنّ عالم الرياضيات حين لا يتمكن من تربيع الدائرة فسوف يشعر بالأسى أمام حقيقة كون الدوائر ليست مربعات! عندها لربما راودت الفيلسوف نفسه ـ وكما هو الحال مع أفلاطون ـ أن يستميل أذن أحد الطغاة أصحاب الميول الفلسفية، وإذا نجح في ذلك ـ ولحسن الحظ فإنّ فرص النجاح هذا ضئيلة للغاية ـ فسوف يبني إحدى صور استبداد «الحقيقة» التي نعرفها بالدرجة الأولى من خلال اليوتوبيات السياسية المختلفة والتي لا تقل في الحقيقة عن أي استبداد آخر مصادرة وطغياناً. أمّا في حالة انتصار الحقيقة بدون اللجوء إلى العنف فقط لأنّ الناس قبلوا بها ـ وهو أمر غير مرجح أيضاً ولكن إلى درجة أقل من الحالة السابقة ـ فسوف يكون الفيلسوف نال نصراً هو إلى الهزيمة أقرب، لأن الحقيقة عندئذ لن تكون قد سادت نتيجة نوعيتها الفائقة التي لا تدع مجالاً للشك بل لمجرد اتفاق الغالبية حولها، وهي الغالبية التي يمكن لها أن تغير رأيها في الغد وتتفق على شيء آخر مختلف تمام الاختلاف، وهذا سينحط بما يتقدم به الفيلسوف من كونه حقيقة فلسفية متعالية إلى مجرد رأي محض.
لكن بما أن الحقيقة الفلسفية تحمل في ثناياها عنصراً من القهر فإنّها قد تستهوي رجال الدولة في ظروف معينة كما يمكن لقوة الرأي أن تستميل الفيلسوف، وهكذا نرى في وثيقة إعلان الاستقلال الأميركي توماس جيفرسون يصرح بأنّ بعض الحقائق «بديهية وظاهرة بذاتها» لأنّه أراد أن يربأ بالمبادئ الأولية التي اتفق حولها رجال الثورة عن أي نزاع أو جدل، وكما هو الحال في الحقيقة الرياضية، فإنّّ هذه المبادئ ينبغي أن تعبر عن «معتقدات رجال لا يتكلون على إرادتهم الخاصة بل يتبعون لا إرادياً الأدلة التي انجلت أمام أذهانهم». ولك وفي قوله: «إننا نجد هذه الحقائق بديهيّة لا تحتاج إلى دليل» اعتراف دون أن يعي ذلك بأنّ عبارة مثل: «كل الناس قد خلقوا متساوين» ليست بديهية بل تحتاج إلى الاتفاق حولها وقبولها، وأن المساواة ـ إذا ما كانت ستحمل أي معنى سياسي ـ فإنّها مسألة «رأي» وليست مسألة «حقيقة».
أما الطرح السقراطي: «تحمل الظلم خير لك من أن تكون أنت ظالماً» فليس برأي بل يزعم أنّه الحقيقة. رغم أنّه يحق لنا أن نشك في أن يحمل أي تبعات سياسية مباشرة سواء في الماضي أو الحاضر أو حتى المستقبل، ولكن تأثيره على أي سلوكيات عملية كمبدأ أخلاقي أمر لا يمكننا نكرانه ولا يمكن إلاّ للفرائض الدينية التي تلزم مجتمع المؤمنين تمام الإلزام أن تحمل قبولاً أخلاقياً وسلوكياً أكبر. ألا يتناقض هذا بوضوح مع وجهة النظر المقبولة عموماً والقائلة بعقم الحقيقة الفلسفية؟ وبما أننا نعلم من الحوارات الأفلاطونية كم كانت العبارة السقراطية هذه غير مقنعة لا للصديق ولا للعدو في كل مرة حاول سقراط أن يثبتها فعلينا أن نتساءل: كيف حصلت هذه العبارة على هذا المقدار الكبير من الصحة الذي نراه اليوم؟ الجواب الواضح هو أن سقراط استخدم أسلوباً غير اعتيادي بكل معاني الكلمة في إقناع الأجيال التالية بصحة ما ذهب إليه: فقد قرر أن يضحي بحياته في سبيل هذه الحقيقة، فضرب مثالاً لا ينسى ليس فقط حين ظهر أمام المحكمة، بل حين رفض أن يهرب من حكم الإعدام الذي أصدرته مدينته في حقه. إنّ هذا النوع من التعليم من خلال ضرب مثال يحتذى في حياة المعلِّم لهو النوع الوحيد من «الإقناع» الذي تقدر الحقيقة الفلسفية أن تقدمه بدون أن تنحرف أو تتشوه؛ وعلى الأسس ذاتها يمكننا القول بأنّ الحقيقة الفلسفية يمكن لها أن تصبح «عملية» فَتُلهِمَ السلوكيات الإنسانية بدون أن تنتهك المجال السياسي فقط إذا تجلت في قدوة حياة الفيلسوف نفسه.
