البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الفلسفة والاستعمار ، رحلة معرفية في أفكار أنكاتل ـ دوبرون

الباحث :  سيمون غاليغود غابيلوندو Simon Gallegod Gabilondo
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  12
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 22 / 2018
عدد زيارات البحث :  932
تحميل  ( 351.757 KB )
إذا كان لنا من تصنيف معرفي للمفكر والمستشرق الفرنسي أنكاتل دوبرون في سياق المدارس النقدية الأوروبية، ربما نضع أعماله وأنشطته الفكرية ضمن تيار ما بعد الاستعمارية. وهذا بيَّن مما جاءنا به من نقود معمَّقة لمفاهيم التنوير الأولى، وللأطروحات التي قامت عليها الحداثة في زمن تدفقها خارج حدودها الغربية وتحولها إلى فضاء إمبريالي يسوِّغ الهيمنة والسيطرة الاستعمارية على ما سُمِّي بمجتمعات الأطراف في مقابل المركزية الغربية.

هذه المقالة للباحث الفرنسي سيمون غابليوندو تستقرئ أفكار دوبرون النقدية وتبيِّن أبعاد العلاقة بين المنجز الفلسفي الأوروبي والواقع الاستعماري.

«المحرر»

----------------------------------

كان أنكاتل دوبرون، أحد، أبرز النقّاد، لمفهوم مونتسكيو، عن الاستبداد، وهو خصم عنيد للمركزية الأوروبية، ورمز غير تقليدي للأفكار السائدة خلال عصر الأنوار. شكَّك بالاستخدام الفلسفي لأدب الرحلات، ونَقَد الفلسفة كونها يمكن أن تكون، أداةً للغزو وتُستخدم بهدف استعمار العالم. تركّز المقالة على العلاقة المميّزة، بين الاستعمار والفلسفة. الكلمات المفاتيح: الأنوار،  الفكر السياسي، مناهضة الاستعمار، المركزية الأوروبية، الاستبداد الشرقي، أنكاتل ديوبورن، مونتسكيو.

«إنه إذاً من منطق الأشياء أن تتحالف سلطات الهند، بعد أن ضرب الفقر البلاد، وبعد أن شهدت مناطقها الأكثر غنىً ممارسات عنيفة، وذلك لمواجهة عصابات أجنبية، مسلحة بالبنادق، والقوانين والحجة، وحتى بالفلسفة إذا اقتضى الأمر»[2].

إن توازن القوى، في أوروبا والقارات الأخرى، هو موضوعٌ مركزيٌّ، وهمّ ثابت في أعمال المستشرق أبرهام – هياسانتع أنكاتل دوبّرون (1731-1805)[3]. كان المستشرق عضواً في أكاديمية التسجيلات والفنون الجميلة (Académie des Inscriptions et belles lettres)، وقد ترجم زند أفيستا والأوبينشاد، وكان ناقداً لنظرية الاستبداد الشرقي ومعارضاً عنيداً للاستعمار، ومع كان قد أنه كرّس حياته، لدراسة اللغات الشرقية، والثقافات الآسيوية. فإنّ ما عالجه في أعماله وقد تخطّى حدود الاستشراق.

بادئ الأمر قبض أنكاتل على مسألة العلاقة بين النظرية السياسية وأدب الرحلات، واضعاً في منظوره، أهمية هذه الروايات في فكر مونتسكيو التي لها دور غير ثانوي، في تاريخ الفلسفة السياسية[4] وهذه، إذ استخدمت أدواتها المعرفية ابتدعت مفاهيم، في جهدها لتصالح ما بين مشاهدات الرحالة، ومتطلباتها النظرية، وأبقت على ثغرات، تشهد على تعقيد تلك العلاقات[5] وفي الدرجة الثانية، سنحاول أن نبرهن أن نقد مقولة الاستبداد، لم تكن سوى الجزء الأول من برنامج كتابه «التشريع الشرقي» (Législation orientale)، لأن هذا المؤلف لا ينحصر في إقامة الدليل على أن الفيلسوف صوّر وحشاً لا وجود له[6]، وذلك ببصيرة تدفع نقده ليشجب استخدامه السياسي. سنكرس عملنا هذا، لا لنقد مونتسكيو من خلال أنكاتل[7] ولكن لاستخدام الاستعمار بشكل مباشر، وغير مباشر لهذه النظرية، على مستوى العالم المرتبط بها، ولمقتضياتها في علاقة أوروبا مع سائر مناطق العالم، وفي ذلك موضوعات لم يكفّ المستشرق، خلال فترة عزلته وابتعاده عن المنتديات الفكرية عن التفكير بها.

الفكر المعادي للاستعمار

تجد أممية القرن الثامن عشر رفضاً غريباً لدى أنكاتل، الذي يصوغ نقداً قاسياً للطريقة التي أدار فيها الغرب، مختلف مناطق الكرة الأرضية. وهو كمستشرق، اهتمّ بشكل خاص بالهند، ولكنه كرّس نفسه أيضاً لدراسة الشعوب الأميركية[8] وكأوروبي، طالب بحقوق الهنود، بعدما عاش معهم: «على الأقل، أيها الهنود البائسون، ربما علمتم أن أوروبيّاً رآكم خلال مائتي عام، وعاش معكم، تجرأ على المطالبة بحقوقكم وعرض أمام محكمة الكون (Tribunal de l’univers) حقوقكم المجروحة، حقوق الإنسانية المستباحة بمصالح خسيسة[9].

أنكاتل لم يتردّد في اعتبار التأثيرات الغربية في آسيا «كعلامات اجتياح طبعتها شراهة المحتل»[10]. وهذا يتوافق مع رأي الكثيرين من معاصريه، مثل ديدارو وراينال (Raynal) اللذين انتقدا أيضاً تجاوزات الاستعمار وبلهجة مشابهة. ولكن، في ما يتعدّى هذا الجانب، فإن نوعية حججه تتمثّل في حقيقة كونها تعتمد على شرعية حقوقية، كما يشير العنوان الشامل لكتابه[11].

السمة المميّزة للعلاقات الاستعمارية برأيه، هي في الحقيقة انتهاك المستعمرين للحق الأساسي للملكية، إذ نفى حقهم في «الاستيلاء على [أرض الملّاك الطبيعيين]»[12]. وبتعبير آخر، فإن شجب الاستعمار من ناحية، والمطالبة بحقوق الهنود من ناحية أخرى يفترضان المبدأ الأساسي للملكية كحق طبيعي يرتكز على عدم وجود نظرية الاستبداد الشرقي.

