البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

علم اللاهوت ، جذوره ومضامينه وتطوراته المعرفية

الباحث :  بقلم إيان مرخام Ian Markham
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  7
السنة :  السنة الثالثة - ربيع 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 9 / 2017
عدد زيارات البحث :  8682
تحميل  ( 426.299 KB )
ثيولوجيا Theology،  أو علم اللاهوت، هو كلمة مركبة من كلمتين من اللغة اليونانية. «ثيو» تعني الإله و«لوجس» تعني كلمة. وثيولوجيا تعني «كلمات عن الإله».

يُركّز علم اللاهوت على ماهية الإيمان، ولهذا فهو علم متجذر في التراث المنقول. لهذا يقال «اللاهوت في الديانة المسيحية» أو «اللاهوت في الديانة اليهودية» أو يُعادلها في الإسلام من مصطلحات تعكس مهمة هذا العلم مثل علم الكلام وعلم الأصول والإلهيات وسوى ذلك».

يلقي هذا البحث الضوء على الطرق المتعددة في استعمال مصطلح اللاهوت، ثم يمضي إلى تفصيل هذا العلم في الديانة المسيحية مع الإشارة إلى بعض ما يمت بصلة لهذا العلم من الديانات الأخرى.

المحرر


تشتمل هذه الدراسة على ثلاثة محاور:

أـ مصادر علم اللاهوت

ب ـ تأثير الحداثة أو التحدّث في علم اللاهوت

جـ  الاتجاه المتوقع لمستقبل علم اللاهوت

أولاً: كلمة اللاهوت المتداولة

اقترح لودويغ فتغنشتاين  (Ludwing Wittgenstein 1889-  1951) أنّ الطريقة الأفضل لبلوغ المعنى الحقيقي لكلمة معيّنة هو الاطلاع على كيفية استعمالها أو استعمالاتها. فالأمر يتطلّب أن لا يحصر المرء معنى كلمة معينة في تعريف واحد لا ثاني له،  وكما حال التعددية في الطبيعة البشرية فإن الكلمات يمكن أن تشير إلى معانٍ متعددة (أنظر بايرن وكلارك 1993)(Byrne and Clarke 1993). وكلمة اللاهوت لا يمكن استثناؤها من هذه الأطروحة. هناك أربعة معان رئيسية لهذه الكلمة في المؤلفات.

المعنى الأول هو الذي أشرنا إليه في بداية هذا الفصل،  ألا وهو محاولة الوصول إلى منهجية في معرفة الإله وعلاقاته بالموجودات. إنّ معظم الأديان لها إيمانها الخاصّ عن طبيعة الحقيقة الكبرى وكيفية السيطرة لهذه الحقيقة على عالمنا. هذه المعتقدات هي المحور في تعريف علم اللاهوت. إن هدف علم اللاهوت لا يتوقّف عند تعريف هذه المعتقدات بل يتجاوز ذلك ليفضي إلى شرحها وتعليلها. والشرح هو الإتيان بمعنى مترابط لهذه المعتقدات. والتعليل هو إعطاء الأدلة التي تثبت بأنها معتقدات حقة. إنّ صعوبة الخوض في هذا العلم أجبرت الكثير من أصحاب العقيدة اللجوء إلى تبريرات راوحت في طرحها بين غموض أو التباس. ومع هذا فإن علم اللاهوت نفسه سيكشف للمرء ثبوت هذه التبريرات أو سقوطها.

والتداول الثاني لكلمة اللاهوت هو محاولة تحديد الرؤية الإلهية لصفة أو لبيئة معينة. ولهذا نجد علماء دين مسيحيين يشيرون إلى الغاية الحقيقية في كسب العيش أو الرغبة الجنسية من ناحيتهما الدينية أو العقائدية،  والواقع بأنه يمكن للمرء أن ينظر إلى الغاية الحقيقية لأي شيء على أن يكون الهدف من وراء ذلك إيضاح غاية هذا الشيء والروابط الإلهية من خلاله. فعلى سبيل المثال نجد بعض رجال الدين المسيحيين يتوسّعون في تعريف العمل الدنيوي (الكدّ في كسب العيش) في فكر أوغسطين (Augustine) (354 – 430) أو تعريف أكواينس -1274 Aquinas 1225 أو لوثرLuther  1483- 1546  أو كالفن (1509 - 1564) وإظهار التباين بينهم في الرؤية  ڤولف  Volf  1991 لدبتر Ledbetter) 2001). فإنّ أحد رجال الدين قد يشير إلى أنّ أوغسطين كان يرى أنّ المشقة في كسب العيش هي عاقبة الخطيئة. في حين أن أكواينس(الإكويني) (Aquinas) كان يُقيّم الأمور بعقلانية أكبر ولذلك كان يرى أنّ الكدّ في كسب العيش له قيمة في ذاته. لوثر وكالفن(Luther and (Calvin  بدورهما أشادا تأكيداً أن الهدف للعمل الدنيوي هو خدمة الله. وفي كل حال فإن رجل الدين يقوم بتعيين الرابط بين تعريف الإيمان في الكتاب المقدس وتطبيق ذلك واقعاً وعملاً. وبعد طرح هذه الدراسة التاريخية،  يمكن لرجل الدين بناءً على المصادر الشارحة للإيمان أن يقترح تفسيراً آخر لمعنى الكدّ والعمل.

والاستعمال الثالث شاذ،  وهو القول بأن اللاهوت إنما يستخدم ليصف المعضلات التي لا حلّ لها أو التعقيدات غير الضرورية. وهذا الاستخدام متداول بشكل رئيسي بين العلمانيين والملحدين وبين الذين لا يعيرون الماورئيات  اهتماماً. رئيس الوزراء البريطاني الأسبق هارولد ويلسون كان يصف الحوارات السياسية والأسئلة التي لا تناسب رؤيته باللاهوتية. وهدفه من ذلك هو تأكيد أنه لا فائدة من نقاش النقاط المطروحة لأنها لا تنتهي إلى نتيجة عملية. المروجون لهذا الاستعمال يبررون موقفهم بالإشارة إلى الجدل المشهور في العصور الوسطى حول عدد الملائكة التي يمكن أن ترقص على رأس إبرة في آن واحد.

إذا أردنا تجاهل هذه الرؤية وهذا التداول الساخر لكلمة اللاهوت فثمّة سؤال منطقيٌّ يطرَح: كيف يمكن للبشر أن يعلموا ماهيّة العالم العلويّ؟ ايمانويل كانط (Kant 1724 -1804) رأى استحالة أن نفهم عالم الحقيقة بما هو،  أو كما هو،  وبأنه يجب أن نشغل أنفسنا بمعرفة العالم الظاهري،  أو العالم كما يبدو لنا. بالنسبة إلى كانط وآخرين كثر لا يمكن لنا الخروج من أجسادنا لكي نكتشف حقيقة الوجود. وبتحقيق ذلك،  تكون إحدى تبعات علم اللاهوت هي الإقرار بأن منظومة المعارف لدينا محدودة،  ولذلك يتوجب علينا أن نعطي العقيدة أو الإيمان أهمية.

الرابع في استعمال كلمة اللاهوت وهو الشائع في أوساط المسيحيين التبشيريّين وهو استعمال ناءٍ عن المعرفة الفكرية. وبناء على هذا الاستعمال فإن اللاهوت عند هذه الطائفة هو ارتقاء (الارتقاء دون مقدمات) أو تفوّق المنطق البشري على أدنى متطلبات العقيدة. وبذلك يكون علم اللاهوت هو المبرر لاستعلائهم والاعتقاد بأحقيتهم المطلقة دون قيد أو شرط.

والنظرة هذه تبلورت بعد التحرّر العقائدي في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلادي فالكثير من المسيحيين يعتقد بأن دراسة الإنجيل،  تحليلاً أو نقداً،  هو السبب في تشويش فهمهم لـ “كلمة الله”. فبالنسبة إليهم إن أي دراسة أو تقييم كما ذكر أعلاه يُعتَبر وهماً،  ولا يمكن لأي دراسة أن تعطي شرعية لـ «كلمة الله». فالمقبول من علم اللاهوت عندهم هو ما يشرح كلمة الإله وما خلا ذلك فهو جزاف.

أما أنا فسأستخدم التعريف الأول في ما تبقى من هذا الفصل. فإني رجل دين ولديّ نظرة إيجابية جداً عن الوظيفة الخاصة لعلم اللاهوت. ولا بدّ من ذكر أنّ التعريفين الأخيرين (أي الثالث والرابع) يثيران تساؤلاً ذا أهمية: ما هي الأسس التي تجعلنا نُقرّ بأنّ علم اللاهوت هو الطريق لمعرفة الحقّ؟ والحال أن هناك اعتقادات متعددة عن الإله وعن علاقاته بالموجودات في كل دين وبين الأديان المختلفة. فكيف نقرر إذاً الحق بين تلك المعتقدات؟ كيف نوفق بين الاختلافات القائمة حول علم اللاهوت؟ للإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من دراسة المصادر المختلفة لعلم اللاهوت. والتركيز سيكون في التراث المسيحي مع الإشارة إلى بعض ما يتصل ببحثنا هذا من التراث غير المسيحي.