إنّ تحول عبارة نظرية تأمّليّة إلى حقيقة يُقتدى بها ـ وهو تحول لا تقدر عليه إلّا الفلسفة الأخلاقية ـ تجربة حاسمة بالنسبة إلى الفيلسوف: فضرب مثال يحتذى للجماهير وإقناعهم من خلال السبيل الوحيد المتاح أمامه يبدأ الفيلسوف بالعمل. ولكن في عصرنا لا توجد أي عبارة فلسفية ـ بغض النظر عن مدى جرأتها ـ تجعل الناس يأخذونها على محمل الجد بما فيه الكفاية بحيث تهدد حياة الفيلسوف، وحتى الفرصة النادرة التي تجعل من الحقيقة الفلسفية تحمل وجها من الصحة السياسية قد اختفت دون رجعة، ولكن من المهم في سياقنا هذا أن نلاحظ أنّ إمكانية كهذه متاحة أمام قائل الحقيقة العقلية ولكنها لا توجد أمام قائل الحقيقة الواقعية الذي يعاني في هذا المجال ـ وكما هو الحال في المجالات الأخرى ـ من وضع أسوأ؛ فالحقيقة الواقعية لا تحمل أيّ مبادئ يمكن للناس أن يتصرفوا على أساسها وبالتالي يمكن لها أن تتجلى في العالم من خلالها؛ بل إنّ محتواها بطبيعته يأبى هذا النوع من البرهان. إذا أراد قائل الحقيقة الواقعية أن يغامر بحياته في سبيل حقيقة واقعية ما ـ وهو أمر غير مرجح الحدوث ـ فلن يحقق إلّا نوعاً من الإجهاض، والشيء الوحيد الذي سيتجلى في هذه الحالة هو شجاعته وربما عناده، ولكن لن تظهر الحقيقة التي أراد أن يدافع عنها ولا حتى صدقَه في قولها، فما الذي سيمنع إنساناً كاذباً من أن يلتزم بأكاذيبه بشجاعة عظيمة وخاصة في المجال السياسي حيث يمكن له أن يكون مدفوعاً بالوطنية أو بأي تحيز للمجموعة التي ينتمي إليها؟
إنّ العلامة الفارقة في الحقيقة الواقعية هي أنّ نقيضها لا الخطأ، ولا الوهم، ولا الرأي، فلا تنعكس أيّ من هذه الأشياء على صدق شخص ما، ولكن ضدها في الواقع هو الباطل المتعمد، أو الكذب الصريح. يمكن للخطأ بالنسبة إلى الحقيقة الواقعية أن يحصل بالطبع، بل هو شائع في الحقيقية، ومن هذا الوجه لا تختلف هذه الحقيقة عن الحقيقة العلمية أو العقلية، ولكن النقطة التي أود إثارتها هنا هي أنّه وبالنسبة إلى الحقيقة الواقعية يوجد لدينا بديل آخر، وهذا البديل (الباطل المتعمد) لا ينتمي إلى نوع العبارات التي تحاول ـ سواء كانت محقة أم خاطئة ـ أن تطرح ما حصل بالفعل، أو على الأقل كيف يبدو شيء ما لي. تحظى