الباحث : جميل حمداوي
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 12
السنة : السنة الرابعة - صيف 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث : July / 22 / 2018
عدد زيارات البحث : 8612
يقصد هذا البحث الإضاءة على نظرية ما بعد الاستعمار من أكثر من جانب سواء على الصعيد المفهومي والكيفية التي خرجت فيها هذه النظرية إلى حقل التداول، والمدارس والتيارات الناشطة حولها، كما يركز البحث على نقطة محورية ذات أهمية استثنائية وهي الصلة الرابطة بين نظرية ما بعد الاستعمار وما يصطلح على تسميته بالاستغراب.
المحرر
-----------------------------------
تطرح نظرية مابعد الاستعمار مجموعة من القضايا الشائكة للدرس والمعالجة والتفكيك والتقويض، كجدلية الأنا والغير، وثنائية الشرق والغرب، وتجليات الخطاب الاستعماري، ودور الاستشراق في تزكية المركزية الغربية قوة وتفوقاً، والإشارة إلى الصراع الفكري والثقافي المضاد للتمركز العقلي الغربي لغة، وكتابة، ومقصدية، وقضية.
ما نظرية «مابعد الاستعمار»؟ وما مفهوم هذه النظرية؟ وما أهم مرتكزاتها القضوية والفنية والنقدية والمنهجية؟ ومن هم أهم روادها الفعليين؟ وما قيمة هذه النظرية تصوّراً وتطبيقاً؟ وما علاقتها بعلم الاستغراب؟ الدراسة التالية تحاول الإجابة عن هذه الأسئلة:
1ـ مفهوم نظرية «مابعد الاستعمار»
تعد نظرية «مابعد الاستعمار» من أهم النظريات الأدبية والنقدية التي رافقت مرحلة «مابعد الحداثة»، ولاسيما أن هذه النظرية قد ظهرت بعد سيطرة البنيوية على الحقل الثقافي الغربي، وبعد أن هيمنت الميثولوجيا البيضاء على الفكر العالمي، وأصبح الغرب مصدر العلم والمعرفة والإبداع، وموطن النظريات والمناهج العلمية. ومن ثم، أصبح الغرب هو المركز. وفي المقابل، تشكل الدول المستعمرة المحيط التابع على حد تعبير الاقتصادي المصري سمير أمين. ويعني هذا أن نظرية «مابعد الاستعمار» تعمل على فضح الإيديولوجيات الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية على غرار منهجية التقويض التي تسلح بها الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا (J.Derrida)، لتعرية الثقافة المركزية الغربية، ونسف أسسها الميتافيزيقية والبنيوية. وإن أكثر اهتمام ذي صلة في فكر «ما بعد الاستعمار» هو تهميش الثقافة الغربية وقيمها للثقافات المختلفة الأخرى. ويتضح من منظور عالم «مابعد الاستعمار» أن أعمال الفكر الكبرى في غرب أوروبا والثقافة الأميركية قد هيمنت على الفلسفة والنظرية النقدية، وكذلك على أعمال الأدب في جزء واسع من أنحاء العالم، ولاسيما تلك المناطق التي كانت سابقا تحت الحكم الاستعماري. إن مفهوم دريدا عن الميثولوجيا البيضاء، الذي حاول أن يفرض نفسه على العالم بأسره، قد قدم الدعم لهجوم «مابعد الاستعمار» على هيمنة الإيديولوجيات الغربية. وإن رفض “مابعد الحداثة” للسرديات الكبرى وأنماط الفكر الغربي التي أصبحت عالمية، كان أيضا مؤثرا جدا”[2].
وتسمى هذه النظرية كذلك بالخطاب الاستعماري، وقد ظهرت هذه النظرية حديثا مرافقة لنظرية (مابعد الحداثة)، وبالضبط في سنوات السبعين إلى غاية سنوات التسعين من القرن العشرين. وقد أعطيت لنظرية مابعد الاستعمار تعريفات عدة، ومن أهم تعاريفها أن مصطلح «ما بعد استعماري» يستخدم ليغطي «كل الثقافات التي تأثرت بالعملية الإمبريالية من لحظة الاستعمار حتى يومنا الحالي؛ ذلك أن هناك خطًّا متصلاً من الاهتمامات، على مدار العملية التاريخية التي بدأها العدوان الإمبريالي... ونحن نشير كذلك إلى ملاءمة المصطلح للنقد الجديد العابر للثقافات الذي ظهر في السنوات الأخيرة، وللخطاب الذي تكوّن من خلاله ذلك النقد. وبهذا المعنى، فإن كتابنا هذا – كما يقول بعض القائلين بنظرية «مابعد الاستعمار» - يهتم بالعالم كما كان خلال فترة الهيمنة الإمبريالية الأوروبية وبعدها، وتأثير ذلك على الآداب المعاصرة… وعلى هذا النحو، تكون آداب البلاد الأفريقية، وأستراليا وبنجلاديش وكندا وبلاد البحر الكاريبي والهند …كلها آداب «ما بعد الاستعمار»… وما يجمع بين هذه الآداب - بعد سماتها الإقليمية الخاصة – أنها ظهرت بشكلها الحالي في أعقاب تجربة الاستعمار، وأكدت نفسها من خلال إبراز التوتر مع القوة الإمبريالية، وبالتركيز على ما يميزها عن فرضيات المركز الإمبريالي. وهذا هو ما يجعلها آدابًا ما بعد استعمارية»[3].
