الباحث : اليستر ماكغراث
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 7
السنة : السنة الثالثة - ربيع 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث : May / 9 / 2017
عدد زيارات البحث : 1068
هذه المقالة تلقي الضوء على التفسير اﻹلحادي العدواني للعلوم الطبيعية المنتسبة إلى ريتشارد داوكينز، وتطرح تساؤلات حول عقلانيته الفكرية وعن أسس بياناته. من الواضح كما يبيِّن صاحب المقالة ان إلحاد داوكينز هو على صلة وطيدة بعلمه وفكره المغلق، وهو يفتقد إلى أسس برهانية لكونه مدافعاً عن المنهجية العلمية.
في مقالته التالية يتحدث ماكغراث عن اختباراته اللاهوتية والإيمانية في سياق الكلام عن جدلية العلاقة بين اللَّه والمعرفة العلمية.
المحرر
سابقاً، كنت ملحداً. ترعرعت في بيلفاست، عاصمة أيرلندا الشمالية، وفي الستينيات توصلت إلى نتيجة حتمية مفادها ان اللَّه ضربٌ من وهم الطفولة، وملجأ للعجزة ولذوي النفوس الضعيفة والمتحايلين على الدين. أعترف الآن انه كان رأياً متغطرساً، وأراه اليوم محرجاً بعض الشيء. إذا كان يبدو متعجرفاً بعض الشيء إلا أنه كان يعكس رأي العصر القائل بأن الدين كان سينتهي ووجود اللَّه ايضاً.
جزء من المنطق الذي دفعني إلى هذا الاستنتاج، كان مستنداً إلى العلوم الطبيعية. في الثانوية العامة، تخصصت في الرياضيات والعلوم، وفي الجامعة درست الكيمياء. ولكن التحفيز الأول لدراسة العلوم كان يكمن في فكرة مذهلة وهي قدرة الدخول في عالم الطبيعة الرائع، واكتشفت أيضاً أن العلوم هي أفضل معين لنقد الدين. الإلحاد والعلوم الطبيعية متناغمة فكرياً لدرجة كبيرة. هذه الأفكار بقيت راكدة إلى أن وصلت إلى جامعة اوكسفورد في اكتوبر 1971.
الكيمياء، ثم فيزياء الأحياء الجزئية، اللذان أثبتا أنهما منشطان رائعان على مستوى الفكر. أحيانا كان ينتابني اندفاع لامع ولكن بدأت الصعوبات تبرز إلى جانب عشقي للعلوم الطبيعية التي تغطي كل التوقعات، أعدت التفكير بإلحادي. ليس من السهل لأحد أن يخضع معتقداته للنقد، ولكنني اتخذت هذا القرار، لأنني أدركت أن الأشياء لم تكن بالسهولة التي كنت اعتقدها في السابق، بعض العناصر تراكمت لتشكل ما يسمى بأزمة المعتقد.
بدأت أُدرك أن أُسس الإلحاد ليست مرضية. البراهين السابقة جريئة، قوية وحاسمة تبدو لي الآن خجولة وغير مؤكَّدة. الفرص التي سمحت لي بالتكلم مع بعض المسيحيين عن إيمانهم أوضحت لي أنني لا أعرف عن هذا الدين إلا القليل، الدين المسيحي الذي أعرفه مجرد وصف لبعض البيانات من قبل نقاد بارزين مثل “برثران روسيل” و”كارل ماكس”، وهذا التوصيف لم يكن دقيق المنهجية. من جهة أخرى أدركت بشكل متدرّج أن فرضيتي حول العلاقة بين العلوم والإلحاد كانت ساذجة لوافد جديد. من أهم الامور التي كان يجب أن أُعالجها هي الفصل المنهجي لهذه العلاقة، وأن العلوم والمسيحية في علاقة وثيقة. كما أننّي سأحاول فهم لماذا لا يتقاسم الآخرون معي هذا الرأي.
