رئيس التحرير :
هاشم الميلاني
مدير التحرير :
حسين ابراهيم شمس الدين
فهرس المحتويات :
■ الروحانية اللادينية...من دنيوة المقدّس إلى تقديس الدنيوي
حسين إبراهيم شمس الدين
الملف
■ قراءة نقدية في التحوّلات الأخيرة للتدين والروحانية
د. بهزاد حميدية
■ انتشار الروحانية: الإعراض عن الدين أو العودة إلى الدين
أحمد شاكر نجاد
■ الروحانية اللادينية: من الحداثة السائلة إلى الهشاشة الدينية
د. محمود محمد علي
■ «السلام الداخلي والسكينة» بين الروحية الدينية واللادينية: رؤية نقدية
د. مديحة حمدي عبد العال مرسي
■ نقد الروحانية العلمانية: الحدسية البرغسونية أنموذجًا
د. ذهبان مفيدة
■ من التعالي الإلهي إلى محايثة الطبيعة: تحليل مقارن لأسس المعنى في الروحانية الدينية والروحانية المتمحورة حول الطبيعة
السيد محمد رضا الطباطبائي
أبحاث بين مناهجيّة
■ الأخلاق الأفريقية في مواجهة مركزية الأنا الغربية
دعاء عبدالنبي حامد
■ الأخلاق بين الغزالي وكانط: بين روحانية مركزية الإنسان وروحانية الدين
د. نورة بوحناش
ندوة العدد
■ الروحانية العلمانية هي تعبير عن مأزق المعنى في الحضارة المعاصرة
ندوة مع الدكتور محمد فنائي إشكوري
■ الروحانية اللادينية: المناشئ والمآلات
ندوة مع الدكتور مختار خماس
رسوم بيانية
■ تطور مفهوم الروحانية اللادينية عبر الزمن
مراجعات الكتب
■ كتاب الروحانية النازلة...نقد المادية الغربية في فكر رينيه غينون
■ كتاب اليقظة: مرشد للروحانية بلا دين
ترجمة ملخصّات المحتوى بالإنكليزيّة
المبتدأ
الروحانية اللادينية...من دنيوة المقدّس إلى تقديس الدنيوي
يثبت البعد المعنوي الروحاني الراسخ في الوجود الإنساني يومًا بعد يوم أصالته واستحالة انتزاعه كحقيقة في اليومي والمعاش الإنساني، سواء على المستوى الأنطولوجي أو الإبستمولوجي أو القيمي، بل على العكس من ذلك، نجد أنه في كل مرّة تتصاعد فيها برادايمات الإخلاد إلى الأرض والجسد على مستوى العلوم والفلسفات، ينتفض الوجود الإنساني الأكاديمي والعلمي ليقطع مع هذه البرادايمات لينسج برادايمات جديدة تشتمل على الروحانية والتعالي الإنساني.
هذه القطيعة البرادايمية يمكن مشاهدتها منذ القديم، سواء قبل الحقبة الأرسطية اليونانية أم بعدها، وصولًا إلى الفلسفة في العالم الأوروبي والإسلامي، حيث يمكن قراءة تاريخ الفكر والفلسفة على أنه ثورات على الإخلاد إلى الأرض وصعود وهبوط في هذا المجال.
في العصر المتأخر، الذي نحن فيه ونعيشه ضمن سياقات يتداخل فيها الفلسفي مع السياسي والاجتماعي، نجد صعودًا لروحانية تحاول التأسيس لخروج عن النمط الديني، أو ما يُسمّى باحتكار الأديان للروحانية والبعد المعنوي في الإنساني، وكأنّ بعض الفلسفات والتيارات الفكرية، بعد أن سلّمت استحالة حذف الروحانية من المعاش الإنساني تحت عناوين كانت رائجة في زمن حداثي قريب، من قبيل عنوان مواجهة الذاتية والانتصار للموضوعية، أو تهميش التأويلية والحدس لصالح الدقة العلمية الرقمية، حاولت أن تدمج الروحانية ضمن سياق إنساني لا إلهي-ديني، لتؤسّس لما يُسمى حاليًّا بالروحانية اللادينية أو الروحانية العلمانية والتي يندرج تحتها روحانيات كثيرة، مثل الروحانية اللادينية المعتمدة على الدهشة الإحيائية البيولوجية أو الروحانية اللادينية الممتدّة في آفاق علم النفس أو السوسيولوجيا وغير ذلك، ولكن الذي يظهر من مراقبة هذه الحركة أنها تعاني من ثغرات بنيوية، يمكن تلخيصها بالبحث عن الروحانية في الوهم وانعزال الروحانية عن الواقعية لصالح تقديس الدنيوي، وكأنّ الذي أراد أن يحيي روحانية لادينية أو لاإلهية أغفل فطرة وغريزة الواقعية في الوجود الإنساني لصالح روحانية واهمة منغلقة على الذات دون الآفاق الواقعية المتعالية على المادة، وبعبارة جامعة: أرادوا إحياء الروحانية -التي هي غريزة أصيلة إنسانية- فأماتوا الواقعية – التي هي الأخرى غريزة أصيلة إنسانية-.
