البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد العقل الأوروبي

الباحث :  عمر الأمين أحمد عبد الله..
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  13
السنة :  السنة الرابعةــ 1440هـ خريف 2018م
تاريخ إضافة البحث :  October / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  831
تحميل  ( 451.845 KB )
يركّز هذا البحث على تفكيك البنية المعرفيّة والحضاريّة للعقل الأوروبي ويُبيّن الاختلال الأنطولوجي الذي أصابه بسبب إنبنائه على الفصل الحاد بين العلم والإيمان الديني.

وفي سياق بحثه يحاول الكاتب والمفكّر السوداني البروفسور عمر الأمين أحمد عبد الله تقديم منظوريّةً معرفيّةً إسلاميّةً تُعيد وصل ما قطعه العقل الغربي من أواصر الوحدة والتواصل في الحضارة الإنسانيّة الحديثة.

“المحرر”



لو تجاوزنا عن اختصاص العقل باللّغة العربيّة وبيئتها، ثم نظرنا إلى العقل بوصفه خاصيّة ارتفاقٍ بالإنسانية إلى مقامٍ علميٍّ أسمى، فذلك يُطلق سؤالاً حاراً عن مبرِّرِ نقصان مكوّنٍ في أصل الإنسان الأوروبي يُخرجه من رتاج هذه المنزلة المتاحة لمطلق الإنسان.

وأظنّ أنّه بعد أن بات واضحاً أنّ العقل ليس تكويناً بايولوجياً في الإنسان، وهو ليس الجهاز الذي يقوم بالعمليات التفكيريّة، لكنّه يبدو كخيارٍ مميزٍ عن خيارات حيويّةٍ إنسانيّةٍ متعددة، يتميّز عنها لكونه خياراً حاكماً لمسارات ترقٍّ إنسانيٍّ عبر طريق العلم والمنهج العلمي. فاستنتاج الآخر المقابل لهذه النتيجة، أن تدبير الإنسان وتفاكيره المنحرفة هي التي أقعدت به ومنعته عن ارتياد آفاق هذا الترقّي. وهنا تعود بنا الدائرة لاتهام أوروبا بحكم قيادها المعرفي للعالم. لكن لا بدّ أن يأتي سؤالٌ عن إمكانيّة تفادي وقوع أوروبا خارج خيارات العقل. فهل يمكن لأوروبا استجلاب مفقودها العقلي هذا؟ أم أنّ الإنسان الأوروبي هو إنسانٌ ناقصُ التكوين من أصله؟ وهذا سؤالٌ يفرض علينا أن نقوم بفحص أوروبا ذاتها كمكوّنٍ إنسانيٍّ من كافة أبعاده الطبيعيّة والتاريخيّة كي نتمكن من تحرّي إجابةٍ عن هذا السؤال الهام، والذي يبدو أنه يستبطن حقيقة وجود عجزٍ ذاتيٍّ أوروبيٍّ موروثٍ ومقيمٍ ومتأصلٍ يُبعد الإنسان الأوروبي عن ارتياد حضرة العقل. وهذا ما أودّ أن نتبيّن أمره خلال هذا الفحص:

أوروبا.. كم وكيف وما هي؟

دُخولنا الفاحص على أوروبا سيكون دخولاً تأويلياً عبر أربع نوافذ. تطلّ النافذة الأولى على جغرافيتها والثانية على تاريخها والثالثة على المميزات البارزة لنسقها الحضاري. أمّا النافذة الرابعة فستفتح مباشرةً على ماهيّتها شكلاً ومحتوى، أي تبحث شكلانيّة تكوينها، وكذلك حقيقتها البنائيّة التكوينيّة. وهذا بالطبع فحصٌ يطال أوروبا مظهراً ومخبراً.

وستكون إجابتنا عن هذا السؤال من خلال نظرنا من الثلاث نوافذ الأولى. فإذا ما كانت إجابتنا مأخوذةً عن الكمّ الأوروبي منظوراً إليه من نافذة الجغرافيا، فأوروبا هي جزءٌ من اليابسة تفصلها جبال الأورال في حدودها الشرقية عن القارة الآسيوية، ويفصلها البحر الأبيض المتوسط الذي يقع جنوبها عن القارة الأفريقية. لكن الجغرافيا التي تقرّر مثل هذا التقرير هي جغرافيا تقليديّة عفا عليها دهرٌ كبير. خاصةً بعد أن التحقت أميركا الشماليّة وأستراليا بأوروبا فأصبحتا مضافتين أوروبيّتين قلباً وقالباً مما يجوّز ضمّهما إلى جغرافيّتها.

أمّا، كم أوروبا منظوراً إليها من نافذة علوم التاريخ؟ فسنمرّ على وجود أوروبا اللّاحق بتاريخ العالم القديم. فقد كانت أوروبا مجهولةً قدر ما يقارب الثلاثة آلاف عام الأولى، والتي تمثل ثلاثة أرباع عمر أول مركزٍ للحضارة الإنسانية. وقد تمّ تحديد تاريخ هذا المركز بناءً على ما قرّره المؤرخون الأوروبيون أن بدايته كانت في العام 4000 قبل الميلاد. وهذا التاريخ هو ما يعتبره المؤرخون الأوروبيون بداية التاريخ الإنساني على عمومه. وعلى الرغم من أن هذه البداية التي يقول بها المؤرخون الأوروبيين مركوزةً رايتها في القارة الأفريقية بحضارتها الفرعونية النوبيّة القديمة، إلا أنّها كتقريرٍ تعاني من إشكالات ضعفٍ ظاهرةٍ. إذ يعتمد تصنيف المؤرخين الأوروبيين للدولة المصريّة القديمة كبدايةٍ للتاريخ على مفهومٍ يعتمد على حقيقة ظهور الكتابة التي يكتسب بُعدها السجل التاريخي صفة التوثيق الكتابي وهذه عندهم وعند غيرهم مصدرٌ تاريخيٌّ لا خلاف على موثوقيّته. لكنّه يصير عند المؤرخين الأوروبيين الخط التاريخي الفاصل. فكلّ ما هو بعد ظهور الكتابة فهو تاريخ، أمّا ما يسبق ظهورها فهو يمثل عندهم حقبةً تاريخيةً مغايرةً بحسب عدم موثوقية سجلّها التاريخي. فظهور الكتابة يمثّل للمؤرخين الأوروبيين حداً فاصلاً بين ما هو تاريخيٌّ وما هو لا تاريخيٌّ ويصطلحون له مصطلح (prehistoric) وترجمته "ما قبل التاريخي".

فإذا ما نظرنا إلى العام المأخوذ كحدٍّ يفصل بين ما هو تاريخي وما هو قبل تاريخي، أي العام 4000 قبل الميلاد، فهو يتطابق بحسب ما صنّفه المؤرخون الأوربيون مع بداية الدولة المصريّة القديمة، التي يعتبرون بدايتها بفترة حكم الأسرة الأولى ويمثّلها الفرعون مينا الأول. ونلاحظ أن من أهم المميزات والمعالم التاريخية لتلك الدولة، أنّها بدأت بتمكّن هذا الفرعون من توحيد دولتين كانتا تمثلان الوجهين البحري والقبلي، وعاصمته تقع في المنطقة المعروفة الآن بمنطقة الجيزة حيث الإهرامات الثلاثة الكبيرة للفراعنة خوفو وخفرع ومنقرع.

الناظر بحذاقةٍ مباحثيّةٍ لهذا التصنيف يلاحظ أنّه تصنيفٌ ذو ميولٍ واضحةٍ لا تتمتع بمنطقٍ يمكن قبوله دون أن يخضع لمساءلات. إذ يظهر فيه عسفٌ في التراتيب التاريخيّة لا يصمد أمام أيّ محاولةٍ لاستنطاق الدوافع التي تقف خلفه. بل سرعان ما يتكشّف ويتعرّى أمام أولى محاولات الاستنطاق. فمقولةُ توحيد دولتي الوجهين القبلي والبحري لا يبدو أنّها تحتوي على منطقٍ يشير إلى بدايةٍ تاريخيّةٍ لظهور دولة، بل يفهم بداهة أنّه تاريخٌ لتوحيد دولتين، ما يجعله مرحلةً لاحقةً لوجودٍ سابقٍ لدولتين منفصلتين لم يحن إلى ذلك الحين أوان توحيدهما. فإذا ما لاحظنا أن تلكما الدولتين لم تعدما صفة استعمال الكتابة، فذلك مما كان يفترض فيه أن يدخلهما كليهما في حيِّز التاريخ، فيتزحزح بالتالي الحدّ الفاصل بين التاريخ وما قبل التاريخ الذي يقترحه المؤرخون الأوروبيون إلى زمنٍ أكثر بكورةً.

إضافةً إلى عسف التراتيب التاريخية، فذاتُ المفهوم الذي يعتبره المؤرخون الأوروبيون كمعنىً لمصطلح الدولة المصريّة القديمة يعاني هو نفسه من داء ضعف ضبط المصطلح. إذ نلاحظ أن المؤرخين الأوروبيين يأخذون الدولة المصرية القديمة بفهمٍ لمصر أكثر حداثةً ومعاصرةً لا يتطابق مع حقيقة هذا المصطلح التاريخية. وقد لا يتيح تاريخ سبك المصطلح واستعماله في علوم المصريات، ذلك الذي وقع متزامناً مع حملة نابليون بونابارت لغزو مصر، عذراً يمكن القبول به كسببٍ لظهور خلل في تصنيفهم للمصري بالمفهوم المعاصر. فالوجهان القبلي والبحري لا يمثلان معاصر ما هو معروفٌ بالدولة المصريّة التاريخيّة. إذ إن وجودهما التاريخي يفرض أن يتمّ الأخذٌ بالمفهوم التاريخي للنوبة السفلي والتي تشمل الحدود المصريّة الحالية والنوبة العليا التي تمتد إلى ما هو خارج حدود مصر المعاصرة إلى مقرن النيلين الأبيض والأزرق في ما يعرف حالياً بدولة السودان. وذلك بطبيعة الحال يقود إلى نقض عرى مقولات من شاكلة القول أنّ الأسرة التي صنّفها المؤرخون الأوربيون كأسرةٍ أولى ليست هي الأسرة الأولى تماماً، ولا هي الأسرة التي تشكّل بداية المملكة المصرية بمعناها التاريخي الحقيقي. فالمملكة المصرية تقوم تاريخياً على مركزٍ دينيٍّ موحّدٍ للإله الكبير (آمون رع)، الذي يُعتبر موقع معبده الشهير هو المرجعية التاريخية للدولة المصرية بمفهومها التاريخي الحقيقي وبجغرافيتها الممتدة من النوبة العليا في أواسط ما يعرف الآن بالسودان إلى مصبّ نهر النيل في البحر الأبيض المتوسط. ومركز الإله آمون رع يقع في جبل البركل في قلب النوبة العليا، وتاريخ تلك الدولة تشير وثائقه المكتوبة بلغةٍ هيروغلوفيةٍ واضحةٍ إلى ما يزيد بألفي عام عن مملكة الفرعون مينا الأول، أي قبل العام 6000 قبل الميلاد. 

لكن يبدو أنّ هذه الصورة المغايرة لما دفع به التصنيف التاريخي الأوروبي تُوفّر أرضيةً صالحةً لحقيقةٍ لا تقع موقعاً حسناً في المخيّلة الأوروبيّة، أنّ أصول ومرجعية الحضارة المصرية النوبية هي أصولٌ منداحةٌ من أواسط حوض وادي النيل ومتجهةٌ إلى الشمال، الأمر الذي لا يعجب المؤرخين الأوروبيين ويحملهم إلى إهمال مثل هذا التحقيق التاريخي، فيلجأون إلى افتعال أطرٍ تاريخيةٍ وجغرافيةٍ للمملكة المصرية القديمة في منطقة الجيزة الحالية كي يتم اعتبارها مرجعيّةً تاريخيةً، يمكن أن يضعها موقعها القريب من القارة الأوروبية في تصوّر وإدعاء أن أصولها تقع في الميثولوجيا الأوروبية القديمة. ويقولون تحديداً أنّها حضارةٌ تابعةٌ لحضارةٍ أوروبيةٍ ما زالت مفترضةً تفتقر إلى الشواهد التاريخية أو الآثارية لقارةٍ يقولون أنها مفقودةٌ تسمّى (قارة أطلانتس) وردت فقط على لسان المعلم الأثيني أفلاطون. وهذا ما يعنون به مباشرةً أن الحضارة المصريّة أتت منداحةً من الشمال إلى الجنوب، أي أنّ أصولها ومرجعيّتها التاريخية هي مرجعيةٌ أوروبية. وهذا زعمٌ لم يستطيعوا منذ أفلاطون إلى يومنا هذا أن يوفروا له أيّ شواهد تاريخيةٍ من أيّ شاكلةٍ كانت، درجة أن وقع أصحابه من المؤرخين الأوروبيين لقمةً سائغةً في فك المؤرخ الأفريقي السنغالي الكبير الشيخ أنتا ديوب، فهشّم وكسّر مباني وهياكل أطروحاتهم، التي لم تقوَ على الصمود كثيراً أمام باهر منطق التحقيق التاريخي الرصين.

