البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

أطروحة العلم الديني ، مسعًى تأصيليٌّ على ضوء معادلات العلم والدين

الباحث :  علي عابدي شاهرودي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  13
السنة :  السنة الرابعةــ 1440هـ خريف 2018م
تاريخ إضافة البحث :  October / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  737
تحميل  ( 431.199 KB )
يسعى المفكر الإسلامي  علي عابدي شاهرودي إلى تأصيل أطروحة العلم الديني انطلاقاً من الهندسة المعرفيّة للمعادلات التي تنظّم العلاقة بين العلم والدين.

تهدف هذه المقالة ـ كما يبيّن الكاتب ـ إلى شرح مفهوم العلم الديني على ضوء موازنة المعادلات القائمة بين العلم والدين. وتقوم هذه المعادلات المدعاة على ركيزة قانون «الملازمة بين العقل والشرع»، وهو القانون المطروح في علم الكلام قديمِه وجديدِه، كما في الأبحاث والدراسات التي تنظر للاجتهاد الفقهي في علم الأصول وغيره.

المحرر

كانت لي محاولاتٌ بحثيَّةٌ متواضعةٌ حول قانون الملازمة بين العقل والشرع الحيوي في ميدان استنباط الأحكام الشرعيَّة نشرتها تباعاً في مجلّة «كيهان أنديشه».[1] ويمكن تبويب المحاولات المشار إليها ضمن مراحلَ ثلاثٍ. فقد حاولت في المرحلة الأولى تحليل قانون الملازمة وإرجاعه إلى مكوِّناته الأساسيَّة. وفي المرحلة الثانية عمدت إلى حاصل هذا التحليل لتنسيق أحكام الأجزاء الناتجة وتنظيم خواصّها ونتائجها المترتّبة عليها. وفي المرحلة الثالثة والأخيرة حاولت التدقيق في التركيب المحتمل بين أجزاء هذا القانون لفحص إمكانيَّات التعميم والاستخدام للتراكيب المنتجة. وسوف أستفيد من نتائج ذلك البحث بوصفها أساساً، أُقيم على ضوئها مباحث هذه المقالة.

ومن هنا، سوف تعالج هذه المقالة مجموعةً من الأسئلة المركزيَّة هي:

ما هو المراد من الدين عند البحث حول «العلاقة بين العلم والدين؟ أو ماذا يمكن أن يكون، أو ماذا يجب أن يكون مراداً؟

ما هو العلم؟ أو ماذا يمكن، أو ماذا يجب أن يكون؟

لمّا كان الاجتهاد وسيلةً من وسائل اكتشاف الأحكام الشرعيَّة والمواقف الدينيَّة من المصادر المعتمدة شرعاً، كان من الطبيعي البحث حول كيفيَّة نفوذ الدين إلى المعرفة البشريّة واستخراجه بعض المواقف الدينيّة من خلالها؟

ما هي الصلة بين الاجتهاد الذي هو معرفةٌ غير ضروريَّة (مكتسبة وغير بديهيَّة) وهو نشاطٌ عقليٌّ خاصٌّ وتدريجيٌّ، أو فلنقل أنّه زمنيّ، ما هي الصلة بين هذا الاجتهاد وبين سائر وجوه المعرفة البشريَّة؟

إذا كان الاجتهاد نشاطاً ذا طبيعةٍ استنباطيَّةٍ واكتشافيَّة، فما هي الصّلة بينه، وبين أشكال الاكتشاف الأخرى التي تقع خارج منطقة الاجتهاد؟

ما هي العلاقة أو النسبة القائمة بين فرضيَّات العلوم البشريَّة وبين الطبيعة، وما بعدها، وبين الإنسان والمجتمع. وبعبارةٍ أخرى: ما وجه الصّلة بين هذه الفرضيَّات، وبين القوانين في الواقع أو في نفس الأمر على حدِّ تعبير الفلاسفة؟

وهذه المسألة الأخيرة هي من المسائل الحيويَّة للعلم في العالم المعاصر، حيث تسعى كلّ نظريَّةٍ إلى تقييم موقعها، وفق الموازين والمعايير المتوفَّرة لديها. وكلُّ سؤالٍ يُطرَحُ يُعدُّ مرحلةً ومحطَّةً على طريق استكمال العلم والمعرفة السابقة عليه، على الرغم من أنَّ كلّ سؤالٍ يولِّد أسئلةً وإشكاليَّات، ويبدو أنَّ هذا الأمر لا مفرّ منه، لأنَّ أبرز صفةٍ في المعرفة البشريَّة هي كونها تدريجيَّةً ومحتملةً للخطأ، وبالتالي تحتاج إلى مراحلَ أكثر تقدُّماً ودقَّة، دون أن يعني ذلك بالضرورة سقوط المرحلة السابقة عن وصف العلميَّة، وإن أدَّى ذلك إلى إبطال بعض أجزاء النظريَّات المنبنية في مراحلَ سابقةٍ، حيث إنَّ الإبطال نفسه محاولةٌ علميَّةٌ تؤدي إلى استكمال نقصٍ وتعميق فهمٍ.

المدخل

إنَّ البحث عن العلاقة بين العلم والدين يمكن أن يشمل مجموعةً من المسائل منها: صلة كلٍّ من العلم والدين «بالواقع العام». ونقصد بالواقع المعنى الذي يشمل الواقع التجريبي، والواقع ما بعد الطبيعي والواقع النفس أمري.

والمراد من العلم في هذه المقالة معنيان لا يخلو الواقع من أحدهما:

المعنى الأول: العلم بمعناه العام المشترك والملازم للطبيعة الإنسانيَّة، بل الملازم لكلِّ عاقلٍ سواءً أكان إنساناً أم غير إنسان، مثل: قانون عدم التناقض، قانون الهويَّة، بطلان الدور، واستحالة التسلسل في العلل، قانون حاجة الحادث إلى علَّة، وحاجة الممكن إلى علَّة، وغير ذلك من القوانين العقليَّة التي لا تحتاج إلى استدلالٍ وإثبات.

المعنى الثاني: العلم المكتسب الذي يمكن تحصيله من خلال التجربة أو دونها، وهو كلّ ما يتوقَّف على الاستدلال والإثبات. وهذا العلم هو محاصرٌ بما يهدِّده، فهو من جهةٍ في معرض الخطأ وعدم إصابة الواقع، ومن جهةٍ ثانيةٍ هو تدريجيٌّ ومحدودٌ ومفتوحٌ على احتمالات الإضافة إليه والزيادة عليه. ولأجل ذلك كلِّه نجده لا يستغني عن النقد والتكميل والإضافة. وعلى هذا الأساس نصل إلى القانون صفر في تقييمنا للعلم البشري وهذا القانون هو الذي يحكم مستقبل المعرفة البشريَّة في مستوياتها اللاحقة.

القانون صفر

يقتضي هذا القانون الأساس الحاكم على المعرفة البشريَّة المكتسبة، بأنَّ كلّ قضيَّةٍ علميَّةٍ تابعةٍ لمعاييرِ مجالِها العلمي وقوانينه الناظمة له. وأمَّا بالنسبة إلى العقل الناظر إلى هذه القضيَّة من الخارج فهي في معرض الاحتمال؛ أي إنّ كلاًّ من صدقِها وكذبِها محتملٌ. وإذا كان لا بدَّ من الاستدلال لإثبات عموميَّة هذا القانون وشموله، نقول:

الإمكانُ مصطلحٌ فلسفيٌّ يدلُّ على معنيين:

الإمكانُ الذاتيُّ الخاصّ وهو الإمكان الذي يُسنَد إلى الممكنات، ويُسمَّى في اصطلاح الفلاسفة بالإمكان الماهوي. وأعتقد بصحّة توسعة دائرة هذا الإمكان ليُسند إلى الوجود الإمكاني. وعلى أيِّ حال، فإنَّ المراد من هذا المصطلح عندما يُسند إلى الماهيَّة: سلبُ ضرورة الوجود وضرورةُ العدم عنها، وتساوي نسبتهما إلى كلٍّ من الوجود والعدم. وهذا الإمكان هو مفهومٌ فلسفيٌّ ميتافيزيقيٌّ يلازم الماهيَّات الممكنة حتى بعد وجودها. ولم يكتف الفلاسفة بمصطلح الإمكان على عمومه بل حاولوا الوصول إلى أقسامٍ وأنواعٍ له فطرحوا مصطلح الإمكان الوقوعي، ومصطلح الإمكان الفقري الذي أبدعه الفيلسوف المسلم صدر الدين الشيرازي.

المعنى الثاني للإمكان هو الإمكان بمعنى احتمال الصدق والكذب، وهذا المصطلح يبدو واضحا لا يحتاج إلى الكثير من البيان، ولكن مع ذلك ربَّما لا يكون من باب التطويل بلا طائل الحديث عن بعض أحكامه وشروطه رغبةً في المزيد من التوضيح:

توضيح مفهوم الإمكان بمعنى الاحتمال

يرتكز الاحتمال على الإمكان الذاتي الخاص، أو على عدم العلم بالواقعة أو الشيء أو القضيَّة. وعلى الحالين يتمتَّع الاحتمال بقوانينٍ فلسفيَّةٍ ورياضيَّةٍ تحكمه وتنظِّم أبعاده. ويكتفي الذهن الإنساني بالتقريب والحدس لحساب قيمة الاحتمالات في الحياة اليوميَّة العاديَّة، وفي الحالات التي تحتاج إلى الدقَّة حاول الذهن الإنساني تنظيم الاحتمالات على أسسٍ رياضيّة يتولَّى أمرها ما يعرف بـ «حساب الاحتمال» في علم الرياضيَّات، كما اخترع هذا الذهن بعض القوانين الفلسفيَّة لدراسة الاحتمالات وتقييمها.

وعلى هذا الأساس، فإنَّ ما نقصده من الاحتمال والقانون صفر هو أنَّ كلّ قضيَّةٍ من القضايا المترتِّبة على العلم البشري والناتجة عنه تتمتَّع بحدِّ ذاتها بقيمةٍ احتماليَّةٍ هي: (صفر) لصدقها؛ أي إنَّها في حدِّ ذاتها لا تبلغ درجتها من الصدق أكثر من صفر.