وعلى الرغم من أن اعتبارات مونتسكيو، «ركّزت على الأفكار حول طبيعة الاستبداد»[13]، فإن أنكاتل تحقّق أن هذا الشكل من الحكم، لا وجود له في الواقع. ولكنه كمستشرق علاّمة، فإن كفاءته في هذا المجال، وشروحاته لهذه الإشكاليات، تتميّز عن سائر التصديات لمفهوم الاستبداد، التي عرض لها دوبان (Dupin) وفولتير ولانغيت (Linguet). وهو بطريقة معينة تخطَّاهم من خلال إجرائه نقداً مزدوجاً، لأن التشريع الشرقي لا ينحصر باتخاذ موقف يتناول عدم ملاءمة هذه النظرية. فوراء التحقق من الاستبداد كتزوير لآسيا، ثمة جانب آخر بالنسبة لنا أكثر أهمية، لا يتعلّق بملاءمة النظرية لموضوعها وإنما لتطبيقها. فمن خلال هذا الرهان، يمكن أن نفهم، كيف أنّ نقد الاستبداد الشرقي، لدى أنكاتل، مرتبط بعمق بإشكالية الاستعمار.

إذا كان وجود الملكية الخاصة «يؤكد الحقوق البشرية غير القابلة للتقادم»[14] فإن انتهاكها يفترض نفي الدول المستعمرة لهذا المبدأ. وحيازة الملكية التي تشكل ميزة شرعيّة للآسيويين، ترتكز على «الافتراض الخاطئ، أنّ في البلد الذي يلغي فيه الاستبداد حقوق الملكية، يصير كل شيء مسموحاً للأقوى»[15]. ولهذا فإن أنكاتل هدف إلى «تحطيم شبح الاستبداد الذي كان يُظن أنه شبح الشرق»[16].

العلاقة بين الفكر السياسي والاستعمار وجدت مظهراً جديداً يتّضح ما بعد الحجج المضادّة لنظرية الاستبداد، التي يمثّلها مجتمع الشرق وسياسته بشكل «انمساخ» مفهومي صوّرته كأطروحة مضادة تماماً للمجتمعات الحرة وحكوماتها المعتدلة[17] التي تتميّز بالقوانين وبمؤسسة الملكية الخاصة المنفيتين في البلدان الآسيوية، حيث «شخص واحد، ودونما قانون أو قواعد يحدّد الأمور، من خلال إرادته ونزواته»[18]، تلك هي المشكلة التي لا تعني إدانة «شبح» وإنّما وظيفته في حيّز استعماري.

 أنكاتل كرّس التشريع الشرقي لنقد تنظير، وليس لدحضه بما هو عليه فحسب، وإنما بشكل خاص ليثبت أن النظرية يمكن أن تؤثر بمجرى تاريخ الشعوب المستعمرة. وهو يؤكد في مقطع يتناول الاستبداد في الامبراطورية المنغولية: «اعتقدت بواجب تبيان مبادئ تخص تكوين الإمبراطورية المنغولية حبّاً بالحقيقة، وبسبب المآلات المشؤومة التي يصير إليها تطبيق تلك المبادئ[19]. وبطريقة أكثر وضوحاً أيضاً، كتب: «إنّ الاستبداد هو حكومة هذه الأصقاع: السيد يدّعي ملكية كل ما ملكت أيدي رعاياه. إذا كنا هذا السيد نصير هذا الحاكم وبالتالي أسياد أراضي الهند[20]. إن مقتضيات الاستبداد ترتكز في معناها الدقيق (Stricto sensu) على عدم احترام حق ملكية الآسيويين – وهو حق طبيعي- وانطلاقاً من ذلك وبمعنى أوسع، هذه التناقضات تعني أيضاً، التصوّر العام للشرق: «عنف اللحظة لا يلغي الحق. والاغتصاب المحمي، لا يشكّل عرفاً، ودون ذلك أيضاً، قانون بلد. وهذه الطريقة بمعاملة شعب، بما صار إليه، في زمان معيّن، يمكن أن يقود إلى عواقب فظيعة»[21].

إن نقد الاستبداد يكتمل إذاً، بشجب توازن القوى بين الغرب والشرق، في إطار تنظير وإن كان يفتقد لشرعية حقيقية، فإن له تأثيرات صلبة. وبهذا المعنى فإن أنكاتل، لا يتّخذ المفهوم بمعزل عن مقتضياته، والمقصود بذلك إظهار اهتمام مقنّع بذهابنا إلى ما يتعدّى المظاهر: هكذا يحاجج الشغف الطموح، لكنه يختبئ خلف حجب ينبغي كشفها»[22]. ومهمة أنكاتل التي يدّعيها[23] تقوم على إدانة أداة البحث التي تستخدمها النظرية، بغية تجنّب أن ينفي الاستبداد حق الملكية، ويسوّغ العنف.

إن تصوّر المستبدين الآسيويين في المخيال الغربي ينبثق من أدوات نظرية غير ملائمة، ولكن مثل هذا التصور يقيم علاقة مع إرادة الغزو. ولذلك، أضاف أنكاتل أيضاً أنّ هذه الرغبة، تخلق مستبدين، في حين لم يكونوا موجودين: «إن الإنكليز في البنغال يدّعون أنهم يحظون بحقوق الأمراء، التي نُزعت منهم. وينبغي إذاً تقديم هؤلاء الأمراء كأسياد مطلقين. فالعدالة التوزيعية قد تجعلهم يحظون سلميّاً بثمرات غزوهم، وهذا ما يحتاجون إليه»[24].

إن السبب الحقيقي، الذي صُوّر بموجبه الشرق، كمكان طبيعي للعبودية وككتلة من الأفراد المعزولين، الخاضعين والمضطهدين بفعل «ذهنية عبودية»[25] لا وجود لها في شيم شعوبه ولا في نسقه السياسي. وبتركيزه على تعقيد البنى السياسية للهند وبلاد فارس وتركيا، قصد أنكاتل أن آسيا لا يمكن أن تُختصر بمفهوم مجرّد ومتحيّز. لقد خشي المستشرق، أن يستخدم الاستبداد، لتسويغ النهب[26]، الذي يمكن أن يصير ممارسة شائعة، لا تستند إلى شرعية، كما برهنت على ذلك وبفعالية الترجمة الفرنسية لعقد بيع لبناء أُبرم خلال إقامته في سورات (Surate)، وقد تمّ ذكره في التشريع الشرقي «لقد أُعطيت نسخة عقد بيع لبيت، نُظر إليه بلا مبالاة من بين كثير من العقود. هذه النسخة، تستحق كامل العناية، أولئك الذين يدرسون الإنسان، من خلال سلوكه وممارساته وقوانينه»[27].

وهو بسبب ذلك، شجب النظرية، بمقدار ما شجب ممارساتها، وبالدرجة الأولى، من خلال، السياسة الاستعمارية الإنكليزية التي تُفرض على الدول الاستعمارية الأخرى التي تهتم بالجغرافيا السياسية لآسيا. وقد اتضحت سياسة الإمبراطورية البريطانية اتضحت سياستها بشكل حاسم، خلال حرب السنوات السبع، في الفترة نفسها، التي كان يقوم بها المستشرق، برحلته الطويلة في الهند، بحثاً عن مخطوطات زرادشت[28]، اذ كشفت المعارك، تلك السياسة.

