الباحث : أليس ل. كونكلين Alice L. Conklin
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 12
السنة : السنة الرابعة - صيف 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث : July / 22 / 2018
عدد زيارات البحث : 981
سلّم المؤرّخون لأمدٍ طويل بأنّ الاستعمار في العصر الحديث أنشأ أشكالًا «استعماريّة» للمعرفة ساعدت وحثّت عليه، غير أنّهم لم يتّفقوا على ما يعنيه مفهوم «العلم الاستعماري.» ظهر مؤخراً كتابان لهِلين تيلّي ولبيير سينڠارافِلو يفتحان طرقًا جديدةً للتحقيق في هذه الظاهرة.
هذا البحث للبروفسور أليس كونكلين يحقق في الظاهرة المشار إليها، كما يتضمن تأصيلاً اصطلاحياً ومعرفياً للعلم الاستعماري وذلك استناداً إلى جملة من المساعي النظرية المعاصرة للتعريف بهذا المفهوم في نواحيه المتعددة.
المحرر
----------------------------------
يُحيل الكثير من المؤرّخين مصطلح «العلم الاستعماري» إلى المعرفة العلميّة الصّادرة عن مختصّين تدرّبوا في حواضر المستعمرات، ويُركّز المؤرّخون المؤمنون بـ «أقلمة أوروبا» على دور الإدارات الاستعماريّة في خلق أشكالٍ جديدة من المعرفة العلميّة عادت لاحقًا إلى أوروبا. ويستعرض غيرهم من الباحثين كيفيّة تبنّي التابعين لجوانبٍ من المعرفة الاستعماريّة فقط لأجل إخضاعها لأهدافهم الخاصّة. ويرى نقّاد ما بعد الاستعمار أنّ العمليّات العنفيّة التي أنتجت سُلطةً استعماريّة هي نفسها التي أنتجت معرفةً علميّة،[2] ونظّروا لطرق ترابط العلم مع السلطة، غير أنّهم لم يُعيروا كيف وظَّف الخُبراء المعرفة في أُطُرٍ محدّدة أدنى اهتمامٍ، كما أنّهم لم يلتفتوا إلى النتائج غير المقصودة للبحث العلمي المنفّذ ضمن علاقات القوّة الاستعماريّة غير المتناظرة.
ظهر حديثًا كتابان عن أدوات الاستعمار الأوروبيّة يفتحان أبوابًا جديدة لتقصّي هذه الظاهرة، ويعدان بتعقيد فهمِنا للعلاقة بين المعرفة العلميّة من جهةٍ وبين الإمبرياليّة الأوروبيّة الحديثة من جهةٍ أخرى. تبحث هِلين تيلّي في كتابها «أفريقيا المختبر الحيّ» في طُرق تطوّر المهارات في مجالات الطب والعلم العِرقي والأنثروبولوجيا الإجتماعيّة والدراسات البيئيّة في المستعمرات الأفريقيّة جنوبيّ الصحراء الكبرى، وتُثبت بالدليل مدى أهمّية القارة الأفريقيّة بالنسبة إلى تطّور العديد من الحقول العلميّة الحديثة في العقد الثالث من القرن العشرين. في كتابه «المجاهرة بالاستعمار» يُعيد بيير سينغارافِلو إلى الواجهة حيّزًا معرفيًّا منسيًّا هو المعروف “بالعلوم الاستعماريّة” الذي ظهر في فرنسا في سبعينيّات القرن التاسع عشر واختفى في أربعينيّات القرن العشرين. يتّسم الكتابان كلاهما بالرزانة من ناحية العمق البحثي ونطاق الحجج وأصالتها، حيث يبحث الكاتبَان في ماهيّة “العلوم الاستعماريّة” مُتبنّيَين منهجًا بحثيًّا تاريخيًّا صارمًا في تحليل المجالات التي وُظّفت لخدمة مصالح الاستعمار، كما يُظهر كلاهما أنّ العلماء المندرجين في القضيّة الاستعماريّة كانوا قادرين على النقد الذاتي وعلى الابتكار بالقدر نفسه لدى غيرهم من العلماء.