جملة من الحقائق الواقعية ـ مثل قولنا أنّ ألمانيا غزت بلجيكا في آب 1914 بمضامين سياسية فقط إذا وضعناها ضمن سياق تفسيري، لكن الطرح المعاكس ـ والذي ظن كليمانصو الذي لم يكن يعرف فن إعادة كتابة التاريخ بعد أنّه من المحالات السخيفة ـ لا يحتاج إلى سياق حتى يحظى بأهمية سياسية، بل هو محاولة واضحة لتغيير السجلات، ومن هذا الوجه فإنّه نوع من العمل الفاعل. الأمر نفسه ينطبق على الكاذب الذي لا يملك السلطة كي يروج لأكذوبته، فعندها تراه لا يصر على أن ما تقدم به حق منزل لا يمكن تغييره، بل يتظاهر بأنّ طرحه ليس إلّا «رأيه» قائلاً بأنّ هذا الرأي هو حق له قد ضمنه الدستور! كثيراً ما يحصل هذا من قبل مجموعات لا يمكننا إلاّ أن نصفها بالهدامة، ولكن الارتباك الناتج خاصة ضمن جمهور يفتقر إلى النضج السياسي قد يكون مهولاً، فتمييع الحد الفاصل بين الحقيقة الواقعية والرأي هو إحدى الأشكال الكثيرة التي يتخذها الكذب، وهي جميعها أشكال تتجلى في العمل.
لكن علينا أن نوضح أنّه وبالنسبة إلى العمل فالكذب المنظم ظاهرة هامشية، ولكن المشكلة هي أنّ ضده ـ أي إخبار الحقيقة الواقعية ـ لا يؤدي إلى أي عمل، بل وتحت الظروف الاعتيادية يميل إلى تقبل الأشياء كما هي. (هذا لا ينفي بالطبع أن كشف الحقائق الواقعية قد يستخدم بشكل مشروع من قببل المنظمات السياسية أو أنّ الشؤون الواقعية قد تؤدي وتحت ظروف معينة إلى تشجيع وتعزيز المطالب الإثنية والاجتماعية التي تريد جماعات معينة تحقيقها). لم يعتبر الصدق من بين الفضائل السياسية قط لأنّه في الواقع لا يسدي مساهمة كبيرة في تغيير العالم ولا في تغيير الظروف التي تعتبر أكثر ظروف النشاط السياسي شرعية. لا يمكن للصدق ـ غير المدعوم من قوى التشويه صاحبة السلطة أو المصالح ـ أن يصبح عاملاً سياسياً بامتياز في مجتمع قد جعل من الكذب المنظم مبدءاً لا يحيد عنه، وليس فقط فيما يتعلق بالتفاصيل الجزئية، فعندما يكذب الجميع في جميع الأشياء التي تحملُ مقداراً من الأهمية فسيكون قائل الحقيقة ـ وبغض النظر عما إذا كان يعي ذلك أم لا ـ قد بدأ بالعمل وقد غمس نفسه في الشأن السياسي، وإذا نجا بنفسه ـ وهو أمر غير مرجح ـ فقد يكون قد خطا الخطوة الأولى نحو تغيير العالم.