وبناء على ماسبق، فنظرية «مابعد الاستعمار» هي التي تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطابا مقصديا، يحمل في طياته توجهات استعمارية إزاء الشعوب التي تقع خارج المنظومة الغربية. كما يوحي المصطلح بوجود استعمار جديد يخالف الاستعمار القديم. لذا، يتطلب هذا الاستعمار التعامل معه من خلال رؤية جديدة، تكون رؤية موضوعية وعلمية مضادة. ويعرّف سعد البازعي مصطلحَي الخطاب الاستعماري والنظرية «مابعد الاستعماريّة» قائلا: “يشير هذان المصطلحان اللذان يكملان بعضهما بعضا إلى حقل من التحليل ليس جديدا بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح في الغرب إلا مؤخرا مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله. يشير المصطلح الأول إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاج يعبر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب، على أساس أن ذلك الإنتاج يشكل في مجمله خطابا متداخلا بالمعنى الذي استعمله فوكو لمصطلح خطاب. أما المصطلح الثاني، «النظرية مابعد الاستعمارية»، فيشير إلى نوع آخر من التحليل ينطلق من فرضية أن الاستعمار التقليدي قد انتهى، وأن مرحلة من الهيمنة- تسمى أحيانا المرحلة الإمبريالية أو الكولونيالية - كما عرّبها بعضهم- قد حلّت وخلقت ظروفا مختلفة تستدعي تحليلا من نوع معين. ولذا، فإن المصطلحَيْن ينطلقان من وجهات نظر متعارضة فيما يتصل بقراءة التاريخ، وإن كان ذلك اختلافا في التفاصيل لا في الجوهر، فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي. وبالتالي، انتهاء الخطاب المتصل به، وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة مابعد الاستعمار، يرى بعضهم الآخر أن الخطاب الاستعماري ما يزال قائما وأن فرضية «المابعدية» لا مبرر لها»[4].
ولقد طرحت نظرية «مابعد الاستعمار» مجموعة من الإشكالات الجوهرية التي تتعلق بالاستغراب من جهة، وتتعرض لعلاقة الأنا بالآخر، أو علاقة الشرق بالغرب، أو علاقة الهامش بالمركز، أو علاقة المستعمِر بالشعوب المستعمَرة الضعيفة من جهة أخرى. ومن بين هذه الأسئلة والإشكالات الافتراضات التالية: «كيف أثّرت تجربة الاستعمار في هؤلاء الذين استُعمِروا من ناحية، وأولئك الذين قاموا بالاستعمار من ناحية أخرى؟ كيف تمكنت القوى الاستعمارية من التحكم في هذه المساحة الواسعة من العالم غير الغربي؟ ما الآثار التي تركها التعليم الاستعماري والعلم والتكنولوجيا الاستعمارية في مجتمعات «ما بعد الاستعمار»؟ وكيف أثّرت النزعة الاستعمارية؟ كيف أثّر التعليم الاستعماري واللغة المستعمِرة على ثقافة المستعمَرات وهويّتها؟ كيف أدى العلم الغربي والتكنولوجيا الغربيّة والطب الغربي إلى الهيمنة على أنظمة المعرفة التي كانت قائمة؟ وما أشكال الهوية ما بعد الاستعمارية التي ظهرت بعد رحيل المستعمِر؟ إلى أيّ مدى كان التشكل بعيدًا عن التأثير الاستعماري ممكنًا؟ هل تُركّز الصياغات الغربية لما بعد الاستعمار على فكرة التهجين أكثر مما تُركِّز على الوقائع الفعلية؟ هل ينبغي استمرار معاداة الاستعمار عبر العودة الجادة إلى الماضي السابق على فترة الاستعمار؟ كيف تلعب مسائل الجنس والنوع والطبقة دورًا في الخطاب الاستعماري وما بعد الاستعماري؟ هل حلّت أشكال جديدة من الإمبريالية محل الاستعمار؟ وكيف»[5]؟
وعليه، تُعَدُّ “نظرية ما بعد الاستعمار»، في الحقيقة، قراءة للفكر الغربي في تعامله مع الشرق، من خلال مقاربة نقدية بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية. وبتعبير آخر، تحلل هذه النظرية الخطاب الاستعماري، في جميع مكوناته الذهنية والمنهجية والمقصدية، بالتفكيك والتركيب والتقويض بغية استكشاف الأنساق الثقافية المؤسساتية المضمرة التي تتحكم في هذا الخطاب المركزي.
المبحث الثاني: مرتكزات نظرية «مابعد الاستعمار»
تنبني نظرية «ما بعد الاستعمار» في مجال الحقل الثقافي بصفة عامة، وحقل النقد الأدبي بصفة خاصة، على مجموعة من المرتكزات الفكرية والمنهجية، ويمكن حصرها في المكونات والعناصر التالية:
المطلب الأول: فهم ثنائية الشرق والغرب
تحاول نظرية مابعد الاستعمار فهم الشرق والغرب فهما حقيقيا، برصد العلاقات التفاعلية التي توجد بينهما، سواء أكانت تلك العلاقات إيجابية مبنية على التسامح والتفاهم والتعايش أم مبنية على العدوان والصراع الجدلي والصدام الحضاري، كما يذهب إلى ذلك صموئيل هنتنغتون في كتابه (صراع الحضارات). ويتمظهر الشرق، بشكل جلي، في نصوص وخطابات الاستشراق. ومن ثم، يتحول هذا الاستشراق من خطاب معرفي موضوعي إلى خطاب سياسي كولونيالي ذاتي ومصلحي. لذا، فقد تسلح مثقفو نظرية «ما بعد الاستعمار» بآليات التفكيك والتقويض لتشتيت المقولات المركزية التي انبنت عليها حضارة الغرب.
المطلب الثاني: مواجهة التغريب
استهدفت نظرية «مابعد الاستعمار» محاربة سياسة التغريب والتدجين والاستعلاء التي كان ينهجها الغرب في التعامل مع الشرق، بالاستعانة بعلم الاستغراب الذي ينْصبّ على فهم الغرب وتعرية تصوراته الفكرية والذهنية والمعتقدية والإيديولوجية. ومن ثم، شمّر مثقفو نظرية “مابعد الاستعمار” عن سواعدهم لفضح الهيمنة الغربية، وتعرية مرتكزاتها السياسية والإيديولوجية، مع تبيان نواياها الاستعمارية القريبة والبعيدة، والتشديد على جشعها المادي لاستنزاف خيرات الشعوب المقابلة الأخرى. لذا، يتسم الخطاب الثقافي الغربي بنزعة التمركز، وتأكيد خاصيات التفوق والتمدن والتحضر مقابل خطاب دوني يتصف بالبدائية، والشعوذة، والشهوانية، والسحر الطقوسي الخرافي.
