الباحث : نبيل علي صالح
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 7
السنة : السنة الثالثة - ربيع 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث : May / 9 / 2017
عدد زيارات البحث : 2034
تتناول هذه المقالة الإلحاد بما هو ظاهرة تاريخية في الفكر الغربي، وتحاول أن توضح الأسباب الموضوعية والذاتية التي أدت إلى ولادة هذه الظاهرة.
وسعياً إلى هذه الغاية يعمل الكاتب على إجراء مقاربة نقدية للمضمون الفكري للإلحاد، والثغرات المنطقية التي تصور منظومته المعرفية على المستويين التاريخي والفلسفي.
المحرر
يقوم الإلحاد من الناحية الفكرية على الشكّ واللاّيقين، والإيمان بأصالة المادة، ونسبية الأشياء.. بمعنى الاعتقاد بالواقع الموضوعي العيني الحسي الخارجي الملموس والمرئي، في مقابل اتجاه آخر يؤمن بأصالة الروح كاتجاه مثالي في التفكير والسلوك.. والإلحاد ـ كاتجاه مادي أو كمدرسة في التفكير والاعتقاد والمنهج ـ ليس حالةً فكرية جديدة أو تياراً أو مذهباً حديثاً في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، فقد نشأت منذ البواكير الأولى للحضارة العربية الإسلامية تيارات واتجاهات مادية (دهرية) صرفة، وظهرتْ أيضاً كثير من الحركات والنخب الفكرية الرافضة للدين ولعموم الثقافة الدينية، ومنذ العصر الجاهلي (بحسب التقسيمات التاريخية الدارجة المعروفة عن التاريخ العربي الإسلامي) بدأت تثار مثل هذه الأفكار المادية، وقد دخل القرآن مع أتباع هذا الخط (ممن أنكروا اللَّه والمعاد) صراعاً فكرياً، كما نلاحظه في قوله تعالى الذي يشرح فيه طبيعة الفكر الدهري (الإلحادي): ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْر﴾(سورة الجاثية: 24).
ولاحقاً اتسع نطاق تلك الحركات والتوجهات أو الاتجاهات الفكرية، مع توسُّع حركة الفتوحات الإسلامية باتجاه مدائن وأمصار وحضارات جديدة، حيث إنّ الحضارة العربية الإسلامية لم تكن مقفلة أو مغلقة على ذاتها وأفكارها بل كانت حضارة تبشيرية دعوية (إذا جاز التعبير)، انطلق أتباعها في الآفاق لفتح البلدان والأقاليم، فحدثَ الاحتكاك والتفاعل والتمازج والتلاقُح الفكري والرّوحي مع تلك الحضارات التي لها أفكارهُا وعقائدها وعاداتها وتقاليدها المختلفة (شكلاً ومضموناً) عن حضارة العرب والمسلمين.. وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التفاعل، والتوسع الكبير في حركة النقل الحضاري المتبادل، والتأليف والترجمة، ونشر العلوم الكلامية والمنطقية والفلسفية خاصة خلال عهد الخليفة المأمون في العصر العباسي، كانت نتيجته ظهور أفكار وافدة جديدة (عقدياً وكلامياً) مخالفة للسائد من الأفكار الدينية المتوارثة المعروفة، عرف أصحابها في وقتها بالدهريين أو بالزنادقة[2] ( أصحاب بدع)، وهم فئة تنزع للتشكيك والمجادلة والسفسطة، ورفض القناعات والاعتقادات التقليدية السائدة على مستوى المعرفة الدينية خصوصاً..
وقد تطورت تلك الحركات في فكرها ومعرفتها، وباتت تستند إلى ما تعتبره «حقائق علمية» تؤيد وجهة نظرها، في رفض مبدأ الخلق، والعلة الأولى، والاعتماد على العقل والتجربة وحدها في الوصول إلى المعرفة والحقيقة. أي إنّه حدث غياب للاعتقاد بأنّ الآلهة موجودة، وهذا يتناقضُ مع فكرة الإيمان بالله أو الألوهية، إذ إنّ مصطلح الألوهية يعني الاعتقاد بأنه يوجد على الأقل إله واحد..
وتبلور مصطلح الإلحاد عقب انتشار الفكر الحر واللا يقين الفكري والتشكيكية العلمية، وتنامي نشاط التيارات الفكرية في نقد الأديان. حيث مال الملحدون الأوائل إلى تعريف أنفسهم باستخدام كلمة «ملحد» في القرن الثامن عشر في عصر التنوير. وشهدت الثورة الفرنسية أول حركة سياسية كبرى في التاريخ للدفاع عن سيادة العقل البشري فضلاً عن تيار من الإلحاد لم يسبق له مثيل[3].