في عام 1977، بينما كنت أجري أبحاثاً في علم فيزياء الأحياء الجزئية في اكسفورد، قرأت أول عمل لـ”ريتشارد داوكنس”، “الجين الأناني” الذي صدر العام الماضي. كان كتاباً رائعاً، مليئاً بالأفكار ومظهراً قدرات رائعة تغرس في نفس القارئ مفاهيم صعبة. كنت أقرأه بشغف. ولكن، كنت محتاراً أمام ما كنت أعتبره الإلحاد السطحيّ المرتكز بطريقة غير متوازنة على البراهين العلمية التي عرضها في كتابه. بدا إلحاده متصلاً به بيولوجياً عبر فكره بدلا من كونه ثمار دليل علمي من المفروض أن يكون قد جمعها بنفسه.
اليوم، داوكنس أعلن بحزم أنه حامل راية مؤسسة الإلحاد البريطانية. الشاب اللامع في علم الحيوانات من أوكسفورد في نهاية الستينيات تحول شيئاً فشيئاً إلى أهم ناقد حول قضية الدين وخصوصاً الديانة المسيحية. إنّ نوعية كتاباته جعلته معارضا بكل ما للكلمة من معنى، عدوانيته وعنفه النثري جعلت منه معارضاً من دون منازع لكل مدافع عن المسيحية. في هذا المقال، أود طرح بعض اهتمامات داوكنس حول مواضيع العلم والإيمان. وأود بصفة خاصّة إعادة النظر في العلاقة الفكرية بين العلم والإلحاد، وهي من مميّزات كتابات داوكنس. وليس هدفي انتقاد علم داوكنس، هذا النقد ينتمي إلى المجتمع العلمي كلّه. وإنما، هدفي هو تحليل العلاقة بين الطرائق العلمية والإلحاد الذي يدافع عنه داوكنس.
في هذه الوثيقة، سألخص أهم العناصر الأساسية لنقده الإلحادي للمسيحية وسأجاوب بإيجاز. القرّاء المتّعظون سيجدون توضيحاً ونقداً مفصّلاً عن رؤية الإلحاد عند داوكنس في كتابي “إله داونكز” (Dawkins God) والذين يرغبون في نقاش معمق مدعوون إلى مراجعة هذا الكتاب.
1 العلم استبعد الله:
بالنسبة لداوكنس، العلم وخصوصا فرضية “داروين” جعلت الإيمان بالله مستحيلاً. داوكنس يدعم فكرة أنّ العالم قبل فرضية “داروين” مُصمَّم من قبل الله، أما بعد هذه الفرضية، أصبحت هذه الفكرة خيالية بالنسبة له. العالم داروين ليس له هدف، ونحن واهمون إذا اعتقدنا العكس. إذاً لا يمكن وصف الكون على أنه سيّئ أو جيد. يدعم داوكنس نظرية أنّ الكون الذي نراقبه يمثل الخصائص التي يمكن توقعها ولكن، في نهاية المطاف نستنج أنه: لا هندسة، لا بشر، لا خير... لا شيء سوى اللامبالاة العمياء والخالية من أيّ رحمة.
يعتبر داوكنس أنّ نظرية دارون بمثابة رؤية عالمية أكثر مما هي نظرية علمية فقط. تسمح له هذه النظرية بطرح براهين أبعد من حدود العلم. داروين بشكل خاص والعلوم بشكل عام، يدفعوننا إلى الإلحاد. ومن هنا بدأت الأمور تتعقد بالنسبة لداوكنس. وقد اثبت داوكنس وصف طبيعي يمكن اقتراحه في الحالة الراهنة للكائنات الحية. ولكن لماذا يؤدي هذا إلى خلاصة أنّ اللَّه غير موجود؟
نعرف جيداً أن الطرائق العملية لا يمكنها اتخاذ قرار بشأن فرضية وجود الله، مهما كانت الطريقة: إيجابية أو سلبية. كلّ من يعتقد أنه بإمكانه إثبات وجود اللَّه فهو مخطئ فيشوّه سمعته. بعض علماء الأحياء البارزين مثل “فرانسيس كولين” يؤكدون أن العلوم الطبيعية تنشئ قرنية إيجابية عن الإيمان، وآخرون (مثل “جاي كولد”) يعتقدون أنها تؤثر سلباً في المؤمنين، ولكنهم لا يبرهنون شيئاً مهما كانت رؤيتهم. إذا كان سؤال وجود اللَّه أمراً يجب حسمه، فمن الضروري أن يكون قائما على أسس أخرى.