المطلب الثالث: تفكيك الخطاب الاستعماري
تهدف نظرية «مابعد الاستعمار» إلى فضح الخطاب الاستعماري الغربي، وتفكيك مقولاته المركزية التي تعبّر عن الغطرسة والهيمنة والاصطفاء اللوني والعرقي والطبقي، باستعمال منهجية التشتيت والفضح والتعرية. لذا، فقد وجد كُتّاب نظرية «مابعد الاستعمار» في تفكيكية جاك ديريدا آلية منهجية لإعلان لغة الاختلاف، وتقويض المسلَّمات الغربية، والطعن في مقولاتها البيضاء ذات الطابع الحلمي الأسطوري. كما تأثروا في ذلك بميشيل فوكو، وكارل ماركس، وأنطونيو غرامشي، وكان إدوارد سعيد رائدهم في ذلك.
المطلب الرابع: الدفاع عن الهوية الوطنية والقومية
رفض كُتّاب النظرية الاستعمارية ومثقفوها الاندماج في الحضارة الغربية، وانتقدوا سياسة الإقصاء والتهميش والهيمنة المركزية، ورفضوا كذلك الاستلاب والتدجين. وفي المقابل، دعوا إلى ثقافة وطنية أصيلة، ونادوا بالهوية القومية الجامعة. ومن هؤلاء - مثلا- كُتّاب الحركة الزنجية الأفريقية ومبدعوها الذين سَخّروا كل ما لديهم من آليات ثقافية وعلمية لمواجهة التغريب، فتشبثوا بهويتهم السوداء، ودافعوا عن كينونتهم الزنجية الأفريقية. وقد رأينا كذلك كُتّاب الفرانكفونية بالمغرب العربي يحاربون المستعمر بلغته، ويقوضون حضارته بالنقد والفضح والتعرية، مستخدمين في ذلك لغة فرنسية مختلطة باللغات الوطنية تهجينا، وأسلبة، وسخرية.
المطلب الخامس: علاقة الأنا بالآخر
ترتكز نظرية «مابعد الاستعمار» على مناقشة علاقة الأنا والغير، في ضوء مقاربات (ما بعد الحداثة) كالمقاربة الثقافية، والمقاربة الماركسية، والمقاربة التاريخية الجديدة، والمقاربة السياسية، وذلك كله من أجل فهم العلاقة التفاعلية بين الأنا والغير، هل هي علاقة جدلية سلبية قائمة على العدوان والصراع أم هي علاقة إيجابية قائمة على الأخوّة والصداقة والتعايش والتسامح؟ وبتعبير آخر، هل هي علاقة قائمة على العدوان والكراهية والإقصاء والصراع الحضاري أم هي علاقة تفاهم وتعاون وتكامل؟
المطلب السادس: الدعوة إلى علم الاستغراب
إذا كان المفكرون الغربيون يتعاملون مع الشرق في ضوء علم الاستشراق باعتباره خطابا استعماريا وكولونياليا من أجل إخضاعه حضاريا، والهيمنة عليه سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، فإن المثقفين الذين ينتمون إلى نظرية «مابعد الاستعمار» كحسن حنفي - مثلا- يدعون إلى استشراق مضاد، أو ما يسمى أيضا بعلم الاستغراب بغية تفكيك الثقافة الغربية تشريحا وتركيبا، وتقويض خطاب التمركز تشتيتا وتأجيلا، وفضح مقصدية الهيمنة على أسس علمية موضوعية.
المطلب السابع: المقاومة المادية والثقافية
لم يكتف مثقفو «نظرية مابعد الاستعمار» بقراءة الخطاب الاستشراقي الغربي، بل حاولوا مقاومة المستعمر بكل الوسائل المتاحة، إما عن طريق المقاومة السلمية أو المسلحة، وإما عن طريق الاستشراق المضاد، وإما بنشر الكتابات التقويضية لتفكيك المفكرين المتمركزين: الأوروبييّن والأمريكييّن، وفضحهم بشتى السبل والطرائق، مادام هذا التمركز مبنيّا على اللون، والعرق، والجنوسة، والطبقة، والدين.
المطلب الثامن: النقد الذاتي
لم يكتف مثقفو نظرية «مابعد الاستعمار» أيضا بتوجيه النقد إلى الغرب، بل سعوا إلى نقد ذواتهم ضمن ما يُسمَّى بالنقد الذاتي، كما عند الناقد الكيني الأصل عبد الرحمن جان محمد حينما صرح قائلا:«أعتقد أننا نحتاج إلى الإفصاح بشكل أكثر انتظامًا، عن الواجبات التي تفرضها علينا هذه الوضعية البينية، وهي واجبات أشعر أنه يمكن استشعارها من وضعية مثقف «العالم الثالث» في الأكاديميات الغربية. إننا لا نزال نكافح ضد الهيمنة المعرفية للغرب، لا نزال نحارب «الاستعمار» و«الاستعمار الجديد». ولكن بالمقارنة مع التابع في «العالم الثالث»، نحن نعيش في ظروف بالغة الرفعة. بعض النقاد يؤكدون أن نوعًا معينًّا من نظرية ما بعد الاستعمار يمثل هو نفسه جزءًا من البنية القائمة على الهيمنة، أي أنه نوع مستمر ومكرر من الاستعمار. ولهذا أعتقد أنه لا بد لنا أن نستمر على خطى جاياتري سبيفاك وآخرين، فنتفحص وضعية ذواتنا في كل هذه النواحي وبشكل أكثر انتظامًا”[6]
يعني هذا أن ثمة مفارقة بين القول والفعل، وأن هناك انفصاما وجوديا وحضاريا وطبقيا بين مفكري نظرية «مابعد الاستعمار» وواقعهم المتخلف المزري.