أما بخصوص معنى الإلحاد والملحدين في مجالنا الثقافي والحضاري الإسلامي، فنقول إنّ الثقافة العربية الإسلامية كانت وما زالت تعتبر أن العلوم الدينية (بأشكالها المتعددة: فقه وحديث وقرآنيات وتاريخ سير وتراجم، وعلوم الأمر والنهي وغيرها) هي العلوم الوحيدة التي تحوز الغطاء الشرعي الديني وتحظى بـ «المقبولية» المجتمعية (إذا صح التعبير)، بينما العلوم العقلية والفلسفية والكلامية القائمة على التأمل والتفكر والجدل والشك والنظر، بقيت بعيدة عن القبول المجتمعي العام، بل شكلت مصدرَ إزعاج للسلاطين والفقهاء وعموم أرباب الشعائر الدينية الظاهرية، ولهذا انتقدوها وواجهوها، وحاربوا أصحابها وأتباعها بشدة، واعتبروها ـ في كثير من الأحيان ـ خروجاً (ومروقاً) على الدين الإسلامي الذي كانوا يعطونه تفاسير وشروحات بعيدة عن العقل والاجتهاد العقلي والحكمة الفلسفية..
وعلى سبيل المثال لا الحصر، نقلت (وذكرتْ) كثيراً من متون ومصادر التاريخ أنّ «شيخ الإسلام ابن تيمية» قال عن المنطق، وهو أحد فروع المعرفة العقلية: «أنّ فيه من شغل القلب عن العلوم والأعمال النافعة ما ضرّ كثيراً من الناس، كما سدّ على كثير منهم طريقَ العلم، وأوقعهم في أودية الضلال والجهل»[4].
وهكذا فالثقافة الدينية (الرسمية والعامة) في مجتمعاتنا لا تزال تنظر نظرة سلبية لكل العلوم العقلية (في وقت تقدس العلوم النقلية).. فما بالك بفكرة الإلحاد ذاتها التي ترفضها وتواجهها بشدة، بل هناك تشريعات وقوانين قضائية تجرّم «الملحدين» إذا ما أعلنوا الكفر البواح، وقد يصل حكمهم إلى الإعدام والقتل..
لكن أود هنا أن أفرّق وأميز بين عدة مفاهيم أو طروحات تدور حول موضوع «الإلحاد»، وتشرح بعض التباساته الفكرية العملية:
أولاً- مفهوم «اللادينية»، كرؤية سياسية وفكرية «دنيوية» يؤمن بها الكثير من الناس والسياسيين والأحزاب الوضعية العلمانية، تقوم على «الحيادية» تجاه الأديان، والقول بالفصل العملي بين الديني والدنيوي، ورفض أن يكون للدين أي دور مباشر أو غير مباشر في واقع السياسة للدول والمجتمعات، أو أي تأثير سياسي (وقيمي) في الدولة ومؤسساتها وإداراتها.. أي ترفض هذه الرؤية أية وصاية قدسية أو إرادة عليا دينية أو مرجعية للدين (ورجالاته ودعاته ورموزه) في حياة الإنسان العملية القانونية والوضعية الدنيوية، وتؤمن بحق هذا الإنسان في رسم حاضره ومستقبله، واختيار مصيره بنفسه دونما اعتبار لشيء إلا للعقل والعلم والقانون..
طبعاً، هذا التوجه ليس عبئاً على الدولة، بل هو من حق أتباع (وأصحاب) هذه الرؤية الفكرية والسياسية التي بات لها مؤيدون كثر حتى في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ولهم كامل الحرية في تبنيه، والدعوة إليه بطبيعة الحال في إطار الدولة المدنية القانونية العادلة التي تفصل الديني عن السياسي، دونما إساءة للدين ولا تقديس للسياسة. يعني: (عدم تديين السياسة، وعدم تسييس الدين).
