البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مسألة وجود الله ، مناظرة بين ويليام لاين كريغ وبيتر ميليكان

الباحث :  أدار المناظرة : كارل شين
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  7
السنة :  السنة الثالثة - ربيع 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 9 / 2017
عدد زيارات البحث :  2502
تحميل  ( 313.313 KB )
جرت هذه المناظرة في معهد الفلسفة في جامعة برمنغهام بالمملكة المتحدة، ودارت حول قضية قديمة جديدة في عالم اللاهوت والفلسفة عنينا بها، الجدل حول مسألةِ وجود الله.

المتناظران هما البروفسور ويليام لاين كريغ وهو فيلسوف ولاهوتي أميركي، والبروفسور بيتر ميليكان أستاذ الفلسفة في جامعة أوكسفورد، وقد أدار النقاش المؤرخ والكاتب كارل شين الذي كلفته إدارة الجامعة بهذه المهمة المعرفية الشاقة.

ما يلي ترجمة كاملة للتقديم ومداخلات كل من المتناظَرين...

المحرر


لطالما استحوذت مسألة وجود اللَّه على اهتمام الجميع، وكانت من القضايا الأكثر مناقشةً وإثارةً للجدل وتحدياً للعقل. يترأس النقاش هذه الليلة البروفيسور كارل شين (Carl Chinn)، فمن غير الممكن أن نجد من هو أكثر ملاءمة لإدارة حوار في بيرمينغهام (Birmingham) من رجل يتقن لهجة برومي (Brummie) بأصولها. وبالنيابة عن جامعة بيرمينغهام، يسرّني تقديم رئيس جلسة الليلة، البروفيسور كارل شين.

رئيس الجلسة: مساء الخير، وأهلاً بكم في أمسية النقاش هذه كما الحوار أيضاً. أرحب بجميع الحاضرين من خارج جامعة بيرمينغهام إلى قاعة حفلنا المدهشة والفخمة.

نستقبل اليوم مناظرَيْن اثنين، هما البروفسور وليام كريغ (William Craig) والبروفسور بيتر ميليكان (Peter Millican). البروفسور كريغ فيلسوف مسيحي بارز ومدافع عن المسيحية في النقاشات والمحاضرات التي تقام حول العالم، ألّف عدة كتبٍ ومقالات وهو باحث في شؤون الفلسفة في كلية تالبوت اللاهوتية في لاميرادا في كاليفورنيا. والجدير بالذكر أنه حصّل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بيرمينغهام عام 1977، ومنها بدأ بحثه حول البرهان الكلامي الكوني الذي يعتبر ذا أهمية كبيرة بالنسبة لمسيرته اليوم. انتقل بعدها إلى ألمانيا ومن ثم بلجيكا، وهو اليوم مشهور في أنحاء العالم.

أما البروفسور ميليكان، المناظر البارع الآخر في هذه الأمسية، فهو من مناصري الفيلسوف جيلبيرت رايل(Gilbert Ryle) ومذهب الشكوكية، وأستاذ في الفلسفة في كلية هيرتفورد (Hertford) التابعة لجامعة أكسفورد (Oxford) وأستاذ في الفلسفة الحديثة فيها. وقد عمل في جامعة ليدز (Leeds) طوال 20 عاماً في مجال الفلسفة والحوسبة، ويرى تقارباً شديداً بين المجالين. تُعَدُّ اهتمامات البروفسور ميليكان واسعة النطاق، برغم استناده مؤخراً إلى آراء شخص واحد هو فيلسوف من القرن الثامن عشر، السكتلندي والمؤرخ والعالم الاقتصادي وكاتب المقالات، المؤيد لمدرسة الشكّ، دايفد هيوم (David Hume)، وهو معروف بفلسفته التجريبية والشكوكية، ويعتبر من أهم علماء التنوير السكتلندي.

أشكر حضوركم الكثيف مجدداً. اسمحوا لي بأن ّ أدعو إلى المنبر البروفسور كريغ.

الدكتور كريغ: شكراً لكم ومساء الخير. أود أن أبدأ بتوجيه الشكر إلى قسم الفلسفة لدعوتي للمشاركة في هذا النقاش، ويسرني مشاطرة البروفسور ميليكان المنبر الليلة. في خلال السنوات التي قضيتها مع جان (Jan) في بيرمينغهام بينما كنت أعمل على دراسات الدكتوراه، عملنا على التأثير في هذا البلد وشعبه، وأعبر اليوم بصدق عن سروري للرجوع إلى هذه الجامعة والمشاركة في حدث كهذا، فشكراً لحضوركم الليلة.

في نقاش الليلة سوف أدافع عن مزعمين اثنين هما:

الأسباب المقنعة للإيمان بالله.

الأسباب غير المقنعة للإلحاد بالله.

أود أن أعطي الكلمة للبرفسور ميليكان ليعرض براهينه حول الإلحاد بالله قبل أن أباشر بالرد عليها. وفي الخطاب الافتتاحي، أودّ أن أعرض باختصار خمسة أسباب تؤيّد وجود الله. لكوني فيلسوفاً محترفاً، أظن أن وجود اللَّه يبرر حصول معظم أحداث التجربة البشرية بما فيها تلك الفلسفية والعلمية والفكرية والتاريخية والوجودية. ما هي بعض تلك الأحداث؟

نشأة الكون:

هل سألت نفسك يوماً من أين نشأ الكون؟ ولم أيّ من الأشياء موجود؟ بشكل عام، يزعم الملحدون أن الكون أزليّ ولا مسبب له، لكن الأسباب الفلسفية والعلمية المعارضة مقنعة إلى حدّ التشكيك بتلك المزاعم.

من الناحية الفلسفية، تُعتبر فكرة الماضي المطلق فكرةً جدليّةً، فإن لم يكن للكون بداية محددة، ذلك يعني أن عدد الأحداث في ماضي الكون لا متناهية، لكن وجود رقم لا متناه من الأشياء يؤدي إلى أمور ماورائية ومنافية للمنطق. على سبيل المثال، افترض اقتناءك لعدد لا متناه من النقود المعدنية مرقمة بـ 1 و2 و3، وأخذت منك جميع القطع المرقمة بأرقام مفردة، كم منها يبقى معك؟ إذاً يبقى بحوزتك جميع القطع المرقمة بأرقام زوجية، أيّ عدد لا متناه من النقود المعدنية. بالتالي، إذا طرحنا عدداً لا متناهٍ من آخر لا متناهٍ ينتج منه عدد لا متناهياً. فلنتفترض الآن أنني أخذت جميع القطع التي تحمل أرقاماً أكبر من 3، كم يبقى منها بحوزتك؟ 3! إذاً، في الحالة هذه، عدد لا متناه يُنقص منه عدد لا متناه يساوي 3. في كلتا الحالتين، لقد قمت بأخذ عدد لامُتناهٍ من القطع من العدد الرئيسي أي اللامتناهي لكنني وصلت إلى نتيجة متناقضة. في حقيقة الأمر، بالإمكان طرح عدد لامتناه من آخر لامتناه، والحصول على نتيجة تتراوح بين صفر ولا نهاية، لهذا السبب، تُمنع العمليات العكسية كالطرح والقسمة في علم الحساب اللاحدودي، لكن في العالم الحقيقي، لا تتغير القواعد، يمكنك التخلي عن العدد الذي تريد من القطع المعدنية. يظهر المثال الذي طرحناه كغيره من الأمثلة أنّ اللانهاية فكرة تسكن عقولنا ولا تمتّ للواقع بصلة، مما يحتّم أن تكون الأحداث الماضية بأعداد محددة، بما أنها حقيقية وليست من نسج الخيال. لذا لا يمكن أن تعود سلسلة الأحداث الماضية إلى ما لا نهاية، إنما من المحتوم أن الكون بدأ فوُجِد.