المطلب التاسع: غربة المنفى
يعيش أغلب المثقفين الذين ينتمون إلى نظرية «مابعد الاستعمار» في الغرب منفيين، أو لاجئين، أو محميين، أو معارضين. ومن ثَمَّ، فهم ينتقدون مرة بلدانهم الأصلية وواقعها المتخلف، ومرة أخرى، يرفضون سياسة التغريب والتهميش والتمركز الغربي. ويعني هذا أنهم يعيشون تمزقا ذاتيا وموضوعيا، وهم دائما في غربة ذاتية داخل المنفى المكاني والذاتي والعقلي والنفسي، كما هو حال جوليا كريستيفا وإدوارد سعيد - مثلا-. وهكذا، يتحدث إدوارد سعيد - مثلاً - في كتابه (صور المثقف)، عن حالة المنفى اللاذعة، وهي تعبر عن فضاء العتبة، فضاء الأزمة والصراع الداخلي. ومن هنا، “فالمنفى بالنسبة للمثقف - بهذا المعنى الميتافيزيقي – هو حالة من عدم الراحة، حالة حركة، ألّا يستقر أبدًا، وألّا يدع الآخرين يستقرون؛ إذ ليس بإمكانك أن ترجع إلى حالة من حالات وجودك الأولى في وطنك، ربما تكون الحالة الأكثر استقرارًا، كما أنه ليس بإمكانك أبدًا – ويا للأسف – أن تصل إلى وطنك الجديد أو حالتك الجديدة». ثم يستطرد سعيد في فصول كتابه الصغير، إلى توصيف وضعية ذلك المثقف المأمول الذي يمكنه أن يقول الحقيقة للسلطة في وجهها»[7].
إذاً، تعد الغربة الذاتية والمكانية والحضارية من العوامل الرئيسة التي دفعت مجموعة من باحثي الوطن العربي والإسلامي إلى نقد الذات من جهة، ونقد الهيمنة الغربية من جهة أخرى.
المطلب العاشر: التعددية الثقافية
دافع كثير من مثقفي نظرية «مابعد الاستعمار» عن التعددية الثقافية، ورفضوا التمركز الثقافي الغربي والثقافة الواحدة المهيمنة. كما رفضوا سياسية التدجين والتغريب والإقصاء، ونادوا إلى التنوع الثقافي والانفتاح الثقافي عبر آليات المثاقفة، والترجمة، والنقد، والتفاعل الثقافي. بمعنى أن هناك ثقافات جديدة إلى جانب الثقافة الغربية المركزية، كالثقافة العربية، والثقافة الآسيوية، والثقافة الأفريقية، والثقافة الأمازيغية... بمعنى ليس هناك ثقافة مهيمنة واحدة ووحيدة، بل هناك ثقافات هجينة متعددة ومتداخلة ومتلاحقة.
3 ـ رواد نظرية «مابعد الاستعمار»
ثمة مجموعة من الكتاب والنقاد والمثقفين الذي يمثلون نظرية «مابعد الاستعمار»، سواء أكانوا باحثين ينتمون إلى الغرب، أم ينتمون إلى العالم الثالث. ونذكر من الدارسين الشرقيين الأعلام التالية أسماؤهم:
المطلب الأول: إدوارد سعيد
ألف الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد كتابا قيما بعنوان (الاستشراق) سنة 1978م[8]؛ حيث استعرض فيه تاريخ الاستشراق الغربي ومراحله التطورية، وكتب مقالة قيّمة بعنوان (العالم والنص والنقاد) سنة 1983م، يدعو فيها إلى دراسة النص في علاقة بعالمه الخارجي. بمعنى أن إدوارد سعيد ينتقد «جميع أنماط التحليل النصّي التي عدت النصوص على أنها منفصلة عن العالم الموجودة فيه. وفكرة أن التحليل النصي قد يكون ممكنا من أجل أن يكون هناك قراءات لانهائية وممكنة لأي نص يمكن أن تتحقق من خلال فصل النص عن العالم الحقيقي.»[9]
ويعد إدوارد سعيد من رواد علم الاستغراب، ومن محللي الخطاب الاستعماري، ومن أهم منظري نظرية «مابعد الاستعمار». لذلك، توج بكونه مؤسسا لهذا الحقل المعرفي الذي يعنى بتفكيك الخطاب الاستعماري أو الكولونيالي الجديد. كما يعد أيضا من رواد النقد الثقافي؛ لأنه اهتم كثيرا باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة في المؤسسات المركزية الغربية، بتحليل الخطاب الاستشراقي تفكيكا وتشريحا وتقويضا، متأثرا في ذلك بمنهجية ديريدا، وميشيل فوكو، وأنطونيو غرامشي.
وينطلق إدوارد سعيد، في كتابه (الاستشراق)، من تعريف الشرق، بتحديد مدلولاته الجغرافية والحضارية، وتعريف مصطلح الاستشراق في ضوء المفاهيم اللغوية، والعلمية، والأكاديمية، والتاريخية، والمادية. وبعد ذلك ينتقل إلى استعراض تاريخ الاستشراق الغربي في مساراته العلميّة والاستعمارية، مُركِّزا بالخصوص على الاستشراق الفرنسي، والاستشراق الإنجليزي، والاستشراق الأمريكي الذي ازدهر بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ثم تعامل الباحث مع الاستشراق خطابا للتحليل، معتمدا في ذلك على نظريات ميشيل فوكو وأنطونيو غرامشي. وفي هذا الصدد، يقول إدوارد سعيد: “إذا اتخذنا من أواخر القرن الثامن عشر نقطة للانطلاق محددة تحديدا تقريبيا، فإن الاستشراق يمكن أن يناقش، ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق- التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه: وبإيجاز، الاستشراق كأسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه. ولقد وجدت استخدام مفهوم ميشيل فوكو للخطاب، كما يصفه في كتابيه (حفريات المعرفة) و(المراقبة والعقاب) ذا فائدة هنا لتحديد هوية الاستشراق. وما أطرحه هنا هو أننا ما لم نكتنه الاستشراق بوصفه خطابا، فلن يكون في وسعنا أبدا أن نفهم الفرع المنظم تنظيما عاليا الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر الشرق ـ بل حتى أن تنتجه ـ سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً، وتخييلياً، في مرحلة مابعد عصر التنوير. وعلاوة على ذلك، فقد احتل الاستشراق مركزا هو من السيادة بحيث أنني أومن بأنه ليس في وسع إنسان يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلا متعلقا به أن يقوم بذلك دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل. ولا يعني هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة يكون فيها ذلك الكيان العجيب “الشرق” موضعا للنقاش. أما كيف يحدث ذلك؟ فإنه ما يحاول هذا الكتاب أن يكشفه. كذلك يحاول هذا الكتاب أن يظهر أن الثقافة الغربية اكتسبت المزيد من القوة ووضوح الهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتا بديلة»[10].