في مقالة تعود إلى عام 1992 صادرة في مجلة اميركيين (Scientific American)، عالم الأحياء الأميركي في ذلك الوقت، ستيفن جاي كولد، أصر أنّ العلوم لا يمكنها حتى بطرائقها الخاصة أنّ تثبت وجود الله. لا يمكننا كعلماء، تأكيد أو نفي، ولا يمكننا حتّى بكلّ بساطة شرح هذا الوجود. العنصر الأساسيّ لـ ”كودا” يمكن أن يكون نظرية درونية لا تمتّ بصلة لوجود أو طبيعة الله. بالنسبة إلى ”كولد” يمكننا أنّ نجد علماء أحياء ملحدين مثل “جزج سيبسون” وآخرين مثلّ العالم الارثدوكسي الروسي “ذوب زهانسكس”.
داوكنس يعرض النظرية الداروينية كطريق فكري للإلحاد. ولكن، في الحقيقة، المسار الفكريّ المرسوم من داوكنس غارق هو أيضاً في الإلحاد. يوجد هوّة بين النظرية الدارونية والإلحاد، ومن الواضح أن داوكنس يريد ردمها. وإذا أردنا الوصول إلى نتيجة، يجب استخدام وسائل مختلفة، بليغة ومقنعة ومن المفروض أن تكون البراهين قوية.
الإيمان يجنب التعامل مع الدلائل:
من وجهة نظر داوكنس، المسيحية بنت أساسها على الإيمان، وتركت البحث الحقيقي المتمحور حول الدلائل. أحد أهم طروحات داوكنس والمكررة بإستمرار هي في كتاباته، القول إن الإيمان في الدين هو الثقة العمياء وليست الادلة. داوكنس يدعم أن الإيمان هو نوع من الأمراض العقلية، وهو آفة الكون ويمكن مقارنته بفيروس الجدري ومن الصعب القضاء عليه. هل الحقيقة هي أبسط من ذلك؟ كنت متيقناً في حينها لأنني كنت وقتها مُلحداً وقد اعتبرت براهين داوكنس مقنعة. أما اليوم فقد تغيّرت النظرة.
يقول لنا داوكينس إن الإيمان هو الثقة العمياء، التي لا تابه بالأدلة الثابته وتتجاهل حتى الأدلة المعارضة.
لنبدأ بمعاينة هذا التعريف للإيمان ومن أين مصدره. لماذا علينا القبول بهذا التعريف اللامنطقي؟ ومن قال إنّ هذا التعريف منسوب إلى المؤمنين؟ داوكنس غير واضح في هذه النقطة، ولا يعرض أي كاتب ديني ليبرر هذه التعريف غير المنطقيّ، هذه الطريقة غير المبرّرة تحوّل اليمان إلى نوع من المهزلة الفكرية. لا يمكنني قبول هذه الفكرة ولم أجد مفكّرين دينيين اعتمدوها. هذا التعريف لا يمكن الدفاع عنه من قبل أي اعتراف رسمي من الدين أو أي طائفة مسيحية. هذا تعريف خاصّ بداوكنس وهو جزء من استراتيجية تهدف إلى النقد.
من المقلق أنّ داوكنس يعتقد بحزم أنّ اليمان يعني الثقة العمياء، علماً أنّ هذا التعريف لا يتبناه أيّ كاتب مسيحيّ. هذه الأطروحة هي في الأساس لداوكنس لدرجة أنه يؤثر في كل جانب من جوانب موقفه من الدين والمؤمنين. داوكنس نفسه يعلق على افكار”ويليام بالييه” (William Paley) حول فرضية خلق الكون، ويصف هذه العقيدة بالخطأ.
يقول لنا داوكينس إن الإيمان هو الثقة العمياء، التي لا تأبه بالأدلة الثابته وتتجاهل حتى الأدلة المعارضة. هذا ما قد يعتقده داوكنس بعكس المسيحيين الذين لا يفكّرون بذلك. “و. ه غريفيث توماس” (1861-1924)(W. T. Griffith-Thomas) يقدم تعريفاً للإيمان المسيحي التقليدي الطويل.