ثانياً- الإلحاد كحالة إنكار لوجود اللَّه قطعياً، أي كقناعة وإيمان بعدم وجود علّة (غير مرئية) خالقة للوجود والكون والحياة.. طبعاً بعض الملحدين ينكرون وجود اللَّه نهائياً، وبعض الملحدين يكتفون بعدم الإيمان به دونما دخول في تفاصيل ومواجهات. وقد أصبح هذا النمط من (الإلحاد) هو الدين الرسمي المنصوص عليه في كثير من دساتير البلدان الغربية، ويعبر عن ذلك (بالعلمانية) تارة، (واللادينية) تارة أخرى، وكل ذلك يعني ترك الدين كحالة فردية خاصة بين الفرد ومعبوده حتى لو كان وثناً. فالحرية عندهم أقدس من الأديان.
ثالثاً- اللاأدرية[5].. وهي عبارة عن توجُّه فلسفي شكّي، يعتبر أنّ القيمة الحقيقية للقضايا الدينية أو الغيبية غير محددة، وغير ذات معنى.. وربما لا يمكن لأحد تحديدها أو تأطيرها عقلياً، لأنها من نوع المعنويات والغيبيات غير المنظورة وغير الخاضعة للمقياس العلمي الحسي المعروف. فقضايا مثل «وجود الله» أو «الذات الإلهية» أو «الآخرة» بالنسبة إليهم، هي موضوع غامض كلية لأنه غير مرئي وغير محسوس، ولا يمكن تحديده في الحياة الطبيعية (العضوية) للإنسان.. أي إنّ «اللا أدري» لا ينفي ولا يؤكد وجود الله.
وبالرغم من أنه نوع من الإلحاد. فالإلحاد يدعي أن اللَّه غير موجود. بينما يدعي مذهب اللاأدرية بأنه لا يمكن إثبات وجود الله، ولكن ـ في الوقت نفسه ـ لا توجد طريقة لإثبات عدم وجوده. ومن هذا المبدأ يصح القول بأن «اللاأدرية» أكثر صحة ودقة من الإلحاد الذي هو موقف حدي غير عقلاني وغير علمي حتى برغم ادعائه العقلانية والعلمية، لكونه بعيد عن الحيادية في الأمور التي لا طريق منهجية له إليها.
ليس هناك سبب واحد للإلحاد، بل أسباب عديدة اجتماعية وسياسية وربما ذاتية، دفعتْ باتجاه تبني هذا الخط من قبل بعض الناس، وتحولّه لدى أتباعه إلى ما يشبه المنهج والظاهرة الفكرية، مع أنه لم يتظهّر على هذا النحو المعرفي إلا مع طروحات الفلسفة المادية الماركسية التي كان لها ـ على هذا الصعيد ـ عمق فكري تأصيلي، ورؤية فلسفية استقتها ـ كما زعم أصحابها ـ من انتصارات العلوم التجريبية المادية التي تحققت خلال القرن العشرين.
وبالعودة تاريخياً إلى الوراء في المجال الحضاري والمجتمعي الغربي، للبحث في مسبّبات هذه الظاهرة، أمكننا القول إنّه كان للكنيسة الغربية التي هيمنت على الحياة الخاصة الفردية والعامة المجتمعية هيمنةً كلية ومطلقة، الدور الأهم في انتشار الاتجاهات الرافضة للدين ولمجمل التفكير الديني، والتي وصلت إلى حدود الإلحاد، وانتشار الأفكار والرؤى اللادينية، وعدم القناعة بوجود اللَّه أو الخالق... فالكنيسة القروسطية أدخلتْ نفسها (من خلال قساوستها ورهبانها ونصوص كتبها الخلاصية) في متاهات الخرافات والخزعبلات والأساطير بعدما تجمّدتْ على أفكار قديمة اعتبرتها غير قابلة للتأويل، بل جعلتها أفكاراً وعقائد دينية مقدّسة، كرفعهم النبي عيسى من مرتبة البشرية إلى مصاف الآلهة، وظهور فكرة الخطيئة، والصلب، والخلاص، وأضافوا إلى ذلك كثيراً من الأفكار الخرافية التي كانت عبارة عن آراء لهم حول قضايا ومسائل علمية لا علاقة للدين بها (كعلم مادي تجريبي)، حول أصل (ومنشأ) الأرض والكون والحياة، قوانين رياضية وفلكية، ووو.. إلخ.. وعندما بدأ عصر النهضة الأوروبية، واكتشف كثير من العلماء حقائق جديدة عن طبيعة (وماهية) الأرض والكون والحياة (مغايرة لآراء الكنيسة ومناقضة لأفكارها)، هب الرهبان والقساوسة ينكرون ذلك، ويتهمون من يعتقد بالحقائق الجديدة (ويصدق بها) بالكفر والزندقة وإنكار الحقائق الدينية المقدسة، بل كانوا يوعزون إلى السلطات الحاكمة بتجريمهم ومحاكمتهم وقتلهم وصلبهم وحرقهم بالنار، ولقد لقي كثير من العلماء هذا المصير المؤلم جزاء مخالفتهم لآراء الكنيسة، وكلنا قرأنا عن محاكم التفتيش القروسطية التي قيل بأنّه قُتل فيها على مدار بضعة عقود مئات آلاف الأبرياء[6]..