تحدّي سلطة أوروبا المعرفيّة؟
على الرّغم من المجال الزمني المذكور في عنوان كتابها (1870-1950)، إلّا أنّ تيلّي تُركّز على الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين، والتي بحثت فيها الحكومة البريطانيّة للمرّة الأولى في «تنمية» موارد أفريقيا الهائلة بشكلٍ علمي ضمن نظريّة انتفاع المُستَعمَر والمُستعمِر على حدٍّ سواء. لذلك لجأ الموظّفون الرسميّون في أفريقيا – وفي معظم الحالات قسرًا –إلى خبراءٍ لأجل اختلاق حقائق مطلوبةٍ لتبرير سياستهم الاقتصاديّة، وهو ما استجاب له الخُبراء وإن لم يكن دائمًا بنوع الحقائق المرجوّة من الموظّفين. الخُبراء وشبكاتهم وأنماط تفكيرهم («كما تُفكّر الإمبراطوريّة») هم لبّ دراسة تيلّي، ونسرد تاليًا استنتاجاتها الدقيقة المميّزة: التنوّع الحيويّ المحض في „ أفريقيا المُختبر الحي» المصحوب بمدى استثنائيٍّ للّغات وللحضارات وللمُمارسات الاجتماعيّة شكّل تحدّيًا للعلماء في محاولتهم لتأسيس اختصاصاتٍ ومنهجيّاتٍ جديدة، ما جعلهم يتحاجّون في ما بينهم ويختبرون ويُنقّحون نتائج أبحاثهم. تعلّم الاختصاصيّون في علوم الزراعة والنبات ووصف الأعراق البشريّة (الإثنوغرافيا) المنتشرون في المستعمرات جنوبيّ الصحراء الكبرى، تعلّموا احترام أشكال المعرفة الأفريقيّة الفريدة من نوعها، وطوّروا «علمًا عاميًّا» تحدّوا به سلطة أوروبا المعرفيّة، وسبقوا بذلك بعض منظّري ما بعد الاستعمار الذين لم يبدأوا بذلك إلا في العقد الثامن من القرن العشرين. من المفارقة أنّ «العنونة الخاطئة لأشكال السيطرة الجديدة وسوء فهمها وتيسيرها»، جعل العلوم المرتبطة بالاستعمار لا تملك فقط قدرةً على القهر ولكن أيضًا «قدرة على التحرير»، «وقد حقّقت كلا الأمرين في النهاية» (ص25). تعترف الكاتبة أنّها وصلت لهذه النتائج كونها عاملةَ إغاثةٍ سابقة وناشطةً انقلبت لاحقًا إلى أكاديميّةٍ مُدافعةٍ عن العلم.
حُسن استخدام العلم حاضرًا يتطلّب فهم سوء استخدامه والانتهاكات المُرتكبة باسمه في الماضي، ويتطلّب استعادة نصوصه حتّى الهدّامة منها. تركّز تيلّي في تقصّيها للاستعمار العلميّ التدخّلي على الدراسة الاستقصائيّة الأفريقيّة وهي أهمّ مشروع شبه رسميّ لجمع المعلومات الاستخباراتية في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين، وعلى آثار هذه الدراسة على مستعمرات كينيا وتنزانيا وأوغندا وزامبيا ونيجيريا وغانا. دارت هذا الدراسة بين العام 1929 والعام 1939 برئاسة السير ملكولم هايلِي، وقد نُشِرت نتائجها في مجلّدٍ واحدٍ عنوانه “دراسةٌ إفريقيّة: دراسة المشاكل الصاعدة في أفريقيا جنوبيّ الصحراء الكبرى،» كما ظهر مجلّد مجتزأ «العلم في أفريقيا: مراجعة البحث العلميّ المتعلّق بإفريقيا المداريّة والجنوبيّة.» لقد استخدم العديد من الأكاديميّين المناصرين للاستعمار والمسؤولين في المكتب الاستعماري والمثقّفين هذه الدراسة لأجل تقييم الحالة المعرفيّة في أفريقيا، ولوضع استراتيجيّات لدراساتٍ لاحقة، ولاقتراح طُرقٍ لدمج هذه الدراسات في رسم السياسات. ساعد المنظّمون من خلال بحثهم عن معلوماتٍ «يُعوّل عليها» في تنمية وتشكيل علومٍ ميدانيّةٍ جديدةٍ كعلوم البيئة والنبات والطبّ المداري والأجناس البشريّة. تُلاحق تيلّي أعضاء الدراسة في الميدان، وتتتبّع نقاشهم العلمي، وتصف اصطدامهم بالمدراء المحلّيّين وبالمُمارسات الأفريقيّة الاجتماعيّة والثقافيّة ضمن بيئاتٍ محدّدة، كما تبحث في أنظمة الوصاية الزبائنيّة والهيكليّات المهنيّة التي حدّدت ظروف إنتاج المعرفة على الصعيدين الوطنيّ والعالميّ. لقد استفاد العلماء دون أدنى شكّ من الفرصة غير المسبوقة التي وفّرها لهم الاستعمار الأوروبيّ في نهاياته للعمل في أفريقيا، ولكنّ المعرفة التي جمعوها لم تقم فقط بتجريد الشعوب التي جاؤوا لدراستها من إنسانيّتهم [ك].