إثبات القيمة صفر للاحتمالات الأوليَّة

كلُّ قضيَّةٍ من القضايا عندما ننسبها إلى الوجود الإنساني غير المعصوم والمعرَّض للخطأ والاشتباه، يتساوى فيها احتمال صدقها وكذبها في حدِّ نفسها. وهذا الاحتمال وإن كان بمعنى احتمال الصدق والكذب، إلا أنَّه في الوقت عينه ناتجٌ، أو هو أثرٌ من آثار الإمكان الذاتي. ومضمون هذا الإمكان هو أنَّ الموجود غير المعصوم وغير المصون من الخطأ لا يحمل في ذاته واقع القضايا، بل واقعُ هذه القضايا قائمٌ خارج ذاته وهو يحاول اكتشافها والاطلاع عليها وبالتالي لا مرجع أوّليًّا وضروريًّا لصحّة معرفته أو كذبها. ويمكن تقرير البرهان على هذه القاعدة على النحو الآتي:

على الرغم من أنَّ الإمكان لأيِّ شيءٍ هو إمكانٌ بالقياس إلى ماهيَّته، أي إنَّ نسبة هذه الماهيَّة إلى كلّ من الوجود والعدم متساويةٌ، بحيث لا يرجّح وجودها على عدمها ما لم يكن هناك علَّةٌ تُرجّح جانب الوجود. ولكنَّ هذا الإمكان بحسب نفس الأمر مساوٍ لعدم الشيء، ومن هنا فإنّ كلّ الممكنات في حدّ ذاتها معدومةٌ، وعدمها النفس أمري متقدِّمٌ على وجودها، وبالتالي هي مسبوقةٌ بالعدم. وبعبارةٍ أخرى: هي حادثةٌ بالحدوث النفس أمري وتتمتَّع بالوجود بعد إفاضة واجبُ الوجودِ الوجودَ عليها.

وعندما نطبِّق هذا القانون الفلسفي على المعرفة، نرى أنَّ كلّ قضيَّةٍ علميَّةٍ يتساوى فيها احتمال الخطأ والصواب، بل هي مسبوقةٌ بالعدم. نعم هذا العدم أو تساوي احتمال الخطأ والصواب هو مع غضِّ النظر عن العلل الموجدة للعلم بالقضيَّة. وهذا ما نقصده بمساواة احتمال القضيَّة لـ «صفر» وذلك أنَّ العلم بالقضيَّة حادثٌ مسبوقٌ بالعدم بالقياس إلى العالِم بالقضيَّة الذي هو في محلّ كلامنا موجودٌ يجوز عليه الخطأ، وهو فاقدٌ لأيِّ ضمانٍ ذاتيٍّ لنيل الواقع كما هو في نفس الأمر. نعم ذلك كلّه في القضايا المكتسبة. هذا مع الالتفات إلى أنَّ القضايا المكتسبة عندما تُقطع صلتها بالعالِم تكون قيمةَ احتمال صدقها رياضياً 2/1 لا صفراً؛ لأنَّها تحتمل الصدق والكذب بشكلٍ متساوٍ.

ويترتَّب على ما تقدَّم كلِّه حاجة العلوم المكتسبة إلى التقوية والتمتين، وبالتالي هي مضطَّرةٌ لإفساح المجال لغيرها من القضايا الأكثر قوَّة. ولا يعني هذا القانون الأوَّلي الذي عبَّرنا عنه بالقانون صفر، أو القانون الأوَّلي ترجيح قضيَّةٍ على قضيَّةٍ أو احتمالٍ على احتمال. وما هو في الواقع إلا جرس إنذار، للعقل الإنساني يدعوه إلى ممارسة النقد الذاتي لكلِّ القضايا العلميَّة المكتسبة التي يؤمن بها. وربما يمكن التعبير عن هذا القانون ووصفه بأنَّه «قانون إمكان المعرفة البشريَّة»؛ وذلك لأنَّه يدعو الإنسان إلى تجنُّب الحكم بضرورة الصدق على القضايا التي يكتسبها، ويؤدِّي إلى وضعها في خانة إمكان الصدق.

ولمزيدٍ من التوضيح نضيف: إنَّ كلمة «الضرورة» عندما تُستعمل في سياق الحديث عن ضرورة صدق قضيَّةٍ، لا يتنافى مع إمكانها الذاتي، عندما تكون القضيَّةُ ممكنةً مادةً «وجهة». وكذلك كلمة الإمكان في هذا المبحث يُراد بها احتمال صدق القضيَّة. وأمَّا الإمكان المستعمل في كامل القضيَّة، فهو الإمكان بالمعنى الفلسفي (الميتافيزيقي) وهو الإمكان الذاتي الماهوي.

فضاء الضرورة في العلم

يتمتَّع العلم بفضاءين ضروريين:

فضاء المفاهيم والقضايا العامَّة التي لا تحتاج إلى استدلالٍ أو إثبات. ويتوقَّف وجود العلم واستمرار مسيرته على وجود هذه المجموعة من الضروريَّات حيث إنّ هي المنطلق لأيِّ قضيَّةٍ علميَّة، وهذه المفاهيم والقضايا لا تحتاج إلى إثباتٍ وإن كانت في مقام الشرح والتوضيح تُقرن أحياناً، بما يشبه الاستدلال ولكنَّه استدلالٌ ظاهريٌّ لرفع الشبهة وتوضيح البديهيَّات وشرحها. ومن أمثلة هذه الضروريَّات: الوجود، العدم، العلّة والمعلول، الشرط والمشروط، استحالة التناقض، استحالة الدور، واستحالة التسلسل.

إنّه فضاء العصمة من الخطأ في الواقع ونظام الإمكان الذي يمثِّل معياراً لبعض المعارف وللأخلاق. وقد فتح الله هذا الباب في وجوه البشر عن طريق المعصومين(عليهم السلام)؛ حيث أشرق العلم اللَّدُني على قلوب مجموعةٍ من الناس ليكونوا حجةً وضماناً لتوجيه الإنسان. وهكذا يتَّضح أنَّ الوصول إلى الدين وأصول معارفه كما إلى أصول القيم الأخلاقية، ميسَّرٌ من خلال طريقين: الأوَّل منهما هو العلم اللَّدُني المتوفِّر عند الأنبياء والأوصياء(ع). والثاني منهما هو المصدر المستقر في كافَّة العقول والأذهان. وهذا المصدر هو مجموع القضايا العامَّة المستقرة في العقل الإنساني: العملي منه والنظري، مثل: وجوب الصدق وامتناع اجتماع التناقض.

مفهوم الدين في هذه الدراسة

نستخدم كلمة «الدين» في هذه الدراسة في معنى قريبٍ في ماهيَّته من ماهيَّة العقل العام والأخلاق، بعيداً عن اختلاف وجهات النظر حول بعض التفاصيل. وقبل شرح هذا المعنى وتوضيحه، نرى ضرورة توضيح مفهوم «التديُّن» من جهةِ ما له من المعنى المتعارف عليه بين الأذهان، كما من جهة ما له من معنى يمكن أن يراد منه، أو ينقل من ذهنٍ إلى ذهنٍ عند استخدام هذه الكلمة.

تشير كلمة «التديُّن» إلى الإرادة العامَّة  والمشتركة بين العقل والأخلاق على تبنِّي حقيقة، ترجُح كفَّتُها دون أيِّ شرطٍ أو حدٍّ على سائر الحقائق والخيارات. وعندما يتحقَّق هذا العزم وتلك الإرادة، ويتوصَّل الفرد إلى اختيار تلك الحقيقة، ويوجد فردٌ بالذات لها في النفس الإنسانيَّة، يتحقَّق الإيمان وبتبع ذلك يتحقَّق ما يُطلق عليه في الروايات الشرعيَّة «روح الإيمان».

وبتحقُّق التديُّن وما له من درجاتٍ متعددةٍ، يتحقَّق ما يُلازم كلّ درجةٍ من هذه الدرجات من ترجيحات خاصَّة بتلك الدرجة من التديُّن. مثلاً: يميل الإنسان بالطبع إلى تحقيق منافعه ويفضِّلها على غيرها ولولا أنَّ العقل العملي يحول بينه وبين الإثرة والطمع لسعى في سبيل الحصول على مصالحه ومنافعه ولو على حساب مصالح الآخرين ومنافعهم ولكن عندما يتحقَّق في النفس الإنسانيَّة درجةٌ من درجات التديُّن نرى هذا الإنسان، وبما يتناسب مع هذه الدرجة يميل إلى الإيثار بدل الإثرة، فيميل إلى العمل بما يُملي عليه مبدأ الأخلاق والوجود ومصدرهما الأوَّل. وبالتدقيق في مصدر هذا الميل ومنشئه نجد أنَّ له مصدرين هما العقل والأخلاق من جهةٍ، وهما ينبعان من داخل النفس الإنسانيَّة بمقتضى فطرتها. والمصدر الآخر هو مصدرٌ منفصلٌ عن النفس الإنسانيَّة ويقع خارج حريمها وفضائها الخاصّ بها. وبين هذه الحقيقة وبين العقل والأخلاق وشائج قربى تدعو إلى الخضوع بين يديها دون أيِّ إحساسٍ بالتكلُّف والانفصال. وهذه الحقيقة هي الله وهي مصدر التديُّن ومنبعه الأصيل. وسوف نشير لاحقاً إلى أنَّ الدين مرتبطٌ بحقيقةٍ هي الأصل للوجود والأخلاق في آنٍ معاً، بل لا معنى للأخلاق ولا ضمان لها من دون وجود هذه الحقيقة التي هي الله.

إذاً، الميل إلى الترجيح غير المشروط ولا المقيَّد بأيِّ قيدٍ للإحسان معادلٌ ومساوٍ لترجيح الإحسان على الميول والرغبات والنوازع والحاجات، وبما أنَّ الأمر المطلق بالإحسان أمرٌ خالدٌ، فهو مستقلٌّ عن الإنسان وعن أيِّ موجودٍ ممكن، ومرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بمصدر الوجود والأخلاق.

وبعد ما تقدم، يبدو من المناسب الشروع في تعريف الدّين وتحديد ماهيَّته، بحسب خواصِّه وشروطه، كما بحسب مصدره ومنشئه وحقيقته المقوِّمة له. والمراد من ماهيَّة الدين، ماهيَّته في سياق تركيب «العلم والدين».

وبالنظر إلى ما تقدم من إشارةٍ إلى حقيقة التديُّن وأنَّه الميلُ الأخلاقيّ والعقليّ نحو التعلّق بحقيقةٍ تستحق الشكر والتقدير بذاتها. بالنظر إلى ذلك يمكن البحث حول الدين من جهة ارتباط العقل الأخلاقي بالحقيقة الإلهيَّة بوصفها المتعلَّق الأوَّلي والذاتي للتديُّن. ويجدر بنا الإشارة إلى أنَّ تركيب «العقل الأخلاقي» مفهومٌ مختصرٌ يعبِّر عن نظام الأخلاق والعقل، نشير به إلى الأبعاد المتعدِّدة للعقل النظري والعقل العملي في بعده الأخلاقي.