مصادر علم اللاهوت المنهجي

اتفقت كلمة الأديان على أن البشر لا يمكنهم الوصول إلى معرفة الله بقدرتهم الذاتية. وبنظر الكثيرين فإنّ الله هو الكائن الذي خلق العالم وأوجد كل شيء. ولذلك فإنه من الصعب أن يكون للبشر،  وهم جزء صغير في عالم التكوين،  القدرة على معرفة الخالق. ولهذا فإن الأديان تعتمد على الوحي نصاً أو شخصاً لتخبرنا عن الله. هناك إمكانية للوصول إلى معرفة الله بصورة جزئية فعلى سبيل المثال يمكن لنا تأمُّل الكون واستنتاج أنّ له خالقاً أما التعيين ومعرفة الصفات الإلهية فلا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الوحي.

وبناء على ذلك سنبدأ بأول وأهم نوع من الوحي أي الكتاب المقدس. كل دين له كتاب أو كتب تختلف عن كتب الأديان الأخرى. فالمسلمون كتابهم القرآن الكريم (Qur’an) والمسيحيون كتابهم الإنجيل (Bible)،  واليهود كتابهم التوراة (Hebrew Bible)،  والهندوس (Hindus) كتابهم الڤيداس (Vedas)،  والبوذيّون (Buddhists) كتابهم التبربيكاتيا (Tripitaka). ومع ذلك فإننا إذا دققنا في الأمر فسيتبيّن لنا بأن المسألة أكثر تعقيداً مما تبدو.

فالمسلمون يعتقدون بأن القرآن المقدس (Qur’an) هو بعينه الكلمات التي أملاها الله على نبيّ أُميّ عاش في القرن السابع الميلادي في مكة (Mecca) والمدينة(Medina) في شبه الجزيرة العربية،  (أو ما يُسمّى بالمملكة العربية السعودية). والقرآن باعتبارهم لا يشوبه ريب أو خطأ. ويقال إنّ بديع بيانه وجمال لغته العربية هما الدليل على أنه وحي مقدّس. ومع أن بعض الأصوليين من الطائفة المسيحية التبشيرية (conservative evangelical Christians) قد يصفون الإنجيل (Bible) بصورة تُماثل ما يصف المسلمون القرآن Qur’an) ولكن هناك مغايرة أساسية بينهما.

فالقرآن يبدأ كلّ فصل أو كلّ سورة(sura) ببيان (أي البسملة) تأكيداً أنّ كلّ ما ينبع هو محض كلمات الله. وفي المقابل فإنّ دعوى المسيحية للوحي الإلهيّ تشوبها الغموض. فإن أكثر ما يتلى أو يردد من الإنجيل هو هذا المقطع: “كلّ الكتاب هو إلهام من الله ونافع للتعليم والتوبيخ والتقويم والتأديب الذي في البرّ” تيموثاوس(16:3). والإلهام هنا يعني الوحي. وهذا ما يذكر في التوراة،  وما ورد عن ذلك في الإنجيل فهو منقول عن التوراة القديمة. إضافة إلى ذلك فإن التوراة (Hebrew Bible) ليس فيها عبارة «كلام الله»،  بل العبارة «يقول الله» وهذا يؤكد أنّ تبليغ الأمة يأتي من الله بواسطة. ونضيف أيضاً أنّ الكتب الأخرى لا تدعي أنّها كلام الله. فعلى سبيل المثال فإن الزبور(Psalms) هو مناجاة أو كلمات مُخَاطِبَة لله وليست العكس.

ولهذه الأسباب فإن علماء الدين المسيحيين (Christian theologians) يؤكّدون أنّ الإنجيل(Bible) ليس كلمة الله وإنما يحتوي بمضمونه على كلمة الله. فالعالم السويسري (Swiss) المشهور كارل بارث (Karl Barth) (1886 -1968) جزم بأن كلمة الله عند المسيحيين هو عيسى(عليه السلام)((Jesus. ولذلك ورد في مقدمة وصايا يوحنا (Gospel of John) في الإنجيل بأن عيسى هو الكلمة التي كانت مع الله منذ الأزل. ولذلك فإن بارث(Barth) اعتقد بأن الإنجيل(Bible) يصبح كلمة الله لأنه الشاهد على «الكلمة» التي هي عيسى عليه السلام. وهذا الاعتقاد أو هذه الرؤية للكتاب المقدس مغايرة تماماً لنظريتها في الإسلام.

المصدر الثاني لعلم اللاهوت هو المجتمع المؤمن حيث يكون رجل الدين فرداً من أفراد هذا المجتمع. والتراث الديني إنما هو تعبير لوصف اللاهوت في تفسير الكتاب المقدس مع مرور الزمن. والمجتمع يؤثر في الأصول المعتمدة في تفسير النص القدسي كما يُؤكِّد الفيلسوف آلاسدير ماكنتاير(Alasdair MacIntyre) في كتابه (عدالة من؟ عقلانية من) Which rationality? Who’s Justice?) 1988). فالتفسيرات بالنسبة لماكنتاير متجذّرة بالتراث المنقول. فالنصوص تُفسَّر أولاً ثم تُعدَّل،  وهكذا دواليك،  وذلك نتيجة تأثر تراث ما بتراثات أخرى.

المصدر الثالث لعلم اللاهوت هو المنطق. إنّ أهمية المنطق أو العقل تختلف من تراث إلى آخر. في الغرب يدور الفكر أو المنطق حول محورين رئيسيين: الترابط والتعليل.

فالعقيدة تكون مترابطة عندما لا تخلو من التناقضات. معظم التناقضات في الدين غير واضحة المعالم. إنما يبرز هذا التناقض نتيجة ظهور عقيدتين مختلفتين. فعلى سبيل المثال فإنّ ديناً ما يمكن أن يؤكّد اعتقادين: «البشر أحرار الإرادة» وأنّ «الله يُقدِّر كل ما يحدث» فإن حرية الإرادة هنا تعني بأن أفعالهم لبست عن سابق قضاء،  فكيف يمكن لله أن يقضي ويقدر أفعال البشر؟ وهنا يكمن دور علم اللاهوت في التوفيق بين هذه العقائد،  كأن يقال إنّ الله له سابق العلم بالأفعال التي يختارها أو سيختارها البشر.

أهمية المنطق تختلف بين تراث وآخر. بعض الطبقات عند معظم الأديان تُصرّ على أهمية المنطق وبعضها الآخرُ يصرّ على أنّ العلوم الغيبية في الدين لا يمكن فهمها بالمنطق. ماكنتاير(MacIntyre)يرى أنّ “المنطق النظري” هو وليد وإملاء تراث وأن “قواعد المنطق” لا يمكن فرضها على كل دين. ولكن ما يحاول ماكنتاير طرحه غير واضح. فهو ومن خلال تأكيده استقلالية كلّ تراث،  يبدو معارضاً للتناسب أو الترابط بين الأديان. ماكنتاير(MacIntyre) كان شديد الاعتراض على الفيلسوف الإنكليزي بيتر ونش (Peter Winch) الذي كتب:

إن معايير المنطق ليست هبة من الله،  ولكنها تبرير لاعتبارات فكرية محدودة ومرتبطة بمقتضى حال الحياة الاجتماعية. على سبيل المثال،  فإن العلوم الحسية حال والدين حال آخر. ولكل معايير وضوابط فكرية على حدة.. ولكن لا يمكننا الجزم بأن العمل بالعلوم الحسية منطقيّ أم لا وكذا القول في التمسك أو العمل بالدين. فكلاهما غير منطقي. (ونش 1958 ص100 101) ثمة اعتراضات لـ ماكنتاير(MacIntyre) على هذا الرأي.

أولاً إن رؤية ونش لتأثير العرف تؤدي إلى صعوبة فهم التراث التاريخي. فعلى سبيل المثال،  شهدت اسكتلندا في القرن السابع عشر تحولاً من مجتمع يؤمن بالشعوذة إلى عدمه. فأولئك المعنيون بهذا التحول طرحوا أفكاراً علمية وفكرية أدّت إلى هذا التحول. أما الذين عاشوا في فترة التحول فإن رؤيتهم لعالم فيه شعوذة انحسرت فكرياً لمصلحة رؤية عالم لا شعوذة فيه. ولذلك فليس يمكننا القول إنّ لكل رؤية فكراً خاصاً منفصلاً تماماً عن الآخرين. ولذلك فإن تحليل ونش لم يكن صائباً.

ثانياً فإن ونش (Winch) يقول إنّ الترجمة العملية يصعب فهمها. ماكنتاير (MacIntyre) يصفها هكذا:

لنفترض عبارة قالها أحد المنظرين الزنديين أو الملك جيمس السادس أو الأول (King James VI or I).