لكنه وفي هذه الحالة أيضاً سيجد نفسه في وضع مزر ومزعج، فكما ذكرت من قبل فإنّ من طبيعة الحقائق الواقعية أن تحمل عدداً كبيراً من الاحتمالات، وبالتالي يمكن لها دائماً أن تكون «مختلفة» عمّا هي إياه، وهي بذلك لا تحمل أي طابع «بديهي» أو «ظاهر بذاته دون الحاجة إلى دليل» أو حتى مصداقية بالنسبة إلى العقل البشري، وبما أن الكذاب يمتلك حرية أكبر لإعادة تشكيل «الوقائع» بحسب ما يتناسب مع ربحه وسعادته أو حتى مجرد توقعات المستمعين إليه فإنّ هذا على الأرجح سيجعله مقنعاً بشكل أكبر من قائل الحقيقة، وسوف تكون «المصداقية» إلى صفِّه إذ سيبدو عرضُه للوقائع أكثر منطقية بما أن عنصر «ما ليس متوقعاً» ـ وهو إحدى صفات الأحداث الحقيقية البارزة ـ قد اختفى لـ«حسن الحظ»! إذا ما استعرنا عبارة هيغل، فالحقيقة العقلية ليست هي فقط ما يجعل المنطق العام يُجهد نفسه إلى أقصى حد، بل إنّ الواقع نفسه يزعج التعقل القائم على المنطق وينتهك حرمته وبالطريقة نفسها التي يُتعدّى فيها على المصالح الشخصية والملذات الفردية.
علينا الآن أن نوجه انتباهنا إلى ظاهرة حديثة بعض الشيء وهي التلاعب الجماهيري بالوقائع والآراء وهي ظاهرة قد تجلت بوضوح في عملية إعادة كتابة التاريخ وصنع الصور العامة وحتى في سياسة حكومات بعض الدول. لقد كانت الكذبة السياسية التقليدية والتي لطالما برزت في تاريخ المعاملات الدبلوماسية، وحرفة إدارة الدولة تتعلق، إما بأسرار حقيقية ـ أي بيانات لا ينبغي أن تتداولها الجماهير أبداً، أو النوايا وهي على جميع الأحوال لا تحمل طابع الموثوقية الذي تحمله الحقائق الواقعية، إذ إنّ النوايا وكما هو الحال في جميع الأشياء التي تظل فقط في بواطننا ليست إلّا مجرد إمكانيات موجودة بالقوة، ولهذا لربما ينتهي الأمر بما كان يفترض أن يكون كذبة أن يتحول إلى حقيقة واقعة. بالمقابل نجد الأكاذيب السياسية المعاصرة تتعامل بفعالية أكبر مع أشياء ليست أسراراً بأي حال من الأحوال بل مع أمور معلومة من قبل الجميع! إنّ هذا واضح في عملية إعادة كتابة التاريخ المعاصر تحت أعين الأشخاص الذين رأوه وشهدوه، كما أنّه واضح في صنع الصور العامة في جميع أنواعه والذي يمكن فيه إنكار أيّ حقيقة معلومة وموثوق من صحتها أو على الأقل إهمالها إذا ما كانت ستضر بالصورة العامة المزمع بناؤها، فالصورة مثل أي تمثال نصفي تقليدي: ليس المقصود بها كيل المديح للحقيقة بل تقديم بديل عنها بكل معنى الكلمة وخاصة وأنّ الأساليب الحديثة ووسائل الإعلام الجماهيرية تظل في أعين الجمهور بشكل أكبر بكثير من صورة الواقع الأصلية.