بناءً على ما قررناه في محلٍّ آخر في مقالةٍ حول العقل العملي[2]، وكذلك بناءً على ما حقَّقناه في أبحاثنا النقديَّة حول العقل يمكننا القول هنا: إنَّ العقل الأخلاقي منقادٌ بالطبع للقوانين الأخلاقيَّة الأبديَّة، وهو يعطيها صدر مجلس وجدانه. ومن هنا، فإنَّ كلّ قضيَّةٍ أخلاقيَّةٍ لها وجودها بالحمل الشائع في منزلة العقل الأخلاقي. وهكذا يبدو أنّ العقل أخلاقيٌّ بالذات ولا يصل إلى الأخلاق بعد التأمل والبحث أو الاكتساب. وبالتالي فإنّ الإنسان أخلاقيٌّ بالطبع، يتلمَّس أثر قوانين الأخلاق في مرحلة الوجدان الأوَّلي الضروري وهذا يكشف عن عدم استناد هذه القوانين إلى مبدأ ممكن.

وهكذا يتضح أنَّه يتوفَّر للعقل ومن داخله مصباحٌ هادٍ له نحو الرقي والتطوُّر في نظامه الأخلاقي، ومثل هذا النظام الأخلاقي ليس من صنع المخلوق، فهو بالتالي مستندٌ إلى حقيقةٍ هي مبدأ الوجود والأخلاق في آن، وتسمّى هذه الحقيقة التي هي الله تعالى بـ«الشارع» من حيث سنُّها مجموعةً من القوانين الناظمة للفعل الاختياري الصادر عن المخلوق القادر على الاختيار.

وعليه، فإنَّ ماهيَّة الدين تتحدَّد وفق مقتضيات العقل النظري والعقل الأخلاقي بأنَّها: نظام أصول الإيمان وقوانين العمل في حدود منطقة الاختيار. مع الالتفات إلى فكرة الأمر بين الأمرين التي تضبط حدود كلٍّ من الاختيار والجبر. وقد أبلغ الله هذه الأصول وأقرَّ تلك القوانين آخذاً بالاعتبار حدود قدرات الإنسان وحدود دائرة اختياره.

والدين بعد إبلاغه إلى الأنبياء، وعرضهم إياه على الإنسان يصبح في متناول قواهم المدرِكة من طريقين: الطريق العام البديهي المتاح لجميع الناس بالفطرة، وطريق الاكتساب والتعلّم المتوقِّف على الوعي والاختيار. ولهذا الدين في واقعه من حيث هو معيارٌ لتقويم المفاهيم والقضايا الدينيَّة مرحلتان طوليَّتان بينهما تطابقٌ تام. المرحلة الأولى: هي مرحلة نزول الدين واستيداعه. وتؤشِّر هذه المرحلة إلى الدين كما نزل على النبي محمد(ص) وأودع عند أوصيائه(ع)، وهي المرتبة الأولى لواقع الدين في عالم الإمكان. والأمر عينه يصدق بالنسبة إلى الأديان السابقة التي نزلت على الأنبياء السابقين على نبينا محمد (ص).

المرحلة الثانية: هي مرحلة صدور الدين وإبلاغه بواسطة النبي(ص) ومن بعده بواسطة أوصيائه(ع). وهذه المرحلة أو المرتبة للدين تقع في طول المرتبة السابقة وهي متأخرةٌ عنها رتبة، وأحياناً هي متأخرةٌ عنها زماناً أيضاً. وفي هذه المرحلة تنتقل القوانين والأحكام والأصول من عالم الجعل والتشريع النظري إلى عالم الفعليَّة، ويترتَّب على هذا الانتقال وجوب البحث عن التكليف.

بينما نلاحظ أنَّ المرحلة الأولى خاصّةٌ بممثلي الله ورسله، أو فلنقل أنّها خاصةٌ بالوسطاء بين الله والعباد، ولا يترتَّب على هذه المرحلة أيَّ أثرٍ من آثار فعليَّة التكليف، ما لم يتم إبلاغ هذه الأحكام وتحوُّلها إلى عالم الفعليَّة. وهذه المرحلة ليست مجرّد طريقٍ لتحقق المفاهيم والأحكام والماهيَّات التشريعيَّة، بل هي مرحلة ذات صفةٍ موضوعيَّة؛ حيث إنَّها الطريق المضمون والنموذجي (استنادارد) لوصول الأحكام بواسطة النبي(ص) والأوصياء(ع).

والمقصود من موضوعيَّة هذا الطريق، هو أنَّه ليس طريقاً فحسب؛ بحيث يمكن استبداله بغيره من الطرق والوسائل، بل هو طريقٌ مؤثرٌ في مضمون الرسالة الإلهيَّة، ولولا هذا الطريق لانسدّ باب التواصل بين الله وعباده. ومن هنا، فإنَّ محاولات اكتشاف الأحكام الدينيَّة والمفاهيم التشريعية، هي محاولاتٌ بشريَّةٌ تُوصِل إلى الدّين في مرحلته الثانية لا في هذه المرحلة الخاصَّة بمن له صلة وحي، أو ارتباط مباشر بملقي الوحي.

ويشمل هذا الحكم المشار إليه أعلاه كلّ الأدلَّة الاجتهاديَّة والفقاهتيَّة التي يراد منها إثبات الحكم الشرعي أو اكتشاف الوظيفة العمليَّة، فهي جميعها ناظرةٌ إلى الدين في مرحلته الثانية؛ أي مرحلة الإبلاغ. وعلى هذا الأساس يكون طرفا الملازمة في قانون الملازمة بين حكم الله وحكم العقل، هما الدين والعقل في المرحلة الثانية أي مرحلة الإبلاغ. ولا ينفع قانون الملازمة لإثبات التكاليف ما لم يكن مستنداً إلى مصدرٍ موثوقٍ هو ما أبلغه وسطاء الله وحملة رسالته إلى عباده. ولا طريق للعقل إلى المرحلة الأولى من مراحل تحقُّق الدين؛ وذلك لأنه عقلٌ محدودٌ وغير معصومٍ من الخطأ، ولا يملك أيَّ ضمانةٍ تحميه من الوقوع فيه. وذلك على الرغم من دعوى بعضهم القدرة المتعالية (ترانسندنت) للعقل في مجال الميتافيزيقا.

ومن الآثار التي تترتَّب على دعوى قدرة العقول الخاصَّة على الوصول إلى التشريع والدين في مرحلته الأولى، هو أن نُقرَّ هذه العقول المحدودة وغير المعصومة من الخطأ، بحسب الفرض، على ما تدَّعيه وقد يكون في كثيرٍ من الأحوال متناقضاً، ونسمح لهذه العقول بنسبة ما تكتشفه إلى الله. ولا يخفى ما في ذلك من لوازمٍ لا يمكن القبول بها أو اعتقادها.

العلم والدين ككفتي ميزان

ما تقدَّم كلُّه  هو حول كلٍّ من العلم والدين بحدِّ ذاتيهما، ومن هذه الجهة هما يتوفَّران على حقيقةٍ قائمةٍ بنفسها، بغضَّ النظر عن جهاز الإدراك البشري الذي يرتبط بمرحلة الكشف والاستنباط. وقد عُلِم مما تقدَّم أنَّ جهاز الإدراك الإنساني في مرحلة الضرورة والأحكام الضروريَّة (البديهية) يتلمَّس حقيقة الدين ومقتضياته الكليَّة، بل ويمكنه أن يأمر بالعمل بها إذا أراد، ولا يشعر بأيِّ غربةٍ بينه وبين هذه الاقتضاءات الكليّة.

وإذا كان العقل النظري يتمتَّع بهذه الصفة فإنَّ العقل العملي أيضاً هو «عقلٌ دينيٌّ»؛ وذلك لأنَّه بحسب طبعه الأوَّلي وحالته الأصيلة يميل إلى ترجيح القوانين الأخلاقيَّة على المصالح والحاجات، وقد تقدَّم أنَّ القوانين الأخلاقيَّة ترتبط بمبدأ الوجود والأخلاق.

وعلى ضوء النتائج التي انتهينا إليها حتى الآن، يمكننا القول أنَّ العلم والدين يسيران على خطٍّ واحد، وأنّ بينهما تلازماً وانسجاماً تاماًّ، وذلك بالنظر إلى اقتضاءات حقيقة الدين من جهةٍ واكتشاف العلم بحسب حقيقته الأوليَّة من جهةٍ أخرى. وبعبارةٍ أوضح: إنَّ العلم في مرحلة الضروري منه لا يُدرِك ولا يكشف إلا القوانين الصحيحة المطابقة للواقع، والدين كذلك في مرحلة استيداعه عند المعصوم (ع) وفي المرحلة اللاحقة له لا يقرُّ حقيقةً غير مطابقةٍ للواقع أو بعيدةٍ عن إلزامات القانون الأخلاقي، وعندما يكون الملاك والمعيار هو المطابقة للواقع، لا يبقى مجالٌ للتضارب أو التنافي والتضادّ بين مقتضيات كلٍّ من الطرفين. وما يستحق البحث هو مرحلة ما بعد العلم الضروري.

إشكاليَّة إصابة العلم البشري للواقع

إذا كان العلم في مرحلة الضرورة والبداهة، لا يعاني من أزمة إصابة الواقع والقبض عليه، فإنَّ الإشكاليَّة الأبرز تظهر عندما نتجاوز مرحلة الضرورة، إلى منطقة العلم المكتسب؛ وذلك لأنَّ العلم المكتسب الذي يحاول العثور على الحقيقة الدينيَّة والقبض عليها تابعٌ للجهاز الإدراكي من جهة، وتابعٌ للمناهج المعتمدة في مقام الاستنباط من المعطيات التي يوفِّرها الدين للعقل الإنساني من جهةٍ أخرى. ومن هنا، تحوَّل البحث إلى سبل الوصول إلى الدين ومدى إصابة مفاهيمه وتشريعاته، طالما أنَّ هذا العلم الحاصل من الاشتغال البحثي علمٌ تدريجيٌّ وغير ضروريٍّ (ممكن الصدق)؟

والسؤال نفسه ينطبق على مدى إصابة علومنا المكتسبة للواقع ونفس الأمر: كيف يرتبط عقلنا – التدريجي غير المعصوم عن الخطأ – بالواقع ونفس الأمر وكيف يكتشفه، وتتَّسع دائرة السؤال لتضمَّ في محيطها العقل النظري والعقل العملي والعقل الأخلاقي؟ وتقع مسؤوليَّة الإجابة عن إشكاليَّة العقل والواقع على عاتق نقد المعرفة والعلم ونقد مصادرهما، فلا بدَّ من تقويم مصادر المعرفة وتحديد الصالح منها لإنتاج المعرفة وغير الصالح، وبعد هذه المرحلة من النقد لا بدَّ من النظر في شروط إنتاج هذه المصادر وإمكانيَّات تعميمها، كما ونقد النتائج التي تمَّ التوصُّل إليها. ليُعلم بعد ذلك مدى قدرة الجهاز المعرفي للإنسان العادي على إدراك الواقع، ولتُحدَّد دائرة الميادين والمجالات التي يمكن لهذا الجهاز الإدراكي أن يسرح فيها ويصول ويجول؟ ولتُعلَم أيضاً الحدود والسدود التي تحاصر العقل الإنساني تكويناً وتمنعه من التطاول على ما لا يُطال، وليَكِفَّ عن السعي في تناول ما لا يُنال. وبالتالي لا بدَّ من الإجابة عن مجموعة من الأسئلة منها: هل للعقل حدودٌ تكوينيَّةٌ لا يستطيع تجاوزها؟ هل تمنع السدود الوجوديَّة والماهويَّة جهاز الإدراك البشري من الوصول إلى ميادينٍ أوسع مما يناله فعلاً؟ أم أنَّه لا حدَّ للعقل والإدراك ولا سدود تكوينيَّة تحول بينه وبين التوثُّب إلى ما يرغب في الوصول إليه ونيله؟