ومن الناحية المنهجية، فلقد اعتمد إدوارد سعيد على دراسة الخطاب الاستشراقي بمنهجية فيلولوجية تفكيكية قائمة على دراسة الأفكار والثقافات والتواريخ ليبرهن على أن العلاقة بين الشرق والغرب مبنية على القوة والسيطرة والهيمنة المعقدة المتشابكة. ومن ثم، يرى إدوارد سعيد أنه “ينبغي على المرء ألا يفترض أبدا بأن بنية الاستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب أو الأساطير التي ستذهب أدراج الرياح إذا كان للحقيقة المتعلقة بها أن تجلى. وأنا نفسي أؤمن بأن الاستشراق أكثر قيمة بشكل خاص كعلامة على القوة الأوروبية -الأطلسية- بإزاء الشرق منه كخطاب حقيقي عن الشرق (وهو ما يدعي إليه الاستشراق، في شكله الجامعي أو البحثي). على أي حال، إن ما علينا أن نحترمه ونحاول أن ندركه هو القوّة المتلاحمة للخطاب الاستشراقي، وعلاقاته الوثيقة بالمؤسسات الاجتماعية والسياسية المعززة، وقدرته المهيبة على البقاء.»[11]
وعليه، فلقد تمثل إدوارد سعيد منهجية ميشيل فوكو في دراسة الخطاب، ثم استحضر أفكار أنطونيو غرامشي في التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، والحديث عن التسلط الثقافي. من ثم، يمثل الاستشراق الغربي نوعا من التسلط الثقافي؛ لأنه يؤكد التفوق الأوروبي مقابل التخلف الشرقي، ويبين أيضا أن للغرب اليد العليا على الشرق تنويرا، وتعليما، وتثقيفا، وتمدينا.
وقد استند إدوارد سعيد، في تعامله مع الخطاب الاستشراقي، إلى رؤية ثقافية سياسية قائمة على ثلاث خطوات منهجية هي:
أولا، التمييز بين المعرفة الخالصة والمعرفة السياسية.
وثانيا، الاهتمام بالمسألة المنهجية في التعامل مع الأفكار والمؤلفين والمراحل التاريخية، بالتركيز على الاستشراق الاستعماري للشرق، سواء أكان فرنسيا، أم بريطانيا، أم أمريكيا.
وثالثا، البعد الشخصي الذي يتمثل في الجمع بين الموضوعية والذاتية القائمة على الوعي النقدي، مع الاستعانة بأدوات البحث التاريخي، والسياسي، والإنساني، والثقافي.
وفي الأخير، يبين إدوارد سعيد أن كتابه (الاستشراق) موجه إلى مجموعة من القراء، بما فيهم طلاب الأدب والنقد لتبيان العلاقات المتداخلة بين المجتمع والتاريخ والنصوص، وفهم الدور الثقافي الذي يقوم به الشرق في الغرب، مع الربط بين الاستشراق وبين العقائدية والسياسة ومنطق القوة. كما يقدم الكتاب إلى القارئ العام وقارئ العالم الثالث؛ حيث تطرح هذه الدراسة بالنسبة له خطوة لا نحو فهم السياسة الغربية والعالم الغربي في هذه السياسة، بل نحو فهم قوة الخطاب الثقافي الغربي، وهي قوة كثيرا جدا ما تفهم خطأ على أنّها زخرفية فقط، أو منتمية إلى البنية الفوقية. «إن أملي هو أن أوضح البنية المتينة الصلبة للسيطرة الثقافية والأخطار والإغراءات الكامنة في استخدام هذه البنية، خصوصا بالنسبة للشعوب المستعمَرة سابقا، عليهم أو على الآخرين.»[12]
إذاً، لقد تأثر إدوارد سعيد بفكر (مابعد الحداثة) بصفة عامة، وفكر ميشيل فوكو بصفة خاصة، دون أن ننسى تأثره بالتاريخ الجديد، وفلسفة جاك ديريدا التفكيكية والتقويضية. وقد ربط إدوارد سعيد خطابه الاستشراقي بنزعة التباين والاختلاف بين الشرق والغرب؛ فقد تسلح الغرب بكل مقولاته المركزية وآلياته البنيوية لإخضاع الشرق والهيمنة عليه سياسيا، وعسكريا، واجتماعيا، وثقافيا، وعلميا. ومن ثم، يقوم الاستشراق بدور هام في عملية الإخضاع والاستيلاء والتغريب، بربط الشرق بأغراض المصلحة الغربية. ومن ثم، يتبجح الاستشراق الغربي بالصفات الرشيدة للحضارة الغربية التي تتمثل في الديمقراطية على سبيل الخصوص. بينما يعرّف الشرق بالصفات الذميمة كالشهوانية، والبدائية، والاستبدادية. ومن ثم، فالغرب عند إدوارد سعيد هو العقل، والمركز، والاستشراق.
ومن هنا، يطرح إدوارد سعيد سؤالا هاما وقيما: هل كتَّاب السكان الأصليين في إطار النظرية الجديدة يتمثلون النظرية الغربية أم يعارضونها؟ بمعنى هل يرفضون الثقافة السائدة؟ أم يخضعونها لمشرح التفكيك والتقويض بالمفهوم الدريدي نسبة إلى تفكيكية جاك ديريدا؟!!