لقد أكّدت اكتشافات بارزة في علم الفلك وعلم الفيزياء الفلكية على صحة هذه النتيجة، فبتنا اليوم نمتلك دليلاً قوياً على أن الكون ليس أزلياً في ماضيه، بل بدأ بداية قطعية منذ زمن محدود. في عام 2003، استطاع كلّ من أرفيند بورد (Arvind Borde) وآلان غوث (Alan Guth) وألكسندر فيلنكن (Alexander Vilenkin) إثبات أن الكون، الذي يمرُّ في حالة توسُّع كونيّ، لا يمكن أن يكون لامتناهياً في الماضي، ويجب أن يتمتع بحدودٍ للزمان والمكان الماضيَين. وما يجعل البرهان الذي قدموه قوياً هو صموده بغض النظر عن الوصف الفيزيائي للكون المبكر، وذلك لأننا ما زلنا نفتقد إلى نظرية الكمّ الخاصة بالجاذبية، بالتالي لا نستطيع أن نقدم وصفاً فيزيائياً للحظة الكون المبكر الأولى. لكن نظرية بورد ـ غوث ـ فيلينكن هي نظرية مستقلة عن أي وصف فيزيائي لتلك اللحظة، فهي تشير إلى أن الفضاء الكمي للكون المبكر الذي وصفه بعضهم بشكل مضلل وغير متقن بالـ "العدم"، لا يمكن أن يكون أزلياً في الماضي، بل من المحتوم أنه بدأ بداية قطعية، وإن كان الكون الذي نعيش فيه جزءاً صغيراً ممّا يسمّى العالم المتعدد المؤلَّف من عدة أكوان، تتطلب نظريتهم أن يكون لذلك العالم المتعدد بداية حتمية. وممّا لا شكّ فيه أنه جرى اقتراح تصورات خيالية عدّة لتفادي البداية القطعية، مثل حلقة نماذج الجاذبية الكمومية ونماذج الخيوط الكونية والمنحنيات المغلقة، لكنها مليئة بالمشاكل، وبالنتيجة لم تنجح أي من تلك النظريات، وإن كانت صحيحة، في إعادة الماضي الأزلي، بل إنّها أرجعت البداية خطوة إلى الوراء.

من هنا ينبثق السؤال: لِمَ وُجِد الكون؟ ما الذي دفعه للتكوّن؟ حسب رأي بعض الملحدين الشجعان، إنّ الكون قفز إلى الوجود بلا مسبّب، لكن من المؤكد أن ذلك مستحيل ماورائياً. وكنتيجة، حسب قول فيلسوف العلوم بيرنولف كانيتشايدر(Bernulf Kanitscheider) في «تصادم وجهاً لوجه» مع أنجح التزام وجودي في تاريخ العلوم، ألا وهو المبدأ الماورائي الذي ينص أنه من العدم، لا ينبثق شيء. إذاً لم وُجِدَ الكون بدل لا شيء؟ من أين أتى الكون؟ لا بدّ من أن مسبباً عظيماً يكمن وراء وجود الكون.

إذاً، بإمكاننا إيجاز برهاننا بالتالي:

بدأ الكون بالوجود.

إن بدأ الكون بالوجود، إذاً لا بد من مسبب عظيم له.

بالتالي للكون مسبب عظيم.

تبعاً للافتراضيين اللذين ذُكرا، نعرض النتيجة التالية:

نظراً لطبيعة الحالة، لا بد للمسبِّب، كخالقٍ للكون، أن يكون غير مسبَّب وثابتاً وأبدياً وغير مادي. لا بدّ من أنه غير مسبًّب لأنه لا يمكن للأسباب أن ترتدَّ بشكل لامتناهٍ، وأبديّ وثابت بغنىً عن الكون لأنه خلق الوقت، وكخالق للزمان، لا بدّ من أنه تجاوز الزمان أيضاً، إذاً فهو غير روحيّ وغير ماديّ.

مرشحان اثنان فقط يناسبان هذا الوصف: إما شيء مجرّد كرقمٍ ما، وإمّا عقل غير مجسّد. لكن الأشياء المجردة لا تتحمّل العلاقات السببية، فعلى سبيل المثال، الرقم 7 لا يسبّب أي شيء على الإطلاق، بالتالي نستنتج منطقياً أن سبب الكون العظيم هو عقل غير مجسّد. من هنا لا نصل إلى السبب غير المسبَّب وحسب للكون بل إلى خالقه الشخصي.

الضبط الدقيق للكون من أجل حياة ذكية:

في العقود الحديثة، أُذهل العلماء باكتشاف أنّه جرى ضبط الظروف الأولية لانفجار الكون الكبير من أجل تأمين حياة ذكية بإتقان وإحكام لتواجه إدراك البشر. وينقسم هذا الضبط إلى نوعين اثنين. الأول، عند عرض قوانين الطبيعة كمعادلات رياضية يظهر فيها ثوابت لا تحكمها قوانين الطبيعة، كثابت الجاذبية. الثاني، إضافةً إلى تلك الثوابت، هناك كميات عشوائية وُضعت كشروط ابتدائية وتٌطبَّق عليها قوانين الطبيعة، على سبيل المثال، معدل الاعتلاج في الكون المبكر. وتندرج جميع الثوابت والكميات في نطاق ضيّق من القيم التي تسمح بالحياة، وإن عُدِّل أيّ منها بشقّ النفس، لكان تدمر الميزان الذي يسمح بالحياة، ولم تكن الحياة لتستمرّ. بتنا نعلم الآن أن الأكوان التي تمنع الحياة تتمتع بأرجحية أكبر من أي كون يسمح بها.

نجد ثلاثة تفسيرات ممكنة للضبط الدقيق الاستثنائي هذا:

إن الضبط الدقيق للكون يسببه الضرورة المادية أو الحظ أو التصميم.

لا يمكن أن تسببه الضرورة المادية وذلك لأن الثوابت والكميات لا تخضع لقوانين الطبيعة، لذا من المحتمل أن يكون نتيجة للحظ، ففي النهاية، الكثير من الأمور غير المحتملة تحدث يومياً، لكن ما يساعد في التمييز بين الأحداث التي تحصل بالحظ وتلك المخطط لها ليس اللا احتمالية فحسب بل وجود نمط مستقل معطى يتماشى مع الحدث. على سبيل المثال، في الفيلم «كونتاكت» «Contact»، يتمكن العلماء من التمييز بين إشارة من الفضاء الخارجي وضوضاء عشوائي عبر تماشيها مع نمط الأرقام الأساسية إضافةً إلى اللا احتمالية. يعرض الضبط الدقيق للكون لإنشاء حياة ذكية ذلك الدمج بين اللااحتمالية المبهمة والنمط المعطى اللذين يمثلان علامتَي التصميم الفارقتين.

بالتالي، نمتلك سبباً وجيهاً للظن بأن:

لا يخضع الضبط الدقيق لا للضرورة المادية ولا للتغيير.

ونستنتج من ذلك أنّه،

يخضع الضبط الدقيق للتصميم.

إذن، يستلزم الكون وجود مصمِّمٍ له.

3.وجود الواجبات والقيم الأخلاقية والمتجردة في العالم.

يطرح لنا أول برهانين خالقَ الكونِ ومصمّماً له، لكنهما لا يطلعاننا على صفاته الأخلاقية. كيف يمكننا تأكيد أنه صالح؟ نجد الإجابة عن هذا السؤال في البرهان الثالث:

ينص الإفتراض (1) بأنه:

إن لم يكن لله من وجود، لم تكن لتظهر الواجبات والقيم الأخلاقية المتجردة.