لكن وحتى ولو بنينا على ما يبدو أنّه متوفرٌ ضمن ما هو معروفٌ عند الأوربيين ببداية التاريخ بحسب مرجعيّة ما بعد ظهور الكتابة في حضارة حوض وادي النيل، فالقارة الأوروبية كانت وحتى فترة ما قبل الألفية الأخيرة قبل الميلاد يقطنها سكان الغاب، وكان إنسانها الذي يقطنها يعيش إلى حينها فترة ما عرف تاريخياً بالعصر الحجري القديم حينما كانت تسود حقبة ساكني الكهوف. أما بُعيد بدايةِ الألفية الأخيرة قبل الميلاد فقد انتقل إليها، من جزر بحر (إيجة) المتصلة بالحضارة المصرية القديمة عبر البحر الأبيض المتوسط شيءٌ من التمدين مهّد لظهور دويلاتٍ في مدنٍ مثل أثينا وطروادة وأسبرطة ولاحقاً في مقدونيا. اقرأ وراجع البروفسير مارتن برنال «أثينا السوداء» مطبعة جامعة ديوك، سبتمبر 2001م.

أما عندما نماسسُ مصطلح أوروبا خلال النافذة الثالثة لنرى مميزات نسقها الحضاري الذي يحدّد شكلها وملامحها، فأوروبا حينها ستعني مصطلحاً بالغ التعقيد تتسم بالتفرّد والغرابة. فمنذ بروزها كحضارةٍ في بدايات الربع الأول من القرن الأول قبل الميلاد، فقد كانت تعمل بعزمٍ واجتهادٍ على غزو العالم واستعماره. فقد احتل البطالمة اليونانيون مصر وحوضي البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. كما احتل الإسكندر المقدوني شمال أفريقيا وجنوب غرب القارة الآسيويّة حتى بلغت إمبراطوريته في حدودها الشرقيّة نهر السند. ثم تابع الفعل نفسه الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر الذي احتل مصر، وتابع الأمر بقية الأباطرة الرومان الذين حكموا شمال أفريقيا والشام وكثيراً من أجزاء القارة الآسيوية. ثم جاء بعد ذلك الإمبراطور نابليون بونابرت الذي استولى على مصر وأجزاءٍ من آسيا، وانتهى الأمر بالإنجليز والفرنسيين والبلجيك والبرتغاليين والإسبان لاحتلال واستعمار بقية العالمين القديم والجديد.

ويمكننا القول أن ممارسات النسق الاستعماري الأوروبي للعالم قد أسفرت عن تغييرات طالت حتى ملامح جغرافيته. فقد قام الاستعمار الأوروبي بتطهير قارتين كاملتين كانتا مملوءتين بسكانهما تطهيراً عرقياً كاملاً أدى إلى إلحاق تلكما القارتين بالجغرافيا الأوروبية، وذلك كنتيجةٍ مباشرةٍ لإحلال المستعمر الأوروبي لأوروبيين بعد إبادةٍ شبه كاملةٍ لسكانها الطبيعيين. تلكما القارتان هما أميركا الشمالية وأستراليا.

كذلك عانى العالم من فرض أحاديّة حضاريّة تابعة لنوعٍ ما سمّي بالاستعمار الحديث حيث وظّف الاستعمار وكلاءً عملوا بمساعدته على الاحتفاظ بتحكّمه السلطوي على المنوال نفسه لنسقه الحضاري في ما كان يستعمره من العالم استعماراً استيطانياً، أيّ كلّ أرجاء المعمورة خارج أوروبا. لذلك فمصطلح أوروبا وبفضلٍ من استعماريّته أصبح يمتلك خارطة الحضارة الإنسانية على نطاق عالمنا يرسم خطوطها وفواصلها كيفما شاء.

لذلك وعلى أيامنا هذه في بداية العقد الثاني من القرن الحالي والذي يسمّونه القرن الحادي والعشرين، فإنّه حضارياً لا يمكن إخراج اليابان وكوريا الجنوبية وكثيرٍ من دول الهند الصينية عن منظومة الحضارة التي تنتمي إلى أوروبا، بما في ذلك الملحقات كأميركا الشمالية وأستراليا اللتين أصبحتا كما ذكرنا كأنما هما جغرافيا أوروبية أصيلة. ويمكن في هذا الصدد أن نثمّن نجاح القارة الأفريقية في تطهير أرضها من نظامين للاحتلال الاستعماري قام بهما أوروبيون عنصريّون أقاموا دولتين أوربيتين في ما كانا يسميانهما روديسيا الجنوبية ودولة جنوب أفريقيا.

ويقول البعض أن استعمار أوروبا للعالم قد كان خطوةً هامةً في سبيل تحضّره ونقله إلى مصافِّ حضارة القرن العشرين بما أضفته من خيرٍ عميمٍ شمل كافة المجتمعات الإنسانية. وينسى القائلون بمثل هذا الحديث، أن الأوروبيين قد أوقفوا باستعمارهم العالم تجربةً مجتمعيّةً ثريّةً ومتنوعةً، كان من المفترض أن تُؤسس لنماذج ربما تكون ذات اختلافٍ عن صورة الحضارة الأوروبية التي حُملت عليها شعوب المجتمعات العالمية قوةً وتجبّراً. ولنا أن نتوجّه لهؤلاء بالسؤال التالي: ماذا فعلت أوروبا لإلحاق مستعمراتها بحضارتها غير أن رصّتها صفوفاً إما كموردٍ للخامات الزراعيّة والطبيعية، أو سوقٍ لتصريف ما يتم عندها تصنيعه من هذه المواد الخام؟.

وتلخيصاً أقول: إنّ الضبط الجغرافي التاريخي الحضاري الذي عمدتُ على إجرائه لأوروبا قصدتُ منه أن يكون ضبطاً صالحاً للاستعمال حينما أعمد إلى فحص أسباب الاختصاص الأوروبي بأزمات العلم والمعرفة والمنهج والعقل، وهو كما سترون سيكون ذا فائدةٍ جمّةٍ عندما نعمل على توصيف الإنسان الأوروبي وتحديد موقعه من منظومة العقل البشري بمفهومها العلمي الصحيح.

ماهيّة أوروبا وكينونتها:

ونحن نطلّ من النافذة الرابعة كي نرى ماهيّة  أوروبا وكينونتها، فإننا سنواجه صعوبة البحث عمّا كان يسود القارة الأوروبية قبل الألفية الأخيرة قبل الميلاد وذلك لقلة وربما انعدام الآثار المادية لما يمكن أن نعتبره شواهد لحياة تجمعات إنسان الغاب الأوروبي. لكن يمكن تجاوز هذه الصعوبة من خلال استنطاق بواكير الحضارة الأوروبية في أسبرطة وأثينا وطروادة، ثم استنتاج معلومات عن شكلانيتها مما حكته الميثولوجيا الإغريقية خاصة منظومتى الشاعر الإغريقي هوميروس الإلياذة والأوديسّا.

الملاحظة الأولى شديدةُ الوضوح مما لا تحتاج إلى كثير تمعّن، وهي أن هنالك اختلافاً بين ما هو موجودٌ في حياة حوض وادي النيل وما هو موجودٌ في أوروبا. إذ تشير الشواهد التاريخيّة لحياة حوض وادي النيل إلى وجود حالة تمدّنٍ باكرة، من أهم مواصفاتها وجود صناعاتٍ معماريّةٍ وأدوات فخّاريّةٍ رفيعة التقنية، إضافة إلى وجود نشاطٍ زراعيٍّ يوحي بوجود حالة استقرارٍ ومجاوراتٍ مجتمعيّةٍ وادعةٍ ومسالمة، وفي ذلك ما هو واضح الخلاف عما حكته المنظومتان الإغريقيتان. فما يبدو يشير إلى أن ما كان يقع ما بين أثينا وطروادة وأسبرطة هو صنو ما يفعله الحداد بمطروقاته. وذلك بطبيعة الحال لا يخالف حقيقة ما روي في العهود الإغريقية الأولى، ثم ما تلاها في العهد الروماني من حكايا لآلهة الإغريق والرومان من تباغضٍ وتحاسدٍ ومؤامراتٍ وصلت درجة اغتصاب الإله زيوس كبير الآلهة الأوروبية لآلهة أوروبا التي تحمل اسمها تلك القارة المتنافرة المتدافعة تاريخانيتها. واقع حال ما حدث في تاريخٍ مرصودٍ بعد عهود الميثولوجيا الإغريقية هو ما قادنا إلى أن نقرر باستحالة أن تكون تلك الصورة تعبيراً عن حالةٍ عارضةٍ أو منبتّةٍ تختلف عن صبغة بواكير الحضارة الأوروبية التي سادت ما بعد القرن الأول قبل الميلاد. وتتميز هذه البواكير باعتمادها على شخصية أوروبية تتأرجح ما بين النبالة والفروسيّة المقابلة للسيادة أو العبودية المقابلة للجمهور الأوروبي الذي عاش تاريخياً حالةً ثابتةً من القنانة والخنوع السلطوي حتى ليصير الجالس على سدّة الإمبراطورية هو المالك الفعلي لرقاب رعيّته. وذلك يبدو أنه سببُ ومرجعيّةُ ما حدث بعد الاجتماع المديني الأثيني أو الروماني الباكر من قنانةٍ استمرت إلى ما بعد سقوط الدولة الرومانية وتحول السيادة الإمبراطورية التي أصبحت في أيدي النبلاء ملّاك الأراضي. فالدولة في أثينا وروما ثم في دولة النبلاء والإقطاع في العصور الوسيطة يتكون اجتماعها المديني من السادة النبلاء ثم يليهم الفرسان وبعض الملحقين لأداء الخدمات المساعدة المسمَّين بالبرجوازية. وما سوى ذلك لم يكن يوجد سوى أقنانٍ مملوكين بالكامل لسادتهم، أو عبيد تمّ استجلابهم كنتاجٍ للغزو والاستعمار يعملون في خدمة هؤلاء السادة والفرسان. والمجموعتان كلاهما لا تمثّلان مواطنين معترفاً بمواطنتهم الأثينية أو الرومانية أو في دولة الإقطاع والقنانة في العصور الأوروبية الوسطى والمظلمة.

هذه الصورة التي كانت تتمييز بها المواطنة الأثينية ثم الرومانية وما لحق بهما، توفّر نموذجاً يبين التركيبة البنائية للمجمعات الحضريّة الأوروبية. وأتحاشى إطلاق صفة المجتمع على ما أسميته تجمّعاتٍ حضريةٍ أوروبية، ذلك أن التصنيف التأويلي الصحيح الذي يعتمد على منطقٍ مقبولٍ لظهور الكيان المجتمعي يتنافى مع بنائية مثل هذا النوع من التراكيب. لذلك فالفرضية الأولية التي تدفع بها هذه الأطروحة أن المجتمع كصيغةٍ درجت التجمعات الإنسانية على تشكيل هويّتها من خلالها، هو أمرٌ منعدمٌ تماماً في أوروبا، ويوجد بدلاً عنه فقط تجمعات سكانية حضرية فاقدة تماماً للصفة المجتمعيّة.

ولفحص أركان هذه الأطروحة لا بدّ من تأويل مصطلح المجتمع كي نتبين كيفيّة بنائيته الأولية التي ذكرنا أنّها تخالفُ صيغة الاجتماع الأوروبي.

بدايةً، لا بدّ لي أن أذكر أنّني وإلى حين كتابة هذه السطور لم أتوصّل إلى تأويلٍ جازمٍ للمصطلح (مجتمع) كي أتبيّن ما إذا كان يعبّر تعبيراً صحيحاً عمّا جرى ويجري من اجتماعٍ إنسانيٍّ في مختلف مناحي عالمنا الأرضي؟ أم أنه يعاني من استلافٍ أو ضعفِ ترجمةٍ بوصفه يعبّر عن اجتماع شرائحٍ إنسانيّةٍ بعينها؟ وأظن أنّه يستحسن بنا القبول بهذا المصطلح بوضعه الحالي كتعبيرٍ وبصيغته الحالية، وذلك لحين توجهنا بسؤالنا عن تأويل كينونة ومآلات هذا المصطلح لأهل الذكر.

لغةً يعبّر مصطلح المجتمع عن اجتماعٍ أو تجميعٍ. وذلك أخذٌ بتفعيلة الفعل جمع يجمع جمعاً، والنحو بها ناحيةَ تفعيلة استفعل في الفعل اجتمع يجتمع اجتماعاً. وربما يبدو في صيغة الاستفعال استبطانٌ لعملية التكوين التي ربّما ترمز إلى فعل فاعلٍ مستترٍ أو ربما مبنيٍّ للمجهول لكن ذي تأثيرٍ وروحٍ تضفي بسمتها على صفة وطريقة التكوين.