أنكاتل دحض العلاقة، بين النظرية والممارسة من خلال استعادة الكسندر دوف Alexandre) Dow) لفكر مونتسكيو السياسي[29]. «هذا الكاتب [دوف] الضليع في اللغة الفرنسية الحديثة، والذي يبدو على دراية جيدة جدّاً بالشرق، ينصف الهنود في أغلب الأحيان. أمّا في ما يتعلّق بحكومتهم، فهو يشبه كل أولئك، الذين كتبوا في هذا المجال. وهو [دوف] يفترض، دونما بيّنة، ودونما تفحّص، أن الاستبداد يشكل جوهرها»[30]. وبالفعل فإن الشرق بحسب دوف، على الرغم من تجربته ومعارفه التاريخية يُحال إلى تلك المقولة السياسية. وإذ نتابع عن كثب، فكر الفيلسوف نجده يذكّر «أن الاستبداد الذي تأسّس على مفاهيم الخوف والخنوع، يستمد استقراره وديمومته من عيوب عبيده»[31]. والإطار العام في بحثه، يُحدّد بمعارضته الحرية، التي لا تجد على الدوام، عمليّاً، تعبيراً لها، بحيث إن شرط العبودية، يظهر، كما لو أن لا فكاك منه، عن الرجل الآسيوي «عندما يتعرّض أحد الشعوب، لفترة طويلة لاستبداد قوى غاشمة، تصير عودته للحرية، شبه مستحيلة. فالعبودية التي تعتمد على التقاليد تكون ممزوجة بطبائع البشر»[32].

وعليه، للعودة إلى مسألة علاقة هذه النظرية السياسية مع مسألة الاستعمار، في ما يتعدّى الجوانب العامة، ينبغي بادئ الأمر، أخذ القانون بالاعتبار. ففي آسيا، لا وجود لقاعدة قوانين ثابتة، لأن القانون هو الإرادة المتغيّرة، لمن يمسك زمام السلطة: «إن صوت الحاكم هو القانون الحي الذي يحرّك أوالية الدولة بكاملها»[33]. ومن جهة أخرى، في ما يتعلّق بالمسألة، المتنازع فيها، حول الملكية، فإن الضابط المسؤول (المقدّم) عن شركة الهند الشرقية ينفي انتقال الإرث من السلف إلى الخلف: «إن المقدرة على التصرّف بانتقال الإرث تعود بشكل طبيعي للمستبد»[34]. وإذ يعتمد على معرفته المباشرة بآسيا، يؤكد دوف بغموض، الجوانب الأساسية لنظرية الاستبداد الشرقي، من خلال خضوع الرعايا للمستبد ومن مبدأ الخوف، ليصل إلى غياب الملكية والقانون. وما تفتقده الهند المستبدة هو بالتحديد أسس الحرية، بالمعنى الذي ذهب إليه مونتسكيو. وبهذا الصدد، كتب أنكاتل، أن «دوف عرض على إنكلترا أن تحتل الهند»[35] وتساءل: «أين هي الرسالة، التي يتكفّلون بها، بجعل أولئك الرجال، الذين لا يتوجّهون إليهم، رجالاً أحراراً وسعداء على طريقتهم»[36].

في السنوات، التي أعقبت نشر التشريع الشرقي، تعمّق عمل المستشرق واتسع التزامه، في نقد الاستعمار. وهو إذ يحافظ، دائماً،على اهتمامه بآسيا، وخصوصاً الهند، فقد اهتم بأميركا، واتخذ موقفاً، حيال الجدال، حول طبيعة الرجل الأميركي، في مؤلفه «الاعتبارات الفلسفية والتاريخية والجغرافية حول العالمين» وهو مؤلف عرض فيه الدفاع عن أمريكا، وتكذيب نظرية فساد النوع البشري الذي صاغه كورناي دوبو (Corneille De Pauw). وفي هذا الجدال، كانت الطريقة العامة، في التصدّي للمسألة، لا تختلف عن الطريقة التي اُعتمدت في نقد الاستعمار في آسيا. وفي الحقيقة، إن نقد، أحد التصورات الأوروبية لأميركا، يعتمد أيضاً، مرةً أخرى، على قراءة سياسية، أي أن أنكاتل كشف علاقة بين استعمار قارة وصورته الفلسفية، كما حصل، من قبل، مع نظرية الاستبداد. لقد أظهر علاقة بين انتهاك حقوق الأمريكيين، وبين تنظير مجرّد، ينعتهم بتعابير دونية. وبرأيه، ليس من المدهش، أن يصف، المكتشفون الأوائل لأمريكا، سكانها كنوع وضيع: «إذا كانوا صادقين، علينا ألا نندهش. إننا نعلم الحالة التي كانت عليها المعارف البشرية في نهاية القرن الخامس عشر: وفضلاً عن ذلك، إننا لا نجهل الحجج السياسية والدينية التي صاغت وأملت هذا الحكم»[37].

وفي السنوات نفسها، التي عكف فيها أنكاتل على الدفاع عن العالم الجديد، في مؤلفه «الهند في علاقتها مع أوروبا» (L’Inde en rapport avec l’Europe)، اكد على ضرورة إزالة المستعمرات لإرساء علاقة تجارية جديدة وسلمية، وأصّل في الوقت نفسه، حججه المناهضة للاستعمار حين عززت أنكلترا دون منافسيها، مركزها المسيطر، الذي تحدّد كمركز «المستبد المطلق[38]. ولهذا فإن مجادلة هذا المؤلف، تركز بشكل خاص، -وليس وحيداً- ضد هذه الدولة، التي كانت بحسب رأيه، تطوّر اقتصاداً استعماريّاً جديداً في بلد متسع جدّاً. ولفهم فكر أنكاتل المناهض للاستعمار، لا بدّ من تفحّص مشاهداته حول إمكانية تمرّد هندي شبيه «بهدوء ما قبل العاصفة».

إن خطر قيام عصيان، هو خطر حقيقي، ولذلك فإذا استمر الإنكليز، في سياستهم، فإنهم سيواجهون وضعاً شديد الخطورة. وقد توقّع أنكاتل، من جانب الهنود، على سبيل المثال – ويبدو أنه محق- احتمال أن توجد ثغرة ما يفتح من خلالها مائتا ألف مارات Marates، يقودهم زعيم حاذق وجريء ممرّاً[39]». فالهند التي تحتلها إنكلترا على هذا النحو، يبدو أنه مقدر لها أن تشهد تغيّراً: «الهند المنهوبة بشكل فظيع ستحاسبهم على كنوزها، المبذولة في أسواق نيو ماركت New Markets»[40]. العصيان المسلح هو شرعي تماماً إذاً، ولا يمكن تجنّبه، إذا لم تعد أوروبا، صياغة علاقاتها مع الهنود، الذين على الرغم من نظرية الاستبداد، لهم الحق بالتمرد للدفاع عن حريتهم.