عندما أذكر القيم الأخلاقية المتجردة فأنا أعني بها تلك القيم السليمة والمُلزمة بغض النظر عن اعتقاد الآخرين بها. ويوافق العديد من المؤمنين بالله والملحدين به أنه إن لم يكن لله من وجود، فلن تكون القيم الأخلاقية والواجبات بحالة تجرد، ومثال على ذلك، يشرح فيلسوف العلوم اللا أديّ مايكل روس (Micheal Ruse) أنّ الأخلاقية هي إعداد بيولوجي تماماً كاليدين والرجلين والأسنان. وتعتبر الآداب وهمية لكونها مجموعة مزاعم مبرَّر لها عقلانياً حول شيء موضوعيّ، بينما الأخلاق هي مجرّد دعم للبقاء والتكاثر، وتعتبر أي من المعاني الأعمق منها وهمية.

وفق المذهب الطبيعي، تعتبر القيم الأخلاقية منتجاً ثانوياً للثورة البيولوجية والتكييف الاجتماعي، تماماً كما تُظهر جماعة قرودٍ سلوكها التعاوني والإيثاري الذي يعود للانتقاء الطبيعي لذلك التصرف لكونه يفيد صراعها من أجل البقاء، لذا نرى كبير الأساقفة والكائنات البشرية تعتمد على السلوك نفسه، للسبب عينه. ونتيجة للضغوطات الاجتماعية والحيوية، انتشر بين الكائنات البشرية نوع من أخلاقيات القطيع التي تؤدي دوراً مهماً في تخليد جنس البشر. لكن وفق النظرة الإلحادية، لا يبدو أنّ شيئاً قادراً على جعل تلك الأخلاقيات ملزمة وصحيحة بشكل موضوعي، ما يقودنا إلى افتراضنا الثاني:

ما يسّمى بالواجبات والقيم المتجردة صحيحة وموجودة:

من خلال التجربة الأخلاقية، نقف أمام باب من القيم والواجبات الأخلاقية التي تفرض نفسها علينا، ولا مبرٍّر لإنكار الحقيقة الموضوعية للقيم الأخلاقية والعالم المادي، ففي حالة غياب القاهر ندرك أهمية الثقة بحواسنا بأن عالم الأشياء المادية موجود، لذا في تلك الحالة من المنطقي أن نثق بإدراكنا الأخلاقي، ولا وجود للقاهر، ونقلاً عن الفيلسوف لويس أنطوني (Louis Anthony)، «يستند أي برهان يخص الشكوكية الأخلاقية إلى افتراضات أقل وضوحاً من حقيقة القيم الأخلاقية الموضوعية نفسها». فالاغتصاب والوحشية وسوء معاملة الأطفال ليست من التصرفات التي لا يتقبلها المجتمع فحسب، إنما هي بالفعل مؤذية. ويعترف مايكل روس أن «الرجل الذي يقول إنّه من المقبول أخلاقياً اغتصاب طفل مخطئ كذلك الذي يدّعي أن 2+2=5.» على الأقل بعض الأشياء خاطئة فعلاً، لكن يترتب عليها ما هو منطقي وحتمي:

لذلك، فالله موجود.

يظن بعضهم أن الشر في العالم يتناقض مع الله، لكن برأيي إنّ العكس صحيح، فالشر في هذا العالم يساعد على إثبات وجود الله، بما أنه في حال غياب اللَّه الذي يعلّل القيم الأخلاقية الموضوعية، لم يكن للخير والشر من وجود.

الحقائق التاريخية المتعلقة بيسوع الناصرة:

إن شخصية يسوع الناصرة التاريخية مميزة، وقد اتفق المؤرخون على إنّ المسيح جاء إلى الساحة بحسّ غير مسبق من السلطة التي تخوّله الوقوف والتكلم مكان الله. وقد ادّعى أن بحضوره نشأت مملكة الله، وكتوضيح مرئي لهذه الحقيقة، أنشأ وزارة للأعمال العجائبية والتعويذ، لكن ما أكّد ادعاءه كان إحياءه بعد موته، فإن بعث المسيح من الموت يبدو أن ما حدث معجزة مقدسة تعتبر دليلاً على وجود الله.

قد يظن معظم الأشخاص أن احياء المسيح بعد موته مسألة إيمان وعقيدة، لكن يقر معظم المؤرّخين بثلاث وقائع يفسرها إحياء المسيح أوضح تفسير.

الواقعة #1: يوم الأحد بعد صلب المسيح، وجدت مجموعة من أتباعه من النسوة قبره خالياً.

وفقاً للإخصائي النمساوي جايكوب كريمير (Jacob Kremer)، «على الأغلب، تعتمد التأويلات ما ورد في الإنجيل من أحاديث في ما يخص القبر الخالي.»

الواقعة #2: في عدة مناسبات، رأى العديد من الأفراد ومجموعات من الأشخاص المسيح حياً بعد موته.

وفقاً للناقد الشهير للعهد الجديد، جيرد لودامان (Gerd Ludemann)، «من المؤكد عبر التاريخ، أن الحواريين اختبروا تجارب بعد وفاة المسيح وقد ظهر فيها كالمسيح المرتفع».

الواقعة #3: آمن الحواريون الأصليون بقيامة المسيح بشكل مفاجئ برغم ميولهم للإيمان بعكسها.

لم يؤمن اليهود بالمسيح المحتضر والمصلوب، ولم تتقبل اعتقاداتهم حول الآخرة فكرة نهوض أحدهم من الموت للخلود قبل نهاية العالم. مع ذلك، آمن الحواريون بشدة بأنّ اللَّه رفع المسيح من الموت، إلى حد استعدادهم للموت من أجل ذلك المعتقد.

وقد رفضت المدارس المعاصرة محاولات شرح هذه الوقائع الثلاث مثل سرقة الحواريين لجسد المسيح أو إنّه لم يكن في الحقيقة ميّت. في الواقع، لا شرح طبيعياً وظاهرياً لتلك الوقائع، لذلك يبدو لي أنّه من المبرر للمسيحيين الاعتقاد بأن يسوع بُعِث من الموت وكان من زعم....، نتيجة لذلك، اللَّه موجود.

التجربة الشخصية لوجود الله:

ليس هذا ببرهان لوجود الله، بل بالأحرى دعوة للإيمان بوجوده بمعزل عن البراهين، وببساطة عبر الإحساس به، هكذا عرف أولئك الذين ذكروا في الإنجيل الله، وكما يشرح المشرف على رسالتي في الدكتوراه، الأستاذ جون هيك (John Hick)، بالنسبة إليهم فإنّ اللَّه إرادة فعالة تتفاعل مع إراداتهم الشخصية، وواقع لا يوصف، وحتماً لا يمكن تقدير ماهيته عبر عاصفة مدمرة أو ضوء شمس منعش. لم يكن اللَّه فكرة تبنتها عقولهم، بل واقع محسوس أعطى أهمية لحياتهم.

في تلك الحالة، نخاطر بأن تصرف البراهين لوجود اللَّه انتباهنا عن اللَّه نفسه، فإن كنت من الباحثين عن الله، فإنه سيظهر وجوده لك، وقد ورد في الإنجيل:»كن قريباً من الله، وسيكون قريباً منك». ويجب علينا الا نركز في الأدلة الخارجية فنفشل في سماع صوت اللَّه في قلوبنا، أما أولئك الذين يسمعون صوته، فيصبح اللَّه جزءاً من حياتهم.

في الختام، إن أرادنا بيتر أن نصدق بأن لا وجود لله، يجب عليه أولاً دحض البراهين الخمسة التي عرضتها والتي تدل على وجوده، ومن ثم العمل على إثبات العكس. وإلى ذلك الحين، أظن أن الإيمان بالله هي النظرة العالمية الأكثر منطقاً.

رئيس الجلسة: شكراً لك أستاذ كريغ، تفضلوا بالترحيب إلى المنصة بالأستاذ ميليكان الذي سيعرض موقفه وبراهينه في ما يخص نقاش الأمسية «هل لله من وجود؟» في خلال الـ20 دقيقة القادمة.