بالإضافة لما أسلفناه فقد كان المقصود من الكذبة التقليدية هو تفاصيل محددة، ولم يكن الهدف قط خداع الجميع، وقد كانت موجهة نحو الأعداء بقصد خداعهم هم فقط، وقد أدت هذه الحدود إلى تقليص الضرر الذي تعاني منه الحقيقة إلى درجة قد تظهر في الأكذوبة التقليدية ـ وبالنظر إلى الماضي ـ وكأنّها غير ضارة أصلاً. بما أن الوقائع لا تحدث في طبيعتها إلاّ ضمن سياق ما، فأكذوبة معينة ـ أي التزييف الذي لا يحاول تغيير السياق برمته ـ لا يتسبب إلّا بـ«ثقب» في نسيج واقع الأحداث كما نفهمه وندركه، وكما يعلم أي مؤرخ من السهل علينا أن نجد أكذوبة واحدة من خلال ملاحظة تضارب الأحداث أو فجوات فيها أو وصل بينها يبدو «مرقعاً»، ولكن طالما تظل الأحداث وسياقها في عموم أمرها سليمة فسوف تظهر الأكذوبة آخر الأمر دون كثير من العناء. أمّا الحد الثاني، الذي كانت الأكاذيب تقف عنده فهو أنّها كانت محدودة بدائرة محدودة من رجال الدولة والدبلوماسيين المحترفين للخداع، وقد كانوا هم أنفسهم يعلمون الحقيقة وبالتالي قادرين على الحفاظ عليها، ولم يكن من المرجح لهم أن يقعوا هم أنفسهم ضحايا لأكاذيبهم، فقد كانوا قادرين على خداع الآخرين ولكن دون خداع أنفسهم. لكننا نرى أن هذين الظرفين المخففين لأثر فن الكذب القديم والمدمر قد غابا عن التلاعب بالحقائق الذي نراه أمامنا اليوم.
فما هي إذن أهمية هذه الحدود؟ ولماذا يحق لنا أن نسميها: «ظروفاً مخففة»؟ ولماذا أصبح الخداع وحتى خداع النفس أداة لا غنى عنها في حرفة صنع الصور العامة؟ ولماذا نعتبر أن الكذاب إذا ما انخدع بأكاذيبه فإنّ هذا أسوأ من كونه يخادع الآخرين فقط؟ أي عذر أخلاقي يمكن للكذاب أن يتقدم به غير قوله إنّ نفوره من الكذب عظيم إلى درجة أنّه كان عليه أن يقنع نفسه قبل أن يكذب على الآخرين، وأنّ عليه أن يجعل «ذاكرته مذنبة حتى يضفي الصدقية على كذبته» بعبارة شخصية أنطونيو في مسرحية شكسبير: «العاصفة»؟ وأخيراً، وقد يكون هذا السؤال أكثر الأسئلة المذكورة هنا إثارة للقلق: إذا كانت الأكاذيب السياسية الحديثة عظيمة لدرجة أنّها تتطلب إعادة ترتيب كامل نسيج الواقع ـ أي صنع حقيقة بديلة أخرى يمكن لهذه الأكاذيب أن «تركب» فيها دون «تشقق» أو «كسر» وبالضبط كما تتركب الحقائق الواقعية مع السياق الحقيقي الذي وقعت فيه ـ فما الذي يمنع هذه القصص والصور الجديدة مع الأكاذيب المتعلقة بها أن تصبح بديلاً كاملاً عن الحقيقة ووقائع الأحداث كما حصلت بالفعل؟
إن هذا الكذب الكامل والذي يحمل في ثناياه إمكانية أن يتحول إلى الحقيقة النهائية –وهي أمور لم تعرفها الأزمنة السابقة ـ هو من الأخطار التي تنشأ من التلاعب بالحقائق الذي يشهده عصرنا الحديث. فحتى في العالم الحر حيث لا تحتكر الحكومات السلطة حتى تقرر ما يجب قبوله على أنّه الواقع وما لا ينبغي قبوله، قامت المنظمات العملاقة ذات المصالح الهائلة بتعميم نوع من عقلية «المصالح العليا»، وهي عقلية كانت محصورة في السابق هي الشؤون الخارجية أو ـ في أسوأ تجاوزاتها ـ أثناء حالات الخطر المباشر الداهم، وقد تعلمت حتى وسائل الدعاية الوطنية بعض «الخدع» من ممارسات أصحاب الأعمال والمؤسسات الدعائية. قد تتحول الصور المصنوعة للاستهلاك المحلي ـ إذا ما ميزناها عن تلك الموجهة إلى العدو الأجنبي ـ إلى حقيقة بالنسبة إلى الجميع بما في ذلك صانعي الصور أنفسهم الذين قد يجرفهم مجرد التفكير بأعداد ضحاياهم بينما لا يزالون يحضرون «منتجاتهم» الدعائية. لا شك في أنّ موجدي الصورة الكاذبة الذين «يلهمون» أصحاب الإقناع لا يزالون يعلمون أنّهم يريدون أن يخدعوا عدواً ما على المستوى الاجتماعي أو الوطني، ولكن النتيجة هي أنّ مجموعة كاملة من الناس، بل دول بأسرها قد تسترشد طريقها من خلال شبكات الخداع التي أراد قادتها أن يحبكوها لأعدائهم.