ويرى ديفيد كارتر(David Karter)، في كتابه (النظرية الأدبية)، إنّ تحليلات إدوارد سعيد «للخطابات الاجتماعية المختلفة هي بشكل أساسي تفكيكية و«ضد التيار». فقد كان هدفه تهميش الوعي للعالم الثالث، وتقديم نقد من شأنه أن يقوض هيمنة خطابات العالم الأول. بالنسبة لسعيد، جميع تمثيلات المشرق المقدمة من قبل الغرب تشكل جهدا دؤوبا يهدف إلى الهيمنة والإخضاع. وقد خدم الاستشراق أغراض الهيمنة الغربية (بالمعنى الذي قصده غرامشي): لإضفاء الشرعية على الإمبريالية، وإقناع سكان هذه المناطق بأن قبولهم للثقافة الغربية هي عملية تمدين إيجابية. ومن خلال تعريف الاستشراق للشرق، فإنه يعرِّف أيضا كيف يتصور الغرب نفسه (وذلك من خلال المعارضات الثنائية). فالتشديد على الشهوانية والبدائية والاستبدادية في الشرق، يؤكد على الصفات الرشيدة والديمقراطية عند الغرب.»[13]
وما يلاحظ على إدوارد سعيد أنه قد أهمل الاستشراق الإسباني، على الرغم من طابعه الاستعماري في المغرب على سبيل الخصوص. كما نعتبره المؤسس الحقيقي للنظرية «مابعد الاستعمار» في الحقلين الثقافيين: العربي والغربي على حد سواء. ويعد كذلك الممهد الفعلي للنقد الثقافي. ومن هنا، «يأتي إدوارد سعيد في طليعة محللي الخطاب الاستعماري، بل ويعده بعضهم رائد الحقل، فقد استطاع بمفرده في كتابه (الاستشراق) كما كتب أحد الدارسين مؤخرا، “أن يفتتح حقلا من البحث الأكاديمي هو الخطاب الاستعماري» (باتراك ويليامز،5). ذلك أن دراسة سعيد للاستشراق دراسة لخطاب استعماري، خطاب تلتحم فيه القوة السياسية المهيمنة بالمعرفة والإنتاج الثقافي. غير أن تحليل سعيد جاء مرتكزا على سياق معرفي وبحثي سابق له يتضمن أعمال اثنين من المفكرين الأوروبيين المعاصرين، هما: الفرنسي ميشيل فوكو والإيطالي أنطونيو غرامشي. ومن الممكن والحال كذلك اعتبار هذين المفكرين ممن وضعوا أسس البحث في الخطاب الاستعماري، بالإضافة إلى بعض فلاسفة مدرسة فرانكفورت مثل: ثيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وكذلك والتر بنجامين، وحنَّة أريندت.»[14]
ومن هنا، فكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد خير نموذج يعبر عن نظرية مابعد الاستعمار، مادام هذا الكتاب خطابا مضادا للاستشراق الغربي؛ لكونه يحوي انتقادات واعية ولاذعة لخطاب التمركز الغربي تقويضا وتفكيكا وتشتيتا. و«هناك شبه إجماع بين الدارسين على الدور المؤسس الذي لعبه كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق»، في صياغة اللبنات الأولى لنظرية «ما بعد الاستعمار». فقد استثار هذا الكتاب بما طرحه من أفكار، طائفة أخرى واسعة من الكتابات التي ناقشت هذه الأفكار، أو ردت عليها، أو طورتها، سواء كتابات اللاحقين من منظري «ما بعد الاستعمار» مثل: وهومي بابا، وجاياتري سبيفاك، أو من تصدوا للنظرية من منظور مخالف، وكشفوا عن تناقضاتها، مثل إعجاز أحمد وعارف ديليرك. وقد شارك إدوارد سعيد بعد ذلك في تطوير النظرية وتأملها، من خلال كتاباته ومراجعاته المتعددة التالية لكتاب الاستشراق، وخاصة في كتب مثل: «الثقافة والإمبريالية» و«صور المثقف» و«تأملات حول المنفى» وغيرها. وكان أن انتهت هذه الكتابات جميعًا، وفي زمن قصير نسبيًا، إلى بلورة حقل ثقافي جديد يعرف الآن باسم «ما بعد الاستعمار»[15].
وعليه، يُعَدُّ إدوارد سعيد المؤسس الفعلي لنظرية ما بعد الاستعمار في فترة ما بعد الحداثة، ومن الممهدين الفعليين للنقد الثقافي وعلم الاستغراب على حد سواء.
المطلب الثاني: هومي بابا
أما الباحث الهندي هومي بابا (Bhabha, Homi)، فقد تأثر كثيرا بإدوارد سعيد، ومشيل فوكو، وجاك ديريدا، وجاك لاكان... فقد اهتم بالنصوص التي تستكشف هامش المجتمع في عالم «مابعد الاستعمار»[16]، برصد العلاقات الخفية والمتبادلة بين الثقافات المهيمنة والمستعبدة، ولاسيما في مجلده (مركز الثقافة)(1994م). ويرى هومي بابا أن “التفاعل بين المستعمر (بكسر الراء) والمستعمر(بفتح الراء) يؤدي إلى انصهار المعايير الثقافية التي تؤكد السلطة الاستعمارية، بل وتهدد أيضا في محاكاتها بزعزعة استقرارها. وهذا ممكن لأن هوية المستعمر في حد ذاتها غير مستقرة، إذ توجد في وضع معزول ومغترب، كما توجد هوية المستعمر بحكم اختلافها. فهي تتجسد فقط في الاتصال المباشر مع المستعمر. وقبل ذلك، فإن حقيقتها الوحيدة موجودة في إيديولوجية الاستشراق كما عرفها سعيد»[17].
ومن هنا، يعد هومي بابا من رواد نظرية ما بعد الاستعمار وعلم الاستغراب على حد سواء؛ حيث واجه الغرب بمنطق الفكر التفكيكي، ومشرح النقد، وسلاح التقويض، ومنهج التشكيك.
المطلب الثالث: جسي سي سبيفاك
تعد الناقدة الهندية جي سي سبيفاك[18] (Spivak, Gayatri Chakravorty) من المؤسسين الفعليين للخطاب الكولونيالي الجديد. وتعد كذلك أول منظرة نسوية بحق وحقيق في مرحلة «مابعد الاستعمار». فلقد انتقدت الحركة النسوية الغربية انتقادا عنيفا بتركيز “اهتماماتها على عالم البيض من الطبقة المتوسطة ومن جنسين مختلفين. وتهتم سبيفاك أيضا بدور الطبقة الاجتماعية، وقد ركزت على ما أصبح يعرف في دراسات «مابعد الاستعمار» باسم: “الأتباع”، وهو في الأصل مصطلح عسكري يشير إلى أولئك الذين هم في مرتبة أو مكانة أدنى. وإن استخدام هذا المصطلح في النظرية النقدية مستمد من كتابات الكاتب غرامشي. وتستخدم سبيفاك هذا المصطلح للإشارة إلى جميع المستويات المتدنية من المجتمع الاستعماري وما بعد الاستعماري: العاطلين عن العمل والمشردين والمزارعين الذين يعيشون من مورد رزقهم وما إلى ذلك.»[19]
وتستند سبيفاك إلى منهجية تحليلية نسوية تفكيكية ماركسية ثقافية، وخاصة في مقالها (هل يمكن للتابع أن يتحدث؟)(1988م)، مركزة على وضعية المرأة الهندية، أو ما يسمى بالإناث التابعات، فتناقش سبيفاك «أنه في الممارسة الهندية التقليدية كحرق الأرامل على محارق أزواجهن الجنائزية، لم يسمح الهنود ولا المستعمر البريطاني للنساء بالتعبير عن آرائهن الخاصة.»[20]
وعليه، فلقد اهتمت سيباك بالدفاع عن المرأة الشرقية، ومواجهة الهيمنة الغربية، والدفاع عن المهاجر، والاهتمام بالأدب والثقافة.