خارج نطاق اللّغة تشير عملية تأويل ما هو متاحٌ من معرفةٍ بالمصطلح إلى أنّ شكل المجتمع وطابعه التركيبي ربما يأخذ شكل المجسّم ذي الثلاثة أبعاد كما هي المباني، إذ يحتوي على وحداتٍ بنائيةٍ ومادةٍ لاصقة لهذه الوحدات. بذل المزيد من الجهد التأويلي يوصل إلى تفصيلات شكل الوحدات البنائيّة والكشف عن نوعيّة المادة اللاصقة لتلك الوحدات. ففي مجال الوحدات البنائية لا يختلف المجتمع عن أيّ تجمعاتٍ كيفما يكون شكلها مدينيّة أو حضارية أو بدوية حيث يمثل الفرد الإنساني هذه الوحدات البنائية. أما عند الحديث عن المادة اللاصقة فالحديث يطول. فإنه وكما هو ظاهرٌ لا يحتاج لكشّافٍ فاحصٍ، وفي بواكير الخروج من التجمعات الإنسانية الصغيرة في العصر الحجري القديم، قد حدث أن كانت صيغة تلك التجمعات تنتمي لمجموعات ذات إثنيةّ واحدة، أي تتمتع بصفة القرابة العشائرية. وما هو واضحٌ أيضاً ولا يحتاج إلى كشّافٍ فاحصٍ، أن تلك العشائرية كانت متطلباً حياتياً ضرورياً القدر نفسه الذي تؤخذ به كواقع حالٍ طبيعيٍّ لازم تلك التجمّعات التي كان ديدنها هو قدرتها على الصراع من أجل بقاء النوع في حياة الغاب الباكرة بمفترِساتِها أو مفتَرَساتَها. وقد كان من واجبات تلك الجماعة – كما هو شأن كثيرٍ من الثدييات العليا من آكلة اللحوم – هو الصيد الجماعي التعاوني وذلك لكفاية الجماعة. كما يمكن القبول بخاصية تعاون تلك الجماعة في تحديد الأماكن ذات الوفرة في إنتاج الثمار أو البقوليات وربما تأمين وجود الجماعة في تلك المناطق للثديات التي تجمع بين أكل اللحوم والثمار. لذلك وبناءً عليه فما يمكن أن يوصف بالتجانس الإثني والتجانس في متطلبات تلك الجماعة هو ما يضفي بميزاتٍ حيويةٍ تقود إلى القول بذوبان الفرد في تلك الجماعات الباكرة ذوباناً تاماً شكلاً ومحتوى، إذ لا حاجة ولا ضرورة لمتخالفاتٍ أو ذواتٍ متفردة.

وبلا شك، فالراجح أن تكون بعض غرائز ذوات الثدي الكبرى تفعل فعلها وسط هذه التجمّعات، وكذلك فبعض تلك التجمّعات، شأنها في ذلك شأن الثدييات العليا، تمتلك تجريباً بيئوياً يتمثل في الهجرة لا طلباً لمناطق الوفرة الغذائية وحسب، بل وأحياناً مفارقة لمناطق كثيرة الأمطار إلى مناطق أقلّ ربما هرباً من مثل ذبابة التسي تسي. مثل تلك الهجرة تقوم بها ثدييات أعالي حوض نهري الدندر والرهد الموسميين بأواسط السودان من أعالي الهضبة الحبشية إلى سهل البطانة في هجرة لا شكّ أن تاريخها يمتدّ لحقبةٍ استقرّ فيها مناخ كوكبنا على ما هو عليه حالياً. ويمكن القول أن بعض تلك التجمعات تتحول بفعل الهجرة إلى قطعانٍ كبيرةٍ ومتوسطةٍ وصغيرةٍ أحياناً. فصفات التجانس التي كانت تتمتع بها التجمعات الصغيرة، هي نفسها وليس غيرها ما يسود بين القطعان كنتيجةٍ لوحدة البيئة الحاضنة لتلك التجمعات ووحدة الأصول العرقيّة كذلك. تلك الهجرات نفسها تحدث في مناطقٍ أخرى من القارة الأفريقية جنوب خط الاستواء من مناطقٍ متاخمة لخط الاستواء إلى مناطق مدارية. ومن البداهة أن تحدث بعض التمايزات إذا ما تمت المقارنة بين تجمعات الثدييات في أيٍّ من الهجرتين لأسبابٍ ربما تكون نتيجةً لاختلاف البيئة الطبيعية بما تسببه من تحوّرات بيئية، أو كنتيجةٍ لاختلافات في الجينات الوراثية بين أفراد المجموعتين. لذلك فمن تحصيل الحاصل أن نقرّر أنّ ناتج مثل تلك التباينات والتماثلات يؤدي إلى وجود تشابهات أو تمايزات بين مختلف مجموعات الثدييات بما في ذلك الإنسان تبعاً للبيئة الجغرافية أو التناسل. ومن ذلك نلاحظ الفروقات والتماثلات بين حيوان وإنسان المناطق القطبية الباردة وحيوان وإنسان المناطق المدارية، أو الفروقات بين حيوان أو إنسان المناطق الجبليّة وحيوان أو إنسان السهول.

إضافةً إلى ذلك فهناك تمايزاتٌ أخرى يخلقها تكوين التجمّعات الصغيرة أو التجمعات ذات الطبيعة القطعانية الكبيرة والمتوسطة. فمما هو مرصودٌ من آثارٍ للعصور الحجريّة القديمة، نلاحظ أن طرق التواصل قد وصلت حدّ التعبير بالرسومات. وذلك لا يعطي صورةً كاملةً لنوع التواصل الصوتي وما إذا كان قد وصل حدّ اللغات المنطوقة المتداولة، أم كان التواصل الصوتي ما يزال يعيش أطوار بدايات التخليق اللغوي في شكل أصواتٍ تم التعارف على ما تمثله من حالات مثل التحذير من الخطر أو التهديد لحمل الآخرين بعيداً عن مجالات البعض الحيوية، أو خلافه من كثير مما يمكن ملاحظته من تواصلٍ صوتيٍّ بين مختلف مراتب مملكة الحيوان على عمومها. والإنسان بالطبع قد أتى عليه حينٌ من الدهر لم يكن فيه شيئاً مذكوراً بغير حيوانيته التي لا تختلف إلا اختلافاً طفيفاً عن بقية إخوته في مملكة الحيوان في أطوار نشأته الحيوانية الأولى. ومما هو في بداهة مفهومة، أن طرق التواصل الصوتي، ولاحقاً طُرق التواصل اللغوي هي نفسها مما يدخل تلك المجموعات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة في دورةٍ أخرى من التمايزات والتشابهات، بما يمكن من استعمال تلك التمايزات في الفرز والتفريق بين تلك المجموعات.

وبالطبع، ومما تسبغه قناعاتٌ يفرضها واقع الحال الإنساني، أن بيئةً وافرة العطاء كانت خير معينٍ على ظهور تجريبٍ حيويٍّ وبيئويٍّ طبيعي، أفضى إلى حراكٍ وتحولاتٍ نوعيةٍ وسط المجموعات الإنسانية الأولى حتى وصلت إلى بدايات المعارف الإنسانية على إطلاقها، ألا وهي المعارف التصميمية. 

وينبغي هنا الاعتراف بأنّ علم التصميم هو الذي مكّن من انتقال الإنسان من بيئته الحيوانية الأولى إلى بيئةٍ أكثر تقدماً ورقياً ووفرةً تجريبية. فإنسان العصر الحجري هو المصمم الإنساني الأول، ومعارفه التصميميّة هي مفتاح حقول التجريب التي قادت إلى مسلسل التراكم المعرفي، وبالطبع فقد كان ذلك مما ساهم مساهمةً كبيرة في عملية تجميع المجتمعات البشرية الأولى. كيف؟

تأويلٌ انثروبولوجيٌّ

بادئُ ذي بدءٍ، ينبغي تسليط المزيد من الضوء التأويلي لرؤية أيِّ مقارباتٍ ما بين الوسائل والآليات التكوينيّة الأوليّة للمجتمع، وبين الأشكال السابقة التي مهّدت لتلك التجميعات. ويمكن النظر للتفريق بين التجمّعات الأولى لساكني الكهوف، وبين تجمعاتٍ أخرى لاحقة تطورت عندها حرفة صيد الحيوان بعد تمكّنهم من صنع الآلات الحجرية. ونسوق ذلك في ارتباطٍ مع مستنتجٍ أوّليٍّ تعلمناه في المدارس الأوّليّة لا أودّ أن أعارضه، أن استئناس وترويض النار كان قد تم في طورٍ أكثر بكورةً وأقل وفرة معرفية من عصر صنع الآلات الحجرية. ويمكننا أن نستنتج أيضاً أن هجرات الثدييات قد مكّنت بعض المجموعات الكبيرة والمتوسطة من السكن بجانب بعض الأنهار الدائمة الجريان حيث الوفرة المستدامة للموارد، إضافةً إلى اعتدالٍ متوسّط الأمطار واعتدال المناخ بصورةٍ أكبر. وقد يبدو أن ما توفر لساكني ضفاف الأنهار من استقرارٍ ربما كان ضمن أقوى العوامل التي أفضت إلى اكتشاف الزراعة ثم استئناس وتربية الحيوان. وقد نلاحظ اهتزاز منطق السبق ما بين اكتشاف الزراعة وتربية الحيوان ومدى تساوقهما أو تتابعهما مع تصنيع الآلات الحجرية. لكن وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الاهتزاز قد لا يحدث في عنصر السبق إذا ما نظرنا إلى مرحلة تصنيع الأدوات الفخّاريّة اللاحقة. 

فصناعة الفخار رغم بكورتها فهي لا يمكنها أن تتساوق مع اكتشاف الزراعة أو تربية وتأليف الحيوان، إذ إن تصنيعها لا بدّ أن يرتبط بعنصر الاستقرار. وهي كصناعةٍ تتميزُ بكونها ذات ارتباطٍ عضويٍّ بوجود مساكنٍ لأناسٍ بعينهم يصنعون ويتملّكون ويحتفظون بتلك الأدوات. إضافةً إلى أن تصنيع الأدوات الخزفية هو تصنيعٌ لا يتميز بالمباشرة ولا البساطة التصميمية، بل هو عملٌ مركبٌ من مادةٍ خامٍ يتم تشكيلها ثم تحضير محارقٍ لحرقها، ثم حرقها بكيفية معينة. كل ذلك يشير إلى مدى تعقيد هذه العملية التي يمكن أن يُرى في ظهورها ظهورٌ باكرٌ لتنظيمٍ مجتمعيٍّ جديد، طرأ على تلك الجماعة. 

وما يمكننا أن نستخلصه من هذا الجهد التأويلي، أنّ مجموعةً من العناصر التمييزية قد بات بالإمكان ملاحظتها في التجمعات الإنسانية الباكرة. ويبدو أنه في اللحظة التي وصلت بالتجريب الإنساني إلى الاستقرار الزراعي وصناعة الأدوات الفخاريّة لا بدّ أن يكون قد صاحبه تطويرٌ للتواصل الصوتي البسيط إلى تواصل لُغويٍّ أكثر تعقيداً وأكثر قدرةً على التعبير. فإن ذلك كله مما يمكن استخدامه لتمييز فترة ظهور المجتمعات الباكرة الأولى. فالتجمّعات المستقرة التي قامت على ضفاف الأنهار تمارس الزراعة وتصنّع الأدوات الفخارية، هي تجمعاتٌ ذات تعقيدٍ تكوينيٍّ أكثر من تجمّعات ساكني الكهوف الصيادين وملتقطي الثمار. هذا الانتظام والانسجام في تجمعات الاستقرار الزراعي على ضفاف الأنهار، أوجد وحدةً عضويةً بين مكونات تلك التجمعات، جعل من الفرد لبنةً بنائيّةً لجماعةٍ متناغمةٍ منسجمةٍ تؤدّي واجباتها الجماعية في تناغمٍ وانسجامٍ. وإذا ما لاحظنا تشابه سحنات وملامح أفراد هذه المكونات وتشابه تكويناتهم الجسدية، فسنقرّر بعدها أنّه قد أصبح هنالك بناءٌ مجتمعيٌّ تلتصق مكوناته بفضل مادةٍ لاصقةٍ هي عبارةٌ عما تفرزه البيئة الطبيعية وما تضفيه من مميزاتٍ على هذه التجمعات من مقومات منها لغة هذه الجماعة والأساليب التي تتخذها في ممارساتها من صيدٍ وزراعةٍ وتصنيع للآلات الفخاريّة. كذلك فلا بدّ أن نلاحظ أنَّ كثيراً من هذه الصفات مكتسبةٌ كنتيجةٍ لهذا النظام التجميعي، وهي صفاتٌ ينبغي أن يتزود بها أيّ فردٍ كي يكون صالحاً للانتظام ثم الانسجام داخل هذه الجماعة. لذلك ينشأ نهجٌ تعليميٌّ أو تقويميٌّ يتوسّل به الأفراد لنيل صفة الانتماء لهذه الجماعة، إذ إن انعدام هذه الصفات ضعفٌ لا يُتيح للفرد الانتماء والانسجام مع مجموعته. هذا النهج التقويميُّ هو في الوقت نفسه نهجٌ لاستعدال اعوجاج الفرد كي يستقيم عوده بهذه التسوية التي تؤهّله لعضويّة هذه الجماعة.