«الشعوذة أمرٌ حقيقي». ولنفترض عبارة أخرى قالها مشكّكون لاحقون: «الشعوذة أمر غير حقيقي». لا يمكن ترجمة العبارة الثانية على أنها نفي للعبارة الأولى إلا في حال إحدى العبارتين قبلت أو كتبت حصراً لنفي الأخرى. ولذلك فإنا إذا لم نستطيع من موقعنا وفي لغتنا إنكار ما يقول المنظر الزندي أو الملك جيمز King  James،  فإننا وللسبب نفسه لا نستطيع ترجمة عباراتهما عملياً إلى لغتنا. إن خصوصية الأعراف تفضي  إلى خصوصية لغوية. وهذا ما يجعل المقارنة بين عرف وآخر أمراً مستحيلاً. ولكن وبالتأكيد فإنّ أيّ قراءة أو ترجمة ليست مستحيلة. (ماكنتاير 1970 –ص 129).

إن عالم الدين الإنكليزي كيث وورد (Keith Ward) يؤكّد النقطة نفسها وهي ضرورة افتراض عوامل فكرية مشتركة: هناك بعض المعايير البسيطة التي يمكن أن نبني عليها الحقائق في الدين أو مواضيع أخرى. فالفكر يتطلب استحضار مؤهّلات واسعة من الذكاء،  بما في،  سعة في تسلّم صحيح للمعلومات،  ومقارنة تلك المعلومات بما هو مماثل لها،  ثم استنتاج واستنباط طبقاً لقواعد المنطق والربط الفعلي بين الأسباب وغاياتها. فالإنسان المفكر يمكنه العمل بمبادئ منهجية جلية للوصول إلى الهدف المنشود... إن هذه الأساليب الفكرية المبسطة هي ضرورة لأي شكل من أشكال الحياة الاجتماعية المنظمة على أسس فكرية. وهذه الأسس الفكرية البسيطة ليست ولا يمكن أن تكون حكراً لعرف دون آخر (وورد 1934 ص319).

المصدر الأخير لعلم اللاهوت المنهجي هو المعرفة،  والمعنى هنا معرفة الله. فالمعرفة برأي بعض رجال الدين لُبّ الدين. عالم الدين الألماني فريدريك سكالايماخر (Friedrich Schleiermacher 1768 1834) أكّد أنّ قلب الدين المسيحي هو العرفان بالتوكل على الله. والمعرفة بالتوكل تسوق إلينا كل ما يتبعها من معارف عن الله. هناك طروحات متقدمة في علم اللاهوت قالت أنّ المعرفة هي معرفة عباد الله،  وخصوصاً المستضعفين منهم. وأهميتها تكمن في أنّنا من خلال فهمنا العقائدي توقظ فينا روح العدالة والتمسُّك بها بقوة. فدعاة تحرّر المرأة،  على سبيل المثال،  يؤكّدون أنّ معرفة المرأة بالله لم تُعطَ أيّ أهمية. وعلى الوتيرة نفسها هذا القول فإن السود أو الأفريقيين يؤكدون أنّ الفكر الذي رَوَّجه البيض كان ظالماً. فإن معرفة الله بين الأرباب البيض تتنافر تماماً مع مثيلتها بين العبيد السود.

لدينا إذاً أربع مصادر رئيسية لعلم اللاهوت:

أ) الكتاب المقدس

ب) المجتمع أو الأمة

ج) العقل

د) المعرفة.

وهذه العوامل الأربعة تختلف في حبكتها وتفاعلها بين تراث وآخر علاوة على ذلك،  فإن معظم الأديان تفرعت منها علل ذات تنوعية وخيارات متفاوتة. فالإسلام كما قلنا جعل القرآن هو المحور الأساس ولكن بعض ملل الإسلام كالصوفية(Sufism) جعلت علم الغيب أو المعرفة بالماورائيات هي المحور. أما الخلاف في المسيحية فإنه يكمن في العلاقة بين الكتاب المقدس من جهة والكنيسة من جهة أخرى. فالكاثوليك (Roman Catholics)،  وبعد عقد مؤتمر ترينت (Trent)في القرن السادس عشر،  أكّدوا أنّ الكتب المقدسة لديهم تحتاج إلى الكنيسة لتفسيرها. وبالمقابل فإن مارتن لوثر(Martin Luther)،  أحد مؤسسي الطائفة البروتستانتية (Protestantism)،  عارض قائلاً إنّ الكنيسة يجب أن تطيع وتنقاد للإرشادات المنطقية في الكتاب المقدس. ولذلك فالسلطة المطلقة في الكنيسة البروتستانتية(Protestantism) هو الكتاب المقدس.

مثال آخر لتوضيح كيفية تفاعل المصادر الأربعة هو ما يدور في فلك التساؤل عن مكانة العقل. تأسياً بـ ريتشارد هوكر (Richard Hooker (1554 – 1600) يقول أنجليكان (Anglicans) إنّ الدين هو كرسي ذو ثلاث قوائم، الثالثة منها العقل بعد الأُوليين أي الكتاب المقدس والتراث (المنقول). ومنذ عصر النهضة فإن المسيحيين المتحضرين أعطوا العقل أهمية خاصة.

فالمفاهيم التي كانت مفروضة من الكنيسة أصبحت تُناقش وتُعارض بالاكتشافات في مجال العلوم الحسية. الناقدون لهذه الطريقة في التفكير أكدوا بدورهم أنّ العقل أصبح أداة لتقييم العقيدة المسيحية. المدافعون عن العقل ردوا عليهم بدليل أن غاليليو (Galileo) كان محقاً والإنجيل مخطئاً.

هناك حوار آخر ذو أهمية حول مكانة التأريخ. على سبيل المثال فثمة فرق بين النظرة للعصور الماضية،  كما رآها كاتب الوصايا حتى كاتبو الإنجيل،  وبين توقعاتنا واحتياجاتنا في يومنا الحاضر. بالنسبة للوصايا فإن وظيفة التأريخ هو إيضاح أهمية الماضي من أجل الزمن الحاضر. فالكاتب كان مهتماً بمكانة دار العبادة. فالملوك الأربعة الذين توسع الكتاب في ذكرهم هم داوود (David) (الذي جاء بمركب الإيمان إلى القدس) سليمان (Solomon) (لبنائه المعبد أو الهيكل)،  والمصلحان للمعبد (يوشيا وجوش) (Josiah،  Joash). الكثير من الملوك الآخرين الذين حكموا فترةً أطول وبمعاييرنا الحضارية أظهروا العدل،  كانوا أكثر أهمية ولكن لم يذكروا كغيرهم. فكاتب الوصايا يرى أن وظيفة نقل الماضي هو إبلاغ تحديات الحاضر وتحديده.

وفي الجهة الثانية فإن حساسيتنا الحاضرة للتأريخ كرّست اهتمامنا للسؤال عن دقة ما جرى. بالنسبة إلينا الماضي يجب أن يفهم بمعطياته. إنجاز مهم من إنجازات عصر النهضة هو دراسة التاريخ بموضوعية. فبدلاً من أن نُسَخِّر الماضي للتبليغ عن شؤون الحاضر،  يجب أن نستخلص حقيقة ما حدث في الماضي،  والسبب الذي دفع بأصحاب القصة آنذاك لأن يفعلوا ما فعلوا. باختصار،  إن وظيفتنا اليوم أن ننظر إلى التأريخ ونقيمه مداراةً ومجاراةً للأشخاص والمجموعات المعنيين.

النقاش عن المصادر والطرائق وملتقياتها أدخلنا على موضوع القسم التالي: وهو تأثير الحداثة في دراسة علم اللاهوت. وهذا هو موضوعنا التالي.

الحداثة وعلم اللاهوت

بالنسبة لعلماء الدين الذين يعتبرون أنّ عصر النهضة الفكرية أدى إلى تحويل جوهري في فهم أنفسنا ومكانتنا في الكون،  فإن الحساسية التاريخية هي المفتاح. المتخصص في دراسة الإنجيل الإنكليزي ليزلي هولدن(Leslie Houlden) المشهور بقوله: «يجب أن نتقبل مكانتنا،  التي أُورِثْناها بفعل النهضة الفكرية وأن نستخدمها على أفضل الوجوه». (هولدن 1977 ص125). دينيس ناينهام (Denis Nineham) (1976) توسع في تفصيل دلالات اللاهوت عند المسيحيين. فأشار إلى أن حساسيتنا التاريخية نبهتنا إلى الاختلافات الشاسعة في العصور السابقة وعصرنا هذا. فحقيقة الأمر أنه لا يمكننا الإيمان بعقيدة ما بطريقة مماثلة لما اعتقده السابقون. فلنأخذ مثالاً واضحاً،  الاعتقاد بالمعراج في كون تلاقي الأبعاد يفترض عروج عيسى إلى سماء فوق السحاب. أما ما بعد كوبر نيكوس(post-Copernican) ونظريته عن الكون،  فإن وصف السماء على هذا

 النحو لم يعد وارداً. فالعالم الفلكي الأميركي،  كارل ساغان  Karl Sagan،  أبلغ القسيس جان شلبي (Bishop John Shelby Spong) بأن عيسى إذا انطلق من الأرض بسرعة الضوء فإنه لن يتجاوز النظام الشمسي حتى بعد ألفي عام من انطلاقه (سبونغ 1998 ص 40-41).