المطلب الرابع: عبد الوهاب المسيري وحسن حنفي
استهدف كثير من المفكرين العرب تعرية النسق الحضاري الغربي، وتقويض مقولاته المركزية، وتفكيك مقاصده الإيديولوجية، كما فعل عبد الوهاب المسيري في كتابه (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري وتصنيفي جديد)، وما فعله في كتابه (الإيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة)(1983م)، وما أنجزه حسن حنفي في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب)(1981م)؛ حيث حاول «فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس». غير أننا رأينا هذه العقدة، وقد أخذت طريقها إلى الحل فعلا في دراسات إدوارد سعيد وعبد الوهاب المسيري وغيرهما. ولم يكن البحث والتحليل الطريقين الوحيدين اللذين اعتمد عليهما الدارسون لفك العقدة المشار إليها؛ فبالإضافة إلى ذلك لعبت الترجمة دورا حين اعتنت بما يتصل بهذه العقدة، ويؤدي إلى حلها، كما في ترجمة عبد الوهاب المسيري لكتاب المؤرخ الأمريكي كيفن رايلي (الغرب والعالم)(1985م) الذي يبرز بعض أوجه الخلل في الثقافة الغربية، فيعريها مما تبدو عليه أحيانا من تفوق مطلق وصلاحية عالمية.”[21]
هذا، ويعد حسن حنفي من أهم رواد علم الاستغراب العربي، فقد كان هدفه هو مواجهة الاستشراق بفهمه بشكل جيد، واستيعاب منظومته الفكرية والفلسفية والعلمية لتبيان مظاهر قوة الغرب وضعفه.
المطلب الخامس: فرانز فانون
لا تقتصر نظرية «مابعد الاستعمار» على كُتَّاب آسيا وأفريقيا. فهناك باحثون من الغرب، مثل: فرانز فانون (Frantz Fanon)، وهو من الكُتَّاب السابقين الذين ارتبطوا بنظرية “مابعد الاستعمار” بوجه من الوجوه، كما يظهر ذلك جليا في كتابه (المعذبون في الأرض)(1961م)؛ حيث يحلل فانون طبيعة الاستعمار الكولونيالي، ويبين طابعه الذاتي والمصلحي، على أساس أن الاستعمار مصدر للعنف والإرهاب؛ وذلك مما يولد مقاومة مضادة من قبل الشعوب المستضعفة، أو البلدان المستعمَرة. ومن ثم، ينتقد فرانز فانون الأنظمة الاستعمارية الكولونيالية الغربية. ويثور على المنظومة الغربية التي ينتمي إليها، معتبرا إياها رمزا للتسلط الثقافي، ومنظومة مركزية مبنية على قوة العلم والثقافة والتكنولوجيا بغية الهيمنة والسيطرة، وإخضاع الشرق ماديا ومعنويا. وخير من يمثل الرد الفعلي المباشر على التغريب الاستعماري والتسلط الثقافي المركزي الغربي الحركات الثقافية المضادة، كالحركة الزنجية التي يتزعمها كتّاب أفريقيا، مثل: الشاعر السينغالي ليوبولد سيدار سينغور، وإيمي سيزير (Aimé Césaire) في كتابه (خطاب حول الكولونيالية)(1950م)، وكوام نيكروما (Kwame Nkrumah) في كتابه (نظرية الوعي)(1970م)، والمبدعين السودانيين: الشاعر محمد الفيتوري الذي خصص أفريقيا بمجموعة من الدواوين الشعرية الوطنية والقومية كما في ديوان (أغاني أفريقيا)[22]، والروائي الطيب صالح كما في روايته (موسم الهجرة إلى الشمال)...
ويذهب فرانز فانون إلى أن نظرة الغرب إلى أفريقيا قائمة على صورة استعلائية. وفي هذا السياق، يقول: “كانت تلك القارة المترامية الأطراف (يقصد أفريقيا) في نظر الاستعمار مأوى للمتوحشين، موطنا يحفل بالهرطقة والأباطيل، ومكرّساً للازدراء الكبير، للعنة الربانية، موطنا لآكلي لحوم البشر، موطنا للزنوج.»[23]
ومن هنا، فقد جاءت الحركة الزنجية الأفريقية في الحقيقة لتواجه التغريب والاسترقاق والاستعمار والميز العنصري من جهة، والتغني بالحرية والهوية والثورة والإنسان من جهة أخرى.
المطلب السادس: روبرت يونغ
يمكن الحديث أيضا عن الباحث الإنجليزي روبرت يونغ (Robert JC Young)، صاحب كتاب (ميثولوجيات بيضاء: كتابة التاريخ والغرب)(1990م). فلقد استهدف تقويض التمركز الغربي، وتفكيك الفكر الماركسي الغربي، بإعادة كتابة تاريخ الفكر الغربي من هيغل إلى ميشيل فوكو؛ حيث يرى أن التمركز الغربي أسطورة ليس إلا. ويعد روبرت يونغ من رواد الخطاب الكولونيالي الجديد، ومن الفاعلين في مجال النقد والأدب والتاريخ. وقد انتقد يونغ الفكر الماركسي باعتباره المبرر والمسوغ الشرعي والفلسفي لدخول بريطانيا للهند؛ إذ اعتبر ذلك ظاهرة إيجابية لإدخال الهند في سياق التمدن والتحضر. ومن ثم، فلقد اتخذ الفكر الماركسي طابعا هيغيليا يجعل من الغرب مركزا للقيادة والعلم والمعرفة. كما اعتمد يونغ على التفكيكية في تقويض الماركسية. و«يذكرنا هذا بأن تحليل الخطاب الاستعماري أو نظرية «مابعد الاستعمار» يتقاطع مع العديد من المناهج وحقول البحث الثقافية الغربية المعاصرة، وذلك بوصفه هو الآخر واقعا تحت مظلة الفكر مابعد الحداثي ومابعد البنيوي.»[24]
إذاً، هؤلاء هم بعض الرواد الذين مثلوا نظرية «مابعد الاستعمار»، سواء أكان ذلك في الشرق أم في الغرب. وقد بذلوا فعلا جهدا مشكورا في تعرية الخطاب الاستشراقي المركزي، وفضحه تفكيكا، وتقويضا، واستغرابا، وتشتيتا.