ولكن حركة العلم المتدفقة كنهر جارف لم تهدأ أو تتوقف، بل تواصلت بقوة وعنفوان، واستطاع العلماء ـ من خلالها ـ أن يثبتوا وجودهم، ويقدموا كل يوم مكتشفات ومخترعات ووقائع علمية مثبتة حديثة وبراهين جديدة على نظرياتهم العلمية، ومعادلاتهم الرياضية في شتى مجالات حركية الفعل الإنساني والطبيعي، وابتدأتْ آراءُ الكنيسة ومعتقداتها تتلقى الضربات العلمية القوية واحدةً تلو أخرى، وتتعرضُ في كل يوم لانتكاسة وهزيمة جديدة، وكانت قصب السبق والفوز في النهاية لعلماء المادة (والعضويات والإنسانيات) على رجال الكهنوت الكنسي الرث والمتبلّد، فاندفع الناس نحو الإيمان بالعلم المادي المرئي المحسوس، كإله جديد سيحمل لهم الرخاء والقوة والرفاهية والسعادة[7].. وفتش الناس أسرار الكنيسة فهالهم ما رأوه من فساد أخلاقي بين الرهبان والراهبات، وأرادوا التخلص إلى غير رجعة من السلطان الكهنوتي والقهر الزمني الذي مارسته الكنيسة ضدهم، ومن الإتاوات والضرائب التي فرضها رجالاتها على رقابهم تحت كم هائل من المفاهيم والشعارات الدينية، فكان الرفض الكامل لكل المعتقدات الدينية والكراهية العامة لكل عقيدة تنادي بالإيمان بالغيب، واتهام الرسل جميعاً بالكذب والتدليس، وهكذا برزت الموجة الأولى من موجات الإلحاد العالمي.. بخاصة أنّ العقل الأسطوري الذي هيمن على التفكير الديني القروسطي فجّر الدين من الداخل، وفرض على الناس أنماطاً قاسية ومعقدة للعيش الوجودي من الخارج... دمّرت اجتماعهم وبيئتهم الفكرية والعملية، وسحقت إمكانيات العيش الطبيعي التوافقي عندهم..
وهذا العقل الأسطوري أنتج مفاهيم وشبكات كلامية تأويلية على شكل خطاب ديني غيبي بعيد عن الفهم والقبول الذهني الإنساني، حيث الغوص في القصص والحكايات والروايات وسرديات الأحداث الدينية التاريخية غير الثابتة التي تروي معجزات وحكايا تتناقض مع القوانين والنواميس الكونية الراسخة والثابتة التي وضعها اللَّه في هذا الوجود، مما دفع بعضهم إلى اتباع وسلوك أحد أمرين أو طريقين، إما أن يعيش بتناقض ذاتي صارخ بين عالم النظرية (حيث الدوران في فلك النصوص والتواريخ والتفاسير الغيبية) وعالم الواقع (حيث الثوابت والقوانين التي يراها أمامه)، وإمّا أن يكفر بكل تلك المرويات صحيحها وضعيفها حتى ما ثبت منها في الكتب والنصوص والأحاديث، خاصة مع وجود طبقات من رجالات الدين العاجزين عن تبيان الحقائق وتأويل النصوص والاجتهاد العقلاني..
من هنا كان اندفاع الناس لخيار رفض الدين أو الفكرة الدينية، واتباع بعضهم لطريق الإلحاد، وهو ربما يأتي بمثابة ردّ فعل نفسيّ ضد هذا التخلف وهيمنة حالة جمود الفكر الديني، ورفضه القبول بتطورات الحياة والعصر، وطغيان هذا التشدد الديني والاجتماعي، الذي وصل حدود الإجرام والقتل وسفك الدماء.