إنّ النهج المكسب لصفات الانسجام هذه، وهو العنصر التقويميُّ الذي يستعدل اعوجاج الفرد كي ينسجم مع الجماعة، هو الذي نعنيه مباشرةً بالمصطلح العربي “ثقافة”. إذ إنّ تقويم الفرد معناها التأويليّ المباشر هو تثقيفه، والتي هي نفسها استعدال اعوجاجه. لذلك فاللبنات البنائية التي يقوم عليها بناء المجتمع هي الإنسان المفرد الذي يلتصق بغيره من الناس الأفراد بمادةٍ لاصقةٍ هي الثقافة، فيكوّن مجتمعاً. وبالطبع لا يسمح انعدام المادة اللاصقة ترصيص اللبنات، فلا يقوم بناء. فانعدام الثقافة لا يصيّر أيّ تجمعٍ إنسانيٍّ مجتمعاً نتيجةً لانعدام عنصر البناء الأساسي. وذلك حكمٌ ثابتٌ يشير إلى وجود رباطٍ دائمٍ ما بين المجتمع والثقافة حتى ليعني انعدامها نفياً مباشراً وصريحاً لصفة أن يكون أيّ تجمعٍ إنسانيٍّ هو مجتمعاً بالضرورة.

ومع نضوج مصطلح “مجتمع” وبعد أن تميّز بتكوينه الذي يقوم على الثقافة، فلا بدّ من إعمال أجهزة ضبطٍ مصطلحيّةٍ تزيل ما بإمكانه أن يأتي بما يضعف نضوجه نتيجةً لعدم استقرار معنى المصطلح في اللّغة العربيّة مع تراجمه في اللغات الأوروبية المصاحبة. فقد درج المترجمون على ترجمة مصطلح ثقافة بالمصطلح الإنجليزي المقابل (CULTURE). وما ينبغي أن نذكره هنا أن في المصطلح الإنجليزي تأثيرٌ ناتجٌ عن اختلاف بيئتيه الطبيعية والمجتمعيّة. فقد أفرز تلك البيئة جذراً لغوياً للمصطلح يتخالف مع الجذر اللغوي العربي. فالجذر اللغوي للمصطلح الإنجليزي يعني النماء أو النمو أو الإنبات كما يبدو في مصطلح علوم الطب (Blood Culture) وترجمته (استزراع الدم) ويستعمله الأطباء كما هو معلومٌ لاستزراع الجراثيم. أو المصطلح (Agriculture) ومعناها الزراعة بمعناها العريض. في حين يرجع جذر المصطلح العربي، كما سبق ذكره، لعملية استعدال الاعوجاج، للعصا أو لقناة الرمح إلخ. والفرق ظاهرٌ لا يتيح لمترجمي المصطلحات أن يقولوا بمثل هذه الترجمة، إذا ما كانوا يركنون لعلمويّة تحكّم تراجم مصطلحياتهم. فهذه المعلومة تقود إلى اتهامٍ بالضعف اللغوي للمترجمين الذين يقرّرون أن المصطلح الإنجليزي (culture) هو ترجمةٌ للمصطلح ثقافة في اللّغة العربيّة، بينما صحيحٌ أنّ ترجمته هي الإنبات أو الاستزراع أو النمو.

وفي حقلٍ قد لا يمتُّ لحقل العلم بصلةٍ، قد يصدر ما يعيق التفكير العلمي المستقيم الذي لا بد أن ينبني عليه البحث العلمي. هذا الحقل تقوم به مؤسسات سياسيّة ذات طبيعةٍ تتصل بالعلوم. ومثالي على ذلك (منظمة اليونسكو) التي أُنشئت لترعى العلوم والثقافة. والشاهد أن طبيعة وقوانين هذه المؤسسة وشبيهاتها مبنيّةٌ على اتفاقاتٍ سياسيةٍ ربما كان من شأنها أن تلوّن العلوم بألوانٍ سياسيّة مما يمحقها. ذلك أن واقع حال مثل هذه المؤسسات بطبيعته يفرض عليها أن تُخضع ما تقرره لهذه الاتفاقات السياسيّة غير العلمية. ومن ذلك تعريفٌ صدَر لهذه المؤسسة الدولية لتعريف الثقافة، فرأت أن تجمع فيه كلُّ ما يُمكن أن يدخل في إنشاء وقيام المجتمعات في مصطلحٍ واحدٍ فعرَّفت الثقافة بأنها: «الكلُّ المركب من العادات والتقاليد والمعتقدات والفنون والآداب والمنتجات المادية وطُرق وأساليب العيش والميزات الإثنية والفولكلور وذلك مما تنتجه أو تتعلق به أيّ تجمعات إنسانية.» ويبدو أنّ في هذا التجميع ما قد يرى كمتناقضاتٍ مثل تجميع طرق ووسائل العيش كعمليةٍ يمثلها المصطلح (culture) مع عملية تسوية وتعديل الفرد كي ينسجم مع الجماعة ويمثلها المصطلح العربي “ثقافة”. ولا يمكن أن تقول أن المجتمع الأوروبي قد قام على ثقافةٍ مجتمعيّة، إذ نكون قد أقحمنا أفراده في ما لا يتحمّلونه أو يطيقونه من تقييد. وعادةً ينبت الأوروبي في بيئته بالكيفية التي ينبت بها دونما مثقَّفٍ يقيّد طريقة إنباته فينبت ويشبّ عن الطوق ويترعرع على نمط فردانيّةٍ لا تجميع أو تسوية أوتعديل فيها. وذلك ربما يشير إلى طريقةٍ مخالفةٍ في ترصيص لبنات تجمّعاتٍ إنسانية مخالفة للنمط العتيق في تكوّن المجتمعات وتقع في الغرب الأوروبي. وقد قاد هذا الإتجاه السياسي إلى تقرير أنّ ثقافةً مختلفةً توجد في الغرب الأوروبي يسمونها ثقافة الفردانية. وما هو مؤكد أن مثل هذا السبك المصطلحي هو سبكٌ غريبٌ يجمع متناقضات لا يمكن تجميعها حتى لتبدو غرابة في استعمال مصطلح «ثقافة الفردانية» إذ تهزم الفردانية الثقافة من حيث إن الثقافة تجميعٌ يسوى له الأفراد ويُثقّفوا كي يصلحوا لتنميطٍ جمعيٍّ، في حين تؤدي الفردانية إلى التفرّد الذي يتمرّد على النموذج المجتمعي الموحّد. وقد يلاحظ أن في سيادة (نمط النمو الفرداني) تنتج تجميعاً نحا بطبيعته نحو الصراع وتفشّي ظاهرة الاستعباد في التجمعات المدينية الأوروبية الباكرة، تلك التي آلت إلى نشوء ظاهرة الطبقية الطاغية على الاجتماع الأوروبي.

وما هو معلومٌ هو أنّ تطوراً قد طرأ على الاجتماع الإنساني أدّى إلى ظهور المدن بشكلها المعاصر، أي كمراكزَ حضريّةٍ تتمركز حولها مناشط الفاعلية الإنسانية. وهذا ما ينبغي أن نحسن تأويله كي نرى موقع عمليّتي التمدّن والتحضّر من المجتمع ومن ثقافته.

أوّلُ ما يتبدّى من شكل البناء المديني وما يتبعه من بناءٍ حضري، هو أن تينك بنيتان حقوقيّتان، أي تتصلان بضبط وتنسيق الفاعليّة الإنسانية. وذلك يعني أنّهما كبنيتين تقعان أعلى من البناء المجتمعي ذي الصفة التحتية الملتصقة بمحض اجتماع الإنسان البسيط الأوّلي، أي قبل أن يترقّى وجوده حتى تصير له فاعليّةً منتظمةً في شكل بنيةٍ حقوقيّةٍ فوقيّةٍ كما هي بنية التمدين والتحضّر اللاحقة لوجود وظهور المجتمع. لذلك فينبغي أن نفرّق بين اجتماعين، الاجتماع الأول الذي يقوم على الانتماء الثقافي، والاجتماع الثاني الذي يقوم على فاعليّة الإنسان ونشاطه. فالمهندس والطبيب وعامل البناء والميكانيكي والجندي في الجيوش النظاميّة فهؤلاء كلّهم ينتمون إلى النوع الثاني من الاجتماع. ذلك الذي يقوم على فاعليّة الإنسان. أما النوع الأول فيتجه مباشرةً إلى صفاتٍ إنسانيةٍ أوليّةٍ كالانتماء القبلي، فالجهيني أو القرشي أو الفارسي أو الشايقي أو الكناني، هؤلاء كلّهم ينتمون إلى الاجتماع الأوّلي ذي الانتماء الثقافي.

ويمكننا أن نحضّر مثالين عن هذين النوعين من الاجتماع كي نتمكن من المقارنة بينهما حيث يمكن رؤية النوع ذي البعد الثقافي حاضراً في مختلف المناطق السكنية في الشرقين المتوسط والأقصى. ويمكنني أن أقدم مثالاً لهذا النوع مما ألمسه لمساً في المناطق حول العاصمة السودانيّة الخرطوم كما هي جزيرة توتي التي تسكنها قبائل المحس ذات الأصول النوبيّة، أو ضاحية أم ضبان التي كانت تسكنها قبيلة الكواهلة السودانية ذات الأصول العربية. أما النوع الذي ينسب تكوينه إلى الفاعليّة فذلك نجده في حالة (إشلاق عبّاس) الذي كان يمثل ثكنةً عسكريةً تقع على أطراف مدينة الخرطوم، أو منطقة (البركس) والتي كانت ثكنات للجيش الإنجليزي إبان فترة استعمار الإنجليز للسودان، ثم تحوّل بعد ذلك كسكنٍ لطلاب جامعة الخرطوم. ففي إشلاق عباس أو منطقة (البركس) لا يمكن أن نقول بوجود مجتمع، بل يمكننا تسميتها بمنطقةٍ سكنيةٍ للجنود والضباط من الجيوش التي كانت تعمل في السودان ثم سكن لطلاب العلم بعد ذلك. بينما يمكن اعتبار جزيرة توتي وقرية أم ضبان منطقتين تحتويان على مجتمعٍ بكلِّ ما تحمله كلمة مجتمعٍ من صفاتٍ ومعانٍ ثقافيةٍ وهويّاتيّة (هويّة).

ولا يمنع بالطبع أن يتمكّنَ مجتمعٌ بصفته الثقافيّة من أن يوظّف ما بحوزته من فاعليةٍ لتكوين مركزٍ حضري. المثال التاريخي لذلك هو كما في دولة سبأ التي كان يسكنها إلى جانب العرب القحطانيين العاربة، قبائل حبشية ذات أصولٍ ساميةٍ أفريقيةٍ كقبائل الأمهرا وبعض قبائل البجا. ولا يمكن بالطبع إنكار فاعليّة المركز الحضاري لدولة سبأ السبّاقة إلى تقنية إقامة السدود. كذلك مدينة مكة التي سكنتها قبيلة قريش ذات الريادة في مجال التجارة العالمية، وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ يصعب حصرها.

لكن وعلى الرغم من باهر ما في هذه الأمثلة، فلا يعتبر شأناً شائعاً صبغ التمييزات الثقافية على المراكز الحضريّة، كما لا يعتبر من معتبراتها ولا يعتد به. فالمدينة لا تأبه للصفة التي لا تضيف كثيراً لفاعلية مواطنيها. فالانتماء القرشي أو الشايقي  لا يمتلك أن يؤثر كمفهومٍ في صفة فاعليّة الفرد. إذ لا يمكن القول بعلاقةٍ بين أن تكون طبيباً أو مهندساً أو ميكانيكيّاً وبين أن تكون قرشياً أو جهنياً أو جعلياً، فهذا مما يصعب تركيبه على هذا.

وبالطبع نتبيّن هنا المخالفة بين ما يتمّ صياغته ثقافياً من مجتمعاتٍ وما يتمّ تجميعه مدينياً من تجمّعاتٍ سكانيّةٍ قد لا يتعدّى معنى اجتماعها غير تنشيط فعاليتها. وبالطبع فإنّ المجتمع هو ذاك الذي يراعي لمنشأ أفراده ويعجم عودهم بتوحيد عاداتهم ومعتقداتهم وتقاليدهم وقيمهم وشعائرهم الدينية وأصولهم الإثنية فالكلّ المتكون من هذا التعديل والتسوية يمثل الهوية التي يضيفها مجتمعٍ ما على أفراده، فيميزهم بانتماءهم الثقافي الذي عجموا ذواتهم كي يكونوا داخله مميزين عمن سواهم. وهذا أسلوبٌ وطريقةٌ في العيش اشتهرت في المجتمعين الشرقي والشرق أوسطي بحسب انتظام أصول هذه المجتمعات على قيمٍ ثقافيةٍ ذات صفةٍ أوليةٍ في تأسيسٍ اجتماعيٍّ، هل كان محتوياً على هذا المكوّن التأسيسي، أم كان تأسيساً يقوم فقط على مقومات الفاعلية المجتمعية ذات الانتظام خلف القوانين المنظمة للتمدّن ولمؤسساته السلطوية؟ الإجابة عن هذا السؤال توجب علينا أن نعمد إلى تشريح جسد الاجتماع الأوروبي كي نتبيّن الطريقة التي تمّ من خلالها تجميعه بها، فإلى مضابط هذا التشريح والفحص.

هل تم تأسيس مجتمع في أوروبا؟ 

ويتوجّب في البداية ولضمان الإجابة عن هذا السؤال، الوقوف على تعقيداتٍ أحدثتها نشوء المدن كمراكزٍ حضريّةٍ تقوم برعاية فاعلية ونشاط التجمّعات الإنسانيّة آنذاك. خاصةً بعد أن نحت تلك المدن نحواً تُجاوز تأسيس عناصر التمدّن والتحضّر في ما عرف تاريخياً بحضارة المدينة الواحدة، إلى تكوين منظوماتٍ حضريّةٍ أكبر وأكثر تعقيداً كما هو مثال الدولتين الأوروبيتين أثينا وروما والدولة الفارسيّة خارج أوروبا، ولاحقاً إلى تكوين الدولة الوطنية القُطرية التي تسود عالمنا المعاصر.