ما يحدث بعد ذلك يكاد يتلو الأحداث السابقة آلياً: سيحول الجهد الأساسي الذي يبذله كل من المجموعة المخدوعة والمخادعين أنفسهم وجهته نحو الحفاظ على سلامة الصورة الدعائية التي تم بناؤها، ولن يكون التهديد الأكبر لهذه الصورة هو الأعداء أو أصحاب المصالح المعادية لها بقدر ما سيكون أفراد المجموعة نفسها الذين تمكنوا من التغلب على «سحر» الصورة فتخلصوا من أسرها وأصروا على التحدث عن الحقائق أو الأحداث الواقعية التي لا تتلائم مع الصورة، والتاريخ المعاصر حافل بالأمثلة عن أناس «قائلين للحقيقة». شعر أصحاب «المجموعة المخدوعة» بأنّهم أخطر بل وحتى أكثر عدائية من الأعداء الحقيقيين. علينا هنا ألّا نخلط بين الحجج التي سقناها ضد خداع النفس وبين احتجاجات «المثاليين» ـ وبغض النظر عن مزاياهم ـ ضد الكذب كمبدأ فاسد وضد فن خداع الخصم القديم بقدم التاريخ نفسه. من الناحية السياسيّة، يمكننا أن نشير إلى أنّه من المرجح لفن خداع النفس الحديث نسبياً أن يحوِّل قضية خارجية إلى واحدة داخلية بحيث ينقلب صراع دولي أو بين مجموعات محددة إلى واحد داخلي محلي، وعلى سبيل المثال فعمليات خداع النفس التي مارسها كل من طرفي الحرب الباردة أكثر من أن تحصى، ولكنها تثبت النقطة التي نوردها هنا بوضوح. لطالما بيَّن نقاد الديموقراطية الجماهيرية المحافظون المخاطر التي يجلبها هذا اللون من الحكومات إلى الشؤون الدولية ـ ولكنهم فعلوا ذلك دون أن يذكروا المخاطر الخاصة بالأنظمة الملكية أو الأوليغاركية ـ وقد انبنت قوة حجتهم على مقولة لا سبيل إلى نكرانها وهي أنّه وتحت ظروف كاملة الديموقراطية يكاد يستحيل خداع العدو دون خداع النفس. تحت نظام الاتصالات العالمي المعاصر والذي يغطي عدداً كبيراً من الدول المستقلة لا توجد أي قوة كافية لتجعل «صورتها» عن نفسها متكاملة لا تقبل أي عيب، ولهذا السبب فإنّ أعمار الصور بطبيعتها قصيرة نسبياً ومن المرجح أن تنفجر ليس بمجرد سقوط الأقنعة وعودة الحقيقة إلى الظهور في المجال العام بل حتى قبل ذلك الأوان لأنّ «شظايا» من الحقيقة لا تفتأ عن الظهور وتغيير موازين الحرب الدعائية القائمة بين صور مختلفة متضادة. ولكن هذه ليست الطريقة الوحيدة أو حتى الطريقة الأهم التي تنتقم بها الحقيقة ممن اجترأ على مكافحتها، لا يمكن للعمر المتوقع للصور أن يزداد بشكل كبير حتى ولو كانت الصور مبنية من قبل حكومة عالمية أو أي شكل حديث آخر من «التفوق الروماني» القديم، ولا شيء يعرض هذا بشكل أوضح من أنظمة الحكومات الاستبدادية وديكتاتوريات الحزب الواحد المغلقة نسبياً والتي هي دون ريب أكثر الأنظمة فعالية في حماية الأيديولوجية والصور الإعلامية من تأثيرات الحقيقة والواقع. لطالما لوحظ أن الأثر الأوضح لغسيل الأدمغة على المدى البعيد إنّما هو نوع غريب من فقدان الأمل في المثاليات، أو الرفض المطلق لحقيقة أي شيء بغض النظر عن مدى التوصل إلى صدقية ذلك الشيء. بعبارة أخرى: إنّ نتيجة الاستبدال المنتظم والشامل للحقيقة الواقعية بالأكاذيب لن يكون تحوّل الأكاذيب إلى الحقيقة ولا النفور من الحقيقة على أنّها أكاذيب، بل ستؤدي إلى دمار شعورنا الذي «نوجه من خلاله بوصلتنا» في العالم الحقيقي والذي يشكل التفرقة بين الحق والباطل إحدى أهم الوسائل العقلية التي نتوصل بها إليه.