فرؤية المحافظين من المسيحيين تحث على تعديل الاعتقاد ليشمل الارتفاع عن الأرض عدة أميال (شرحاً لما في الإنجيل) ثم الانطلاق إلى عالم موازٍ لعالمنا (استعمالاً للغة الفيزيائية الحديثة). وبهذا فإن هذا التعديل في الاعتقاد بالمعراج ليس مماثلاً لنظيره القائل «عرج إلى السماء» والوارد في الأصول. النقاش في أهمية التاريخ محوري في علم اللاهوت الحديث. فإن حساسياتنا في زمن النقاش في عصر الحداثة ركزت في معرفة «الدقة في ما حصل»،  أما حساسيات ما بعد الحداثة طرحت تحدياً لشرعية السؤال عما حصل. إن إمكانية استجواب الماضي من قبل مراقب أجنبي ومن خلفية زمنية مختلفة هو أمر مستحيل. وبدلاً عن ذلك فقد تكونت رؤية مختلفة. أحداث الماضي تأتي إلينا بشكل رئيسي بنصوص مكتوبة.. كل النصوص تتطلب تفسيراً. فالدقة المنشودة من معرفة ما عناه النص لمن سمعه أولاً ليست صعبة المنال وحسب،  بل تحتاج إلى أن يكون لنا إمكانية الانتقال بأعرافنا إلى عالم آخر. فلا يمكن لنا أن نربط القرون السالفة التي كانت بيننا وبين النص. الحداثة افترضت أنّ الحقيقة – دقة وصف الأمور كما هي ممكنة. أما بالنسبة لعلماء الدين المتأثرين بعصر ما بعد الحداثة فلا وجود لما يسمى بـ «معطيات مبهمة». فلنستعرض مثلاً استخدمه ناينهام،  معاناة شخص من عارض أو نوبة في القرن الثالث عشر كان التشخيص فيها على أنه مسحور أو متلبّس من الجِنّ. أما في القرن الحادي والعشرين فنوبة كهذه تشخص بداء الصرع. المعطيات الحسية الصورة المرئية بالعيون لم تتغير،  بل الذي تغير هو التفسير. هذا الحس المضاعف في التفسير أنتج نظريات خاصة ومختلفة. دعاة التحرير وأنصار حقوق المرأة من علماء الدين أكدوا أنّ الواقع المعيشي من جهة والعصبية ضد المرأة من جهة أخرى هما المفتاح في فهم النص. العقيدة في الحث على التحرر انطلقت من الكنيسة الكاثوليكية في أميركا اللاتينية. إن هذه العقيدة قويت من خلال فهم جديد في قراءة التهجير في «الهجرة 3»،  والأمثال التي بينها عيسى في فصل لقمان. فمن خلال هذه القراءة فإن المرء لا يستنتج أنّ كل ما هنالك هو نجاة الفرد أو العفة أو الاهتمام بالمسائل الروحية. بل على العكس،  فإن المعدمين في أحزمة الفقر في البرازيل يعرّفون بأنفسهم من خلال مأساة التهجير (المذكورة أعلاه) ومن خلال وعد الله بتحرير خلقه من العبودية للآخرين. فبيان عيسى بأن «الأثرياء سيجدون صعوبة في الدخول على مملكة الإله». المعني به هم «لأثرياء» الذين يستخدمون سلطتهم لاحتكار كل الثروات.

إن دعاة حقوق المرأة من علماء الدين يدرسون الكتاب المقدس من زاوية القوة. كنظرائهم من دعاة التحرير،  فإنهم مستاؤون من دعم الديانة المسيحية للثراء والذكورة،  وتهاونها بشؤون المرأة. فتاريخياً،  الأثرياء من الذكور استأثروا بكل الخيارات أما النساء فعانين الظلم،  والاضطهاد،  والاغتصاب حتى القتل. فلذلك كرس الدعاة إلى تحرير المرأة من علماء الدين جهودهم لفهم أنه كيف يمكن للديانة المسيحية أن تسمح أو ترعى هذه الأفعال.

فإن فقرة من نص ديني أحياناً تتلفظ بمعان لا يشوبها شك بأفضلية الذكور. فهذا «تيموثا» (Timothy) يؤكد أنّ آدم (Adam) خلق أولاً،  وأن حواء ارتكبت أول خطيئة. ولهذا السبب كانت السلطة للرجال على النساء. فالنساء محرَّم عليهن تعليم الرجال. وأحياناً أخرى الإقرار بأعظمية الذكورة يظهر بصورة غير مباشرة. فالإشارة إلى الإله بلغت «الأب» قد يبدو عادياً ولكن عندما يكون الحضور من الرجال فقط كما في عالم الرهبان المانع للزواج،  فهناك تكمن أهمية إضفاء صفة الذكورة على الإله كواقع لا يساوره شك. ومما يعزز رؤية الدعاة لتحرير المرأة من علماء الدين،  ما هو شائع ومعروف وهو الاعتقاد بأن المسيحية تأثرت بشكل كبير بثنائيتي العصر اليوناني والروماني. ومن هاتين الثنائيتين تسربت أفكار كان لها الدور في انتشار أفضلية الذكورة.

الثنائية الأولى هي بين الإله من جهة والمادة من جهة أخرى. والثنائية الثانية هي التي بين الروح والجسد.

فالنقاش يدور هكذا: الثنائية بين الله والعالم بحيث إنّ الله خُلْوٌ من العالم،  وهو المسؤول عن فناء المادة التي يتكون منها العالم،  والغلبة للروح التي هي الله. الله كان قبل العالم وسيبقى بعد نهايته. العالم هو تكوين زائل. ولذلك فإن العالم المادي لا قيمة له. ولهذا فإنه غير مثير للدهشة بأن مسيحيي الغرب لا يكترثون للأزمة البيئية التي تهدد كوكبنا.

إضافة إلى هذه الثنائية ثمة اعتقاد بأن الجسد يفنى و«الروح» الإنسانية تبقى ولهذا فإن الدين لا يعطى أي قيمة للجسد. التبعات لهذا القول مهمة جداً للقائلين بأفضلية الذكورة. من المسلَّمات في الأعراف افتراض أن الرجال وبسبب أفضلية عقلهم وقوتهم هم أقرب إلى الله وأن النساء أقرب إلى الطبيعة.

الرجال يشبهون الله والسبب هو إعطاء الله صفات ذكورية. لأن المتعارف عليه أن الرجل يتمتع بالحكمة والقوة،  وهاتان صفتان من الصفات القدسية،  أما النساء فمكانهن مع الطبيعة «الأم» لأن وظيفة كلتيهما هي التكاثر. ولهذا جاء ذم الحيض من التوراة القديمة (سفر اللاويين 19:15 – 23) فالرجال يخافون القوة التناسلية عند النساء. إضافة إلى ذلك،  فإن شكل الإناث يثير الشهوة الجنسية عند الرجال فتكون عاملاً في تقليص قدرة السيطرة على أهوائهم. وبهذه الافتراضات التلقائية عرفاً،  يتمخض القول بالتبرير الحاصل لسلطة الرجال. إن الزواج مؤسسة اجتماعية حيث إنّ الرجل يكون «رب البيت» وعلى هذا فإن الفرص المتاحة للنساء لأي دور قيادي في الكنيسة أو العالم محدودة جداً.

إن انتقادات دعاة تحرير المرأة للدين تأخذ طابع ما أسميته بـ «أطروحة شخصية»،  (مارخام (Markham 2004 ص 95) هدفها فهم السر في انشغال أو انهماك الأمة المسيحية وبشكل أوسع الحضارة الغربية بهذه الأطروحة. فعلى سبيل المثال،  إن عيسى لم يتكلم عن موضوع الجنس إلا قليلاً فلماذا إذا هذا الاهتمام الكبير للكنائس بموضوع الجنس؟ ما السبب في ولع الناس بالأوصاف الذكورية لله،  مع العلم أن كل علماء الدين يقرون بأن الله في ذاته أعلى من أن يوصف بجنس؟ الأطروحة الشخصية لدعاة تحرير المرأة تجيب عن هذه الأسئلة.