الكتاب مقسّم إلى سبعة فصول. يتتبّع الفصل الأوّل الاهتمام بإحصاء الموارد المداريّة خلال الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين ويربطه بنموّ المجتمعات الجغرافيّة في نهاية القرن التاسع عشر، ويؤرّخ الفصل الثاني لمرحلة نشوء الدراسة، والفصول الباقية عبارة عن دراسات حالة للمجموعات المشاركة بالدراسة: يبحث الفصل الثالث في كيفيّة تبنّي الإدارات الزراعيّة غير المسبوق – إذا استثنينا الإدارات الطبّية – لرؤية بيئيّة في مراجعتها لفرضيّاتٍ سابقةٍ عن خصوبة التربة الأفريقيّة وأساليب الزراعة الأفريقيّة المفرطة، وقد دفع القلق المتنامي حول تآكل التربة والإفراط في استخدام أراضي الرعي وانتشار الأوبِئة بمؤلّفي العلم في أفريقيا إلى إصدار تحذيرات عن أخطار الإنتاج الرأسماليّ الواسع النطاق “وأن يُنظر إلى المعرفة العاميّة بشكلٍ أكثر جدّيةٍ.” (ص. 168). يتناول الفصل الرابع بحث الضبّاط التقنيّين في الترابط ما بين تفشّي الأمراض المُعدية وبين تدهور المستوى المعيشي، واستبصارهم تاليًا أنّ «علاج الأمراض وحدها غير كافٍ» (ص. 212)، فتحسين حالة الأفارقة الصحّية يستوجب فهم التفاعلات بين الجسم البشريّ ومحيطه وبين المجموعات السكّانيّة والبيئات الآهلة بها، كما أنّه يستوجب فهم السياق الاقتصادي العام. في هذه المجالات أيضًا بدأ الخبراء الأوروبيّون بالأخذ من الأفارقة وبإعادة النظر في فرضيّاتهم المسبقة ولكن من دون تحدّي سلطة المستعمِر. يبحث الفصل الخامس في سبب تخصيص الباحثين في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين الجزء القليل من مواردهم للبحث في الاختلاف العرقيّ، في حين أنّ كلّ الأنظمة الاستعماريّة بُنيت على أُسُسٍ عنصريّة. تستخدم تيلّي دراسة حالة لكينيا لنقض فكرة أنّ الاختلاف العرقيّ كان يُنظر إليه على أنّه «بديهيٌّ» جدًّا إلى الحدّ الذي لا يستوجب دراسته، وتُرجع السبب إلى توقّي الإدارات الاستعماريّة آثار التمييز العنصريّ المخلّة بالاستقرار، لا سيّما أن العلماء على الصعيد العالمي كانوا يشكّكون بالحقيقة الوجوديّة للاختلاف العرقيّ وبإمكانيّة تسويغه بيولوجيًّا. هذان العاملان مضافًا إليهما شحّ موارد الدول الاستعماريّة جعلا المسؤولين يعدلون عن صرف الأموال لإثبات فرضيّة انحطاطّ رعاياهم على الصعيد العقليّ بسبب انتمائهم العرقيّ.