ولا يتَّسع المجال للإجابة عن هذه الأسئلة جميعاً، ولا لتحليل الإشكاليَّات كلِّها؛ ولذلك أحيل القارىء الكريم إلى بعض كتاباتي في موضوع تقويم المعرفة تحت عنوان: «نقد العقل التركيبي» و«نقد تمامية العقل»، ولكن لا بأس من الإشارة إلى أنَّنا في تلك الكتابات أشرنا إلى أنَّ العقل جهاز مركب وذو مراحل ومستويات. وكما أنَّ الإنسان بل كلّ موجودٍ مشابهٍ له يتمتَّع بالعقل النظري والعقل العملي، والعقل الأخلاقي، والعقل الشهودي، كذلك يتوفَّر على شبه العقل (العقل في مرحلة القوّة الواهمة والقوّة المتخيلة) والعقل الحسي والعقل الوجودي، وهذه المراحل أو المفاهيم جميعاً تشكِّل ما يعرف بالعقل دون إضافةٍ إلى شيءٍ آخر وتعطيه قوامه.

وعلى هذا الأساس، تنال الموجودات العاقلة عقلها الخاص. وفي هذه المرحلة أي مرحلة العقل الخاصّ تُتاح إمكانيَّة نقد العلم المكتسب والاستدلالي. فالعلوم البشريَّة بأسرها من العقل المحض إلى العقل الحسّي والتجريبي، إلى العلوم المتعلّقة بالقضايا والعلوم المفسِّرة، هذه كلّها من نتائج العقل الخاصّ وثماره. وما نقصده من مفهوم «العقل الخاص» هو العقل المنظِّر أو المبتكر للنظريَّات في القضايا العقليَّة والنظريَّة أو في الأمور الحسيَّة.

ولمّا كان هذا العقلُ محدوداً وغير مصونٍ من الخطأ وتدريجياً كذلك، فهو محتاجٌ إلى معاييرٍ مستقلَّةٍ عنه. وهذه المعايير موجودةٌ في العقل المشترك، في القضايا والمفاهيم العامَّة المستقلَّة عن النظريَّات. وأمَّا في العقل الذي يقع خارج الذّهن فتتجلَّى هذه المعايير في العلم اللَّدُني المعصوم من الخطأ الذي يحمل مؤشِّرات عصمته وحفظه من الخطأ. وهذا العلمُ اللَّدُني من خصائص وسائط الله ورسله إلى عالم الإمكان. ولدينا برهانان تامان يثبتان وجود هؤلاء الرسل في عالم الممكنات أحدهما برهانُ لمّيٌّ والآخر إنيّ.

تقرير البرهان الإنّيّ

إنَّ المعاييرَ التي طرحوها واضحةٌ للعيان، وظاهرةٌ لكلِّ ذي عقلٍ بحيث لا يحتاج إدراكها وتوضيحها للعقول إلى أيِّ جهدٍ من العقل الخاصّ ونظريَّاته. ولمَّا كانت قوانينُ الأخلاق وأصولُ شريعة الدين، وهما متطابقان في جوهرهما، لمَّا كانت هذه الأمور قائمةً بذاتها ومستغنيةً عن النظريَّات، كان إبلاغ المبلغين عن الله وتعليمهم لشرائعه سبحانه مستغنياً أيضاً عن النظريَّات وأفكار العقل الخاص. وإلّا لكان جهاز العقل البشري وأساسه وقوانين الأخلاق بحاجةٍ إلى هذه النظريَّات، ولتوقَّف الحكم بالصحّة وعدمها والحسن وعدمه على معونة هذه النظريَّات وغوثها.

ومن هنا، نعرف أنَّ أساس العقل البشري وحده يكفي لتثبيت القوانين الأخلاقيَّة، كما أنَّه يكفي لتثبيت مقتضيات العقل النظري ومفاهيمه. كذلك يكتفي العقل بنفسه ليقرِّر القانون القاضي: بـ «عدم جواز تعميم حكم العقل المحدود الصادر من غير المعصوم من الخطأ على سائر الموجودات». وهذا القانون هو أساس استقلال العقل المشترك، وهو الدافع للعقل الخاصّ نحو اللجوء إلى مصدرٍ معصومٍ من الخطأ مستقرٍّ في عالم الإمكان والممكنات، ولولا ذلك لما كان للعقل والعقلانيَّة معنى، ولا للقانون الأخلاقي قيمة، ولا للاستدلال والحجّة ركنٌ يمكن الاعتماد عليه.

ويترتَّب على ما تقدَّم من الحديث حول طبيعة العقل ومراحل تقييمه ونقده وحول الدين وماهيَّته ونسخه مجموعةٌ من النتائج نوردها في ما يأتي:

1 - العقل على نوعين لكلٍّ منهما خواصّه وأحكامه ومقتضياته التي لا تُتَوقَّع من الآخر.

النوع الأول: العقل المشترك الذي يقرِّر أو يكتشف المفاهيم والقضايا والأوامر الضروريَّةِ الصدقِ التي لا تحتاج إلى نظرٍ واستدلال، وهي بالتالي خارج دائرة العقل الخاصّ.

النوع الثاني: العقل الخاصّ، وهو العقل المكتسب وهو أداةُ أو مجموعةُ المعارف التي يكتسبها. ويتّحد هذان النوعان في الإنسان المعصوم، وبسبب هذا الاتحاد هو منزَّهٌ عن الخطأ في الحكم وعن السهو.

2 - الاستدلال على أنواعه من متعلّقات العقل الخاصّ. ولأجل هذا الارتباط بالعقل الخاصّ، فإنَّ وجوهَ الاستدلال محاصرةٌ بالقانون الثلاثي، أو فلنقل تتميَّز بصفاته الثلاثة وهي: كونها محدودةً وتدريجيّةً ومحتملةَ الخطأ.

3 - وبناءً عليه، فإنَّ الأدلَّة وإن كانت تبرِّر نتائجها وتثْبتها، إلا أنَّ إثباتها مشروطٌ ومحدودٌ، ولا يُتوقَّع من الدليل المحدود الإثباتُ المطلقُ والمجرَّد من الحدود. ومن هنا يقسِّم الأصوليون الأدلَّة إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الدليلُ «العام الشمول» وهو منحصرٌ بقول المعصوم وفعله وتقريره، وفي العقل الضروري مثل قانون عدم التناقض، وقانون حاجة الممكن إلى علَّة مرجِّحة، وبطلان الدور والتسلسل.

الثاني: الدليل «الشامل» وهو الدليل الحجَّة الذي يجوز الاعتماد عليه لمن لا ينال الدليل من النوع الأوَّل، وأهمّ سمات هذا الدليل تكمن في اشتراط الاعتماد عليه بخبرة، وفي أنَّه لا يحصِّل الواقع ولا يصيبه بالضرورة، بل يحدِّد الوظيفة العمليَّة لمن لا يعلم بالتكليف. بينما الدليل الأوَّل مثبتٌ للتكليف ومصيبٌ للواقع.

الثالث: الدليل «اللازم» وهو الدليل الخاصّ بصاحبه، ومثل هذا الدليل ينجِّز الواقع على صاحبه ولا يُلزِم غيره. ومثاله القطع الشخصي غير المستند إلى الدليل الأوَّل. فمثل هذا الدليل إذا تجاوزنا الخلاف بين الأصوليين في جواز الاعتماد عليه، هو على أيِّ حالٍ ليس حجةً على غير القاطع.

ويولد من رحم اعتبار الاستدلال من صنف الدليل  «اللازم»، تساؤلٌ حول موقع الاجتهاد واستنباط المجتهد للأحكام الشرعيَّة؟

ونجد أنفسنا مضطَّرين إلى التوقُّف عند هذا التساؤل، ولو مع مراعاة الاختصار قدر ما يتاح لنا ذلك:

إنَّ الاستدلالَ الاستنباطيّ الذي يُسمّى الاجتهاد، هو عملٌ يستند إلى الخبرة كغيره من الأعمال المشابهة التي تعتمد على الخبرة، مع فارقٍ بينه وبينها في كونه محدّداً ومقيّداً بخبرةٍ خاصّة يُشترط فيها الاستناد إلى نوعٍ معيّنٍ من الأدلَّة هي المصادر التي اعتمدتها الشريعة وأقرّتها وساطة بين الإنسان وبين تكليفه الشرعي، بينما غير الاجتهاد من الأعمال الخبروية لا تُقيَّد بهذا القيد. فالطبيب مثلاً يرجع إليه كلّ من يثق بخبرته كائناً ما كان منشأ هذه الخبرة. وأمَّا المجتهد، فلا يجوز الرجوع إليه والعمل بفتواه، إلا إذا كانت مستندةً إلى نمطٍ خاصٍ من الأدلّة، وأمَّا الفتاوى والاستنباطات التي تعتمد على غير الأدلَّة الشرعيَّة، فهي حتّى لو أفادت اليقين وولَّدت القطع، إلا أنَّها لا تكون حجَّة إلا على صاحبها. وبالتالي فهي دليلٌ «لازم».

هذا، وبين الأصوليين والإخباريين خلافٌ في حجيَّة الدليل اللازم حتى على صاحب الدليل والقاطع به. والرأي المشهور بين الأصوليين أنَّ القطع مهما كان مصدره ومنشأه حجّةً على القاطع يُنجِّز ويُعذِّر. وأمَّا الإخباريون فهم يرون انحصار الحجّة بالدليل غير العقلي.

4 - إنَّ جوهر الدين وروحه هو حقيقةٌ قائمةٌ بذاتها وهي عامَّة تستحقّ الاحترام والتقدير بل والتضحية، في كلّ زمانٍ ومكان. ولما كان عالمَ الإمكان في بعديه العملي والنظري يخلو من كلّ فكرةٍ تستحقّ التضحية بهذا الشكل، فإنَّ الله وحده وما يصدر عنه من أحكام، هو الذي تنطبق عليه هذه الصفة. وبالتالي فإنَّ في الدين ما يدعو العقل إلى الطاعة والانقياد.