الدكتور ميليكان: شكراً جزيلاً لكم. في البداية أود أن أتوجّه بالشكر إلى رابطة طلاب الفلسفة لدعوتي للمشاركة في هذا الحدث المهم، وأشكر الدكتور كريغ على إدراجه في قائمة أعماله المزدحمة. لا تسنح لي الكثير من الفرص لعرض أفكاري أمام حشد من الناس لكوني فيلسوفاً أكاديمياً، لكن قدرة ويل على جذب الآخرين ضمنت لي حضوراً جيداً، أنا ممتنّ لحصولي على هذه الفرصة لأشارككم أفكاري حول موضوعٍ بهذه الأهمية، وأتمنى أن أحفّز طريقة تفكيركم بشأنه. إن أكثر ما شجعني للدخول في مجال الفلسفة عند بدء دراستي كان اهتمامي بهذا الموضوع تحديداً، فهو مدهش من الناحية الثقافية، وجوهري من حيث رؤيتنا للحياة والكون وكل شيء.

تعارض معظم أقوالي الليلة براهين ويل لأنه يتحمل عبء الأدلة لكونه من طرح اقتراح وجود الله، وسأوضح دلالة ذلك بتعابير لا لبس فيها، وأسمي ذلك فرضية الإله المسيحية:

أنّ خالق الكون كائن جبار وعليم وكامل أخلاقياً يهتم اهتماماً خاصاً بالبشر وتمثّل تاريخياً بيسوع الناصرة.

هذا الإدعاء واقعي وسنقوم بمناقشة الدليل الذي يناهض حقيقته وذلك الذي يتوافق معها، لذا لن أتطرق لمحاسن الممارسة الدينية أو مآسي المعتقد الديني أو أيٍّ من الاعتقادات الخارجة عن الطبيعة. وبما أن ويل ذكر قيامة المسيح المزعومة كأحد براهينه، أعتبر أننا معنيون بالإله التقليدي للفلسفة المسيحية خصوصاً، بغض النظر عن الآلهة الأخرى. فإن بحثت بنفسك على موقع ويكيبيديا (Wikipedia)، لوجدت وفرة في الآلهة، حتى لو حددنا البحث بمنطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا وبالحرف «أ» فقط. فما بالك بالحروف الخمسة والعشرين الباقية، أضف إليها الصين والهند واليابان ودول آسيا الأخرى، وأوروبا والدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وآسيا الجنوبية وأوقيانوسيا، ستجد عدداً هائلاً من الآلهة، ومن الواضح أننا ميالون للإيمان بها.

لربما يعود السبب الرئيسي لذلك إلى ميلنا لما يسمّى بـ«الغائية العشوائية» أي إنّ كل شيء وُجِد لغاية محددة، ويظنّ الأطفال بطبيعتهم أن الأشياء الجامدة موجودة لغاية ما، فعلى سبيل المثال، في تجربة جديدة أُجرِيَت على أطفال بعمر السابعة والثامنة، فضلوا فكرة مفادها أن الجبال وجدت لتأمين مكان تسلُّق للحيوانات، على حساب فكرة أخرى بأنها نتيجة لبرودة البراكين مُشكِّلة كتلاً سُمّيت بالجبال. ونميل، نحن البشر أيضاً إلى رؤية الأنماط في الأشياء والبحث عن أسباب كلّ ما نلاحظ، حتّى إن حصل مصادفة، ولا يمكننا إيجاد سبب لشيء قاسٍ كعاصفة رعدية شديدة أو وباء ما، لذا من السهل أن نرجع السبب إلى القوى الذكية اللامرئية كالآلهة والشياطين والسحرة وغيرها.

وبالطبع عند حدوث ذلك، يأتي دور الديناميكيات المألوفة في المجتمع البشري والسياسة، ويدّعي الأفراد الأقوياء، الفاسدين منهم والمغرورين، معرفة الآلهة اللامرئية وإنشاء علاقة معها، ويخولهم الخط الساخن المقدس من حيازة القوة والتأثير والثروة. وقد حصّلت جامعتي، أي جامعة أكسفورد، مقداراً لا بأس به من المال من واهبين ظنوا أن بتركهم إرثاً لبعض العلماء المدعومين للصلاة لأجلهم يومياً، يتفادون بعضاً من عذاب المطهر والنار. ويكسب هذا النوع من القوى المربحة الدعم بشدة، وذلك عبر قمع البدع وإسكات المعارضين، ومع مرور الزمن، تتطور الهيكليات التنظيمية وتتحصّن أنظمة الإيمان بالنتائج المألوفة.

إلى حدّ بعيد، إنّ المحدد الرئيسي للمعتقد الديني، وقبل أن يتحوّل السفر الدولي إلى أمرٍ اعتياديٍّ، هو مكان ولادتك. ولا يتوافق ذلك مع الفرضية القائلة إنّه عادة يتخذ الأشخاص ديناً على أساس الاعتبارات المنطقية، ليس كذلك، بل الواضح أنه ظاهرة ثقافية بمعتقدات تقليدية تتعاقب مع الأجيال بغض النظر عن الأسباب الجيدة التي تحافظ عليها، وقد كانت العلوم على هذه الحال عندما كان سائداً أن مفتاح كل شيء بِيَدِ أرسطو والإنجيل، فعلوم أرسطو انبثقت من الغاية العشوائية نفسها التي ذكرتها سابقاً، فبالنسبة له ولأتباعه من القرون الوسطى، تسقط الحجارة بسبب سعيها للوصول إلى مركز الكون أما النجوم فتتحرك حركة دائرية مثالية حول الأرض بسبب سعيها لمحاكاة إتقان اللَّه الأزليّ. نحن نعلم أكثر عن صحوة غاليلية وكيبلر ونيوتن، لكن صحوتهم جاءت بعد ألفي عام من موت أرسطو، وللأسف فإن تقدم العلوم كان بطيئاً على مرّ القرون المسيحية عندما حُرِقت المكتبات والمدارس الوثنية وأُغلِقت بانتظام، أما الكتب التي بقيت بما فيها الإنجيل، فكانت باللغتين اللاتينية واليونانية. وتظهر رسومات خريطة العالم في كاتدرائية هيرفورد الشّح في التطوّر، فقد رُسمت في بداية القرن الرابع عشر، أي قبل 200 سنة قبل كولومبوس لكنها تتضمن معلومات عن كتابات من القرن الخامس ما يظهر أنه لم يُكتشف الكثير في خلال تلك السنوات التسعمائة. وبالمقارنة، فإنّ تكذيب غاليليو لأرسطو، وهو سبب اضطهاده من قبل الكنيسة، كان تقريباً قبل 400 سنة، وقد نشأت العلوم في تلك الفترة محوّلةً العالم بشكل هائل عبر طريقها الدقيقة في المراقبة والتجارب والفحوصات المدققة. لا تعتمد المعتقدات العلمية على التلقين الثفافي من أجل قبولها ونقلها، وبالنتيجة لن تجد أنّ أياً من النظريات العملية قد حُددت جغرافياً بالطريقة التي تُحَدَّد فيها الأديان.

أتوقع الآن بينما أنا ألقي خطابي، أنّ ويل يجهز لي اتهاماً بالمغالطة الجينية لأنه قد يبدو أنني (ضَحِك) أناقش ذلك لأن منشأ الاعتقاد بالإله المسيحي مشبوه، لذا من المؤكد أنه خاطئ، لكن ليس هذا ما أقول، بالطبع من الممكن أن يكون الإيمان بالله صحيحاً وإن تمسكنا به لأسباب واهية، لكن برأيي أننا إن اتبعنا طريقة ما للإيمان ببعض المعتقدات وانتهى بنا المطاف بمعتقدات أخرى أو متعارضة، إذاً ليست بالطريقة التي يمكن الاعتماد عليها، ومع تعدد أنظمة الإيمان الديني حول العالم، تختلف وتتعارض فيما بينها، لذا لا يمكن أن تكون جميعها صحيحة، وإن حصرنا خياراتنا بالديانات التي تدعي الصحة، كاليهودية والمسيحية والإسلام، لا يمكن إلا لإحداها أن تكون صحيحة، كما يمكن أن تكون جميعها خاطئة، بما أنه يجري اكتساب تلك المعتقدات والحفاظ عليها بالطريقة نفسها أي عبر الأهل، أو بالتعليم الديني أو عبر الخطيب الديني أو الكتب المقدسة القديمة أو عبر التجربة الدينية وغيرها، لا يمكن الاعتماد على هذه الطرائق لإيصال الحقيقة، هذا ما يستدعي تمهل المؤمن الذي يبحث عن الحقيقة، أي عندما يرى مجموعة أخرى تبحث في الموضوع نفسه والطرائق نفسها قد وصلت إلى نتائج متضاربة.