العبور الأساسي هو العلاقة بين الاستعمار والملكية، الذي يستخدمها أنكاتل ليشجب المصالح الغربية وينزع شرعيتها. إن وجود الملكية، التي نفاها مونتسكيو ودوف، هي أساس ظلم المستعمر: «هؤلاء إذاً- رجال أحرار مطعون في ملكيتهم، رجال إذا دعت الحاجة، وإن كان يقيِّدهم نير من حديد، لكن ما أن تظهر ملامح نجاحهم في التصدي للمرة الأولى، حتى ينقضوا كالآساد على طغاتهم المحتلين، الأجلاف، المنتهكين لكل القوانين الطبيعية، السماوية والإنسانية»[41].

إن العقل المجادل بحدّة، والمقاتل، الذي أظهره أنكاتل، في نقده لإنكلترا، أثار لدى بعض المعلقين، الفكرة التي بموجبها، يصوّب احتجاجه على الاستعمار بذاته، ولكن المقصود في العمق هو العداوة لهذه الدولة.

وبحسب هذا الموقف، فإن آراءه، إزاء المستعمرات في الهند، تُحال إلى شعور معادٍ للسلطة المتنامية لشركة الهند الشرقية، بحيث يصير من غير المناسب، الكلام عن العداء للاستعمار فقط، هذا هو رأي جون – بو روبيس (Jean – Pau Rubies) الذي كتب أن «أنكاتل – دوبرون، كان على أكثر من نحو، معادٍ لبريطانيا، أكثر من عدائه للاستعمار[42] وهو بذلك على وفاق مع جان-ليك كيافير (Jean-Luc Kieffer) الذي يعتبر «أن عمله ينتظم حول قطبين: هجوم ضد إنكلترا، ودفاع عن الحضارة الهندية وإبرازها»[43]. وتحليل أنكاتل لموضوعة التمرّد الهندي كان قد «ولِد دون شك من يأسه ومرارته إزاء الغلبة الإنكليزية»[44]. ويشير جيرولامو إمبروقليا، من جهته، إلى أن المؤلف الذين نحن بصدده يتجه “Sia contro il comportamento colonial in glese, sia contro l’esprit des lois”»[45]. إلى أن يكون، في آن معاً ضد الاستعمار الإنكليزي وضد مؤلف مونتسكيو (لا جدال في أن شجب السياسة الاستعمارية البريطانية هي اللازمة لأعمال المستشرق. إلاّ أنّ نقده للاستعمار، هو أكبر بكثير من ذلك. وإنه لأمر مجحف، وخاطئ، التفكير أن عداوة أنكاتل لبريطانيا، تفسر بمجرد روحية مضادة لبريطانيا. وإذا لم يكن هذا الموقف الأخير ملتبساً، فإنه لما شجب معها وبالقوة نفسها البلدان الغربية الأخرى، ولما كان لديه النظرة النقدية تجاه أوروبا بمجملها.

أنكاتل كتب: «إن الإنكليز والفرنسيين، الذين يملكون أراضيَ، في تلك الأصقاع [الهند]، يعلمون جيداً، أنها كانت تتبع لمالكيها الأوائل. ولا ينتج عن تغيّر السيد (المالك)، سوى أن التابعين، هم أقل غنىً، ذلك لأن الأوروبيين، يحبون التمتع، ونقل ثرواتهم سريعاً إلى أوروبا»[46]. والاتهام بعدم احترام شرعية الملكية في الهند توجّه أيضاً للفرنسيين. وأخيراً فإن أوروبا هي موضوع نقده. ودفاعاً عن هذا الحق، فإنه يصوّب على الفرنسيين والإنكليز، من خلال الحجج، التي لا تعني أي جنسية، بشكل خاص[47]. إن الاتهام يوجّه ضد الغزو بذاته، في محاولته «حماية حق الناس، حق الإنسانية، بردّ مواطنيَّ والدول الأوروبية الأخرى المقيمة في الهند، إلى مبادئ يريد الذهب تدميرها[48]». وبتعبير آخر، «أوروبا التي أدركت بحدّة الروح التجارية الشجعة لإنكلترا، فإن لها في تكوين وجمع مداخيلها، ما يجعلها تستحق اللوم نفسه، إننا نرى هناك (في الهند) أن كثيراً من الحكومات، تتصرف كما لو أنها، تملك كل شيء، وكما لو أنها مالك شريك على الأقل، لكل ممتلكات للرعايا[49].

المستشرق حوّل نقد الاستبداد الشرقي ضد أوروبا، وطوّر فكرة معادية للاستعمار تعتمد على حق الملكية، وقد ظلّ عنيداً في الدفاع عنها في السنوات الأخيرة من حياته، إذ عاد إلى مسألة الملكية كحق طبيعي، واعتبرها على الدوام، حجة قوية ضد الاستعمار. فهو ليس ضد التجارة، مع آسيا، ولكنه يعترض على الإدارة الاستعمارية للنشاطات الاقتصادية، وفي رأيه أنّ النسق الذي أرسته الدول الأوروبية لا يرتكز بادئ الأمر، على ظلم شامل ومجرّد، وإنما على العكس تماماً، يرتكز على ظلم مخصوص، بعدم احترام حق الملكية، والقوانين المحلية. وعلى هذه القاعدة. ينظر أنكاتل، إلى مسألة إصلاح عميق لتوازن القوى السياسي والاقتصادي مع الهند، وبهذه الروحية يصوغ المبادئ، التي على أساسها ينبغي أن تتأسس التجارة.

«المبدأ الأول يؤكد أن الأوروبيين لا يملكون حق الإقامة في الهند، دون امتياز رسمي، أو عقد بيع يبرمه المالكون، السكان الأصليون»[50]. وفي الدرجة الثانية، يعتبر مشروع الغزو بذاته، غير معقول، لأن «أوروبا لن تحتفظ أبداً في الهند، بممتلكات كبيرة جدّاً، وذلك ببساطة بقوة السلاح»[51]. وللمؤسسات الأوروبية، في مشروع أنكاتل وظيفة تجارية حصراً، وليس لها حق السيطرة، على البلاد: «لن ينظر الهنود أبداً بطمأنينة، إلى الأوروبيين، وهم يستقرون بالقوة، في وسط مناطق نفوذهم»[52]. ومن الضروري، معرفة لغات الشعوب الهندية، واحترام دينهم، وممارساتهم، وسلطة الأمراء والقوانين: «تجري العمليات التجارية الكبيرة على امتداد مساحة البلد نفسه وحتى خارجها، مع المناطق التي يرتبط بها بعلاقات. هذه العمليات ترتكز على مبادئ صارمة من العدالة، تأخذ بالاعتبار في نقاشاتها قوانين البلد»[53].