هل كان تقدّم علم الأجناس البشريّة الذي أعطى تفسيرًا مختلفًا لطرق حياة الشعوب المُستَعمَرة سببًا آخر لتراجع العلم العرقيّ؟ على الرغم من أنّ علماء الأجناس البشريّة كانوا الخبراء الأقلّ عددًا في أفريقيا المداريّة إلّا أنّ منهجيّات علم الأجناس البشريّة الاجتماعيّة الناشئة تظهر بشكلٍ كبيرٍ في كتاب تيلّي. في العقد الثاني من القرن العشرين حاول جيلٌ جديدٌ من علماء الأجناس البشريّة الوظيفي يتقدّمهم مالينوفسكي فهم وشرح الظروف الموجودة في المجتمعات الأفريقيّة ـ ليس لأجل تجميدهم في حاضرٍ أزليّ ولكن للحدّ من الأثر التدميريّ للرأسماليّة الاستعماريّة. في هذا الإطار غدا علماء الأجناس البشريّة في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين أشدّ الناقدين للاستعمار: «علماء الأجناس البشريّة الذين عملوا مطوّلًا لتحقيق مطلبهم أن يكونوا ضمن طاقم خبراء الاستعمار» قاموا لاحقًا «وبمجرّد ما غدوا داخل المنظومة باستخدام أدواتهم لينأوا بأنفسهم عنها.» (ص.311).
أجرت تيلّي الكثير من دراسات الحالة جعلتها تنبذ مصطلح «العلم الاستعماري» جملةً وتفصيلًا، وهي تحاجج أنّ تاريخ الدراسة الأفريقيّة يُثبت بشكلٍ قاطعٍ أنّ البحث العلمي كلّه ـ إن على الصعيدين المحليّ أو العالميّ ـ يدور بطرقٍ تجعل منتجيه غير قادرين على التحكّم به، حتّى لو كان مُموّلًا من حكوماتٍ استعماريّةٍ تبحث عن حُلولٍ لمشاكل الاستحكام الاستعماريّ، ومن هذا المنطلق يكون تعريف أيّ علمٍ على أنّه بشكلٍ محدّد علم «استعماريّ» يُبهم أكثر ممّا يُضيء. كما أنّها ترى أنّ العلم «الجيّد» لم ينتصر على العلم «السيّء» في مستعمرات بريطانيا الأفريقيّة، ولكنّ لم يكن بالمستطاع تحديد نتائج الاستعانة بالعلم سلفًا بواقع الاستعمار، حيث إنّ العلماء المهنيّين تمكّنوا من إبقاء مسافةٍ بينهم وبين السياسات الموضوعة: لقد دفعهم تدريبهم إلى البحث في تعقيدات المجتمعات البشريّة التي أثقلت كاهل الإداريين ولم يكن لدى رؤسائهم الوقت الكافي لأخذها في الحسبان، وقد حدّدت سياقاتٌ سياسيّة محدّدة وشخصيّاتٌ تاريخيّة أشكال النقاشات الحاصلة وصوّبتها في بعض الأحيان نحو الأفضل. إحدى النتائج البارزة لتطور المبادئ في العقد الثالث من القرن العشرين كانت تثبيت تقليدٍ جديد منسّق ومُتَعَدِّدُ الاختصاصات «أبرز عدم تجانس البيئات الأفريقيّة والعلاقات البينيّة بين القضايا المتعدّدة التي تمّ دراستها.» (ص. 5).
نجحت تيلّي في إقناعنا بأنّ على مؤرّخي الاستعمار أن لا ينظروا فقط إلى «عيوب العلم واستثناءاته وأمثلته الرديئة» التي حوّلت المواضيع الامبرياليّة إلى مواضيع بحثٍ واختبارٍ، ولكن عليهم أن يأخذوا أيضًا في الحسبان «الأدب العلمي الهائل الذي أُنتج خلال الحقبة الاستعماريّة ولم يتّبع هذه الأنماط» (ص. 322-323)، فدراسة الممارسة العلميّة الحديثة في أفريقيا لا ترتبط فقط بالدقّة التاريخيّة ولكن أيضًا بفهم الدور الذي لعبته الأفكار في تعرية الاستعمار.