إذا نظرنا إلى الهند فإن هذه الأطروحة أقل تداولاً. فالمتعين في أطروحة تحرير المرأة هو أن الديانة المسيحية يجب أن تعيد النظر في وصفها لله. وهذا ما طرحته العالمة الدينية سالي ماكفاغ Sally McFague1993. آملة أن تعتدل بذلك أعرافنا فتقلل الاهتمام والتركيز في الذكورة وتصبح أقل عداوة للبيئة. وبالرغم من أن الهند تصف الله بالواحد والمتجلي بآلهة عديدة على أشكال إناث،  فإن المجتمع فيها يتمحور حول أفضلية الذكورة،  ومن ناحية أخرى فإن الاهتمام بالبيئة شبه معدوم. «كووك پوي» لان في كتابها (Introducing Asian Feminist Theology 200)،  أكدت أنّه يجب على دعاة تحرير المرأة في الغرب أن لا يعولموا انتقاداتهم للمسيحية.

تقول في كتابها: في الوقت الذي يتوجب على دعاة تحرير المرأة في الغرب إما تحدّي الروابط المتينة بين المرأة والطبيعة وإمّا إيجاد أبعاد إيجابية لما تجسده المرأة في قربها للطبيعة،  فإن دعاة تحرير المرأة من علماء الدين في الشرق الأقصى يواجهون الأعراف التي تمجد الطبيعة وفي الوقت  نفسه تنظر هذه الأعراف إلى جسد المرأة نظرة احتقار. «پوي لان» (2000 ص115).

إلى هنا يمكن القول إنّ معالجتنا للحداثة ركزت في حساسيتنا تجاه التاريخ التي هي وليدة النهضة الفكرية. وهذه الحساسية بدورها أدت إلى حساسية تجاه التفسير. وهذه بدورها أدّت إلى بزوغ حركة «المفسرون المشككون» الذين أثاروا التساؤلات حول المستفيد من هذه التفسيرات للنص الديني. إن عقيدة دعاة التحرير من العبودية ومثيلتها لدعاة حقوق المرأة،  هما عيّنتان لهذه الأطروحة التي تمخّضت عن الحساسية تجاه التاريخ في عصر النهضة.

موازاةً لهذه الحساسية تجاه التاريخ كان بزوغ العلوم الحسية الحديثة. والمشهور بين الناس بأن العلوم الحسية تشكل التحدي الأكبر للدين. إن محاكمة غاليليو (Galileo) (1564 1642) الذي تجرأ أن يتحدّى أفكار الكنيسة الكاثوليكية عن النظام الكوني،  والعداء الدفين لنظرية داروين Darwin’s   1859 1882  في الانتقاء الطبيعي هما نموذجان فقط عن عمق الصراع بين الدين والعلم الحسي. فالاعتقاد السائد الذي كان أن الكواكب تسير في أفلاكها بقوة الله أما الآن فالمعروف أنّها على ما هي بقوة الجاذبية. إن الكوارث الطبيعية طالما اعتبرت عقاباً من الله أما الآن فهي تفسر علمياً. العالم البيولوجي الإنكليزي ريتشارد داكنز (Richard Dawkins) يعلق على ذلك بجرأة فيقول:

«نحن نعلم على وجه التقريب متى بدأ الكون ولماذا الهايدروجين هو المادة الرئيسية فيه. نحن نعلم كيف تتكون النجوم وكيفية التفاعل في أعماقها لتحويل الهايدروجين إلى مواد أخرى،  والنتيجة هي ولادة الكيمياء في عالم الفيزياء. نحن نعلم القواعد الأساسية حيث يتحول عالم الكيمياء إلى بيولوجيا بحسب نمو جزئيات المادة وتكاثرها الذاتي. نحن نعلم القاعدة التي تمكن من التكاثر الذاتي،  ألا وهي نظرية داروين (Darwin’s) في الانتقاء الطبيعي لكل الأحياء حتى البشر.

إنه العلم،  وحده العلم الذي أعطانا هذه المعرفة،  وأعطانا إياها برونق وكثرة وبأدلة وتفاصيل دامغة. اتفقت الأدلة بشكل قاطع على أن نظرة أو إجابة علم اللاهوت عن كل سؤال من هذه الأسئلة كانت فادحة الخطأ. العلم أباد وباء الجدري،  وله القدرة في منح لقاحات المناعة ضد معظم الجراثيم القاتلة،  وبإمكانه قتل معظم الجراثيم التي كانت تسبب التهابات مميتة.

اللاهوت لم ينجز شيئاً إلا كلاماً عن قرارة الخطيئة. أما العلم فبإمكانه أن يتنبأ بالتوقيت لظهور مذنبٍ معين،  وبالثواني التي يحدث فيها خسوف. العلم يوصل الإنسان إلى القمر،  وأرسل صواريخ استطلاع حول عطارد والزهرة. العلم بإمكانه أن يحدد عمر العظام المتحللة،  أما كفن المسيح (الذي جاء به الصليبيون إلى مدينة تورين(Turin) ما هي إلا وهم من أوهام العصور المظلمة. العلم يحدد بدقة الحمض النووي DNA وتركيبته لكثير من الجراثيم،  وسوف يتمكن قريباً من تحليله وتحديده لبني البشر.

هل من شيء جاء به علم اللاهوت وفيه أدنى فائدة لأحد؟ متى نطق علم اللاهوت بشيء فيه حقيقة أو شيء ليس من الواضحات؟ استمعت إلى علماء دين وقرأت لهم وناظرتهم فلم أسمع شيئاً مهمّاً فيه أدنى فائدة،  أو غير مكرّر وسخيفاً أو خطأ فاضحاً.  داكنز في كتاب مرخام (Dawkins in Markham 2000 ص22-23).

مع أن هذه الصورة التي تجعل العالم مناقضاً للدين لها أثر بين الناس،  إلا أن هذا التناقض اتخذ أشكالاً أخرى في الدوائر العلمية. ففي القرن العشرين قال عدد من الفيزيائيين أن المنبثق أو الظاهر من علوم الفيزياء الحديثة يتطابق مع وصف علم اللاهوت للكون. عالمان في الفيزياء كان لهما أهمية خاصة على هذا الصعيد. بول ديفيز(Paul Davies) (1983) ناقش لتأييد فكرة الربوبية أو الاعتقاد بإله خالق دون تشخيصه،  بينما دافع جون بولكنفهورن (John Polkinghorne (1991 عن كل العقائد الرئيسية للديانة المسيحية. إن فيزياء أينشتاين وهايزنبرغ (Einstein and Heisenberg) الحديثة بالنسبة لـ ديفيز وبولكيفهورن (Davies and Polkinghorne) فتحت آفاقاً كونية واسعة وغير خاضعة للتنبؤات وهكذا عالم يتلاءم مع المنطق وحرية الإرادة.

والواقع الحق،  أن العالم الحسي بحاجة إلى علم اللاهوت. والافتراضات التي تقوم عليها العلوم الحسية تتطلب عالماً ذا أطر عقلية ونظام محكم. إن دأب العلوم الحسية هو شرح ظواهر العالم المرئي ولذلك من الواضح شرعية التساؤل والوصول إلى شرح الافتراضات التي تجبر العلم الحسي اعتمادها. بالنسبة للفيلسوف ريتشارد سويتبيرن (Richard Swinburne) أي شرح مناسب للعالم المرئي يجب أن يكون ربوبياً وعليه يكون العلم الحسي محتاجاً إلى الدين. (سوينبيرن 1979 ص 139 14) إن حساسيتنا تجاه التأريخ في الوقت الراهن أدت إلى نظرة جديدة في رؤيتنا للعالم،  نظرة تتمحور حول تأثير الأعراف في المعتقدات. (لماذا يترسخ الإيمان بشيء ما زمن معين؟) هذا هو السؤال الذي لا مفر منه.

الاتجاهات المستقبلية لعلم اللاهوت

إن علم اللاهوت قيد العمل في دائرتين،  الأكاديمية والدينية. في هذا الفصل الختامي سوف أستعرض التطورات داخل الدائرة الأكاديمية وبشكل رئيسي الدائرة الإنكليزية الأميركية،  وبعدها سننظر إلى التطورات في المحافل الدينية.

هناك أربعة تطورات جوهرية في الدائرة الأكاديمية. الأول هو الازدهار المستمر لعلوم اللاهوت في عصر ما بعد التحرر.التعبير «ما بعد التحرر» استخدمه عالم الدين الأميركي «جورج لندبك»

(George Lindbeck) في كتابه (The Nature of Doctrine: Religion Theology in a post Liberal age1984).

 يناقش لندبك (Linbeck) أهمية اللغة والأعراف المرتبطة بها،  وتأثيرها في  الدين: فبدلاً من النظر إلى علم اللاهوت بأنه مجموعة مسائل مفترضات واضحة وأكيدة، أزلية الحقيقة (النظرة التقليدية القديمة)،  أو أنها تعبير لمشاعر ذاتية عن الواقع المعيشي (نظرة غير المحقيقين والمتحررين)،  الجدير بالمرء أن ينظر إلى علم اللاهوت كعامل من عوامل مجتمع مؤمن يعبر عن نفسه من خلال شعائر،  أو صلوات أو عبادة أو منهج خاص في العيش. فالمعتقدات تعبّر عن الحياة في مجتمع معين أكثر مما تصورها.