[الإيمان] هو المفتاح إلى كلّ ما يتعلق بالطبيعة البشرية، فإنه يبدأ مع اقتناع فكري يقوم على الأدلة المقنعة. إنها تأتي مع الثقة من القلب والمشاعر التي أُسِّست على الإيمان، وتوجت بالإرادة التي تصرّ على هذا الإيمان والثقة من خلال خطّ الحياة.
هذا التعريف المنطقي جدا يجمع العناصر الأساسية للفهم المسيحي للإيمان. سوف يلاحظ القراء هذا الإيمان “يبدأ مع اقتناع فكري يقوم على الأدلة المقنعة”. لا أرى فائدة في إكلال القرّاء بالأقوال المسيحية اللا متناهية المقتبسة من جميع الفترات الزمنية والعصور لدعم وجهة النظر هذه. وهو في كلّ الحالات مسؤولية داوكنس لإثبات كتاباته على أساس أدلة على أن التعريف مُشوَّه ومنحاز لل”الإيمان” كما أنه من سمات الإيمان المسيحي.
وبمجرد أن يستقرّ رجل القش الخاص فيه، يعود داوكنس ويرميه. هذه اللعبة الفكرية ليست شاقة ولا صعبة. الإيمان طفولي، كما قيل لنا، والأفكار الجميلة التي تؤثر فينا ويجري تدريسها للأطفال، ولكن من الأفكار ما هو غير أخلاقي، شنيع ومضحك فكريّاً لجمهور الكبار. في الوقت الحاضر، لقد نمونا وعلينا أن ننتقل إلى أشياء أخرى. لماذا نؤمن بأمور لا يمكن تفسيرها علميا؟ يقول داوكنس أن الإيمان بالله هو مثل الإيمان بسانتا كلوز أو الجنيات. عندما تكبرون يمرّ ذلك عليكم مرور الكرام.
هذه حجة تلميذ وجد مصادفة في مناظرة عدد من الراشدين. هذه الحجة هي جديرة بهاوٍ، غير مقنعة أبداً. لا يوجد أي دراسة جادة تظهر أن الناس لا ينظرون بالطريقة نفسها إلى الله، الجنيات وبابا نويل. توقفت عن الاعتقاد بسانتا كلوز وبالجنيات عندما كنت في عمر 6 سنوات. بعد إلحادي ببضع سنوات، اكتشفت اللَّه عندما كان عمري 18 عاماً وأنا لم أنظر قطّ في ذلك الانحدار إلى مرحلة الطفولة. خلال قيامي ببحث لكتابي”غسق الإلحاد”(le crépuscule de l’athéisme)، لاحظت أن الكثير من الناس وصلوا إلى الاعتقاد بالله في مرحلة متأخرة من حياتهم، عند «كبرهم». لكن لم ألتق أحداً يؤمن بسانتا في المرحلة ذاتها.
وإذا كانت حجة داوكنس المبسطة مقبولة، فإنه سيستعين بوجود تشابه حقيقي بين اللَّه وسانتا كلوز، وهذا ليس الوضع إطلاقاً. ومن الواضح أنه لا يمكننا أن نضع في الفئة نفسها الإيمان بالله والمعتقدات الطفولية. يقول داوكنس إن هذه المعتقدات قابلة للمقارنة مع غيرها في كيان غير موجود. ومع هذا، فإنه يرتكب خطأ بدائياً: إن براهينه لا تسمح بإدراك نهاية الفرضيات الحججية.
يا لها من سخرية، إنّ الإيمان الذي يأخذنا به داوكنس بسهولة إلى عالم سانتا كلوز هو الإيمان نفسه الذي بنى عليه تراثه الفكري في جامعته الخاصة، وخصوصاً في مواده العلمية. إن دور فلاسفة المسيحيين في ظهور العلوم البيولوجية كان في النهاية موثقا بطريقة جيدة.
الثقة التي يؤكد بها داوكنس أنه لا مهرب من الإلحاد، هو أمٌر لافت جدّاً. هذه الثقة الغريبة تبدو متنقلة بشكل واضح وقد لا تكون على صلة تماما كتلك المألوفة مع فلسفة العلوم في كثير من الأحيان. وقد أشار ريتشارد فاينمان (1918-1988)(Richard Feynman)، الحاصل على جائزة نوبل للفيزياء عام 1965، لعمله على الديناميكهربائية الكمية، المعرفة العلمية هي جسد من الاعترافات حيث إن مستويات التأكيد تكون غير ثابتة: بعض هذه التصريحات غير مؤكد، وبعضها الآخر شبه مؤكد، ولكنّ أيّاً منها لم يصل إلى الإثبات المطلق.