لقد ربى هذا الفكر الديني الظاهري المغلق والمتشدّد مجتمعات الغرب –واليوم نسير في مجتمعاتنا العربية والإسلامية على السبيل والمنوال ذاته- على العيش في منغلقات فكرية تقليدية ثابتة مقدسة، ولكن لاحقاً انكشفت مضامينه على حقيقتها بعدما رفع العقل العلمي التنويري الغطاء عنها، وعرّضها لأنوار العقل الحداثي وشمس الحقائق الكونية، مميطاً اللثام عن زيفها وهشاشتها وعدم فاعليتها التجديدية لمواكبة التطورات البشرية المتسارعة..
لكن المشكلة استمرت، وهي نفور كثير من الناس من الدين والتدين، نتيجة التطرف والجمود، واستمرار عقليات وسلوكيات والاستبداد الديني، حيث إنّه حينما يكون الدين خاضعاً لسلطة دينية مقدسة ومستبدة (ستُوظَّف حتماً بوصفها ورقةً داعمة للاستبداد السياسي)، فإن هذا قد يدفع الشخص لاتخاذ موقف سلبي (شبه دائم) من الدين نفسه..
وفي مجالنا العربي لاحظنا ـ في الفترات الزمنية المتأخرة- تزايدَ أعداد ونسب الشباب الرافضين للدين، ممن قد تصل الأمور معهم حدود الإلحاد، وأنا لا أستطيع أن أحمل هؤلاء مسؤولية السير في هذا الخيار الفكري أو النفسي أو الاجتماعي، في ظل هيمنة التسييس الديني، والتطرف الإسلامي، ورفض كثير من رجالات الدعوة الإسلامية الإجابة عن الأسئلة المشروعة للعقل الناجمة عن تنوعات الحياة ومتغيراتها، ونهي الشباب بل زجرهم عن مجرد التفكير فيها، في حين أن عقلية الشباب اليوم لا يمكن أن تقبل بمثل هذا النهي والزجر، ولا أن تقبل أن يفرض عليها أحد قواعد مسبقة لمساحات التفكير والأسئلة الممكنة والمتاحة، مما ولَّد الشك والنفور والرفض في نفوسهم، وربما قادهم إلى طريق الإلحاد شيئاً فشيئاً، من باب أنّ أسلوب الترهيب من مغبة التفكير والتساؤل في مثل هذه الأمور قد ولَّد وللأسف ردّ فعل عكسيّاً في هذا المجال، وبدلاً من أن تحميهم قادتهم إلى دوامة اللا يقين والشك والإلحاد.. وبالتالي هذه البيئة الدينية القائمة على منطق الزجر والقمع ورفض إثارة الأسئلة والشكوك، يجب تغييرها لتتعامل بأريحية واقتدار فكري واجتماعي ونفسي مع الجيل الجديد الذي لديه الكثير من التساؤلات العقلية الشبابية الملحة حول الذات الإلهية، وحقيقة الخلق وأصل الوجود وغيرها (ما نسميها بأسئلة الخَلْق الأولى)، وكذلك عدم توافر متخصصين أكفاء أصلاً في هذا الجانب بالقدر الكافي في ظل تزايد أعداد الفقهاء والوعاظ التقليديين الذين تقتصر أنشطتهم ومواعظهم وبياناتهم الفكرية الخطابية على التشدد في مسائل الافتاء الخاصة بالحلال والحرام، وعلى الحديث، واجترار المألوف والأليف الذي يخاطب الأحاسيس ويدغدغ المشاعر ويجيّش العواطف، ويفجّر المواقف أكثر من مخاطبته العقول والقلوب الواعية المسؤولة عن محدداتها والتزاماتها الإيمانية. وزادَ بعضهم أنّ الخطابَ الدّيني قد أضحى اليوم برمته خطاباً بائساً ينتصر للنقل على حساب العقل[8].. وربما يستطرد بعضهم في الحديث عن أسباب الإلحاد الذي بدأ يتفشى في مجتمعاتنا ليوجه التهمة إلى طبيعة الثقافة الغربية كثقافة مادية، تميل بطبيعتها للإلحاد وإنكار وجود الذات الإلهية عموماً، وكذلك قراءة الكتب والمواقع الالكترونية الإلحادية دون وجود أسس عقيدية إسلامية صحيحة مما جعل هؤلاء الشباب ـ كما يُعتقد ويُظن ـ لقمة سائغة للوقوع في فخ الإلحاد، وبراثن اللادينية، خاصة وأن نوعية المناهج التربوية والتدريسية في المدارس، وخصوصاً في مراحلها الأولى، لا تضع الأسس الكافية للعقيدة الراسخة الصحيحة.