وعليه، فإنَّ مفهوم الدين وحقيقته أمرٌ مستقرٌّ في عمق العقل الإنساني، وهذه الحقيقة مستقلَّةٌ عن أيِّ أمرٍ سببيٍّ أو مسببي. ومعنى ذلك أنَّ:

تصوُّر الدين والتصديق به من التصوّرات والتصديقات الأوّليّة والشاملة المستقرّة في العقل. ومن هنا، فإنَّ نظام الدين وما يتولَّد عنه بالذات مساوٍ ومطابقٌ لنظام العقل وما يترتَّب عليه بالذات. وهذه المساواة هي مكمن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وأؤكِّد أنَّ العقل عند الحديث عن الملازمة هو العقل المشترك الضروري لا العقل الخاصّ المحدود، وذلك لعدم إمكان الحكم بالتلازم بين الدين المعصوم بالذات وبين العقل غير المصون من الخطأ.

5 - بناءً عليه، لا ملازمة بين ما يصدر عن العقل وبين الشرع، إلا في ظروفٍ خاصَّةٍ وضمن شروطٍ محدَّدة.

العلاقة المحدودة بين العقل الخاصّ والشرع

ينحصر التلازم بين العقل الخاصّ والشرع بحالة مطابقة ما ينتج عنه الواقع، ولمقتضيات العقل المشترك. وأمَّا في غير تلك الحالة، فلا ملازمة بينهما. ولكنَّ مشكلة هذه القضيَّة الشرطيَّة هي في فقدان العقل الخاصّ لمعيارٍ يُثبت توفُّر الشرط وهو مطابقة الواقع؛ ولذلك نحتاج إلى العقل الضروري المشترك للعودة إليه بوصفه مالكاً للمعايير التي تقطع التسلسل وتبعدنا عن الدور. وذلك بالرجوع إلى ما عند العقل المشترك من قضايا ضروريَّة لا تتوقَّف على الإثبات والاستدلال.

إذاً، يتوقَّف الحكم بالملازمة بين العقل الخاصّ والشرع على ضمانات يقدِّمها العقل المشترك. وأمَّا إذا بقينا في إطار العقل الخاصّ، فلا تتوفَّر بين أيدينا أيّ ضمانةٍ للحكم بتحقق شرط الملازمة وهو مطابقة الواقع. ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّه عندما تتوفَّر ضمانات العقل المشترك، لا نبقى مع العقل الخاصّ المكتسب. وعليه، فإنَّ العقل الخاصّ بما هو عقلٌ خاصّ، سمته الأساس وخصوصيَّته الأبرز هي المحدوديّة وعدم العصمة من الخطأ. ولا يعني ذلك أبداً التشكيك في نتائج هذا العقل وما يصدر عنه. فإنَّ بين الاستدلال والاكتشاف، وبين الاستنباط من هذا الاكتشاف، والحكم بملازمة النتيجة للشرع فرقاً شاسعاً. فالدليل الصالح لاستنباط الحكم الشرعي هو الكتاب والسنة، وعندما يُضَمُّ إليهما الإجماع والعقل، يلتئم شمل الأدلَّة الأربعة التي يتحدث عنها الفقهاء والأصوليين في كتبهم وأبحاثهم الأصوليَّة والفقهيَّة.

وفي هذا السياق توجد أسئلةٌ عدَّة تدور حول الإجماع والعقل من قبيل: ما المراد منهما عندما يقرنان بالكتاب والسنة في مجموعة الأدلَّة الأربعة؟ وما هو مبرّر حجيّتهما ومدى هذه الحجيَّة، مع عدم كونهما من المصادر الشرعيَّة المباشرة؟ هذه الأسئلة وغيرها من أهم أبحاث علم الأصول وأكثرها حيويَّة له. وقد أعمل علماء الأصول عقولهم في هذه المسائل وفكّكوا كثيراً من عقدها. ولكنَّه العلم الذي لا غاية لأمده ولا منتهى لطريقه يظل يسعى في طرح الأجوبة واختبارها، وإخضاعها لمحكّ التقويم. وهذا ما فعله علماء المسلمين منذ صدر الإسلام وحتَّى يومنا هذا. ولكن قيمة ذلك الجهد لا تتجوهر وتزداد تألّقاً وبريقاً، إلّا بالاستعداد الدائم للنقد ونقد النقد. ولسنا الآن بصدد معاودة التعرُّف على أسس تلك النقود، وإنَّما نحن بصدد بيان أهميَّة البحث حول دليليَّة العقل والإجماع في التراث الإسلامي. ولذلك لا نجد بُدًّا من الخوض في ما خيض فيه من قبل علَّنا نعثر على جديد.

الإشارة إلى دليليَّة العقل والإجماع

الإجماع بوصفه دليلاً

من الواضح أنَّ اجتماع عددٍ من الأشخاص غير المعصومين على رأيٍ من الآراء لا يُعدُّ بحدّ ذاته، مصدراً شرعيَّاً أو أساساًَ لثبوت الحكم الشرعي؛ لأنَّ الحكم الشرعيّ يستند في الواقع ونفس الأمر إلى إرادة الشارع وأمره أو نهيه، بواسطة النبي (ص) وأوصيائه المعصومين (ع)، الذين جعلهم الله واسطةً في ثبوت الحكم الشرعي ونقلةً لإرادته، مع فارقٍ بينهم هو أن النبي (ص) سببٌ مباشرٌ لوصول الشريعة إلى مرحلة الفعلية، والوصي (ع) سببٌ لبقاء هذه الفعليّة واستمرار الشريعة على مستوى البلاغ والوصول. وقد تقدَّمت الإشارة إلى انحصار الوساطة في الإبلاغ برسلٍ يختارهم الله ويحصر هذه المهمّة فيهم. وأشرنا أيضاً إلى أنَّ إرادة الله وحده وجوهر الدين هو الذي يستحق الخضوع المطلق والكامل. ومن هنا، فإنَّ محلّ بحثنا ليس في الإجماع ووجوب الخضوع له بالذات، وإنَّما البحث في مدى قدرة الإجماع على الكشف عن إرادة الله؟ وبعبارةٍ أخرى: البحث حول الإجماع يشبه البحث عن الأمارات وإمكان الاعتماد عليها لاكتشاف إرادة الله وأحكام شريعته.

وباختصارٍ يجيب الفقه الإمامي: إنَّ الإجماع ليس حجَّةً بذاته وحجيَّته تُستمدّ من كشفه عن موقف المعصوم بأيِّ طريقةٍ كان هذا الكشف سواءً أكان من باب الملازمة أم التضمّن. ويقيِّد فقهاء الإمامية حجيَّة الإجماع في دائرة الأحكام والشريعة ولا يوسعون دائرته إلى أصول الدين والعقائد، لأنَّ هذه الأخيرة لا تثبت إلا بإرجاعها إلى العقل المشترك أو إلى حجّة الله على عالَم الإمكان.

العقل بوصفه دليلاً

لا يتعدَّد العقل ولا يختلف من فردٍ إلى آخر، وما يتعدَّد هو مراتبه. فالمرتبة الأولى منه هي مرتبة العقل المشترك الذي يُسمَّى بالعقل الضروري. وتوصف هذه المرتبة من العقل بـ«المشترك» بالنظر إلى عدم الاختلاف فيها بين شخصٍ وآخر، وبين ظرفٍ وظرف. وتتجلَّى هذه المرتبة في مجموعةٍ من القضايا البديهية مثل: «استحالة التناقض»، «استحالة التسلسل والدور»، «حاجة الممكن إلى علة». وكذلك في القضايا التي تحمل قياساتها معها. ومن أبرز سمات هذا العقل أو هذه المرتبة من العقل، عمومها، وحجيّتها، وملازمتها لأحكام الشرع.

والمرتبة الثانية من العقل هي مرتبةُ العقل الخاصّ المحدود بالزمان والمكان وبالشخص العاقل، وهذه المرتبة من امتيازات الإنسان وخصائصه التي تميِّزه عن سائر المخلوقات. وهذا العقل وإن كان حجَّةً على صاحبه إلا أنَّه لا يمكن تعميمه بحدِّ ذاته وإلزام الآخرين به ما لم ينته إلى مصدرٍ مشترك هو العقل الضروري أو الشرع. ولذلك لا يمكن الحكم بالملازمة بينه وبين الشرع، أو بكونه دليلاً مستقلّاً عن الشرع وأحكامه. وهنا مكمن البحث وهو هل من طريق لضمان مطابقة مدركات هذا العقل لأحكام الشرع؟ وهي مسألةٌ على درجةٍ عاليةٍ من الحساسيّة والخطورة ولكنَّها تقع خارج إطار بحثنا في هذه المقالة. ولكن لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذه الإشكاليَّة تختصُّ بحالة الاستدلال العقلي المعتمد على العقل الخاصّ وحده دون أن يستند إلى أمرٍ من خارجه. وأمَّا إذا مدّ يد الاستعانة إلى المصادر الدينيَّة فإنّه لا يعود استدلالاً عقليّاً، بل يتحوَّل إلى اجتهادٍ ملزَمٍ بمراعاة حدود الفتوى وشروطها. وفي مثل هذه الحالة، يتحوَّل العقل إلى وسيلةٍ من وسائل الاستنباط. وعندما يقرِّر الفقهاء حجيَّة العقل يقررونها في حدود هذه الدائرة، ولا يوسّعون دائرة عمل العقل إلى غير الكشف والاستنباط.

العبور من مفهومي العلم والدّين إلى العلم الديني

المقصود من مفهوم الدّين أو جوهره بحسب ما تقدَّم في عباراتٍ سابقة، الدّين المحض كما هو في واقعه بحسب ما نزل على النبي (ص) في مرحلة التأسيس وبحسب ما أودعه النبي (ص) عند أوصيائه في مرحلة الحفظ والاستمرار. ووعاء هذا الدين ومستودعه هو كتابُ الله وقولُ المعصوم وفعله وتقريره وبهذا المعنى للدين تُقاس سائر المواقف والأفكار ليُحكم لها أو عليها.

وأمَّا الدين بحسب العقل المشترك، فقد تقدَّم توضيحه. ونعيد تحصيلاً للفائدة فنقول: إنَّ الدين بحسب العقل المشترك هو ما يراه العقل ضرورياً، ويؤمن به بالضرورة، ويرى وجوب طاعته والخضوع له، ولمَّا كانت مثل هذه الفكرة الدينيَّة غير موجودةٍ في العقل بحدِّ ذاته كان الله تعالى هو المنشئ لها والمقرّر لحقيقتها. وبعد هذا التوضيح يمكننا العبور إلى مركَّب «العلم الديني»، أو بعبارةٍ أخرى إلى معرفتنا بالعلم وبالدين ومستوى هذه المعرفة وكيفيَّتها. ولسنا نقصد بهذه المعرفة معرفتنا للعلم أو الدين، الأمر الذي تقدّم شرحه وتوضيحه. بل المقصود هو المعرفة الاجتهاديَّة التي هي العنصر المقوِّم لمفهوم «العلم الديني».