إن كنت قد حصّلت ثقافة مسيحية، من البديهي أن تجد نفسك بين خيارين ألا وهما المسيحية أو المذهب الطبيعي الملحد، أي إنّه إما لله من وجود وإما لا وجود للقوى الخارقة للطبيعة أصلاً. وفي ذلك السياق، وقبل فحص المسألة بتفاصيلها، يمكن التفكير بأن الأرجحية نفسها للحالتين، لذا عندما تشارك في نقاش كهذا، تشعر أنّ ليس بيد أيّ منا دليل أقوى من الآخر، لكن ذلك خاطئ، لأن ويل في مناقشته المؤيدة لإله المسيحية، يدعم نظاماً واحداً خارقاً للطبيعة من بين آلاف الأنظمة بينما أنا أشكك في احتمال وجود سبب يخولنا الإيمان بعقل مجسّد خارق للطبيعة، بينما ينقصنا الدليل العلمي الملموس عليه، فجميع الأمثلة الموثقة للسلوك الذكي تعتمد على هيكلية مادية كالعقل أو ربما الحاسوب في المستقبل. بالإضافة إلى أن جميع أمثلة الإدراك والسببية العقلية الموثقة تعتمد على وسائط مادية، كأشعة ضوئية أو إشارات تتنقل في الأعصاب وغيرها. لا نملك أي دليل جامد في ما يخص أيّ من الإستبصار والتحريك الذهني والتخاطر، ربما لا تبالون بما أقول، لكن من الواضح، من خلال التجارب اليومية، أن طبيعة تفكيرنا تعتمد على الخواص الفيزيائية لعقلنا، فعند المرض أو التعب أو الخرف أو عندما نكون تحت تأثير المخدرات أو حين نتعرض لنقص في الأوكسيجين، يتأثر فكرنا في المقابل. هذا الأمر مألوف للغاية، ومع ذلك تبتغي بعض الديانات بما فيها المسيحية إقناعنا بأنّ بعض أفكارنا مستقلة عن عقلنا، أي في حال تدمر الدماغ والجسم بأكمله، تبقى تلك الأفكار سليمة ومثبتة.

سأكون في غاية اللطافة والكرم وسأمنح ذلك التخمين الذي ينقصه الحسّ الملموس والدعم التجريبي المتكرر الذي يتناقض مع جميع تجاربنا التي تخص الارتباط العميق ما بين العقل والدماغ احتمالية نسبتها 50 %. حتى وإن فعلت ذلك، يتشارك ادعاء ويل بوجود إله واحد قهار يمثله يسوع الناصرة هذه النسبة مع الآلاف من الأديان الأخرى المتضاربة، لذا أقول إنّ التصرّف المنطقي هو أن نلقي عبء الإثبات على ويل، وما لم تكن المسألة التي يعرضها مقنعة، يجب ألا نؤمن بوجود الله، ما ينتج منه اللاأدرية أو الإلحاد. أما السلوك المنطقي في حالة غياب ما يدعم وجود اللَّه هو الإيمان بأن لا وجود له، تماماً كسلوكنا في حالة النظرية القائمة على المضاربة، ففي حال غياب ما يدعمها، نعتبرها خاطئة. إن النظريات الدينية القائمة على المضاربة كثيرة جداً حتى باتت رخيصة، ومعظمها خاطئ. لذا لمَ نفترض أن هذه الحالة استثناءً للقاعدة؟

إذاً، ما مدى قدرته على إقناعنا بالإله المسيحي؟ سأبدأ بالبرهان الكلامي الكوني الذي يفضله، وسأعرض المقطع الأول الذي يتوافق مع ذلك بطريقة مختلفة عن تلك التي عرضها بها ويل. وأفضل طريقة عرضي للبرهان لأنها تقسمه إلى مرحلتين اثنتين كالآتي:

لكلّ ما يبدأ بالوجود مسبّب.

بدأ الكون بالوجود.

لذا، للكون مسبّب.

في المنطق، يعتبر البرهان صحيحاً، إنما تنبع النتيجة من الافتراضات، التي لم تقنعي أيّ منها، أين الدليل بأن لما يبدأ بالوجود مسبب؟ من المؤكد أن تجربتي واسعة في مجال تغيّر العالم وتشكّل الأشياء الجديدة من تلك القديمة كبناء منزل أو أن تنبت نبتة من بذرة. ويمكنني أنا القول إنّه يصادف أن جميع التغييرات التي شهدتها محكومة، لكنها كانت نتيجة إعادة تنظيمٍ للمواد، ولم أشهد يوماً ما نتج من لا شيء. لذا لا يسعني الاستخلاص من تجربتي الخاصة أنه من المنطقي أن تخُلَقَ الأشياء من العدم، وإن حصل ذلك يوماً، أن يكون ذلك سببياً بالطريقة نفسها، وفضلاً عن ذلك، إنّ بعض الدلائل الثانوية التي يمكنها إنّ تقوّي المسألة لم تصب في مصلحتها، فالجزيئات الكمية تقفز من الوجود وإليه من العدم، لكن ذلك المسلك عشوائي، لذا إن أقرب النماذج التي تبيّن أنها خُلِقَت من العدم غيرُ مسبَّبة. ويمكننا التشكيك بافتراض ويل الأول بشكل أكبر، لكن المسألة أسوأ من ذلك، يسعني القول إنّ لكل تغيير شهدته في هذا العالم سبباً ماديّاً.

لقد ذكرت سابقاً أن الأعمال الشخصية تحصل أيضاً عبر أدوات مادية، وتدلّ جميع براهيننا على أنّ النشاط الذهني يعتمد على نشاط الدماغ، ولم أشهد مسبقاً أن مجرد فكرة توصلت إلى خلق جسم ما. لذا إن أعدنا صياغة افتراض ويل الأول، يصبح كالآتي:

لكلّ ما يبدأ بالوجود سبب ماديّ.

من ناحية ثانية، إن أُنشِئ الكون بطريقة تمكّنه من احتواء كل الأشياء المادية، إذاً من الواضح أنه من غير الممكن أن يكون له مسبّب ماديّ، ولديّ سبب جيّد للشك بمدى قدرة هذا المبدأ بأن يتطّبق على الكون كله. ويظهر ذلك مدى جدليّة تطبيق أي مبدأ انطلاقاً من الجزء ووصولاً إلى الكل، وهذا الخطأ متداول لدرجة أنه سمّي بخطأ التركيب. وإن كان لكل خروف في قطيع المزارع أم، لا يعني ذلك أن لكل القطيع أمّاً أيضاً، إذَا وإن كان لكل شيء ماديّ مسبّب، لا يعني ذلك أن لجميع الأشياء المادية مسبّباً أيضاً. وتعتبر هذه النقطة إجبارية في صحوة نسبية أنشتاين العامة التي تشير إلى أن الزمان والمكان جزءان من الكون المادي، فجميع أنواع الأسباب التي يسعنا فهمها، بما فيها الأسباب الذكية تعمل على أساس الوقت، وإن لم يكن الوقت موجوداً من دون الكون المادي لكان من الصعب فهم كيف تُطَبَّق فكرة التسبيب على خلق ذلك الكون.