تطور مهم أنتجه عمل لندبك (Linbeck) وهو الحركة المعروفة «الأصالة الجوهرية» التي يتزعمها العالم الإنكليزي جون ميلبانك (John Milbank). في كتابه Theology and Social Theory أسقط جون الحداثة بإظهار ادعاءاتها المبسطة. نقاشه كان متيناً ومعقداً لخَّصهُ «فيرغوس غوردون كير Fergus Gordon Kerr» ببراعة:

تاريخياً بالنسبة لـ «ميلبانك» (Milbank)،  إن مفاهيم مفكري القرن السابع عشر من أمثال غروتيوس وهوبز (Grotius and Hobbes) عن الاستقلال والحكم الذاتي والملكية والقوة وما إلى ذلك،  التي تمخض عنها الاختصاصات العلمانية من علوم سياسية واقتصادية واجتماعية،  انشقت في أواخر العصور الوسطى من المنظومة اللاهوتية،  مستقلة عن الثالوث المقدس وفي الوقت نفسه مكبة على عقيدة الإرادة المطلقة لجلالة الملك. فعلم الأنتروبولوجيا ليمتدح البشر على أنهم ذوات مستقلة وبأن الهوية الشخصية لكل منهم تعرَّف بالإرادة. وعلى هذا تكون الأنتروبولوجيا من مشتقات (ومتميزة بفكرها المنافي لنظيريتها عند «توماس أكواينس (الإكويني) (Thomas Aquinas) التوحيد الاختياري. وبناء على ذلك فإن مفهوم دعاة التحرير من المعاصرين سيكون نتيجة لمفهوم الردة (لأنه لا يؤمن بالثالوث المقدس) عن الإيمان بالله. Kerr in Gill 1996 ص 432). بالنسبة لـ ميلبانك (Milbank)،  الظاهر أن عبارات العلمانية مثل «الذات» و«المجتمع» تولدت في الواقع من علم اللاهوت العلماني. يعتبر أن العلوم الاجتماعية دخيلة،  ولكن تحتم إيجادها لتكون مسرح «القوة الرائدة». ميلبانك(Milbank) (1990 ص 12). ولذلك فإن عناوين مثل «علم الاجتماع للأديان» يجب أن تزول لأن المنطق العلماني يدعي بأن هناك ميزة خاصة لأي مجتمع تمكنها من أن تنظر أو تدرس الظواهر الدينية المختلفة. ولكن تبين بأن الافتراضات عن طبيعة الدين يساعد على تعريف الفهم لهذه الميزة الخاصة في أي مجتمع. (ميلبانك Milbank 1990) ص 139). علم الاجتماع ليس له فضل على علم اللاهوت. إلى هنا وإذا كان لا بد من استمرار علم الاجتماع يجب على هذا العلم أن يعرف نفسه بأنه (عقيدة). (ميلبانك 1990 ص 139).

بعد تفنيده للعلمانية طرح ميلبانك (Milbank) تعريفاً آخر للمسيحية وهو «الموسوعية المسيحية الواقعية الحقة» ميلبانك 1990 ص 389. بالنسبة إليه،  فإن المسيحية هو الرد الممكن والوحيد لفكر «نيتشه» (Nietzsche’s) في التشكيك الكلي. مع الأخذ بعين الاعتبار مدينتي أوغسطين (Augustine’s)،  فنحن الآن لدينا مفارقة شاسعة جداً. ففي الوقت الذي بني فيه العالم العلماني على فكرة العنف فالمسيحية بدورها متمسكة بفكر السلام. ميلبانك ينتهي بالقول: «إن كمال الرؤية المسيحية لفكر السلام تحتل البديل بالنسبة للمتعاطفين مع «الأصالة الجوهرية». إن دور علم اللاهوت هو توضيح طبيعة الإله وعلاقته بالكون،  وهذا التوضيح يجب أن يستند إلى أساس منطقي ناتج من المجتمع الكنائسي. بوجود متعاطفين كالأميركيين (ستانلي هورواس)  (Stanley Hauerwas) و(غريوري جونز) (Gregory Jones) فإن هذه الحركة ستستمر في اجتذاب الآخرين.

التطور الثاني في علم اللاهوت المعاصر هو نمو: «لاهوت الهوية الذاتية». لقد رأينا كيف كان لاهوت التحرر مهماً للاهوت تحرر المرأة. وفي السنوات الثلاثين الأخيرة نشأت حركات عديدة أخذت صفة «للاهوت الهوية الذاتية» فمع تطور مالكوم إكس(Malcolm X) ومارتن لوثر Martin Luther King أذعنت الولايات المتحدة بمشكلة العنصرية التي حكمت ماضيها. مع اعتبار التمسك بالدين عند الشعب الأميركي،  فلا عجب في أنّ هذه الجهود أثارت نقاشاً عقائدياً مهماً. ولربما من أشهر الناطقين والمروجين لـ «لاهوت الشعب الأسود» هما جيمس كون (James Cone) وكورنيل وست (Cornel West). في السنوات القليلة الماضية رأينا ولادة «اللاهوت النسوي» الرائدة في مجال «اللاهوت النسوي» هي كيلي ديلاين براون دوغلاس(Kelly Delaine Brown Douglas) التي كتبت:

النساء السوداوات في الولايات المتحدة أعطين صوتاً لمفهوم جديد في علم اللاهوت «النسوي». أول ظهور لمعنى عبارة «النسوي» كان في تفسير أليس واكر لأعراف السود وتعابيرهم: «أنت تتصرفين بنسوية» تعبير له معنى أعمق مما تظهر كلماته. إنه يشير إلى عمق التعقيد في أن يكون الشخص أسود وأنثى في مجتمع ينظر بحقارة إلى سواد البشرة والأنوثة في آن واحد. (دوغلاس((Douglas ص290). فالتحدّي العقائدي هنا يكمن في تشخيص هذا الظلم المزدوج ليكون الأساس في انطلاقة التحرر.

توازياً مع «اللاهوت عند السود» نشأت حركات لاهوتية تحررية كتلك عند المتحدرين من أصول لاتينية. وهنا يكمن الدور في تشخيص فكر خاص لأناس داخل الكيان الأميركي. يقول عالم الاجتماع الأميركي روبرت بيللا (Robert Bellah 1967) إن النظرية الدينية العالمية والمسيطرة في الولايات المتحدة تُسخِّر صوراً ولغات خالصة في الصفاء لتؤكّد أن أميركا هي الأرض الموعودة للشعب المختار. إلا أن الأميركيين المتحدرين من جذور لاتينية يرفضون هذه المقولة. كتب فرناندو سيغافيو(Fernando Segovia) موضحاً: من الواضح لي،  وفي الوقت الذي لا نتفوه بالتعابير والأمثلة (الإنجيلية) فإن انطباعنا عن جارنا الشمالي لا تقِلّ عما يدعيه من علوّ مكانته المكرسة في الإنجيل... أكثر الناس يكنون إعجاباً كثيراً للولايات المتحدة كدولة وقوة عالمية. الحال هو هذا بالرغم من شجبهم ما يرون من تجاوزات الولايات المتحدة في بقية دول القارة،  وبالدرجة الأولى تجاوزاتها في دول البحر الكاريبي... ولكن ليس من ناحية دينية بل من ناحية التقدم والتحضر تحديداً. ولعل الشغف بالسلم والرضى والتطلع إلى العدالة وفرص العيش عند الأميركيين من أصول لاتينية،  هو الذي دفعهم على مدى القرن لهجرة بلادهم والوصول إلى شواطئ أميركا إن كان على متن طائرة أو بارجة أو مركب أو قطار أو سيارة أو نفق أو أي وسيلة أخرى،  أو لربما مشياً على الأقدام أو تسلقاً أو على الدراجة أو زحفاً أو سباحة... الكثير منا أصيب بخيبة أمل لأن الأمور لم تكن كما أمًّلنا،  وحيث إنّ الأمل بالعدالة والمساواة حينئذٍ مستحيلة المنال وتؤدي بدروها إلى تصرفات همها إزالة تلك الصورة الناصعة من الخيال وإعادة تقييم لصورة جذرية لأدنى الأمور وأكبرها. (الأرض الموعودة) فيها عيوب وآفات أثرت فينا بشكل مباشر (سيغافيو 1996 ص 23 - 25).

إن صورة أميركا تعارضت مع حقيقة الحياة في أميركا،  وهذا الواقع تمخض عن المشكلة التي صارت المادة للاهوت الهوية الذاتية.