لا يوجد علاج لهذه المشكلة لأنها الجانب الآخر من السمة المزعجة في الحقيقة الواقعية، أعني كونها حمالة أوجه واحتمالات كثيرة وعابرة، ولأنّ كل ما حصل في عالم الشؤون الإنسانية «كان من الممكن له أن يحصل بطريقة مختلفة» فإنّ إمكانيات الكذب تكاد لا تتناهى، ولكن اللامحدودية هذه هي التي تمهد الطريق أمام الأكاذيب لتهزم نفسها بنفسها، إذ لن تجد إلاّ ندرة من الكذابين المستعدين لكي يلتزموا بأكذوبة واحدة محددة بثبات لا يعرف التقلب والتغيير، أمّا الآخرون الذين يُكيِّفون الصور والقصص بحسب الظروف الدائمة التغير فسوف يجدون أنفسهم يطفون في أفق متسع من الإمكانيات، ولذا فسوف يقفزون من إمكانية إلى أخرى دون أن يقدروا على التمسك بأي من الأكاذيب التي يحبكونها. لم يتمكن أولئك الكاذبون من تحقيق بديل مناسب للحقيقة والواقع، بل هم أبعد ما يكونون عن ذلك، فجل ما حققوه هو أنّهم أعادوا الحقائق والأحداث إلى حالة «الإمكان» أو «الوجود بالقوة» التي كانت فيه قبل ظهورها، وأوضح علامات «واقعية الوقائع والأحداث» هو عنادها في كونها قد حصلت بالفعل، وحدوثها هي دون غيرها أمر يأبى الشرح والتبيان. لكن «الصور الإعلامية» في المقابل يمكن لها أن تفسر، ويمكن لنا دائماً أن نجعلها قابلة للتصديق مما يعطيها أفضلية مؤقتة على الحقيقة الواقعية، ولكن لا يمكن لها أبداً أن تنافس الاستقرار الذي نجده في «الأشياء على ما هي عليه في الواقع» لأنّ هذه قد حصلت كما حصلت وليس بأي طريقة أخرى. ولذا، وسأستخدم لغة مجازية هنا، فإنّ الكذب الممنهج يجر الأرض من تحت أقدامنا ولكن لا يوفر لنا أي أرضية بديلة لنقف عليها (وبكلمات مونتاني: «إذا كان الباطل مثل الحق له وجه واحد فقط لكنا عرفنا أين نحن بشكل أفضل لأن كل ما كان علينا فعله هو تصديق العكس تماماً لما يخبرنا به الكاذب. لكن عكس الحقيقة يحمل ألف وجه ويمتد على مجال غير محدود»)، وتعتبر تجربة حركة جميع الأشياء التي نعتمد عليها في شعورنا بالإتجاه في حياتنا وبالحقيقة من حولنا بشكل مهتز ومتزلزل من أوضح تجارب الناس الواقعين تحت حكم الأنظمة الاستبدادية القمعية.