الاجتهاد بوصفه مقوِّماً للعلم الديني

رغم الخوف من الإطالة إلا أنَّنا لا نجد مفرّاً من بيان معنى طرفي العنوان المذكور أعلاه:

الاجتهاد: لقد قدَّم الفقهاء والأصوليون تعريفاتٌ عدّةٌ للاجتهاد وناقشوا وأكثروا النقاش في الطرد والعكس والجامعيّة والمانعيّة. ولكنَّنا نرى ضرورة تعريف الاجتهاد بما يشمل الاجتهاد في الفقه وغيره من العلوم؛ ولذلك يبدو أنَّ التعريف المناسب هو: «الاجتهاد هو استخراج المفاهيم والقضايا والمعارف والأحكام من النصوص الدينيَّة وفق قواعد وضوابط محدّدةٍ تقرّها الشريعة وترضى بها منهجاً ووسيلةً للاستنباط، سواءً استندت هذه الضوابط إلى العقل المشترك، أو إلى غيره مما ثبت جواز الاعتماد عليه. مع الالتفات إلى أنَّ نتيجة الاجتهاد، وإن كانت حجَّةً ويجوز بل يجب الخضوع لها وامتثال مقتضاها، إلا أنّها ليست ضروريَّةَ الصّدق، وإلا لو كانت ضروريَّة الصدق لما كانت اجتهاداً».

هذا هو التعريف الذي نتبنّاه للاجتهاد، ونرى أنّه تعريفٌ جامعٌ شامل، ويبدو في هذا التعريف التفاته إلى أنَّ الاجتهاد هو وسيلةٌ وطريقٌ إلى اكتشاف الأمور الشرعيَّة. وينطبق هذا التعريف على الاجتهاد في الفقه والاجتهاد في غيره من العلوم الدينيَّة. ويشمل كذلك مسلك كلٍّ من الأصوليين والأخباريين؛ حيث إنَّ كلًّا منهما يهدف إلى الغاية نفسها والفرق ليس إلّا في شروط سلوك الطريق نحو الغاية وحدودها. وأهمّ وجوه الاختلاف بين المسلكين تكمن في الموقف من العقل وأمَّا في غير العقل فالاختلاف أقلّ حدّة.

مفهوم العلم الديني

ربّما يكون ما تقدَّم حول العقل والدين في مقام شرح مفهوميهما وبين حدودهما وماهيّة كلٍّ منهما، مقدمةٌ تسمح لنا بالبحث حول مفهوم «العلم الديني» وبيان موقعه. وعلى ضوء ذلك نرى أنَّ العلم الديني له شكلان أو هو ينقسم إلى نوعين:

الأول: العلم الذي يسعى إلى دراسة الدين بما هو دين، بهدف شرحه وتعليمه وترويجه من ثم تطبيقه.

الثاني: العلم الذي يمكن استخراجه من النصوص الدينيَّة، على الرغم من عدم كون الدين بما هو دين، ضامناً له وملتزماً ببيانه بالضرورة. ولكن مع ذلك وبالنظر إلى شمول الدين واستيعابه لعالم الإمكان، فإنَّه يتولَّى وبغرض تحقيق الانسجام في هذا العالم، تقديمُ بعض المعارف وتعليمها ولو على نحوٍ عامٍ وإجمالي. وعليه فإنَّ المعارف التي يتولَّى الدّين تقديمها بشكلٍ خاص وتفصيليٍّ هي علمٌ دينيٌّ خاص، وأمَّا العلوم والمعارف التي يقدِّمها الدين على نحوٍ كليٍّ وعام فهي علمٌ دينيٌّ عام. وربما يحتاج وضوح المطلب لمزيد بيان.

تعريف العلم الديني الخاص

هذا القسم من العلم الذي يلتزم الدين والنصوص الدينيَّة ببيانه، ربّما يمكن الإشارة إلى مرتبتين له، هما:

المرتبة الأولى: وهي العلم الديني المشترك والعام، وهذه المرتبة تشتمل على ماهيَّة الدين بوجه عام كما ماهيَّة العقل الكلّي وتوضِّحها وتبيّن حدودها. ومن هنا فإنَّ الأصول والقوانين المشتركة بين جميع الكائنات العاقلة والتي هي ضروريَّةٌ وبديهيَّةٌ هي من العلم الديني في هذه المرتبة من مراتبه. وأمثلة هذه الأصول كثيرةٌ منها: أصول معرفة الربوبيّة، والأصول الملازمة لها كالنبوّة والوصاية وما شابهها من القوانين البديهيَّة لكلِّ العقول. وميزة هذه الأصول في كليَّاتها العامَّة عدم إمكان الاجتهاد فيها، بالنظر إلى وضوحها وبداهتها كما بالنظر إلى عمومها وعدم الاختلاف فيها.

المرتبة الثانية: العلم الاجتهادي، وهذه المرتبة من العلم متوقِّفةٌ على إعمال أدوات الاجتهاد المقرَّرة ووسائله ومصادره التي أمضتها الشريعة، وهي الكتاب والسنة كما عُرِّفت في الفقه الإمامي؛ أي قول المعصوم وفعله وتقريره. وأمَّا الإجماع والعقل فهما وإن كانا من الأدلَّة، إلا أنَّهما ليسا من المصادر، بل هما دليلان يقعان في طول المصادر الأصليَّة لا في عرضها. وقد بيَّنا ذلك في محلٍّ سابق.

وهكذا يتَّضح أنَّ العلم الديني الاجتهادي هو مرتبةٌ من العلم ومحاولةٌ لاكتشاف الدين أو موقفه من القضايا التي يُتوقَّع أن يكون له موقفٌ منها على ضوء الأدلَّة الأربعة المقرّرة في المنهج الاجتهادي. ولكن لا ينبغي أن يغيب عن الذهن أنَّ العلم الاجتهادي محاصرٌ بحدود إمكانيَّات استفادتنا من الأدلَّة وقدرتنا على توظيفها، كما هو محاصرٌ بقانون احتمال الخطأ، ومحاصرٌ أيضاً من جهةٍ ثالثةٍ بحدود قدراتنا الإدراكيّة التي وإن كانت موصولةً بالعقل المشترك ومعتمدةً عليه، إلا أنَّها موصولةٌ به ضمن نطاق قوانا الإدراكيّة وقدراتها. وعليه فإنَّ علمنا الديني هذا علمٌ اكتشافيٌّ قد يخطىء وقد يصيب وهو حجَّة، إلا أنَّ حجيَّته لا تؤهِّله لتعميم نتائجه لتكون بمثابة العلم الديني من المرتبة الأولى. وهو محاولةٌ قد تنسخها محاولةٌ جديدةٌ أو تجعلها أكثر غوصاً في الأعماق وأشدّ وضوحاً أو خفاء. ولذلك كلِّه فإنَّ العلم الديني ممكن، ولكنَّه تدريجيٌّ وممكنُ الخطأ، وبالتالي لا يَسدُّ الباب أمام الاجتهادات اللاحقة ولا يسحب منها مشروعيَّة التعبير عن ذاتها. ويبدو لي أنَّ هذا المعنى هو المراد من شعار فتح باب الاجتهاد في غياب المعصوم، الأمر الذي أرسى أركانه النبي (ص) ومَنْ بعده من أوصيائه ليتاح للأجيال تحديد موقف الشريعة من الوقائع التي تحبل بها الأيام والليالي، وفق أصولٍ وقواعدٍ منظمةٍ في منهجٍ اجتهاديٍّ واضح المعالم.

سمات العلم الاجتهادي الخاص

ربما يمكننا حصر أهمّ سمات العلم الاجتهادي في ما يأتي:

1 - يعتمد العلم الاجتهادي الخاصّ على الكتاب والسنة، بوصفهما معيارين أساسين ونهائيين لكلّ المواقف الاجتهاديّة. والعقل والإجماع لهما دورهما الذي يؤديّانه وفق الأسس التي تحدَّثنا عنها في ما تقدَّم.

2 - الأصول والقوانين العامَّة التي تسمح أو تُنظِّم عمليّة الاجتهاد بمعناها العام تُعدّ قوانيناً للاجتهاد بمعناه الخاص، ولكن يبقى لكلِّ عمليةِ اجتهادٍ منطقها الخاصّ الذي يدير وينظّم حركتها. فعلم الأصول وما يشتمل عليه من قواعد وقوانين يمثّل منطقاً خاصاً للفقه، ويلعب دور المنطق الذي هو قوانينٌ لتنظيم عمليّة التفكير في الميدان الأرحب. وكما نحن بحاجة إلى منطقٍ خاص ينظم الاجتهاد في الفقه، كذلك نحن بحاجة إلى منطقٍ ينظم الاشتغال الاجتهادي على الدين في مجالاته الأخرى التي لا تستغني عن ضوابطٍ خاصَّة بها، ولا يمكنها أن تكتفي بالمنطق بما هو مجموعةٌ من المعايير الناظمة للفكر بشكلٍ عام.

العلوم الاجتهادية الخاصة

ينطبق التعريف الذي ذكرناه للاجتهاد الخاصّ (الفقه) على سائر العلوم الاجتهادية التي تعمل في إطار الدين وتجعله محوراً لاهتمامها، وهي كما قلنا تحتاج إلى منطقٍ خاص بها قد يختلف من علمٍ إلى آخر. ولسنا فعلاً بصدد بيان كلٍّ منهما على حدة وشرح حدوده، وإنما نكتفي بالإشارة إلى هذه العلوم الاجتهادية بما هي مجالاتٌ يجمعها عنوانٌ مشتركٌ سواءً أكان الموضوع أم الهدف أم المنهج.

1 - العلم الإلهي بالمعنى الأخص، وهو العلم بالله بواسطة الأدلَّة الأربعة المشار إليها وهي الكتاب والسنّة والعقل والإجماع. ومن متفرِّعات هذا العلم ما يتعلّق بأصول النبوّة والإمامة والمعاد، وأمَّا العدل فهو من العلم الإلهي بالنظر إلى كونه صفةً من صفاته تعالى.

2 - الكلام الإسلامي بمعناه الخاصّ وهو المستنبط من الأدلَّة الأربعة بطريقةٍ اجتهاديّة.

3 - الفلسفة الإسلامية بمعناها الخاص، وهي العلم المستنبط من الميتافيزيقا بالطريقة المعروفة للاستنباط.