مثال أخير على اللاهوت هو لاهوت الهويات الذاتية الذي هو محط اهتمام المثليين من الرجال والنساء. إن الدور الذي لعبه موضوع الماضي أخذ منحى آخر هو الجدال حول زواج المثليين. إن الحملة الداعمة لتشريع المثلية الجنسية اعتمدت بشكل رئيسي على عامل الخصوصية. وعلى هذا فإن النقاش يدور حول أن القانون يجب أن لا يتدخل في ما يفعله شخصان راشدان بملء إرادتيهما خلف أبواب مغلقة. ولكن مع حلول القرن الحادي والعشرين صار الأمر مرهوناً بـ «القبول العام» للمثليين. إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ معظم الاعتراضات للعلاقات المثلية نابعة من الدين فلا عجب  في أن يكون موضع نقاش حادّاً في الأوساط الدينية. في كتابها Just good friends 1995 ناقشت اليزابيث ستيوارت (Elizabeth Stuart) بأن عامل الصداقة ليس المحور في تفهم المثليين فقط إنما هو عقائديّ كذلك،  وينبغي لأصحاب العلاقات بالجنس الآخر أن يعطوه كل تقدير. الميول الجنسية يجب أن تعلن للآخرين وتكون مصدر ابتهاج بين الأصدقاء ولا جدوى من أن تكون حصرية لمؤسسة ذكورية في إطار زواج أوحدي.

التطور الثالث في علم اللاهوت هو التحرر. إن عبارة «التحرر» يصعب على أيّ شخص تعريفها. فهو يدعو لإعادة تقييم الإيمان بما يتناسب مع التغييرات في المجتمع. الأميركيان ديفيد تربسي وغوردن كوفمان هما الرائدان بين العلماء الداعين للتحرر. العديد من علماء الدين في المملكة المتحدة بدأوا باستخدام كلمة «تحرر» في الآونة الأخيرة. فعلى مدى عشرين سنة سقطت كلمة «تحرر» من مفردات العلماء والسبب ربما يعود لما قاله دون كابيت بأن الوهم هو الحتمية المنطقية لتراث التحرر وإنّ كلمة «التحرر» أصبحت مرادفة لعدم الإيمان. إلى هنا وبما أن الدين هو الحث على الإيمان،  والترادف بين التحرر وعدم الإيمان لم يكن في مصلحة حركة التحرر. في أول تسعينيات القرن الماضي نشطت حركة التحرر من جديد. إلا أن أشكال التحرر تغيرت بشكل ملحوظ. بالنسبة للبعض كلمة تحرر تعني الاندماج بعقلانية مع النهضة.

العالم بالإنجيل الإنكليزي (ليزلي هولدنLeslie Holden) كان له دورٌ في المفهوم المتبادل للتحرر في سبعينيات القرن الماضي وذلك من خلال مجموعة مقالاته المسماة The Myth of God Incarnate (هيك 1977). الأخلاقي الإنكليزي (جون ألفورد John Alford) وافق سابقه في كتابه (The Pastoral Nature of Theology (1999) Ethics of Uncertainty (2000). للآخرين التحرر يعني الإقرار بمحدودية المعارف في علم اللاهوت. غاريث جونز (Gareth Jones) وصف ببلاغة المفهوم لآلية العقيدة التحررية في كتابه Critical Theology 1995. للبعض ببعضهم،  التحرر يمثل الحاجة للتفاعل مع العلوم الحسية،  ومع تراث الأديان الأخرى وبشكل أوسع مع الأعراف. وعلى هذا خطا كل من الإنكليزي «كلايف مارش(Clive Marsh) في كتابه الرائع Christianity in a Post - Atheist Age) 2002) ومارتن بيرسي (Martyn Percy)في كتابه The Salt of the Earth: Religious Resilience in a secular Age: حصانة دينية في عصر علماني «(2002). وأقوى منظر لهذا الاتجاه من التحرر هو العالم الإنكليزي كيث وورد (1994 – 1996). إن كتابه بأجزائه الأربعة اتخذ منحى منهجياً لعلم اللاهوت آخذاً بعين الاعتبار اعتقادات من أديان أخرى جاعلاً لذلك نتاجه أمثولة في كيفية مقارنة علم اللاهوت. وأخيراً هناك من أرادوا أن يربطوا اللاهوت المتحرر بحركة «ما بعد الحداثة» وبـ عقائد تحررية أخرى. مثال واضح على ذلك كتاب جانين جاللينغ (J’annine Jobling Restless Readings 2002) فهي تبدأ بمشكلة التفسير في عدسة دعاة تحرير المرأة وتنتهي بعزيمة قوية على إنشاء مجتمع متفهماً للنص الديني.

آخر تطور في علم اللاهوت هو الذي يتقاطع بشكل كامل مع علم اللاهوت من تراثات دينية خاصة. هؤلاء العلماء التقليديون لهم عناوين منها «بارنيان أو التشيريين، أو الكاثوليك. من المنظرين لهذه الفرق كولن غانتون (Coln Gunton) وديفيد فورد(David Ford) في المملكة المتحدة وكلاهما بارتيان،  وروبرت جسيل (Giséle Robert) (لوثراني) «وريتشارد جون نيهاوس» (Richard John Neuhaus) (كاثوليكي) وكل منها في الولايات المتحدة. وبما أن دقة الآلية أو الإلهام العقائدي تختلف بدرجة كبيرة بين اتجاه وآخر إلا أن الهدف العقائدي واحد: وهو إيضاح المصادر المتنوعة لمعرفة الإله بحيث تشكل شاهداً قيماً لطبيعة الإله ولعلاقة الإله بالموجودات.

هذه المجموعة الأخيرة من علماء اللاهوت لها أهمية كبرى لأنها الأقرب إلى الاعتقادات التي عليها الناس في دور العبادة. فاعتقادات جاك داريدا (Jacques Derrida) المتالية لا أهمية لها على مستوى التحديات التي يواجهها العالم في إرشاد الناس. كما الحال مع داريدا فإن الكثير من علماء الدين لا أثر أو نفوذ لهم في واقع حياة المسيحيين.

ومن هذه الزاوية فإن أعاظم علماء القرن العشرين هم الانكليز:«سي.أس لويس Clive Staples Lewis»،  «جون باكرJohn Packer » و«جون ستوت John Stott» أيضاً. يصف «مارك نولMark Noll» هذه الظاهرة:

«هناك حالة خاصة لا بد من ذكرها. في النصف الثاني من القرن العشرين كان الكاثوليكي الألماني هانس كونغ (Hans Kung) والأنغلكاني التبشيري جون.ر.و ستوت (John R.W Stott).من أوسع وأشهر كتَّاب العلوم الدينية. هذا النمط في التأثير الكبير لعلماء الدين في دول أخرى في الساحة الأميركية قد مهَّد له العالم الإنكليزي ج.ك. تتسيسترتون (G.K Chesterton) في بداية القرن العشرين. هذا النمط ما زال مستمراً إلى الآن والواقع الأميركي بالكتابات الدينية لـ أوكسفورد س.أس. لويس Oxford don C.S) (Lewis) يستشهد بقوة على ذلك». (نول 2002 ص 190 – 191).

من ستوت (Stott) (الداعية) إلى لويس (Lewis (مدرس اللغة الإنكليزية)،  هؤلاء أشخاص كان لهم تأثير كبير في الحياة الدينية للمسيحيين. الواقع إن قراءة كتب هؤلاء كان له أكثر كبير في الحياة الدينية. ومن ناحية أخرى لم يستطع أساتذة العلوم الدينية في الجامعات أن يكون لهم أي أثر كـ «ستوت» و«لويس».

والحقيقة الصادمة أن هناك هوة شاسعة بين مستجدات عالم الأكاديميا من جهة ونظيريتها في الكنيسة من جهة أخرى،  وما النجاح العظيم لكتاب (Left Behind) إلا دليل على ذلك. حتى عام 2005 إن سلسلة الكتب هذه باعت أكثر من ستين مليون نسخة والناشرون أعلنوا أنّ (Desecration) كان الكتاب الأكثر مبيعاً بين الكتب التي هي من عالم الخيال في عام 2001 متخطياً بذلك المكانة الأولى التي احتكرها جون غريشام (John Grisham) في السنوات السبع الأخيرة. وهذه الكتب تُقْرأ وتتداول وتدرس والنقاشات حولها على شبكة التواصل العالمية أكبر من أن تحصى. والكتب هذه هي الشغل الشاغل للمسيحيين حول العالم. هذه الكتب تعطي صورة خيالية لنهاية العالم.