وينبغي منهجياً أن نتحسّب لما يبدو أنه ضعفٌ يحيط بتنزيل جدليّة مقومات منظومة الحضارة المعنية بتأسيس المجتمع الأوروبي مع المكوّن التأسيسي الثقافي الأوّلي، في حين أن ذلك الضعف ربما يبدو وكأنّما هو نتيجةٌ للتخليط المعتاد الظهور بين الذاتي والموضوعي. فقبل أن نفترض أن تأسيس المجتمع الأوروبي كان قد قام على أحاديّةٍ تأسيسيّةٍ لا تنظر إلى هذا المكوّن الأساسي ولا تعتدّ به فإنه ينبغي أن نفتح أعيننا على حقيقة ضعف مقاربة مقومات منظومة الحضارة من بنى فوقيّةٍ حقوقيةٍ وربما مؤسسيّة، مع منظومة الثقافة كبنيةٍ تحتيّةٍ بحسب أنّ الأولى لا تؤدي إلى تكوين مجتمعٍ، بل إلى ظهور تجمّعاتٍ سكنيّة كما هو في إشلاق عباس أو البركس، في حين تؤدي الثانية إلى تكوين مجتمعٍ كما هو في جزيرة توتي وقرية أم ضبان. والحقُّ أنّ تلك ليست حقيقةً مانعةً لأن يمتزج المكونان في تجريبٍ مجتمعيٍّ، فقط يحتاج ذلك التجريب إلى قياد ماهرٍ عبر مشروعٍ واضح الأركان والمقومات. وتلك حقيقةٌ تشير إلى أنّ أحادية التجريب في المجتمع الإنساني المعاصر إنما هو واقعٌ مفتعلٌ يقوم على خلفيّة استيلاء التجريب الأوروبي وسيطرته على تجريب بقيّة المنظومات على نطاق البسيطة، ومن ثم فرض أحادية التجريب عليها. ومن ناحيةٍ أخرى، فلو أحسنّا النظر إلى بواكير ثم لاحق تكوين المراكز الحضريّة الأوروبيّة في أثينا وإسبرطة وطروادة ومقدونيا وفي روما، ثم في دويلات قنانة النبلاء الأوروبيين في العصور الأوروبيّة الوسيطة، ثم في لاحق معاصر الدولة الوطنية، لرأينا كيف تتطابق شكلانية ومحتوى إشلاق عباس كثكنةٍ عسكريّة على تلك التجمعات الحضرية الأوروبية. فمن ناحية المحتوى، فتلك الحواضر تتكون وحداتها البنائية من النبلاء والسادة الملاك، ويليهم الفرسان، ثم يلي ذلك طبقةٌ وسطى صغيرةٌ مساعدةٌ يسمونها الطبقة البرجوازية، ثم عبيد أو أقنان لا يتم اعتبارهم مواطنين، بل قطعانٌ مملوكةٌ بالكامل للسادة النبلاء والملاك. تسير كلُّ هذه التجمعات ذات الفرز الطبقي الدقيق بسيرورةٍ لا تحتوي على أيّ قدرٍ من السّلم والموادعة، بل تقوم على تراتبٍ تحكميّةٍ تحت يد قبضة قوى مسلّحةٍ دقيقة التنظيم وقوية الشكيمة. هذا الفرز الطبقي العتيق في التجمعات الحضرية الأوروبية لا يفتح مجالاً لأيّ شكلٍ من أشكال الثقافة المجتمعية. فكلّ طبقةٍ لها تقاليد طبقية مبنية على العلو والتأفف مما هو موجودٌ في الطبقة التي تحتها. لذلك تخلو تلك التجمعات السكنية تمام الخلو من أيّ شكلٍ من أشكال الثقافة التجميعيّة، بل تقوم فقط بتجويد نسق انتظامها الحضاري من توضيبٍ قانونيٍّ ومؤسسي. وهذا  ما جعل الثورة الفرنسية التي قامت ضد هذا الوضع الطبقي اللاإنساني تطالب بالحريّة والإخاء والمساواة. ويبدو أن إعلان الدولة الأوروبية الجديدة التي تمخضت عن نجاح تلك الثورة في ركل تلك المنظومة الطبقية وبشكلها ذاك، ومن ثم الاتجاه لإقامة جمهوريات تعني في ما تعني إعطاء اعتبار لحرية وكرامة الإنسان الأوروبي الذي كان قِناًّ. فقد أدّت الثورة الفرنسية إلى إقامة دولةٍ جديدةٍ تقوم على عقدٍ اجتماعيٍّ جديد. وأرجو ألاّ يفوت علينا هنا أن ننظر إلى إعادة تأسيس شكل العلاقات الإنسانية في الاجتماع الأوروبي، ومدى اعتماد تأسيسه على تعاقدٍ يكرّس عدم تعدّي الدولة على أسس التعاقد الطبقي القديم. وهذه مشتبكاتٌ ذات تعقيداتٍ تحتاج للمزيد من التأويل كي نرى مزيداً من حقائقها التكوينيّة ما لا يسع مجالنا هنا لذكرها، فنتوقف هنا متجنّبين أن تجرفنا رغبةٌ حارّةٌ لإجراء المزيد من فضح أسس تشكيل الاجتماع الأوروبي. وعلى هذه الشاكلة فقد كانت جلّ المناولات الأوروبية لرفد التجريب الإنساني لا تحتوي على غير المؤسسيّة والعسكريتاريا. ففي فصلٍ دراسيٍّ في مجال تاريخ التصميم المعماري أقامته جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا العام 1996، أشار الدكتور هاشم خليفة محجوب إلى حقيقة ريادة العمران الروماني في مجال التخطيط العمراني. وقد أوضح الدكتور هاشم في هذا الصدد كيف أن حلّ وارتحال الوحدات العسكريّة الرومانية وفق تراتبها، وهي في غالبها محمولةً على مركباتٍ تقتضي تعبيد الطرق التي تسير عليها. وبواقع حالها الذي يقتضي أن يكون بداية تحرّكها من حالة الظعون، إلى أن تضع مطارحها للسكون مرة أخرى، أن يتم ذلك وفق انتظام بحسب تراتب الجيوش الرومانية وتقسيمها إلى وحداتٍ منتظمةٍ التحرك، بالقدر نفسه الذي ينظم طريقة وضع المضارب وطريقة فتح مسارات بينها، وهذا تخطيطٌ عمرانيٌّ باكر رفدت به عسكريتاريا الدولة الرومانية التجريب الإنساني، تشير إليه المقولة التاريخية الشهيرة: كل الطرق تؤدي إلى روما.

وليت شعري، أيكون في الفعل عبدٌ يعبّد تعبيداً، في الجملة «تعبيد طرق روما» إشارة إلى استعمال العبيد في عمليات التعبيد هذه؟ وهذا سؤال أسوقه بكلّ الجدّ إلى العارفين باللغة العربية عسى أن يقودونا إلى تسكين شكوكٍ وهواجسَ في عملية التعبيد هذه.

وأتمنى أن نكون قد وصلنا إلى تلخيصٍ مناسبٍ عن ظروفِ وملابساتِ نشأة التجمعات السكنية الأوروبية، وكيفية مخالفة ظروف نشأتها  لظروف نشأة المجتمعات في الشرقين الأقصى والمتوسط، حيث يتم تأسيس المجتمعات الشرقية على قدرٍ معتبرٍ من الثقافة المجتمعيّة فتدخل في طبيعة تكوينها المجتمعي. من ذلك نستطيع أن نقرر بحسب اعتماد التجمعات السكانية الأوروبية فقط على تنظيم وتنسيق المصالح المرسلة ضمن تنسيق وتنظيم فاعليّة ونشاط إنسانها، فستكون بالتالي ظروف نشأة وتكوين تلك التجمعات خالية تماماً من البعد الثقافي الذي لا تحتاجه لتنسيق فاعليتها ونشاطاتها. لذلك لا يمكن أن يُطلق على ما تؤسسه تلك التجمعات السكنية صفة مجتمع، فهو عبارةٌ عن قطاعات سكنيّة لمواطنين تمّ تجميعهم ضمن صياغة قوى الإنتاج الأوروبية في وحداتٍ إنتاجيّةٍ صغيرة لا روابط ثقافية بينها. ولو تتبعنا شكل ومحتوى الأسرة في المجتمع الأوروبي، لجمّعنا ما لا يمكن إحصاؤه من مميزاتٍ تتميز بها الأسر الأوروبية من صغرٍ في التكوين، وخلوٍّ من المبادرة المجتمعيّة، والاعتماد على عقودٍ اجتماعيةٍ صيغت فقط لأجل حقوقٍ وواجباتٍ قانونية، وتختفي تمام الاختفاء أيّ شكلٍ لأنساقٍ أو كياناتٍ تقوم على قيمِ ثقافةٍ مجتمعيةٍ ربما تتعدى أطر العقود الاجتماعية في رُقيّها القيمي والأخلاقي. 

وبطبيعة الأشياء، فإنه يمكن أن يُرى في الطابع الأوروبي ذي الميول الحضاريّة في تأسيس شكل اجتماعه الإنساني، أن ما قدمه من نموذجٍ يحتوي على تمردٍ على الثقافة المجتمعية، وربما يُرى فيه صورة من صور العداء للثقافي كسمةٍ تاريخية ملازمة. وذلك ربما يعطي تبريراً كافياً لعدوانية سلوك التشكيلة الحضاريّة الأوروبية في مرّ عصور تاريخها على جيرانها، وذلك بدءًا مما قام به الإغريق من غزو لطروادة مستعملين حيلة الحصان الخشبي الشهيرة، ثم ما تلا ذلك من غزوٍ واحتلالٍ قامت به دولة الإغريق البطالمة على سكان حوضي البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. وما قاموا به من تأسيس موانئٍ في شكل قِلاعٍ وحصونٍ على ساحل البحر الأحمر كميناء أدوليس وميناء بطليموس ثيرون وذلك لأجل اصطياد وترحيل الرقيق الأفريقي. ثم ما تبع ذلك من غزو واحتلال روماني لمصر وَصل حتى أواسط أفريقيا في دولة مروى. وكذلك احتلالهم سواحل البحر الأبيض المتوسط وبعض مناحي وسواحل الشام. هذا الاحتلال والاستعمار الذي تواصل في القرن الثامن عشر، ثم القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين في شكل استعمارٍ استيطانيٍّ تقليديٍّ قديم، تبعه استعمارٌ آخر حديثٌ في القرن العشرين لا يتسع المجال هنا لتوصيفه. وربما هنالك ذيول ما زالت شاخصةً لحقبة الاستعمار الاستيطاني الأوروبي بمفهومه التقليدي من احتلالٍ تقوم به بعض الدول الأوروبية هنا وهناك في أفريقيا وآسيا وأستراليا وبعضاً من الأمريكيتين، كما هو في مستعمرة  جنوب إسبانيا، وسبيتا ومليلة في المغرب العربي ومستعمرة جزر الفولكلاند الأرجنتينية وجزر المارتنيك إلخ.

وقد يُقال أن في بعض المناطق كأوروبا مثلاً قيمٌ للصدق والأمانة والتعاضد الإنساني وهذه مما تحسب ضمن القيم الثقافية العليا. ومع القبول على مضض بهذا القول، فإنه يجدر بنا أن نفرّق بين المكونات الذاتية للشخصيّة الأوروبية، وبين مكانة هذه القيم من تجمعاتٍ نودّ أن ننظر في ما إذا كان بإمكانها الالتزام بثقافةٍ جماعيّةٍ تقود إلى تأسيس مجتمعٍ أم لا.

وقد يقال كذلك بوجود ثقافةٍ في تجمعات المراكز الحضريّة الأوروبية تسمى بثقافة الفردانية. وكما ذكرت سابقاً فهذا تجميعٌ إصطلاحيٌّ غريب، إذ إن التفرد يهزم الفعل الثقافي في حقيقته التكوينية الأساسية كتجميعٍ بحسب القيم التي شملها التعريف أعلاه. وبالطبع والبداهة فالفردانية والتفرد يخالفان عنصر التجميع، الذي يفترض فيه أنه يقود إلى شيوع صفاتٍ مشتركة شكلاً لأفراد مجتمع ما.

لذلك وبناءً عليه فإنّه لا يمكن أن يُوصف ما قام في أوروبا من اجتماعٍ إنسانيٍّ بغير أنه مجمّعات سكنيّة تم تأسيسها على صفات التفرد التي لا تمتّ إلى الثقافة المجتمعية بكثير صلة، ولا تمكّن في الوقت نفسه  وصف ما أسسته بالمجتمع. لذلك فتأسيس المجمعات السكنية الأوروبية هو تأسيسٌ يقوم على نقصٍ كبيرٍ في أساسه التكويني وذلك كنتيجةٍ مباشرةٍ للفقد الكبير، ألا وهو عدم وجود ثقافةٍ مجتمعيّةٍ تؤدي إلى تكملة تأسيس البناء المجتمعي عليها.