4 - علم التفسير وهو محاولة اكتشاف مراد الله تعالى من كلامه، وكذلك يشمل محاولة فهم مراد المعصومين في ما روي عنهم من أقوال. وتتسع دائرة هذا العلم لتضم إلى حدودها المعاني المحتملة من هذه النصوص.

5 - علم الفقه وقد تقدّم الكلام عنه وأوضحنا حدوده من خلال الحديث عن بعض ما يحيط به.

6 - علم أصول الفقه وهو العلم الآلي الذي ينظّم عملية الاجتهاد في الفقه وفي غيره أحياناً من خلال الاستناد إلى الأدلَّة الأربعة. وهو في أهم أبعاده يتولَّى بيان ما يصحّ الاستدلال به وما لا يصح.

العلم الديني بالمعنى الأعم

ونطلق على هذا العلم الديني وصف الأعم بالنظر إلى أنَّ الدين بما هو دينٌ لا يلتزم بشكلٍ أوّلي أمر هذه المعارف ولا يتولَّى تعليمها ولا ترويجها. ولكنه يتصدَّى لهذا الأمر بالعرض، ومن حيث إنَّه مظهرٌ من مظاهر كمال الله وتماميَّته، ومن هنا، يتصدَّى الدين لتوضيح بعض الأمور التي تكشف وجوه النظام في عالَم الإمكان أو تساعد على تحقيق الانسجام بين أجزائه.

وبعبارةٍ أوضح: دور الدين من حيث هو دينٌ لا يؤدَّى، إلّا إذا تصدّى الدين لمهمة توضيح بعض الأمور التي تدخل في دائرة اختصاصه وتحقّق أهدافه وغاياته. وأمَّا في الدائرة الثانية وهي دائرة العلم الديني بمعناه الأعم، فالهدف هو تقريب الكائنات العاقلة من ساحة العناية الإلهية، وتحقيق الانسجام بين النظام الفردي للكائنات وبين النظام الأحسن القائم في كيان العالم بأسره.

بيان إمكان العلم الديني العام

العلم من حيث هو علمٌ كائناً ما كان، يتوفَّر على بنيةٍ من الأنظمة، والعلاقات، والقواعد، والفرضيَّات، والاستدلالات، والمسائل، والحلول والاكتشافات والاستنباطات. والكائنات العاقلة المكتشِفة والحاملة للعلم والمعرفة، لا تتمتَّع بالعلم ولا تناله في مرتبة ذاته؛ أي ليس هو ذاتيٌّ من ذاتيَّاتها. وتدرك هذه الموجودات العاقلة عدم كون العلم ذاتياً لها وتؤيد التجربة والبرهان ذلك أيضاً.

وفي نظام الممكنات لا يتمتّع سوى المعصوم الذي جعله الله واسطةً في هداية المخلوقات،  بالعلم اللَّدُني المكتسب بالفيض دون حاجةٍ إلى توسيط النظر والفكر.

وعليه يمكن القول أنَّ الكائنات العاقلة العادية تنال العلم وتحصل عليه من طريقين:

أحدهما: داخليٌّ يوصل هذه الكائنات إلى العلوم والمعارف من خلال الفطرة والاستدلال معاً، أو من خلال أحدهما.

ثانيهما: الطريق الذي فتحه الله في وجه الممكنات، وهو طريق من اختارهم الله واسطةً بينه وبين المخلوقات. ويُسمِّي الفلاسفة هؤلاء الوسائط بالعقول، وفي الدين والنصوص الدينيَّة يسمى هؤلاء بالمعصومين وهم: الأنبياء وأوصياء الأنبياء (ع). وعلى رأسهم نبينا خاتم الأنبياء (ص) ويليه في الفضل المعصومون الأربعة عشر (ع) كما يعتقد الإماميَّة. ويتمتَّع هؤلاء مضافاً إلى علمهم بالكتاب بالعلم اللَّدُني وغيره من الكمالات التي تجعلهم في صدر عالم الممكنات وفي أعلى قبّته.

وعلى ضوء ما تقدّم، يتّضح البرهان المثبت لإمكان العلم الديني بالمعنى العام. وهو العلم الذي لا يهدف منه إلى بيان ماهيَّة الدين وحقيقته، ولم يخصص ذلك أيضاً. ولكن هذا العلم من اللوازم التكوينيَّة التي تحف بالأغراض التشريعيَّة وتساعد على تحقيقها.

تقرير البرهان على إمكان العلم الديني العام

يمكن تنظيم البرهان المشار إليه آنفاً على النحو الآتي:

إنَّ الدين يهدف إلى سَوْق البشر والأخذ بأيديهم نحو الله [سواءً أكان هذا الأخذ بمعنى الهداية أم كان بمعنى السَّوْق والقيادة.] وهذا الأخذ بالأيدي نحو الله مساوٍ ومتوازٍ مع التطوّر المعرفي في نظام الكائنات.

وعليه يجب أن يتوفر في الهداة المعصومين كمالاتٌ تتناسب مع كمالات نظام عالَم الإمكان. بل يجب أن يكون ما يتوفَّر لهذه الموجودات من كمالات أرقى مما في غيرهم من موجودات عالم الإمكان. والأمر عينه يصدق في حقّ كتاب الله الذي يجب أن يكون جامعاً لمراتب العلم والهداية. ويجب أن تظل هذه الهدايات وهذه الكمالات متوفِّرة ومتاحة ما لم تمنع من توفرها الموانع وتحجبها الحواجب، وهذه الهدايات مستودعة على نحو الإجمال في النصوص ولا بدَّ من أن تبقى ما بقي الإنسان محتاجاً إلى الهداية، وعلى نحو التفصيل عند المعصوم الذي إمَّا أن يكون حاضراً بين الناس، وإمَّا أن يغيب لأسبابٍ تدعو إلى غيابه مع تعلُّق الآمال بعودته وظهوره من جديد.

أسلوب استخراج العلم الديني العام من الدين

لم يكن الفقهاء في محاولتهم تنظيم قواعد العمل الاجتهادي بدعاً بين العلماء، ولا فنُّهم بدعاً بين العلوم والفنون. بل إنَّ كلّ العلوم تحتاج إلى منهجٍ ينظّم عمل الباحثين فيها ووجوه اشتراك العلوم في المنهج كثيرةٌ على الرغم من الاختلاف في بعض التفاصيل والخصوصيَّات. وقد بيَّنا في محلّ آخر ما يصلح ليكون منهجاً عاماً للاجتهاد. ربما يكون بعض ما ذكرنا في ذلك المحل صالحاً بوصفه منهجاً لاستخراج العلم الديني العام أيضاً. ويمكن تلخيص أهم ما أسسناه في ذلك المحل في النقاط الآتية بوصفها مراحل لا بدَّ من طيّها لاستخراج العلم الديني العام من الدين:

1- تحديد مسائل العلم المستهدف وتحديد مفهومٍ جامعٍ بين هذه المسائل للبحث حوله.

2- الرجوع إلى النصوص الدينيَّة للنظر فيها واكتشاف ما يمكن أن تقدَّمه حول هذا العنوان الجامع.

3- التحقيق في الكتب والأسانيد على المباني المتاحة كافَّة كي لا نطرح ما يمكن أن يكون من الدين وفيه ما ينفع لهذا المفهوم الجامع.

4- البحث في أنواع الاكتشافات الممكنة من النصوص الدينيَّة. وتشمل هذه المرحلة ما تقدَّم من المراحل السابقة وتستوعبها.

5و6- وضع النتائج المكتشفة من مجموعةٍ من النصوص وضمّها إلى بعضها، ومقارنتها بما يكشف أو يمكن اكتشافه من مجموعةٍ أخرى من النصوص.

7- عرض النتائج التي تمَّ اكتشافها من النصوص جميعاً على كتاب الله وعلى السنة القطعية الصدور. كما يحصل في الفقه حيث تعرض النتائج التي يتوصل إليها الفقيه على كتاب الله ليقبل منها ما يوافقه ويُردُّ ما يخالفه. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا العرض يتم على صعيدين وفي حالتين هما: حالة التعارض بين النصوص المستفاد منها، وحالة الرغبة في تثبيت النتائج حتى لو كانت النصوص غير متعارضة.

8- تحرير جهاز المعرفة من تأثير القسم الاكتسابي لهذا الجهاز؛ حيث إنَّ هذا القسم المركَّب من العقل والحس الخاصين يعيقان في بعض الأحيان عن قبول بعض النتائج العلميَّة. وهذه الإعاقة موجودةٌ في العلوم العادية؛ ولذلك لا بدَّ من تحرير الجهاز المعرفي من كلّ ما يعيقه عن قبول النتائج الصحيحة. وهذا ما يحصل في الفيزياء الذي هو علمٌ تجربيّ في قسمٍ كبيرٍ منه، فإنَّ إجراء بعض التجارب أو التفكير فيها متوقفٌ على تحييد بعض النظريَّات ولو بشكلٍ مؤقت. والأمثلة على ذلك كثيرة منها بعض التجارب على الطاقة وحالاتها ومنها حالة نقد القانون الأول من قوانين ميكانيك نيوتن الذي يسمى بقانون Inertia (القصور الذاتي).

وعلى أيّ حال، تشير هذه المرحلة إلى ضرورة إقامة القوانين والاكتشافات العلميَّة على معاييرٍ واضحة المعالم عامَّة، ليسمح ذلك بتعميم القوانين حتى لو كان مأخذها خاصاً، دون أن يؤدي إغفال بعض النظريَّات العلميَّة إلى الإخلال ببنية الدليل ونظامه.

نظريّة امتناع تجريد الحسيَّات عن الأمور العقليَّة

لا يبدو أنَّ نظريَّة العلم الديني تصل إلى ما نريد لها من الوضوح والجلاء دون تسليط بعض الأضواء التكميلية عليها، ولهذا الغرض نرى ضرورة الحديث عن أمورٍ متمّمة ثلاثةٍ هي ما يأتي تباعاً:

أولاً: التجريد عن النظريَّة

لقد ساد في بعض المراحل من تاريخ فلسفة العلم في الغرب وهي فترة أوج المذهب التجريبي، ساد الاعتقاد بإمكان تفريغ التجربة من النظريَّة، وازداد هذا الاعتقاد عمقاً ورسوخاً مع المدرسة الوضعيّة المنطقيّة، ولكن بيَّنت التجارب الواقعيّة للعلم عدم إمكان الفصل بين التجربة والنظريَّة وتجريد التجربة عن النظريّة. وممن رفع لواء النقد في وجه هذه الرؤية واتهم المعرفة الحسيّة بالطرق في النظريَّات فيلسوف العلم المعروف كارل بوبر.