وماذا عن افتراض ويل الثاني ـ بدأ الكون بالوجود؟ لتوضيح ما يزعمه هنا يجب التمييز بين كوننا المحليّ، ونملك دليلاً على حصول الانفجار الكبير منذ نحو 13، 7 عام، والكون الكلي أي جميع الأشياء المادية إن وُجِدَت في الكون المحلي أو في أي مكان آخر. واستبصر علماء الكون باحتمال وجود أكوان متعددة؛ وترجح عدة نظريات مختلفة هذه الفكرة. كما يستبصرون حول الأكوان المتذبذبة والفقاعية والمتطورة من خلال عدة انفجارات كبيرة. إذاً حتى إن بدأ كوننا المحلي بالوجود منذ الانفجار الكبير، فمن المحتمل أن يكون مسبّبه مادياً في الكون الكليّ، بالإضافة إلى أنّه لا تضارب بين افتراض الكون الكليّ لانهائي في ماضيه، وإن كان للكون المحليّ حدود.

يعرض ويل سببين للتفكير بطريقة مغايرة، أحدهما أنه لا يمكن للامحدودية أن تكون حقيقية، وسأعود إلى هذه المسألة لاحقاً. ويرجع السبب الثاني الذي يعرضه ويل من أجل إنكار فكرة أن الكون لا محدود في ماضيه، إلى الفيزياء ونظرية بورد- غوث- فيلينكن التي تبرهن عبر الافتراضات التي تبدو منطقية أن أيّ كون على حافة التوسع لا يمكن أن يكون أزليّاً في ماضيه، إنها تنيجة مشوقة لكنها لا ترضي طموح ويل. ورداً على السؤال: «هل تبرهن نظريتك أن للكون بداية حتمية؟» أتى جواب أليكس فيلينكين: «كلا، لكنها تبرهن أنه كان لامتداد الكون بداية حتمية، بإمكانك تجنب النظرية عبر افتراض أن الكون كان ينقبض قبل بعض الوقت». وترجّح بعض النظريات كحلقة علم الكونيات الكمي ونظرية هورافا (Horava) حول الجاذبية حصول انقباضٍ سابق ٍللانفجار الكبير.

على أيّ حال، بهذه المعطيات، من المستحيل أن نثق بتعقّب نظرياتنا المادية إلى ما قبل الانفجار الكبير وماوراءه، فقد تدل على فردية بدائية أي- نقطة الكثافة اللامتناهية ودرجة الحرارة والضغط والالتواء، ومن المفترض أن تكون تلك مستحيلة تبعاً لمبادئ ويل التي لا تعترف بحقيقة اللانهائية. لكن الأهم من ذلك، يبدو أن النسبية العامة التي يستند إليها جميع ما ذُكِر تتعارض مع ميكانيكا الكم وتنهار عند الموازين اللامتناهية، لذا جلّ ما ندركه هنا أن علومنا لا يمكن أن تتماشى معها، ولتنجح محاولاتنا في استخلاص نتائج قوية. ولن يتفاجأ بذلك تلاميذ الفيلسوف المفضل لدى ديفيد هيوم (David Hume).

حين ننظر إلى ماوراء الشؤون البشرية، ونحمل تخميناتنا إلى اللانهائيّتَين، أي قبل حالة الأشياء الراهنة وبعدها، وإلى خلق الكون وتشكيله، وإلى وجود الأرواح وخواصها وإلى الروح الكونية اللانهائية والمبهمة: لا بدّ لنا من أن ننفصل عن أصغر ميلٍ إلى الشك لكي لا نخاف بأننا أصبحنا دون متناول قوانا العقلية.

تشير معلوماتنا في الفيزياء الحديثة إلى أنه لا يمكننا اعتبار الأفكار البديهية التي تراودنا حول ما يبدو منطقياً على المقياس الصغير والكبير دليلاً نحو الحقيقة، لذا إلى جانب الصعوبات التي أشرت إليها مسبقاً، لا تقنعني فمحاولات ويل لتطبيق مبادئ الفطرة اليومية حول سببية ولانهائية بداية الكون عندما يتوزع الوقت وتفترض نظرياتنا فردية لامتناهية.

إضافة إلى ذلك، عندما يتابع ويل لمناقشة مسألة مسبب الكون المادي، يجب أن يكون ذلك العقل لا مادياً، ولا ننسى أنه لا دليل لدينا على إمكانية وجود العقول في حال غياب الركيزة المادية، لذا ففكرة وجود العقل في حال غياب كون ماديّ متكامل هي افتراض تام. برغم كل ما ذكرته، يبدو لي من المنطقي أنه إن لم يكن للكون المادي مسبب غير مادي، فلا بد أنه من نوع لا يسعنا التمسك به لأنه لا يتمتع بعلاقة مع أي شيء قد اختبرناه، إن كان شيئاً مادياً مألوفاً كياناً معنوياً حتى عقلاً ما. نحن حيوانات مادية محدودة تطورت لتعيش وتدرك في عالم من الأشياء المتوسطة الحجم، ولا سبب للاعتقاد بأن قوانا العقلية الحيوانية كافية لاستبطان أصول العوالم أو تاريخها اللامتناهي. كمثال تشبيهيّ، تخيّل كلباً أو فأراً في محاولة لفهم تنظيم جامعة ما، ما نسبة قدرته على ذلك؟ هذا ونحن أقرب في الفهم والإدراك إلى تلك الحيوانات مقارنة مع قدرات اللَّه القاهر، من طرائق عمل كون بأكمله مقارنة بنظام جامعة.

سأضطر لعرض تحليلي لبرهان ويل الأخلاقي باختصار، وسأعود لتناول هذا الموضوع لاحقاً، وهنا أود أن أطلب من ويل شرحاً موسعاً عن معنى القيم الأخلاقية المتجردة لأن كلمة متجردة غامضة جداً، ففي نقاش نُشِر سابقاً، قال ويل: «عندما أتكلم عن القيم الأخلاقية المتجردة، أعني بها تلك القيم السليمة والملزمة بغض النظر عن اعتقاد الآخرين بها». لكن لا تجدي هذه المقولة نفعاً لأن الملحدين الذين تهمّهم المبادئ الأخلاقية، وأظن أن معظمهم معنيون بها، يبتعدون عن التفكير بأن ما هو صحيح وخاطئ مجرد مسألة ديمقراطية متعلقة بمعتقدات الأشخاص. فعلى سبيل المثال، يرى القائلون بمذهب المنفعية إنّ ثمّة معياراً محدداً للأخلاق مستقلاً عن معتقداتنا، فقد يظن البعض أنه لا بأس بضرب الأطفال، وإن ساهم ذلك في زيادة مستوى سعادتهم، يُعتبر تصرفاً خاطئاً. أما الكنتيّون، فحدّدوا مقياساً لما هو صحيح وخاطئ أخلاقياً، ويتطلب هذا المقياس قراراً رشيداً حول ما يمكن ترويجه عالمياً، ولا يوجد أي افتراض ديمقراطي يدعو إلى الامتثال بالرأي العام، ويعترف أولئك الذين يبنون المبادئ الأخلاقية على أساس الشعور البشري الطبيعي بأنه يمكن للتعاليم الدينية أن تغلّف الأخلاقيات، لذا اتَّخِذ القرار الصحيح حول الفضيلة والخطيئة كن مختلفاً عن الأغلبية الدينية. سنعود إلى هذا الموضوع، مع العودة إلى براهين ويل الأخرى التي لم أتكلم بها بعد، لكنني أود إنهاء كلامي بإطلاق تحدٍّ بأن يحدِّد ويل معنىً مفصلاً للقيم الأخلاقية المتجردة يتطلب وجود اللَّه ويعرض دليلاً مادياً بأن القيم الأخلاقية المتجردة موجودة بالمعنى نفسه، وأنا أشكك بقدرته على تحقيق هذا التحدي، لكننا سننتظر النتيجة. وعندما علمت بما سيقوله حول هذه المسألة، شعرت أنه عليّ أن أذكر مشكلة الشر ولو بشيء بسيط، ولربما أذكر البرهان الأقوى في مستوع الكفر، البرهان الذي لم أتطرق إليه قطّ. شكراً.