ميلاد «العلوم الاستعماريّة»
يتناول بيير سينغارافلو بدوره تاريخ مجموعة من العلماء الاستعماريّين كاد أن يُنسى، والعلماء موضوع بحثه يختلفون بشكلٍ كبيرٍ عن العلماء الّذين تناولتهم تيلّي، حيث إنّه يكرّس كتابه لقادة المجال المهنيّ للمعرفة الانسانيّة المعروف باسم «العلوم الاستعماريّة»، والتي أُسّست في بدايات الجمهوريّة الثالثة ولكنّها لم تتمكن من الاستمرار إلى ما بعد الحرب العالميّة الثانية. في العقد الثامن من القرن التاسع عشر كانت جماعةٌ من الهواة تُنتج معظم المعرفة المتعلّقة بشعوب المستعمرات الفرنسيّة ومواردها وإدارتها، بمعنى أنّ هذا النوع من المعرفة لم يجد لنفسه مقامًا معترفًا به ضمن مؤسّسات التعليم العالي. حاول بعض الخبراء تغيير هذا الوضع عبر تأسيسهم لمجالات جديدة كالجغرافيا الاستعماريّة والتاريخ الاستعماري والتشريع والاقتصاد الاستعماريَّين وعلم النفس الاستعماري، وذلك لإضفاء طابعٍ علميٍّ على الإمبرياليّة الفرنسيّة. عبر التقصّي المُضني لجيلين من هؤلاء الخبراء وشبكاتهم يُظهر سينغارافلو أنّ العلم الاستعماري ترسّخ في فرنسا بين سنة 1870 وسنة 1920، وتقهقر بعد ذلك. المجاهرة بالاستعمار جزءٌ من موجة جديدة في الثقافة الفرنسيّة تجمع ما بين تاريخ العلوم الإنسانيّة الاجتماعي الفكري وبين التاريخ الاستعماري، ويرتكز على فهم طرق تفاعل الثقافة الأكاديميّة العلمائيّة مع ثقافة أوسع نطاقًا وأكثر شهرةٍ منها، وعلى تخطّي تحليل الخطاب الاستعماري النخبوي إلى دراسة شعاع انتشاره وآثاره.
يقسم سينغارافلو كتابه بالتساوي إلى جزءين يتكوّن كلّ منهما من أربعة فصول، حيث يبحث في الجزء الأوّل في مؤسسة العلوم الاستعماريّة بشكلٍ عامٍّ، ويُحقّق في أسباب «النجاح» المبكر والتقهقر اللاحق، ويحلّل في الجزء الثاني الأقصر مضمونَ هذه المجالات الجديدة. بين العام 1880 والعام 1940 ساعدت كوكبة من الأكاديميّين والمسؤولين الاستعماريّين وأعضاء من الجماعات الضاغطة المؤيّدة للاستعمار – ما يسمّيه سينغارافلو «بجمهورية الخطابات الاستعماريّة» – في خلق العديد من المناصب الجامعيّة في مجال العلوم الاستعماريّة وذلك في كافّة أنحاء فرنسا والإمبراطوريّة. كان العقدان التاسع والعاشر من القرن التاسع عشر حقبة الإصلاح الجامعي ونموّ العلوم الإنسانيّة، وتوسّع العلوم التجاريّة والتطبيقيّة، وتجدّد العدوان الإمبريالي، وقد سهّلت هذه التطوّرات الثلاث مأسسة المجالات الجديدة. بدأ تدريس مقرّرات حول «الجغرافيا والتاريخ الاستعماري» و«الاقتصاد والتشريع الاستعماري» و«الإستعمار المُقارَن» و«علم نفس السكّان الأصليّين» في مدارس تجاريّة خاصّة، وفي مدارس جديدة أُنشئت لأجل تدريب الإداريّين الاستعماريّين، وفي كلّيّات الحقوق (facultés de Droit) وبحدٍّ أدنى في كلّيّات الآداب (facultés des lettres). تحقّق فصل مناطقيّ للعمل الأكاديميّ الامبريالي داخل فرنسا، حيث تخصّصت ليون بالتدريس المتعلّق بجنوب شرقيّ آسيا، وصوّبت بوردو على أفريقيا الغربيّة والمغرب العربي، وركّزت لوهافر على الأمريكيتين، وقدّمت مارسيليا مقرّرات دراسيّة عن أفريقيا الشرقيّة والجزائر والشرق الأوسط ومدغشقر. إضافة إلى ذلك أُنشِأت العديد من كراسي الأستاذيّة في باريس، وفي سنة 1926 أكاديميّة العلوم الاستعماريّة لأجل تنسيق الجهود البحثيّة ولإسداء النصائح للحكومات وراء البحار.