وأما في الفلسفة الإسلاميَّة فالموقف السائد  هو أنّ التجربة تركيبٌ بين الحس والعقل. وقد ميَّز الفلاسفة المسلمون بين الحسّ والشهود وبين التصوّر والتصديق، كما ميَّزوا بين العلم الحضوري والعلم الحصولي، دون أن يؤدِّي ذلك إلى الفصل بين هذه المجالات وتشتيتها وقد توصّلتُ في بعض دراساتي إلى عدم إمكان وجود قضيَّةٍ حسيّةٍ محض، وبالتالي لا يمكن لأيِّ موضوعٍ حسيٍّ خالصٍ أو موضوع كذلك أن يعرف إلى عالم القضيَّة طريقاً؛ وذلك أنَّ الأمر الحسي عندما يُجعل موضوعاً في قضيَّةٍ أو محمولاً فيها عليه أن يغادر حسيَّته الخالصة ويلبس لبوساً عقلياً، وإلّا لا يسمح لها بالدخول إلى حرم القضيَّة.

حلُّ مسألة التجريد عن النظريَّة

وفق هذه الرؤية نقترح تبديل التساؤل من إمكان «تجريد الأمور» عن النظريّة، إلى التساؤل عن إمكان تجريد المعطيات الحسيَّة الواقعة جزءاً في قضيَّة عن العناصر والعلاقات والصور العقليَّة. وموقفي الذي توصَّلت إليه في نقد جهاز العقل، وربَّما يكون تكميلاً أو تعميقاً للموقف المعروف في الفلسفة الإسلاميَّة في عصورها العشرة، هو: أنَّ تجريد القضيَّة، حتَّى لو كانت حسيَّةً، عن العناصر والعلاقات والصور العقليَّة، غير ممكنٍ كما أنَّ تجريد مورد السؤال والبحث عن القضيَّة غير ممكن. وأمَّا تجريد الشيء أو الدليل أو النظريَّة المكتسبة من النظريَّات المكتسبة التي لا تمثِّل أساساً ومنطلقاً للأمور المذكورة، فهو ممكنٌ ومتاحٌ.

ولكن لا بدَّ من الالتفات إلى أنَّ بين الإمكان والوقوع عموماً وخصوصاً مطلقاً، من جهةٍ، وعموماً وخصوصاً غير مطلقٍ من جهةٍ أخرى. وبين إمكان التجريد ووقوعه عقبات كأْدَاء لا بدَّ من اقتحامها. وعليه، إذا كان المراد من النظريَّة القائلة باستحالة التجريد عن النظريَّة وأنَّ الذهن والعقل الإنساني يتعامل مع الأمور وينظر إليها من خلال عدسة النظريَّة، حتَّى لو كانت هذه الأمور حسيَّة. إذا كان المقصود من هذه النظريَّة هو: عجز الذهن أو الجهاز المعرفي البشري عن السير في مسيرة الاكتشاف العلمي، مع التحرُّر من النظريَّات والانعتاق من أسرها. فإنَّ هذا الكلام يبطله ملاحظتنا بالوجدان، قدرة العقل على اختراق حصار النظريَّات، أو بعضها على الأقلّ والعمل على الكشف العملي بعيداً عن بعض النظريَّات.

وقد يُقبَل هذا الكلام إذا أُريد به عدم قدرة الجهاز المعرفي على التحرُّر من مقتضيات العقل المشترك وإلزاماته. وكذلك يصحّ إذا كان المراد من النظريَّات التي لا يمكن التحرُّر منها هو تلك التي تمثل أساساً ومرتكزاً تقوم عليه أحكام الموضوع محلّ البحث والدراسة.

العقل المشترك أساساً وهادياً

كائناً ما كان موضوع البحث ومتعلّقه، فإنَّ الجهاز المعرفي لا يخلو من قضيةٍ ترتبط بمتعلَّق المعرفة العام. وهذه القضايا التي تشمل القضايا الحسيَّة أيضاً، على أنواع:

القضايا العامَّة المشتركة التي يتشكَّل منها العقل: النظري، والعملي، والأخلاقي، والحسي.

القضايا الأساس التي يقوم عليها متعلِّقا البحث والاستدلال والتقويم.

القضايا الهادية التي تضفي على موضوع المعرفة وضوحه، سواءً أكان هذا الوضوح افتراضياً، أم واقعياً وحقيقياً. كالقضيَّة التي تبيِّن لنا أنَّ الجسم هو الشيء الذي يشغل حيزاً من المكان. أو القضيَّة التي تخبرنا بأنَّ الزمان هو ذلك الشيء الذي يصلح لقياس الحركة، أو الذي يُقاس به مكث الشيء في مكانٍ محدَّد. أو مثل تلك القضية التي تكشف لنا افتراضياً عن أنَّ الجوهر الفرد (الجزء الذي لا يتجزأ) هو: الجسم الساكن في مكانٍ أو المتحرك الذي لا يقبل القسمة، ولا يمكن نسبة الطول والعرض أو العمق إليه. نعم لا يمكن تجريد هذه الأشياء وما شابهها عن القضايا المعرِّفة لها؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى استحالة تصوُّر الأشياء وعدم إمكان فهمها.

ثانيا: خواص العلم الديني[3]

إذا افترضنا استخراجُ علمٍ من العلوم كالفيزياء أو الكيمياء أو الميكانيك من النصوص الدينيَّة، فإنَّ هذه العلوم على الرغم من اتحادها مع نظرائها من العلوم غير الدينيَّة (لأنَّ المفروض توفُّر كلِّ علمٍ على بنية خاصَّة به، ولا يعني استخراج العلم من النص الديني اختلافه في البنية مع نظيره، إلا في منظومة علاقاته وفي خواصّه وفعاليّته؛ وذلك لأنَّ مهمَّة العلم العاديّ تنتهي بانتهائه إلى غايته وهي الاكتشاف. وأمَّا العلم الديني فإنَّه مشبعٌ بروح الدين التي تضجّ بالرغبة أوالترغيب باستكمال الإنسان، والسير به نحو الدخول إلى ساحة العناية الإلهيَّة. ولتوضيح الفكرة نستعين بمثالٍ محدّدٍ يلقي الضوء على ما نرمي إليه.

إنَّ علم الحياة يسعى في سبيل فهم الحياة من خلال التعرّف على: شروط الحياة وأقسامها، وعلاقاتها، وإمكاناتها، وخواصها؛ بهدف توضيحها وبيانها من خلال النظريَّات. وهذه الأفكار جميعاً حتَّى لو أصابت الواقع، فإنَّها لا ربط لها بالهدف الأصيل للإنسان وهو السعادة عن طريق تحقيق القانون الأخلاقي. وأمَّا علم الحياة المستنبط من النصّ الديني، لا يمكن أن يكون محايداً تجاه هذا الهدف، بل إنَّه يربط كلَّ هذه الأمور والأفكار بالمبدأ والمعاد، وهذا ما نشاهده في بعض النصوص الدينيّة التي تتضمن مثل هذه الأفكار، ككتاب «توحيد المفضل» الذي أملاه عليه الإمام الصادق (ع).

ثالثا: مراتب المعاني في العلم الديني

إنَّ العلم الحاصل بواسطة نظام الأسباب والمسببات وهو النظام المعتمد في العلوم البشريّة، لا يمكنه الانعتاق من أسر النظريَّات ولا استيعاب المعاني الخارجة عن حدودها، إلا إذا أُبطلت هذه النظريَّات، أو حُدَّت فعاليتها بحدودٍ خاصة. بل لا يمكن للعلم أن يشتمل على المعاني التي تنتمي إلى ماضي العلم نفسه، فإنَّ طبيعة العلم تنوء بالماضي، وتطرد المعاني القديمة، وتستبدلها بما يتناسب مع إطارها الجديد.

وهذا الضيق والعجز عن استيعاب ما مضى، أو ما سوف يأتي نتيجةً من نتائج الحدود التي يقبع الكائن الإنسانيّ داخلها، وأثراً من آثار عدم عصمته عن الخطأ. ومن هنا، فإنَّ ما يدفع العلم إلى التمسك ببعض الماضي ليس قوةً وبسطةً فيه أو في جسمه، بل هو بدافع الرغبة في التمسّك بشيءٍ كائناً ما كان، لعجز العلم الانطلاق من الصفر.

هذا بالقياس إلى الماضي، وأما حول المستقبل فإنَّ العلم عاجزٌ عن استيعاب، أو احتضان أيِّ جديدٍ في العلم فهو ابن اللحظة، إلا بالحدود التي تسمح بها أطره ومنطلقاته.

وعليه، فإنَّ علومنا ونظريَّاتنا ليست جمعيَّةً ولا شاملة، والنصوص الحاملة لها والمعبّرة عنها لا تملك القدرة على تقديم ما لا يتناهى. وأمَّا العلم الديني الذي يمكن استخراجه من النصوص الدينية، فإنَّه يكون دائماً مشبعاً بروح النصوص الداعمة له، ألا وهي روح العلم اللَّدُني؛ ولذلك فهذا العلم من هذه الحيثيّة، لا من حيثيّة انتسابه إلينا، يحمل طاقات هذه النصوص وإمكانيَّاتها غير المتناهية.

إذاً، العلم الديني أو استنباطنا من النصوص الدينيَّة يتمتع بمجموعةٍ من الحيثيَّات المقوِّمة له التي تضفي عليه ماهيَّته الاجتهادية.

أولاً: حيثيَّة إمكان استخراجه من النص الديني.

ثانياً: حيثيَّة إمكان استنباطه من النص الديني، ولا يخفى أنَّ الحيثيَّة الأولى ممهدةٌ للثانية؛ وذلك لأنَّ الاستنباط هو المرحلة الأخيرة في النظريَّة الاجتهاديَّة. والاستخراج يشير إلى المعاني الممكنة. وأمَّا الاستنباط، فهو يشير إلى المعاني المقصودة لصاحب النص، وهو الشارع في محلِّ كلامنا وذلك على ضوء القواعد والمعايير المعتمدة في إسناد النصّ واكتشاف دلالته.

ثالثاً: حيثيَّةُ مطابقة النظريَّات المكتشفة لنفس الأمر الذي هو مضمون كلام الله، في كتابه وكلام المعصومين.

رابعاً: حيثيَّة مراتب المطابقة، ومدى شمول النظريات بالنسبة إلى تلك المراتب. وربما نكون في غنىً عن الإشارة إلى أنَّ هذه الحيثيَّة تتوقَّف على ما سبقها من الحيثيَّات الثلاث المتقدمة.









[1]*ـ  باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة والجامعة، إيران.

- كيهان انديشه، الأعداد: 30 – 36 و45 و46 و53 و54 و56 و57.



[2]- انظر: مجلة نقد ونظر، السنة الرابعة، العدد 1و2، شتاء ربيع 1376-1377، ص121.



[3]-   وهو العلم المستنبط أو الممكن استنباطه من ألنص الديني.