إن أي تغيير، في العلاقات الاستعمارية والتجارية، يقتضي الاعتراف بالملكية، كما بالقوانين، أي أن مشروع الإصلاح، الذي يفكر فيه أنكاتل، يرتكز بدقة، على ما كانت نظرية الاستبداد في الشرق، ترفضه. أنكاتل يعود طيلة حياته، إلى حدود هذا المفهوم، وبشكل أكثر عمومية، إلى المعرفة الأوروبية للثقافات الأخرى، من خلال المستوى الأكثر أساسية، مستوى اللغة[54]. وفي الواقع، فهو يذكّر أن الأوروبيين الأوائل الذين أقاموا في الهند، البرتغاليين، لم يتعلموا اللغات المحلية. وكان التواصل، الذي يتم بين التجّار والهنود والعرب أو الفرس، أو بين أوروبيين من بلدان مختلفة، يمر من خلال، مائة وخمسين أو مائتي كلمة برتغالية، «تفتقد تقريباً الصياغة»[55]. وهذا ليس في العلاقات الاقتصادية وحدها، وإنما أيضاً في العلاقات الدبلوماسية والسياسية حيث توجد الصعوبة نفسها، مما يتسبّب بسلسلة من المشاكل. فالمترجمون، الذين كانوا يفتقدون إلى أفكار كافية، في التاريخ والجغرافيا والسياسة، هم الذين كانوا يتواصلون مع الأمراء الهنود، ويناقشونهم في مسائل حسّاسة. ومن هنا، يطرح السؤال: «هل في الأمرٍ غرابة، أن تكون المسائل، التي تتطلب، حيثما كانت، أفكاراً، تعالج بالمجازفة بكلمات، وبالتالي تنتهي إلى نتائج سيئة»[56].

نقد المركزية الأوروبية

أنكاتل يقيس العلاقة بين الغرب والقارات الأخرى قبل أي شيء بالنسبة إلى حقوق الإنسان، ودفاعه لا ينطوي على نقد للاستعمار، وإنما أيضاً على شجب تحديدات ومجازفات، لصورة كوّنت عن قارات أخرى. فهذه الصورة، التي كوّنها الاستعمار عن العالم – «الجغرافيا الأخلاقية»[57] تشكّل أيضاً، موضوعاً مركزيّاً، وهما ثابتاً في أعمال المستشرق.

ومن هذا المنظور، يلاحظ، أنه على الرغم من أن تقدماً كبيراً، في معرفة سطح الأرض، قد حققه الأوروبيون، إلاّ أنهم لم يحققوا التقدم نفسه[58] في معرفة الإنسان[59]، التي سجّل فيها أنكاتل «أعماله الأدبية» وذلك ليفهم أصل اهتماماته حول الإشكاليات الاستعمارية. وهو يرى، أن ثقافة الشعوب الآسيوية، الأفريقية والأميركية قد تمّ تبسيطها، من خلال مفاهيم معمَّمة، تؤول إلى تزوير الحقيقة، إذ تؤكد على أحكام مسبقة. وقد كان جدال التشريع الشرقي، في هذا المعنى، موجّهاً تماماً، ضد مثل تلك الأحكام المسبقة، التي كان يعالجها كادعاء معرفة خطير.

أنكاتل هاجم بعناد الموقف، الذي يقوم، بادئ الأمر على الحطّ من قيمة المجتمعات غير الأوروبية، كموضوع دراسة «شعوب بربرية، لا أعراف لديهم، ولا قوانين، ويمكن أن يمثلوا لنا، موضوعات ربح: ولكن العقل لديهم، لا يُستفاد منه بشيء»(63). هذه هي الفكرة التي ينتقدها بشكل أساسي في أدب رحلة المستشرق والمتأمرك أيضاً، الذي ينشر صورة مزيّفة، ويعطي أحكام قيمة سلبية «الرحالة ألف كتابه في باريس، ولندن وأمستردام، حيث يتاح قول أي شيء ضد الشرق[60]. وحتى وإن لم نجد في هذا الأدب آثاراً للاستبداد، بحسب نظرية مونتسكيو، فإن نصوص المهاجرين، كانت بدورها خادعة أيضاً. ففي ما يتعلق بالدين، لاحظ أنكاتل، مثلاً، أنه «بدلاً من الأفكار السامية، التي تشكل بتسلسلها، النسق الحقيقي للاهوت الهنود، فإن [الرحالة] لا يقدمون عن هذا الشعب، سوى الشرك المتمرد»[61]. وفي الهند، يتجلّى عدم تفهّم الأوروبيين في آرائهم المتناقضة، التي لها كقاسم مشترك، حقيقة بقائها منغلقة في المنظور نفسه. «أحدهم اتخذ كعُرفٍ ثابت وعام، والآخر كقانون، ما قد رأياه في تجربتهما المحدودة دون أن يذهبا أبعد من ذلك»[62].

ثمة مسألة دقيقة ومهمة، بالنسبة لأنكاتل، إذ أنه، على امتداد كتبه، يعتبر، مرات عديدة، أن مسألة فهم ثقافة أخرى، تتطلب مزايا نادراً ما نجدها، برأيه، لدى الرحَّالة. وهؤلاء، كما كان قد لاحظ روسو[63]، مرتبطون بقوة، بأعرافهم الخاصة، ما لا يجعلهم قادرين على إعطاء وصف موضوعي، لأعراف الآخرين: إن عيب أولئك، الذين قاموا بوصف البلدان الغريبة، هو أنهم إذ يكتبون، عن موقف يواجهونه، يمثُل أمامهم، على الدوام، وهم غافلون، ما تكون عليه الأعراف التي تعوّدوا عليها. نقاط المقارنة هذه، التي لا يعترفون بها، تملي عليهم عادةً أحكامهم»[64].

هذا ما دفع أنكاتل، أن يحكم بقسوة شديدة، على رجال الكنيسة: «مظاهر الفوضى في البلد هي بالنسبة لهم، أشياء مخيفة، والطقوس الغريبة إن هي إلا طقوس صنمية، وإذا صدّقناهم القول، يكون الشرقيون نوعاً من البشر، يختلف عن الأوروبيين»[65]. وكما مع رحّالة آخرين، فإن صعوبات الإرساليات في فهم الأديان الشرقية، تؤدي بهم قبل وصولهم إلى الشرق، إلى صياغة تعطي أحياناً، الحكم المسبق، الذي بموجبه تختزل الأديان الأخرى، بطقوس بدائية. إنه يلاحظ، بالفعل، أن الإرساليات، يفتقدون إلى زاد لغوي وثقافي، ضروري لدراسة، شعوب الهند، ولهذا، فإن دراستهم للموضوع، لا تشكّل معرفة موثوقة: «إنّ تحفّظهم شديد العمومية، حيال أخلاق الهنود، لا يدخل معظمه في العقائد الأساسية: ذلك هو السبب، الذي، حتى الآن، الذي جعل أعمالهم لا تعطينا، معرفة دقيقة عن الهند»[66]. وعلى الرغم من، أن أنكاتل يبدي هنا، موقفاً نقديّاً تجاه نشاط ومناهج الإرساليات، ينبغي الإشارة حقّاً، إلى أنه يبتعد عن المواقف المعادية، للأكليروس المعاصرين له، لأن نقده في جوهره، ليس موجّهاً ضد الدين، بذاته، ولا ضد رجال الكنيسة، وإنما ضد العلاقة بين الاستعمار والتبشير المسيحي:

«إذا كان هجران الغزوات الزمنية باسم العدالة والضرورة فمن الطبيعي التنازل كذلك عن الغزوات الروحية»[67]. وبهذا المعنى، يؤكد المستشرق أيضاً، على نحو أكثر وضوحاً أنّ المبادلات التجارية تُحجب أحياناً، بستار الدين: «الأوروبيون في تجارتهم، مع الهنود الشرقيين، ليس لهم أي هدف سوى إغناء وطنهم بكنوز هذه البلاد: المصلحة المتخفيّة أحياناً وراء قناع المجد والدين، هي دائماً محرّك لمشاريع من هذا النوع»[68].