وجدت العلوم الاستعماريّة في تلك الحقبة طريقها إلى قلب مؤسّسات التعليم العالي في فرنسا. من درّس هذه العلوم ومن موّل الوظائف الجديدة؟ سينغارافلو يصف حوالي مئة بروفسور استعماريّ هم الّذين زار بعضهم نفس الأكاديميّات المتميّزة، كدار المعلّمين العليا أو كلّية الحقوق في جامعة باريس التي علّمت ودرّبت أشهر المثقّفين الفرنسيّين. حتّى أنّ بعض علماء الاجتماع الذين لا يملكون خبرةً استعماريّة مباشرة في مجالات أخرى – على سبيل المثال علماء الاقتصاد أو أساتذة القانون – قاموا من حينٍ إلى آخر بتدريس مقرّرات ذات مضمونٍ استعماري، والعديد منهم كانوا خرّيجي المدارس العسكريّة كسان سير أو الكلّية الاستعماريّة في باريس. كان الخبير النموذجي، أيّ كانت خلفيته، «شخصًا موسوعيًّا تجمع وظيفته المعقّدة بين التعليم والإدارة الاستعماريّة والخبرة، ويحمل في بعض الأحيان مسؤوليّات سياسيّة وتجاريّة.» (ص. 135) على الصعيد الهيكليّ قامت وزارة الاستعمار والعديد من الحكّام العامين والمجالس البلديّة المحليّة وغرف التجارة وجماعات الضغط المؤيّدة للاستعمار بتمويل العلوم الاستعماريّة، أمَلًا في جذب الشباب الموهوب إلى الوظائف في الإمبراطوريّة ولاسترضاء الرأي العام. حلقةٌ كبيرة من الباريسيّين وجمعيّات محليّة ومهجريّة ومؤسّسات متخصصة في البحث الاستعماري وناشرين متخصّصين في المواضيع الاستعماريّة ومجلّاتٍ علميّة وفّرت فُسحات فكريّة واستعدادًا اجتماعيًّا ومراجعةً منظورةً وهو ما يحتاجه أيّ مجالٍ جديدٍ ليكتسب طابعًا مهنيًّا.
أحد أكثر الفصول إثارةً للاهتمام هو الذي يبحث في أسباب تعثّر هذا المجال الحركيّ الجديد في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين ـ التي وصلت خلالها الإمبرياليّة الفرنسيّة إلى ذروتها ـ وانهياره بعدها بجيلٍ، ويستعرض العديد من العوامل: بداية الركود الاقتصادي و«السنوات الجوفاء» التي تلت نزيف الحرب العالميّة الأولى، وتصلّب الأكاديميّة الفرنسيّة المحافظة ورفض القيّمين عليها الاعتراف بجدّيّة الباحثين غير التقليديّين الذين يتّبعون مناهج عملانيّة، وقلّة طلّاب التعليم العالي في مجال العلوم الاستعماريّة إجمالًا. الحقيقة أنّ القليل من الذكور البرجوازيّين اختاروا الهجرة إلى المستعمرات بسبب انخفاض معدّلات الولادة في الجمهوريّة الثالثة. إضافة إلى ذلك عانى تدريس العلوم الاستعماريّة من قصور التنسيق الإجماليّ الشامل، حيث تشاركت ثلاث وزارات (وزارة الاستعمار ووزارة التعليم ووزارة الماليّة) مسؤوليّة هذا القطاع. يستجلي سينغارافلو أزمة هويّةٍ عميقةٍ في ثلاثينيّات القرن العشرين لروّاد هذا المجال لأنّ «تثبيت خرّيجين متعلّمين في المستعمرات يبقى أمرًا صعبًا» (ص. 227).