3ـ اللَّه فيروس العقل:
فكرة اللَّه هي العدوى الخبيثة التي تصيب عقول الأصحاء. حجة داوكنس الأساسية هي أن الإيمان بالله ليس نتيجة لأسباب منطقية أو مقنعة. وهذه هي نتيجة العدوى بفيروس مُعدٍ وخطير، مماثل لتلك التي تلحق الفوضى لشبكات الكمبيوتر، وينظر إلى ان الإيمان بالله يلوث عقولاً نقية بالمقابل. هذه الصورة بدت قوية، حتّى إذا كانت القاعدة الحججية والتجريبية ضئيلة. الفكرة كلها تنهار في غياب الأدلة التجريبية.
لا يوجد أيُّ دليل يمكن ملاحظته لتبرير الأفكار المماثلة للفيروسات، أو التي قد تنتشر مثلها، ولكن داوكنس ينسى بطريقة مقلقة، ليس من السهل معالجتها، هذه القضية الحساسة: لا جدوى من الحديث عن شكل من أشكال الفيروسات التي يمكن أن تكون جيدة بشكل وسيئة بآخر. في حالة العلاقة بين المضيف والطفيليات، هو مجرد التطور الدارويني في العمل. إنها ليست جيدة أو سيئة. الأمور كما أراها. إذا كنا نستطيع مقارنة الأفكار بالفيروسات، بالتالي لا نستطيع أن نصفها بالجيدة أو السيئة، حتى من ناحية أخرى بالصحيحة أو الخاطئة. هذا من شأنه يؤدي إلى استنتاج مفيد: إن جميع الأفكار تتطور على أساس نجاح نشر التكاثر الصافي بينهم. وبعبارة أخرى قدراتهم على الانتشار ومعدلات بقائهم على قيد الحياة.
ويمكن تفسير العلوم الطبيعية من خلال الإلحاد أو الإيمان بالله، ولكنّه لا يتطلب أي من هذه التفسيرات.
وإذا اعتبرنا أنّ كلّ الأفكار هي فيروسات فإنه من المستحيل التفريق بين الإلحاد والإيمان بالله على قواعد علمية. آلية النشر المقترحة لا تسمح بتقييم استحقاقهم الفكريّ والمعنوي. الأدلة ليست بحاجة لا للإيمان بالله ولا للإلحاد لتستمر. ولكن يمكنها أن تكيف واحداً عن الأخر. قيمة بعض الأفكار يمكن أن تبنى على قواعد أخرى، وإذا كان ذلك ضروريا، فهذه القواعد يجب أن توجد خارج نطاق المنهج العلمي.
ولكن، أين سنجد أدلة تجريبية لفرضيات «فيروس العقل»؟ في العالم الواقعي، الفيروسات ليست معروفة فقط من خلال أعراضها، يمكن كشفها بعد إخضاعها لتحقيقات تجريبية صارمة وبنيتها الجينية توصف في غضون دقائق. في المقابل «فيروس العقل» ليس سوى افتراض. هذا الافتراض يستند إلى حُجّة قياسية مشكوك فيها، وليس على الملاحظة المباشرة، وإنه بالضبط مفترى من وجهة نظر تصوري على قاعدة السلوك الذي يقترحه داوكنس. هل لدينا إمكانية مراقبة هذه الفيروسات؟ ما هو هيكلها؟ موقعها في جسم الإنسان؟ والنقطة الأهم لداوكنس: انتشارها، كيفية نقلها؟
يمكننا أن نلخص هذه الأسئلة في ثلاثة موضوعات عامة:
1 - الفيروسات الحقيقية هي مرئية، على سبيل المثال، تحت المجهر. الفيروسات الثقافية والدينية الخاصة بداوكنس هي مجرد فرضيات. لا يوجد أيّ دليل يمكن ملاحظتها من خلاله.