إن فكرة الإخفاق التاريخي، للعلاقات بين أوروبا وآسيا، تتخلّل كتابات أنكاتل وتتجلّى في جداله، ضد الاستعمار، ولكن، ينبغي في هذا الصدد، ألاّ ننسى نشاطه كمترجم، إذ يكتسب بأهميته ونشاطه، مغزىً رمزيّاً، ولهذا استطاع أن يؤكد: «ليس من المفاجئ أنهم كوّنوا فكرة خاطئة عن هذه الشعوب، إذ يصعب غالباً التفاوض معهم»[69] وبأسلوب لا منهجي (asystématique)، تجد اهتماماته المختلفة، علاقة اغتناء متبادل، استطاع المستشرق بفضله، الدفاع بحدس، عن أن معرفة لغات، وتاريخ الشعوب، ليس غاية في ذاتها. وبهذا الصدد، فإن «التشريع الشرقي» يؤدي إلى احترام موحٍ، لعمل المؤلف: «دراسة لغات وتاريخ آسيا ليس دراسة كلمات، أو مجرد فضول، لأنها تساهم في تعريفنا بمناطق أكبر من أوروبا، وتقدّم لنا جدولاً خاصاً، بتحسين معرفة الإنسان، وخصوصاً في تأمين حقوق الإنسانية، غير القابلة للتقادم»[70].

كانت، معرفة جديدة عن الإنسان وعن الشعوب غير الأوروبية بالنسبة لأنكاتل، مسألة ضرورية، يمكن أن تذهب، إلى ما يتعدّى الأحكام المسبقة، التي تحطّ من شأنهم، والتي كانت لا تزال، تحدّد تصوراتهم. فمسألة فمشكلة صورة هذه الشعوب، تفضي خطأ في طبيعة المعرفة، والنتائج، التي يثبّتها هذا الخطأ. هذا النقد المزدوج يتوجّه إلى معرفة، ليست نزيهة على الدوام، وهي خاطئة وخطيرة في آنٍ معاً، وتكون «هذه الصورة، مرة ذات نزوة، ومرةً ذات مصلحة»[71]. وبطريقة معبّرة، تبدأ مقدمة «التشريع الشرقي»، بالعناصر، التي تحول، دون معرفة عن الإنسان: «ثلاثة أسباب تعطل تقدّم المعارف الإنسانية؛ الجهل الفظ وبعض المؤسسات الدينية، والمعرفة المزهوة». وأضيف «لا ألحّ على المبدأين الأولين، اللذين يعترضان، إن صح القول، على الاكتشافات، الأكثر فائدة: لقد تفحّصهما الفلاسفة وقاوموهما. ولكن حِذْقهم بالذات، منعهم من مهاجمة، العنصر الثالث[72]. لقد ركز اهتمامه على هذا السبب الثالث، الذي أهمله الفلاسفة، الذين لم يستطيعوا مواجهته، لأنهم هم أيضاً ضحاياه، وبهذا المعنى، تكلمنا عن عقله المضاد للفلسفة[73]، وعن انشقاقه عن عصر الأنوار.

ولكن في الحقيقة، فإن هذا الموقف الجدالي، الذي غالباً ما يعبّر عن نفسه، من خلال الاستخدام المستخف بصفة «فلسفية» يهدف بالحري، لكشف علاقة بين الاستعمار والفلسفة. فالخطاب «الفلسفي» عن القارات الأخرى، هو أحد الموضوعات الأساسية لنقد أنكاتل، انطلاقاً من حالات تستخدم الشعارات، في أدب الرحلات، لدى مونتسكيو ودي بوو (De Pauw)، على صورة مفاهيمهما. وبهذا المعنى، يمكن أن تكون الفلسفة، قد استخدمت هذه النصوص، لتبدع «حكومات مشوّهة» على المستوى السياسي ولتبدع أيضاً «شعوباً مشوَّهة» على المستوى الأنتروبولوجي.

«في المحصلة، يناضل أنكاتل ضد معرفة تبدع هذه «المخلوقات المشوّهة» في ممارسة، يكون فيها المستعمِر والفيلسوف أقرب إليها مما كنا نعتقد[74]. فكل منهما، مخرِّب على طريقته: «إننا نرتعد حيال الفظاعات التي يرويها الغزاة الأوائل؟ لقد كانوا يدمّرون النوع البشري، مدفوعين بالنزوات، التي تتحكم، غاية التحكم، بتعصبهم وجشعهم. حينذاك كان الفلاسفة أنفسهم وبدم بارد، ينزعون على هذا النحو مزية الرجال، عن الأمريكيين. هذا التدمير هو أكثر بشاعة من التدمير الأول».

(13) LO, p.9 A cet egard Anquetil fut “one of the few dissenters from this orthodoxy” F.G. Whelan Oriental Despotism Anquetil Duperron, response to Montesquieu, “History of Political Thought” vol XXII, 1994. P.619

(39) قال الإنكليز: «لندفع ديون إنكلترا من مداخيل هندوستان» IRE, t.I, p.82; «مساحة الهند البريطانية الشاسعة هي فضيحة، عار على أوروبا. إذ أن غناها الناتج من فقر جيرانها هو بمثابة إهانة لها ibid., p.15.

(40) IRE t.I p.23

(52) «الملكية الفردية هي حق طبيعي، مكرّس في دساتير كل الشعوب المتحضّرة وغير المتحضّرة: العنف وحده يمكن أن ينال منه» DDP, p.I

 (61) علينا في الرحلات الطويلة أن نكون على معرفة بالكرة الأرضية: 2

LO, p. III (76)

G.Imbruglia, cit. 142(79)

 وكما في الاستشهادات السابقة، أنكاتل هو الذي يلاحظ CPH, p.50 (80).

---------------------------------

[1]*- باحث وأكاديمي فرنسي.

ـ العنوان الأصلي: Philosophie et colonialism chez Anquetil-Duperron.

ـ المصدر: (CHSPM, Université Paris I Panthéon – Sorbonne).

ـ تعريب: صلاح العبد الله – مراجعة: كريم عبد الرحمن.

[2]- أنكاتل ديوبرن، «الهند في علاقتها مع أوروبا» Lesguilliez, 1798, 2 tomes (IRE), t.1, p. 82.