رئيس الجلسة: شكراً لك أستاذ ميليكان، وأشكر المخاطبين الليلة على معرفتهما وفلسفتهما العميقتين اللتين أتيا بهما إلى النقاش، كما أشكرهما على اللباقة التي أظهراها في خلال الحوار، ويجب علينا جميعاً أن تقتدي بتصرّفاتهما إن اختلف وجهات نظرنا. نبدأ بالرد الأول، فلتتفضل أستاذ ويل إلى المنصة.

الدكتور كريغ: بالطبع تتذكرون ما قلته في خطابي الافتتاحي حول الدفاع عن مزعمين اثنين في نقاش الليلة، أولاً، هناك أسباب جيدة تدفعنا للظن أن الإلحاد صحيح، وثانياً، ليس من أسبابٍ جيدة تدفعنا بالظنّ أن الإلحاد صحيح. والسؤال الذي يُطرَح الآن، هل عرض لنا الأستاذ ميليكان أسباب جيدة تدعم الإلحاد؟ لا أظنّ ذلك. أجل، يحمّلني عبء الإثبات لأنني أدعم مقولة وجود اللَّه أي المسألة قيد المناقشة، لكن أظنّ أنّ ذلك خاطئ، أظنّ أن المسألة التي نناقشها الليلة هي السؤال: «هل لله من وجود؟» إن نوى الإجابة بـ«كلا»، فهو بحاجة إلى تبرير ذلك، وإلا فلا يبقى لنا سوى اعتبار اللاأدرية حالةً افتراضيةً، لكن إن اختار الإجابة عن السؤال قيد المناقشة الليلة، فعليه عرض البراهين اللازمة لدعم الإلحاد.

ويقترح الدكتور ميليكان فكرة مفادها أن للأطفال ميلاً لنشخيص الأشياء، وأن الدين ظاهرة ثقافية، وتوقع أنني سأردّ سريعاً بأنه كبرهان مخالفٍ للإيمان بالله ـ وكادّعاء بأنّ ذلك يعني أن افتراض «وجود الله» خاطئ ـ يعتبر ما قاله مغالطة تكوينية. لكنه ردّ بالآتي، أنا لا أقول إنّ الإيمان بالله خاطئ، ويدلّ قوله على إنّه لا يمكن الاستناد على طريقة توصلنا إلى معتقدات متضاربة، وأود هنا أن أعلّق على هذه المسألة من ناحيتين، أولاً، لا تتشارك الأديان طريقة واحدة تؤدي إلى تلك الاعتقادات المتضاربة، ليس الأمر وكأنّ تعدّد الأديان يؤدي إلى قصور بعضها في استخدام طريقة الاستنتاج، وأودّ أن يدلّني على تلك الطريقة إن اعتقد بوجودها. لكن ثانياً والأكثر أهمية هو أن الطريقة التي أعتمدها الليلة هي المنطق والدليل بالإضافة إلى الخبرة الشخصية، إذاً أنا أستخدم نوع الدليل نفسه الذي يلجأ إليه لتعليل الفرضيات العلمية، لذا لا أظنّ أن الحاجة إلى التبصّر تعنينا الليلة، فكلانا في الحقل نفسه ونستخدم الطريقة عينها أي المنطق والدليل.

يعرض لنا الدكتور ميليكان برهاناً واحداً يدعم الإلحاد وهو أن غياب الدليل على وجود اللَّه يؤول بنا إلى الظنّ أن لا وجود له. لكن أظن أنّ ذلك مضلّل، فغياب الدليل ليس بالضرورة دليلاً على الغياب، وعلى سبيل المثال، لا دليل لدينا على التوسع التضخمي للكون، ومع ذلك يعتقد علماء الكون بمروره بتلك الحقبة، وفي حالة كوكب بلوتو، لم نجد أي دليل على احتوائه للذهب، لكن هل يعني ذلك أن لا ذهب على بلوتو؟ بالطبع لا. لذا متى يُعتبر غياب الدليل دليلاً على عدم وجوده الشيء؟ يصحّ ذلك في حالة وجود شيءٍ وننتظر دلائل أكثر على وجوده من تلك التي نراها، وعلى سبيل المثال، غياب الدليل على وجود كوكبٍ بين الزهرة والأرض خير دليل على غياب ذلك الكوكب. وإن طبّقنا هذا الكلام على المسألة التي تتعلق بالله، نستنتج أنه يُعتَبر غياب الدليل على وجود اللَّه دليلاً مخالفاً لوجوده في حالة واحدة فقط، إنه إن كان لله من وجود، فيجب علينا أن ننتظر دلائل أكثر من تلك التي نراها. وبكلام عملي، يعني ذلك أنه في حالة وجود الله، هل يجب أن ننتظر دلائل أكثر من تلك التي بحوزتنا أي انبثاق الكون من العدم والتدقيق الدقيق والمتقن للكون من أجل حياة ذكية وفهم عالم القيم الأخلاقية المتجردة وقيام يسوع الناصرة من الموت وتجربة اللَّه الآنية؟ برأيي بالطبع كلا. لكن بالمتابعة بتلك النقطة، يجب على الدكتور ميليكان أن يبرهن لنا أنه من المرجّح في حالة وجود الله، أننا بحاجة لدلائل أكثر على وجوده من تلك التي بحوزتنا. وبرأيي ذلك استبصار تام.

إذاً، لم يعرض علينا الدكتور ميليكان أي برهان ينافي وجود الله، كيف سيردّ على براهيني التي تدعم وجوده؟ فبرهاني الأول استند إلى منشأ الكون، وهنا ناقشت فكرة أن الكون بدأ بالوجود فردّ قائلاً: «اُنظروا، هناك احتمالات لوجود العالم المتعدد أي نماذج متعددة من الكون»، وذكرت هذه المسألة في خطابي الافتتاحي وشرحتُ أن نظرية بورد ـ غوث ـ فيلينكين تنطبق عليها وتظهر بدايةً للكون، ثم قال أنّ فيلينكين يسمح بتخطّي تلك النظرية عبر افتراض انقباض سابقاً له. أمامي جزءٌ مقتطع من رسالة بعثها فيلينكين إلى فيكتور ستانجر (Victor Stenger)، وغالباً ما يقتبس الملحدون هذا المقطع من السياق الرئيسي، اسمحوا لي بأن أقرأ لكم السياق الكامل. يقول فيلينكين:

يمكنكم تحنّب النظرية عبر افتراض أن الكون انقبض منذ بعض الوقت، ما يظهر أنّ من الخاطئ حصول تلك الانقباضات قبل التوسع، لكن المشكلة هي أنّ كوناً انقباضياً لا يعتبر مستقراً، وتدفعه الاضطرابات الصغيرة على تنمية جميع أنواع الفرديات الفوضوية، فلا يستطيع بذلك الوصول إلى مرحلة التوسّع. وإن سألني أحدهم عن افتراض النظرية التي برهنتها مع بورد وغوث على بدايةٍ للكون لكان جوابي «نعم»، أما إن انخرط في التفاصيل، لجاوبت بـ«كلا ولكن».

ونستنتج من كلامه أننا نواجه مشكلةً مع الفرديات الفوضاوية التي تعيق عملية إعادة التوسع، لذا في الواقع تدلّ فرضية بورد ـ غوث ـ فيلينكين على بداية حتمية للكون.

يقول الدكتور ميليكان، «نحن بحاجة إلى نظرية الجاذبية الكمية لتصف لنا الكون البدائي»، أما نظرية بورد ـ غوث ـ فيليكان فلا يعنيها ذلك، ويقول فيلينكان: «ما يميّز هذه النظرية هو عموميتها الكاسحة... لم نفترض حتى إنّه جرى وصف الجاذبية في معادلات أنشتاين، لذا إن تطلبت تلك الجاذبية تعديلاً، يبقى استنتاجنا صحيحاً.