هذا التقرير يقودنا إلى احتواء ما يمكن أن يُقال عن تأسيس مجتمعٍ في أوروبا على حقيقة خلوّ المكوّن المجتمعي الأوروبي من الثقافة كمصطلحٍ بمعناه في اللّغة العربيّة ويقوم اجتماعها الذي يخالف قيم التكوين المجتمعي على النمو الفرداني الحرّ الذي يعبّر عنه المصطلح (culture). لذلك فهو بداهة أن النظر من جانب خلوّ الاجتماع الأوروبي من القيم الثقافية لا يمكننا من إطلاق صفة مجتمعٍ على هذا التأسيس، بل يقودنا واقع حال سلوك تشكيلة الاجتماع الأوروبي إلى تقرير أنّ ما تمّ تأسيسه من اجتماعٍ يميّزه تمرّد على الثقافة يصل إلى حدّ التعدّي عليها. وهذه بالطبع مقولاتٌ لها ما بعدها مما تقتضيه من الفحص المتأني الذي لا بد أن يبحث في مسببات حدوث مثل هذه الحالة فيحدد، أهي مكونٌ أصيلٌ في بيولوجيا الإنسان الأوروبي؟ أم هي خيارٌ من خياراته قادته إلى التجافي عن تجارب تاريخيةٍ مجتمعيةٍ ناجحةٍ سبقت تاريخ ووجود الاجتماع الأوروبي؟ وسأحاول في الفقرة التالية تخريج مقولات تحوي معالجاتٍ لمصطلح الثقافة قد تساعد في توسيع دائرة قراءته وبالتالي تبيين مسببات لاثقافيّة النموذج الأوروبي.

في الجغرافيا الثقافيّة لأوروبا

يتبادر إلى الذهن سؤال: هل هنالك وجودٌ فعليٌّ لمسمّى جغرافيا الثقافة؟ فإذا كانت الإجابة بنعم، فهل لأوروبا في هذه الجغرافيا حيّزٌ يضمّها؟ 

وهو منطقيٌّ أن يكون أوّل ما يتبادر على ذهن المجيب عن السؤال الأوّل بأنّه سؤالٌ استنكاريٌّ يُقابل قول: ولم لا يكون للثقافة جغرافيا؟! أليست هي فعاليّةً إنسانيةً تضفي تمييزات على من يكتسون بها؟ وهل من يكتسون بها هم خارج التصنيف الجغرافي للإنسان في عالمنا؟ 

حسناً قبلنا وآمنَّا وتُبنا إلى الله أن نظن بوقوع الثقافة خارج مصنفات الجغرافيا. فشعوب العالم، بلا أدنى شك، تتميز بصفاتٍ تكوينية تقوم في غالبها على ما يتمايز بينها وبين شعوبٍ أخرى، وهذه بالطبع مما يقال أنّها تشي بصفات الهويّة التي تميّز كثيراً من سكان عالمنا بميّزاتٍ مقروءةٍ في سماتهم ومطالعهم دون الحاجة إلى سؤالهم سؤال الهويّة والانتماء. وهذه بطبيعة الحال جغرافيا للثقافة مطروقة ومتداولة دون أن تتبلور في مصطلح.

ولا تتملكني كثيرُ حيرةٍ أنّ مصطلحاً هاماً كمصطلح جغرافيا الثقافة لم يتم تدشينه إلى يومنا هذا بصورةٍ تتكافأ مع ما يفترض أن يمثله من أهميّةٍ تساوي إنْ لم تكن تضارع جغرافيا الحضارة. ولست في مكانةٍ مباحثيّةٍ أتأكد منها بأنّ ما أقوم به الآن أهو إفتراعٌ لهذا المصطلح، أم أنه سبق له أن تمّ افتراعه هنا أو هناك؟ لكنّي في كلتا الحالتين لم أصادف مبحثاً وُضِع فيه هذا المصطلح موضع الأخذ والرد غير محاولاتٍ محدودةٍ سبق أن قمت بها في العام 2006 في مبحثٍ نشرته في بابٍ أسبوعيٍّ كنت أحرّره في صحيفة الصحافة السودانية تحت عنوان «مفاكرة الجمعة» عقّب عليه بصورةٍ لاحقةٍ المفكر السوداني الدكتور عبد الله علي إبراهيم. لذلك يصبح عندي ويمسي، إلى أن أتبين أن هنالك طرحاً أو معالجةً سابقةً لهذا الباب المعرفي الهام، أن هذه الأطروحة صاحبة فضل افتراع هذا المبحث الهام وتدشينه. وليس في ذلك فضلٌ إذا ما ثبت سبق الافتراع. فمصطلح جغرافيا الثقافة لا يبدو كمصطلحٍ غريب يستعمل لأول مرة، بل يبدو مألوفاً كأنما هو ذو وجودٍ سابقٍ معلومٍ بالضرورة، غيّبته ملابسات غير طبيعيّة الوجود بل عن نيّةٍ وبإصرارٍ وترصّد. فالجغرافيا مفهومةٌ للعام والخاص، أما ثقافتها فهي معروفةٌ كذلك رغم أنّ معرفتها يتداخل معها التعريف ذو الصبغة السياسية الذي يخلط ما بينها وبين المصطلح الأوروبي المخالف (culture). وذلك ما أودّ أن أجدّد تأكيده هنا أن ما نعنيه من هذا المُصطلح هو معنى مصفّى من تخليطات السياسة بحيث يقع خيارنا مع المصطلح الذي يعطي المجتمع الإنساني المربوط بالهويّة الفردية ألا وهو المصطلح العربي ثقافة الذي يقوم على التسوية والتعديل الهَوْيَوي لأفراد المجتمع. وسنتبين من خلال هذا الفحص دوافع ومسببات تغييب هذا المصطلح الهام. 

استيضاحُ واستنطاقُ معالم جغرافيا الثقافة يشير بوضوحٍ لا يحتاج إلى ترجيعٍ معلوماتيٍّ إلى وجود ثلاثة أقاليمَ عالميّةٍ ذات تصنيفٍ جغرافيٍّ طبيعيٍّ وجغرافيٍّ ثقافيٍّ متمايز. هذه الأقاليم الثلاث هي الإقليم الشرقي ويمتدّ من جبال الأورال في غرب القارة الآسيوية حتى تخوم الصين واليابان شرقاً. ثم الإقليم الغربي ويمتد من جبال الأورال في ناحيتها الشرقية إلى حدود الجزر البريطانية في ما قبل اكتشاف ما سمي حينها جغرافياً بالأراضي الجديدة. ثم إلى الشواطئ الغربية لأميركا الشمالية بعد (تطهيرها) عرقياً من سكّانها الأصليين وانضمامها بحسب الجغرافيا السياسية إلى الغرب الأوروبي.

أما ثالث الأقاليم فهو الشرق الأوسط أي الجزء من اليابسة الذي يتوسط الإقليمين الشرقي والغربي.

وما هو مُعطى في جغرافيا العالم، غُضّ النظر عمّا إذا كان وسطها هو خطُّ طول قرينتش الإنجليزية أو خطّ طول مكة المكرّمة، فما تمّت تسميته بالشرق فهو أوّل ما تشرق الشمس عليه في أيِّ يوم يتم اختياره من أيام تقويماتها المعروفة، والغرب هو مكان آخر غروبٍ لشمس عالمنا في  ذلك اليوم نفسه. ويحتل الشرق المتوسط منطقة الوسط الجغرافي، وهو أيضاً منطقة توسّط مشرق ومغرب شمس عالمنا في أيِّ يوم من أيام تقويماته المعروفة.

والشاهد أنه لأيٍّ من هذه الأقاليم تصنيفه الثقافي الذي يتطابق مع موصوفات جغرافيّته الطبيعية والثقافية. فمن الناحية الثقافية، فالشرق يبدو أنه غارق في لججٍ كثيفةٍ من الروحانيات النافية لأيِّ شكلٍ من أشكال الحيوانية في الإنسان. فنيرفانا الشرق تتسامى بالإنسان إلى مصاف تجريبٍ روحانيٍّ صرفٍ لا يعترف بأيِّ قدرٍ من الماديّة في النفس الإنسانية، فيدّعي بأنّها نفسٌ روحانيةٌ صرفة. فالديانة البوذية والهندوسية ولاحقاً الكونفوشية، كلّها معتقدات تتفق على روحانية الإنسان الصرفة النافية لأيِّ قدرٍ من الحيوانية. ومعلومٌ أنّ هذه المعتقدات الدينية تنتشر تقريباً على أرض ما أسميته بالإقليم الشرقي، حيث بلغ التجريب الروحاني هناك شأناً كبيراً فأصبح يتمتع بمعارفٍ تجريبيةٍ مسَّ بعضها معرفيتنا الحيويّة لما هو معروفٌ عندنا بعلوم الأحياء أو البايولوجيا. فالصينيون ذوو تجريبٍ لمسالكٍ روحيّةٍ في جسم الإنسان غير مرئية، مع ذلك فشكّها بإبرٍ بعينها في مرابطٍ لمجاريها توصلت إليها تجريبيّة الروحانية الصينية، ما يجعلهم يتحكمون في القوى الجسمانية درجة التحكم في الألم بإيقافه تماماً.

أما الإقليم الغربي، الذي يتمثّل في القارة الأوروبية وملحقتها أميركا، فهو غارقٌ إلى شحمة أذنيه في ما أسماه المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه «العالمية الإسلامية الثانية، جدلية الغيب والإنسان والطبيعة» باللاهوت الأرضي. وهو كما يصفه حاج حمد معتقدٌ ماديٌّ لا يعترف بأيِّ وجودٍ روحيٍّ عُلويٍّ أو مثالي. وقد درجت أوروبا في باكورة تاريخ معتقداتها على أن تُؤسس منظومةٌ لألوهيّةٍ خاصةٍ بها، قوامها أناسٌ بعينهم تشكّلُ سيرتهم طغياناً وقوّةً مفرطة لا تقاوم، يستسلم لها الأوروبيون استسلاماً تاماً. فالآلهة زيوس وهيركوليز وبرومثيوس إلخ متهمون وفق قراءةٍ تحليليّةٍ لما بين أيدينا من حكيٍ تاريخي، بأنهم ليسوا سوى أناسٍ بعينهم عاشوا مراحل باكرة من تأسيس تجمعاتٍ إنسانيّةٍ لمن نسميهم عادةً بالإنسان الأول. وهم، بطبع عصرهم، ضعاف التأهيل بمعدات القتال، ويعتمدون في غالب أمرهم على وسع حيلتهم مقروءة مع وفرة قوّتهم البدنية لابتكار حلولٍ يتغلبون بواسطتها على متربصين بهم من حيواناتٍ مفترسةٍ وقوى طبيعةٍ أكثر افتراساً لا يعرفون لها من مصدر. وبما أن تأليه الأسلاف كظاهرةٍ إنسانيةٍ متفشيةٍ لها فوائدها أحياناً ومضارها أحياناً أخرى كثيرة، فهذه الآلهة الأوروبية ليس لها من طريق للخروج عن مثل هذه التصورات الإنسانية الباكرة، مما يشير إلى أن القصة في حقيقتها هي ليست سوى تأليه لذواتٍ إنسانية بعينها كما جاء في الميثولوجيا الإغريقية والأخرى الرومانية. ويبدو هذا ظاهراً في أن تلك الآلهة ذات مواصفاتٍ تُعتبر امتداداً للنفس الإنسانية في أدنى سلّم حيوانيتها. فهي تتباغض وتتحاسد وتتدابر وتتآمر وتسرق وتغتصب وتستعبد، وتستعمل في كلِّ ذلك قوةً طاغيةً لا تُقهر، تؤجّجها ناحية سيادة هذه القوة المفرطة. ونادراً ما تلعب هذه الآلهة أدواراً تبدي فيها شيئاً من التعاطف والحب، فهي كلّها كآلهةٍ أسيرة لشهواتها وتستعمل قوتها المفرطة لأجل إشباع هذه الشهوات. وهذه معلوماتٌ متوفرةٌ في أيّ مطبوعةٍ عن الميثولوجيا الإغريقية أو الرومانية.

أما في الشرق المتوسط، ومنذ بدايةٍ باكرةٍ تعود إلى ما يقارب الثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، فالملاحظ أنه مُهّد إلى ما يسمى بالديانات الكتابية الرئيسية الثلاثة اليهودية ثم المسيحية ثم الإسلام. وما يميز هذه الديانات هو توحيد الآلهة وإفرادها كقوّة خيرٍ مطلقة تتعالى عن صغائر الذات الإنسانية. كذلك مما يميز هذه الديانات قديمها الوثني وحديثها الممثّل في الديانات الكتابية الثلاثة، أنّها كلّها تؤمن بالبعث والنشور وحياة ما بعد الموت ومحاسبة الإنسان على تحصيله الحيوي. ونلاحظ كذلك أن معتقديّة الشرق أوسطية قديمها وحديثها تؤمن بتوسّط الإنسان ما بين الروحانية وتساميها وبين احتياجاتٍ حيوانيةٍ أرضيةٍ يحتاجها الإنسان. وتمييز هذه المعتقدية بدخول عصر توحيد الآلهة في تاريخٍ باكرٍ يمتد إلى ما يفوق الثلاثة آلاف عام قبل الميلاد هي عمر أول كتابٍ سماويٍّ منزّلٍ على سيدنا موسى – عليه السلام – يقوم على شرائع تنظّم حياة الإنسان، وعلى إيمانٍ بمعادٍ فيه محاسبة على مدى التزام هذا الإنسان بقيم السماء التي تدعوه إلى خُلقٍ رفيعٍ ومسالمة ومواعدة وحبّ خير وتعاطف وتوادد بينه وبين إخوته في الإنسانية. 