كان الهدف في الجمهوريّة الثالثة هو رفع العلوم الإستعماريّة من مستوى „الهواة“ إلى درجة «الاحتراف»، وهو ما تُثبته الأدلّة التي جمعها سينغارافلو. كيف كانت العلاقة بين العلوم الاستعماريّة المستحدثة والتي تمكّنت من اكتساب طابعٍ مهنيٍّ وبين العلوم الأكاديميّة التقليديّة كالجغرافيا والتاريخ والقانون والاقتصاد السياسي؟ هل شكّلت العلوم الاستعماريّة «علمًا استعماريًّا» واحدًا عزّز الإمبرياليّة بشكلٍ مستديم؟ هنا أيضًا الأجوبة معقّدة. الجغرافيّون الأكاديميّون قبل سنة 1880 كانوا «استعماريّين» في الروح إن لم يكونوا في الاسم، وقد جعلتهم رغبتهم في تحرير أنفسهم من تأثير المؤرّخين يطمعون في رسم خرائط للمواقع الطبيعيّة والبشريّة في الإمبراطوريّة الآخذة بالتوسّع، ولذلك رحّبوا بإنشاء المجال الجديد المسمّى «الجغرافيا الاستعماريّة.» لكنّ الجغرافيّين الاستعماريّين لم يتّحدوا بآرائهم، والقلّة منهم تمكّنت من إخضاع الحتميّة الميزولوجيّة التي هيمنت على هذا المجال في منقلب القرن العشرين. مقارنةً بالجغرافيّين حظي تاريخ الاستعمار باهتمام مجموعةٍ صغيرةٍ من المؤرّخين المسلكيّين، وقد كان معظم هؤلاء الخبراء المؤيّدين للمركزيّة الأوروبيّة والمناصرين الدائمين للإمبرياليّة من أوائل الذين درسوا القرن العشرين والتاريخ الشفوي في فرنسا، ومن أوائل من تحدّى حتميّة المحافظين العنصريّة في السوربون.
القانون الاستعماري والاقتصاد الاستعماري كانا انتقائيّيْن إلى درجةٍ لم تسمح لهما بأن يكوّنا مجالاتٍ مستقلّةً بنفسها، وعوضًا عن ذلك طوّرت الاختصاصات القانونيّة في القانون الفرنسي مكمّلًا «استعماريًّا» مانعةً بذلك ظهور «علمٍ استعماريٍّ» منفصلٍ. كذلك كان الاقتصاد الاستعماري مركّبًا هجينًا بشكلٍ دائمٍ، بمعنى أنّه كان يُشير في كلّيات التجارة إلى منهجيّات استعماريّة للزراعة، وفي كلّيات القانون إلى النظم الاستعماريّة للاقتصاد المقارَن. علم النفس الاستعماري حقّق أقلّ قدرٍ من التطوّر المؤسّساتي وترك أقلّ الآثار، وهو الذي حاول الباحث الإداري المشهور جورج هاردي اختراعه من لا شيء في حقبة الثلاثينيّات من القرن العشرين الحافلة بالأزمات، مستعيرًا من الأدب أكثر منه من النماذج العلميّة الجادة، وذلك في زمنٍ كان فيه علماء النفس الأكاديميّون في فرنسا تجريبيّين بشكلٍ حازم. كانت محاولة هاردي محكومةً بالفشل، وقد تم تدريس مقرّرَين فقط حول هذا الموضوع في كلّية باريس الاستعماريّة وفي لو هافر. يستنتج سينغارافلو أنّ الجمهوريّة الثالثة كانت تمثّل أكثر ما تُمثّل «لحظةً استعماريّةً» في العلوم الإنسانيّة الفرنسيّة. الاهتمام بمواضيع بحثٍ مشتركة – وهي «السكّان الأصليّون» والمستعمرة والاستعمار – أنتج تباينًا كبيرًا في المنهجيّات والطرق والمعايير العلميّة ضمن الكثير من المجالات إلى درجةٍ لا تسمح للمؤرّخين المعاصرين بالحديث عن نموذجٍ استعماريٍّ واحد حاصل ضمن العلوم الإنسانيّة في فرنسا بين العام 1870 والعام 1940.
لم يعتمد سينغارافلو خلافًا لتيلّي على الخبراء في دراسته لآثار الأبحاث المنجزة في مجالٍ استعماريٍّ محدّد (أفريقيا)، ولكنّه ركّز عوضًا عن ذلك على الظروف الاجتماعيّة المسؤولة عن ظهور العلوم الاستعماريّة ضمن التعليم العالي، متبنّيًا بذلك منهج أستاذه كريستوف تشارلز، وأهمّ ما يكشفه سينغارافلو هو أنّ عالم التدريس عن الامبرياليّة كان «فسحةً محفّزةً للّقاء والتبادلات بين الأكاديميّين والإداريّين والسياسيّين والمعلنين» (ص. 31). ساهم العلماء الاستعماريّون الذين يتحرّكون على حافّة المجالات التقليديّة ـ كالتاريخ والجغرافيا والقانون والاقتصاد السياسي ـ في خلق مواضيعَ جديدة (التاريخ المقارن للامبرياليّة، علم الأجناس البشريّة القانوني، الجغرافيا المداريّة) وذلك ضمن مجالاتهم الأساسيّة التي ازدهرت بعد الحرب العالميّة الثانية، كما كانوا أوّل من مارس تداخل الاختصاصات بسبب نفيهم المطوّل من حقول أبحاثهم الرئيسيّة، وقد ضاعت هذه المساهمات من الأذهان حاضرًا لأنّ الباحثين الجدد في بريطانيا هجروا «العلوم الاستعماريّة» المذمومة.