[3]- للاطلاع على سيرة انكاتل، أحيلكم إلى كتابه «رحلة إلى الهند» (1762 – 1754). الرحلة مع مقدمة في ترجمة «زند أفيستا» من منشورات ج. ديلوش، م. فيليوزات وب. إس فيليوزات، باريس المدرسة الفرنسية للشرق الأقصى، ميزون نيف ولاروس 1997 (7)؛ المختصر للرحلة التي قام بها أنكاتل دوبّرون في الهند ليبحث عن المؤلفات المنسوبة لزارادشت وترجمتها.

[4]- وبتعبير آخر المقصود «العلاقة في الجدال بين الكتّاب السياسيين والمصادر، النظرية والأمبريقية.

[5]- ليشرح أنكاتل علاقة مونتسكيو بمصادره في أدب الرحلات، كتب: «نسقه كان قد أُنجز»

Législation orientale, Amesterdam, Marc Michel Rey 1778 (LO) p, 92.

أي أن مفهوم الاستبداد، سابق على مصادره، ولكنه كتب أيضاً «أن الرحالة هم ضمانته» المصدر نفسه ص 12. وفي ما يتعلق بتوليد مفهوم الاستبداد، من الملاحظ، أن في منهج الفيلسوف يوجد ميل في النسق يبسّط بغية الإيضاح ما يؤدي إلى تزوير الواقع»

P. Verniére, Montesquieu et le monde musulman in Acts du congrés Montesquieu. Bordeaux, Delmas, 1956, p. 189.

وفضلاً عن ذلك، ففي هذا المنحى التوضيحي، يمكن أن نضيف أنّ اختيار المصادر لدى مونتسكيو ترتكز على «إستبعاد كل ما لا يمكن أن يُعاد توظيفه في مفهوم الاستبداد»

B. Binoche. Introduction a l’esprit des lois de Montesquieu, Paris, Puf, 1998, p. 219.

[6]- LO (التشريع الشرقي) p.17.

[7]- خصَّصنا لهذا الموضوع:

“Anquetil – Duperron Critico di Montesquieu” preprint no 29/2009 studi di storia della Filosofia éd. Par D. Felice, Bologna, clueb, 2009.

[8]- تندرج ال Cph في الجدل حول طبيعة الرجل الأمريكي لدحض نظرية فساد النوع لكورناي دي بو، وما أقترحه في هذا النقاش هو إزالة الإهانة التي وُجِهت لأمريكا، محو الوصمة التي طبعت النوع البشري والتي صورت، أغلب الأحيان، على نحو غير نزيه. Cph.65، وحول هذه المسألة أُحيل إلى مقدمة هذا المؤلف بقلم ج. أباتيستا وإلى:

S. Stuurman, cosmopolitan Egalitarianism Anquetil Duperron on India and America. “journol of the history of the ideas” Avril 2007, vol, 68, no 2.

[9]- LO, p II

[10]- LO. P1

[11]- «التشريع الشرقي» مؤلف، إذ يعرض المبادئ الأساسية للحكم، في تركيا وبلاد فارس وفي هندوستان، نتحقّق -1 أن الطريقة التي صوّر فيها الاستبداد على أنه مطلق في هذه الدول الثلاث لا يمكن أن يعطي إلا فكرة خاطئة على الإطلاق. -2 ففي تركيا وبلاد فارس وهندوستان ثمة كود (مفتاح) للقوانين المكتوبة، تلزم الأمير كما الرعايا. -3 وأن في هذه الدول الثلاث يستطيع الأفراد أن يكون لديهم أملاك منقولة وأبنية ويتصرفون بها بحرية.

[12]- LO, p. 171.

[13]- Il s’agit de “l’idea di un diritto natural allu proprieta, a most rare un significatiro debito di Anquetil verso John Loke” G.M. Zamagni, Oriente ideologico, Asia reale. Apologie e critiche del dispotismo nel secondo settecento francese, in Dispotismo. Genesi e sviluppi di un concerto filosofico – politico, ed. Par D. Felice, 2t., Napoli, Liguori, 2001 – 2001, t2, p. 386.

[14]- على هذه القاعدة يستطيع أنكاتل أن يؤكد «أن الحق الطبيعي يسمح لمواطني البنغال أن يتمتعوا بسلام بما يملكون LO, p.159.

[15]- LO. P.172.

[16]- LO. P.12.

[17]- لا يمكن الحديث دون أن نرتعد من هذه الحكومات المتوحشة» مونتسكيو

De l’esprit de lois (EL) III (Gallimard paris 1995)

[18]- EL II, 1.

[19]- أنكاتل يعود مرات عديدة إلى هذه المسألة الأساسية: «نرى التبعات المشؤومة للإنسانية إذ يمكن أن يكون لها مبادئ تُقدّم بخفّة مفرطة، وللأسف، هذه التبعات قد تحقّقت LO, p. 172.

[20]- LO, p178.

[21]- LO, p174.

[22]- LO, p178.

[23]- «»قلت ذلك وكررت دونما خوف من الصوت المهدّد لمصلحة جشعة، يُخشى أن تتقنّع، وإذا كنا قد عرفنا على نحو أفضل قوانين الشعوب الهندية وممارساتها، وإذا ما تنازلنا واخترنا من أجل التكلم إليهم، أداة غشٍ أخرى غير الشرائع لكنّا وفّرنا على انفسنا كثيراً من الأهوال»

Anquetil – Duperron, Recherches historiques et géographiques sur l’Inde (RH) in J. Bernoulli, J. Tieffenthaler, J. Rennel. Description historique et geographique de l’Inde, Berlin. 1786 – 88, 5 vol., t. I, p163.

[24]- LO, p310.

[25]- LO, p87.

[26]- Cio che Anquetil paventa é che oltre alla fame di ricehezza, la falsa rappresentazione che l’Occidente si e creato dell’ India e dell’ Asia in generale risulti funzionale, come alibi, per una politica di vero e proprio saccheggio e sterminio, GM. Zamagni, cit., p380.

[27]- من أجل الترجمة الفرنسية للعقد إلى الفارسية،

Cf. LO, p. 161 – 166

[28]- وجد أنكاتل في 1754 في مكتبة الملك نسخة لمخطوطة في اللغة الأفتيكية – وهي من عائلة اللغات الإيرانية – غير المعروفة في أوروبا، جعلته يتخذ قراراً، بالسفر ليكتشف الهند. عاد إلى باريس في 1762 حاملاً عدداً كبيراً من المخطوطات، عمل عليها طيلة حياته: نشر ترجمة زند أفيستا، كتاب زارادشت، في باريس Paris, Tillard, 1771, 3vol وجزءاً من الأوبينشاد بعنوان Oupkek’ that, idest, secretum tegendum, Argentorioti, 1801 – 1802, 2vol.

ومصادفة إقامته في الهند مع النزاع المسلح ليست ثانوية، لأن «بعد النهاية المفجعة لحرب السبع سنوات، وبعد خسارة كندا والهند، أخذت هذه المسألة [مشاكل الاستعمار] مكاناً لها في وسط نقاش واسع»

Yves Benot, Diderot, de l’atheisme a l’anticolonialisme [1970] Paris, Maspero, 1981, p. 156.