جذور هذه الصورة مستوحاة من النظرة اللاهوتية للفناء منذ الآف السنين وهي تصور الحدث العظيم حيث يختفي خلالها الملايين من المسيحيين بصورة غامضة يليها سبع سنوات من الفتن تؤدي ذروتها للمعركة الكبرى (Battle of Armageddon). تبدأ هذه الأحداث في عالمنا الحاضر في منتصف رحلة ليلية عبر المحيط الأطلسي لطائرة بوينغ 747 من شيكاغو إلى لندن. يخيم السكون داخل الطائرة إلى أن تعكره امرأة عجوز حين تكتشف اختفاء زوجها ثم يشكو ركاب آخرون بأن ذويهم أيضاً من المفقودين وليس لهم أثر إلا ثيابهم التي كانوا يرتدونها. واختفاء هؤلاء من على متن الطائرة ما هو إلا جزء من اختفاء الملايين من الناس بصورة مفاجئة. هذا الحدث العظيم ما هو إلا نداء الكنيسة للعالم أجمع لإنقاذهم من العقاب الإلهي في الفتن الآتية. عنوان أول كتاب من السلسلة هو (Left behind) تلاه (Tribulation Force) ثم نيكولاي Nicolaiثم حصاد الروح (Soul Harvest) ثم Apollyon ثم ِAssassins ثم The (Undulling) ثم (The Mark) ثم (Desecration) ثم (The Remark) ثم (Armageddr) وآخرها كان (Gloriais Appearing) (التجلي الأعظم). بعدما شهدنا التأثير العظيم لهذه الموسوعة الخيالية يمكننا القول إنّ الإيرلندي جون نيلسون داري هو من أكثر علماء الدين تأثيراً وأهمية في القرن التاسع عشر وهو صاحب فكرة تغيير الأحوال بتغيير الأزمان وهذه الفكرة بعينيها حددت إطار هذه الشبكة المعقدة لاعتقادات الناس بـ الكارثة الكبرى والفتن والقضاء الأخير ما زال تأثير داربي كبيراً في الكنيسة حتى يومنا هذا ولكن معظم علماء الدين لم يسمعوا به ناهيك عن قراءة كتبه. وهذا مثال واضح للشرح القائم بين الأكاديميين والعامة من المؤمنين. وعلى الأرجح فإن هذا الشرح بين اللاهوت في الأوساط الأكاديمية واللاهوت عند الناس كافّة سيزداد اتساعاً. مؤرخ الدين الأميركي فيليب جنكنز (Philip Jenkins) يدون ذلك الذي انتبه إليه الكثيرون: بقوله: الكنيسة تتجه جنوباً (التعبير أميركي يوحي باتباع الاتجاه المعاكس) يعرض في مقدمة كتابه «المملكة المسيحية القادمة» إحصائيات مثيرة (جنكنز 2002). يقول جنكنز (Jenkins) مع بداية هذا القرن ما زال عدد المسيحيين في أوروبا يفوق عدد مسيحيي القارات الأخرى إلا إنه في عام 2025 ستكون الأرقام كما يلي:

ملياران وستّ مئة مليون مسيحي،  633 مليوناً منهم يقطنون في أفريقيا،  وست مئة وأربعون مليوناً يقطنون أميركا اللاتينية،  وأربعمئة وستون مليوناً في آسيا،  و555 مليوناً في أوروبا وبذلك تنحدر أوروبا إلى المركز الثالث وبذلك سيكون التنافس على لقب القارة الكبرى للمسيحية بين أميركا اللاتينية وأفريقيا. وبحلول ذلك عام ستكون الأهمية الكبرى بأن هاتين القارتين معاً ستكونان مسكناً لأكثر من نصف مسيحيي العالم. وبحلول عام 2050 سيكون خمس المسيحيين في العالم من الشعب الأبيض. وقريباً ستكون عبارة “مسيحي أبيض” غير مألوفة ومثيرة للدهشة كقول أحدهم «سويدي بوذي».

قد يوجد شخص بهذه الصفة ولكن الغرابة في الوصف والخروج عن المألوف هو المطلب. جينكنز (2002 ص3) من الصعب تحديد دقة التأثيرات لهذا التجديد أو الاتجاه في تشخيص العمل العقائدي. ولكن يمكننا القول بثقة إنّ التأثير سيكون كبيراً جداً وإنّ سلسلة الكتب (Left behind) المذكورة آنفاً ستجذب المزيد من القراء نابذةً بذلك التقدم الأكاديمي إلى دائرة التهميش.

Bibliography

Bellah،  Robert. “Civil Religion in America، ” Daedalus 96 (1967): 1–21.

Byrne،  Peter،  and Peter Clarke. Definition and Explanation in Religion. Basingstoke: Macmillan،  1993.

Davies،  Paul. God and the New Physics. London: Penguin Books،  1983.

Dawkins،  Richard. Letter to The Independent،  March 20،  1993،  reprinted in A World Religions Reader،  ed. Ian Markham. Oxford: Blackwell،  2000. pp. 22–3.

Douglas،  Kelly Delaine Brown. “Womanist Theology: What Is its Relationship to Black Theology?” in Black Theology،  eds. James H. Cone and Gayraund S. Wilmore. Maryknoll،  NY: Orbis،  1993،  pp. 290 –9.

Elford،  R. John. The Pastoral Nature of Theology. London: Cassell،  1999.

Elford،  R. John. The Ethics of Uncertainty: A New Christian Approach to Moral Decision-Making. Oxford: Oneworld،  2000.

Hick،  John،  ed. The Myth of God Incarnate. London: SCM Press،  1977.

Houlden،  Leslie. “The Creed of Experience، ” in The Myth of God Incarnate،  ed. John Hick. London: SCM Press،  1977،  pp. 125–32.

Jenkins،  Philip. The Next Christendom: The Coming of Global Christianity. Oxford: Oxford University Press،  2002.

Jobling،  J’annine. Restless Readings. Aldershot: Ashgate،  2002.

Jones،  Gareth. Critical Theology. Cambridge: Polity Press،  1995. 210 ianmarkham

Kerr،  Fergus. “Simplicity Itself: Milbank’s Thesis [1992]، ” reprinted in Theology and Sociology،  d. Robin Gill،  new edn. London: Cassells،  1996،  pp. 429–34.

Ledbetter،  Shannon. “Vocation and Our Understanding of God، ” Modern Believing 4 (2001): 8–49.

Lindbeck،  George. The Nature of Doctrine: Religion and Theology in a Postliberal Age. Philadelphia: Westminister Press،  1984.

MacIntyre،  Alasdair. “The Idea of a Social Science، ” in Rationality،  ed. Bryan R. Wilson. Oxford: Blackwell،  1970،  pp. 112–30.

MacIntyre،  Alasdair. Whose Justice? Which Rationality? Notre Dame،  In: University of Notre Dame Press،  1988.

Markham،  Ian. A Theology of Engagement. Oxford: Blackwell،  2004.

Marsh،  Clive. Christianity in a Post-Atheist Age. London: SCM Press،  2002.

McFague،  Sallie. Models of God. Minneapolis،  MN: Augsberg Fortress Press،  1993.

Milbank،  John. Theology and Social Theory. Oxford: Blackwell،  1990.

Nineham،  Dennis. The Use and the Abuse of the Bible. London: Macmillan،  1976.

Noll،  Mark A. The Old Religion in a New World. Grand Rapids،  MI: Eerdmans،  2002.

Percy،  Martyn. The Salt of the Earth: Religious Resilience in a Secular Age. Sheffield: Sheffield Academic Press،  2001.

Polkinghorne،  John. Reason and Reality. London: SPCK،  1991.

Pui-lan،  Kwok. Introducing Asian Feminist Theology. Sheffield: Sheffield Academic Press،  2000.

Segovia،  Fernando F. “Aliens in the Promised Land: The Manifest Destiny of U. S. Hispanic American Theology، ” in Hispanic/Latino Theology: Challenge and Promise،  eds. Ada MarيaIsasi-Dيaz and Fernando F. Segovia. Minneapolis: Fortress Press،  1996،  pp. 15–44.

Spong،  John Shelby. Why Christianity Must Change or Die. San Francisco HarperSanFrancisco،  1998.

Stuart،  Elizabeth. Just Good Friends: Towards a Lesbian and Gay Theology of Relationships. London: Mowbray،  1995.

Swinburne،  Richard. The Existence of God. Oxford: Clarendon Press،  1979.

Volf،  Miroslav. Work in the Spirit: Toward a Theology of Work. New York: Oxford University Press،  1991.

Ward،  Keith. Reason and Revelation. Oxford: Oxford University Press،  1994.

Ward،  Keith. Religion and Revelation. Oxford: Oxford University Press،  1996.

Winch،  Peter. The Idea of a Social Science. London: Routledge and Kegan Paul،  1958

----------------------------

[1]*ـ كاهن بريطاني المولد من الكنيسة الأسقفية . تم تعيينه عميد ورئيس معهد فرجينيا اللاهوتي (VTS) في أغسطس 2007. وحصل على الدكتوراه في جامعة إكستر في المملكة المتحدة حيث ركز على الأخلاق المسيحية. حصل سابقاً على Litt م. في الفلسفة والأخلاق من جامعة كامبردج وBD في اللاهوت من جامعة لندن. سيم كاهناً في الكنيسة الأسقفية في عام 2007.

العنوان الأصلي للمقال: The Blackwell Companion to the Study of Religion.

ـ المصدر:

peiterleonardpesik.files.wordpress.com/2015/03/the-blackwell-companion-to-the-study-of-religion.pdf

ترجمة: رفيق لبّون.