يرى كلّ من سينغارافلو وتيلّي أنْ ليس بمقدور المؤرّخين فهم ـ وبشكلٍ أقلّ بكثيرٍ أن يعملوا ضد ـ السلطة الأيديولوجيّة والبلاغيّة المتأصّلة في العلم من دون الإحاطة بالصورة الكاملة لكيفيّة عمل كلّ العلماء في الماضي، فهناك نقاشٌ مستديمٌ عن نطاق مساعدة العلماء للاستعمار ونطاق مساعدة الاستعمار للعلم. على الرغم من أنّ كلا الكتابين الغنيّين لا يبحث في كيفيّة ترجمة العلوم إلى سياسة على الأرض، إلّا أنّهما ينبّهاننا إلى استحالة الوصول إلى نتيجةٍ مؤكّدةٍ في ما يتعلّق بمحتوى المجالات العلميّة التي روّج لها الاستعمار. يبعث الكاتبان بروحٍ جديدةٍ في تاريخ العلماء البيض الذين تعاطفوا مع الإمبرياليّة في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين، وذلك من دون مدح هؤلاء العلماء أو الاعتذار عنهم. أكثر ما لفت نظر كاتبة هذه المقالة كمُراجعةٍ هي الصورة الحركيّة للمجتمعات الإنسانيّة والثقافات التي اكتسبها العلماء الفرنسيّون والبريطانيّون من خلال الاختبار الميداني في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، وهذه الصورة تعاكس الفهم الحقيقيّ للثقافة الذي سادت لدى العلماء اللاحقين في حقبة الحرب الباردة. إنّ ما ينتظر من يؤرّخه هو كيفيّة هذا التحوّل اللاحق وسببه وسط النقاش والنضال لأجل إنهاء الاستعمار...
---------------------------------
[1]*ـ أستاذة التاريخ في جامعة أوهايو ـ الولايات المتحدة الأميركية.
ـ العنوان الأصلي للمقال: ؟What is Colonial Science
ـ المصدر: University of Chicago Press, 2011, 496 p. and Pierre Singaravélou, Professer l’Empire: Les “sciences coloniales” en France sous la IIIe République, Paris, Publications de la Sorbonne, 2011, 409 p.
Published by Books&Ideas.net, 31 January 2013. ©booksandideas.net
ـ ترجمة: علي الصباح ـ مراجعة: جاد مقدسي.
[2]-Bernard Cohen, Colonialism and its Forms of Knowledge: The British in India (Princeton, 1996); Lewis Pyenson, Civilizing Mission: Exact Sciences and French Overseas Expansion (Baltimore, 1993); Emmanuelle Sibeud, Une science impériale pour l’Afrique? La construction des savoirs africanistes en France 1878--1930 (Paris, 2002); Oscar Salemink, The Ethnography of Vietnam’s Central Highlanders: A Historical Contextualization 1850--1990 (Honolulu, 2003); Trumbull IV, George, An Empire of Facts: Colonial Power, Cultural Knowledge, and Islam in Algeria, 1870--1914 (Cambridge, 2009); Gyan Prakash, Another Reason: Science and the Imagination of Modern India (Princeton, 1999); David Arnold, Colonizing the Body: State Medicine and Epidemic Disease in Nineteenth-Century India (Berkeley, 1993); Megan Vaughan, Curing their Ills: Colonial Power and African Illness (Stanford, 1991); Ashis Nandy, The Intimate Enemy: The Loss and Recovery of Self under Colonialism (Delhi, 1983); Edward Said, Culture and Imperialism (New York, 1993) and Bruno Latour, Nous n’avons jamais été modernes (Paris, 1991).