من الواضح أن الوقائع لا يمكن لها أن تكون في مأمن على نفسها في أيدي السلطة، ولكن بيت القصيد هنا هو أن السلطة بطبيعتها لا يمكن لها أن تنتج بديلاً آمناً لاستقرار الحقيقة الواقعية حتى بعد أن تنتقل هذه الحقيقة إلى بُعد لم يعد في متناول أيدينا بسبب مرور الزمن عليها. تفرض الحقائق نفسها من خلال عنادها، ولا نملك إلّا أن نستغرب من اجتماع هشاشتها التي أشرنا إليها مع قوة ثباتها المطبوعة بطابع نهائي لا يمكن الرجوع عنه كما هي السمة البارزة لجميع الأفعال الإنسانية. بسبب عنادها هذا تظل الحقائق الواقعية متفوقة على السلطة، إذ إنّ التشكلات السلطوية أسرع زوالاً من الحقائق الواقعية، فهذه التشكلات لا تحدث إلاّ حين يجتمع الناس على هدف معين ولكنها سرعان ما تزول وتتلاشى في اللحظة التي يحققون فيها هدفهم أو يخسرونه مما يجعل السلطة أداة لا يمكن الاعتماد عليها في تحقيق أي نوع من الثبات والدوام، إذن ليست الحقائق والوقائع وحدها التي لا يمكن لها أن تكون آمنة في يد السلطة، بل حتى الأكاذيب و«اللاحقائق» أيضاً. على المسالك السياسية تجاه الحقائق أن تسير على طريق ضيق بين خطر النظر إليها على أنّها نتيجة تطور لا مناص منه، لا يمكن للإنسان أن يتجنبه، لذلك لا يمكنه أن يفعل أي شيء أمامها من ناحية، وخطر إنكار هذه الحقائق ومحاولة التلاعب بها لغاية إخراجها من الوجود في هذا العالم من ناحية أخرى.
في نهاية عرض تأملاتي هذا أعود إلى الأسئلة التي أثرتها في بدايته: مع أن الحقيقة لا حول لها ولا قوة وتكاد تكون هزيمتها في صدام مباشر مع القوى على الأرض مؤكدة، إلاّ أنّها قوية بطريقتها الخاصة: فمهما دبَّر أصحاب السلطة وخططوا، فهم غير قادرين على اكتشاف بديل قابل للحياة عنها أو حتى اختراعه، يمكن لقوتَي الإقناع والعنف أن تدمرا الحقيقة ولكنهما لن تتمكنا من استبدالها، وهذا ينطبق على الحقيقة العقلية، أو حتى الدينية بقدر ما ينطبق بداهة على الحقيقة الواقعية. إذا نظرنا إلى السياسة من منظور الحقيقة كما فعلت هنا فإنَّ هذا يعني الوقوف خارج الصعيد السياسي برمته، وهذا الموقف هو موقف قائل الحقيقة، الذي سيتخلى عن موقفه ومعه عن صحة ما لديه ليقوله إذا ما حاول أن يتدخل في الشؤون الإنسانية مباشرة أو التحدث بلغة الإقناع أو العنف. وعلينا الآن أن نوجه انتباهنا إلى هذا الموقف وأهميته بالنسبة إلى العالم السياسي.
[1]* ـ حنة آرندت (Hannah Arendet): فيلسوفة ألمانية (1906-1975) ، عضو الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب وشغلت إدارة عدة جامعات أميركية مثل جامعة شيكاغو، ، كاليفورنيا..
نشرت هذه المقالة في الأصل في جريدة The New Yorker في 25 شباط 1967، ثم أعيد نشرها مع تعديلات طفيفة في كتاب «بين الماضي والمستقبل» (Between Past and Future) (1968).
تعريب: د. كريم عبد الرحمن