2 - لا يوجد أيّ دليل تجريبيّ يبيّن أنّ الأفكار هي فيروسات. قد “تتصف” الأفكار في بعض النواحي كما لو كانت فيروسات. ولكن هناك فجوة كبيرة بين التشبيه والهوية، وبما أنّ تاريخ العلم قد تمكن من توضيحه بألم في الماضي، ضلّت أحيانا العلوم بالاستناد على الافتراضات الخاطئة كما لو كانت هوية.
3 - شعار “الله هو فيروس” صالح تماما للإلحاد، هناك رؤية أخرى من العالم أبعد من الأدلة التجريبية. وبطبيعة الحال، يرفض داوكنس إجازته لأنه يعتبر الإلحاد نتيجة حتمية ومناسبة للمنهج العلمي السليم بالنسبة له. ولكنّ هذا ليس هو الحال. ويمكن تفسير العلوم الطبيعية سواء من خلال الإلحاد أو التوحيد؛ لكنّها لا تحتاج إلى أيّ من هذه التفسيرات.
4 الدين سيء:
أخيرا، أودُّ أن أتوجه نحو أطروحة أساسية تتخلّل جميع كتابات داوكنس: إنّ الدين هو سيّئ في حدّ ذاته، ويؤدّي إلى أشياء سيّئة أخرى. ومن الواضح أنّ كلّ هذا من الأحكام الفكرية والأخلاقية. أولا، يرى داوكنس الدين سيّئاً لأنه قائم على الإيمان ممّا يلغي كلّ شروط التفكير البشريّ. لقد رأينا بالفعل أنّ هذا الرأي موضوع مناقشة، ولا يمكن أن يستمرّ في ظلّ وجود أدلة.
المنظورة الأخلاقية هي بالطبع الأكثر أهميّة. إنّ الجميع سيتفق حينها على واقع أنّ بعض المتدينين يفعلون أشياء غريبة جدّاً. ولكنّ إدخال هذه الكلمة الصغيرة “بعض” إلى براهين داوكنس يُخفِّف فورامن تأثيرها. استعمال هذا المصطلح يؤدي إلى سلسلة من الأسئلة النقدية. كيف؟ تحت أيّ ظروف؟ على أيّ موجة؟ كما تفرض سؤالاً مقارناً: كم شخصاً ضد الدين يتصرفون بغرابة أو يقومون بأشياء غريبة؟ في البداية، مع طرح هذا النوع من الأسئلة، فإننا نهرب من إغراء هذه الهجمات الرخيصة للمعارضين لافكارنا ويضطر المرء للتعامل مع الصدق في بعض الجوانب المظلمة والمثيرة للقلق في الطبيعة البشرية.
إذا، خلال عصر معين، كان منظوراً أنّ الدين نوع من الأمراض، وعقب خطى “سيغموند فرويد”(Sigmund Freud)، اليوم هذا المنهج يقل بسبب تزايد الأدلة التجريبية تاركة عدة إجابات (ولكن ليس بطريقة منهجية). إن مختلف أشكال الدين قد تكون مفيدة للإنسان. بالتأكيد بعض أشكال الدين يمكن أن تعتبر مرضاً ومدمرة في الوقت ذاته. بعضها الآخر يبدو مفيداً. بالطبع، هذه الشهادة لا تسمح لنا بأن نستنتج وجود الله. ولكن تشكل ركيزة أساسية من داوكنس الصليبية الملحدة، وهذا هو قول معتقداتها الأساسية، مؤكداً أنّ الدين هو شيء سيّئ بالنسبة للبشر.
ويظهر الاستطلاع في عام 2001 على 100 دراسة علمية حول العلاقة بين الاختيار الديني والرفاهية:
-79 دراسات تفيد على الأقل بوجود علاقة إيجابية بين الدين والرفاهية.
- 13 دراسة لا تحدّد أيّ ارتباط معين بين الدين والرفاهية.
- 7 دراسات تجد جماعات معقدة بين الدين والرفاهية.
- دراسة واحدة تكشف وجود ارتباط سلبيّ بين الدين والرفاهية.