وأما من الناحية الفلسفية فلا شك في أنه كانت هناك لحظة تاريخية مفصلية رأينا فيها بروزاً واضحاً للفكر الإلحادي كاتجاه معرفي ـ فلسفي، وهي القرن الثامن عشر الذي شهد حملة فكرية مناهضة للدين في معظم فعليات ومواقع واتّجاهات الثّقافة الأوروبية. حيث جاء ظهور الفكر الإلحادي المناهض للدين مع لحظات تراجع الفلسفة وانحطاطها لا لحظات تطورها وازدهارها.. فلحظة سقراط وأفلاطون وأرسطو ـ التي هي حسب غالبية المؤرخين والفلاسفة ـ لحظة سمو الوعي الفلسفي اليوناني، هي لحظة إيمان واعتقاد، وإذا أردنا أن نقف على لحظات استعداء الدين، فيجب أن ننتقل إلى لحظة خريف الفلسفة الإغريقية، أقصد لحظة أبيقور صاحب الأسئلة الإلحادية الشهيرة المرتكزة على إشكالية وجود الشر في العالم[9].. وكذلك الشأن فيما يخص تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة، فالقرن السابع عشر قرن عملاق في صيرورة تطور الفكر الفلسفي الأوروبي، قرن ديكارت ومالبرانش وسبينوزا ولايبنز... وهم فلاسفة مؤمنون ومعتقدون، حتى سبينوزا ـ الذي كان حلولياً ـ فهو في نزوعه الفكري والفلسفي يتسم بنزوع اعتقادي ديني عميق.. وعند بحث المحصول الفلسفي للقرن الثامن عشر (لحظة انبثاق الفكرة الإلحادية كفلسفة) سنلاحظ أنه قرن قزم، وعطاؤه الفلسفي لا يستحق الذكر؛ فإذا استثنيت إيمانويل كانط ـ وكما هو معلوم فيلسوف مؤمن بل شديد التدين برغم أن فلسفته ستوظف لاحقا لدعم النزعات التشكيكية والإلحادية ـ لا تجد في هذا القرن أي قامة فلسفية تستحق التنويه، ففولتير وروسو ومونتيسكيو... هم أدباء متفلسفون، لا فلاسفة بحصر المعنى. فلو عايرت كتبهم بمعيار الصناعة الفلسفية لن تجد فيها ما يستحق التنويه، والإسهام المعرفي لهؤلاء الأدباء المتفلسفين كان إسهاماً في الفلسفة السّياسية، خاصّة في نظرية العقد الاجتماعي وفصل السلطات. أما الصناعة الفلسفية الثقيلة، كالمنطق ونظرية المعرفة والرؤى الأنطولوجية (رؤى الوجود) فلا نجد لديهم إلا رؤى مكررة.. كما جاءت فلسفة أوغست كونت في تلك الفترة لتكون فلسفة معادية للدين، حيث يحتل العلم عنده موقع التتويج في السياق العام لهذا التطور، ويتحدد باعتباره مؤشراً على نضج البشرية، واكتمال نموها العقلي، وذلك بفعل تطورها وانتقالها من المرحلة اللاهوتية (حيث كان التفكير يفسر ظواهر الطبيعة بعوامل ما ورائية مفارقة للمعطى الطبيعي) إلى المرحلة الميتافيزيقية (حيث صارَ التّفكير في لحظة مراهقته يفسر ظواهر الطبيعة تفسيراً ماهوياً فلسفياً)، حيث يدرس العلاقات السببية الرابطة بين الظواهر دراسة علمية، تخلص به إلى بناء قوانين منسوجة في لغة علمية، بهدف إحلال النموذج العلمي التجريبي، وجعله مهيمناً وسائداً على جميع حقول المعرفة.