[29]- الكسندر دوف (1735/6  1779)، كاتب وضابط في شركة البنغال الشرقية ترجم من الفارسية History of Hindostan (تاريخ هندوستان) (1768) لمحمد فريشتا

[30]- LO, p II.

[31]- Alexander Dow. A dissertation concerning the origin and nature of despotism in Hindoston, dans History of Hindostan, T. Beket, London 1772 (DH) p.xx:

كما لا بد من الفضيلة في الجمهورية ومن الشهامة في النظام الملكي، لا بد من الخوف في الحكومة الاستبدادية EL, III, 9

[32]- DH, P. xi; il est affirmé aussi que “the people vould revolt, against the introduction of freedom, Ibid, p, xxi.

[33]- ينبغي أن يكون القانون في رأس واحد، وينبغي أن يتغيّر دونما انقطاع EL/VIII,196 DH, pxxxiv.

[34]- «حالما يصف الرحالة حيث يسود الاستبداد، فإنهم نادراً ما يتكلمون عن القوانين المدنية» EL, VI, 1 «لا يوجد تقريباً أبداً قوانين مدنية حول ملكيات الأراضي» EL, VI, 1؛ « لا يمكن أن نجد مكاناً للتخلي عن الملكيات EL, V, 15.

[35]- LO, p175.

[36]- LO, p176.

[37]- cph, p.16 الفكرة عن الشعب الأمريكي أنه شعب منحط «رُفعت إلى المحكمة الفلسفية»، ibid 40؛ وعن تقديم الشعوب غير الأوروبية لاحظ أنكاتل أن دوف: «أعطاهم بأسلوبه الفلسفي، اسم وحوش الطبيعة» cph, p. 59.

[38]- IRE, I t, p. III.

[39]- IRE t.I p.83.

[40]- IRE t.I p.83.

[41]- IRE, t.I, p.84.

[42]- J – p. Rubiés, cit., p.127n.

[43]- J – L. Kieffer, Anquetil Duperon. L’Inde en France au XVIIIe siècle, Paris les belles Lettres, 1983, p.80.

[44]- J – L. Kieffer cit., p.84.

[45]- Imbruglia, “Tra Anquetil Duperron e “L’Histoire de deux Indes”. Liberta, dispotismo e feudalesimo” Rivista storica italiana, vol. CVI, 1994, p. 166.

[46]- LO, p.29.

[47]- هكذا، فان الحقوق الأكثر قدسية تختفي أمام مصلحة خسيسة، علينا كإنكليز وفرنسيين ألّا يتملكنا الوهم، فليس من قضية أكثر أهمية قد رُفعت أمام محكمة الكون. إننا لا زلنا نرتعد، إذ نقرأ الأهوال، التي اُرتكبت بحق الأمريكيين، حين اكتشف هذا الجزء الجديد من العالم. لا شك أننا نعتقد أننا عادلون، وأن حقوقنا تجاه الهنود قد تحققت على أفضل وجه. إن المصلحة والطموح هما محرك كل الفتوحات: بعد ذلك تأتي البيانات العامة. ونرمي بالإثم من يريد أن ينتزع منا أي شيء: وبأي حق؟» LO, p.178

[48]- RH, t.I, p.142.

[49]- أنكاتل دوبرون، «بحث حول الملكية الفردية والعقارية في الهند ومصر»

(DP), in Paulin de S. Barthélemr, Voyage aux Indes orientales, Paris, Tourneisen 1808, t, III, p.xxiv; il s’agit de l’édition francaise du viaggio alle Indie orientali, Roma, Fugoni, 1796.

وقد قرأ انكاتل هذا المبحث في 26 آب 1803 في صف التاريخ والأدب القديم في المعهد الوطني.

[50]- IRE, t, I, p.27.

[51]- IRE, t, I, p.27.

[52]- IRE, t,I, p.28.

[53]- IRE, t.I, p.28.

[54]- «إن أسهل ما يمكن قوله: أن ليس ثمة تاريخ، ولا جغرافيا ولا علوم في هذه البلدان البربرية» LO, p193.

[55]- RH, t, I, p.XII.

[56]- RH, t, I, p. XIV.

[57]- إننا مدفوعون بشكل عام، للاعتقاد أن الحس السليم موجود بين جنوب إسبانيا وشمال الدانمارك من جهة، ومن جهة أخرى بين إنكلترا والحدود الغربية لتركيا، تلك هي جغرافيتنا الأخلاقية» IRE, t, I, p.57.

[58]- بمعزل عن الغاية الأساسية لهذه الرحلة كتب زرادشت وفضلاً عن بودوتشيري كان علي الذهاب إلى سورات، وقد شحذ همتي سببان إذ كنت أستطيع هناك أخذ فكرة صحيحة عن عبقرية وأعراف الهنود، وكان لتلك الفكرة أن تسعفني كثيراً في ترجمة الفيدا، وفيه عمل أدبي كان قد قادني إلى الهند. V I, P.114.

[59]- LO, P.I V.

[60]- من الصعوبة بمكان ألا نفكر بقرابة معينة بين أفكار أنكاتل وأطروحات المستشرق في كتاب الاستشراق 1978 لإدوارد سعيد، الكتاب الذي ذكر فيه بشكل سريع جداً مؤلف التشريع الشرقي. وبهذا الصدد نشارك إس ستيورمان S. STUURMAN رأيه:

«ما ينفيه سعيد بجرأة هو المساواة غريبة الأطوار. وهو في الواقع ظلّ يدافع مدى الحياة، عن المساواة وكرامة الشعوب غير الأوروبية، من الهند إلى القارّات الأميركية ومنطقة القطب الشمالي. ورواية أنكاتل تفضح فكر الأنوار، الذي ينظر إلى العالم خارج أوروبا، ككتلة متجانسة، وباستعلاء من خلال المركزية الأوروبية» cit, p.256.

[61]- LO, P. V.

[62]- السّيِّئ في آسيا هو دائما حاشية الحكومة LO, P.155;ibid, p.32

[63]- إذ نفتح كتاب رحلات لا نجد توصيفاً للطباع والأعراف، نندهش تماماً، حالما، هؤلاء الذين وصفوا أشياء كثيرة، لم يقل أيّ منهم، سوى ما كان يعرفه من قبل Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes, note 10, Paris, Gallimard, 1985, P.172

[64]- CPH, p.103

[65]- LO, p.87

[66]- IRE, t.I, p262.

[67]- IRE, t.I, p263.

[68]- بتعبير آخر «الدين يستخدم فقط لتزيين مشاريع وإجراءات، يصعب كثيراً على الرؤية الإنسانية البسيطة IRE t,II, p.4 تكشف جورها وأحياناً فظاعتها.

[69]- LO, p.88.

[70]- LO, p.181.

[71]- LO, p. V.

[72]- LO, p. IV.

[73]- G.Abbatista, CPH, p. 234n.

[74]- CPH, p.50.