في العموم، إن الروحانية اللادينية هي توجّهٌ فلسفي وحياتي يركز على البُعد الروحي للإنسان دون الارتباط بأيّ دين أو معتقدات محدّدة. تعتمد على التجربة الشخصية، التأمّل، والبحث عن المعنى خارج الأطر الدينية التقليدية.
وتتميز هذه الحركة – بغض النظر عن الحركات والتيارات التي تندرج تحتها- بالأمور التالية:
1. لا تعترف بإله أو آلهة محدّدة: قد تؤمن بقوة كونية غامضة (مثل الطاقة أو الوعي الكوني)، أو تركّز على التجربة الداخلية دون تصوّر إلهي.
2. ترفض الطقوس الدينية المنظّمة: لا تتبع صلوات جماعية، نصوصًا مقدسة، أو سلطة دينية، لكنها قد تتبنّى ممارسات فردية مثل التأمّل أو اليقظة الذهنية .
3. تركّز على الذات والطبيعة: تُعلي من شأن العلاقة مع الذات، الكون، أو الطبيعة (مثل روحانية العِلم)[4].
لا يمكن إنكار أن انبعاث الروحانية بحلّتها هذه هو انبعاث يعبّر عن ثورة برادايمية – كما يحب توماس كون أن يسمّيها في كتابه الشهير بنية الثورات العلمية- وأنها تكشف عن قطيعة مع البرادايمات الحداثية السابقة، ولكنها في الوقت نفسه تعاني من رواسب أخذتها من البرادايم السابق التي انقلبت عليه لتؤسّس هذا النوع من الروحانية، ويمكن بيان أهم نقاط النقاش المفتوح على هذا النوع من الروحانية بأنها:
أولًا: «روحانية فارغة» لعدم وجود إطار أخلاقي أو غائي واضح، فبخلاف الروحانية التي نجدها في الأطر والمصنَّفات الإسلامية، تحت عنوان مراحل ومنازل السير والسلوك، والتي تجعل للسير الأنفسي الروحاني غاية تتلاءم مع وجود الإنسان، مثل ما يُعبَّر عنه تارة بلقاء الله تعالى أو الوصول إلى التخلّق بأخلاق الله أو غير ذلك، نجد أن الروحانية اللادينية تعاني من انعدام الغائية الواضحة، سوى المنفعة الآنية المعبَّر عنها بالالتذاذ الروحاني أو السلام الداخلي أو السكينة السيكولوجية، وبعبارة أخرى، هناك فرق بين المنفعة وبين الغاية، فالغاية تعبِّر بشكل أساسي عن منتهى سير الفعل العام للحركة الروحانية، بينما المنفعة قد تكون مصالح آنية أو لحظوية لا ترقى لأن تكون غايات نهائية، ففي الروحانية اللادينية نلاحظ تركيزًا على المنافع دون الغايات.
ثانيًا: الروحانية اللادينية هي شكل من أشكال الفردانية المفرطة أو الهروب من المسؤوليات المجتمعية. وهذا أمر متفرع على قضية التحرر من الدين لصالح الروحانية؛ وذلك لأن الروحانية تعتبر ركنًا من أركان المنظومة الدينية، إلى جانب أركان أخرى من قبيل المسؤوليات والواجبات الاجتماعية، ولذا نجد أن الإسلام لا يجد أن الروحانية الانعزالية روحانية أصيلة بل هي روحانية تهرب من أصول الوظائف الإنسانية، بل نجد أن الروحانية الإسلامية تمتد إلى مجالات الروحانية الاجتماعية وهذا ما تغفله الروحانية اللادينية في تنظيرها المنطوي على الذات الشخصية دون الذات الاجتماعية أو الكونية.