وربما كان الفكر المادي الماركسي أبرز اتجاه فلسفي ظهّر الإلحاد كفلسفة وضعية علمية ذات امتدادات وقواعد وبنى علمية رصينة ومعيارية كما كان يعتقد.. فجوهر الوجود وفقاً للفلسفة المادية يتقوّم بالمادة فقط، والعالم المادي الذي تدركه حواسنا، والذي ننتمي إليه نحن أنفسنا، هو الواقع الوحيد القائم، ولا واقعاً آخر غيره. أما إدراكنا وفكرنا فهما ليسا أكثر من نتائج «عضو مادي» جسدي هو الدماغ. أي إنّ «المادة» ليست من نتاج العقل، بل العقل هو نفسه ليس سوى نتاجاً للمادة الأرقى.. ويعرف لينين المادة بكونها موجوداً مستقلاً عن الشعور والإدراك. فهي الواقع الموضوعي خارج الذهن. وترى المادية أنّ الواقع لم يخلقه إله أو إنسان، وإنما له وجود ذاتي، وبالتالي تنفي المادية كل التصورات المثالية التي تقر بوجود روح خلقت العالم. وبكلمة أوضح تنكر المادية عالم الغيب، وتقرّ في مقابل ذلك بإمكانية معرفة العالم مادام خاضعاً للحواس والتجربة. وليس في العالم أشياء لا يمكن معرفتها، وإنما فيه أشياء لا تزال مجهولة، وهي ستنكشف وتصبح معروفة بوسائل العلم والعقل، هذا على المستوى الطبيعي.
أما على مستوى المجتمع، فيلخص كارل ماركس المادية التاريخية في كتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» بقوله: «إنّ الناسَ أتناءَ الإنتاجِ الاجتماعي لمعيشتهم يقيمون فيما بينهم علاقات معينة ضرورية مستقلة عن إرادتهم وتطابق علاقات الإنتاج، هذه درجة معينة من تطور قواهم المنتجة المادية، ومجموع علاقات الإنتاج هذه يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع، أي الأساس الواقعي الذي يقوم عليه بناء فوقي حقوقي وسياسي، وتطابقه كذلك أشكال معينة من الوعي الاجتماعي. إن أسلوب الإنتاج الحياة المادية يكيّف تفاعل الحياة الاجتماعي والسياسي والفكري. بصورة عامة فليس وعي الناس هو الذي يحدد معيشتهم، بل على العكس من ذلك معيشتهم الاجتماعية هي التي تحدد وعيهم... فتغيير الأساس الاقتصادي يزعزع كل البناء الفوقي، فكما لا يمكن الحكم على فرد ما وفقاً للفكرة التي لديه عن نفسه، كذلك لا يمكن الحكم على عهد انقلاب كهذا وفقاً لوعيه، فينبغي تفسير هذا الوعي بتناقضات الحياة المادية»[10].. ومن خلال هذا التفسير والتحليل الفكري يتضح ـ بحسب الرؤية الفلسفية الماركسية ـ أنّ الظروف المادية هي التي تحدد وعي الناس وعقائدهم وأسلوبهم في الحكم، وطريقتهم في التفكير، وأخلاقية سلوكهم.. ذلك أنّ البنية التحتية (أي قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، التي هي شروط حياة المجتمع المادية) هي التي تحدد البنية الفوقية (الوعي ـ الأخلاق ـ الفلسفة ـ الفن ـ الدين ـ الدولة..الخ)..
إذاً السّمة المميزة الأساسية لنظرية المعرفة الماركسية هي أنها وضعت عملية المعرفة على أساس الممارسة، ومن نشاط الناس المادي الإنتاجي، ففي مجرى هذا النشاط بالذات يعرف الإنسان الأشياء والظواهر، والممارسة في الفلسفة الماركسية هي نقطة انطلاق أساس عملية المعرفة ومعيار صحة المعارف على حد سواء.
وبعيداً عن الاستطراد المخلّ ببنية هذا البحث، لا نود التوسع في التحليل النقدي لهذه الفكرة، فالبحث هنا ليس مخصصاً ولا مكرساً لهذا التوجه.. إذ يمكنُ العودة لكثير من الدراسات والبحوث النقدية الصّارمة التي استفاضتْ في تفكيك بنية «المادية الديالكتيكية»، وأظهرتْ هشاشتها العلمية فكراً ومنهجاً، وانتصرتْ للعقل والمذهب العقلي.. كما هي الحال مع كتب ودراسات الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رض)، وغيره من مفكري النهضة الإسلامية العقلية الحديثة.
[1]*ـ باحث في الفكر الإسلامي ـ سوريا.
[2]ـ قسم عبد الرحمن بدوي الزنادقة (من حيث الدوافع) إلى ثلاثة أقسام:
-رؤساء (المانوية) في الإسلام المؤمنين بها إيماناً صحيحاً صادراً عن رغبة دينية صادقة.
-طائفة المتكلمين التي تتخذ من الزندقة وسيلة من وسائل اللهو الفكري، وصورة من صور المجون الشقي.