وما يمكننا استنتاجه بسهولةٍ ويسرٍ معرفيٍّ فنضعه بوصفه أولى لبنات بناء معارف الجغرافيا الثقافية، ما يسمح لنا أن نقرر أنه تلازمٌ طبيعيٌّ لهذا التصنيف الجغرافي مع تصنيفٍ ثقافيٍّ لهذه المناحي نفسها. فمشرق الشمس الجغرافي يتميز أهله بتماثلهم مع مشرق شمس الروح في الإنسان والذي هو – كما هو حادث فعلاً – مغرب شمس ماديّة وحيوانيّة الإنسان. أما أهل مغربها فهم يتماثلون مع مغرب شمس الروح، أي شروق حيوانية المادية الأرضية. وبالطبع يتوسط أهل الشرق المتوسط عالمي الروحانية والمادية.

وما يبدو بوضوحٍ أن هذه التقسيمات كأنّما هي المغذي لقناعةٍ ذات منطقٍ مقبولٍ، أن الجغرافيا الطبيعية للعالم تؤشر بقوة إلى صحة مقولات الجغرافيا الثقافية التي لم تعرها منظومة المعارف الإنسانية أيّ اهتمام. فنيرفانا المشرق الممتدة من الجزر اليابانية ثم الصين إلى تخوم غرب شبه القارة الهندية تكاد تنطق بمسالمة ووداعة إنسانها ووداعة ومسالمة منظومته المجتمعية، فيبدو مظهرها الثقافي لا يخالف مخبرها من حيث الالتزام بالقيم الإنسانية الرفيعة المهذبة. وذلك غير ما يرفد به الغرب هذا العالم من العدوانية والتعدي ومعتقديته التي يبدو انغماسها في حيوانيتها واضحاً في شيوع ظاهرة التعري الجسدي، وجموح رغبات نفوسهم الطفولية. وأصدق مثال على ذلك هو تفشي ظاهرة المثلية الجنسية كظاهرةٍ تاريخيةٍ ومعاصرة أوروبية بلغت درجة أنها أصبحت من متطلبات حقوق الإنسان الأوروبي المنصوص عليها قانونياً. أما في الشرق المتوسط، فيبدو هنالك توسطٌ ثقافيٌّ حضاريٌّ يبدو بوضوحٍ في معتقديتها التي تسودها الأديان السماوية الكتابية الكبرى الثلاثة.

ماهيّة علم المنظور

في دراسةٍ سابقةٍ لي حول علم المنظور، سبق لي أن خُضت في تصنيف لما رأيت فيه متلازمة التكوين التصويري البصري عند الإنسان، مقروءة مع مردوده الذهني، وانعكاس كلّ ذلك على ذهنيته وبالتالي معتقديّته. وأظنّ أني حينها قد توصلت إلى قراءة طيّبة وبالتالي استنتاجاتٌ تدعم مقولات جغرافيا الثقافة وتضيف إليها قدراً معتبراً من تصورات تبدو بمنطقٍ مقبول، أضعها في مبحثي هذا كمقولات أولية تحتاج للمزيد من العناية والتدقيق والفحص المعلوماتي. 

تعتمد متلازمة تكوين الصورة البصري مع المردود الذهني على بداهة حقيقة معرفية، أن البصر يشكّل المصدر الأكبر لدخول المعلومات إلى الذهن، ويحتفظ بالتالي بأكبر منطقةٍ في الجهاز المسؤول عن عماية التسيير الذهني عند الإنسان ألا وهو الجهاز العصبي أو المخ تحديداً. وتحتل الصورة مكانتها الطبيعية الكبيرة من هذه (الكوتة) المعلوماتية، وبالتالي من مساحة ما يستعمل من هذا الجهاز. والحال هذه فالصورة كمدخلٍ معلوماتيٍّ تتميز بحضورٍ طاغٍ يستند في غالب أمره على مكونات هذه الصورة التي لا تكاد تفارق بيئتها الطبيعية وجغرافيتها، اللتين لا بدّ أن تفعلا فعلهما في كليهما، الكوتة والجهاز. وتطلّ علينا هنا علومٌ مختبئةٌ تتوارى عنا في تمنّعٍ معرفيٍّ ينتظر استقواء فهومنا وارتفاقها لمقامه. وهي معارفٌ تتصل بعلوم التصوير على عمومها. وأضرب مثالاً عن ذلك في ما أسميه جوعاً وشبعاً بصرياً يتصل بعنصرٍ تصويريٍّ بيئويٍّ وجغرافيٍّ أساسيٍّ ألا وهو عنصر اللون. فإنسان الإسكيمو الذي يعيش في الدائرة القطبية هو ذو شبعٍ صوريٍّ بصريٍّ من اللون الأبيض الزجاجي الشفاف الذي يسدّ أمامه أفق منظوره التصويري. وذلك بالطبع يقابل جوعه البصري عن اللّون الأحمر القرنفلي أو اللون الأخضر الزمردي المعدوم تماماً عنده في حين أنه يسدّ الأفق المنظوري التصويري عند أهل جزيرة زنجبار الأفريقية، والذين يمثلون المكوّن المضاد من ناحيتي الشبع أو الجوع المنظوري التصويري لسكان الدائرة القطبية. وبالطبع فهنالك ما يضيّق وسع هذا البحث عن استيعابه من توسط بين الشبع والجوع وبالطبع لونها على مكوّن معلوماتية الذهن. أما من ناحيةٍ أخرى تتصل بتشكيل الصورة المنظورية مما هو مخفيٌّ ضمن هذا الخفاء المعرفي، فما نسميه بعلم المنظور الخطّي الذي يعالج تكوين الصورة المنظورية، ويمارسه التشكيليون والمصممون المعماريون. هو ذو صلةٍ لا يُستهان بها بالسلوك الذهني الإنساني أرجو أن أوضح هنا نزراً يسيراً منه.

تخضع الصور المنظوريّة لنسقٍ هندسيٍّ تتسبب فيه آلة البصر وهي العين. فالأرض تبدو في شكلٍ مستوى سفليٍّ يقابل السماء الذي يبدو في شكل مستوى علويٍّ حيث يلتقي هذان المستويان في مستوى وهميٍّ يسمّى خط الأفق. كذلك يحدّ هذين المستويين مستويان آخران هما المستويان الجانبيان اليساري واليميني. هذه المستويات الأربع تشكّل أكبر وأقرب أضلاعٍ قاعدتها لعين المشاهد ما يسمى بمستوى الصورة، والذي هو شبه مستطيلٍ يقبع في أقرب نقطةٍ تصويريّةٍ من العين، ثم يتصاغر هذا المستطيل أو مستوى الصورة إلى أن يصل في أقصى امتدادٍ له بعيداً عن عين المشاهد إلى ما يسمّى أحياناً بنقطة التناهي البصري أو بنقطة التلاشي البصري أحياناً أخرى. وهنالك مستويان بصريان آخران، وكلاهما مستوى حقيقي لكنه غير منظور. المستوى الأول منهما هو مستوى يتطابق مع خّط الأفق ويمتدّ منه إلى تنصيف مستوى الصورة تنصيفاً أفقياً إلى مستويين سفليٍّ وعلويٍّ، فنسمّي خط تلاقيهما بمستوى النظر الأفقي الذي يتطابق تماماً مع خط الأفق. مثل هذا الخط يتكرّر رأسياً مقسّماً مستوى الصورة إلى نصفين يساري ويميني ويمكن تسميته بمستوى النظر الرأسي. تطابق مستوى النظر الأفقي مع خط الأفق يجعل من الثاني متحركاً إلى أعلى وأسفل تبعاً لتحرك الأول، فيرتفع خط الأفق تبعاً لارتفاع مستوى النظر، وبالتالي ينخفض بانخفاضه. وبما أن قاعدة الصورة البصريّة الأساسيّة أفقية وذلك بحكم وقوع العينية الأفقي مع بعضهما البعض من ناحية، واستنادهما على قاعدتي الأرض والسماء كأكبر مكوّنٍ تصويري بصري من ناحيةٍ أخرى، فإن النسق الأفقي للصورة المنظورية هو الأكثر تأثيراً في الكيفية التي تنتظم بها مكونات هذه الصورة وبالتالي الطريقة التي تتم بموجبها رؤيتها. 

وبالطبع تتباين هذه الصور تبعاً لارتفاع أو انخفاض مستوى نظر المخلوقات بحسب ارتفاع قامتها، أي خطّ أفقها المنظوري. فالطيور ترى صورةً تختلف في تشكيلتها عمّا تراه الزواحف، وذلك كلّه يختلف عمّا يراه الزراف وهو ينظر إلى صورة شجرة يسير نحوها كي يأكل من أغصانها، وذلك بالطبع يخالف تنسيق صورة  الشجرة نفسها في عين سمكةٍ في بركة ماءٍ صافيةٍ تقع محاذيةً لتلك الشجرة تحت فخذي هذه الزرافة. وفي أيّ من هذه الصور يلعب مستوى النظر في مطابقته مع خط الأفق دوراً حاسماً في شكل وتكوين هذه الصور. فالطيور وهي تحلق على ارتفاعاتٍ تفوق العشرة أمتار فوق مستوى سطح الأرض، يرتفع مستوى نظرها وخط أفقها المنظوري حتى ليكاد أن يلتصق بالمستوى العلوي لصورتها التي تراها حتى لتتوزع الصورة في عين الطائر لتكون نسبة مساحة السماء تتراوح ما بين ثُمن إلى خُمس الصورة. بينما تتمدّد صورة الأرض لمساحةٍ تصل إلى ما بين سبعة أثمان إلى أربعة أخماس مساحة تلك الصورة. ولذلك بالتحديد يسمى الإظهاريون المعماريون مناظير مخططاتهم المعمارية المأخوذة من مثل ذلك العلو بمنظور عين الطائر. ويختلف بالطبع منظور عين الطائر عن منظور عين السوائم. إذ تنعكس الصورة هنا تماماً فتحتلّ مساحةَ السماء سبعة أثمانٍ إلى أربعة أخماسٍ مساحة الصورة التي تراها الأغنام، وذلك بحكم انخفاض مستوى نظرها وبالتالي أفقها المنظوري الذي لا يتعدّى ارتفاعه من سطح الأرض ما بين 40 إلى 20 سنتمتراً فما أدنى، هي بالتقريب ارتفاع مستوى عيون الأغنام عن سطح الأرض.

ما هو مستنتجٌ بصورةٍ طبيعيّةٍ من هذا التصنيف هو أن الطيور في تحليقها الفضائي، تتمتع بمنظورٍ فيه افتقارٌ سمائيٌّ وذلك لاحتلال الأرض لأربعة أخماس مساحة صورتها المنظورية، في حين يفتقر منظور عين السوائم افتقاراً أرضياً وذلك لاحتلال السماء لأربعة أخماس مساحة صورتها. وبقراءة واقع حال الطيور والسوائم في بيئتيهما السمائية والأرضية. فالطيور لا تعاني كثير معاناةٍ كالسوائم وذلك لأن واقع حالها يوفر لها نوعاً من الأمان عمّا في الأرض من كثير مهددات. فهي تهرب بأعشاشها إلى أعالي الأشجار الباسقة، أو إلى جزرٍ بحريّةٍ نائيةٍ يقل فيها خطر المتربصين بصورة كبيرة نسبياً. في حين تظل السوائم صيداً سهلاً لمفترساتها لا تحميها سوى طبيعتها ككائن ولودٍ يحافظ بكثرة إنجابه على نوعه.

وبطبيعة الحال فلا بدّ أن ينطبع مردود شكل الصورة المرئية مقروءة مع واقع الحال البيئوي لكليهما الطيور والسوائم. فالافتقار الأرضي، وهو بالطبع نقصان مردود، مقروءاً مع إحساسٍ نسبيٍّ بالأمان يجعل من الطيور – كما هي الصورة المعروفة عنها – بأنّها مثالٌ للسلم والموادعة والحب. ونراها كذلك مثالاً نادراً للتعاضد والتكافل الأسري في بناء أعشاشها، وفي إطعام صغارها، حتى صارت رمزاً لذلك يتغنّى بها شعراء معنيون بالتعبير عن المشاعر الإنسانية الدافئة. 