4ـ تقويم نظرية «مابعد الاستعمار»
يتضح لنا، من هذا كله، أن نظرية «مابعد الاستعمار» قد سخرت كل آلياتها الفكرية والمنهجية والمعرفية لتقويض الرؤية المركزية عند الغربيين، بإعادة النظر في كثير من الملسمات والمقولات المركزية الغربية بالمراجعة، والدرس، والتحليل، والتقويم في إطار ما يسمى بعلم الاستغراب. وقد أعيد النظر كذلك في خطاب الاستشراق بالتحليل والتفكيك والنقد الواعي. بيد أن هذه النظرية هي خليط من المناهج والتحليلات، قائمة على الانتقاء والاصطفاء المنهجي. كما أن عينات البحث محدودة كما عند إدوارد سعيد، ولم تأت هذه النظرية بالجديد مقارنة بنظريات الخطاب الاستعماري الكلاسيكي.
وقد تعرض أصحابها لانتقادات عميقة وواسعة، بعضها أخلاقي، وبعضها علمي، واتهموا هذه النظرية بالإخفاق، كما تنطوي هذه النظرية على مجموعة من التناقضات والمفارقات، وانفصام بين القول والفعل، وانفصال شاسع بين النظري والواقعي.
الخاتمة:
وخلاصة القول، نستنتج مما سبق، أن نظرية «مابعد الاستعمار» نظرية تسلح بها كُتَّاب العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة كُتَّاب آسيا وأفريقيا، لمجابهة التمركز الغربي، وتقويض المقولات الفكرية الأوروبية والأميركية تقويضا وتشتيتا وتأجيلا، بآليات منهجية متداخلة: تفكيكية، وثقافية، وسياسية، وتاريخية، ومقارنة...
إنّ نظرية «مابعد الاستعمار» هي حركة ثقافية مضادة ومقاومة، ظهرت في مرحلة «مابعد الحداثة» للوقوف في وجه التغريب، والتهميش، والتعالي، والهيمنة الغربية المغلوطة انطلاقا من تصورات علم الاستغراب.
لم تقتصر الكتابة في النظرية الكولونيالية الجديدة على كتَّاب العالم الثالث، فقد توسعت لتضم كتّابا من المنظومة الغربية الذين ثاروا على الثقافة البيضاء، فاعتبروها ثقافة أسطورية حالمة وخيالية، مبنية على خطاب الإخضاع والاستعلاء والهيمنة والاستعمار من جهة، والتمييز اللوني والعرقي والجنسي والديني والطبقي من جهة أخرى.
---------------------------------
[1]*ـ باحث وأكاديمي من المغرب.
[2] - ديفيد كارتر: نفسه، ص:125.
[3] - Ashcroft, Bill, Gareth Griffiths, and Helen Tiffin: The Empire Writes Back: Theory and Practice in Post-Colonial Literatures, Routledge, London and New York, 1989, p: 2.
[4] - سعد البازعي وميجان الرويلي: نفسه، ص:91-92.
[5] - وردت هذه الأسئلة في هذا الكتاب: Deepika Bahri: Introduction to Postcolonial Studies, Fall 1996.وذلك على موقع بعنوان: www.emory.edu/English/faculty/bahri.htm
[6]-Theory, Practice and the Intellectual:
A Conversation with Abdul R. Jan Mohamed, by S.X. Goudie, Juvert: A Journal of postcolonial Studies, published by The College of Humanities and social sciences, North Carolina State University, Volume 1, Issue 2, 1997.
[7] - Said, Edward. Representations of The Intellectual, Vintage Books, New York, 1996,P: 5.
[8] - إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة: كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، الطبعة السابعة سنة 2005م.
[9] - ديفيد كارتر: نفسه،ص:127.
[10] - إدوارد سعيد: الاستشراق، ص:38-39.
[11] - إدوارد سعيد: نفسه، ص:41.
[12] - إدوارد سعيد: نفسه، ص:57.
[13] - دافيد كارتر: نفسه، ص:126.
[14] - سعد البازعي وميجان الرويلي: نفسه، ص:92.
[15] - خيري دومة: (عَــدْوَى الرَّحِــــــــــــيل موسم الهجرة إلى الشمال ونظرية «مــا بعـــد الاستعمار»)،
http://www.ibn-rushd.org/forum/Adwa-al-Raheel.htm
[16] - Bhabha, Homi K.: Locations of Culture: Discussing Post-Colonial Culture. London: Routledge, 1996.
- Nation and Narration. New York: Routledge, 1990.
- Of Mimicry and Man: The Ambivalence of Colonial Discourse, October 28 (1984): 125 -33.
- The Postcolonial Critics Homi Bhabha Interviewed by David Bennett and Terry Collits, Arena 96 (1991): 47- 63.
[17] - ديفيد كارتر: نفسه، ص:127-128.
[18] - Spivak, Gayatri Chakravorty. A Critique of Postcolonial Reason: Toward a History of the Vanishing Present, Cambridge, MA: Harvard UP, 1999.
[19] - ديفيد كارتر: نفسه، ص:128.
[20] - ديفيد كارتر: نفسه، ص:128.
[21]- سعد البازعي وميجان الرويلي: نفسه، ص:94.
[22] - محمد الفيتوري: ديوان محمد الفيتوري، المجلد الأول، دار العودة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1972م.
[23]- Franz Fanon: Les Damnés de la Terre de la terre, première édition: 1961,p:145.
[24]- سعد البازعي وميجان الرويلي: نفسه، ص:93.