كلّ رؤية العالم لداوكنس تعتمد على هذه العلاقة السلبية بين الدين ورفاه الإنسان، حيث أكدت بشكل واضح بنسبة %1 فقط من النتائج التجريبية، وكذلك دحضت بصراحة %79منها.
هذه النتائج جديرة بتوضح نقطة واحدة: نحن بحاجة إلى معالجة هذه المسألة في ضوء شهادة علمية، والتحيزات ليست شخصية. لا أود أن اقترح أن فكرة هذه الشهادات تثبت بوضوح أن الإيمان هو جيد للرجل. حتى مناقشة أنّ هذا يدلُّ على وجود الله، ولكنّ شيئاً واحداً، وبالتأكيد، لداوكنس، فيبدو أنّ العالم يقوم على الاعتقاد الأساسيّ بأنّ الإيمان هو سيّئ بالنسبة للرجل، الموقف يصبح محرجاً. وهذا الرأي لا يمكن الدفاع عنه في ضوء الأدلة. هل الدين يكون سيئاً للإنسان؟ أين الأدلة؟ هذه الفكرة تتلاشى حالياً بشكل متدرّج في الهواء بقوة من يثبت العكس.
لداوكنس، المسألة بسيطة: هل تعطون أهمية أكبر للصحة أم للحقيقة؟ بما أنّ الدين باطل، فإنه من غير الأخلاقي أن نكون مؤمنين، بغضّ النظر عن المكتسبات. ولكنّ حجج داوكينس بشأن زيف الإيمان بالله لا تصمد. وربّما هذا هو السبب في انها كاملة من حجّة إضافية: الدين سيئ بالنسبة للبشر. آفة متزايدة من الأدلة بشأن الرفاه التي تأتي من رجل الدين تصبح محرجة بالنسبة له. هذا لا يجعل حجة الوظيفية الرئيسية سيئة للإلحاد، ولكن في الوقت ذاته تثير أسئلة مقلقة جداً عن صحة هذا البرهان
الاستنتاج:
في هذه المقالة، ناقشت الانتقادات الرئيسية لداوكنس التي أثيرت ضد الدين بشكل عامّ، وخصوصاً ضد المسيحية. أنا لم أعرض حجج داوكينس، ولا إجاباتي على نحو شامل، على أمل أن تكون بدايتي الملخصة قد ساعدت القراء في الحصول على فكرة عن رهانات النقاش. استنتاجي هو بسيط، وأعتقد أنه أيضاً من غيرنزاع. داوكينس يدعم أنّ العلوم الطبيعية تقودنا إلى الإلحاد، وهذا من خلال الإطلالة غير الشرعية للمنهج العلمي، والتي لم تتلق أي رصيد من المجتمع العلمي أيضاً. هذا الرأي يستحق أن يتواجه مع السير بيتر مدور، الذي حصل على جائزة نوبل في الطب في السنوات القليلة الماضية. وقال هذا الأخير: “إن وجود حدّ للعلوم تثبت بعدم قدرة هذا الأخير على الاجابة عن الأسئلة الابتدائية الصبيانية المتعلقة مع أحداث البداية والنهاية، أسئلة من هذا القبيل على النحو التالي: لماذا نحن هنا؟ ما هو معنى الحياة؟” وأنا أزعم أن بداية الذكاء العلمي هو استكشاف علمي ومحترم لحدود هذا الذكاء.
في الواقع، العلوم الطبيعية هي طيعة فكرياً، عرضة لتفسيرات شتّى، سواء كانت توحيدية، تكفيرية أو ملحدة. النقاش الكبير الذي يعارض الإلحاد ويدعو إلى الإيمان بالله لا يمكن ان يحل من خلال العلوم الطبيعية. داوكنس هو شخص مفوض لقراءة الطبيعة. واحد من الاكتشافات، منذ سنوات، وأنا مواصل على اعتباره كفكر قويّ وروحيّ، يعرف بـ “السماوات تروي مجد الله”.
--------------------------------------
[1]*ـ كاهن إيرلندي يحمل الدكتوراه في علم اللاهوت.
العنوان الأصلي: L'évolution a-t-elle éliminé Dieu?
المصدر: www. scienceetfoi. com/evolution-elimine-dieu-atheisme/
ـ ترجمة: ع. شعيتو، مراجعة هيئة التحرير.