-طائفة الأدباء التي تتخذ من التراث القومي للآباء وسيلة للتفاخر القومي وتزكية للنعرات الشعوبية، ووسيلة للتماسك القومي أمام التراث الوافد. (راجع بدوي، عبد الرحمن. «من تاريخ حركات الإلحاد في الإسلام». مركز نماء للبحوث والدراسات).
[3]ـ موسوعة ويكيبيديا، مادة «إلحاد». الرابط: https://ar.wikipedia.org
[4]ـ ابن تيمية. «مختصر كتاب نقض المنطق». ص175، طبعة مصر لعام 1951م.
[5]ـ بالعودة تاريخياً إلى الوراء، فقد صيغت معادلة اللاأدرية في العام 1869م من قبل توماس هكسلي للإشارة إلى قناعته الخاصة التي تقوم على أنه من المستحيل معرفة العديد من المسائل التي تشملها العقائد الدينية. من هنا انطلقت هذه الفكرة كنهج، وأصبحت سائدة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بسبب الأعداد المتزايدة من البيانات العلمية التي تبدو مناقضة لموقف الكتاب المقدس، وذلك بسبب الخلاف بين علماء دين وسلطات الكنيسة على استخدام النقد النصي والتاريخي في تفسير الكتاب المقدس. وهناك كثير من الفلاسفة تبنوا أو سلكوا طريق اللاأدرية (أو الإيمان المتحفظ عليه) مثل: أوغست كونت، ويليام جيمس، ايمانويل كانط، جورج سانتايانا، وهربرت سبنسر...الخ..
[6]ـ محاكم التفتيش.. وتعني باللاتينية « Inquisitio Haereticae Pravitatis». وترجمتها الحَرْفية: «التحقيق في البدع الهرطوقية» (كانتِ الهَرطقة جريمة عالمية ضد الله، والأمراء، والمجتمع. كونها تمزق الرابطة الاجتماعية).. وقد نشطت دواوين ومحاكم التفتيش (الكاثوليكية) في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وتركزت مهمتها في اكتشاف مخالفي الكنيسة، ومعاقبتهم بأبشع وأفظع العقوبات. بمعنى أن هذه المحاكم كانت بمثابة «سلطة قضائية كنسيه استثنائية» وضعها البابا غريغوري التاسع لقمع جرائم البدع والردة، وأعمال السحر، من القرن الثالث عشر إلى السادس عشر في جميع أنحاء العالم المسيحي.. وقد ميز المؤرخون بين ثلاثة محاكم تفتيش مختلفة، والتي لها بنود مستقلة:
محاكم التفتيش في القرون الوسطى التي تعرض على المحاكم الكنسية من قبل البابا اينوسون الثالث في العام 1199م.
محاكم التفتيش الإسبانية التابعة لملك إسبانيا، والتي تأسست في العام 1478م، واعتمدت عليها محاكم التفتيش البرتغالية، ومحاكم التفتيش في المستعمرات الإسبانية والبرتغالية.
محاكم التفتيش الرومانية (مجمع للمحاكم التفتيش الرومانية والعالمي)، وهي تأسست في عام 1542م، وأعاد (المجمع المقدس للمكاتب المقدسة) تسميتها في عام 1909م.
وقد ألغيت المحاكم في القرن التاسع عشر، واستبدلت بالمجمع المقدس لشؤون العقيدة والإيمان في الفاتيكان. بعدما ذاع صيتها كمؤسسات بشرية عنيفة ومتعصبة، لم تعد تناسب عصور التنوير والحداثة العقلية القائمة على العقل والقانون والحريات الخاصة والعامة.
[7]ـ عبد الخالق، عبد الرحمن. «الإلحاد وطرق علاج هذه الظاهرة». الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الطبعة الرابعة، السعودية/الرياض لعام 1987م. ص: 8.
[8]ـ العبدلي، ساجد. «حول أسباب الإلحاد». صحيفة البيان، تاريخ: 18/8/2012م. الرابط:
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2012-08-18-1.1710560
[9]ـ بوعزة، الطيب. «الإلحاد من منظور فلسفي». مركز نماء للبحوث والدراسات. حوار بتاريخ: 19/7/2012م. الرابط:
http://nama-center.com/DialogueDatials.aspx?Id=11
[10]ـ ماركس، كارل. «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي». ترجمة: راشد البراوي، دار النهضة العربية، طبعة أولى لعام 1969م. ص: 95.