ثالثًا: ركّزت الروحانية اللادينية على الروحانية في إطار الواقع المعاش غير الغيبي للإنسان، وهذا ما نراه واضحًا في الروحانية المتمحورة حول الطبيعية، أو ما يقال له الروحانية الطبيعانية، وأغفلت الواقع الغيبي للوجود، وأن هناك واقعًا وأفقًا ممتدًّا وراء الإطار والبعد المادي للحياة الإنسانية، بحيث يمكن أن تمتدّ يد الإنسان إليه ويتفاعل معه تفاعلًا روحيًا ومعنويًا، وما تجد الإشارة إليه في سياق نقاش هذا النوع من الروحانيات الطبيعيانية بالخصوص، أن الفكر الديني لا سيما الإسلامي، لا ينكر الروحانية الطبيعية بل على العكس من ذلك، إن الإسلام في روحانيته يجعل الفاعل الروحاني والسالك المعنوي ينظر إلى الطبيعية والعالم المادي نظرة روحانية ويعيش مع الطبيعية عيشًا روحانيًا فيه الكثير من الخبرة الروحية من قبيل السكينة والسلام الداخلي، وهذا ما نجده واضحًا في حياة العرفاء والسالكين في تعاملهم مع العالم الطبيعي، ولكن الفرق يكمن في الإطار النظري الذي توضع فيه الطبيعية كمتعلق للروحانية، حيث يجد الفكر الروحاني الإسلامي أن الروحانية الطبيعية هي روحانية الآيات والتجلّيات الآفاقية، فالتفاعل الروحاني مع الطبيعية هو تفاعل معها على أنها آيات لخالقها، وآية المحبوب محبوبة كما يقال، فالروحانية اللادينية الطبيعية مقارنة بالروحانية الدينية الإسلامية بالخصوص، اختزلت الروحانية في أفق ضيّق.
رابعًا: نجد أن من الانتقادات الأساسية التي يحملها الروحانيون اللادينيون للروحانية المتمحورة حول إطار الدين، هي قضية رفض المأسسة الدينية للروحانية، وهذا يرجع بالدقة إلى قضية محورية التجربة الشخصية للسلوك الروحاني غير القابل للمأسسة والتعميم، وبالتالي رفضوا روحانية الدين لأنها تُغفل التجربة الشخصية بوضعها للأطر الحاكمة على الروحانية، والحال أن في هذا النقد انجرارًا نحو ثنائية الشخص والعام، وتوهم التناقض بينهما، وأن ما يكون شخصيًا لا يمكن أن يكون عامًا والعكس بالعكس، والحال أن الفكر الديني ينطلق من مسألة فلسفية هي وحدة الشخصية الإنسانية، وأن النوع الإنساني نوع واحد، وبالتالي فمدارج كماله واحدة وكماله النهائي واحد، ولو لم يكن الأمر كذلك، لكنّا أمام أنواع لا نوع إنساني واحد، أو كما يقال بالاصطلاح الفلسفي، لكان كل شخص إنساني هو نوع على حدة، وهذا ما لا يقبله الفكر الديني الإسلامي، بل هو مما لا يتوافق مع كل الحركة الإنسانية البشرية، حيث يتم النظر إلى البشر على أنهم ينضوون تحت وحدة نوعية إنسانية، وأكبر مثال على ذلك قضية «حقوق الإنسان» التي تعتبر أن إنسانية الإنسان أمر واقعي متجاوز للتجارب الشخصية مهما تباينت، وكيف كان، فإن التجربة الشخصية للإنسان لا تتعارض مع مأسسة وتنظيم السلوك الذي نشهده في الأديان لسبب واضح هو إيمان الفكر الديني بالوحدة النوعية للإنسان التي تنعكس وحدةِ سلوكٍ ووحدةَ غايةٍ، وإذا أردنا أن نشبّه الأمر تشبيهًا حسيًا، فيمكن القول إنّنا لو فرضنا جماعة من الناس تسافر من بلدة إلى بلدة أخرى، فإن بإمكان المشاهد من بعيد أن يضع مسارًا منظّمًا لهم يبيّن لهم مراحل السير في هذا الطريق، دون أن يعني هذا الأمر اختزالًا لتجربة السفر الشخصية لكل شخص في هذا الطريق الواحد.
في الختام، يمكن القول إن الروحانية اللادينية تمثّل محاولةً معاصرةً لإعادة صياغة البُعد الروحي للإنسان بعيدًا عن الأطر الدينية التقليدية. ورغم ما تقدّمه من بدائل تركّز على التجربة الشخصية والطبيعة، إلا أنها تظلّ تواجه تحدّياتٍ جوهرية تتعلّق بغياب الإطار الأخلاقي الواضح، والفردانية المفرطة، والاختزال المادي للروحانية. بالمقابل، تبرز الروحانية الدينية، وخاصة الإسلامية، كمنظومةٍ متكاملةٍ تجمع بين البُعد الروحي والاجتماعي والغيبي، مع الحفاظ على التوازن بين الذاتي والموضوعي. هذه المقارنة تفتح الباب لمزيدٍ من النقاش حول إمكانية تحقيق روحانيةٍ شاملةٍ تلبّي حاجات الإنسان المعاصر دون إغفال أبعاده الوجودية المتعددة.