أما السوائم فهي دائمة الاحتطاب، تسير وهي في غالب أمرها منكسة رؤوسها إلى أسفل، باحثةٌ عما تقتات به، أو ناظرةٌ إلى إخوتها في قطيعٍ ذي فحل لا ينقطع صوته المزمجر طيلة النهار وأجزاءً مقدرةً من الليل وهو يقوم يتعشير إناث ذلك القطيع. فإذا ما علمنا أن مجموعةً مقدرةً من السوائم كالأغنام والضأن قد صارت داجنةً تعيش تحت حماية الإنسان، فواقع حالها لا يسرّ أصدقاءها ولا أعداءها من الذئاب الذين كانوا تاريخياً يتربصون بها قبل تدجينها. فهي تعيش بلفةٍ تاريخية كبيرة لم تتوصل رغم انقضاء دهورٍ غير قصيرة عليها بأنها ما هي سوى ذبائح مدخرة يستعملها الإنسان في طعامه. لذلك لم تلهم السوائم الإنسان أي إحساسٍ مواتٍ إلا مع صفات انحطاطٍ وغباءٍ كثيف، فالذي يوصف بأنه (خروف) أو (غنماية) فهو في سلمٍ متدنٍ من الغباء والحيوانية. ويبدو أن في ذلك تطابقاً في واقع حالها البيئوي وأفقها المنظوري بالغ الانخفاض والانحطاط الأرضي. 

الشاهد أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمشي وهو منتصب القامة على قدميه، هذا إذا ما تجاوزنا عن انتصاب القامة الذي تنتهجه قردة الشامبانزي والغوريلا في بعض الأحيان. وذلك استواءٌ طبيعيٌّ فيزيائيٌّ ينصّف أي مماس يمثل قاعدة مثلث متساوي الضلعين يبدأ من رأس أي إنسانٍ يقف مُفرداً قامته على ظهر هذه البسيطة. كذلك يُعتبر المنصف العمودي لهذا المثلث كمحورٍ للكرة الأرضية يمرّ بمركزها ويخترقها حتى ليمكن أن تدور حوله هذه الكرة متى ما وجدت قوة الدفع اللازمة لذلك. وهذا استواءٌ تمّ كنتيجةٍ مباشرةٍ لتسوية وتعديل القامة الإنسانية ضمن أطوارها التكوينية. هذا الاستواء له مستحقاتٌ معطاةٌ للإنسان قد لا تتوفر معرفيتها له، لكنها بالتأكيد هي مستحقات أفاد منها الإنسان دون أن تثير في ذهنه تساؤلاتٌ عن فعاليتها وفائدة تلك الفعالية هي ما يجنيه منها بسلاسة وفي طبيعية. ضمن هذه المستحقات ما يبدو أنه تركيبيةٌ معقدةٌ في طريقة تكوين الصور التي يراها الإنسان في ما يحيط به من مناظير. فلم يتساءل الإنسان عن عملية الخداع التصويري الذي تمارسه أدوات البصر من تصغيرٍ وتكبيرٍ للصور المنظوريّة، ومن ثم تعديلٍ وتسويةٍ بصرية وصلت حدّ استجلاب صورة السماء لتلتقي بالأرض في خط الأفق. وذلك خداعٌ بصريٌّ لا وجود له كحقيقةٍ فيزيائيّةٍ واقعيّةٍ، بل هو محض صورةٍ تهرب إلى الأمام كلما اقتربنا منها، مع ذلك تُشكّل مدخلاً معرفيّاً لا غناء للإنسان عنه لم يحدث أن أخضع لأيِّ تساؤلاتٍ تطمح في تفسير منطق وقوعه بالقدر الذي يستجلب منه ما يحلو له من معارف. ولو لاحظنا ودققنا في طريقة تكوين الصورة لرأينا في تقسيماتها الثلاثة التي قسمناها أمراً جللاً. إن خط الأفق الذي يرتفع وينخفض في مناظير عيون الطائر والسوائم يتنصّف تماماً في عين ذلك الإنسان المنتصبة قامته على سطح البسيطة إذا ما كان وقوفه في منطقة استواءٍ أرضيٍّ لا تقع في مرتفعٍ ظاهر الإرتفاع أو منخفضٍ ظاهر الإنخفاض. فارتفاع قامة هذا الإنسان المتوسطة ما بين القصر أو الطول الشاذين، قد حدث أن كان اتفاق الإظهاريين المعماريين على أن ارتفاع العين المبصرة لهذه القامة يبلغ 165 سنتمتراً بالتقريب. وهذا هو ارتفاع القامة الذي يؤدي إلى تنصيف صورتي الأرض والسماء حيث يتوسط مستوى الصورة الأفقي أو خط أفق هذه الصورة تماماً. وذلك بالطبع يتخالف مع منظور الطيور ذي الافتقار السماوي، أو منظور السوائم ذي الافتقار الأرضي. فصورة المنظور الإنساني هي بطبيعة حالها صورةٌ متوازنةٌ لا افتقار أرضيًّا ولا سمائيًّا يعتريها. وبالطبع والبداهة فضمن ما أدّى إلى ما يتمتع به الإنسان من وسعٍ ذهني يفوق به الطيور والسوائم، فهو الانعكاس الذهني للمناظير بما يمثله للبصر من مردودٍ في تكوين الذهنية الإنسانية، وبما يلعبه التوسط المنظوري للإنسان ونفيه للافتقارين الأرضي والسمائي.

مع ذلك فدورة أخرى للجغرافيا تعيد تكوين الصور المنظوريّة الإنسانيّة وتعيد تخليط سمات افتقارها التي فارقها الإنسان مرةً أخرى فتعيد تصنيفه مستدلةً بهذه العودة الإنسانية للحيوان الذي فارقه باستواء قامته ومن ثم توسّط منظوره. فالصورة التي يراها إنسان أعالي الجبال تختلف عن الصورة التي يراها ساكنو عميق الوهاد، وتختلف كذلك عن من يراها ساكنو الأراضي المنبسطة كما هي الصحاري والمنبسطات السهلية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ومن ذلك يمكننا أن ننظر إلى الإنسان كما هي الطيور المحلقة في أعلى مرتفعات الشرق الأقصى كما هي منطقة جبال الهملايا أو هضبة التبت الصينية، وننظر إلى مطالعته صوراً أشبه بما تراه الطيور في تحليقها كما هي مطالعة صورة سور الصين العظيم التي تُرى كما تطالع الطيور مناظيرها. بنفس القدر الذي ينكس فيه الأوروبي بصره إلى الأسفل تبعاً لبيئته السكنية التي يختارون لها عادة وهاداً أو سفوح أوديةٍ يسهلّ بناء القلاع أو الحصون وأسوارها الحجرية العالية ذات البروج عليها. ونلاحظ التصاق هذا المكوّن المعماري بالطبيعة واحترامها كما هي الطبيعة التصميميّة لمباني مسرح الكولوسيم الروماني ذو الدرجات المنحدرة إلى أسفل حيث تبدو الاستفادة تصميميةً من الشكل الطبيعي المنحدر والمتدرج للتلة التي بني فقط بنحتها وتشذيبها. كذلك نلاحظ التداخل المميز لمبنى البارثنون، ذو الأصول الأثينية التي تواصل عطاءها المعماري في العصر الروماني، بالطبيعة وتداخله مع أشجارٍ باسقةٍ في السفح الجبلي الذي شيّد عليه. وبالطبع فاحترام الطبيعة وتحويرها معمارياً تعتبر عقيدةً معماريةً أوروبيةً ثابتةً ما زالت تفعل فعلها إلى يومنا هذا. وهي بالطبع الرافد الذي بصم ببصمته على كيفية تصميم المسارح ودور المشاهدة تاريخيةً كانت أم معاصرة.

وبمراجعة السلوك الذهني الذي يرتبط بصلةٍ ما بهذا المكوّن البصري التصويري. فالناظر من سفحٍ من سفوح جبال الهملايا إلى ما يمتد أمامه من شاهقات أو لصورة سور الصين العظيم يمتد إلى ما لا نهاية له، يرى صورةً تبعث في نفسه إحساساً طاغياً بالضخامة واللانهائية، ومعها بالطبع إحساساً بضآلته وقلّةِ حيلته مقارنةً مع ما يراه. وهذه بالطبع تدعوه دعوةً موجّهةً مباشرةً إلى دواخله للتواضع والتزام الوهيطة وترك التكبّر والخيلاء مما يدعم في نفسه التسامي الذي يحلّق به في أجواء الروحانية وما فيها من سلّمِ وموادعةٍ تتشابه مع سلّم ووداعة تشتهر بها الطيور. ولو تأملنا صورةً منظوريةً لسور الصين العظيم لرأينا صورةً أقرب لما تراه الطيور من مناظيرٍ محلقة. وذلك يكاد يتطابق كمنظورٍ مع مجمل صورٍ يراها إنسان الشرق في هضبة التبت أو في جبال الهملايا أو في مرتفعات فيتنام أو في تلال وأودية الجزر اليابانية. فكلّ مناظير هؤلاء كأنما هي مناظير طيورٍ محلقة. 

وتتعاكس تماماً صور الطيور المحلقة مع ما يراه الإنسان الأوروبي من مناظيرٍ محصورةٍ داخل جدران القلاع والحصون المقامة على السفوح والمنحدرات الجبلية. فالناظر إلى شارعٍ متعرجٍ ومنحدرٍ إلى أسفل في أيّ قريةٍ أو حاضرةٍ أوروبية، أو الجالس على مدرّجات مسرح الكولوسيَم يشاهد المصارعة الرومانية القديمة التي ربما تنتهي إلى مقتل أحد المتصارعين. أو مشاهدة عبيد يطلقون داخل حلبة مصارعة مفتوحٌ بابها إلى أقفاص أسودٍ مجوّعةٍ خصيصاً كي تهاجم هؤلاء العبيد وتلتهمهم أمام المشاهد الروماني الذي يستمتع بمثل هذه المشاهد وهو يحتسي من قناني خمورهم المعتقة. مثل هذه المناظير تتميز بأن طبيعة النظر إليها يقوم على تنكيس الرأس كما هي السوائم. وما تراه من رؤى فيه تفحّص سوائمي لمكونات صورةٍ يزداد صغر حجمها كلّما تباعدت عن عين المشاهد مما يبعث في المشاهد إحساساً بضآلتها وبالتالي إحساسٌ بكبر مقارن في هيئة المشاهد مما يبعث فيه شعوراً بالخيلاء والتكبر. فالناظر إلى مبنى ال (كولولسيّم) الروماني، أو معبد البارثنون الأثينوروماني، فإنه سيستشعر أولاً كثافة وقوة الإلتصاق بالطبيعة مضافاً إلى ما ذكرناه من تنكيس للرأس، وما يتبع ذلك من مناظر بالغة البشاعة يُرى فيها حياة الإنسان مهدرةً تحت رغبات ذلك الاحتطاب السوائمي الدفينة كما هي في مشاهدة عملية افتراس العبيد في مسرح هواءٍ طلق. لذلك فكأنما هو طبيعيٌّ أن يتماثل أهل مشرق الشمس مع مشرق شمس الروح، فيصيروا كأنما هم الطيور المحلّقة في وداعتهم ومسالمتهم، في حين يقبع أهل مغرب الشمس مع مغرب شمس الروح وما يميز غروبها من بروز حيوانيّةٍ كثيفةٍ وإحتطابٍ سوائمي. أما عند النظر إلى حالة التوسط المنظوري في سهول وصحاري منطقة الشرق المتوسط فنلاحظ وجود توازنٍ افتقاريٍّ سمائيٍّ وأرضي، ما يؤدي إلى اعتراف إنسان تلك المناحي بحيوانيّةٍ فيه فلا ينفيها كما ينفيها النيرفانيون الشرقيون، ويحترم كذلك روحانية سماوية لا ينفيها كما ينفيها الغربيون الأوروبيون، وفي ذلك توسطٌ ماديٌّ روحانيٌّ لا يحدث إلا في منطقة مهبط الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، منطقة الشرق الأوسط.

طبيعيٌّ كذلك أن نرى في هذين المثالين – تحليقاً أو احتطاباً – تماثلاً وتطابقاً مدهشاً ما بين الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا الثقافية وما يدعمهما من علمٍ منظور. وذلك شأنٌ يتطلب المزيد من البحث والتقصي كي يبوح بما يحمله في داخله من أسرار.

ونختتم هذه الجزئية البحثية بملاحظةٍ مصاحبة، أن التاريخ المرصود عن عالمنا هو تاريخٌ يختص بالدولة ومؤسسيتها. وذلك تاريخٌ مقروءٌ بعينٍ واحدةٍ تغفل تاريخ الثقافة وما أفرزه من جغرافيا يمكن أن يُقرأ خلالها مدى تمحور الإنسانية حول محاور قيم الثقافة العليا، أو بالتالي فإنّ جفاءها عن ذلك ما يمكن أخذه كمسبباتٍ لتجافٍ إنسانيٍّ عن الانتظام في سلك دوائر جغرافيا الثقافة، قد يصل إلى اعتبار عدم القبول بما تطرحه من قيم. وبالطبع يمكن أن يستتبع ذلك أدبٌ مقارن يبيّن مدى ملاءمة منظومةٍ مجتمعيّةٍ مع ما تدّعيه من تمسّكٍ بالقيم العليا أو عدمه. وفي هذا الصدد أظن أنه من الممكن النظر في شأن غياب مصطلح جغرافيا الثقافة. فهو بحكم الجفاء الأوروبي عن هذه القيم، فطبيعيٌّ أن يكون انعكاس ذلك لا ينحصر داخل حدود هجر جغرافيتها وحسب، بل يتعدى ذلك إلى حالة حربٍ خفيّةٍ بين طفوليّة ويفاعة القيم الأوروبية، وبين باهر المثل العليا الثقافية في الشرق الأوسط والشرق الأقصى.