لا يتأثر الكون بوصف الجاذبية الكمية، وجاء استنتاج فيلينكان كالآتي:

يقال إن االبرهان هو كل ما يلزم رجل عاقل ليقتنع بأمر ما، أما لإقناع رجل غير عقلانيّ فيلزمك دليل محكم، ومع توفر الدليل بين أيدينا، لا يمكن لعلماء الكون أن يتجاهلوا إمكانية وجود كون لا متناه آنف، لكن لا مهرب من أن يواجهوا مشكلة البداية الكونية.

إذاً، يتوافر بين أيدينا دليل كونيّ يدعم فكرة بداية الكون بالوجود، ويجب على بيتر أن يوجّه براهيني الفلسفية نحو لانهائية الماضي. هناك سبب يدفعنا إلى التفكير بأن الكون بدأ بالوجود، وأفترض أنه إن بدأ الكون بالوجود، إذاً فإنّ للكون مسبّباً. وهنا يقول الدكتور ميليكان أننا لا نختبر الخلق من العدم، وهذا صحيح، كما إِنّنا لا نختبر الأشياء التي تُخلق من دون أسباب مادية، وهذا صحيح أيضاً. لكن بما أنه ليس بإمكان أيّ شيء أن يُوجَد من دون سبب فعال، لكان من المستحيل أن يُخلَق من دون سبب ومادة فعّالَين، ما يُعتبر أغرب من وجوده بغياب سبب فعال.

وورد عن ديفيد هيوم المقرب من الدكتور ميليكان:

لم أؤكّد قط استحالة الافتراض القائل بأنّه يمكن لأي شيء أن ينشأ من دون سبب، لكنني أكّدت أن ثقتنا ببطلان ذلك الافتراض لم تأت لا من الحدس ولا من البرهان بل من مصدر آخر.

وأفصح هيوم أنه من الغريب أن نظنّ بأن شيئاً قفز إلى الوجود من دون مادة أو سبب فعال.

ويقول الدكتور ميليكان»:

لكن الفيزياء الكمية تفترض أن منشأ الأشياء هو العدم»، على الإطلاق، وكما ذكرت سابقاً، في الفيزياء الكمية، يُعتبر الفضاء بحراً من الطاقة المتأرجحة، وليس عدماً. ويقول فيلسوف العلوم بيرنلف كانيتشايدر (Bernulf Kanitscheider):

تبعد نماذج تأرجح الفضاء كل البعد عن كونها جيلاً ذاتياً من الأشياء التي تنشأ من الصفر، لكنّ يُعتبر منشأ الفقاعة الابتدائية العملية السببية التي تودي بالكون من الأساسات البدائية التي تتمتع ببنية مادية صلبة إلى أساس فضائي جامد، وتتضمن هذه العملية التبعية السبيبة الضعيفة التي تختص بكل عملية ميكانيكية كمومية على حدة.

لذا لا يمكن اعتبار الفيزياء الكمومية استثناءً للمبدأ القائل بأنه إن بدأ الكون بالوجود إذاً فللكون مسبّب.

ختاماً، يقول الدكتور ميليكان إن ذلك يظهر خطأً في التكوين، مبرراً أنه إن حاز جزء من الشيء ملكية ما، يمتلكها الشيء كلّه. ولا ينبع هذا البرهان من التكوين، ولا أقول ذلك لأن لكل جزء من الكون مسبّباً، فللكون بأكمله مسبّب، إنما ما أقول إنه من المستحيل غيبياً أن تقفز الأشياء إلى الوجود من العدم. وإن فكرنا قليلاً بماهية عدم الوجود، نجده خالياً من القوى والخاصيات والإمكانيات، فكيف للكون أن ينشأ من دون مسبّب من لاوجود بسيط كهذا؟ إن هذا الأمر مستحيل غيبياً. إنما المنطقي هو التصديق بقدرة اللَّه على خلق هذا الكون.

أما اعتراض الأستاذ ميليكان الأخير، فجاء على البرهان الكلامي وقال إنّه لا وجود للعقل غير المجسّد، لكنني دعمت ببرهاني وجود العقل غير المجسد، فلا بد من مسبّب غير ماديّ للكون، ولا بدّ له من أن يكون شيئاً مجرداً أو عقلاً غير مجسّد، ولا يمكن أن يكون شيئاً مجرداً.

فضلاً عن ذلك، أظنّ أننا ندرك أنّنا أسخاص غير ماديين، ولا يجدي المذهب الماديّ المخفّض نفعاً لأن الخاصيات المادية لا تشبه تلك الذهنية، فعلى سبيل المثال، لا يشعر الدماغ بالسعادة أو بالحزن، ويتعارض مع مذهب الظواهر، أي الرأي الذي يؤمن بالخاصيات الذهنية للدماغ، مع خاصيات أخرى كالهوية الشخصية على مر الزمن والحالات المتعمدة وحرية الإرادة والسببية الذهنية. لذا أظنّ أنّ أفضل نظرة إلى الإنسان تتمثل باعتباره ثنائيّ المواد، أي ذا تفاعلية ثنائية، وإنّنا كعملاء غير ماديين، نتصل بالأجساد المادية ونمتلك بذلك القدرة على التأثير مادياً في العالم. وعلى نحو مماثل، بإمكان اللَّه أن يحدث تأثيرات مادية في العالم على قدرٍ ما يؤثر ذهني أو روحي في جسدي. ولم يزودنا الدكتور مليلكان بأي سبب أو برهان يظهر استحالة ذلك.

لذا أظنّ أن برهان منشأ الكون لا يزال قائماً ويدعم فكرة وجود خالق متعالٍ وشخصيّ وغير ماديّ للكون.

لم أسمع أيّ ردّ يخص برهان الضبط الدقيق.

بخصوص البرهان الأخلاقي، لم يقل الدكتور ميليكان إلا إنّ الملحدين لا يعتبرون القيم الأخلاقية ظالمة، ويمكننا اتباع النظريات المنفعية والنظريات البشرية وتلك الكانتية. والفكرة هنا هي أن جميع النظريات تفترض أن للبشر قيماً جوهرية، وأنا لا أرى بذلك تبريراً للمذهب الطبيعي. ووفقاً لهذا المذهب، ليس البشر إلا قروداً متطورة، وعملاً بمبدأ الإلحاد لا أرى سبباً إضافياً لاعتبار البشر أفضل من الشمبانزي أو قرود البابون، بالإضافة إلى أنه من الصعب على الملحدين الاعتراف بالالتزامات الأخلاقية، فلِمَ تلزمُنا الممنوعات والالتزامات الأخلاقية إن لم يتوفّر من يأمر بها وينهى عنها؟ وكما يصرح علماء الكيمياء والأخلاق، تتطلب الوصفات الأخلاقية واصفاً أخلاقياً تماماً كحاجة الوصفات الطبية لواصف لها، أما إن غاب مشرّع الأخلاق تصبح الالتزامات الأخلاقية مبهمة، لذا إن وافقتموني الرأي بوجود القيم الأخلاقية المتجردة، أظن أنكم تؤمنون بمنطقية وجود الله.

---------------------------

[1]*ـ  ويليام لاين كريغ: فيلسوف تحليلي ولاهوتي مسيحي أميركي.

ـ بيتر ميليكان: أستاذ الحساب والفلسفة في كلية هرتفور ـ أكسفورد.

ـ العنوان الأصلي للمقال:

Does God Exist? William Lane Craig vs. Peter millican.

ـ المصدر:

www.reasonablefaith.org/transcript/does-god-exit-craig-vs-millican

ـ ترجمة: مريم شحوري ـ مراجعته هيئة الترجمة والتحرير.